منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات أونلاين و مقالات الكتاب (https://www.liilas.com/vb3/f743/)
-   -   مقالات الدكتور " أحمد خالد توفيق " (https://www.liilas.com/vb3/t28116.html)

lonesome 21-01-07 05:04 AM

مقالات الدكتور " أحمد خالد توفيق "
 
1 مرفق
إخــــوانى الأعــــــزاء كما وعدتكم فى موضوع "قصصات صالحة للحرق" مرفق مع الموضوع ملف يحتوى على سلسلة مقالات "لماضة و بس" للكاتب د/أحمد خالد توفيق.

وفى رأى أن هذه المقالات شديدة الأهميـــــــة لمحبى هذا الكاتب العظيم , حيث تناول فيها معظم و أهم الأحداث السياسية و الإجتماعية التى تحدث فى بلدنا و الوطن العربى بأسلوبه الساخر المميز مثـــل:

حرب لبنان الأخيرة و الإحتلال الأميركى للعراق و تأثير الفضائيات و تفاعلها مع الحكومات والشعوب العربية و التغيرات الإجتماعية و السياسية الهائجة التى تمر على بلدنا مصر و التى قال فيها

"مصر تتحول يومًا بعد يوم إلى مستشفى مجانين كبير .. هل يدرك أحد هذه الحقيقة قبل فوات الأوان ؟"

"لكن مصر هي مصر .. بالتأكيد لم نفقد انتماءنا لمصر الهرم والنيل وأحمد شوقي والشيخ رفعت والفول والطعمية ورائحة النعناع في الحقل وصوت أم كلثوم في الليل وعم (بسيوني) الفلاح العجوز الجالس يشرب الشاي على المصطبة ليلاً، وحتى جندي الأمن المركزي الذي يرفض أن يطيع أمر ضابطه ويضرب المتظاهرة الحامل .. هذه هي (بلدنا يا عم).. مصر الحقيقية الولود التي لا يعرفونها، والتي بدأت ملامحها تتقلص ألمًا معلنة قرب ولادة جديدة!"

وغيرها من الموضوعات التى تهم كل عربى حريص على سماع رأى هذا الكاتب الكبير فيما حدث و مازال يحدث.

إلى اللقاء وإنتظروا المزيد بإذن الله ....................... أخوكم
Lonesome
[B]

معرفتي 21-01-07 05:50 AM

جزاك الله كل الخير
ننتظر مزيدك

hhhhhh 21-01-07 04:06 PM

بارك الله فيك

علاء سيف الدين 21-01-07 04:46 PM

يسلمو كثير أخي الكريم

saidkhaled 21-01-07 08:23 PM

الف شكـــــــــــــــــــــــــــــــــ{

زين التاجى 24-01-07 02:36 AM

الف شكر وننتظر المزيد

lonesome 24-01-07 04:42 AM

الشكـــــــــــر لكم.................
 
الشكـــــــــــر لكم أنتم و إنتظروا المزيد إن شاء الله

بيجاسوس 02-07-07 09:37 AM

*^^* اقرأ مقالات د. أحمد خالد توفيق هنا في الموضوع *^^*
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

ازيكم أحلي أعضاء

في الموضوع ده تقدروا تقرأوا مقالات د.أحمد خالد توفيق

يالا بينا نبدأ




1 - الطريف في طب الريف



طب الأرياف علم معقد قد يخطر للسذج أنه يشبه الطب العادي من قريب أو بعيد .. دعني أخبرك أن علاقة طب الأرياف بالطب الذي تسمع عنه تشبه علاقة ال[محذوف][محذوف][محذوف]سي بحلف الناتو.. هل تجد علاقة ما؟.. إذن أنت عبقري ولن تلقى مشاكل من أي نوع ..
هذه الملاحظات كتبتها لنفسي أساساً عام 1986 عندما كنت طبيب الوحدة الصحية في إحدى قرى محافظة الغربية، واعتقد أنها ما زالت صالحة.. لهذا لن أبخل بها على القارئ:



علم المصطلحات الطبية Medical terminology الريفي:

استتقال: إسهال وتعنية
تمشية: إسهال
الخاتم والصفرة: فتحة الشرج
زغولة: ارتباك معوي
مباوعة: قيء
النتّ: حركة الصدر العنيفة لدى الزفير
سقف البدن، سقف الحنك: الرحم
الضهر: الدورة الشهرية
حيل / ولاويز : عقد لمفاوية
الجهاز / الشريط: لولب منع الحمل
الإنذار: المنظار
البجْم (بكسر الباء وتسكين الجيم): البنج




علم مسببات الأمراض Pathogenesis الريفي:



يتلخص في كلمة واحدة لا قبل لها ولا بعد : البرد .. البرد يسبب أي مرض في العالم وسوف نكتشف يوماً ما أنه المسئول عن السرطان (لم أكن أعرف الإيدز في ذلك الوقت)..


علم الياثولوجيا Pathology الريفي:



• مرض الكبد: مرض واحد موحد لا فروع له. ينجم عن دودة (الهارسا) وعلاجه هو بأقراص خلاصة الكبد. لكن لو رشح الكبد فإن هذا هو الخطر الحقيقي. الاستسقاء في حد ذاتها ليست خطراً طالما أن الكبد لم يرشح ..
• مرض الكلاوي: هو مرض واحد موحد. قاتل غالباً. وعلاجه حجن الجنب والكثير من عصير القصب والعرقسوس.
• مرض الجلب: وهو أي مرض قلب أو أوعية دموية.. قاتل دائماً .. ومن يصب به ينل رحمة الآخرين وعنايتهم.
• مرض الأعصاب: هنا يندرج طب العظام والأمراض العصبية والأمراض الروماتزمية والأمراض النفسية. على أنه حين يتحدث الرجل عن الأعصاب بصوت خفيض فهو يتحدث عن قدراته الجنسية عامة.
• مرض السكري ينجم عن الإفراط في أكل السكريات، وآلام المفاصل تنجم عن الإفراط في أكل الملح. عامة يمكن علاج السكري بالإفراط في أكل المخللات.



علم وظائف الأعضاء physiology الريفي بسيط جداً:

• كمية الدم في الجسم محدودة جداًَ. سحب 3 سنتيمترات من الدم يقتل المرء أو يصيبه بالعجز طيلة حياته. التبرع بالدم حماقة كبرى ..إذ كيف تقتل رجلاً لتحيي آخر ؟
• البول والمية هما طريقتا الإخراج للجسم البشري .. ما يخرج من الدبر اسمه (بول) وما يخرج من القبل اسمه (ميه)..!.. لهذا من الطبيعي أن تسأل المريض عن حالة البول وحالة الميه ..فقط الحمقى يحسبونهما مترادفين.. وقد تسأل المريض عن بوله فيجيب بأنه طبيعي .. ولا تعرف أنه ينزف دماً من مثانته ببساطة لأنك لم تسأل عن(الميه)..
• الطحال مهمته القتل فقط .. عندما يكتشف المرء أن لديه طحالاً فهي نهايته ..من الطبيعي ألا يكون لدى الإنسان طحال ..
• فم المعدة ليس عضواً تشريحياً من لحم ودم .. إنه قضيب محمي أو نار مشتعلة أو حجر رحاية أو أي شيء دائماً...
• فتحة الشرج (الخاتم) في الأطفال لا فائدة لها إلا أن تحتشد حولها ليلاً الديدان الصغيرة الشبيهة بديدان المش..
علم الأعراض الإكلينيكيةsymptomatology الريفي:

• عامة كل طفح في الجلد هو حرارة ..حتى لو كان سرطان جلد.
• عامة كل هرش هو حساسية حتى الجرب نفسه.
• عامة كل ألم روماتزمي هو (نشر).
• عامة أي طفل يسعل وترتفع حرارته في أية لحظة تراه فيها في أي مكان.
• عامة أي طفل لا يأكل منذ ثلاثة أشهر في أية لحظة تراه فيها في أي مكان...
• كل فتاة ضغطها منخفض و(هبطانة) في أي وقت تراه فيها ..
• السمنة واللون الأبيض علامتا الصحة الوحيدتان .. ولا توجد أية علامات أخرى.
• ارتفاع الحرارة ليس حمى .. الحمى هي التيفود فقط أو كل مرض يهدد الحياة ويستدعي الذهاب لمستشفى الحميات التي تعجل بالوفاة غالباً..
• السماعة تعرف كل شيء وتهمس للطبيب بتشخيص المرض وعلاجه .. لهذا هي لا تخرج إلا لمن يدفع .. لا تتوقع أن يستعمل الطبيب هذه الأداة السحرية للمرضى المجانيين فإن فعل فهو غير جدير بالاحترام .. وربما كان خنزيراًً كذلك ..
• عامة يجب أن توضع السماعة على موضع الألم .. فلو كان رأسك يؤلمك ولم يضع الطبيب السماعة على رأسك، فهو وغد لا خلاق له.
• المستشفيات العامة لا تصلح لشيء لأن (الهمل موجود). (الهمل) بكسر الهاء هو الإهمال.



علم البحوث الطبية Medical investigations الريفي:


أهم شيء هو التكرير (التحليل).. لابد من الإنذار (المنظار) لكنه صعب ويقتل دائماً... (الأوشاعة) مفيدة دائماً.. وعادة ما يصف المريض الأمر قائلاً: "الداكتور جال إذ لابدن عن أوشاعة"



علم الفارماكولوجي pharmacology الريفي يقسم العقاقير إلى نوعين:





1- الدواء: وهو كل ما يوضع في زجاحة ويُشرب ..
2- العلاج (بتعطيش الجيم): هو كل ما عدا ذلك !

وينقسم العلاج (بتعطيش الجيم) إلى عدة أقسام:
أ- الحُجن: هي كل ما يحقن .. وهي أهم أنواع العلاج (بتعطيش الجيم) وأفخمها وأقواها أثراً.. عامة يتناسب مفعول الحجن مع ما تحدثه من ألم .. الحجنة التي لا تحرق المريض وتجعله يتلوى ألماً هي نوع من النصب الذي يمارسه أطباء الوحدات الذين لا خلاق لهم ..
والحجن عامة ثلاثة أنواع: حجن الجنب (بتعطيش الجيم) وهي كل ما يعطى للمغص الكلوي. حجن فيتامين. حجن بنسلين أو فايلوسيف وهي تلخص المضادات الحيوية عامة.
ب- الكباسين (الكبسولات): بما أن أغلب الكبسولات تحوي مضادات حيوية، فإن الكباسين هي نوع من العلاج مخصص لتخفيض ارتفاع الحرارة ومهما كانت أسبابها .. وهنا يبرز عقار مهم جداً اسمه (500)... لم تسمع عنه ؟.. لأنك محدود العلم عدم المؤاخذة .. يقول لك الرجل في فخر : "500 ده ممتاز .." أو "أنا أديت الوله 500".. كما تلاحظ 500 هنا هو الاسم العلمي للعقار وليس جرعته ..
هناك نوع من الكباسين له أهمية خاصة هو المقويات .. وتستعمل في حالات (الضوعف)..
ج- الجطرات: كلها نوع واحد يصلح لأي شيء بدءاً بالرمد الصديدي وانتهاء بسرطان الشبكية .. يجب أن تترك الجطرة مرارة في الحلق وإلا كانت نوعاً من النصب الذي يمارسه أطباء الوحدات الذين لا خلاق لهم ..
د- مراهم: كلمة واحدة جزلة دسمة تصلح لكل شيء بدءاً بالإكزيما حتى الجذام.
هـ- برشام: هذه هي أسفل سلم العقاقير .. ولا جدوى منها إلا أن تقف في المريء دائماً . تسبب الضغط والدوخة والصداع والهبوط ولابد من (حرجان) في فم المعدة ..

عامة طبيب الريف لا يصف لك الدواء الفلاني أو يكتب الدواء الفلاني، ولكن (يطلعه لك)..مثلاً (الداكتور طلعلي كباسين وبرشام)..

هذا هو ما وجدته في أوراقي عن الموضوع، وأعد باستكمال هذا الموضوع العلمي المهم بمجرد أن أتذكر تفاصيل أخرى.


و سيتم اضافة باقي المقالات

تحياتي

بيجاسوس 02-07-07 09:42 AM

لأنه الأستاذ

بقلم واحد غيري

قبل أن أخط حرفاً في هذا المقال، يجب أن أعترف بأن العبد لله ليس متخصصاً في السينما ولم يدرسها إلا بشكل هاو من خلال مشاهدة الأفلام، وقراءة كل ما وقع في يده عن هذا الفن الرائع. لكني أحسب أن عندي عقلاً يميز، وأعرف الزبد الذي يذهب جفاء وما ينفع الناس. أعرفه وإن كنت لا أعرف غالباً كيف أقدم الأخير.
السؤال الذي أريد أن أسأله هو: هل العبقري (يوسف شاهين) عبقري حقاً ؟.. لنضع السؤال بشكل أدق: هل (يوسف شاهين) المؤلف Auteur قد أضاف شيئاً ليوسف شاهين المخرج ؟...سؤال أمين لا أبتغي منه إلا الظفر بإجابة أمينة .. ويجب أن اذكر القارئ الكريم بأنني أعتبر (الأرض) أعظم فيلم مصري على الإطلاق، ولم أستطع قط أن أرى لقطة واحدة من (باب الحديد) من دون أن أتابع الفيلم حتى كلمة النهاية.
يكتم البعض ابتسامته الخبيثة ويهمس البعض في ضيق: "هي ذي اللعبة التقليدية .. اقذف العمالقة بالحجارة ليُذكر لك أنك يوماً قذفتهم .. جربها الكثيرون مع (العقاد)، وجربها (العقاد) نفسه مع (شوقي) في مستهل حياته حين فتح عليه مدافع الديوان..". لكني أكرر أن هذه هي المشكلة فعلاً.. لا أحد يصدق أو يقبل أو يسمح بأن يكون (يوسف شاهين) أقل من المكانة التي رسمناها له..ومن هنا يأتي السؤال: هل الإمبراطور بكامل ثيابه أم أننا نخشى الاعتراف بعكس ذلك كي لا نبدو حمقى ؟ لماذا؟.. لأنه الأستاذ..
لقد قدم شاهين فيلمه الأخير (إسكندرية نيويورك) وفيه تحدث عن الأمور التي تروق له كالعادة بدءاً بـ(فريد استير) والدراسة في أمريكا الخ، تملق تلك الأخيرة إلى حد لا بأس به، لكن هذا الصنم القاسي لم يتقبل القربان، ورأى أنه دون المستوى طبقاً لكلمات لجنة التحكيم في مهرجان نيويورك .. والنتيجة..سوف تبدأ أعنف حملة ممكنة تتهم رفض المهرجان لفيلم شاهين الأخير بأنه عمل عنصري قذر، وأنه يعبر عن الوجه القبيح الحقيقي لأمريكا. ولن يجرؤ أحد أبداً على مراجعة إمكانية أن يكون الفيلم رديئاً فعلاً. لماذا ؟.. لأنه الأستاذ..
هذه هي مشكلة يوسف شاهين.. إنه تحول إلى Cult غير قابل للمراجعة أو المناقشة. وحتى الكومبارس الذي يقدم للبطلة كوب ماء في أحد أفلامه يعتبر نفسه أستاذاً من أساتذة التمثيل، ويقول في وقار وغموض:" أفضل أن يرى الناس العمل ليحكموا بدلاً من أن أتكلم عنه". وغدا من التقليدي في كلام أي ممثل أن يحكي عن (تجربة التطهير أو الميلاد الجديد) التي اجتازها بالعمل مع شاهين.
يصر شاهين على أنه مفكر .. وهنا أخطر المآخذ التي لا أدري كيف نقبلها في أفلامه .. إلام يفضي المسار الفكري لفيلم (المهاجر) ؟.. رؤية مختلة لقصة سيدنا يوسف مع تنويه واضح إلى أن (الأرض لمن يستطيع أن يزرعها) ولا أعرف إلام يفضي بنا هذا ؟.. ماذا عن الرسالة المضطربة في (وداعاً بونابرت) حول أن العلاقة المثلية بين جنرال فرنسي وشاب مصري هي الطريق الوحيد إلى امتزاج الحضارات والسلام ؟. حل مشكلة التطرف في (المصير) هو أن نرقص أكثر.. وقد نشب خلاف صحفي شهير عندما عرض (حدوتة مصرية) لأنه تجاهل كون الفكرة ليوسف إدريس .. قال يوسف إدريس إن شاهين جاءه بفكرة ساذجة عن ولد اسمه (آدم) وبنت اسمها (حواء) يلتقيان للحب فيبرز لهما رجل غليظ يحمل شومة المفترض أنه (المجتمع).. طبعاً لم يكن إدريس مستعداً لسماع المزيد من هذا الكلام، وقدم فكرته العبقرية التي تدور حول محاكمة إنسان داخل ضلوعه، بسبب إحباطه للطفل بداخله.. وكيف تحول هذا الطفل إلى جلطة تسد شرايينه التاجية. يمكن لنا إذن أن نتصور الفيلم لو خرج بصورته الأولى !
في أفلام شاهين يتكرر ذلك الخلط الساذج بين المتصوفين ورواد الموالد والأصوليين، فهو – كالخواجات تماماً – يضع كل هؤلاء في سلة واحدة تمسك بالدف وتتطوح ذات اليمين واليسار، برغم أنه لا يمكن الجمع بين المتصوفين والأصوليين أبداً، فكلاهما يرى الآخر خارجاً عن الدين. وقد اتهمه د. (عاطف العراقي) أستاذ الفلسفة الشهير بأنه اخترع (ابن رشد) لا وجود له.. ماذا عن الإرهابي الذي يضع أيقونة القنبلة على بريده الإلكتروني ؟... لكن أحداً لا يعلق .. لماذا ؟.. لأنه الأستاذ..
أما عن الجانب الأخلاقي للأفلام فهناك ميزانان في الرقابة .. ميزان للعامة وميزان لشاهين .. هكذا تصفح الرقابة في تسامح أسطوري عن علاقات الحب المثلية التي لا يخلو منها فيلم من أفلامه تقريباً، ولعله تملق لتيار العولمة، وأراهن أنه يفتخر في مناقشاته الخاصة في الغرب بأنه أول من تجاسر على تقديم علاقات كهذه لمجتمع متخلف. تصفح الرقابة عن العلاقات الأسرية المختلة في كل فيلم..عن الاشتهاء الواضح من الأم لابنها في (الآخر)، وتصفح عن اشتهاء الأخت (صفية العمري) لأخيها في (المهاجر)..حتى زوجة الفيلسوف (ابن رشد) لم يرحمها .. إننا نرى في عينيها اشتهاء كاملاً للفتى الفرنسي الذي جاء يتتلمذ على زوجها. وتصفح عن مشاهد كاملة في (إسكندرية نيويورك) لو قدمها سواه لعلقوه مشنوقاً في ميدان (طلعت حرب).. ما معنى هذا ؟. نظارة هيبة العبقرية وضعت على عين الرقيب فلم يعد يرى... لماذا ؟.. لأنه يتعامل مع الأستاذ..
دعك من الميزانسين المحفوظ المكرر في أفلامه. فالناس لا يتكلمون بهذه الطريقة، كأن يقف أحدهم وراء جدار ويطل من نافذة فيه ليكلم الآخر الواقف في الناحية الأخرى. بالإضافة لهذا يبرهن يوسف شاهين عن أنه لا يفهم شيئاً عن الأسرة المصرية المتوسطة التي يقحمها في كل أفلامه. وهو يعتبر ذروة المصرية أن تقول (حنان ترك) لأمها وهي ترقص (خطبني تحت المطر) فتقول أمها دامعة العينين: (مش حاقول رأيي غير لما اشوفه)..
أما عن التمثيل فهو لم يكف يوماً عن خنق موهبة ممثلين عظام مثل (محمود حميدة) وآخرين ليتحركوا في القيود الضيقة التي صنعها لهم، كما لم يكف عن اكتشاف وجوه لا علاقة لها بالتمثيل مثل (هاني سلامة) و(أحمد محرز) و..و... لماذا يقحم داليدا لمجرد أن يثبت أنه يستطيع ؟.. يقول الناقد (سامي السلاموني): "اختار (شاهين) للفيلم (سعاد حسني) ثم (محسنة توفيق) ثم (فردوس عبد الحميد) وفي النهاية استقر على (داليدا).. كيف يصلح لسعاد حسني ما يصلح لداليدا ؟.. معنى هذا أن يوسف شاهين لا يؤمن بقيمة الممثلين، وهو يرصهم كقطع الشطرنج في أفلامه ليقولوا أي كلام". لماذا ؟.. لأنه الأستاذ..
وترى الفيلم أي فيلم فلا ترى معجزة تمثيلية ما.. إن الممثلين متخشبون مسجونون في قيود فولاذية فرضتها شخصية شاهين القوية عليهم، ولا أحد منهم يجرؤ على حركة زائدة .. الكلام يخرج على طريقة (عمر الشريف) في (صراع في الوادي) من شفة عليا مسدلة متصلبة، وكأنه طلقات الرصاص مع نغمة ناعسة ملول لا داعي لها، والمقاطع مدغمة، والتعبير على الوجه يأتي بعد إنهاء الكلام لا معه. وأشك في أن كل من مثل معه عاش أقسى لحظاته وإن كان لا يعترف بهذا.
ماذا عن الحوار الركيك الذي يصر على كتابته على غرار (أمريكا إلي محدش يقدر عليها) ؟.. وهو ينهي المصير بعبارة بالغة العمق (الأفكار لها أجنحة محدش يقدر يحبسها).. ماذا عن الإصرار على فريد أستير الذي لم يكن قد عرض له أي فيلم في مصر عندما انتشرت الكوليرا في (اليوم السادس).. ؟..يقول سامي السلاموني: "كيف عرف القرداتي كل هذا عن (فريد أستير) ما لم يكن قد سافر إلى نيويورك ليحضر عرض فيلمي (في المدينة) و(الغناء تحت المطر) ؟".
لكننا نعرف السبب .. لقد قدم شاهين هذا فقط لأنه يحبه.. كما يمكن أن يقدم فيلماً كاملاً مثل (إسكندرية كمان وكمان) ليثبت أنه راقص بارع و(إسكندراني جدع).. لماذا ؟.. لأنه الأستاذ..
كما قلت في بداية المقال، لا اعتراض لي على يوسف شاهين المخرج .. بل إنه من أعظم مخرجينا وأكثرهم سيطرة على تكنيك أفلامه. لكن – كما يقول سامي السلاموني - ماذا يبقى من أفلامه إذن لو نزعنا التكنيك ؟. وطبعاً لا اعتراض على التصوير والمونتاج لأنه يعمل مع الطاقم الأفضل دائماً...
المخرجون من عينة محمد خان وصلاح أبو سيف وخيري بشارة وداود عبد السيد قدموا أساليب فريدة ناضجة لكن من دون ادعاء، ولم يتهمهم أحد بالعبقرية، كما إنهم – على قدر علمي – لم يتلقوا قدراً زائداً من التدليل .. ..
بالنسبة لي يوسف شاهين هو العبقري الذي قدم باب الحديد والأرض ... هو المخرج فقط لكن لي ألف اعتراض على المؤلف .. فما رأيك أنت ؟

بيجاسوس 02-07-07 09:52 AM

شباب عاوز الحرق .!


ثمة إجماع في وسائل الإعلام والأعمدة الصحفية على أننا رزقنا – من دون الأمم – بألعن جيل من الشباب الرقيع المنحل الشهواني التافه.. (شباب عاوز الحرق) باختصار شديد.. نحن وكل جيلي سلبنا الشباب أحلامه، واحتللنا المناصب التي يمكن أن يطمح إليها، وحرمناه أبسط الحقوق التي يمارسها أي قط في زقاق: الملجأ والزواج، وأعطيناه سفينة غارقة نخرة امتلأت بالثقوب نُهب كل لوح خشب وكل مسمار فيها، وقلنا له إن عليه أن يتولى الإبحار بها بعدنا .. وينظر الشاب إلى البحر الذي يعج بالأساطيل وحاملات الطائرات التي صنعها الآخرون، فيتساءل: ماذا كنتم تفعلون طيلة هذا الوقت حينما كانت السفينة لكم ؟.. فنقول له: أنت شاب شهواني قليل الأدب .. وربما سافل كذلك .. مشكلتك هي أنك كسول تريد كل شيء بلا تعب ..
نعم .. وسائل الإعلام تنظر بريبة واضحة إلى هؤلاء الأوغاد بشواربهم نصف النامية والحبوب في وجوههم وأصواتهم الخشنة .. وهي تتظاهر بحبهم وتقدم لهم الكثير من (نانسي عجرم) و(أليسا)، لأنهم ما زالوا الوسط الاستهلاكي الأفضل، لكنها تعتقد في قرارة نفسها إنهم خطر أمني داهم، وأنهم يدارون ذيولهم في سراويلهم ..
المشكلة فعلاً أن الشباب لم يعد على ما يرام .. هذه الطاقة الكاسحة المعطلة التي حرمت الأمل والمشروع القومي المشترك تزداد خطرًا يومًا بعد يوم، والفراغ يهدد كل شيء وكل بيت .. لاحظ انتشار الكافتيريات وملاعب البلياردو ومقاهي السايبر.. باختصار: ثقافة البطالة. لاحظ نمو التطرف الديني الذي تزامن مع غياب المشروع القومي والأمل في الغد. ولغة (الروشنة) التي يستعملها الشباب تحوي في 90% من كلماتها معاني الاستهتار والتحدي .. دعك من الوقاحة التي يشكو منها كل مدرس .. يحكي الدكتور (جلال أمين) – العالم الوقور عظيم الشأن - عن شاب من هؤلاء دنا من سيارته وهو جالس فيها ينتظر زوجته، فاستند على النافذة بجواره، وراح يثني مرآة سيارته ويفتحها بلا توقف وبلا هدف واضح وعلى سبيل التحدي فقط، بينما ظل الأستاذ الكبير جالسًا في السيارة صامتًا يرقب هذا السلوك غير المفهوم..
لكننا نحن المسئولون بالكامل عن خلق هذا الوحش .. وكما يقول الشاعر العربي:
إنا بأيدينا جرحنا قلبنا .. وبنا إلينا جاءت الآلام
قرأت لأحد الصحفيين الكبار (الفلاسفة) – ولن أذكر أسماء لأن بلاط السجن سيكون باردًا جدًا في هذه الفترة من السنة - أنه كان في رحلة مع مجموعة من الشباب حينما سمعهم يغنون: الأقصر بلدنا بلد سواح .. فيها الأجانب تتسوح .. وكل عام وقت المرواح بتبقى مشتاقة تروح .. وتسيب بلدنا !
يتساءل الأستاذ العبقري: أين ذهب الانتماء لدى جيل الشباب ؟... ذهب يا سيدي الفاضل بسببك وسبب أمثالك، الذين أيدتم كل نظام حكم وكل سياسة، وعملتم جاهدين من أجل الوصول إلى الثراء والنفوذ صاعدين سلمًا من أجساد الشباب المطحون .. في عصر كانت الصحف المصرية ترسم فيه الزعماء العرب جالسين على (قصرية) أطفال، وفي عصر كان يعلن فيه في الصحف عن زيادة الأسعار فتكتب مقالاً كاملاً تؤيد فيه هذه الخطوة المباركة التي تأخرت كثيرًا، وحينما يضع السادات كل قوى مصر السياسية في السجن تكتب مباركًا (ثورة سبتمبر) هذه ..
يؤمن الشباب بعبد الناصر فيخرج ألف كتاب يلعن عبد الناصر .. يحن الشباب إلى سعد زغلول فتمزقون سعد زغلول ..كل إنجازات يوليو تحولونها إلى كوارث يوليو .. تهللون للاشتراكية في عهد عبد الناصر ثم تلعنون أباها في عهد السادات .. وتلعنون أمريكا في عهد عبد الناصر وتكتشفون أنها الشريك الكامل الأمين في عهد السادات. ولولا بعض الحياء والخشية من النظام الحالي الذي يستمد شرعيته من أكتوبر لشككتم في حرب أكتوبر ذاتها : "المصريون لم يعبروا القناة في أكتوبر .. القناة هي التي تحركت إلى الغرب بضعة كيلومترات".
في إحدى فترات الخلاف العابرة مع أمريكا قرأت مؤخرًا لصحفي كبير جدًا يقول: "علينا أن نشفى من خرافة أن 99 من أوراق الحل في يد أمريكا!". والحقيقة أنك يا سيدي كتبت هذه الخرافة مرارًا من قبل خاصة في عهد السادات ..من حسن حظ الشباب أنه لم يقرأ مقالاتك القديمة تلك وإلا لجن بالتأكيد..
تخرج وسائل الإعلام للقاء الشباب ومعها المذيعة التي سكبت زجاجة أكسجين كاملة على شعرها ووضعت طنًا من المساحيق كأنها إحدى بطلات مسرح الكابوكي الياباني.. تسأل الشاب عن اسم وزير (التوابع المضادة) أو وزير (التعاون الإعلامي التخطيطي) فلا يمن الله عليه بكلمة .. من ثم تخرج الصحف صارخة: الشباب تافه شهواني رقيع .. ليت الشباب يهتم بعقله كما يهتم بالدهان الذي يسكبه على شعره ..
الحقيقة أن الإجابة عن هذا تكمن في كلمات (أورويل) في روايته الرائعة 1984 عندما دبت مشادة بين البطل وحبيبته حول (هل كان الحزب في حرب مع أيستاسيا أولاً أم كان في حرب مع إيوراسيا ؟)... يقول (أورويل) إن الفتاة لم تكترث بهذا على الإطلاق لأنها لا ترى فارقًا بين هراء وهراء آخر ..
الشاب لم يختر وزير (التعاون الإعلامي التخطيطي) ولم يسمع عنه من قبل، ويوم يرحل هذا الوزير فلن يعرف أحد السبب .. إذن ما جدوى معرفة اسمه ؟.. لا فارق بين (هراء وهراء آخر).. اسمحوا للشاب أن يختار وزير (التعاون الإعلامي التخطيطي) ثم طالبوه بأن يعرف اسمه، وانصبوا له المشانق لو لم يعرفه ..
نفس الشيء ينطبق على الأسئلة من طراز (متى مات بيلاطس البنطي ؟).. (ما طول نهر المسيسبي ؟).. (من مؤلف كتاب تثقيف الشعوب في تقنية الحاسوب ؟).. السيدة المذيعة لو انتزعوا منها البطاقة الأنيقة لن تعرف الإجابة، والسيد المعد لا يعرف الإجابة وأنا لا أعرف الإجابة، وليس مما يفيد الإنسان المعاصر أن يعرف طول نهر المسيسبي ما دامت هذه المعلومات موجودة في أية دائرة معارف .. إنها ثقافة (الكلمات المتقاطعة) التي يصرون على أنها هي الثقافة ولا شيء سواها، بينما الثقافة هي أن تستخدم ما تعرف في تكوين مفهوم متكامل للعالم من حولك وكيفية التفاعل معه ..
لكن وسائل الإعلام لا ترضى بهذا .. هي لا تريد إلا أن ترى الدماء تسيل وتلطخ كل شيء .. لهذا تطالب برأس الشاب التافه.. بينما اسم آخر أغنية لراغب علامة أو عيد ميلاد روبي هي بالفعل معلومات تبدو مهمة للشاب .. على الأقل هو لا يُرغم على معرفتها، وتمس حياته – ورغباته – بشكل واضح .. ولا تتعالى عليه أو تعده بما لا يمكن تحقيقه .. ولا تهدم ما آمن به من قبل بلا مبرر.. والأهم أنها لا تسد عليه طريق الترقي والنمو في الحياة .. باختصار: (روبي) تبدو هي الشيء الوحيد الحقيقي وسط كل هذه الأوهام وكل هذا الكذب ..
الشباب ليس مجموعة من الملائكة، لكنهم ليسوا شياطين ..سوف يصيرون كذلك لو لم نفق من غيبوبتنا، ونحن لسنا ملائكة ولا شياطين .. نحن ملاحون خائبون غرقت سفينتهم أو كادت .. وعلينا أن نترك قطعة خشب واحدة طافية ليتمسك بها من يأتون بعدنا.

بيجاسوس 02-07-07 10:01 AM

الفضائيات... وسقوط الأوهام


يحكي الأستاذ محمد حسنين هيكل عن شاه إيران في أيامه الأخيرة، عندما شعر بوجود مظاهرات عارمة في الشوارع فأرسل خادمه العجوز إلى خارج قصر الطاووس ليتحرى الأنباء، وعاد الخادم ليقول له ما يرغب في سماعه: المظاهرات محدودة يقودها بعض الشيوعيين ولسوف تخمد سريعًا. لكن الشاه لم يسترح لهذا الكلام، فركب طائرته الهليوكوبتر سرًا وحلق في سماء طهران ليرى بعينه كل هذه الحشود التي أمضت ليلتها في الشوارع. وقد سأل طياره في ذهول: هل كل هؤلاء يتظاهرون ضدي ؟. لم يرد الطيار وكانت هذه على كل حال إجابة كافية جدًا. على أن الشاه لدى عودته للقصر أصيب بحالة بارانويا كاملة جعلته يشك في الجميع، وأصدر تعليماته بألا يزور جناحه أحد حتى الإمبراطورة ذاتها..
إنها اللحظة المحتومة حينما يدرك الطاغية الحقيقة .. إنه لا يملك أية شرعية لدى شعبه وإنهم يمقتونه حقًا .. لا صحة لكلام الحاشية ولا مستشاري السوء .. ليس المتظاهرون (قلة حاقدة) وإنما هم الشعب ذاته بلا نقصان .. وهذا يدلنا على حقيقة أخرى مهمة: حتى أعتى الطغاة يعاني حاجة نفسية ملحة لأن يشعر بأنه على حق وأن هناك من يؤيده .. وانهيار هذا المعتقد قاس جدًا بالنسبة له.
كان هذا في الأيام السعيدة التي يضطر فيها الحاكم إلى ركوب الهليوكوبتر أو الخروج متخفيًا ليرى بعينيه كراهية شعبه له، أما اليوم فالكراهية نفسها تتسلل إلى غرفة نوم الحاكم عبر شاشات الفضائيات..
يحدث هذا برغم آلاف المفسرين والمؤيدين ذوي موهبة تبرير كل ما يقوم به الحكام .. يذهب الحاكم لمؤتمر (الفسكونيا) فيسودون الصفحات يشرحون فيها أهمية أن ننضم إلى تيار (الفسكونيا) أخيرًا لأن الزمن غير الزمن وقواعد اللعبة تبدلت، ثم ينسحب الحاكم من مهرجان (الفكسونيا) فيسودون عشرات الصفحات عن عبثية (الفكسونيا) وذلك الوهم الذي ما زال البعض يعيشون فيه. وهي بحق موهبة تستأهل ما ينالون من أجور ومزايا.
إن موقف الحكام اليوم أقرب إلى الكوميديا السوداء لو كانوا يرون الفضائيات – وهو الاحتمال الأرجح من باب الفضول على الأقل - ويسمعون كل ما يقال ضدهم بلا قيود ولا رقابة .. خاصة مئات المداخلات عبر الهواتف الدولية والتي يستخدم أصحابها أسماء مستعارة، ويتصلون من هواتف عمومية على الأرجح. ثمة من يتهمهم بالعمالة والكفر، ومن يتهمهم بالجبن والتخاذل، ومن يحكي الفظائع التي حدثت له على أيدي عسسهم. هكذا تتولد علاقة فريدة من نوعها جديرة بالدراسة ..
لم يعد واحد من الحكام العرب يملك أية أوهام بصدد شعبية مزعومة يحاول الشيوعيون أو الأصوليون تدميرها .. لقد صارت الأمور واضحة واللعب (على المكشوف).. إنهم يكرهونني كالجحيم وأنا كذلك أكرههم .. ولولا عصا الأمن الغليظة لحولني هؤلاء إلى أشلاء ..
من هنا تتولد عقدة السجان المعزول في محيط يمقته.. إنه أكثر الناس قلقًا في السجن. وتدريجيًا يفقد أي ولاء كان يحسبه لديه تجاه شعبه .. فهو غير مدين للناس ببقائه وإنما هو مدين للأمن وللقوى الخارجية ، وليست عليه التزامات من أي نوع تجاههم .. إنها علاقة من انعدام الثقة والمقت المتبادل .. يقول المثل العامي إنه حينما مات كلب العمدة ذهبت البلدة كلها للعزاء، فلما مات العمدة لم يكلف أحد خاطره .. وقد أدرك الحكام هذه الحقيقة وعرفوا أن قيمتهم الوحيدة هي المنصب والقوة ..
هل يعني هذا أن الفضائيات أدت إلى تدهور علاقة الحاكم بالمحكوم في الدول الشمولية ؟.. هذا التدهور موجود وكان سيتفاقم عاجلاً أم آجلاً، لكنها أدت المهمة بشكل أسرع وبأسلوب (توصيل الخدمة إلى المنازل). فلم تعد ثمة مصداقية لمن يكذب على الحاكم بينما لا مصداقية لمن يكذب على الشعب قبل الفضائيات بزمن سحيق. أما إلام يفضي هذا الغليان وهذا الحراك الجيولوجي كله فالعلم عند الله.



بيجاسوس 02-07-07 10:15 AM

عن مكدونالد والبطة دونالد


من الخصائص المهمة في الإمبراطورية الأمريكية كونها تقدم – كما يقول الأستاذ هيكل – نمطًا معيشيًا وثقافيًا بالغ الجاذبية. إنها الإمبراطورية الأولى في التاريخ التي تستعمل هذا النوع من السلاح. وفي الماضي كان من السهل أن تمقت الإمبراطورية الرومانية بكل رموزها؛ فلم تكن كتابات ماركوس أوريليوس أو خطب بلليني الأكبر تتسرب إلى دارك، أما اليوم فأنت تشتم الولايات المتحدة ثم تقضي الليل كله مع فيلم أمريكي شائق. يذكر أبناء جيلي أيام الحرب الباردة حينما كان الماركسيون يعدونك بجنة البروليتاريا التي ستتحقق بعد الكثير من الدم والعرق والدموع، بينما كان الأمريكيون يقدمون لك بالفعل جنتهم الصناعية ذات اللون والطعم والرائحة، حيث تسبح الحسناوات الشقراوات في بحار البيبسي كولا بينما يرقص ميكي ماوس ويحلق سوبرمان في الجو. إنه (العالم الحر)... تلك اللفظة الأمريكية الاستعمارية التي سادت لتصف كل ما ينضوي تحت جناح الولايات المتحدة خارج الستار الحديدي، أما ما وراء الستار الحديدي فحفنة من الجنرالات الساديين المصابين بالشذوذ الجنسي والذين يتكلمون الإنجليزية (المكسرة)، ومواطنين لا يرغبون في شيء إلا الفرار إلى العالم الحر.
منذ أسابيع قدمت قناة الجزيرة فيلمًا وثائقيًا بريطانيًا عن احتلال العراق، وكان المراسل البريطاني يختبئ مع المارينز خلف دبابة بينما طلقات المقاومة تنهمر عليهم.. هنا قال أحد رجال المارينز دعابة ليزيل التوتر، لكنها تستدعي وقفة عميقة: "تصور أننا لم نقصف قط أية مدينة فيها (ماكدونالد) ؟!". وقد اندهش المراسل البريطاني لهذه المعلومة التي ثبت أنها حقيقية. إن ماكدونالد رمز استعماري قوي يعني أن هذه الدولة غير مارقة، وله ذات ثقل القنصلية البريطانية في الماضي.. بل إن ظهوره في بلد ما يعطيها نوعًا من صكوك الأمان ضد الغزو. ولهذا لا نندهش كثيرًا عندما نعرف أن الصين اعتبرت البطة دونالد عميلة للمخابرات المركزية ومنعت دخولها البلاد لفترة طويلة إبان الثورة الثقافية.
إن الثقافة الأمريكية – على مستوى القراءة أو المشاهدة أو الطعام - هي أمضى سلاح في ترسانة الحرب الأمريكية، والولايات المتحدة قادرة بالفعل على فرض أولوياتها الثقافية .. إنها الدولة الوحيدة التي تشتمها وأنت تستمتع بأفلامها وتتلذذ بمشروبها الشهير.
أنت تشعر بأن من يرتادون محلات الوجبات الجاهزة الأمريكية لا يفعلون ذلك لأنهم يحبونها، بل لما يحظون به من (ممارسة للأمركة) على أرض وطنهم، وهم يدفعون ثمن هذه الممارسة غاليًا ..إن هذه المحلات لا تبيع طعامًا لكنها تبيع جوًا وطقوسًُا وهي تعرف هذا .. يلبس الشاب (الكاجوال وير) مع كاسكيت البيزبول المقلوب على رأسه، ويحمل شطيرة الهامبورجر وفي اليد الأخرى كوب البيبسي يبرز منه الشفاط فيشعر بأنه واحد من هؤلاء السادة في مانهاتن، ويا حبذا لو استعمل لفظة Shit مع كل عبارة .. باختصار هم يرتادون هذه المحلات لكي يكونوا من القوم الذين يرتادون هذه المحلات .. لماذا صار الشباب يصافحون بعضهم على طريقة High five أي تلك المصافحات العالية التي يستعملها لاعبو السلة الأمريكيون ؟... لماذا يلبس الشباب القلنسوات الصوفية على غرار الزنوج الأمريكيين مطربي (الراب) ؟.
عندما أشاهد أفلام الأمريكيين وحلقاتهم الكوميدية من طراز كوميديا الموقف Sitcom أجد غريبًا جدًا أن يفهم المواطن العربي هذه المواضيع أو يتذوقها لكن هذا يحدث.. مشكلة الفتى المراهق الذي لا يستطيع مواعدة Dating أية فتاة في الصف .. مشكلة الفتاة في الذهاب إلى حفل الرقص السنوي .. مشكلة الطفل الذي لا يحقق أهدافًا في لعبة البيزبول .. ثم الدعابات السمجة: "أطرف شيء حدث لي في طريقي لهذا الحفل ..تصوروا أنني لم أجد زيتونًا للمارتيني !" فينفجر الجمهور ضحكًا ومعه يضحك (عباس) أو (حلمي) من فرط طرافة الموقف.. لا زيتون للمارتيني ؟... يا للسخرية!. ثم الكلام عن "بطل الكلية الذي يزن مائة رطل وطوله ستة أقدام".. فتحاول أنت جاهدًا فهم ما يمثله هذا بالمتر والكيلوجرام .. ثم يظهر مقدم حفل الأوسكار الذي مهمته هي التظرف – ستيف مارتن غالبًا - ليقول لنا: "لقد شعرت كأنني في رون هوارد شو !" .. هنا ينفجر الجمهور ضحكًا ويوشك على الاختناق .. أنت مطالب بأن تعرف ما تعنيه هذه الدعابة أو تختنق ضحكًا مع الجمهور ..
حتى على مستوى مجلات الأطفال، لماذا لا يتزوج دونالد صديقته ديزي أبدًا ؟..إنه يحاول الفوز بحبها ومن جديد ندخل في نطاق (المواعدة).. لكن ولا كلمة عن الزواج .. أين الآباء والأمهات في هذه القصص ؟..
ويلاحظ من يتابع الأفلام الأمريكية الحديثة أن هناك نغمة تقديس واضحة لثلاثة أنماط من البشر: الزنجي واليهودي والشاذ جنسيًا.. راجع فيلم (أفضل ما يكون) حيث تجد ثلاثة الأنماط معًا. يسهل قبول العنصر الأول بشرط ألا يتحول إلى عنصرية مضادة، وإن كان العارفون ببواطن الأمور يؤكدون أنها مجرد قشرة سطحية تخفي عطن العنصرية .. يسهل قبول العنصر الثاني بشرط ألا يتحول إلى صهيونية أو تعصب أعمى .. أما العنصر الثالث فابتلاعه عسير جدًا.. لكننا نتعلم كيف نبتلعه بالتدريج، وعلى طريقة راسبوتين في ابتلاع جرعات متزايدة من السم يوميًا ..
إن الثقافة الأمريكية قوية إلى درجة أنها تخدر المواطن الأمريكي نفسه .. هذا المواطن الذي يمسك بعلبة البيرة الباردة ويلبس الكاسكيت بالمقلوب ويصلح هوائي التلفزيون لمشاهدة مباراة كرة القدم .. كرة القدم التي يلعبها على عكس العالم كله. وهو يؤمن فعلاً بأن أمريكا تقود العالم الحر وأن ديموقراطيتها هي النموذج الأعلى للشعوب الأخرى.. هذا المواطن التعس الذي آمن بخطر الشيوعية، ثم بعد سنوات راح يتساءل: كيف قادنا ماكارثي إلى هذا كله ؟ ... هل كنا مجانين ؟.. ثم نسى الأمر برمته وحارب في فيتنام وبعدها بسنوات راح يتساءل كيف وصلنا لهذا ؟.. كيف كنا بهذا الحمق ؟.. ثم سرعان ما نسى وأرسل ابنه إلى العراق .. ولسوف يتذكر الأمر بعد عام أو عامين ليتساءل: كيف تركنا بوش يقودنا إلى هذا الجحيم ؟..
بعد خسارة كيري أمام بوش قرأت رأيًا لأحد المواطنين الأمريكيين يقول: لقد كان كيري رائعًا في المناظرات .. لكننا نؤمن أن المناظرات لا تدل على شيء لهذا كان لابد أن يخسر !..
تأمل معي منطق الأطفال هذا: من يفز في المناظرة لابد أن يخسر الانتخابات لأن المناظرات لا تدل على شيء!.. إذن هل كان على كيري أن يخسر المناظرات ؟.. وما جدواها إذن ... ؟..
كائن مغرور ساذج مخدوع ..هذا هو المواطن الأمريكي .. المواطن الأمريكي المتوسط الذي ليس خبيرًا في مؤسسة (راند) وليس طبيبًا في (مايو كلينيك).. لكنه صار النمط الثقافي الأكثر جاذبية على ظهر هذا الكوكب، وصار على الشباب أن يفرح لما يفرحه ، و يقلق من أجل ما يقلقه حتى لو كان عدم وجود زيتون لشراب المارتيني.. إنها العولمة التي وصفها د. (جلال أمين) بأنها تسري في اتجاه واحد : منهم إلينا .. بينما المفترض أن تسري في الاتجاهين .. لكن الأمريكي يؤمن أنه ليس لدى الشعوب الأخرى ما تقدمه له إلا فطيرة إيطالية جديدة أو وجبة مكسيكية أو أسلوبًا صينيًا جديدًا في التأمل ..
لقد تغلغلت الثقافة الأمريكية في خلايانا وخلايا شبابنا بلا شك .. والمشكلة أن المقابل الفكري المتمثل في الاتحاد السوفييتي لم يعد موجودًا .. كانت هناك سماء وأرض، وكان هناك أبيض وأسود، وكان هناك ماء ونار .. اليوم لم يعد لدينا إلا الأرض والأسود والنار .. فلابد أن الناس في روسيا الآن يحاولون تحويل الرطل والقدم إلى الكيلوجرام والمتر، أو يبحثون عن زيتون لشراب المارتيني !



بيجاسوس 02-07-07 11:21 AM

صدام لم يقبض


لا شيء يثير غيظي مثل مداخلات المشاهدين على الهواء؛ تلك التي تلوث برامج الفضائيات خاصة الإخبارية منها.. عندما يكون ضيف الحلقة في وزن حسن نصر الله أو فهمي هويدي أو سيد القمني أو المدير السابق للمخابرات المركزية في الشرق الأوسط، تكتشف أن هناك شخصًا في مكان ما يملك الشجاعة العبقرية الكافية ليرفع سماعة الهاتف ويعطل تدفق المعلومات المهم لمدة خمس دقائق، فقط كي يعبر عن آرائه في الحياة .. وهو أصلاً لا يملك أية موهبة إلا امتلاكه لخط دولي .. لكنه يتكلم بلهجة المرشد الذي يهدي هذه الخراف الضالة إلى الصواب: "أنا عجبني الأستاذ فهمي لما قال كيت وكيت وما عجبني لما قال كذا وكذا .."... إنها كلمة الحجا أخيرًا بعد ما كثر الدهماء .. وتشعر طيلة الوقت أنه من الذين يهوون سماع صوتهم وربما العبث في أصابع أقدامهم كذلك..
أذكر أن أحد هؤلاء اتصل بالشيخ القرضاوي ليصدر تعليماته: "قل للمشاهدين كذا وكذا وامنعهم من كذا وكذا ..". يومها قال القرضاوي إن نفاق العالم للحاكم أمره مفضوح وخطره محدود، أما نفاقه للعامة بأن يقول لهم ما يرغبون في سماعه فهو أمر شديد الخطر ..
يقولون إن هذه المكالمات مرتبة سلفًا وأنا أصدق أن ينطبق هذا على نسبة معينة من المتكلمين، أولئك الذين يعرفون ما يقولون حقًا . لا أصدق أن يسمع جارودي المقيم في باريس الحلقة فيتصل ونسمع صوته فورًا وبهذه البساطة، ما لم يتم ترتيب ذلك مسبقًا. أما البقية الباقية فكلامها يؤكد بلا شك أن المداخلات عشوائية ..
يمكن لكل متابع يقظ – وأعتقد أن أعداءنا كذلك – أن يرسم صورة دقيقة للعقلية العربية من خلال هذه المداخلات . وهي صورة لا تسر النفس على كل حال ..
أولاً هناك ذلك الأخ الذي اتصل بأحمد منصور ينصح العرب بسحب أرصدتهم من مصارف الغرب بعد أحداث سبتمبر .. إلى هنا الكلام معقول .. فجأة ينفجر صارخًا : المسيخ الدجال هو من دبر أحداث سبتمبر .. أنا أنذر أمريكا إن لم تسحب قواتها في أفغانستان لأفضحن أمرهم في كل المحافل الدولية!.. وأنهى صراخه بأن أعطى أمريكا مهلة حتى صلاة الفجر للانسحاب وإلا خرب بيتها وفرج عليها (اللي يسوى وإللي مايسواش) !
في برنامج آخر اتصل مسيحي مصري يؤيد المقاومة في فلسطين .. بعدها اتصل أخ من بلد عربي شقيق ليقول في حزم: "ليس لنصراني أن يتكلم عن الجهاد في فلسطين .. القضية في فلسطين إسلامية أولاً وأخيرًا أما هم فليس لهم إلا الجزية يدفعونها .."
هكذا ببساطة يقول لكل مسيحي يهمه ما يحدث في فلسطين "وانت مالك يا بارد ..؟"
أحيانًا يأتي الهراء مما وراء المحيط .. واحد من أقباط المهجر يتصل من الولايات المتحدة ليقول في عصبية إن الأدب العربي كله (عهر) وإن علينا أن ندرس الأدب الفرعوني العظيم الذي قدم للعالم (سنوحي).. كنت سأحترم كلامه لو قال ما قاله بالديموطيقية لكنه قاله بالعربية للأسف ..
دعك من الأخ الذي أكد - بعد ما عرضت نشرات الأخبار عملية نقل عرفات المريض إلى فرنسا – أن هذه تمثيلية .. "عرفات ليس مريضًا إنما هي الطريقة المثلى ليترك الساحة لمن يتنازل من بعده !.. لو شاهدتم الصور لرأيتم أن عرفات في خير حال !" .. وتنظر أنت للصور لتجد أن عرفات يبدو كشبح .. هل أصيب الأخ المتكلم بالعمى كذلك ؟... ثم لنفترض أن عرفات يبدو سليمًا فما هو منطق هذه التمثيلية ؟.. هل عرفات يريد التنازل ؟.. إذن لماذا لا يتنازل هو نفسه ؟.. هل لا يريد التنازل ؟.. إذن لماذا يقوم بهذه التمثيلية السخيفة ؟ لكن الأخ يتكلم بلهجة قاطعة تقول بوضوح إننا بلهاء عاجزون عن رؤية الشمس ...
طبعًا وقد انتقل عرفات إلى جوار ربه توقعت أن تبدأ الأغنية التالية: عرفات حي وفي مكان ما بأوروبا يستمتع بأموال الفلسطينيين .. الجنازة تمثيلية تم ترتيبها مع المخابرات الفرنسية !.. لكن خاب ظني فلم يقلها أحد بعد ..واضح أنني لست أذكى ممن أنتقدهم هنا ..
هناك عبقري آخر يصر على نبذ علم الغرب كله وأن علينا أن نبدأ في تكوين علم إسلامي خاص بنا .. أي أنه يريد أن نعيد استكشاف قوانين الجاذبية وشحنة الإلكترون وتشريح البطين وربما العجلة والنار كذلك ..والسؤال هنا: لماذا تستعمل الهاتف والديش وهما ثمرة اكتشافات الغرب الكافر ؟
وقد اعتادت قناة الجزيرة أن تنظم استفتاءات تداعب مقدمًا العقل العربي الذي تفهمه جيدًا .. هل تعتقد أن عرفات مات مسمومًا ؟.. هل تعتقد أن أمريكا تتلاعب بنا ؟.. الخ . والإجابة دائمًا معروفة لأن من يذكر العكس لا يمكن أن يكون عربيًا ...
الحقيقة أن العقل العربي هو أخصب تربة وجدت لنمو بذور الإشاعات ..
كل شيء فيه مؤامرة ما .. الكرادلة والحاخامات ساهرون في الخارج على ضوء المشاعل السباعية يشربون الدم ويخططون لتدمير حضارتنا .. حتى على مستوى الألعاب .. أقراص لعبة (بوكيمون) اليابانية عندما تحترق تكتب كلمة (محمد لا .. كعبة لا).. هل هم في اليابان رائقو المزاج إلى هذا الحد ؟.. ما نفع هذا لهم وهم لا يفكرون إلا بلغة الدولار والين ؟.. هل يكفي هذا لهدم الإسلام ؟ ..وكيف يهدمه إذا لم تكن الكتابة تظهر إلا في ظروف نادرة ؟.. ثم تعال نجرب معًا ونحرق أحد هذه الأقراص .. لا شيء .. لكن لا أحد يصدق ..الكل يؤكد أنه جرب أمس ورأى .. تخرج صحيفة مصرية مهمة تقول إن لفظة (بيكاتشو) - اسم إحدى شخصيات اللعبة - معناها (كن يهوديًا).. وهو ما أنكره كل خبراء اللغة العبرية ، لكن الجماهير لا تقبل عن نظرية المؤامرة بديلاً.. إنها طعامها وشرابها .. وتخرج المظاهرات الغاضبة ويقف تلاميذ المدارس خارج مدارسهم يحرقون أقراص البوكيمون في حماس تقربًا لله .. لا يعلم أحد مصدر هذه الإشاعة لكني أرجح أنها شركة منافسة أرادت أن يخلو السوق من البوكيمون لتسويق منتجاتها، وهو ما كان فعلاً..
صدام لم يقبض عليه بعد .. من قال هذا ؟.. الصور زائفة ونخيل البلح لا ينمو في هذا الوقت .. فلو ظهر مكبلاً بالأصفاد فليس هو .. هناك ممثلون يشبهونه .. لو اتضح أنه هو مائة في المائة فقد قبضوا عليه مخدرًا . المهم ألا تصدق ..
أذكر أيام غزو العراق للكويت أن صديقًا تونسيًا – وكانت تونس تؤيد صدام وقتها – قال لي في اشمئزاز: "حرام عليكم ..كيف ترسلون ألف فتاة للترفيه عن الجنود الأمريكيين ؟". جن جنوني غيظًا وقلت له إنه لو كان المتكلم مجنونًا فليكن المستمع عاقلاً.. هل تتخيل لجنة من الحكومة تطوف بالشوارع تختار من البنات أولئك اللاتي يصلحن لإمتاع الجنود الأمريكيين ؟.. و"متخافش يا حاج .. بنتك حتنام مع العساكر الأمريكان كام يوم كده وبعدين ترجعلك صاغ سليم".. تشاجرت معه لإهانته أولاً ولغبائه ثانيًا .. ثم فوجئت بأن صحفنا تروج ذات الإشاعة لكنها جعلت الفتيات بنات دولة عربية أخرى تؤيد صدام .. والمفترض أنهن يذهبن للتسرية عن الجنود العراقيين . وفي الحالتين الكل يصدق ..
خذ عندك أسامة بن لادن .. هناك كثيرون في الداخل والخارج يعتقدون أنه لم يقم بشيء مما نسب إليه في أحداث سبتمبر، والموضوع كله مؤامرة من دولة داخل دولة تحرك الولايات المتحدة .. منطق قد يكون مقنعًا .. لكن خذ عندك من يدافع عن ابن لادن لأنه لم يفعلها .. ثم ينهي كلامه بالدعاء لهذا البطل المغوار الذي لقن الولايات المتحدة أقسى درس في تاريخها !... هذا نموذج ممتاز للمنطق الذي يعكس نفسه في الجملة ذاتها ..
ثمة حادثة تافهة حدثت في دولة عربية عرفت بالتحفظ الشديد .. شاب وغد هاجم زوجة أخيه وعراها .. حادث بشع لكنه أتفه من أن يتذكره أحد.. لكن منتديات الإنترنت تفرغت تمامًا لهذا الموضوع .. الكل يستعيذ بالله وينعي الأخلاق لكنه يتلمظ ويسيل لعابه لمعرفة تفاصيل أكثر ..هذه الطريقة في الهجوم على الفحش التي تشم فيها أعتى درجات الكبت الجنسي والتوحش.. أحد العباقرة الذين علقوا قال في ذكاء: "والله ما عملوها إلا الموساد !" .. والأسوأ أن الكل وافقه على ذلك ..!
من ذكر الموساد في الموضوع ؟.. ما هو دوره ؟.. ما الفوائد الجمة التي ستعود على إسرائيل من قيام شاب بتعرية زوجة أخيه ؟.. أسئلة لا جواب عنها ..
وما دمنا تكلمنا عن هذه المجموعات العربية فلابد أن نذكر ظاهرة عجيبة .. لا يوجد عقل في العالم يخلط بين الدين والجنس بهذه الكثافة .. صور عارية شديدة الفحش بعضها شاذ وبعضها لأطفال جنبًا إلى جنب أحاديث قدسية وأدعية ..! فإذا جاءت سيرة الدين تحول الكل إلى دعاة ومجاهدين كبار..

أحمد الله أنني لست مفكرًا أو مصلحًا أو داعية .. إن مهمة هؤلاء عسيرة .. عسيرة إلى حد لا يمكن وصفه !

بيجاسوس 02-07-07 11:28 AM

شعث مفارقنا !


القبلية ...
من قال إننا تخلصنا منها ؟...
بيت الشعر العربي القديم الذي يقول:

شعث مفارقنا .. تغلي مراجلنا
نأسو بأموالنا آثار أيدينـــا


هذا البيت تلقيناه جميعًا في المدرسة، وقال لنا مدرسونا – بنبرة إعجاب لا شك فيها - إنه نموذج طيب للفخر عند العرب .. تأمل مدى الاعتزاز بالنفس ؟... إن مفارقهم مشعثة من القتال، ولكن مراجلهم لا تكف عن الغليان كناية عن الكرم .. وهم يؤذون الناس باستمرار لكنهم يدفعون التعويضات .. هل ترى ؟.. الآخرون ضعفاء فقراء ومنحطو النفوس كذلك.. يقبلون بعض المال لينسوا ما أصابهم من أذى ..
ليس هذا فحسب، فالأخ العربي لا يريد أن ينسى القبلية على سبيل الملل أو التعب أو السهو .. لهذا يقول:

ونشرب إن وردنا الماء صفوًا
ويشرب غيرنا كدرًا وطينا


لماذا تفخر يا أخي بأنك تشرب الماء من النبع صافيًا .. بينما يشرب الآخرون طينًا ؟.. لماذا لا ننظم العملية فيشرب الجميع ماء صافيًا ؟
لكن هذه الروح موجودة في العرب منذ قديم، وكنا نحسبها من سمات الجاهلية، فإذا هي تستمر وتُخلد ونقابلها في كل يوم ... على مستوى الدول وعلى مستوى الأسرة ..

عرفت ذات مرة شابًا رقيق الحال خطب ابنة إحدى تلك الأسر، سأطلق عليها (هـ) لتسهيل الأمور. وكان لها أخ موشك على الزواج بدوره أطلق عليه (م).. صاحبنا رقيق الحال اشترى سجادة أنيقة للصالون من محلات القطاع العام وتركها في شقة خطيبته – كما هي العادة في البيوت المصرية – إلى أن يستكمل تجهيز بيته.. تزوج أخوها (م) قبلهما فذهب الشاب رقيق الحال لتهنئته .. هنا فوجئ بالسجادة مفروشة في صالون أخيها !.. ابتلع دهشته إلى أن تكلم مع خطيبته على انفراد، وقال لها إن العادة جرت على عدم استعمال أشيائه لأن الأمانة تقضي بهذا أولاً، ولأن هذا فأل سيئ ثانيًا، ولأن أحدًا لم يستأذنه ثالثاً، ولأن المعارف المشتركين لن يصدقوا أبدًا أن هذه سجادته هو يوم يرونها في صالون بيته، وسوف يفترضون أن أخاها هو الذي أعان الشاب الرقيق الحال بإهدائه سجادته ..
هنا تحولت خطيبته الرقيقة إلى شيء يشبه مصاصي الدماء، وقالت له إنه: لا يجب أن يقول هذا (عنا) وذلك (لأننا) نعرف ما نفعل ولأن (أخي) ليس بحاجة إلى سجادتك ال[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]ة هذه ...
هكذا ابتلع لسانه لأنه كان يحبها فعلاً ولم يكن يريد تدمير الزيجة لأسباب تافهة كهذه .. وبالفعل صارت زوجته ..
بعد هذا بعامين تزوج أخو زوجة (م) وذهبا لزيارة العريس في بيته .. فوجئت الزوجة الشابة (هـ) بأن النجفة المعلقة في الصالون هي نجفة أخيها (م) الذي سافر لبلد عربي منذ عام .. لقد جرؤت الحدأة على فك النجفة التي اشتراها زوجها بماله كي تعلقها في صالون أخيها !.. وقد راحت الزوجة الشابة (هـ) ترغي وتزبد وتتحدث عن انعدام المثل والنساء اللائي لا خلاق لهن .. فذكرها زوجها رقيق الحال في رفق بموقف مماثل حدث منذ عام .. لكنها قالت (إننا) لا نتصرف مثل هؤلاء ..(إننا) نعرف جيدًا ما نفعله .. وما فعله أخي كان استعارة بسيطة لكن هذه سرقة .. ثم إننا اعتدنا أن نشرب الماء صفوًا ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا ..
ما دمنا نحن من يرتكب الأخطاء ونؤذي فكل شيء على ما يرام والحياة حلوة. الجرم كل الجرم هو أن يفعل بك الآخرون الشيء ذاته لأن هذا معناه أن الخير زال من العالم ..
يوقف الرجل سيارته في عرض الطريق فإذا لامه سائق الأجرة الواقف خلفه، تنطع وتنمر وقال في لهجة منذرة : إنت مش عارف بتكلم مين ؟... ويرمقه بتلك النظرة البوليسية التي تعلم الكل كيف يصطنعها اصطناعًا .. كأنه من عتاة رجال الأمن ذوي النفوذ أو من مراكز القوى في الستينات ..
جرب الآن أن تجعل سائق الأجرة يسد الطريق على نفس الرجل، ولسوف تسمع مواعظ كاملة عن قلة التهذيب وانعدام الأخلاق .. وتنتهي الموعظة بالعبارة الشهيرة: إنت مش عارف بتكلم مين ؟.. ثم يرفع الموبايل في عصبية وقرف إلى أذنه كأنه يطلب (مراد بيه) فلا يقول شيئًا .. فقط يغمغم ثم يغلقه بعصبية أكثر ولسان حاله يقول (أنت إنسان ميت)..
هذا نموذج آخر للشعور القبلي الواضح .. وهذا الرجل لا يفعل إلا أن يمارس عمليًا أسلوب: ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ويشرب غيرنا كدرًا وطينا..
كل أسرة تريد أن يكون بين أبنائها الضابط ليكون عندها (إبراهيم بيه) تخالف به القوانين وتمشي على أعناق الآخرين .. كل أسرة تريد أن يكون عندها وكيل النيابة والمستشار فإن لم تجد واحدًا ناسبته أو تمحكت في قريب بعيد .. هكذا تستطيع أن تخالف القانون كما تشاء .. إن إبراهيم بيه لقادر على أن يجعلها تشرب الماء صفوًا ويشرب غيرها كدرًا وطينًا ..
بفضل (إبراهيم بيه) أو (سامي بيه) يمكن للأسرة أن تظفر بلائحة أرقام ذات أربع أو ثلاث خانات .. هكذا لا يجرؤ شرطي واحد على الاعتراض ويمكنها إيقاف سيارتها في الممنوع وتهدد من تريد..
لكن حدث بلا حرج عما يحدث لو أوقف واحد من قبيلة أخرى سيارته في الممنوع.. عندها تكون الطامة الكبرى .. أمال إحنا متخلفين ليه ؟

شعث مفارقنا .. تغلي مراجلنا ...

دائمًا (نا) الدالة على الفاعلين .. دائمًا (نحن) و(إحنا) و(عندنا) و(بتاعنا).. والزوجة التي فقد زوجها الوزير منصبه في التعديل الوزاري، فأصيبت بانهيار عصبي لأن كشك الحراسة أمام البناية قد تم رفعه .. كانت قد اعتادت أن يكون هذا (كشكنا) و(حراستنا) و(وزارتنا).. لهذا لم تتحمل فقد هذا الهيلمان لتصير كالرعاع الآخرين الذين لا يوجد كشك حراسة على بابهم ..
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا
ويشرب غيرنا كدرًا وطينا

والمشكلة في مصر أن الأمر تجاوز مجرد لذة قهر الجيران .. إن النجاح الاجتماعي صار يقترن اقترانًا قويًا بالقدرة على خرق القوانين .. مش إحنا .. القانون للفقراء والبسطاء (الذين يشربون كدرًا وطينًا)... أما نحن ففوق القانون ..لهذا كما ذكرت وجد مثال (مش عارف إنت بتكلم مين)... واصطنع الجميع ذلك الطابع المتكبر الغامض كأنهم من رجال أمن الدولة شديدي الخطر، برغم أن هؤلاء لن يلفتوا الأنظار لأنفسهم في إشارة مرور أو طابور مصرف لمجرد التفاخر..
نحن .. نحن ومن بعدنا الطوفان ..
كيف يجرؤ هذا الشرطي على إيقاف سيارتي ؟... أتراه يحسبني من الآخرين ؟.. ألا يعرف أنني من (بني مخزوم) ؟... كيف يعاقب هذا المدرس الفقير ابني في المدرسة ؟.. ألا يعرف ابن من هو ؟... لقد تعبت كثيرًا حتى أبلغ مكانة تسمح لي بمخالفة القانون ولن أسمح لواحد من قبيلة أخرى بأن يحاسبني ..
وهكذا تمضي الحياة في مصر .. لا تدري هل هو وباء مستجد أم هو مرض منذ القدم لم نشف به وتظاهرنا بذلك بعض الوقت ؟.. لكننا لن نتقدم أبدًا ما لم نتعلم كيف نمشط مفارقنا ونطفئ مراجلنا إلا عند اللزوم، وننظم ورود الينبوع ليشرب الكل الماء صافيًا ...

بيجاسوس 02-07-07 01:51 PM

حسد


اليوم أعترف بالحقيقة التي أخفيتها عن الناس منذ الطفولة ..
أنا أحسد بقوة ..
أحسد طفلاً سوف يحقق كل الأشياء التي فشلت أنا في تحقيقها
(الشاعر الروسي إيفتوشنكو)


***

يجب أن أعترف بهذه الحقيقة .. لقد نجح هؤلاء القوم في تحقيق ما عجزت عنه أنا .. ربما أداري الحقيقة بالكثير من التعالي .. التحذلق .. ترفع الطبقة الوسطى، لكني أدرك يقينًا أنني فشلت في فهم قواعد اللعبة منذ البداية وهي ذي النتيجة واضحة جلية، وهي أن الزمن ليس زمني ولا البلد بلدي.
لقد رأيتهم قادمين .. كنت في المدرسة الثانوية بينما السادات يضع المتفجرات تحت الصرح الذي شيده عبد الناصر طيلة عقدين من الزمن، ولم أعلق أهمية كبرى على هذا .. عرفتهم بوجوههم السوقية الشهوانية .. عرفتهم بأصواتهم الجهيرة .. وكما قال الناقد السينمائي الراحل سامي السلاموني: "تعرفهم من كروشهم وفتحة صدر الطرزانات وصفاقة من شبع بعد جوع .. منهم الطبيب والمحامي والمهندس والعامل، لكنهم صاروا طبقة واحدة لها شكل واحد وطموحات واحدة، وربما تستمع لنفس المطرب..".. كتب هذه الكلمات يوم قام احدهم بنشاط محبب لهم ألا وهو غرس سكين الفاكهة – حتى المقبض - في بطن ابن شقيقة عبد الناصر .. فقط عين السلاموني الحساسة استطاعت التقاط الرمز وراء هذا المشهد ..
كنت أجلس في غرفتي أطالع الطيب صالح وكافكا وطه حسين، وأعلق رسوم محمود سعيد ورينوار، بينما كان هؤلاء يزحفون كالقمل في كل مكان .. ثمة نشاط بشري غريب هو أن تذهب لبور سعيد وتلف القماش على خصرك وتضع عشرين ساعة حول ساعديك كي تتجنب الجمرك ..نشاط آخر غريب اسمه المتاجرة بالدولار في السوق السوداء .. هذا النشاط يقومون به جميعًا لكني - وكل أمثالي – عاجزون عنه .. ربما لأنني أترفع عنه .. ربما لأنني أخشاه .. ربما لأنني لم أفهم قواعد اللعبة بعد .. ربما لأنني (مش وش بهدلة) وبلغة أدق: كان لدي ما أخسره .. هم لم يكن لديهم ما يخسرون .. هذه هي عقد الطبقة الوسطى التي تكبلك إلى الأرض ..
إنهم يمارسون الاختلاس والرشوة والمحسوبية على نطاق واسع .. ثم أنهم لا يخجلون .. ينشئ السادات حزب مصر فينضمون جميعًا له ويكتب احدهم على طريقة فكتور هوجو: لو كان أعضاء حزب مصر خمسة فأنا منهم .. ولو كانوا واحدًا فأنا ذلك الواحد ..
ثم يترك السادات حزب مصر لينشئ الحزب الوطني الديمقراطي عندها – في اليوم ذاته - لا يبقى بين جدران حزب مصر واحد من هؤلاء .. مشكلتي أنني بطيء التفكير أكثر من اللازم .. أرى هذا الموقف فأقضي عشر سنوات أحاول استيعابه .. بينما هم جميعًا فهموها (وهي طايرة).. لقد انتهوا من استخراج الدهن من الزلط ودهن الهواء بالدوكو ، بينما أنا ابن الطبقة الوسطى ما زلت أعتقد أن المستقبل لي أنا .. رأسي مقبرة أثرية تضم رفات ناصر وجيفارا ولومومبا حيث أحرق البخور وأتكلم عن بطولة سنموت حنا مع النحاس، وأحفظ كل حرف قاله كاسترو لناصر عندما التقيا في القاهرة..
إنهم يتاجرون في الأراضي .. إنهم يحصلون على تصاريح البناء غير القانونية . إنهم يقوون علاقاتهم بكبار رجال الشرطة .. بينما يستطيع أصغر شرطي مرور أن يجعل الدم يتجمد في عروقي .. ثم يقررون أن يتدينوا فجأة، وتظهر زبيبة صلاة عملاقة لكل منهم، ويلبسون الجلابيب البيض، ويسافرون للعمرة عدة مرات في كل عام وينشئون الشركات التي تبيع حبة البركة والعسل الأبيض، ويديرون المدارس التي تحمل في نهاية اسمها لفظة (الإسلامية).. ويعودون ليتهموا بطيئي الفكر بالتسيب الديني، ولا بأس من غرس سكين في عنق نجيب محفوظ فهذه كما قلت من هواياتهم المحببة، والرجل هو الآخر لم يفهم قواعد اللعبة برغم ذكائه الشديد..
وتتأمل سلوكهم فتجد أنهم يمارسون ثلاثية المنافق حرفيًا: يحدثون فيكذبون .. ويعدون فيخلفون .. ويؤتمنون فيخونون.. لكنهم جهيرو الصوت قادرون على الصراخ في أي وقت ليخرسوك ..
ثم يكتشفون فجأة أن مصر تضم مسلمين ومسيحيين ويقررون أن هذا خطأ وأن هذا سبب مشاكلنا الاقتصادية التي يعاقبنا بها الله.. دعك من أنهم اكتشفوا فجأة أن هناك صعايدة في الجنوب وأن هذا شيء ظريف جدًا.. وتبدأ نكات الصعايدة التي يطلقها الحشاشون في ملاهي شارع الهرم لتشق مصر إلى نصفين..
إنهم يسودون المقالات في الصحف تبرر كل ما تفعله الحكومة مهما كان خطأ أو جائرًا .. إنهم يهتفون : بالروح بالدم نفديك يا سادات.. ويوم اغتيل السادات لم يكن أحدهم مستعدًا لتبديل جلسته المريحة لينقذه .. وعند المساء كانوا قد نسوا كل شيء عن السادات وراحوا يرتبون أوراقهم للعهد الجديد .. فإذا جرؤت على انتقادهم صرخوا بأعلى صوتهم أنك من (حزب أعداء النجاح)..
إنهم لا يملكون ذرة ثقافة لكنهم يعتنقون شعار روكفلر: حسابي في المصرف دليل على أن الله راض عما أفعله .. وهم يؤمنون – كخلاصة الفلسفة البراجماتية الأمريكية - بأن الفقير مسئول عن فقره بشكل ما .. ربما لأنه أغبى من اللازم .. أبطأ من اللازم .. أجبن من اللازم .. والمشكلة أنني بدأت أعتقد هذا ..
تاجروا في الحشيش والبرشام والبودرة واليوم يزرعون البانجو ويدخنونه لأنهم أدرى الناس بأن (دماغهم متكلفة) وهم حريصون على حفظ التوازن الكيميائي لآلة صنع المال هذه .. إنهم يأخذون القروض ويفرون لكن – وهذا لغز – تظل البلد بلدهم، بينما أنت الباقي فيها والذي سيدفن – مفروسًا - في ترابها تشعر بشكل ما أنك مجرد ضيف عابر ..

***

نعم .. في لحظات كفاحي المرهقة كي لا أنزلق إلى طبقة أقل أقول لنفسي إنني فشلت .. كان الزمن يتغير وفشلت أنا في فهم ذلك، بينما هم فهموا منذ البداية .. لقد امتلكت بعض الثقافة السطحية لكني افتقرت تمامًا لذلك النوع الخاص من الذكاء الذي يطلقون عليه (نصاحة) .. ربما لو لم يكن لدي ما أخسره .. ربما لو فهمت أسرع من هذا ..
لكني لن ألقى باللوم على أحد سواي .. لا توجد بدايات متأخرة للعبة وليس بوسعك أن تتعلمها في سن الأربعين كما أنها لا تُدرس في المدارس .. ولهذا فشلت كل محاولة لي في دهن الهواء بالدوكو أو خرم التعريفة أو اعتصار الدهن من الزلط ... ولهذا أقولها بكل صدق: أنا أحسد هؤلاء القوم .. فقد امتلكوا الأرض وما عليها .... وربما يمتلكون المستقبل كذلك وإن كنت أدعو الله أن يتعلم ابني فن دهان الهواء قبل أن يحدث هذا.


بيجاسوس 02-07-07 01:55 PM

القطرات الاخيرة



كأن الأمر كذلك: عندما قامت ثورة 1919 امتدت يد الزمن العملاقة تعتصر ضرع مصر الحلوب، ولسنوات عديدة سالت منه بسخاء قطرات مثل العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ – الطبيب والأديب كليهما – وسيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب .. الخ .. الزمن يمضي وقد مر نحو القرن، وهاهي ذي القطرات الأخيرة تتدفق من الضرع قبل أن يجف: هيكل .. صلاح جاهين .. بيكار ..جلال أمين ... لا ندري كم من الوقت يجب أن يمضي قبل أن يمتلأ الضرع بالخير ثانية، لكني أعرف جيدًا أن إسماعيل دياب كان بين تلك القطرات الأخيرة..
وصوت إحدى سيمفونيات بيتهوفن ينبعث من جهاز الهاي فاي – من بين أشياء نادرة امتلكها في حياته – وأمامه فنجان القهوة، كانت تعن له فكرة ساخرة فيضحك، ويمتزج الضحك بشخشخة السعال في صدره الذي أرهقه التدخين .. هناك في تلك الشقة الصغيرة – التي لا يملكها - في ميدان الجيش كان يغمس فرشاته باللون وبضربات محكمة خبير يولد على الورق غلاف جديد .. غلاف تشم فيه رائحة رواية لتولستوي أو دستويفسكي أو بلزاك .. وبشكل ما كنت أشعر أنه ينتمي لذلك العالم وانه كان صديقًا شخصيًا لجوركي وديكنز وموباسان .. كان يتذوق الأدب كأفضل نقاده وكانت ثقافته موسوعية ..
أرمق الصورة المعلقة على الجدار خلفه وأتساءل عن معناها .. صورة زيتية لرجل ملقى على الأرض محطمًا منهكًا .. يمد يده إلى إناء فارغ مقلوب أمامه .. ما معنى ذلك ؟
اسمه إسماعيل دياب .. كان يعرف الكثير لكنه لم يتصور قط أن رسومه محفورة في جيلين على الأقل ممن لم يقرءوا الأدب إلا مرسومًا بريشته الساحرة شبه التأثيرية .. منذ كانوا أطفالاً يقرءون قصص دندش وباسل في مجلة سمير حتى عرفوا أن هناك من يدعى جي دي موباسان وبلزاك ...
كنت تلمح في وجهه الطيب المجعد الذي رأى كل شيء، وشعره الأشيب تلك السمات التي لا تخطئها العين .. سمات الناسك الذي يردد: "فلتزأر العاصفة" ويرمق الحياة في ترفع باسم.. تلك النظرة التي رأيتها من قبل في عيني نجيب محفوظ وغاندي وماركيز وتشيكوف ومانديلا.. يشعل لفافة تبغ أخرى ويقول في فخر: "أنا لا أملك أي شيء وأحمد الله على هذا .."
اسمه إسماعيل دياب .. لم يكن يتكلم كثيرًا عن نفسه .. وبصعوبة بالغة تعرف أنه ابن الإسماعيلية .. تخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1962 .. هذه الدفعة ضمت أسماء ليست أقل من اللباد وجميل شفيق وعبد الغفار شديد ..
كانت تجاعيد وجهه خارطة مفصلة لتاريخ الصحافة المصرية بعد الثورة .. لقد عمل في أخبار اليوم وروز اليوسف ودار الهلال (مجلة سمير) ودار المعارف والأهرام والهيئة العامة للكتاب .. وكان في حياته سر أكثر جمالاً هو أنه شقيق الأديب محمود دياب .. لم أعرف هذا إلا عندما أخبرني به .. محمود دياب .. الكاتب الثائر الذي تنبأ بالتحولات المرعبة التي توشك أن تعيد الاستعمار الخفي إلى مصر .. مسرحية دنيا بيانولا .. مسرحية تتنبأ بالخراب الذي يقودنا إليه الانفتاح، وللمرة الأولى نرى تيمة العائد من الخارج ليهدم بيت الأسرة القديم وهي تيمة استعملها الجميع فيما بعد .. يوسف السباعي كان ضمن الموجودين في العرض الأول وقد كان رحمه الله من قادة كتيبة الانقلاب ضد مثقفي الستينات، وقد أدرك بفطنته الإشارات التي يرسلها هذا العرض .. وقد ظل يشاهد الأحداث متذمرًا ثم انفجر فجأة واصفًا المسرحية بأنها كلام فارغ وتهريج .. هنا انفجر فيه محمود دياب بدوره .. وكانت هذه نهاية المسرحية ..وبعد أيام احترق المسرح كأن الأقدار تأبى إلا أن تشارك في هذه اللعبة العبثية ..
محمود دياب يدرك حقيقة أن الزمن لم يعد زمنه وأن قواعد جديدة توضع للعبة، وهو ذا يعتزل العالم في شقته الواقعة خلف مستشفى هليوبوليس .. يرقب الناس من الشرفة مشمئزًا مندهشًا من قدرتهم على الحياة وسط هذا الزيف .. يوم 10/10/1983 يموت محمود دياب غريبًا محبطًا كما مات من قبله ومن بعده جمال حمدان ورجائي عليش ونجيب سرور وآخرون لن يتوقفوا عن الدهشة فالحزن فالانكسار فالموت ..
الآن يخيل إلي أنني أفهم الصورة الزيتية المعلقة على الجدار وراء الفنان ..
اسمه إسماعيل دياب .. وكانت ذكرى أخيه من اللحظات النادرة التي يتكلم فيها عن نفسه كثيرًا وبلا توقف ..يتكلم عن أولاد أخيه هشام وهالة وهبة .. أذكر يوم جلبت له مقالاً طويلاً نشر في مجلة وجهات نظر عن محمود دياب، ورأيت الفرحة الطفولية تغزو وجهه ..كان يحتفظ بكل ما كتب أخوه ولا اعتقد أنني كنت واجدًا أية نسخة من الظلال في الجانب الآخر إلا تلك التي أقرضني إياها .. دعك من الهرميتات الصوفية التي كان يطالعها أكثر من مرة أسبوعيًا والتي أثرت حنقه عندما اعترفت بأنني لم أفهمها أو فهمتها ولم أفهم المراد بها ..
لم أكن أعرف أن له ابنًا في العقد الرابع من العمر.. (وائل) مصمم جرافيك في الأهرام.. وابنة هي (جيهان).. موظفة في الثقافة الجماهيرية .. كان يقول لابنه: "يا بني أنا عمري ما كنت معاك أب .. أنا صاحبك وأخوك.".
تلقى الكثير من عقود العمل بالخليج، لكنه لم يسمح لنفسه بالسفر خارج مصر إلا للسياحة .. من على شاكلته جميعًا لا يعرفون لأنفسهم عملاً ولا بيتًا ولا قبرًا خارج مصر .. سافر لأمريكا عام 1978 وقضى ثمانية أشهر يدرس تصميم المناهج الدراسية .. قضى في الرياض يومين لا أكثر .. ثم عاد .. دائمًا يعود .. لم يقم أي معرض خاص قط .. معرضه الدائم كان على أغلفة الكتب .. مرسمه الصغير في المسافرخانة بالحسين احترق عام 1997 ومن وقتها استقر في شقته الصغيرة بميدان الجيش .. يعمل في تصميم روايات مصرية للجيب الموجهة للشباب ويبدي رضاه عن هذا العمل .. رسومه تحفر نفسها بقوة في تعاريج مخ جيل كامل.. لا يتحدث عن أجره فهو يقبل أي مبلغ يكفيه ليحيا .. بينما دور النشر الأخرى جميعًا تتصارع من اجل الاستئثار به .. فلتزأر العاصفة .. فلتزأر العاصفة ..
الآن يتكلم عن اللوحة المعلقة على الجدار .. لقد رسمها يوم 6 يونيو عام 1967 عندما عرف الحقيقة .. إنه ذات الشرخ الذي تجده في نفسية كل مثقفي الستينات ..يسهل أن تعرف ما شعر به في تلك اللحظات القاسية ..
كان في عالم الرسم يعشق التأثيريين .. يعشق جوجان ورينوار وديجا .. لكنه كان يحمل حبًا خاصًا لرمبرانت .. هذا الجو المظلم الذي يخترقه الضوء الذهبي القادم من اليسار .. هذا الزيغ كان يروق له، خاصة عندما عرف أن رمبرانت كان واهن البصر في أيامه الأخيرة .. في الوقت ذاته كانت عدسة عينه تزداد إعتامًا واستطاع ان يرى العالم كما رآه رمبرانت .. وأن يفهمه ..
بالنسبة للمصريين كان يعشق بيكار ومحمود سعيد .. صديق عمره محمد قنديل الذي تزوج ابنه – ابن إسماعيل دياب - ابنته .. زهران سلامة .. اللباد .. جميل شفيق .. رمزي مصطفى ..
اسمه إسماعيل دياب .. وعندما توفي في صمت وسلام في ذلك الأسبوع الصاخب الحزين، كان العالم يتحدث عن وفاة رفيق الحريري وثابت البطل .. لكن الشباب الذي عشق أعماله – الآلاف منهم - أقام له حفل تأبين لا يوصف على شبكة الإنترنت وفي منتدياتها .. طلاب مدارس إعدادية .. طلاب جامعة .. خبراء كمبيوتر .. خبراء علم وراثة .. أطباء .. مهندسون .. معلمون .. محاسبون .. كلهم بكوه بحرقة دون أن يطلب منهم أحد شيئًا، وولد اقتراح بعمل معرض دائم على الإنترنت له، كما اقترح البعض أن تصدر القصص التالية بغلاف أسود لأنهم لا يقبلون أن يروا رسامًا آخر على الأغلفة .. والعالم يتحرك ولا يشعر بكل هذه الشموع الموقدة في ذكراه وسط ظلام شبكة الإنترنت .. ولو شعروا بها لأصابهم الذهول ..
اسمه إسماعيل دياب .. أبي ومعلمي ..وقطرة أخيرة من ذلك الزمن الجميل الذي ضاع .. كان فنك أجمل من حياتك .. وكانت حياتك أجمل من فنك .. فشكرًا على كل شيء.


بيجاسوس 02-07-07 01:57 PM

روش طحن



منذ البداية لا أنكر أنني وقعت في غرام كتيب صغير كتبه الصحفي الشاب ياسر حماية ، ووجدت فيه حلاً لا بأس به لتفسير الكثير من التعبيرات التي استغلقت على فهمي من تعبيرات شباب اليوم. صحيح أنه كتيب مليء بالأخطاء المطبعية، وصحيح أنه يحتاج إلى إعادة تبويب تجعله أقرب إلى القواميس منه إلى الدعابة. لكن هذا لاينسينا حقيقة أن أول من حاول رصد الظاهرة هو واحد من داخلها وليس من الأكاديميين ذوي الياقات العالية خارجها.
ذات مرة كنت جالسًا في القطار أصغي لشاب يكلم صاحبه، فلو كانت المحادثة باللغة السنسكريتية لفهمت أكثر. لا أنكر أن أكثر هذه التعبيرات يمكن فهمه من سياق الكلام وتعبيرات الوجه، لكن بعضها عسير فعلاً.
كل لغة تتطور مع الوقت، وأية مقارنة بين لغة (المنفلوطي) ولغة (صنع الله إبراهيم) تريك الفارق الهائل.. قارن بين لغة (شكسبير) ولغة (جون جريشام) مثلاً.. وحتى القواميس الإنجليزية الرصينة صارت تحوي قدراً لا بأس به من العامية وربما الشتائم. أذكر المعركة الأدبية النارية بين (العقاد) و(ميخائيل نعيمة) حول لفظة (تحمم) التي قال الأول إنه لا وجود لها في اللغة العربية، بينما أصر (ميخائيل نعيمة) على أنها لفظة مفهومة لأي شخص، فلماذا نسمح لشاعر من البادية ـ والكلام لـ (نعيمة) ـ أن يخترع لفظة لا وجود لها، مثلما اخترع (امرؤ القيس) لفظة (تتفل) لأنها تناسب القافية والوزن وأعلن أن معناها (ثعلب) من الآن فصاعداً، بينما نمنع شاعراً آخر من ابتكار لفظة مثل (تحمم) ؟
حتى على مستوى المحادثة، يسهل أن تجد فارقًا شاسعًا بين لغة أفلام الماضي وأفلام اليوم .. لم يعد أحد يحيي الآخر بـ (سعيدة مبارك) أو يصف الجو بأنه (طقس في غاية البداعة).. هذه لغة تناسب الماضي الجميل حينما كان شوقي بك يذهب مع حبيبته إلى النيل ليركبا فلوكة و "تعال من فضلك خدنا"..وكان المراكبي مهذبًا يرد بصوت ملائكي: "دي ستنا وإنت سيدنا" ؛ فلم يطلب سعرًا فلكيًا ولم يخرج مطواة قرن غزال ويغتصب الفتاة أمام شوقي بك.
تتنازعني هنا كراهيتي ـ التي لا حيلة لي فيها ـ لهذه اللغة الجديدة التي يدور 80% منها حول معنى الاستهتار وعدم الاكتراث وأن الأمر لا يستحق. لغة فيها تحد غريب وقدر لا بأس به من الوقاحة، فأنا ما زلت مصراً على أن لفظة (بيئة) هي لفظة (بيئة) فعلاً. وماذا عن لفظ (موزّة) التي تعني (فتاة جميلة) ؟.. هناك قدر من الوقاحة والاستهتار بالأنثى كأنها شيء يؤكل لا أكثر، والغريب أن الفتيات يقبلن هذه اللفظة باعتبارها (مجاملة رقيقة). يتنازعني هذا المقت مع إيماني بأن على جيلي ألا يفرض تحفظاته على الجيل الجديد .. لقد حورب (سيد درويش) عند ظهوره باعتباره (شاباً لا يحترم أساطين الغناء)، وحورب (عبد الحليم حافظ).. واليوم يُحارب المطربون الشباب لأنهم ليسوا (عبد الحليم حافظ).. كان آباؤنا يزغرون لنا حين نستعمل لفظ (سكّة) ـ بفتح السين ـ بمعنى (الشيء التافه)، واليوم لا يفهم الأب ما يقوله أولاده حتى يوبخهم عليه.. هذه هي القصة دائماً إلى يوم الدين. الشباب يبدو غريباً جامحاً بالنسبة للكهول، والكهول يبدون ماموثات متحجرة عاجزة عن التغير بالنسبة للشباب، و(أحمد عدوية) صار تراثاً كلاسياً راقياً بالنسبة إلى (شعبولا).
أعتقد أن النقلة الأولى الكبرى في لغة الشباب المصري كانت في السبعينات مع مسرحية (مدرسة المشاغبين) التي ولدت مصطلحات جديدة، بل وطريقة جديدة تماماً في المزاح. قبلها كان الناس يضحكون من أسماء مثل (السناكحلي) ومن كوميديا الموقف مولييرية الطابع ومن سلاح التكرار الذي تكلم عنه (برجسون) كثيرًا .. التكرار .. التكرار .. وحتى يصفق المشاهدون فتلتهب أكفهم. جاءت (مدرسة المشاغبين) بأسلوب خاص جدًا من الدعابة؛ ولمدة عشرين عامًا ظل طلبة المدارس يكررون دعاباتها التي لا تخلو من وقاحة واستهتار. النقلة الثانية هي في التسعينات...
هنا يتعرض شبابنا لضغط يفوق بمراحل سُنة التغيير التي تكلمنا عنها.. الظروف القاسية التي يواجهونها، وعلامات الاستفهام التي تملأ المستقبل، ولدت فيهم تحدياً قد يتجاوز ما هو مطلوب أو صحي. إن لغتهم قد اتسعت لتحتوي عوالم الميكروباص والكمبيوتر ومترو الأنفاق والإنترنت..
المعلومات كثيرة جدًا .. الوجوه كثيرة جدًا ...لا سبيل لاستيعاب هذا كله إلا بالسطحية والمزيد من السطحية .. كل شيء يجب أن يتم بسرعة وبلا تعمق .. وهذا يظهر بوضوح في اللغة قبل أي شيء آخر.
لقد تنبأ أندي وارهول – الفنان المجنون غريب الأطوار - بأنه في عام 2000 ستكون فرصة كل إنسان للشهرة ربع ساعة لا أكثر ..يمكن أن نقول إن نبوءته تحققت.. ويمكن أن نضيف إلى الشهرة أن كل معلومة .. كل رأي .. كل انفعال .. فرصته في البقاء ليختمر ربع ساعة لا أكثر ..
أتذكر الموقف الطريف الذي حكاه د. (جلال أمين) عندما كان في الولايات المتحدة وضل طريقه بسيارته .. كانت هناك لافتات كثيرة جدًا تدل على كل شيء وهذه اللافتات جعلت الأمور تختلط عليه .. وهنا خطرت له فكرة غريبة: إنه كان بحاجة بالضبط إلى كم أقل من المعلومات كي يتخذ قراره !.. هذه عبارة جريئة جدًا لا يجسر على قولها إلا من هو في وزن (جلال أمين).. بالفعل كم المعلومات المتدفقة على الشاب عبر الفضائيات والإنترنت وآلاف الصحف يجعله في حيرة حقيقية .. لا وقت لتكوين رأي أو استيعاب أي شيء .. في الماضي كان هناك فيلم أجنبي واحد يعرض أسبوعيًا في برنامج نادي السينما، وكنا نرتب يومنا كله من أجل ساعة العرض هذه، ونلتهم عشاءنا أمام الشاشة .. ثم يعرض الفيلم فتستوعب كل حرف منه .. يتسرب إلى كل خلية من خلاياك .. أما اليوم فمن النادر أن تستكمل الفيلم إلى منتصفه قبل أن تقلب القناة بحثًا عن متعة أسهل..
هناك موضة جديدة أطلق عليها اسم (الروشنة الدينية) هي أغان دينية ملحنة بإيقاع عصري.. وترى الفيديو كليب في التلفزيون، فترى مجموعة من الشباب المتأنق أناقة الحراسات الخاصة يقف متخشبًا كأنه يحرس موكب (إبراهيم بيه)، وهو يردد أسماء الله الحسنى .. سرعان ما تدرك أنه لم يتسرب إلى أرواحهم مما يقولون إلا النغمات .. فقط يحركون شفاههم .. هذه أغان تم تصميمها ببراعة لسد حاجة الأفراح وذلك النشاط المصري الوليد: حفلات افتتاح المحلات الجديدة .. في مرة أخرى راقبت شابًا يرقص في ميوعة وانتشاء على أغنية شعبان عبد الرحيم فائقة الشهرة (أنا بأكره إسرائيل)، فساءلت نفسي: هل يعي أية كلمة من الكلمات التي يرقص على لحنها ؟.. هل يفهم ؟.. هل يهمه أن يكره إسرائيل أو يهيم بها حبًا ؟
إنها السطحية في كل شيء ..
إن لغة (الروشنة طحن) تعبر عن هذا كله .. وسوف تجد من يرصدها بشكل أكاديمي يومًا ما، أما في المرحلة الحالية فإنني أشكر ذلك الشاب المتحمس الذي قرر جمعها في كتيب حتى لا تضيع. وذلك تحسبًا لليوم الذي يتكلم فيه أبناؤه فلا يفهم حرفًا مما يقولون. يومها تبدو عبارة مثل (كله في الأمبلايظ) عتيقة لها ذات رنين (طقس في غاية البداعة) في مسامعنا !

بيجاسوس 22-07-07 09:02 AM



451 فهرنهايت : عندما تصير النار هي الحل !



لأسباب واضحة اختار مايكل مور عنوان (فهرنهايت 911) لفيلمه الشهير الذي يهاجم عصابة بوش بضراوة.. لقد استطاع بأنفه الحساس أن يشم رائحة ذلك العالم الشمولي الكابوسي الذي تتحدث عنه الرواية.. حرارة ما جرى في 11 – 9 كانت هي الدرجة المناسبة لحرق ملكة النقد والتعقل لدى الأمريكيين، ولم يخيب الأمريكيون أمله .. لقد شاهدوا الفيلم في حماس .. ثم انتخبوا بوش لفترة ثانية بالحماس ذاته.. !.. إن المواطن الأمريكي يتعامل مع هذه الأمور بمنطق عسير الفهم نوعًا: يبكي لدى مشاهدة فيلم عن فظائع أمريكا في حرب فيتنام ثم يذهب ليتطوع هناك في الأسبوع ذاته .. لم لا ؟.. أليس هو ذات المواطن مستلب الوعي الذي تتحدث عنه رواية برادبوري فائقة الشهرة ؟
رواية راي برادبوري التي كتبها عام 1953 - والتي احتفل العالم منذ عامين بمرور خمسين عامًا على صدورها - صارت معلمًا ليس في أدب الخيال العلمي فقط، ولا في الأدب السياسي فحسب، بل إنها أضافت مفاهيم جديدة إلى اللغة الإنجليزية ذاتها .. ولسوف تجد أن الكلام عن السلطة الشمولية القمعية وغسل وسائل الإعلام لعقل البشر لا يكتمل إلا بذكر (451 فهرنهايت) و(1984) رائعة أورويل و(عالم جديد شجاع) لهكسلي .. وليست مصادفة أن مور قدم مقاطع كاملة من (1984) في فيلمه المذكور ...

***


دركت أن صناعة كاملة للخوف قد ازدهرت في الولايات المتحدة‏,‏ وان الأخ الأكبر الذي تحدث عنه جورج أرويل في رائعته‏451‏ فهرنهايت قد اظهر بعضا من ملامحه‏.‏



د‏.‏ عبدالمنعم سعيد – جريدة الأهرام 24 فبراير 2004

***

طبعًا هذا خطأ.. إن (451 فهرنهايت) قصة برادبوري بينما أورويل صاحب (1984) .. لكن الخلط بين القصتين شائع في أذهان الجميع .. فكلا القصتين جاء من ذات العالم ..
راي برادبوري كاتب الخيال العلمي الأمريكي الملتزم الذي ولد عام 1920 .. والذي اشتهر بمجموعاته القصصية (الرجل المرسوم) و(شيء شرير من هذا الطريق يأتي)، هو كاتب متشائم كأكثر كتاب الخيال العلمي المعاصرين، الذين لم يعودوا في سذاجة هـ. ج. ويلز الذي أيد الحرب العالمية الأولى باعتبارها (الحرب التي ستنهي الحروب جميعًا)، ثم اتضح أن التقدم لا يلغي الحروب بل يأتي بالحروب المتقدمة !.. يجب ألا ننسى أن الإنسان استعمل الطاقة الذرية كقنبلة قبل أن يفكر في أي استخدام سلمي لها .. وبرادبوري يؤمن كآخرين أن سيطرة السلطة الشمولية على أنفاس البشر هي مسألة وقت لا أكثر ..
كثير من الناس لم يقرءوا الرواية لكنهم بالتأكيد شاهدوا الفيلم العميق الذي قدمه فرانسوا تريفو عام 1969 .. وفي كل مرة تدور مناقشات لا تنتهي .. هذا نوع من الأعمال الأدبية التي خلقت لتبقى أبدًا ..
يسهل على من يحلل القصة أن يجد علامات تشابه لا حصر لها مع الواقع الأمريكي (الجمهوري) المعاش اليوم .. كما يسهل عليه أن يدرك أن السيناريو يتحرك طبقًا لخطة واضحة دقيقة .. لكن ماذا عن مصر ؟... نفس الشيء يحدث في مصر، ولكن على الطريقة المصرية الشهيرة .. أي (بالبركة).. لا توجد خطة ما .. لا شيء في مصر يتم وفق خطة من أي نوع .. ولكنه نوع من الغريزة الحيوانية التي علمتنا أن النار هي الطريقة المثلى للخلاص من المشاكل .. وأن من يفكر هو – على الأرجح – عميل أو شيوعي أو ابن كلب بشكل ما ..
إن (مونتاج) – لاحظ الاسم - رجل المطافئ يمارس عمله بحماس .. سوف نعرف أن رجل المطافئ في هذا العصر – وهو مستقبل غير بعيد - مهمته محددة جدًا : أن يحرق .. يحرق الكتب التي تعامل معاملة المخدرات ..ربما يحرق مالكيها كذلك .. ودرجة الحرارة المفضلة للحرق هي 451 فهرنهايت .. إن هذا العصر قد استغنى تمامًا عن الكتب واستبدل بها ثقافة الصور المرئية . كل بيت فيه تلفزيون عملاق لا يغلق تقريبًا .. أربع شاشات على الجدران وثمة طريقة إلكترونية تسمح لمعدي البرامج بأن يخاطبوك بشكل شخصي. إن مونتاج جزء من النظام .. أحيانًا هو النظام ذاته .. إلى أن يُلقى حجر في بركة حياته الراكدة .. هذا الحجر هو فتاة رقيقة ما زالت تحاول أن تعيش بالطريقة القديمة.. تسأل أسئلة .. تتمهل فلا يأخذها تيار الحياة المندفع .. إنها تقول له: "الصبية في عمري يتسلون بقتل بعضهم .. لقد أطلقت الشرطة الرصاص على ستة منهم العام الماضي .. ومات عشرة منهم في حوادث سيارات.."

***

" وصور إيذاء المؤمنين بالسيارة كثيرة: نذكر منها ما يلي
: 1- التفحيط والتطعيس، وهما عبث بالأرواح والأموال وقد مرّ حكمهما -- المزاح بالسيارة حيث يقوم بعض الشباب بالمزاح مع من هو خارج السيارة، فيتوجه بالسيارة إليه، ويزيد من السرعة كأنه يريد أن يدهسه، فلما يصل قريبا منه يضغط على الفرامل! ومثل هذا المزاح لا يجوز؛ لما فيه من ترويع المسلم وتخويفه. "


موقع كلمات - 12 ربيع الأول 1426 هـ

***

مونتاج) يعيش مع زوجته التي تنتمي لهذا العالم أكثر من اللازم .. زوجته التي لا تكف عن متابعة إعلانات التلفزيون وتنتحر كل ليلة، ثم تصحو في الصباح وقد نسيت ذلك!.. في الفيلم قامت الممثلة جولي كريستي بالدورين معًا كجزء من الرمز الصعب. ثم تأتي الطامة الكبرى من عجوز صممت ألا يحرقوا كتبها .. بل فضلت أن تحترق معها .. "كل هؤلاء المخابيل يفضلون الموت مع كتبهم .. هذا نمط سلوكي معتاد"
هذه هي الهزة التي تدفع (مونتاج) دفعًا إلى أن يسرق كتابًا أو كتابين ليعرف سر هذه الأشياء الممنوعة التي يفضل الناس أن يحترقوا معها .. وتدريجيًا يندمج في هذا العالم السحري، ويحاول أن يتفادى شكوك رئيسه الذي يقول له: "في الماضي كانت الحياة هادئة تسمح بالاختلاف .. ثم في القرن العشرين تسارعت الحركة .. صارت الكتب أقصر ثم اقتطعت لتكون مجرد تعليق في كتاب مختارات .. أدر عقل الإنسان في آلة الطرد المركزي لتتخلص من كل الأفكار غير المجدية المضيعة للوقت .. انشر المزيد من الرسوم الهزلية في الكتب .. أعط الناس صورًا أكثر .. الرياضات الجماعية ممتعة وتغري بعدم التفكير.."

***



" مباراة الترسانة مع إنبي انتهت بفوز الترسانة بهدف وترددت الشائعات بأن إنبي ترك المباراة للشواكيش مقابل انتقال عمرو سماكة لاعب الترسانة لإنبي في الموسم المقبل"


محمد رضا - جريدة الأهالي 13 إبريل 2005

***

يواصل رئيسه في المطافئ غسل مخه: "كلمة مثقف صارت سبة كما يجب لها أن تكون ..تذكر كيف كنت في طفولتك تكره الصبي الذكي في الصف، وتختصه بالضرب والتعذيب بعد الدراسة .. إنه خوفنا المبرر من أن نكون أقل من الآخرين .. خذ صراعاتك إلى المحرقة يا (مونتاج).. النار تحل كل شيء .. النار نقية طاهرة ..ولأسباب كهذه قمنا بتخفيض سن دخول الحضانة عامًا بعد عام .. حتى أننا اليوم ننتزعهم تقريبًا من المهد إلى الحضانة . أعط الناس مسابقات يربحون فيها إذا ما تذكروا أسماء الأغاني الشهيرة أو أسماء عواصم الولايات .. أو كم من القمح أنتجته ولاية (أيوا) العام الماضي !.. أحشهم بالحقائق سريعة الاحتراق حتى يشعروا بأنهم أذكياء .. !

***


" وسقط من الشباب من سقط جرحي خلال تدافع الحلوين لاستقبال البطل العائد وتهشمت بعض السيارات خلال نفس الاستقبال‏!‏ ولكن معلهش كلها خسائر لاتذكر مقابل الانتصار العظيم الذي تحقق بفضل البطل المغوار محمد عطية‏!!‏ وكله علشان مصر‏!!‏ ‏ وبالفعل استطاع الشباب ان يفرض التغيير ولكن فقط في هذه المجالات‏!!‏ وبنفس فلوس ماما وبابا انهالت ملايين المكالمات التليفونية علي القناة الفضائية "



لبيب السباعي - جريدة الأهرام 26 إبريل 2004

***

يقول مدير المطافئ: "التلفزيون يغرقك في بحر من الأصوات والألوان بحيث لا تجد الوقت لتفكر أو لتنتقد .. إنه يقدم لك الأفكار جاهزة .."

***


"مدينة الكويت، الكويت ( CNN) -- أحيا نجوم "ستار أكاديمي" حفلتهم على مسرح أرض المعارض في الكويت، الخميس وسط مشاعر الفرح والطرب التي تجلت داخل القاعة، وغضب وامتعاض المتظاهرين من الإسلاميين الرافضين فكرة الحفل أساسا. فبعد ساعات من انتهاء الحفل، أعلن النائب الإسلامي، وليد الطبطبائي، أنه سيقدم طلب استجواب برلماني في حق وزير الإعلام الكويتي محمد أبو الحسن، الذي أصدر قرار الموافقة على إقامة الحفل."



موقع منوعات - 8 مايو 2004

***

يقول مدير المطافئ: "دعني أؤكد لك أن الكتب لا تقول شيئًا .. لو كانت قصصًا فهي تتكلم عن أناس لا وجود لهم .. لو لم تكن قصصًا فالأمر أسوأ.. أستاذ يعتبر الآخر أبله، وفيلسوف يحاول خنق فيلسوف آخر .. كلهم يكافحون محاولين محو النجوم وإطفاء الشمس .. فقط النار تستطيع أن تطهر كل هذا"

***

"كما أكد د. مجد حيدر صاحب دار ورد السورية، والمشاركة فى المعرض من خلال جناح مؤسسة روزاليوسف أنه تم مصادرة خمسة عناوين من مطبوعاته: هى رواية إحدى عشرة دقيقة للروائى البرازيلى باولو كويليو. وروايتا الوميض والوعول للأديب السورى حيدر حيدر، وروايتا ليلة الغلطة والحب الأول الحب الأخير المترجمتان عن الفرنسية للأديب المغربى الطاهر بن جلون. أما نبيل نوفل مدير دار الآداب اللبنانية فأكد مصادرة عناوين من إصدارات الدار هى رواية مسك الغزال للروائية اللبنانية حنان الشيخ، وهى رواية صادرة من أكثر من ربع قرن وروايتا خفة الكائن التى لا تحتمل والحياة هى فى مكان آخر للأديب التشيكى ميلان كونديرا المقيم فى باريس، والمرشح لنيل جائزة نوبل للآداب، ورواية مريم الحكايا للكاتبة اللبنانية علوية صبح. هذا بالإضافة لعدد آخر من الكتب التى صودرت من عدة دور نشر أخرى منها كتاب الدنيا أجمل من الجنة الصادر عن دار النهار اللبنانية للكاتب المصرى خالد البرى. وديوان أدونيس أول حب أول جسد الصادر عن دار الساقى. كما منعت مؤلفات دكتور نصر حامد أبو زيد من العرض فى دار الطليعة. "


جريدة العربي الناصري 6 فبراير 2005


***

.. سرعان ما يصير (مونتاج) رمز النظام عدوًا له .. مطاردًا .. يضطر لحرق زملائه .. ثم يفر .. يعبر النهر لتزول رائحته عن كلاب الشرطة، وعلى شاشة التلفزيون يرى عملية إعدام كاملة لرجل آخر يفترض أنه هو (مونتاج).. لقد بحثت السلطات عن أي رجل يمشي وحده في الشارع .. ربما هو مؤرق أو غريب الأطوار .. كانوا بحاجة إلى أحمق يمشي في الشارع لينقذوا ماء وجوههم وهاهو ذا .. لقد تم إعدامه أمام العدسات من دون أن يظهر وجهه لحظة واحدة ..


***
.......................... !!!!!!!!

***

يندمج مونتاج مع الثوار الذين اعتزلوا المدنية .. يعيشون وحدهم بعيدًا عن العالم وقد جعلوا مهمتهم هي الحفاظ على تراث البشرية الأدبي والعلمي .. كل واحد منهم حفظ كتابًا بعينه حتى صار هو الكتاب ذاته .. رجل هو التوراه .. رجل هو هاملت .. رجل هو رحلة الحاج .. هذه أجمل مشاهد الرواية وهي التي يتذكرها الناس كلما تحدثوا عنها .. تنتهي الرواية وقد نشبت الحرب النووية وأبيدت عاصمتهم فلم يبق من أمل لدى البشر الباقين إلا أن يحاولوا استعادة ما اختزنوه في صدورهم من تراث ..
انتهت الرواية الرائعة التي هي أقرب إلى نبوءة تحققت فعلاً .. تحققت عندهم بسبب الشهوة إلى السيطرة على العقول .. وتحققت عندنا بسبب ذلك الخوف الحيواني الغريزي من التفكير .. ذات الخوف الذي جعل الخديوي عباس الأول يعيد البعثات العلمية إلى مصر - وكان علي مبارك ضمن أفرادها - لأن (الأمة الجاهلة أسهل في حكمها من الأمة المتعلمة).. وهي غريزة يبدو أننا لن نتخلى عنها بسهولة ..



بيجاسوس 22-07-07 09:07 AM

عن أدب الرعب في بلد مرعوب



ليرحمه الله لأنه قد توفاه قطعًا .. عم (أبو اليزيد) البواب النوبي العجوز طيب القلب، وغرفته الضيقة العامرة بالبراغيث تحت سلم حضانة (حماية الأسرة) بطنطا، وغذاؤه الذي لا يتغير .. رغيف الخبز الأسمر والباذنجان الأسود المخلل الذي كنت أشعر دومًا بأنه جزء من بشرته هو نفسه .. أذكر بجلاء كيف أنقذ عم (أبو اليزيد) حياتي وحياة خمسة من زملاء الحضانة عندما أخفانا في غرفته في ذلك اليوم من صيف 1967 عندما جن جنون (عبد الناصر) فأرسل رجاله يسحبون الدم من بطون الأطفال. يومها جرنا عم (أبو اليزيد) إلى غرفته ونظر حوله بحذر ثم قال لنا هامسًا بلهجته النوبية الساحرة وبياض عينيه الأصفر يلتمع:

ـ"إنتي تقعدي ساكتة لاهسن عبد الناصر ياخد دم من بطنك"

وهكذا جلسنا صامتين في غرفته ونحن نتخيل ما يحدث للتعساء الذين يصرخون في الخارج، بينما رجال عبد الناصر يقيدونهم ويدسون الخراطيم ماصة الدماء في أحشائهم.. وأكلنا الكثير من الباذنجان الأسود على سبيل تزجية الوقت، وبعد ساعة رأيت أمي تركض إلى الحضانة .. لم أرها قط بهذا المنظر المبعثر المذعور المنهك .. نقدت الرجل الطيب بعض المال ثم أخذتني وراحت تجتاز الشوارع الخلفية حتى لا تقابل مصاصي الدماء الحكوميين. وفي الطريق إلى الدار رأيت النسوة يركضن في كل صوب صارخات وعلى وجوههن ذات التعبير الذي رأيته على وجه أمي.. شرحت لي أمي كيف أن هناك أزمة في الدماء بعد هزيمة جيشنا في سيناء، وكيف أن عبد الناصر أصدر أوامره لرجاله أن يمروا على المدارس ليسحبوا الدماء من بطون الأطفال..

فيما بعد عرفت أننا كنا في ذروة انعدام الوزن بعد ما فقدنا ثقتنا في النسر الأسطوري الجميل الذي جاء من أعماق التاريخ ليهزم الاستعمار ويوحد العرب ... وكنا على استعداد لتصديق أي شيء مهما كان سخيفًا .. إن هذه الإشاعة لا تصمد لأي تحليل متأن .. فليس الأطفال بالمصدر الأفضل للدماء، ولو كان هذا صحيحًا فالدماء لا تؤخذ من البطون .. لكنها إشاعة صممت ببراعة لتجمع بين البشاعة (دم يؤخذ من البطن) وإلهاب المشاعر (لا أحد يطيق إيذاء الأطفال)... إشاعة صممت كي تحدث هياجًا شعبيًا تصعب السيطرة عليه..

كان هذا أول عهدي بالإشاعات .. وفيما بعد قرأت كتاب صلاح نصر عن الحرب النفسية وسيكولوجية الإشاعة، فوجدت أن هذه الإشاعة من أبرع ما تم تصميمه لبلد يهوى تصديق كل شيء ..

كتاب صلاح نصر ذاته كان مصدر رعب لا يوصف لنا لأن السلطة غضبت على الرجل، وصار من يقتني كتابه عميلاً أو – على أقل تقدير – وغدًا .. أبي لم يرد التخلص من هذا الكتاب الثمين لهذا أخفاه تحت الفراش .. وعشنا أعوامًا نتوقع أن يقتحم رجال المباحث البيت ليخرجوا الكتاب من مكانه، ثم يوقفونا صفًا إلى الحائط ويفرغوا فينا الرصاص ..

أعتقد أنك قد فهمت الآن موضوع المقال باختصار شديد .. طالما سألوني عن مستقبل أدب الرعب في مصر، فكنت أقول بثقة: لا مستقبل له .. ليس الآن .. نحتاج إلى مائة عام على الأقل ودرجة معينة من الترف الفكري والاجتماعي والحضاري حتى نقرر أن نرعب أنفسنا بأنفسنا .. ليس هذا كلامي بل كلام عميد كتاب الرعب في القرن العشرين هـ .ب. لافكرافت .. يقول الرجل في مقال شهير جدًا كتبه عام 1926 ويحمل اسم (الرعب الخوارقي في الأدب): "يحتاج تذوق أدب الرعب إلى قدرة تخيلية عالية عند القارئ .. بالإضافة إلى قدرته على التجرد مما يحيط به من مؤثرات". كانت أمريكا مشغولة ببناء نفسها عندما كتب لافكرافت، لهذا عاش الرجل حياة ضنكًا ومات فقيرًا. نفس الشيء ينطبق على إدجار آلان بو مواطنه الذي كان يغري القط بالنوم على قدمي زوجته المريضة لتدفئتها.. إن محاولة قراءة لافكرافت وقت الظهيرة وسط زحام المواصلات تجعلك تعتقد أن هذا الرجل مخبول أو (رايق) لدرجة تثير الغيظ ..

أذكر أن فيلم (حرب الكواكب) – حروب النجم إذا شئت الدقة - لم ينجح في مصر .. وقتها كتب الناقد الراحل الرائع سامي السلاموني: الفيلم يدأ بعبارة تقول (حدث ذات مرة في زمن بعيد في مجرة بعيدة .. بعيدة).. هكذا فقد الفيلم أية أرضية له لدى المشاهد المصري الذي لا يستطيع السير في شارع سليمان دون ان ينكسر عنقه .. فكيف يبالي بما يحدث في مجرة بعيدة في زمن بعيد ؟!!

الناس تعشق أدب الرعب لتتطهر من مخاوفها الخاصة .. أن تعيش أفظع التجارب بشكل مقنن لتزداد ثقة في قدرتها على البقاء .. باختصار أدب الرعب هو بروفة موت دائمة...

لماذا يبحث المرء عن بروفة موت وهمية إذا كان فعلاً في بروفة موت واقعية دائمة ؟.. ماذا عن محاولة عبور الشارع وسط الميكروباصات المجنونة بسائقيها (المسجلين خطر) التي تحاول أن تدهم أكبر عدد من المارة ؟.. ماذا عن الوثب من الأتوبيس ؟.. ولو كنت تملك سيارة فماذا عن لجنة المرور ومحاولتك ألا تنظر أكثر من اللازم إلى الباشا كي لا يأمرك: إركن .. ماذا عن شهادة المخالفات لو وجدت أن عليك ثلاثة آلاف جنيهات بسبب استعمال آلة التنبيه ؟.. هل يمكن القيادة في مصر من دون آلة تنبيه ؟.. كيف سمعوا آلة تنبهك أنت بالذات وسط هذه الضوضاء ؟

ماذا عن فاتورة الكهرباء القادمة؟.. وماذا عن فاتورة الهاتف القادمة ؟.. ماذا تفعله لو وجدت أنهم يطالبونك بخمسين ألفًا من الجنيهات لاستخدامك خدمة زيرو تسعمائة أو مكالمات موبايل لم تجرها ؟.. هل تتركهم (يشيلوا العدة ) ؟.. وماذا عن إخطار جلسة المحكمة الذي لم تتسلمه وقد يؤدي بك لدخول السجن دون أن تعرف السبب ؟

ثم ماذا عن أساسات العمارة التي دفعت دم قلبك للحصول على شقة فيها ؟.. هل كان المقاول نصابًا ؟... هل تتحمل الزلزال القادم ؟.. هل تسقط فجأة من دون زلزال لتجد نفسك في الشارع تتسول أو تجد نفسك تحت الأنقاض وتطلع في نشرة التاسعة ؟

وماذا عن مدخراتك لو كنت تملك شيئًا ؟... ما هو القرار الجديد لمجموعة الاقتصاديين الهواة الذين يجتمعون كل صباح باحثين عن وسيلة جديدة لخراب بيتك ؟... لقد صار كل جنيه في جيبك أربعين قرشًا خلال عامين فهل تتحول الأربعون قرشًا إلى نكلة ؟ ... ماذا عن راتبك ؟.. هل ستظل تتقاضاه أم يقول لك عم جابر الصراف: (اتكل على الله) يومًا ما ...؟.. واللحم ؟... كيف يمكن أن تشتري اللحم يوم يصير ثمنه ستين جنيهًا ؟ وهذا سيحدث بإذن واحد أحد لأنه ما من أحد يبالي بمصائبك سواك ...

ماذا عن كوب الماء الذي تشربه والهواء الملوث الذي تتنفسه ؟.. ماذا عن الفراخ المحشوة بالهرمونات ؟.. هل لعبة الجينات تدور الآن في كبدك لتتكون تلك الخلية المحندقة الشقية التي تصر على ألا تموت ؟... هكذا يولد السرطان ببطء لكن بثقة ... كل معارفك وجدوا ذلك الورم في اكبادهم ويبدو أن من لا يجد سرطانًا في كبده اليوم إنسان محظوظ فعلاً..

وماذا عن الكتابة مع المشاغب إبراهيم عيسى في مكان واحد ؟.. كنت دائمًا أنبهر بشجاعة هذا الرجل لكني أجد فيه كذلك تضخمًا لغريزة الفناء الفرويدية... تشعر طول الوقت بأنه يتوق إلى أن يتم تدميره وأن يعود لحالة ذرة الكربون المسالمة .. في كتاب (عمائم وخناجر) وصل الأمر إلى أنه وصف مكانه بدقة في بناية روز اليوسف كي يسهل الأمر على من يريد ذبحه.. طيب هو دماغه كده .. لكن ما ذنبك أنت ؟

ماذا عن زوار الفجر ؟.. وماذا عن صوت البوكس لو وقف تحت شرفتك في الرابعة صباحًا وجاء (عادل بيه) يقول لزوجتك إنهم يريدونك لمدة نصف ساعة لا أكثر .. "مجرد إجراءات روتينية".. ثم تذهب فلا يعرف لك الذباب الأزرق طريقًا ؟.. ترى هل تتحمل التعليق على عروسة والنفخ ؟... يمكنك أن ترحم نفسك وتعترف ولكن بأي شيء بالضبط ؟

ماذا عن ابنتك العائدة من الكلية وقد بدأ الظلام يحل ؟.. ماذا عن ابنك وتلك الشلة المريبة تحيط به ؟.. كم من الوقت يلزم قبل أن يقدم له أحدهم أول جرعة من البرشام ؟... وامتحان الثانوية العامة .. هل هو من المنهج أم خارجه ؟.. الامتحان من المنهج يبشر بتحويله إلى حمار، والامتحان خارج المنهج يهدد بألا يجد كلية تقبله إلا (معهد الدراسات المحلية التناظرية التعاونية) . وماذا عن جلوسه في البيت بلا عمل بعد التخرج ؟... ينظر لك بعينين متهمتين يطالبك بعمل شيء ... مش خلفتونا ؟... يبقى تتصرفوا ...

ماذا عن أزمة المياه واتفاقيات حوض النيل ؟.. ماذا عن قناة سويس إسرائيل البديلة ؟.. ماذا عن ثقب الأوزون والتسخين الحراري ؟...

الحقيقة أن الناس في مصر محظوظون .. فهم ليسوا بحاجة إلى قراءة أدب الرعب لممارسة بروفة الموت .. إن الرعب ضيف دائم معهم خاصة أسوأ أنواعه: الخوف من الغد .. وكلما أمعنت النظر في المسألة ازداد اقتناعي بأن ستيفن كنج واحد فاضي .. وأن لافكرافت راجل (موش تمام). ليرحم الله الجميع.




بيجاسوس 22-07-07 09:09 AM

المدونات والدستور ومرض (توريت) ..!



في العام 1884 وصف الطبيب الفرنسي (جيل دولا توريت) تسعة من المرضى يعانون مرضًا وراثيًا غريبًا يتكون من لازمة قهرية من التقلصات العضلية والسباب البذيء جدًا .. وقد وصف هذا المرض لدى الماركيزة (دي دامبريير) العجوز الوقور التي كانت تأتي بحركات غريبة بعضها قبيح جدًا، مع كثير من السباب، وقد بدأ المرض عندها منذ سن السابعة .. هذا هو مرض (توريت Tourette) الذي يعرفه الأطباء النفسيون جيدًا، والذي يعتقدون أنه منتشر اليوم أكثر مما نحسب..

هناك شواهد تاريخية سابقة على وصف المرض ومنها رجل من النبلاء الفرنسيين – نسيت اسمه – كانوا يقيدون يديه خلف ظهره كي لا يقوم بحركات بذيئة بإصبعه في حضرة لويس الرابع عشر !

إن السباب البذيء في كل مناسبة هو عرض مرضي يعرف باسم (كوبرولاليا)، ويمتاز بأنه يخرج من المريض تلقائيًا حتى لو لم يثر أعصابه أحد .. نفس الشيء ينطبق على الحركات القذرة باليد أو لمس العضو التناسلي باستمرار (كوبروبراكسيا) .. وهناك النوع الثالث (كوبروجرافيا) وهو الولع بكتابة البذاءات خاصة على الجدران (أدخل أية دورة مياه عمومية واقرأ ما كتب خلف الباب لتعرف أن المرض منتشر) .. هناك كذلك الولع بعرض الجسد العاري أمام أفراد الجنس الآخر لإثارة اشمئزازهم ..

ترى هل مرض (توريت) نادر حقًا كما اعتقد الخواجة الذي اكتشفه ؟

كنت جالسًا على ذلك المقهى جوار مجموعة من الشباب، وكان صوتهم عاليًا جدًا إلى درجة أنك لا تستطيع إلا أن تعتبر نفسك ضمن شلتهم.. لاحظت أولاً أن صوتهم نفسه تغير وأنهم يتكلمون بذلك الصوت الحلقي العالي وطريقة (التطجين) التي اعتدنا أن ننسبها للبلطجية وأصحاب السوابق (برغم أنهم ميسورو الحال كما هو واضح).. ثانيًا لاحظت أنهم لا يتكلمون إلا في ثلاثة مواضيع: السيارات .. الفتيات (المُزَز).. الموبايلات .. ويستحيل أن تجد موضوعًا آخر يخرج عن هذه الدائرة .. ثالثًا: كانت نسبة البذاءة في كلامهم مذهلة .. لا توجد جملة واحدة تخلو من اتهام أم الآخر بالعهر، أو ذلك الصوت السكندري الدال على الاحتجاج ، لكنهم كانوا بصراحة معتدلين في سب الدين؛ فلم يكونوا يسبونه إلا كل ثلاث جمل .. تأمل معي هذا الحوار العميق:

ـ"البلو توث ده ابن (.......).."
ـ"(لفظة من ثلاثة حروف تدل على الاستنكار) .. حاجيب لك واحد زيه بكره.."
ـ"(صوت سكندري حلقي يدل على الاحتجاج) .. (لفظة من ثلاثة حروف تدل على الاستنكار) .. ده انت ابن (......) .. بتاع بق بس .."
ـ"يا (...) أمك .. أنا عمري حلقت لك قبل كده ؟"
ـ"لما قلت إنك حتعلق البت فيفي يا بن (....) الكلب .. "
ـ"(صوت سكندري حلقي يدل على الاحتجاج)"
ـ"(لفظة من ثلاثة حروف تدل على الاستنكار) .."

ترى هل مرض (توريت) نادر حقًا كما اعتقد الخواجة الذي اكتشفه ؟

***

بحكم السن اكتشفت عالم مدونات الإنترنت blogs منذ فترة قريبة جدًا، ووجدت أن كثيرين من أصحاب المدونات بارعون حقًا وجديرون بأن يكون لهم عمودهم اليومي في الصحف بدلاً من الأقلام الحالية التي تعذبنا، لكني لاحظت كذلك مدى تفاقم ظاهرة (الكوبروجرافيا) .. يثير رعبي مدى ما يمكن أن ينحدر إليه المرء من بذاءة عندما يدرك أنه بعيد عن العيون فعلاً .. وأنه ما من أحد يراه سوى الله !.. نعم .. لا توجد مبالغة هنا .. معظم الناس لا يكفون عن الكلام عن الدين، لكنهم عندما يخلون إلى شياطينهم يتحولون إلى ما هو أسوأ .. والحقيقة المخيفة التي أدركتها هي أن كثيرين من الناس لا يعتقدون أنهم مرتدون إلى الله ولا أنهم سيخضعون للحساب.. يقولونها بألسنتهم لا قلوبهم .. فلو كان لديهم أدنى شك لكانوا أكثر حذرًا في كلامهم .. وإلا فكيف يفسر المرء أمام نفسه كل هذا القدر من البذاءة وقذف المحصنات والكذب ؟... وكما يقول أبو نواس:

ألم ترني أبحت اللهو نفسي .. وديني واعتكفت على المعاصي ؟

كأني لا أعود إلى معاد .. ولا ألقى هنالك من قصاص

كان هناك مقال نشر على الإنترنت للكاتب الشاب الموهوب (محمد فتحي) – وهو عضو هيئة تدريس في كلية الإعلام بالمناسبة - عن فيلم (عمارة يعقوبيان)، وفكرة المقال تتلخص في أن تيمة الشذوذ الجنسي في الفيلم أثارت حفيظة أعضاء مجلس الشعب، بينما هم لم يبالوا بالمشاهد ذات الإيحاء الجنسي الصريح .. وهذا أثار دهشة الكاتب .. بس خلاص .. أختلف مع الفكرة ولم يرق لي المقال كثيرًا، لكن الأمر ينتهي عند هذا الحد، والموضوع يحتمل الخلاف والجدل بشكل متحضر: أنا لا أرى رأيك ومبرراتي كيت وكيت ..

فوجئت بالردود التي تحمل أسماء مستعارة تتهم الكاتب الشاب بقائمة التهم المعدة مسبقًا لمن نختلف معه في وجهة النظر (العمالة – الإلحاد – الشذوذ) قد يختلف الترتيب لكنها ثلاثية إجبارية مع الذكور، بينما مع الفتيات تتحول المنظومة إلى (العهر – العهر – العهر).. هكذا انهالت الشتائم على الكاتب بعنف لا يمكن وصفه إلا بشهوة (الكوبروجرافيا) حتى تحولت الصفحة إلى مستنقع ...

أحد الأذكياء أرسل يقول: " الكلام بيبان من عنوانه ، وانا فهمتك من عنوانك ياتوحة".. الكثيرون اتهموه بالعلمانية وأنه عميل للمباحث .. المعتدلون اتهموه بأنه مراهق .. أحدهم قال له :" زكر فإن الزكرى " كاتبًا الآية القرآنية بهجاء خطأ .. إلى درجة دخول "لا للتوريث" في الموضوع والدعوة إلى الجهاد و.. هناك آلاف الشتائم التي لن تطيق سماعها منطوقة فما بالك بها مكتوبة ؟.. دعك من الأخطاء الهجائية التي تجعلك تتساءل: اتعلموا فين دول ؟.... هناك داء جديد هو داء (ذالك) و(لاكن) و(فتايات ) وداء نصب خبر (إن) "أعتقد أن الفيلم وقحًا" ..

انفجار شرس من الأخوة المرضى المبتلين بالـ (كوبروجرافيا) .. حتى تراجع المحترمون العقلانيون من فرط التعب والقرف.. هؤلاء يوصلونك للحظة تسكت فيها من الاشمئزاز فيحسبون أنهم انتصروا وأفحموك.. وهي نفس براعة وقوة منطق العربجي الذي يشتمك بالأم وهو على ظهر عربته الكارو فتصمت، ومن ذا الذي يضيع وقته وكرامته في الجدال مع عربجي ؟ .. النتيجة هي أن الكاتب انسحب من الموقع ...

***
لا أعرف الكثير مما يحدث في كواليس جريدة الدستور، برغم أنني نشرت فيها مرارًا، وأعتقد أن علاقتي جيدة جدًا بكل صحفييها .. لا أوافق رئيس تحريرها اللامع إبراهيم عيسى في نقاط عدة، وأرى أن الجريدة تجنح لاندفاع الشباب أحيانًا كثيرة.. والواقع أن هذا ما أراده إبراهيم عيسى بالضبط : أن تصدر صحافة جامحة من محررين في العشرينات من العمر ولهم .. لكن هذا لا يناقض رأيي الذي أقوله في كل مكان تقريبًا أن عيسى أهم ظاهرة صحفية عرفتها مصر في التسعينات، وأنه ذكي جدًا ، وأنه من أشرف الصحفيين، ولسانه الزلق الجامح يقوده إلى المهالك بإصرار غريب .. ولئن كانت أموره المالية قد تحسنت فهذا يعود لمزيج من توفيق الله وموهبته، فلا دخل لصفقات غامضة في هذا .. وقد كتبت عنه منذ عام في موضع آخر: "هناك موضة شجاعة عارمة في كل الصحف والمجلات .. الكل صار معارضًا جريئًا من دون سوابق تبشر بهذا .. ترى شبابًا في الثامنة عشرة من عمرهم يكتبون مهاجمين النظام بكل وضوح وبالأسماء، موضة شجاعة عارمة أرحب بها طبعًا بشرط أن تستمر وأن يكونوا مستعدين فعلاً لتحمل التبعات.. أما أنا فمنذ ست سنوات أو سبع كنت اقرأ مقالات (إبراهيم عيسى) و(علاء الأسواني) و(عبد الحليم قنديل) وسواهم من الشرفاء الذين فتحوا صدورهم للحراب عندما كان الجميع صامتين، وكنت أقول لنفسي: رباه !.. هؤلاء قوم بلغوا من الشجاعة مبلغًا .. "

هذا كله مفهوم إلى أن قرأت مدونات الإنترنت التي تتحدث عما يحدث في كواليس الدستور، وبالتحديد ما تلا انسحاب الفنان (عمرو سليم) و(خالد البلشي) و(عبير العسكري).. مستحيل أن يكون هذا الذي أقرؤه حقيقيًا .. إنه لكابوس !.. تشكيك في ذمة عيسى المالية وشرفه واتهامه بالعمالة للأمن، مع عدد لا بأس به من الشتائم التي لا يمكن التلميح لها .. المعركة تشتعل أكثر .. هناك من يرد باسم (عيسى) ومن يرد باسم (عبير العسكري) مناضلة الدستور النبيلة التي ضُربت في كل المظاهرات تقريبًا، وهناك قذف للمحصنات واتهام لصحفيات بما لا يمكن ذكره، ونشر للغسيل القذر من صحفيين شباب موتورين لم يحققوا شيئًا في هذه الجريدة أو شعروا بغبن حقوقهم (لابد أن تكون من الدستور لكي تعرف أن خالد كساب يستعمل لفظة قشطات كلازمة في كل كلامه).. والمدونات تزداد طولاً حتى صارت تملأ كتابًا كاملاً، وفي النهاية تشعر بأنك لا تقرأ جدلاً وإنما هي ذئاب مسعورة تتصارع .. الصديد المكبوت في النفوس يخرج حينما لا يوجد رقيب، ميل للعنف لا يمكن وصفه .. ها هو ذا مرض (توريت) يفصح عن نفسه ..

الأمر لا يحتاج لصحفي كي يحلل الأمر .. الأمر يحتاج إلى عالم نفسي يفسر لنا سر كل هذا العنف .. هل هو انعكاس للعنف العارم في المجتمع ؟.. الأمر يحتاج لعالم دين يخبرنا لماذا يقذف الناس بعضهم البعض ويتهمون زميلاتهم في العمل في شرفهن بهذه البساطة، لمجرد أنه لا أحد يراهم إلا الله ؟.. لماذا تدهورت فكرة الحساب والعقاب في النفوس لهذا الحد ؟

بعض التفسيرات تقول إن أغلب هذه الردود من رجال أمن يهمهم تشويه الجريدة وسمعتها .. إن الدستور جريدة جامحة فتحت النار على الجميع تقريبًا، ولها أعداء كثر يهمهم أن يمزقوا ثيابها على الملأ .. بالنسبة لي أرى أن هذا التفسير يفترض أن الشباب جميعًا بخير .. إذن من أين جاء الشباب الذين قابلتهم على المقهى، والذين لا يكفون عن إطلاق الأصوات السكندرية الحلقية ؟.. على كل حال أتمنى أن يكون هذا التفسير الأمني صحيحًا فهو يريحني بشكل خاص، ويخبرني أننا لسنا بهذا الغباء .. أن ندمر كل شيء جميل بنيناه معًا، وذلك الاستعداد الكامن في الجينات العربية للحرب الأهلية حتى على مستوى جريدة ..

ما زلت مصرًا على أن الدستور في إصدارها الأول كانت أفضل وأمتع، لكن هذا لا دخل له برأيي النهائي .. الدستور عمل جماعي رائع وإبراهيم عيسى قيمة صحفية يمكن أن نختلف معها بشدة لكننا نحترمها بشدة أكبر .. فلتمارسوا (الكوبروجرافيا) في مكان آخر من فضلكم ، أو لتطلبوا العلاج لدى أقرب طبيب أمراض نفسية .. قولوا له إن اسم مرضكم هو (متلازمة توريت).. وهو سيتصرف والشفاء قريب بإذن الله !





بيجاسوس 22-07-07 09:11 AM

عن شعبولا ومراد بك والجمالية وأشياء أخرى !



كنت وزوجتي نشاهد (شعبان عبد الرحيم) في حلقة من برنامج (من يربح المليون).. وكان المذيع يسأله أسئلة تافهة لكن المطرب الشعبي لا يجيب عن شيء منها، وهكذا بدأ المذيع يلمح له بالأجوبة ويسمح له بالربح .. كل هذا مع ضحكات المشاهدين واسطوانات (شعبان) المعروفة عن ثيابه التي يشتريها من وكالة البلح ورغبته في العودة إلى المكوة لأن الطرب لم يعد كما كان ..الخ .. في النهاية استطاع أن يحصل على مائة وخمسين ألفًا من الجنيهات في بضع دقائق.. قالت زوجتي إن هذا الرجل محدود الذكاء بشكل غير مسبوق، لكن رأيي كان مختلفًا .. لقد خدع المشاهدين والمذيع الوسيم وسخر منهم بمنتهى الخبث ..نحن خرجنا بإحساس زائف بالتفوق والذكاء وهو خرج بمائة وخمسين ألفًا فمن الأذكى ؟..ومن الغبي الحقيقي هنا ؟

الأمر كله يذكرني بقصة المتسول الذي كان السياح يعرضون عليه أن يختار بين عشرة دولارات وربع جنيه، فكان يختار الربع في كل مرة .. إلى أن لامه أحدهم على غبائه الشديد .. كيف تختار يا أبله ربع جنيه وتترك عشرة دولارات ؟.. كانت إجابة المتسول المفحمة هي: لو اخترت عشرة الدولارات لكف السياح عن المجيء لرؤية بلاهتي، ولقطعت مصدر رزقي !

ثمة قصة مماثلة عن التجار المصريين أيام الحملة الفرنسية، وكيف كانوا يرفضون العملات الذهبية لكنهم يقبلون أزرار الجنود الفرنسيين النحاسية ثمنًا لما يبيعونه لهم .. وقد تسلى الفرنسيون بهؤلاء الحمقى كثيرًا.. ثم اتضح فيما بعد أن المصريين لم يريدوا الاحتفاظ بعملات ذهبية فرنسية لأن الفرنسيين سيرحلون حتمًا، ولسوف تعود جيوش مراد بك لتعدم من تجد معه هذه العملات بتهمة الخيانة.. بينما الأزرار النحاسية تعني أن المصري قتل جنديًا فرنسيًا أو سرقه .. دعك من أن سعرها سيرتفع مع الوقت !


لماذا أذكر هذه الأمثلة على (النصاحة المصرية) المعهودة ؟.. السبب هو أنني في إحدى الصحف الحزبية رأيت صورة لواحدة من مظاهرات حركة (لسه) - كما أسميها - المناهضة لحركة (كفاية)، وكانت تظهر فلاحين من قرية ما يحملان لافتة تحمل تأييدًا لرئيس الجمهورية الحالي – وهذا من حقهما – لكنها كذلك تحمل عبارة (لا لفار الجمالية .. اللي عاوز يبقى رئيس جمهورية).. لا أعرف شيئًا عن الذي تهاجمه هذه اللافتة، وليس موضوعي هنا تأييد حركة (لسة) أم حركة (كفاية) .. إنما ما أثار دهشتي ودفعني للتفكير هي تلك الطريقة الفظة في مهاجمة الخصم .. ضرب تحت الحزام لا يتورع عن الإهانة والتشهير.. وهذا يذكرني بصفحة كاملة نشرت في جريدة الأخبار في عهد (موسى صبري – السادات)، والصفحة مليئة بخطابات القراء الذين يهاجمون الأستاذ (خالد محيي الدين) بأقذع القول، وبعبارات أثارت خجلي برغم أنني كنت في المدرسة الإعدادية وقتها .. كأن كل الناس في مصر حلوا مشاكلهم ولم يعد لهم من هم إلا التعبير عن مقتهم الملحمي الأسطوري لـ (خالد محيي الدين)، وترى التوقيع تحت كل خطاب فتجد أسماء يستحيل التيقن من صحتها على غرار (محمد أمين – القاهرة).. الخ ..

طبعًا كان التلفيق واضحًا بشكل فاضح في تلك الصفحة، لكن تلك اللافتة التي أتحدث عنها صادقة بلا شك .. أعني أن أهل القرية هم الذين كتبوها وليس (موسى صبري)..

وتنظر لوجه الرجلين الظاهرين في الصورة فترى العنف والقوة والصفاقة .. واضح أنهما فلاحان وأنهما من الموسرين، وأنهما منغمسان حتى الآذان في هذا الشيء الغامض الذي يجمعون من ورائه الملايين والمدعو (محليات). هناك أذونات اسمنت في الموضوع وتقسيم أراض وأشياء من هذه التي لا أفهمها بسبب غبائي الذي اقترب من حدود التخلف العقلي..

الصفاقة على وجه الرجلين مألوفة ورأيتها ألف مرة من قبل .. إنه تنمر المصري عندما يعرف أنك لن تفيده ولن تضره.. وجه منادي السيارات الذي لم يرق له ما دفعته .. وجه الكمساري الذي أدرك انك لن تتنازل له عن الباقي ..وجه النادل الذي أدرك أنك لن تدفع بقشيشًا ..

منذ أعوام طوال كانت هناك انتخابات صاخبة بالغة الأهمية في مجلس الشعب .. وكنت أجلس في إحدى الوحدات الصحية مع كاتب الوحدة العجوز الطيب الذي يذكرك بصور (بابا نويل).. قلت له إن التغيرات القادمة مهمة جدًا، فقال في حكمة: مش حيفوز إلا الحكومة يا دكتور .. يعني أنا يبقى القلم في أيدي وأكتب نفسي تعيس ؟.. لا والله .. لازم اكتب نفسي سعيد ...



تأملت عبارته طويلاً وفكرت .. هذه هي الحكمة التي اختزنها المصري عبر قرون وقطرها وركزها .. هذا الرجل لم يقرأ كتابًا واحدًا في حياته لكنه ارتشف الحكمة من الأرض ذاتها .. وأمامه أبدو أنا الطبيب المثقف - كما أفترض - ساذجًا..


لقد اكتسب المصري حساسية خاصة به تجعله يعرف اتجاه الريح ويعرف أين ستكون مصلحته وأين ينتظر الخطر .. تلك الغريزة التي يفقدها المثقفون بسهولة تامة.. يقولون إن قبائل البوشمان تملك حاسة التنبؤ وحاسة قراءة الأفكار، بينما الحضارة تنسف هاتين الحاستين نسفًا .. ويبدو أن القياس هنا صحيح أيضًا .. وأنا لا أتكلم عن الذكاء .. أتكلم عن غريزة فطرية تشعر المصري العادي بما ستتجه إليه الأمور .. وهي لا تخطئ أبدًا ..

أهالي تلك القرية عرفوا بفطرتهم اتجاه الريح .. فأر الجمالية هذا لن يصير رئيس جمهورية أبدًا وإلا بدأ عهده بخراب بيوتهم .. لهذا خرجوا يؤيدون الجواد الرابح ويسبون الجواد الخاسر قبل أن تبدأ المباراة ..كاتب الوحدة العجوز عرف الحصان الرابح ببساطة بالغة ..

لماذا يرسم الناس في الأحياء الشعبية صورة مبارك على شرفات بيوتهم ويرسمون على الجانب الآخر صورة (جمال مبارك) ؟..لقد فهمها الوجدان الشعبي (وهي طايرة) وهو ليس على استعداد لأن يقف في الجانب الخاسر أبدا


أمريكا تطالب بالديمقراطية .. أبلة (كوندي) تضغط وتهدد .. المثقفون يتحمسون ويلوحون باللافتات ويتكلمون عن رياح التغيير القادمة، لكن المصري العادي أذكى من هذا كله .. يعرف أنها (هوجة) وتزول، وان أمريكا لا يهمها من الديمقراطية إلا ما تمنحه من وسائل ضغط تبدو مشروعة .. أمريكا يهمها البترول وإسرائيل فقط، وبعد هذا فلتذهب المنطقة كلها للجحيم .. سوف تنتهي الهوجة وتعود الأمور لما كانت عليه بالضبط .. ووقتها تأتي لحظة الحساب ...

هذه هي موهبة المصري الحقيقية عبر القرون .. لا يمكن خداعه بسهولة .. فإذا تظاهر بأنه صدق الخدعة فلأن مصلحته تشير عليه بذلك .. وهو أذكى من أن يمد يده إلى عشرة الدولارات فيقطع عيشه للأبد ..أو يتقاضى الثمن عملة ذهبية فيقطع (مراد بك) رأسه .. أو يظهر ذكاءه فلا يضحك مشاهدو البرنامج على (شعبولا) بما يكفي ..



بيجاسوس 22-07-07 09:12 AM

شيفرة دافنتشي: متى يتعلم الغرب الحرية منا ؟




أثبتت رواية (شيفرة دافنتشي) أن الغرب ما زالت أمامه أعوام طويلة حتى يتعلم الحرية منا نحن العرب، وحتى يقبل الرأي والرأي الآخر كما نفعل نحن بالضبط .. يا أخي متى يتعلم الفرنسيون والبلجيكيون وسواهم أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وأن رأيي قد يختلف عن رأيك لكني سأموت لأسمح لك بقوله ؟

ما أتكلم عنه هو نغمة الشماتة الواضحة في وسائل الإعلام العربية التي اكتشفت فجأة أن الغرب ضيق الفكر جدًا. فرحة غامرة تغمرنا لأننا والغرب سواء في التعصب وما فيش حد أحسن من حد.. دعك من الانتشاء بفكرة أن هذه الرواية وجهت ضربة قوية للمسيحية بيد واحد من أبنائها، وفات الكثيرون أن المؤلف سحب في نهاية الرواية كل ما قاله عن الفاتيكان، بل يتضح أن من قال هذا الكلام هو شرير الرواية الأساسي.

الحقيقة أن رواية (شفرة دافنتشي) - الرواية التي طبع منها عشرون مليون نسخة بخمسين لغة - قد تحولت إلى حمى تجتاح العالم.. وكان مرشدو متحف اللوفر أول من لاحظ ذلك؛ لأن الناس يأتون لرؤية مسرح الرواية ويسألونهم عن كل مكان ورد فيها .. مئات من المقالات كتبت عنها، وعشرات المواقع الالكترونية أنشئت خصيصا لمناقشتها. الفاتيكان نفسه خصص موقعًا إلكترونيًا للرد على ما جاء بها. دفع الكتاب أيضا ثلاثة مؤلفين غربيين للرد عليه من خلال ثلاثة كتب: (الحقيقة وراء شفرة دافنتشي)، (حل شفرة دافنتشي)، و(الحقيقة والخيال في شفرة دافنتشي).

(دان براون ) مؤلف الرواية ومعلم الإنجليزية السابق ذو الأربعين عامًا، يسيطر عليه في كتاباته هاجسان: فك الشفرات والمؤامرات الحكومية السرية، لذا جمع الاثنين للمرة الأولى في قصته (القلعة الرقمية) عام 1996 .. ثم قدم (ملائكة وشياطين) التي تدور بين مختبر سويسري والفاتيكان.. لكن رواية (شفرة دافنتشي) وثبت به إلى طبقة المليونيرات، وجعلته – حسب ترشيح (تايمز) – واحدًا من أكثر مائة شخصية تأثيرًا في العالم.

قرأت الطبعة العربية التي تملك حقها الدار العربية للعلوم في لبنان.. ورأيي الخاص أن الترجمة ليست سيئة إلى الحد الذي شاع عنها، لكنها مليئة بالأخطاء اللغوية، ولم تعرب (ذو) مرة واحدة بشكل صحيح .. دعك من الطريقة الشامية في حذف أدوات النداء واستبدال حرف الجيم على غرار (مايكل أنغلو) و(لانغدون) فهذه أشياء تضايق القارئ المصري عادة. في الحقيقة ليست الرواية إلا قصة بوليسية عملاقة فائقة الإمتاع وأنا أوافق بشدة الناقد البريطاني مارك لوسون الذي وصفها بـ (الهراء الخلاب)، فيما عدا هذا تتعامل القصة مع شخصياتها من السطح تمامًا .. التكنيك عادي جدًا هو (البناء المتوازي) حيث تتحرك ثلاثة خيوط لثلاث شخصيات وتنمو معها .. ثم تتقاطع هذه الخيوط قرب النهاية. بطل القصة أستاذ جامعي أمريكي لكنه يأتي بما لم يأت به الأوائل، ويدوخ شرطة فرنسا وإنجلترا ويهرب من كل موقف تقريبًا، والكاتب نفسه قال عنه إنه (يشبه هاريسون فورد) أي إنه كان يتحدث عن صيغة أخرى من (إنديانا جونز) عالم الآثار الوسيم خارق الذكاء الذي لا يمكن قهره أبدًا. يقولون إنها تشبه كثيرًا رواية – لم أقرأها – هي (اسم الوردة) للكاتب الإيطالي (امبرتو ايكو) وإن كانت الأخيرة كما يقولون أعمق وأقرب لروح الأدب. .

تدور (شيفرة دافنتشي) حول جمعية سرية - حقيقية بالمناسبة - تدعى (سيون) كان من أعضائها ليوناردو دافنتشي وفكتور هوجو ونيوتن، تحمي سرًا خطيرًا يمس العقيدة المسيحية، وآخر أفرادها هو القيم على معروضات عصر النهضة في متحف اللوفر، الذي يترك أثناء احتضاره رسالة لصديقه الأمريكي (لانجدون) عالم الرموز الدينية. هذا الأخير هو بطل الرواية الأساسي الذي يستدعونه في ظروف غامضة إلى اللوفر ليعاين الجثة . يستغرق الصراع في اللوفر حوالي نصف الرواية، وطرفاه المحقق الفرنسي الذكي العنيف (فاش) والعالم الأمريكي الذي يحاول فك الشفرات العديدة التي تركها له أمين المتحف المتوفى. هناك خط آخر تمثله منظمة (أوباس بي) الكاثوليكية المتطرفة التي ترسل رجلها الأبرص المخلص لدرجة الموت (سيلاس) لقتل من يعرفون هذا السر .

يبدو عجيبًا أن يكون مخ الرجل الذي مات صافيًا وهو يحتضر إلى حد إعداد هذه السلسلة العجيب من الألغاز، حتى ولو كان أعدها من قبل. لغز يفضي إلى لغز إلى لغز: أصل النجمة الخماسية .. الرجل الفيتروفي .. متوالية فيبوناتشي .. نسبة فاي ..هذه الألغاز المرهقة تدل على بحث دقيق قام به المؤلف في تاريخ الفن واللغويات والأديان القديمة، وهذا هو الجزء المثير في القصة الذي أنقذها من أن تكون مجرد رواية لأجاثا كريستي. يحاول لانجدون حلها جميعًا مع صوفي حفيدة أمين المتحف وشريكته في الفرار؛ هذا الفرار المذهل الذي يذكرنا بأفلام الأكشن .. يبدو أن علماء الرموز الدينية الأمريكيين يتدربون على العمليات الخاصة وفرق الصاعقة ضمن دراستهم الجامعية.

على أن الجزء الخطر من الرواية يبدأ عندما يعلن المؤلف الحرب على الفاتيكان.. بل إنه جعله يلعب دور الشرير Villain في أكثر القصة.. إن العالم الفار من الشرطة بتهمة القتل يتذكر فجأة صديقًا بريطانيًا هو السير (لاي تيبينج)، وهو خبير آخر في الرموز الدينية وقد أفنى عمره في البحث عن الكأس المقدسة. لا يبدو ظهور هذه الشخصية المفاجئ مبررًا لكن هذا يعطينا الحق في سماع محاضرة طويلة عن دور الإمبراطور قنسطنطين الروماني في إخفاء دور مريم المجدلية المحوري في المسيحية، وأنه هو الذي قلص دور المرأة في المسيحية عامة وجعل فكرة الأنثى والجنس مؤثمة في أذهاننا (قرأت نفس الاتهام لكنه كان موجهًا لبولس الرسول في كتاب قديم للراحل صلاح حافظ).. مع تلميحات كثيرة لموضوعات مثل العقيدة المثرية وعبادة الشمس ومفتاح الحياة .. الخ ... خلاصة كلام السير المذكور أن الكأس المقدسة ليست سوى السر الذي حرص الفاتيكان على إخفائه طوال التاريخ ليحتفظ بسيطرة دنيوية مطلقة على المؤمنين. أما دافنتشي فكان ينتمي لعقيدة عبادة الأنثى الخالدة.. إنها عشتار .. أستير .. إيزيس .. فينوس .. لهذا حرص في كل الرسوم الدينية على أن يدس رموزًًا وثنية خفية .. الموناليزا ذاتها ليست سوى كائن خليط من ذكر وأنثى معًا (لاحظ أحمد رجب هذا منذ ثلاثين عامًا في مقال ساخر له) .. واسمها مزج بين اسمي (آمون) و(إيزيس). وهنا نجد أن الرواية تخلط بين عقيدة الأنثى المقدسة وسر مريم المجدلية ذاته.

في النهاية يقدم الكتاب اعتذاره للفاتيكان بأن يتضح أن المخرج الأساسي للمسرحية هو السير (لاي تيبينج) نفسه؛ على طريقة القصص البوليسية البريطانية التي يكون القاتل فيها آخر شخص ممكن.. إذن المؤلف يعتذر في النهاية: لا ذنب للفاتيكان في سلسلة القتل ..هذه الجماعة المجنونة هي السبب .. الرجل الذي تكلم بالسوء عن الفاتيكان هو المجرم الأصلي .. بل أكثر من ذلك يفضل لانجدون ترك السر حيث هو.. لأن الإيمان مهم للبشر ومن دونه يضيعون. لكن لا يبدو أن أحدًا قرأ هذا الاعتذار أو اهتم به ..

هذا الاعتذار الواضح في آخر الرواية لم ينقذها من غضب (المركز الكاثوليكي للاعلام) في بيروت الذي طالب بمنع تداول الكتاب. وتم هذا بالفعل. وفي فبراير الماضي وفي بلدة (فنتشي) مسقط رأس ليوناردو أجريت محاكمة للرواية .. لكن لم تكن المحاكمة بسبب ما قيل عن الفاتيكان فيها بل بسبب اتهامها دافنتشي بأنه (شاذ جنسي متطرف)، وفي هذا الصدد عرض المحاضرون صورًا رسمها ليوناردو تثبت أنه كان – بلا فخر - يشتهي الأنثى. كما فندوا اتهام الرواية له بأنه اخترع أسلحة خطيرة .. ثم ظهر مندوب منظمة (أوباس دي) التي اتهمها الكتاب بالسادية والمرض النفسي، والتي تنتمي لها أبشع شخصيات الرواية: الأبرص (سيلاس) الذي يربط فخذه بحزام شوكي ليعذب نفسه والذي يطيع أوامر قسه طاعة عمياء كأنه تابع فرانكنشتاين.. دافع الرجل عن المنظمة وقال إن ما ذكر عنها في القصة هراء.

كل هذا الجو الفكري المنغلق أثار ذهول العرب الذين اعتادوا حرية الرأي حتى صارت طبيعة ثانية ثانية لهم .. لا أحد يصدق هذا الانغلاق الفكري ورفض الآخر.. ربما لهذا تخلف الغرب وتقدمنا نحن..

يقول أحد مواقع الإنترنت: "منع رواية (شفرة دافنتشي) في بلد يتمتع بحريات غير محدودة مثل لبنان، بحجة ان الرواية تسيء للفاتيكان كمؤسسة دينية، هي حجة واهية ولا تتناسب مع حرية الرأي والفكر والعقيدة، التي هي من ابرز سمات الدولة في لبنان! ". وينقل موقع سعودي خبرًا يقول: " قال كريس اليسون وزير العدل الاسترالي يوم الثلاثاء ان المسؤولين الاستراليين مزقوا نسخة من رواية «شفرة دافنتشي» للكشف عن مخدرات غير قانونية كانت مخبأة داخل نسخة للرواية الاكثر مبيعا بعد ان ارسلت الى استراليا من بريطانيا. ".. وعنوان الخبر يوحي بأن الحكومة الأسترالية مزقت الرواية لأنها لا تطيقها. هناك مواقع إنترنت تناقش الآن نظرة الغرب الدونية للمرأة تلك النظرة التي فضحتها هذه الرواية .. ترى لماذا لا تعامل المرأة على قدم المساواة مع الرجل مثل مجتمعاتنا ؟

الحقيقة أن هذه الرواية جاءت في وقتها لتقنع الفكر العربي بأننا (كويسين جدًا) وأن الغرب يعاني ذات عيوبنا وربما ألعن.. لكن على قدر علمي لم يطالب أحد بمصادرة الرواية هناك. لقد صودرت في بيروت لكن من قال إن اللبنانيين ليسوا عربًا ؟..

سيستمر (دان براون) في الكتابة .. ويبدو أنه لن يتخلى عن بطله (لانجدون) لأنه سيقدمه في قصة جديدة يواجه فيها الماسونية .. وهذا يدعم فكرة إنديانا جونز التي قلناها من قبل. ولسوف تغضب منه الجهات الدينية هناك... لكن هذا كل شيء.. لن يتطوع أحد بغرس سكين في عنق الرجل دون أن يقرأ روايته .. لن يضعوا كشك حراسة ينام فيه (بسطويسي) أمام باب بيته..لن يفر إلى هولندا مع زوجته بسبب دعوى حسبة .. لا داعي للشماتة إذن لأننا عائدون إلى دورنا المعتاد قريبًا.. سوف يكتب مؤلف عربي كتابًا ما يشعل الفتيل، ولسوف يصادر هذا الكتاب على الفور وبلا مناقشة .. من كان منا بلا خطيئة فليرجم الغاضبين على (شيفرة دافنتشي) بحجر !



بيجاسوس 22-07-07 09:14 AM

من فعلها ؟




" أتوقع حدوث استقرار أمني في المستقبل القريب في العراق خاصة بعد تشكيل حكومة الدكتور إبراهيم الجعفري وتولي جلال طالباني رئاسة العراق"

إيهاب الشريف في تصريح لوكالة الأنباء الكويتية (كونا) قبل مغادرته القاهرة يوم 31 مايو 2005 إلى بغداد

***

إنها قصة بوليسية مكتملة الأركان.. قصة بوليسية مرعبة أحدثت أسى عميقًا ممزوجًا بالاشمئزاز والذهول والمرارة في بر مصر؛ لأنها مأساة بدت للجميع غير ضرورية وكان يمكن تفاديها ..

قصة بوليسية مكتملة الأركان هي .. الدافع معروف .. إنه خليط من الانتقام الدموي ودفع الدول إلى التفكير مرتين قبل التعاون مع حكومة العراق؛ وكما قال (هيكل): "هناك استراتيجية لما يجري في العراق .. استراتيجية شنيعة لكن يمكن فهم دوافعها .. إن لعبة (الصدمة والرعب) لعبة يلعبها اثنان وليست قاصرة على الأمريكيين" .. الفاعلون معروفون وسوف نعلن عريضة اتهامهم بعد قليل، لكن ينقص الجريمة ركن واحد: الجثة .. لا توجد جثة ولا صور ولكن الحكومة المصرية بادرت إلى تأييد القصة التي نشرها موقع إنترنت متطرف، وأعلنت وفاة الشريف يوم الخميس. فما معنى هذا ؟.. رجل الشارع استنتج على الفور أن الحكومة المصرية تعرف ما هو أكثر وأن لها مصادرها.. لكن أين كانت تلك المصادر بينما الشهيد (إيهاب الشريف) في قبضة خاطفيه ؟

إنه مساء السبت 2 يوليو .. ليل بغداد المظلم ..بالتحديد في حي المنصور الذي شهد آخر هتاف لصدام منذ عامين قبل سقوط بغداد بيوم ..سيارة جيب شيروكي بيضاء تقف جوار كشك لبيع الصحف .. ورجال شرطة يبحثون عن رجل مصري وقور في الحادية والخمسين من العمر ..

حالة الارتباك العامة تدلك على أن المختفي صاحب السيارة شخص عظيم الشأن ..شهود العيان يحكون عن رئيس البعثة الدبلوماسية المصري إيهاب الشريف الذي ترجل من سيارته ليبتاع جريدة، من ثم برز له هؤلاء المسلحون في سيارتين من طراز (بي إم دبليو)، وأرغموه على ركوب سيارتهم لأنه (جاسوس أمريكي)...

كيف عرفوا شخصيته وكيف توقعوا أنه سيبتاع جريدة ؟... لعلها عادة من عاداته أو كانوا يراقبون سيارته منذ فترة، وهذا يشير إلى اختراق كامل للأجهزة الأمنية العراقية وربما حرس السفارة .. هنا يتساءل رجل الشارع: منذ متى يخرج السفراء في بلد خطر مثل بغداد دون حراسة ؟.. ومنذ متى يبتاعون صحفهم بأنفسهم بينما في مصر يصعب عليك أن تقابل سكرتير مدير مكتب الجوازات ؟.. لاحظ أن الشريف هو ثاني دبلوماسي مصري يُختطف في العراق بعد محمد ممدوح قطب الذي اختطفته جماعة تدعو نفسها (كتائب أسد الله) في يوليو منذ عام .. وظهر في ذلك المشهد المعتاد البشع مقيدًا بينما يقف وراءه الملثمون يتلون بيانهم والعلم الأسود في الخلفية .. بعد هذا أطلق سراحه لأنه (يتمتع بوازع ديني وأخلاق مهذبة) وكأن الشريف رحمه الله لم يكن كذلك ..

ألم يكن هذا كافيًا كي تتخذ الحكومة العراقية وحرس السفارة المزيد من الحذر ؟..

في شقته بمدينة نصر تحاول ابنته (إنجي) الطالبة بكلية الإعلام الاتصال به أكثر من مرة لكن هاتفه المحمول مغلق .. تتوجس خيفة لكنها لا تصارح أحدًا بمخاوفها ..

الحكومة العراقية تبحث عن الفاعلين .. إنه مأزق حقيقي لها لأن هذه الصفعة تأتي في الصميم لتبين عجزها عن حماية من يجب أن تحميهم ..هذا ارفع دبلوماسي عربي في العراق حاليًا .. . في ذات اليوم تحدث عدة هجمات على أكثر من دبلوماسي لعل القصد منها الخطف ولعله الاغتيال .. لكن الدبلوماسيين ينجون جميعًا فيما عدا سفيرنا ..

ثم تدور الأحداث بسرعة وبذات السيناريو المعتاد .. بيان على الإنترنت من تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين يعلن اختطاف السفير مع عرض حشد من البطاقات الشخصية والرسمية ... وتحت عنوان (الصارم البتار على سفير الكفار) جاء في البيان ذي اللغة (القاعدية) الواضحة: " قررت المحكمة الشرعية بتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، تحويل المرتد سفير دولة مصر الموالية لليهود والنصارى إلى المجاهدين كي ينفذوا حد الردة فيه." .. حتى هنا توقع رجل الشارع أن المفاوضات ستستغرق عدة اشهر ثم يفرج عن الرجل مقابل (الحلاوة) كالعادة .. الحلاوة التي بلغت ستة ملايين دولار في بعض الحالات.. حتى عندما ظهر على الشاشة معصوب العينين قلنا لنفسنا إن هذا المشهد يتكرر كثيرًا .. لكننا رأينا أن البيان انتقل للتهليل: " "جاء اليوم الذي نثأر فيه لإخوتنا وإسلامنا من طاغوت مصر وزبانيته، ونحمد الله تعالى أن مكننا من أسر أحد أئمة الكفر سفير مصر المدعو إيهاب الشريف الذي كان يعمل لدى السفارة المصرية في دولة اليهود اللقيطة."

والبيان يحمل اسمًا (قاعديًا) آخر من تلك الأسماء المنذرة بالذبح، وهو (أبو ميسرة العراقي).. الناطق الإعلامي للتنظيم ..

هنا فقط لعب الفأر في عبنا وقد تذكرنا أن الشريف سبق له رئاسة بعثة مصر في تل أبيب. بل كان هو القائم بأعمال السفارة المصرية لدى إسرائيل في فترة انقطاع الاتصالات الدبلوماسية. قد نختلف أو نتفق مع التطبيع لكن لماذا أرسلوه هو بالذات دون سواه إلى العراق ؟.

رجل الشارع قلق .. الكل ينتظر .. ترى هل كانت هناك مطالب لمختطفيه ؟.. لو كان الأمر كذلك فلماذا لم تنفذها الحكومة المصرية ؟.. لكن الأحداث تتحرك إلى نهايتها المحتومة كأنها مأساة إغريقية نعرف نهايتها سلفًا .. مجموعة أبي مصعب الزرقاوي – الشهير بالذباح - أعلنت في بيان يوم الخميس على موقع على شبكة الانترنت أنها قتلت الدبلوماسي المصري الذي تحتجزه رهينة:

"بيان تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين يعلن قتل سفير الطواغيت إيهاب الشريف." وجاء في البيان "نعلن نحن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أن حكم الله تعالى في سفير الكفار، سفير مصر قد نُفذ ولله الحمد."

الحكومة المصرية أيدت النبأ على الفور، فلم يعد من داع لمحاولة تكذيبه أو الشك فيه .. وعدت الحكومة الأمريكية باستجلاء ملابسات الحادث، وأرسلت الحكومة المصرية وفدًا لإجراء مفاوضات تسلم الجثة .. فقط ندعو الله أن يكون هؤلاء أكثر حذرًا فلا نراهم مقيدين أمام الراية السوداء غدًا...

ما زال الحادث غامضًا وسوف تتضح حقائق كثيرة فيما بعد لكن رجل الشارع المصري .. سائق التاكسي والقهوجي والواقفين في طابور الخبز .. هذا الرجل قد فحص الأدلة وأصدر حكمه – الذي لا استئناف فيه - على السادة الآتية أسماؤهم:

1) الإهمال: كيف تترك رجلاً بهذه الأهمية يمشي وحده بلا حراسة في عاصمة خطرة مثل بغداد، وبعد عام من سابقة معروفة خطف فيها محمد قطب ؟

2) سوء الاختيار: ألم يجدوا رجلاً يرسلونه إلى بغداد إلا القائم بالأعمال في تل أبيب ؟.. أم أنه اختير لهذا الغرض بالذات كعلامة على حسن النية تجاه الحكومة الأمريكية ؟

3) سوء التوقيت: وهو ليس سوء توقيت بالضبط ... راجع المتهمين الرابع والخامس.

4) هوشيار زيباري وزير خارجية العراق: الذي سارع من بروكسل إلى إعلان أن مصر ستكون أول دولة عربية ترفع تمثيلها الدبلوماسي إلى درجة السفير. كأنه يريد (تدبيس) الحكومة المصرية بإعلان قرارات لم تنفذ بعد .. الفقيد وصل العراق منذ ثلاثة أسابيع لا أكثر فتلقاه الأخ أبو مصعب الزرقاوي على الفور.

5) الحكومة المصرية ذاتها: قرار تعيين سفير لمصر بالعراق صدر خلال زيارة أبله كوندي لمصر .. وبشكل شبه سري .. فما معنى هذا ؟ .. رجل الشارع استنتج وجود صفقة لإنقاذ بوش من المستنقع العراقي مقابل أن ينسى لبعض الوقت عفريت الإصلاح السياسي الذي حل عليه .. صفقة دفع الشريف ثمنها كما هو واضح ..

6) روح التطرف العامة التي صنعت وحوشًا قادرة على ذبح رجل باك مقيد اليدين .. أقسم بالله العظيم أنني رأيت منذ أشهر ندوة دينية في قناة (إقرأ) ، كان المحاضر يحدث فيها مجموعة من الشباب السعودي الملتحي عن عملية ذبح مرتد في تاريخ الإسلام الأول، فراح يصف بالتفصيل كيف تم الذبح، وكيف سال الدم وكيف راح الرجل يتلوى كالشياه .. كانت عيناه تلمعان استمتاعًا وانفجر الشباب يضحك في بشر ورضا كأن الهلال السعودي أحرز جول المباراة الوحيد. ثم يتساءلون من أين يأتي التطرف وكل هذه الدموية ؟.. أبو مصعب الزرقاوي حضر ندوات مماثلة كثيرة وضحك مع الضاحكين بلا شك. لاحظ أنني لا أناقش الحدود لكني أناقش الاستمتاع الوحشي السادي بها.

7) في النهاية نتهم تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين باعتباره – فقط - اليد التي نفذت.. !



رحم الله إيهاب الشريف .. كان محترفًا نفذ ما صدر له من أوامر، فحمل على كاهله أخطاء الجميع .. والمشكلة تزداد تفاقمًا لأن خروج أمريكا من العراق يعني إعلان الزرقاوي خليفة بغداد في اليوم الثاني ويعني أنه كان على صواب طيلة الوقت، وبقاءها يعني أن تبقى عاصمة الخلافة وثاني أهم دولة عربية محتلة .. منك لله يا صدام ويا بوش.




بيجاسوس 22-07-07 09:16 AM

شنآن قوم ..



قال لي صديقي الفنان الموهوب: قل ما شئت، لكن أفضل فنان كاريكاتور عرفته مصر بعد صلاح جاهين هو مصطفى حسين ..

قلت له: لكن خطوطه سهلة التقليد، وهناك رسام صحفي معروف لا يفعل سوى أن يقلده حرفيًا حتى أطلقوا عليه (مصطفى حسين تقفيل تايوان)، كما أن هناك جيلاً من الشباب لا يفعل إلا الرسم مثله. قال لي في ثقة: هذا كلام معه لا ضده لأنه بسبق حائز تفضيلاً .. تذكر أن أحدًا لم يرسم ميكي ماوس قبل ديزني .. أي طفل يستطيع بإصبع واحدة أن يعزف (أهواك) لكن أحدًا قبل عبد الوهاب لم يعزفها..

ثم أردف: لقد خلق مصطفى حسين أنماطًا وحلولاً بصرية لا سابق لها .. وبالنسبة لرسم البورتريه هو الفنان الوحيد على مستوى العالم الذي نجح في نقل روح صدام حسين لا ملامحه فقط .. إنه الأستاذية تمشي على قدمين ..

تذكرت هذه الكلمات عندما نشر مصطفى حسين ذلك الكاريكاتور الشهير سيئ السمعة، الذي يظهر المعارضة تنبح كالكلاب بينما رجل يقول للآخر إنهم شموا رائحة الديمقراطية فأصابهم السعار .. كاريكاتور فظ وقاس ويفتقر للحنكة، بل إنه يعكس في ثناياه زلة لا شعورية خطيرة تعترف فعلاً أن الشعب المصري يشم رائحة الديمقراطية للمرة الأولى (إذن ماذا كان أزهى عصور الديمقراطية يفعل طيلة أربع وعشرين سنة؟)، وفي هذه النقطة أقر وأبصم أن مصطفى حسين محق. إنها المواقف التي تحمل في ثناياها هشاشة تغري بالهجوم عليها .. مثل ذلك الكاتب اللوذعى في أخبار اليوم الذي نشر مرثية لمبارك لأنه عاجز عن أكل طواجن البامية والمحشي ... أي حمق هذا ؟ !.. لو كنت مكان مبارك لعاقبته بعنف لأن هذا الكلام الساذج يحمل في ثناياه الرد عليه: ونحن نشفق على الرئيس ونريد أن يعود شخصًا عاديًا يأكل البامية!.. وهو ما قيل بالفعل في أكثر من جريدة ..

المشكلة هي أن مدافع (نافارون) انطلقت لتدك معاقل مصطفى حسين .. فجأة صار فنانًا محدود الموهبة لا قيمة له، ولو لم يرتبط اسمه بالعظيم أحمد رجب لظل نسيًا منسيًا .. صار الرجل طاغية يرمز للفساد يكتنز في بطنه العملاق القرى السياحية وأراضي الدولة ...

إن تاريخ العثرات الصحفية طويل، ومن العسير ألا تجد كاتبًا تورط في شبهة نفاق أو نفاق صريح أو خطأ لا يغتفر .. لدي مقال - أصر على الاحتفاظ به - نشر في مجلة الهلال عام 1951 للعقاد يمتدح فيه الملك فاروق ويصفه بأنه الشمس التي أشرقت على أرض وادي النيل فأينعت .. عام 1951 هو عام بلغت فيه روح المصريين الحلقوم من الملك الفاسد وهو ذا كاتبنا الشجاع يمتدحه في حماس مريب .. وماذا عن مقال أنيس منصور الشهير الذي يدعو فيه لإباحة البغاء لحل مشاكل الشباب ؟.. وغير هذا كثير ...

ثم تعال هنا .. منذ متى كان ثنائي (رجب / حسين) مناضلاً مدافعًا عن الحريات ؟... عندما صدرت التعليمات من فوق – أيام كامب ديفيد - رسم مصطفى حسين الزعماء العرب يجلسون على قصاري الأطفال، ورسم صدام حسين يقتل ضحاياه بالغازات السامة الخارجة من معدته، ورسم الملك حسين أيام حرب الخليج الثانية يتذوق الحليب من ثدي امرأة حسناء ليتأكد من صلاحيته لأطفال العراق .. وعندما تغيرت التعليمات صارا مدافعين عن الحريات وأكبر منتقدين لرؤساء الوزارات (الوزارة في المغارة) ورسوم مصطفى حسين عن الرزاز وزير المالية الشهير بالجباية تكفي لملء مجلد كبير ..
المهم أن كل هذه اللوحات كانت تحمل العبارة (فكرة أحمد رجب).. وهذا يعني أنهما كانا موظفين لدى الدولة لا أكثر ولا أقل، ولم (ينحرف) مصطفى حسين فجأة لأن الكاتب الكبير تخلى عنه .. ويقال إن هذا الكاريكاتور الذي اغضب المعارضة هو اعتذار من الفنان عن كاريكاتور سابق أظهر فيه مصر امرأة انتفخ بطنها بالديمقراطية وتساءل إن كان هذا حملاً كاذبًا أم لا .
مشكلتنا هي أننا لا نقيم بعضنا البعض بموضوعية .. أتمنى أن نقول: هذا فنان رائع لكنه ساذج سياسيًا .. الكاتب الفلاني عظيم الموهبة لكنه فاسد سياسيًا .. لكننا نحكم على الأمور أيديولوجيًا ومن اللحظة الأولى، ونعيب بعد هذا على خصومنا أنهم يفكرون بالكيفية ذاتها .. إنهم لا يبالون بمفكرين من طراز جلال أمين وفهمي هويدي وعبد العظيم أنيس لأنهم ليسوا من معسكر الحكومة كأن هذا يكفي لجعلهم ضحلين.. ونحن ننزع تاج الشعر عن شاعر لمجرد أنه يحب الكتابة عن عيون حبيبته ولا يكتب عن معاناة البروليتاريا .. تأمل نتائج مسابقات القصة التي يكون المحكمون فيها ذوي ميول يسارية .. فيلم فجر الإسلام جيد ومحكم لكننا نعتبره سقطة من سقطات صلاح أبو سيف لمجرد أننا نختلف معه أيديولوجيًا .. لماذا ملأنا الدنيا صراخًا عندما قال بوش: من ليس معنا هو ضدنا .. بينما نحن نفكر بالطريقة ذاتها طيلة الوقت ..؟
هذا هو بيت الداء .. عندما نختلف نختلف بعنف ونرفض كل شيء وننأى عن الموضوعية .. مصطفى حسين رسام عبقري بلا شك وكان بوسعه أن ينجح مع أو بدون أحمد رجب .. يمكنك أن تتهمه بالنفاق إذا كان يدرك معنى ما نشره، أو بالخرق إذا لم يكن يدرك .. لكن لا تنتزع منه عرش الكاريكاتور المصري المعاصر من فضلك، بعد ما لاقى جاهين ربه واعتزل حجازي العظيم بإرادته .. يمكنك أن تتهمه بفساد الفكر لكن لا تتهمه بانعدام الموهبة أبدًا ..

ومن جديد نتذكر كلمات القرآن الكريم البليغة الموجزة حين دعانا ألا يبعدنا شنآن قوم عن العدل...




بيجاسوس 22-07-07 09:17 AM

عن محرقة المثقفين والمدرعة بوتمكين



ليرحم الله أسامة عبيد .. عندما أتذكره تتداعى لذهني قافلة كاملة من الذكريات التي تمت لثمانينات القرن الماضي.. بيته في شارع الألفي، ونادي التمثيل في كلية الطب، ومسرح مدينة طنطا المتداعي الذي يصلح لتصوير أفلام الرعب، ومكتب أمن الدولة بالكليات الذي يدللونه باسم (رعاية الشباب)، وقصر الثقافة ودخان التبغ الذي تجمد في الهواء، وصرخاته العصبية في مجموعة الممثلين الهواة الذين يعتقدون أن المناداة على الطماطم والتمثيل ينتميان للفن ذاته. أسامة عبيد طالب الطب الذي ظل في السنة الخامسة حتى شاب شعره وتجاوز الأربعين، وصار زملاؤه أساتذة يدرسون له في ذات الكلية .. كان يشتعل بجنون المسرح الذي سرق حياته، لكن النقطة الأهم هي أنه كان ماركسيًا صريحًا بلا مواربة .. في ذلك العصر – أوائل الثمانينات - كان طالب الجامعة الماركسي يواجه خطرين: خطر أمن الدولة وخطر الجماعات الدينية. ولم يكن الطلاق قد تم بعد بين هذين الكيانين. إنها سياسة الحكومة الدائمة: عندما يزداد السكر في الطعام يجب أن تزيد الملح .. إلى أن يتضاعف خطر الملح فتضطر لزيادة السكر من جديد، وهكذا للأبد .. في ذلك العصر كان الخطر هو الملح .. أعني الشيوعيين والناصريين لهذا دللت الحكومة السكر .. أعني أعضاء الجماعات، قبل أن تفيق على أنهم صاروا يسيطرون على الجامعة سيطرة مطلقة، وقبل أن ترفع المقاعد ويتلاشى دخان المنصة ليرى الجميع جثة السادات الممزقة على الأرض ..

في هذا العصر كان أسامة عبيد لا يكف عن التبشير بماركسيته، وكانت هذه المرة الأولى التي ألقى فيها مثقفًا ماركسيًا خارج الكتب، فبدا لي غريبًا ثائرًا بلا لحظة تعب واحدة .. كأنه خرج من أحد كتب جوركي أو شولوخوف. كان يتهمني بأن ثقافتي أفقية لا رأسية لأنني لم أنخرط معه، وكان يقول: "أي مثقف حقيقي هو يساري بشكل تلقائي"، لكني أعترف بأن هناك عاملاً مهمًا جعلني أبتعد عن دائرته هو الخوف .. كنت أتخيل دائمًا تلك الغارة الليلية أو الصباحية على داري والزنزانة المليئة بالماء والكرابيج والكلاب والصعق بالكهرباء، فكان هذا يقضي على أي حماس لي لفهمه أكثر .. فقط كنت أحتفظ بصداقته من بعيد، وأحضر مسرحياته التي كان يخرجها في حماس مشبوب كأنه بصدد الإعداد لثورة .. دخان التبغ والمقاعد المغبرة التي يعلوها طن من التراب، والخيش والفئران التي تجري على قدمك قبل أن ترفعها، والوجوه الغريبة التي تجلس في آخر القاعة ولا نعرف من أصحابها على الإطلاق .. أذكر كذلك تلك المسرحيات التي كان يختارها ذات الطابع الملحمي البريختي: (مارا صاد) و(غول لوزيتانيا) و(بهية وياسين) .. المسرحيات التي كانت تقدم في مهرجان الجامعة وكان هو يصر على أن يدس فيها آراءه الخاصة ...

عرفت مدى فقر الإمكانيات ورثاثة كل شيء والممثلين الذين لا يعرفون ما هو التمثيل أصلاً، ومصر في مسرحياته هي دومًا فتاة شاحبة رديئة التمثيل جاء بها من مدرسة التمريض، لكنها باردة قادرة على تحمل صراخه وانفجاراته العصبية التي لا تنتهي .. وكنت أتساءل كيف يستطيع أن يستخلص فنًا من كومة الركام هذه ..

لم يكن أحد يفهم ما يقول .. لم يكن أحد يعبأ بما يقول .. فقط جهة واحدة كانت تهتم وترصد وتراقب ..

تذكرت هذه الأحداث وأنا أقرأ مأساة الفنانين الذين التهمتهم النار في بني سويف. هناك أخبار متضاربة بهذا الصدد ولست متأكدًا بصراحة من موضوع إغلاق المسرح بالجنزير عليهم من الخارج، وربما كانت إشاعة تناثرت وصدقها الجميع، لكني أعرف شيئًا واحدًا هو أن موضوع الجنزير كان يحدث حرفيًا أيام أسامة عبيد ..

إن هذا الحادث البشع يكشف عن جوانب كثيرة من فكر الأمن والنظرة العامة للفن والشخصية المصرية نفسها .. عن جانب الإهمال حدث ولا حرج.. أذكر أنني كنت أحضر محاضرة يلقيها مهندس معماري شاب، قال لنا ضاحكًا إن هذه القاعة التي نجلس فيها تخالف أبسط قواعد التصميم الهندسي التي يعرفها أي طالب في إعدادي هندسة ، وأشار إلى الباب وقال: أي مكان يعقد فيه اجتماع عام يجب أن تفتح أبوابه للخارج لا للداخل، وإلا هشم الناس بعضهم في حالة هلع الحريق على باب لا ينفتح .. في الغرب يعرفون هذا الموقف جيدًا ويطلقون عليه Theater Panic لكن المشكلة في مصر أننا نعرف .. لسنا جهلة بل نعرف لكن أين التطبيق ؟

ما زلت أذكر بروفات أسامة عبيد والمخبرين الجالسين أفواجًا في الظلام على مقاعد المشاهدين، حتى أنني قلت له ساخرًا: أنت تساهم في تثقيف رجل الأمن بروائع المسرح العالمي، ولولا هؤلاء لما وجدت جمهورًا تقدم له عروضك. تذكرت رجال الأمن المركزي الذي يقفون خارج باب المسرح كأنهم يحرسون تسربًا نوويًا في مفاعل .. تذكرت كل هذا وقلت لنفسي: ما سر هذه النظرة التي تنظر بها أجهزة الأمن للمثقف والتي تدفعها لإهماله وتقديم قبو متداع يقدم فيه عروضه، ثم الشك فيه ومراقبته إلى درجة محاصرة عمله بالجنازير ورجال الأمن المركزي ؟

الإجابة هي أن الدولة تمقت المثقف وتشك فيه فعلاً.. إنه كائن منكوش الشعر متحذلق يلبس سروالاً من الجينز زمامه مفتوح، ويدخن كمحرقة الجثث، ويلبس نظارة سميكة تم لحامها بالنار، من وراء زجاجها ترى عينيه صغيرتين مستدقتين كعيني بقة .. إنه فقير كالأبالسة وثرثار ومزعج .. إنه يقول كلامًا غريبًا لا يفهمه أحد، وقد تعلم رجال الأمن أن يشكوا في أي كلام غريب غامض ... منذ خمسين عامًا تعلم رجال الأمن أن أي كلام لا يفهمونه هو أفكار شيوعية على الأرجح يقولها رجل شيوعي كافر وابن كلب غالبًا ...

في كتابه الظريف (الطريق إلى زمش) يحكي عمنا الثرثار محمود السعدني عن صول المعتقل الذي دخل على المعتقلين يسأل عن أي رجل (متعلم ونبيه).. فمن يلبي نداءه إن لم يكن د. (لويس عوض) ؟.. اتضح أن الصول يريد من ينظف بالوعة المجاري المسدودة، ووقف المعتقلون يكتمون ضحكهم وهم يرون أستاذ الأدب الإنجليزي الوقور يشمر كميه ويمد يده العارية في البالوعة ليخرج ما بها من قاذورات.. لو صدقت هذه القصة فهي نموذج مثالي لرأي الدولة في المثقف عامة ..

وما زلت مع تداعيات الحادث الذي ذكرني بمسرحيات أسامة عبيد .. لم يكن الأمر بهذا الخطر .. لم تكن أية مسرحية من مسرحيات أسامة قادرة على إحداث ثورة .. لسنا في (مونمارتر) هنا .. فلماذا يهتمون بها إلى هذا الحد ؟.. مخبرون وأمن مركزي وأجهزة تنصت وملفات .. هذا يقودنا إلى التفكير في حاسة النقد العبقرية العالية لدى الطغاة .. إن الطغاة أغبياء في كل شيء، لكنهم في هذه النقطة بالذات شديدو الذكاء والحرص.. وقد أبدى المخرج الكندي المشاغب كروننبرج إعجابه الشديد بذكاء الطغاة حين يشمون الخطر في أفلام مخرج أو قصائد شاعر، بينما النقاد غافلون عنه ..وقد تجاهل النقاد الألمان الفيلم السوفييتي الرائع (المدرعة بوتمكين)، فمن الذي شعر بأهميته وخطره ؟.. (هتلر) شخصياً !! .. عندما كان يصرخ في رجاله: أعطوني فيلمًا مثل المدرعة بوتمكين أو موتوا !

ليرحم الله فنانينا الذين افترستهم النيران فدفعوا ثمن أخطاء الحكومة وأخطاء الشخصية المصرية ذاتها.

ليرحم الله أسامة عبيد الذي قتله الفشل الكلوي .. لقد كان نموذجًا للمثقف الثوري الذي لم يفهم رجال الأمن حرفًا مما يقول، لكنهم فهموا أن عليهم أن يحاصروه ويراقبوه ويضيقوا عليه الخناق، ولن أندهش لو كان ملفه ما زال مفتوحًا في مكتب ما بوزارة الداخلية برغم مرور أعوام على وفاته .




بيجاسوس 22-07-07 09:20 AM

لعنة الوضع الوسط !



قناة ناشيونال جيوجرافيكس هي أربع وعشرون ساعة من الفن الرفيع الراقي. إنها تريك معجزتين في آن: معجزة الظاهرة الطبيعية، ومعجزة أن ينقل لك إنسان هذه الظاهرة بهذا الجمال . أي انها تريك معجزة تصوير المعجزة !.. من ضمن برامج هذه القناة الأثيرة عندي برنامج اسمه (الذهاب إلى النهايات القصوى Going to extremes).. بطل البرنامج صحفي بريطاني اكتشف في منتصف العمر أنه لم يعش حياته وعلى الأرجح لن يعيشها .. يقول إنه في سن متوسطة، يتقاضى راتبًا متوسطًا، ونجاحه متوسط وبيته متوسط وشكله متوسط .. هكذا قرر أن يطلق العنان لجنونه ويجرب الحد الأقصى من كل شيء : يرتحل إلى أبرد مكان في العالم في سيبيريا وأسخن مكان في العالم في أثيوبيا .. يجرب أكثر البلدان جفافًا وأكثرها رطوبة .. أكثرها ارتفاعًا وأكثرها انخفاضًا .. وهكذا ..

برنامج ذو فكرة ذكية ولا شك، والأهم أنه يجعلك تسترجع حياتك فتدرك انك من المبتلين بالوضع الوسط .. وهذا يجعلك لا تنتمي لأي مكان على الإطلاق .. إن إمساك العصا من منتصفها والرقص على السلم لا يختلفان كثيرًا في الواقع، لكن الأمر يتوقف على براعتك في التعبير وقدرتك على تهذيب الخدعة الكبرى التي تعيشها..

أنا من الطبقة الوسطى التي تجاهد كي لا تنزلق لأسفل وتكافح كي تصعد لأعلى، فلا تكسب إلا تحطيم أظفارها على الغبار الذي يبطن الحفرة .. لست فقيرًا بحيث أحتمل شظف العيش، ولست ثريًا إلى حد يجعلني اطمئن على أطفالي يوم أموت .. في مقال بديع للساخر الراحل محمد عفيفي يقول: "المانجو تسبب مشكلة ضميرية مزمنة للطبقة المتوسطة، لأن الفرد من هذه الطبقة يمكنه شراؤها مهما غلا ثمنها، لكنه يعرف أن زيادة قطع عدد ثمرات المانجو على المائدة يقابله نقص في عدد قطع اللحم على ذات المائدة !".

عندما أمشي في الأزقة والأحياء العشوائية أبدو متأنقًا متغطرسًا أكثر من اللازم، وأثير استفزاز سكان هذه العشوائيات .. بينما عندما أمشي في بيانكي أبدو دخيلاً مريبًا فقيرًا أكثر من اللازم... عندما يقع تهديد على أحد سكان العشوائيات فإنه يصرخ مناديًا (سوكة) و(شيحة) وسرعان ما يبرز له عشرون بلطجيًا يحملون ما تيسر من (سنج) وماء نار وكلاب شرسة .. هذه هي الحماية الحقة.. بينما عندما يشك (عيسوى) بيه في شيء فإن البودي جارد صلع الرءوس ذوي السترات السود الذين يدسون سماعات في آذانهم يبرزون لك ليقولوا إن الباشا يأمرك بالابتعاد عن هذا الشارع .. فمن يحمي ابن الطبقة الوسطى ؟.. لا أحد ..

عندما تتزوج لن تظفر إلا بعروس من الطبقة الوسطى .. لن تظفر بـ (عطيات) حارة العواطف التي تؤمن أن (ضل راجل ولا ضل حيطة) ولن تتزوج (إنجي) التي رأت فيلمي (إيمانويل) و (قصة أو) عشر مرات .. إن عروس الطبقة الوسطى ابنة الأستاذ عبد الجواد موجه الجغرافيا تؤمن أن الارتباط بك ثمن لابد من دفعه مقابل الظفر ببيت وأطفال .. إنها أنثى الطبقة الوسطى التي تؤمن في لاوعيها بأن الحب خطيئة حتى في ظل مؤسسة الزواج ..

هذا عن انتمائك للطبقة الوسطى، فماذا عن كونك في منتصف العمر ؟... هل تذكر (هيام) أو (رانية) زميلة دراستك التي همت بها حبًا ثم تخلت عنك عند قدوم أول عريس جاهز (لأنها يجب أن تضع مستقبلها في الاعتبار) ؟.. جرب اليوم أن تحب (مروة) أو (هبة) طالبة الجامعة الحسناء ولسوف تتركك من أجل زميلها المفلس (الروش) الذي لا يملك إلا شبابه، والذي يعرف آخر أغنية لتامر حسني، ويعرف كيف يميز بين حلا شيحة وعلا غانم بينما كنت أنت تعتبرهما نفس الممثلة..

هذا عن العمر الوسط فماذا عن الزمن الوسط ؟.. لست في زمن جيفارا والقومية العربية ومؤتمر باندونج ومظاهرات الشباب واجتماعات المثقفين مع سارتر.. لقد ولى هذا الزمن، لكنك كذلك لا تبتلع فكرة العولمة التي هي الأمركة بمعنى آخر .. وما زلت تعتبر توماس فريدمان مغرضًا كاذبًا، وتعتبر بوش دمية في أيدي المحافظين.. وفي الجهة الأخرى يقف ابن لادن والزرقاوي يقدمان لك بديلاً مغريًا من الذبح والدخول بالطائرات في ناطحات السحاب.. فأين تقف بالضبط ؟

هذا يقودنا للتساؤل عن الموقف الوسط .. كنت تصغي لشباب الجماعات الدينية فتبهرك جديتهم والتزامهم والطريقة البارعة التي يجدون بها مخرجًا لأنفسهم وسط كل هذا الحصار .. ثم تصغي للشباب اليساري فتفتنك ثقافتهم وعمق قراءتهم والنظرة العلمية الصارمة التي يخضعون لها كل شيء .. ثم تعود لدارك لتتساءل: من أنت بالضبط ؟

صديق لي يعاني عقدة الوسط هذه، وكان يتوق إلى أن تكون له مغامرات نسائية لكن العمر فاته، قال لي في ضيق: "قبل أن أدخل الكلية كانت تسيطر عليها ثقافة الهيبيز والتحرر وكان جون لينون بطلاً قوميًا، ثم دخلت الكلية في أوائل الثمانينات فخرج أحدهم أمام المدرج وصاح: فليجلس الأخوة في جانب والأخوات في جانب لو سمحتم .. لا نريد أن نحرج أحدًا ... وألغيت كل حفلات الكلية.. وهكذا سيطرت الجماعات الدينية على سني الدراسة، وكان الفتى يقول لزميلته صباح الخير فتأتيه باكية في اليوم التالي تطالبه بإصلاح غلطته !.. هكذا تركنا الجامعة .. هل تعلم ما يحدث في الكليات اليوم ؟.. الزواج العرفي يتم عيني عينك، وهناك طرق عجيبة للزواج مثل أخذ الموافقة على الموبايل أو أن يبلل كل من الطرفين طابعًا بلعابه ثم يلصقه على جبين الطرف الآخر .. الحق إنني اخترت الزمن الخطأ كي أوجد !"

فكرت في كلامه فوجدته يعزف على نغمة لعنة الوضع الوسط التي أتحدث عنها .. وكما قلت من قبل: إن إمساك العصا من منتصفها والرقص على السلم لا يختلفان كثيرًا في الواقع، لكننا نحاول إقناع أنفسنا بأنهما مختلفان ..

من يدري ؟.. ربما أمشي في ذات الدرب الذي مشى فيه ذلك الصحفي البريطاني .. ربما أختفي في الأيام القادمة فيعرف من يسألون عني أنني أستكشف جبال الهيملايا أو الوديان الثلجية في سيبيريا !




بيجاسوس 22-07-07 09:21 AM

عن العلم وشبه العلم




كتاب أنيق هو يحمل ذات الطابع (ابن الناس) الموحي بالثقة لدار المعارف، تلك التي بدأنا القراءة مع سلسلتها (كل شيء عن)... سلسلة علمية صدرت في الزمن الجميل كتبها عالم أمريكي محترم وترجمها عالم مصري محترم، والتي لم أندهش عندما وجدت أن عدد طبعات أجزاء منها تجاوز التسع, ثم كبرنا فعرفنا سلسلة (إقرأ) التي قدمت لنا المعلومة والأدب الراقي. لهذا كان لي الحق كل الحق أن أتحمس لشراء هذا الكتاب الذي يحمل اسم (أسرار الوحوش الخفية والإنسان العملاق - 1999) للدكتور (علي علي السكري) وهو من المهتمين بمفهوم العلم من الناحية الإسلامية كما تدل على ذلك مؤلفاته السابقة.

الصورة على الغلاف لديناصورات تتصارع، وهي منسوخة من غلاف سلسلة أخرى هي (الكتب العلمية المبسطة)، وبرغم هذا هناك اسم لمصمم الغلاف.. أما عن محتوى الكتاب نفسه فيلخصه المؤلف في المقدمة بقوله (الغرض من هذا الكتاب إثبات وجود الديناصور والرخ والصناجة والتنين وغيرها) .. تبدو العبارة غريبة طموحًا لكن لا توجد أحكام مسبقة في العلم. المهم هي طريقته العلمية في إثبات ذلك. يقول إنه اعتمد على كتابات القدماء مثل القزويني والدمشقي وسواهم. ويقول (الواقع أن ما حكاه هؤلاء ليس أساطير لأنها رؤيت رؤية العين وتم التعرف عليها وقياس أبعادها).

ثم يحدد الدكتور منهجه العلمي منذ البداية: "يقول العقاد في كتابه (الإنسان في القرآن): لعل الكشوف الكثيرة قد أقنعت أكثر الباحثين بأن الرفض بغير برهان أضر بالبحث من القبول بغير برهان"... طبعًا العقاد يتكلم عن القرآن الكريم وهو حالة خاصة جدًا، وقد استخدم الدكتور هذه العبارة ببراعة ليوحي بأن من يرفض مقولاته العلمية يمكن أن يرفض أشياء أخرى أكثر قداسة. لكن ما علاقة كلام العقاد بقصص حكاها القزويني والدمشقي ؟... لقد رسم البحارة في القرون الوسطى رجالاً في الهند لهم قدم واحدة يتواثبون عليها ويرفعونها في المطر لتحميهم، ووصفوا قومًا لهم رءوس كلاب يعيشون حول دلتا الجانج، ووصفوا ناسًا بلا رءوس عيونهم في صدورهم يعيشون في افريقيا، مع عمالقة لهم آذان عملاقة يمكن أن يتغطوا بها كالبطانية عند النوم... كل هذا معروف وموثق وهناك خرائط كاملة عليها هذه الرسوم. بمنطق الدكتور يجب علي أن أنفي وجود هذه الكائنات وإلا فهي موجودة .. منطق غريب جدًا .. المفترض أن البينة على من ادعى .. وهو ذات منطق الولايات المتحدة في بدء الحرب على العراق: على صدام أن يثبت أنه لا يملك أسلحة دمار شامل .. طيب لماذا لا تثبتون أنتم أنها عنده ؟

ينتقل الدكتور إلى مقدمة علمية رصينة جدًا عن الديناصور يختمها بالسؤال: هل اندثر الديناصور حقًا ؟ .. ثم يختمها بمقتطف من كلمات الإمام القزويني يحكي عن ظهور تنين عظيم في حلب عام 1226 ميلادية و426 هجرية، ويخرج من فمه نارًا تحرق الشجر والنبات. فاستغاث الناس بالله تعالى فأرسل سحابة حملته. يحلل الدكتور المعطيات بدقة ليصل إلى أن هذه الصفات تنطبق على ديناصور.. هكذا توصل الدكتور إلى وجود ديناصورات حية في حلب عام 1226 م، ومعنى هذا أن الديناصورات لم تنقرض مع نهاية العصر الطباشيري منذ سبعين مليون سنة. كل هذا التراث العلمي الجيولوجي والباليو إيكولوجي يهدمه الدكتور بضربة لازب، والسؤال هنا هو ماذا كان هذا الديناصور يعمل طيلة سبعين مليون سنة فلم يظهر إلا في ذلك العصر ؟.. لماذا لم يحك عنه مؤرخ آخر ؟.. أين آثاره ؟.. لكني لست متعصبًا يا سيدي .. لو أتيت لي من (حلب) بعظام ديناصور يثبت الكربون المشع أنها تمت للقرن الثالث عشر فلسوف أصدقك وأنحني احترامًا لك والقزويني معًا.

ثم ينتقل الدكتور إلى هدم نظرية فناء الديناصورات مستخدمًا كلامًا علميًا موثقًا.. هكذا تبتلع أنت شبه العلم وسط العلم الحقيقي، على طريقة قشر البطيخ الذي يقلونه مع السمك في الموالد، من ثم يأكل الطاعمون هذا الخليط على أنه سمك.

لكن وحوش الدكتور لا تكف عن الظهور مما يوحي بأن العالم العربي في العصرين الأموي والعباسي كان حديقة ديناصورات تتحدى حديقة (مايكل كرايتون) .. تنين آخر يظهر في نابلس يبدو من وصفه أنه فيل عملاق من نوع الماموث.. وقد كسر الأهالي نابه لذا سموه بلدتهم (نابلس) أي (ناب بدون)، على الطريقة الإنجليزية في إلصاق less بنهاية الكلمات بمعنى (بلا)..

ثم يقتطف مقالاً علميًا يحكي عن احتمال وجود أفيال عملاقة في أصقاع سيبيريا .. هذا ممكن يا دكتور في الأماكن غير المطروقة .. هناك ألغاز كثيرة على وجه الأرض، وهناك وحوش عديدة لم نرها من قبل، بل لا أستبعد وجود ديناصورات لم تنقرض بعد، لكن لا تقل لي إن هذا الماموث قد ظهر في نابلس فلم يره ويحك عنه إلا القزويني. هناك كتب كاملة عن رجل الثلوج المخيف (الياتي) و(الساسكواش) لكن العلم لا ينظر لهذه الأمور بجدية ما لم يجد رجل جليد كاملاً ويشرحه ويعرف كل شيء عنه، ولم يتخذها ذريعة لإصدار كتاب يؤكد أن الإنسان أصله قرد مثلاً.

الآن ننتقل إلى حيوان الصناجة، الذي ليس هناك حيوان أكبر منه والذي عاش في أرض التبت، والذي ما أن ينظر لحيوان آخر حتى يموت الحيوان، وإذا رآه حيوان آخر مات الصناجة. تصور هذا !.. حيوان حياته تتوقف على ألا يراه حيوان آخر !.. طيب وعايش إزاي ؟..وكيف يبحث عن رزقه ؟.. هنا يرى الدكتور أن الكلام دليل قاطع على وجود ديناصور في التبت..

هناك قصة أخرى حكاها (ابن أثير) عن الطائر الضخم الذي ظهر بعمان عام 985 م ووقف على تل وصاح بلسان فصيح: قد قرب .. قد قرب .. ثم غاص في البحر .. هذه القصة يأخذها الدكتور كحقيقة لا شك فيها على وجود ديناصورات مجنحة منذ ألف سنة ثم انقرضت .. طيب من قال إنها انقرضت ؟.. ربما هي ما زالت بيننا تبعًا لمنطقك ؟ ... أثبت لي أنها غير موجودة ...

هناك فصل كامل عن الرخ، وفصل كامل عن الناس الذين هم مشقوقون إلى نصف إنسان لأنهم من نسل النسناس (بن أميم بن لاوذ)، لكنهم يتكلمون ويقولون الشعر .. وهناك نساء بثدي واحد في جزر البحر الهندي وهي صفة تورث كما هو واضح .. وبعد كل قصة يقول: "هذه القصة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على وجود كذا وكذا ......"

ثم ينتهي الكتاب بمجموعة هائلة من المراجع ..

لماذا اهتممت بهذا الكتاب ومثله بالآلاف ؟.. السبب أنه لا ينتمي لتلك الكتب الصُفر الرخيصة، فناشره دار محترمة أثق بكل ما تنشره، ومؤلفه رجل علم قد بحث بحثًا مرهقًا بلا شك. من هنا مكمن الخطر لأنه كتاب يجيد التخفي في صورة كتاب علم., لقد بذل المؤلف كل هذا الجهد ليبرهن لنا على أن كل حرف قاله الأقدمون صحيح.. قد أقبل هذا بالنسبة لتفسير ديني أو فقهي، لكني لا أقبله بالنسبة لحقائق علمية تتعلق بالرخ والتنين الذي ظهر في حلب في القرن الثالث عشر .. خاصة إذا استخدم مؤلفها كل حجة علمية يملكها لإثبات أن هذا صحيح. على طريقة (سرعة الصوت هي ثلث كيلومتر في الثانية .. وهذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أبو رجل مسلوخة وجد في عصور تاريخية معينة) .. هذا يعطي القارئ ثقة بالكلام .. من المؤكد أنه كلام محترم مادام يقول (سرعة الصوت) وما إلى ذلك ..

المشكلة أن هذا بالنسبة لأكثرنا هذا هو العلم ولا علم سواه ..

في فيلم الأب الروحي مشهد يمسك فيه بابا الفاتيكان بقطعة حجر مبتلة فيهشمها، ويقول لآل باشينو: "هذا الحجر مثل أوروبا .. مبتل بالماء من الخارج لكن الماء لم يبلغ قلبه .. هكذا اوروبا لم تبلغ المسيحية منها موضع القلب برغم كل هذه القرون".. نحن كذلك عندنا شهادات عالية جدًا ولدينا أبحاث تحمل أسماء براقة .. لكن التفكير العلمي الممنطق الذي أهداه لأوروبا ديكارت وكانط بلل عقولنا من الخارج لكنه لم يبلغها قط من الداخل.



بيجاسوس 22-07-07 09:22 AM

العالم مسطح: هل انقلب سحر العولمة على الساحر ؟



شهدت التسعينات ظهور ثلاثة أسماء سيطرت بقوة على الفكر الغربي: (أسبوزيتو) الذي صار مقترنًا بفكرة الخطر الإسلامي الذي جاء ليحل محل الخطر الشيوعي. و(هانتجنتون) الذي صار مقترنًا بصراع الحضارات .. و(فوكوياما) الذي صار مقترنًا بنهاية التاريخ .. كلهم من الأسماء اللامعة في مؤسسات صنع القرار الأمريكية التي يطلقون عليها (خزانات التفكير Think Tanks) وهم يتقاضون رواتب جديرة بأن تكرههم فعلاً إن لم تكن عندك أسباب أخرى.. من الأسماء العولمية المهمة كذلك الصحفي الأمريكي اليهودي توماس فريدمان الذي لمع في الشرق الأوسط كوجه جذاب لبق قادر على شرح العولمة بوضوح، وهو كاتب عمود الشؤون الخارجية في صحيفة نيويورك تايمز الذي وصف وظيفته بأنها (أهم وظيفة في الكون).. وله كتاب مهم جدًا هو (السيارة اللكساس وشجرة الزيتون - 1999)، لكننا ندرك على الفور أن فريدمان يبشر بدولة واحدة عظيمة ديمقراطية مسالمة وديعة اسمها (إسرائيل).. كما أنه يدعو لمبادئ أقل ما يقال عنها إنها قاسية مثل مبدأ (الاستعداد لقتل جرحاك)، أي أن تتخلى بلا ندم عن أي مشروع خاسر ولا تحزن على العمال المطرودين أو قيم الماضي التي لا نفع لها.

يواصل فريدمان حملته التبشيرية في كتابه (العالم مسطح: : تاريخ مختصر للقرن الواحد والعشرين) .. معنى كلمة (مسطح) انه (متواصل).. زوال الحواجز التجارية والسياسية وتطور الثورة الرقمية جعل من المكن القيام بالبيزنس في ثوان مع بلايين البشر الآخرين عبر الكوكب. يعقد فريدمان في البداية مقارنة بين رحلته إلى الهند والصين ورحلة كولومبوس لاكتشاف عالم جديد، وهكذا يمكن قراءة العنوان على أنه يذكرنا بخوف بحارة كولومبوس من أن سفنهم ستقع خارج حافة العالم المسطح. يرى فريدمان أن مدينة بنجالور الواقعة جنوب الهند هي (العالم الجديد) الذي اكتشفه. ويحذر الكاتب من جدية التحدي الذي تشهده الولايات المتحدة من نموذجي الهند والصين في هذا العالم المسطح. لقد فوجئ بأن بيانات ضرائب أربعمائة ألف أمريكي موجودة في بنجالور، وأنك إذا اتصلت في الولايات المتحدة تشكو خللاً في بطاقة الفيزا، فإن من يرد عليك ويمزح معك هو موظف هندي في ولاية بنجالور !... رأينا فيلمًا في الجزيرة حول هذا الموضوع، ورأينا كيف أن الهنود يتدربون على اللكنات الأمريكية المختلفة حتى لا تشعر بالغربة لو كنت من فلوريدا وكلمك عامل الهاتف بلكنة نيويورك !

لماذا صار العالم مسطحًا ؟.. ينسب هذا إلى عشرة عوامل أهمها سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية حلف وارسو. ثم الثورة العظمى في الإنترنت وبرامج البحث مثل (نت سكيب) الذي ظهر عام 1995 التي جعلت تصفح الإنترنت لعبة أطفال، ثم سعي الشركات العملاقة لتخفيض الإنفاق من خلال توظيف عمالة رخيصة بعشر تكلفة نظرائها الأميركيين. ذلك فضلا عن استيراد الشركات الضخمة في الولايات المتحدة لأدوات الإنتاج بأسعار زهيدة من الهند والصين بدلا من القيام بتصنيعها في الداخل. وإنشاء مصانع الإنتاج في دول جنوب شرق آسيا.. "حينما يكون العالم مسطحًا يمكنك أن تبتكر دون ان تهاجر من وطنك !"

يشير فريدمان الى أن شركة ديل لأجهزة الكمبيوتر لم تعد تقوم بدور صيانة أجهزتها حتى ولو أنها تتعهد بذلك، حيث أصبحت شركة البريد فيداكس تستخدم مهندسي كمبيوتر في مخازن الشحن التي تستعملها ، وهؤلاء يقومون بمهمة الاصلاح والصيانة لأجهزة الديل، أي ان الشركات تتعاون بشكل غير مسبوق.



يقسم فريدمان تطور العولمة إلى 3 مراحل.. مرحلة حتى عام 1800 حين اعتمدت الأمور على الدول الاستعمارية . ثم من 1800 حتى عام 2000 حين اعتمدت على الشركات متعددة الجنسيات، ثم المرحلة من 2000 حتى الآن حين صارت مسئولية الأشخاص المتفوقين الأذكياء. ويطلق على المرحلة الثالثة اسم G3..

ليس فريدمان متشائمًا لكنه قلق، يشعر ان السيطرة الاقتصادية والتكنولوجية تفلت من الولايات المتحدة ..ويستشهد بكلام بيل جيتس: "حينما أقارن مدارسنا الثانوية بما أراه في الخارج أشعر بالرعب .. يظل طلبتنا حتى الصف الرابع هم الأفضل في العالم في الرياضيات والعلوم ، لكن في الصف الثامن يصيرون في الوسط.. حينما يبلغون الصف 12 يكونون في قاع التعليم .. عام 2001 تخرج في الهند مليون طالب جامعة أكثر من أمريكا، وهناك ضعف عدد طلبة البكالوريوس في الصين. ولديهم ستة أضعاف الخريجين الذين يدرسون الهندسة عندنا .. إن أمريكا تتهاوى"

دعك من افتقار الحافز لدى الطلبة.. في الصين بيل جيتس هو بريتني سبيرز بينما في أمريكا بريتني سبيرز هي بريتني سبيرز.

ثم يقدم فريدمان هذا الإنذار: " في عصر العالم المسطح ينبغي على الأبناء أن يدرسوا بجدية وإلا فاز بوظائفهم واحد في الهند أو الصين.. لن نجد إلا الدكتور كومار ليكون طبيب الحي، والمهندس كيماوا ليدير مصانعنا!.."



هذا يقود لاستنتاج عجيب هو أن انتصار العولمة يصاحبه انهيار مؤكد لأمريكا ! .. لقد فهم الآسيويون اللعبة ولعبوها أفضل من الأمريكيين ..

وماذا عن دورنا نحن في هذا كله ؟...لم يتجاهلنا بل خصص آخر 100 صفحة للكلام عن الإسلام العالمي وهو كالعادة يربطه بالإرهاب ويطلق على القاعدة اسم (الإسلاميين اللينيين) .. إنها التعبير الصادق عن فشل العرب في كل مجال آخر.

كعادته يرى فريدمان أن العرب خسروا معركة العولمة ولا دور لهم في اقتصاد السوق والتجارة الحرة والديموقراطية، وبالتالي لا دور لهم إلا كخطر محتمل في القرن الحالي. ويرى أن أمريكا قللت اهتمامها بالتكنولوجيا بسبب انشغالها بالنظر للشرق الأوسط . في هذه اللحظة بالذات وثب العالم للأمام وأسرعت الثورة التقنية. إن التقدم يصنعه أشخاص في الهند والصين، وحتى القاعدة فهمت ثورة الاتصالات بطريقتها.

إنه تحذير لكنه ليس متشائمًا كما قلنا وهو ما يراه بعض الأمريكيين نوعًا من الحمق، لأن بوادر الكارثة بدأت فعلاً... أن الآسيويين سريعو التعلم .. ومعدل ذكائهم أعلى 10 مرات من الأمريكان. وقد تحركوا من أسفل سلسلة الانتاج البسيط الذي يديره الأمريكان إلى تصميم أدوات جديدة ثم تصنيعها. ويعتقد المتشائمون من خصوم فريدمان إن الآسيويين سيسيطرون على كل شيء فلا يبقى للأمريكيين إلا التوزيع في بلادهم. والحقيقة المقلقة لهم هي أن المهاجرين الهنود المتميزين يتركون الولايات المتحدة ويعودون لبلادهم !!

كتاب ممتع بلا شك ككل كتابات هذا الوغد الظريف طلق اللسان. إنه يخبرك أن العالم سيكون رائعًا لكنك ستضيع لو لم تتنبه إلى ان وظيفتك سيفوز بها صيني أو هندي في أقرب فرصة .




بيجاسوس 22-07-07 09:23 AM

عقل بلاجسد..



عندما شطر (روذرفورد) الذرة ذهب إليه صحفي أمريكي يغطي الخبر .. واقترح عليه أن يصوره في ثلاث صور: الصورة الأولى له جوار الذرة .. الصورة الثانية له وهو يكسر الذرة .. الصورة الثالثة له وهو يقف باسمًا جوار أجزاء الذرة المشطورة !

نفس الشيء ينطبق على (ستيفن هوكنج)الذي مزج بين جاذبية (أينشتاين) وميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]ا الكم.. نعرف جميعًا أنه اكتشف شيئًا مهمًا جدًا لكننا لا نفهم ما هو بالتحديد ..

بالنسبة للغربيين هو رمز بصري شهير مثله مثل (غاندي) و(جيفارا) و(شابلن) .. حقًا لا يفهمون بدقة ما يتكلم عنه، لكنهم ينبهرون وكفى ...

(ستيفن هوكنج) .. العالم البريطاني الذي اعتبره الكثيرون (أينشتاين) آخر .. إنه أستاذ رياضيات في (كمبردج) يشغل ذات الكرسي الذي شغله (نيوتن) يومًا ما.

هناك في بناية الفيزياء القديمة المتسخة في (كمبردج) يراه الطلاب بوجهه الضحوك وعينيه الزرقاوين الماكرتين، حتى ليبدو كطالب مثلهم .. لكنه يتحرك على مقعده المتحرك الذي لا يفارقه .. فقط يضغط بأنامله على أزرار تتيح له أن يوجه المقعد، ثم على أزرار أخرى تتيح له الكلام وإلقاء المحاضرات، فيخرج الصوت من الجهاز كأنه روبوت يتكلم .. هذا هو الرجل الذي تغير نظرياته الكون، وكأن الأقدار اختارت أن يرمز هذا الرجل الذي لا جسد له إلى إنسان المستقبل .. مجرد عقل على مقعد متحرك.

كرس (هوكنج) حياته لدراسة مفاهيم الزمن والفضاء كما شرحتها النسبية. ويقول عن نفسه:

"انبهرت طيلة حياتي بالأسئلة المرعبة التي تواجهنا، وحاولت أن أجد تفسيرًا علميًا لها. كيف نشأ الكون؟..السؤال واضح ويبدو سهلاً بدرجة خادعة .. لكن الإجابات بعيدة عن متناولنا حتى الآن.. إن فكرتنا عن الكون اليوم صارت غريبة حقًا ..الانفجار الكبير .. الثقوب السود .. الخ"

ولد عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية، في ذات اليوم الذي يكمل 300 عام على موت (جاليليو) أول من غير مفهوم الكون بالنسبة لنا، وانتزع الأرض من مكانتها الجميلة كمركز الكون لتصير تابعًا لنجم متوسط الحجم . فهل لهذا التاريخ معنى ما ؟

عاش أبواه في لندن حيث كان أبوه يدرس الطب، فلما كبر دخل جامعة أكسفورد ليدرس الرياضيات برغم اعتراض أبيه، ثم نال منحة تفوق ليدرس في كمبردج وأثناء الامتحانات النهائية لاحظ أنه يتصرف بشيء من الخرق، فطلبت منه أمه أن يرى طبيبًا .. تم تشخيص داء (لو جيريتش) العصبي عام 1963، وهو مرض قاتل يطلقون عليه أيضًا اسم (التصلب الجانبي الأميوتروفي) .. وسرعان ما تدهورت حالته وتوقع الأطباء أنه لن يعيش حتى الدكتوراه. صدم الفتى الذي لم يجن ثمرة شبابه الغض بعد وانهار وقضى وقته في الحانات.. لكنه لسبب ما عاد ليواصل الدراسة ..كان معجبًا بفتاة معينة وقدر أنه بحاجة إلى الحصول على الدكتوراه كي يجد ما يكفي من مال ليتزوجها. حصل على الدكتوراه عام 1966 من ثم تزوج وصار أبًا لثلاثة أطفال. وارتقى حتى صار أستاذ فيزياء الجاذبية عام 1977.

في الستينات آمن (هوكنج) بأنه لو كان الكون يتمدد فلابد أن ميلاد الكون شهد ظاهرة غريبة يسمونها (التفرد) وهي لحظة توحد الزمان والمكان. عام 1969 برهن مع طبيب بريطاني آخر على أن الكون بدأ من نقطة لا متناهية الكثافة، وهذا معناه أن للزمن بداية. في السبعينات درس الثقوب السود مستخدمًا ميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]ا الكم، وبرهن على أنها قد تشع الطاقة.. كان هذا فتحًا جديدًا لأننا نتصور الثقب الأسود كالبالوعة .. يمتص كل شيء ولا يخرج منه شيء على الإطلاق بسب جاذبيته المرعبة. معنى هذا أيضًا أن الثقب الأسود يمكن أن يزول .. إن معدل بقاء الثقب الصغير عشرة آلاف مليون سنة .. وعندما ينحل تنبعث منه جزيئات جاما. وقد أطلق العلماء على النظرية اسم (شعاع هوكنج).

كان رأيه أنه أثناء الانفجار الذي كون الكون وجدت كتل تزن عشرة أس تسعة طن لكنها بحجم البروتون، أي أن هذه الثقوب السود الضئيلة في حجم جزء من الذرة، لكن كتلتها تفوق جبل إفرست.

الزمان والمكان محددان لكنهما بلا حدود أو حافة .. لا يوجد تفرد، وقوانين العلم سارية دائمًا حتى على تكوين الكون. طبعًا لا أفهم حرفًا لكن من يفهمون هذه الأمور قالوا إنه كلام مهم جدًا.

عام 1985 أصيب وهو في جنيف بالتهاب رئوي، وقد اقترح الأطباء على زوجته أن تتركه يموت لكنها لم تقبل هذا وطارت به إلى إنجلترا حيث أنقذ حياته جراح بريطاني، لكنه فقد صوته نتيجة هذا. هكذا تم تزويده بكمبيوتر يسمح له بإطلاق صوت الكتروني.

باستعمال هذا الجهاز وجهاز آخر لتقليب الصفحات كتب (موجز تاريخ الزمن) الذي احتل قائمة أفضل المبيعات أربعة أعوام كاملة، وهو ما لم يحدث في التاريخ، حتى أنه دخل موسوعة (جنيس).

عامة فلسفة (هوكنج) التي قدمها لعلمي الفيزياء والفلك هي مزجه بين نظرية أينشتاين حول الجاذبية التي تسير حركة الكون ونظريات ميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]ا الكم التي تقول إن المادة على الصعيد الذري تعمل بشكل عشوائي. والنظرية الأخيرة لم يقبلها (أينشتاين) قط لكن (هوكنج) برهن على أنها ممكنة.

(هوكنج) اليوم في الثالثة والستين، وقد نال تكريمًا يكفي عشرة علماء .. لا شك في أنه يستحق لأنه مزيج من العبقرية وتحدي الإعاقة معًا.. لقد أعدته الأقدار لمهمة كشف أسرار الكون، لهذا لم تمنحه إلا العقل .. وسلبته كل شيء آخر.





بيجاسوس 22-07-07 09:25 AM

تدين وروشنة وسيارات مرسيدس !... أحمدك يا رب !!



التغيرات الاجتماعية التي تراها مصر في الآونة الأخيرة عاصفة وعاتية ومن المحتم أن تلد شيئًا ما .. هناك أشياء لم يكن أحد يجسر على التفكير فيها بها منذ خمسة أو ستة أعوام، واليوم صار الكلام عنها مملاً.. الأمثلة كثيرة ويصعب حصرها، لكن العقل يستحضر من على السطح البرنامج التلفزيوني المذاع على الهواء الذي يتشاجر فيه أبو الفتاة الحامل مع أبي الفتى الذي غرر بها، ولا هدف للبرنامج إلا تقديم نوع مسل من مصارعة الديوك للمشاهدين أثناء تناول العشاء .. المعارك الطائفية تبرز للسطح بوضوح تام ويتم تداولها بلا همس، ويقول أتباع كل دين عن الآخر ما لم تتصوره إلا في كوابيسك .. النقد الصريح جدًا الموجه للحاكم وابنه دون أن يدل هذا على مكسب حقيقي في الحريات .. بل إن الحكومة استغلت هذه الجرأة كالعادة لصالحها، ووضعت المعارضة في خانة معدة لها سلفًا هي خانة (أيها العالم ..كيف لا أكون ديمقراطية وهم يشتمونني بهذه الجرأة دون أن أسحلهم في الشوارع ؟).. والمعارضة متحمسة لا تعرف أنها تلعب دورًا رسم لها من قبل ألا وهو تجميل النظام.. والحقيقة – كما يقول د. جلال أمين - أن هذا التسامح يمكن أن ينقلب على الفور لو عبثت بواحد من مقدسات الحكومة الحقيقية مثل (الكويز) وتصدير الغاز لإسرائيل أو دعوت إلى عصيان مدني وهو الحل الوحيد الممكن لإسقاط النظام .. عندها سترى أنياب الدولة الحقيقية ..

واحدًا تلو الآخر يتهاوى أحد التابوهات السابقة. يقول الزميل مؤمن المحمدي في مقال له بالدستور: "عندما يغني اللنبي ( وقف الخلق) وهو ثمل فإنه يخرق اثنين من المقدسات: الأغاني الوطنية وأم كلثوم التي اعتدنا أن نعتبرها مصر بشكل ما .. "

لكن التغيير الذي وجدته فاحشًا ويهدم الكثير من المسلمات عندي هو هذا (الفجر) – بضم الفاء – الذي تتعامل به الإعلانات التلفزيونية هذا العام ..

في دراسة ممتعة في (الإيكونوميست) قرأت عن تجربة قام بها أحد أساتذة سيكولوجية الإعلان الذي قال إن هناك طريقتين للإقناع .. الطريقة ألفا التي تقوم على ترغيبك في السلعة، والطريقة جاما التي تقوم على إزالة مقاومتك .. الإغراق مهم جدًا للطريقة جاما .. دعك من التظاهر بالدقة .. عندما أرسل هذا العالم تلاميذه يتسولون خمسة دولارات لم ينل أحدهم شيئًا، بينما عندما تسولوا سبعة دولارات ونصفًا حصلوا عليها !... إن مبلغ سبعة دولارات ونصف معقد لا يسمح بالتفكير ويزيل بالتالي مقاومتك غير الشعورية .. هذا يفسر الـ 19.99 الشهيرة في أسعار السلع ، ويبدو أن سيكولوجية الإعلان عندنا تلعب على الطريقة جاما لكنها كي تهدم مقاومتك تحاول تسفيه ما كنت تؤمن به من قبل .. أنت كنت مخدوعًا واهمًا .. فلتفق وتشتر سلعتنا ..

منذ زمن بعيد وقيمة الكفاح والعمل معنى مقدس لا يمكن المساس به، لكن إعلانات التلفزيون اخترقت هذا التابو ببساطة .. المهندس عباس كافح في تعمير الصحراء عشرين سنة حتى صار شيخًا أصلع مهدمًا واشترى سيارة مرسيدس .. يا له من أحمق !.. بينما الولد الروش فلان أتصل برقم هاتفي من (0900) وعلى الفور حصل على نفس السيارة .. !

هكذا في ثوان سخر الإعلان من قيم الكفاح ومن تعمير الصحراء ومن كل شيء .. لم تعد هناك قيمة في العالم إلا الروشنة والاتصالات ..

بدأ الأمر على استحياء مع بداية الانفتاح في أوائل الثمانينات، عندما سمح التلفزيون لمظاهرة شعبية بأن تظهر على شاشته .. كانت مظاهرة تردد من حناجر بحت بالهتاف: مش عاوزة سؤال طبعًا مينرال !.. هؤلاء ناس حملوا قلوبهم على أيديهم وودعوا أطفالهم من أجل القضية الوحيدة التي تهم ومن أجلها نضحي بكل مرتخص وغال: المياه المعدنية ..

بعدها رأينا مع هشام سليم كيف أن شرائح البطاطس المقلية هي العامل الوحيد الذي يجمع طبقات الشعب وكل فئاته .. وظهر أحمد السقا الذي يضغط عليه الزبانية ويعذبونه وهو مربوط في قبو مخيف، لكنه مصر على الهتاف من أجل قضيته: حاجة ساقعة ببسي .. ويوشك أن يقول: والله لأموتن عليها ..

الفتى (الروش) يعاني من أن أباه في العيادة طول اليوم لا يفعل شيئًا إلا أن يعد المال .. لكن أنا (مكبر دماغي وبشرب مش عارف إيه كده)..

حتى طريقة نطق الحروف السريعة ذاتها توحي بالاستهتار .. هناك مذيع إعلانات لا أعرف اسمه لكنه دخل هذا المجال مع ظاهرة (طارق نور) في بدايات الانفتاح، ويوشك أن يكون المذيع الأوحد الآن. هو الذي نسمع صوته يقول: (أمييير كرارة) في البرنامج الشهير .. هذا الصوت الرفيع المنبهر دائمًا يعبر أصدق تعبير عن السعار الاستهلاكي الذي أدخلنا فيه السادات، فلو كان لهذا السعار صوت لكان صوته .. الحق نفسك .. وفر فلوسك .. انسف .. جدد .. اشتر الآن ..

المجال الثاني الذي خرقت فيه الإعلانات التابو هو مجال الدين .. هذه ظاهرة ذكية أخرى تستغل (إيمان الروشنة) تلك الظاهرة الجديدة التي تغزو أوساط الشباب .. الشباب الثري أو المستريح يشعر بتأنيب الضمير بين دنيا مغرية ودين يناديه فيتخذ هذا الحل الوسط . اللحية الأنيقة القصيرة والبدلة السوداء والعطر الفاخر والموبايل مع التدين .. هكذا يشعر بأنه جمع بين الدنيا والدين، وهذه الظاهرة هي التي أفرزت الحجاب الذي يُلبس على الجينز أو الثياب الضيقة مع ماكياج كامل يدغدغ في الرجل الشرقي ذكريات عصر الجواري؛ فالفتاة تلبس ما تحب لكنها تضع إصبعيها في عين من يجرؤ على أن يطالبها بالحجاب الصحيح.. ولو لم تجد لها مكانًا محجوزًا في الجنة فلسوف تندهش بحق. من أفضل ما أفرزته هذه الظاهرة على كل حال ذلك الشاب عمرو خالد الذي هو صورة أنيقة معاصرة للداعية، والذي ينسخ الشباب محاضراته ويتداولونها عبر شبكة الإنترنت ..لم ترحم الإعلانات ظاهرة التدين هذه وقررت أنها مفيدة جدًا .. لقد انتهى عصر صوت محمد الطوخي الوقور المتهدج الذي يقول : وهبة الجزء عشرة جنيهات .. للمرة الأولى نسمع عن حج خمس نجوم وعن إيمان الموبايلات .. هناك إعلان جذاب يسمع فيه الشباب أغنية دينية من الموبايل فيتركون لعب الاسكواش – نشاط الشباب المصري المعتاد – ليلبوا النداء.. وهكذا تصل الرسالة: اشتروا خطوط الموبايل الجديدة واعطوني مالكم كي ننعم جميعًا بلذة الإيمان ومستقبل باهر في حب مصر ..

ماذا يفعلون بك يا وطني ؟.. هل هم شياطين تتحرك طبقًا لخطة مرسومة أم هم مجرد بلهاء متخبطين لا يهمهم إلا الثراء ؟.. لا أدري . لكنني أرى مستقبلاً باسمًا من الشباب الروش الذي يكسب سيارة مرسيدس بالموبايل ويتبادل الأغاني الدينية ويؤمن أن المهندس عباس الذي عمر الصحراء أحمق .. فقط أدعو الله أن يقبض روحي قبل أن أقتنع وأجري أول اتصال برقم (0900) اللعين !




بيجاسوس 22-07-07 09:26 AM

ما حدش يعلمني غلط



لابد أنك جربت هذه التجربة أو تذكرها منذ أيام المدرسة .. هات طبقًا مليئًا بالماء وثبت شمعة فيه.. ثم أشعل الشمعة واقلب كوبًا منكسًا فوقها .. سوف تبقى مشتعلة بضع ثوان ثم تخمد ويمتلئ الكوب بالدخان الأبيض ويرتفع الماء فيه .. لماذا حدث هذا ؟... كل الناس تعتقد وكل الكتب المدرسية تفسر ما حدث بأن النار استهلكت الأكسجين في الكوب مما أدى إلى دخول الماء إليه ليملأ نفس الحيز وهو حوالي الخمس.. هذا ما وجدنا عليه آباءنا وهذا ما علمته لابني .. إلى أن وقع في يدي كتاب (الفيزياء المسلية) لكاتب روسي مشاغب هو (ياكوف بريلمان) مشكلته في الحياة هي أن يخبرك بأنك – البعيد – لا تفهم .. بريلمان يقول إن هذه التجربة وصفها الفيزيائي القديم فيلون البيزنطي منذ ألفي عام وقد فسرها بشكل صحيح .. يمكن أن تتم التجربة لو اكتفينا بتدفئة الكوب من دون نار، أو لو استعملنا قطنة مبتلة بالكحول تشتعل وقتًا طويلاًَ.. فالماء عندها سوف يصل لنصف الكوب وليس لخمسه .. ثم أن الأكسجين المحترق لن يختفي من الوجود بل سيخلف ثاني أكسيد كربون .. إذن ليس الموضوع هو احتراق الأكسجين لكنه ارتفاع حرارة الهواء بالكوب مما يؤدي لنقص ضغطه وبالتالي يندفع الماء للداخل تحت تأثير الضغط الجوي ..

هل تريد المزيد ؟.. مثلاً لا يوجد شيء يدعى قوى الطرد المركزي التي تتخيل أنها هي ما يقذف بك من باب السرفيس عندما يدور به السائق المسجل خطر بسرعة في المنحنى .. ما يحدث هو قوة القصور الذاتي تتحرك على مماس دائرة .. طبعًا هذا لن يهمك وأنت تطير في الهواء لتضرب الرصيف لكن يجب أن تعرف اسم القوة التي جرحتك أو فتحت دماغك..

في طفولتي كنت أريد أن أكون ضابطًا ثم كبرت فتمنيت أن أكون طبيبًا وكبرت أكثر فتمنيت أن أكون مفتشًا في الرقابة الإدارية (وهذه ليست دعابة) !... احتجت إلى أربعين عامًا كي أفهم أن مهنة المدرس هي أهم مهنة في الكون، وأن المدرس هو من يصنع الضابط والطبيب ومفتش الرقابة الإدارية ..

أنا قد تعلمت على أيدي أفضل معلمين على الإطلاق عندما كاد المعلم أن يكون رسولاً فعلاً.. كانوا يخافون الله ويراعون ضميرهم ولولا أننا كنا مراهقين قليلي الأدب لقبلنا أيديهم صباحًا ومساء، لكنهم لم يفطنوا هم أيضًا لمعنى اختبار المعلومة وتفنيدها .. اذكر كيف أن مدرس العلوم لوح بالخيرزانة في الهواء وقال لنا: "ج = م X ت .. حد عنده اعتراض ؟"

هكذا ثبتت المعلومة في أذهاننا للأبد !!.. الجهد يساوي حاصل شدة التيار في المقاومة بلا تجارب ولا وجع دماغ .. ولم نتساءل قط لماذا ؟.. ولم نتخيل ماذا لو لم يساو جيم ميمًا في تاء ؟ ..

هناك مشكلة حقيقية في فلسفة التعليم في مصر هي أعمق من مشاكل الدروس الخصوصية والسنة الابتدائية السادسة .. التلقين هو الأساس ولا يتم أبدًا البحث عن المعلومة بشكل جدلي .. حتى هذا التلقين قد يكون خطأ كما رأينا في المثال الأول لأن كل الكتب المدرسية تصر على أن نقص الأكسجين هو السبب، بينما فهمها فيلون البيزنطي منذ عشرين قرنًا ..

هذا يؤدي إلى ان الطريقة العلمية ذاتها مهتزة لدى الكثيرين .. بل لدى من يفترض منهم أن يعلموا الطريقة العلمية ذاتها .. لا اخفي سرًا إذا قلت أن أكثر أعضاء التدريس – باستثناء من هم مختصون بهذا - لا يفهمون مبادئ الإحصاء ولا كيفية تصميم بحث علمي ..

هذا كلام مهم جدًا، وأراه السبب الوحيد الذي يجعل أمريكا قادرة على ضربنا بالجزمة .. بعبارة أخرى هم هزمونا بأفكار (كانط) و(ديكارت) . بطريقتهم العلمية وفهمهم الصحيح للبحث العلمي..

عندما دخل عقار (دي دي بي DDB) مصر – وهو ما يطلقون عليه (الحبة الصفراء) - قرأت بحثًا طريفًا يحمل اسم وزارة الصحة قامت فيه بالتالي: أعطت العقار لمجموعة مرضى بالتهاب الكبد (سي) ثم لاحظت وظائف الكبد ونسبة الفيروس في الدم لعدة أشهر ووجدت تحسنًا ملحوظًا !.. بس كده .. j fpeWh



هنا تشد شعر رأسك .. ألم يسمع هؤلاء عن محموعة ضابطة ؟.. مجموعة لا تتلقى علاجًا أو تتلقى علاجًا مختلفًا أو تتلقى علاجًا وهميًا اسمه (البلاسيبو).. لابد من مجموعة ضابطة لتقارن النتائج أما البحث بهذه الصورة فلا يجرؤ تلميذ في الصف الثالث الإعدادي على تقديمه لمعلمه ..

عندما اكتشف (رو) مضاد الدفتريا السمي جاء بمجموعتين من مرضى الدفتريا .. حقن أطفال المجموعة الأولى ولم يعط شيئًا لأطفال المجموعة الثانية .. بدأ أطفال المجوعة الأولى يشفون على حين تدهور أطفال المجموعة الثانية .. هنا لم يتحمل قلبه الرحيم أكثر .. لا يمكن أن يقتل الأطفال لمجرد البحث العلمي .. هكذا قام بحقن نفس المضاد لأطفال المجوعتين .. شفي البعض ومات البعض ..

لكنه جاءت اللحظة المحتومة عندما جلس كالديك المبتل أمام أستاذه العظيم (كوخ)... القيصر كوخ .. سيد العلم الألماني الصارم .. حكى له ما فعله فكان رد كوخ القاسي هو: لقد سمحت لقلبك بأن يفسد التجربة وبهذا جنيت على ملايين الأطفال الذين سيصابون بالدفتريا في المستقبل .. هؤلاء سيموتون لأنك لم تكمل تجاربك كما يجب ولأن العالم افترض أن علاجك فعال وآمن .. من أدراك أن الأطفال الذين شفوا شفوا بفضل علاجك ؟... لماذا لا يكونون قد شفوا من تلقاء أنفسهم ؟.. أحيانًا تتصرف الدفتريا بهذا الشكل وتشفى بلا علاج .. ربما لو استكملت التجربة للنهاية لوجدت أن عقارك غير ذي جدوى !

كان هذا هو كوخ العظيم يتكلم .. يتكلم فلم نصغ له ولم تصغ له وزارة الصحة في بحثها الذي بالتأكيد تكلف الكثير ..

لو تعلمنا طريقة التفكير العلمية لكففنا عن الذعر المضحك من كسوف الشمس كما حدث منذ أعوام، ولكففنا عن الالتفاف حول بائع دائرة الاستقبال السحرية التي تعمل (بنظرية الأيونات) عند محطات المترو، دون أن يعرف هو ولا أنت معنى نظرية الأيونات هذه .. هذه هي قشرة العلم لا العلم نفسه، مثلما تستعمل برامج المسابقات التلفزيونية الكمبيوتر كمجرد وسيلة إيضاح ملونة رخيصة، لكن الصورة من بعيد ترضي المسئولين: لقد صرنا نجري المسابقات بالكمبيوتر !.. ولكففنا عن تصديق طب الأعشاب غير المجرب .. لو تعلمنا طريقة التفكير العلمي لعرفنا لماذا تساوي جيم ميمًا في تاء ...!



بيجاسوس 22-07-07 09:27 AM



رسالة كراهية حارة صادقة !


في ذروة قصة عبدة الشيطان إياها (التي اتضح أنها تلفيقة كبرى) كنت أقف عند (عبده) بائع الجرائد في حينا جوار طفل صغير يشتري علبة ثقاب، أطالع بلا احتفال عناوين الصحف التي امتلأت بأخبار عبدة الشيطان .. وكانت هناك صورة لطالب وطالبة يقفان في الشارع يتمازحان، وقد وضع المحرر علامة سوداء على العينين لهما مع تعليق عبقري يقول: "التقيا في ميدان التحرير واتفقا على عبادة الشيطان !"

كنت أقرأ هذا الهراء حينما دنا منا رجل يبدو أنه مخبول تمامًا .. راح يرمق عناوين الصحف ثم راح يصيح بعينين زائغتين والزبد يسيل من شدقيه: "دول لازم يُحرق حيًا (هكذا) !" .. ثم انطلق في وصلة سباب للأقباط وكيف أنهم أقسموا ألا ينزعوا اللون الأسود إلا عندما يرحل الإسلام عن مصر .. لم أفهم ما دخل الأقباط في الموضوع ؟.. الكلام كله عن عبادة الشيطان إن لم تخنني الذاكرة .. كان مجنونًا تمامًا فلم أرد عليه حتى انصرف طبقًا لقاعدة (ما دام ما مدش إيده خلاص) ..

هنا رأيت (عبده) البائع يميل على الطفل الراعش ممتقع الوجه ويسأله في رفق:

ـ"عاوز حاجة تانية يا (مايكل) يا حبيبي ؟!"

هل فهمت ؟ .. هذا الأداء المسرحي المرعب الرائع كان أمام طفل قبطي بريء !!.. فما الرسالة التي تلقاها هذا الطفل ؟.. وما العق دة التي غرست في روحه ؟.. وكيف سينظر بقية حياته لي أنا أو البائع المسلمين اللذين بالتأكيد لا نريد حرقه حيًا ؟..

هذه هي المشكلة .. أنت تزرع الكراهية بلا توقف ثم تتوقع أن تحصد التسامح .. منذ ثلاثين عامًا والناس تتعامل على أن كراهية المسيحيين ركن جديد من أركان الإسلام .. الرجل يسرق ويزني ويكذب ويتكاسل عن العبادات، لكن حينما تأتي سيرة الأقباط تشتعل النار في عينه ويتحول إلى المدافع الوحيد عن دين الله .. هل نندهش بعد هذا لو تعامل الأقباط بالمثل ؟.. النتيجة أن هناك اليوم الكثيرين من المتعصبين وسط الأقباط يعاملون المسلمين نفس المعاملة وأسوأ .. ألا رحم الله العظيم أحمد بهاء الدين الذي حذر من انتشار شريط (ديدات) و(سواجارت) في بيوت المصريين، وقال كلمته التي لن أنساها بعد عشرين سنة: "كأن النار بحاجة إلى من يسكب عليها هذا البنزين ! .. إن هذا الشريط مقبول في الغرب حيث يوجد انفتاح ثقافي يسمح بهذا الجدل الديماجوجي ..لكن ليس عندنا "..

لم يصغ له أحد وظل المصريون يتداولون الشريط كما يتداولون شرائط المصارعة الحرة ..

نصحنا المفكرون كثيرًا أن هناك فارقًا بين معاداة اليهود ومعاداة الصهيونية ، بينما تجد أن عبارة كراهية اليهود شائعة في الأدبيات العربية .. هكذا تلعب إسرائيل على نغمة ذكية كالعادة هي أن العرب لا يكرهونها إلا لأنها دولة يهودية .. ليس لأن الصهاينة نازيون وقتلة ولصوص أرض ولكن لأنهم يهود.. والعالم الغربي على أتم استعداد لتصديق هذا ..--

نفس الشيء يحدث على نطاق عالمي واسع .. اليمينيون على الطرفين ازدادوا تطرفًا .. يكفي أن ترى مجادلات المسلمين والهندوس في أي منتدى يضم الاثنين لتصاب بالرعب ..

المشكلة أن الفجوة تزداد اتساعًا وصار من العسير جدًا إصلاحها .. كيف يمكن وقف عجلة الحقد الدائرة عند الطرفين ؟.. هل تتصور أن تدخل على مواقع هؤلاء المخابيل لتقول إن الإسلام ليس كذلك وإنهم يفهمونه خطأ .. الخ ؟

حجم الكارثة:

في الحقيقة أنا ضد نشر ما يقال عن الإسلام مهما كان شنيعًا، وقد قلت هذا للصديق الشاب الذي كتب مقالاً عن ذلك المدعي الذي هاجم الإسلام في مدونة على شبكة الإنترنت .. كان رأيي أن نشره لمقاطع من كلام المدعي يروج له أولاً.. ثم يهيج المشاعر بشكل لا يمكن التحكم فيه .. تصور أن يخبرك أحدهم أن فلانًا يتحرش بزوجتك ويعاكسها .. ثم يطالبك بأن تهدأ وتحكم العقل !.. أي عقل ؟.. المنطقي أن تأخذ سكينًا وتنطلق لذبح فلان هذا . إذن هذا البلاغ ليس سوى تحريض على القتل .. ما حدث في الاسكندرية نموذج جيد جدًا لهذا، ولولا قوة الدولة –التي ندعو الله أن تظل كذلك - لتساقطت الرءوس ..

لكنني قررت خرق قاعدة عدم الكلام هذه عندما بدأت أعي حجم الكراهية الموجهة ضد الإسلام، تلك التي شعرتها في شبكة الإنترنت وتنذر بخطر عظيم .. عندما سقط مركز التجارة العالمي أعلن (أسامة بن لادن) أن العالم انقسم إلى فسطاطين .. هذا هو ما حدث بالفعل وما قام به حرفيًا ..

مؤخرًا ثارت ضجة حول اثني عشر رسمًا كاريكاتوريًا نشرت في الدانمرك وتظهر الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل لا يليق.. دخلت شبكة الإنترنت لأعرف تفاصيل الموضوع معتقدًا أنه ذات العبث التقليدي الذي يتكرر من حين لآخر .. فقط لأفاجأ بطوفان من الحقد والكراهية السوداء لم أتوقع وجوده وبهذا الحجم .. في أحد مواقع المدونات blog يعلق الغربيون وأكثرهم أمريكيون على غضبة العالم الإسلامي على هذا الكاريكاتور (قمت بحذف ما هو مستفز أو فاحش أكثر من اللازم):

يقول أحدهم: " إن قيم حرية التعبير هي كفر بالنسبة لهؤلاء المسلمين .. لا جدوى من التهدئة .. يجب إبادتهم نوويًا .."... فيرد آخر: "إن الدانمركيين يضربون أنوفهم بأصابعهم ساخرين من المحمديين .. آخر الحملات الصليبية قد بدأت يا شباب وعلينا أن نلحق بها .."

ثم هناك اكتشاف لغوي جديد هو كلمة يطلقونها على المسلمين ومركبة من كلمتين .. إنها Koranimals التي لن أترجمها لكن أي طفل يعرف معناها .. ويبدو أن أحمق ما أصدر فتوى بإباحة دم رسام هذا الكاريكاتور .. تلك الفتاوي التي تثير العالم علينا ولا تقدم ولا تؤخر ..هكذا تحول الأمر إلى قضية رأي حر يحاول المسلمون وأده، بدلاً من مجرد رسام قليل الأدب تجب مقاضاته ..

يطمئنهم أحدهم أن سلمان رشدي ما زال حيًا .. إذن هؤلاء المسلمون غير جادين .. فيقول آخر إن مترجم رشدي الياباني مات طعنًا .. مترجمه الإيطالي ضرب .. انفجر الفندق الذي يقيم فيه مترجمه التركي ومات 37 شخصًا .. وناشره النرويجي مات رميًا بالرصاص .. هذه المعلومات العجيبة لم أسمع بها من قبل لكنها ضخمة إلى درجة انك تبتلعها لأنه لا أحد يكذب لهذه الدرجة ..

يقترح أحدهم: "لماذا لا نبدأ حملة رسوم متحركة ونضع عصا في عش الدبابير ؟؟ لماذا لا نرسم كاريكاتورًا يبدو فيه المسيح وهو يلوم محمدًا على دعوته للعنف ؟" فيرد آخر : "هم يعرفون أنهم لا يستطيعون الدفاع عن الإسلام بينما الجميع يعرف حقيقة هذا الدين ومؤلفه .. لذا يحاولون ذبح الحقيقة (كما حدث مع المخرج ثيو فان جوخ المخرج الهولندي).."

ثم تجد وصلة فائقة تقودك إلى موقع مخصص لقصة ستريبس رسمها من يطلق على نفسه (عبد العزيز) لكنه غربي كما هو واضح ، وعنوانها (محمد وأسلوب اتبعوني وإلا !!).. القصة تتجاوز كل الحدود وتمتلئ برسوم هازئة تسخر من كل ما يعتبره المسلمون مقدسًا .. لكنها رسوم متقنة رسمتها يد عالية الموهبة، وهنا مكمن الخطر لأنها تقوم بما يقوم به ألف مقال .. وفي الصفحة الأولى يقول الرسام ومؤلف السيناريو: "بما أن غربيين كثيرين قد اعتنقوا الإسلام، فإن عليهم أن يطبقوا الشريعة حرفيًا وإلا عوقبوا بتهمة الكفر، وهي عقوبه قاسية فعلاً !.. في الصفحات التالية نعرف ما يجب على المسلم الجيد أن يعرفه"

في الصفحات التالية يستعمل كل ما وردفي الأحاديث الضعيفة أو الإسرائيليات ليجعلها من حقائق الإسلام .. يتهكم على قصة ذي القرنين وحادثة شق الصدر والوضوء ويزعم أن الإسلام يدعو لذبح القطط والكلاب، وفي كل مرة يذكر ما يفترض أنه نص من القرآن أو الحديث أو صحيح البخاري يدعم ما يقول .. مع رسوم متقنة فعلاً، والكتاب بعد هذا قابل للتحميل مجانًا أو يشحن للعنوان الذي تحدده في سهولة تامة .. إنها رسالة كراهية حارة صادقة نفثها الفنان من أعماق روحه .. هذا هو ما يلخص الأمر ..

الحل:

هنا ألخص مقاطع كاملة من كتاب د. جلال أمين المهم عن عصر التشهير بالعرب والمسلمين. يقول الدكتور: "بعد ما كانت التهمة الجاهزة ضد من يعادي مصالح الغرب هي أنه شيوعي لا يؤمن بالله بالدرجة الكافية، صارت التهمة الموجهة له أنه يؤمن بالله أكثر من اللازم !.."

ثم يهاجم بقسوة مبدأ تحسين صورة الإسلام أمام الغرب .. هل يمكن تجاهل الفارق بين مخاطبة شخص حسن النية يريد الإنصات لك ومستعد لتصحيح ما لديه من أخطاء، مع شخص سيئ النية على استعداد لعمل أي شيء للإضرار بك وقضيتك ؟. وهكذا لن يفعلوا إلا أن يحجبوا صوتك عمن تريد مخاطبتهم، أو يستفزوك فتندفع لقول ما لم تكن تريد قوله.. إن لهجة الغربيين في الكلام عن الإسلام ليست ما يثير الرغبة في تحسين صورة الإسلام عندهم، فهم أساءوا الكلام عن شيء نبيل، ومحاولة تبرئة النفس أمام ظلمهم الصارخ لا تخلو من إذلال ...

يرى د. جلال أننا نرتكب أخطاء كثيرة عند الذهاب للغرب لتقديم شهادات حسن السير والسلوك هذه:

"الخطأ الأول هو صيغة (الإسلام لا يختلف عن المسيحية.. ما تظنونه مختلفًا عنكم ليس مختلفًا على الإطلاق) .. إن هذا يعني التنازل عن خصوصيتك بل التنازل عن الإسلام أصلاً.. وقد قال لورد كرومر منذ مائة عام: إن إسلامًا يتم إصلاحه لا يعود إسلامًا أصلاً..

"الخطأ الثاني هو التبرؤ ممن يكرههم الغرب عن طريق القول إنهم ليسوا مسلمين أصلاً، فلا أحد يحتكر فهم الإسلام الحقيقي، وحتى محمد عبده المجدد العظيم كان أكثر حياء من استخدام هذه التفرقة .. دعك من أن هذا المنطق مردود عليه لأن الغربيين سيسألونك من أين تعرف أن هذا الفهم الفاسد ليس معتقد الغالبية من المسلمين ؟

"الخطأ الثالث هو المبالغة في إظهار فضل المسلمين على الحضارة الغربية .. فالإسلام له ألف سبب يبرر وجوده غير أن يكون مجرد وسيط بدأت منه الحضارة الغربية ..

"الخطأ الرابع هو اعترافنا الضمني بأحداث سبتمبر 11 .. وهي حادثة لم يجر فيها أي تحقيق حتى اليوم فلماذا نقدم شهادة حسن سير وسلوك عن شيء لم يثبت بعد ؟

"حتى عناوين الندوات التي يدعونا الغرب لها غريبة . مثل (دور المرأة في الإسلام) أو (الإسلام في عصر الحداثة).. بمعنى أن هناك تناقضا واضحا بين الإسلام والحداثة لابد من الدفاع عنه .. فهل يقبلون أن ندعوهم إلى مؤتمر عن (استخدام المرأة كرمز جنسي في الإعلام الأمريكي) أو (تناقض تصرفات الحكومة الأمريكية مع نموذجها الأخلاقي ) ؟".

لا يوجد ما يقال بعد هذا الكلام سوى أن الخطأ خطؤنا قبل أن يكون خطأهم، ونشري لهذه الإساءات ليس مقصودًا به إشعال النفوس ولكن التجاهل الصحي.. إن محاولات الدفاع عن ديننا كأنه متهم وسط هذا السعار أقرب لإذلال النفس .. فلنتجاهل هؤلاء الحمقى ونتفرغ لفهم سبب تخلفنا ونظمنا القمعية وكراهيتنا للعلم، ولنحسن معاملة الآخر لأن التعصب لعبة لاثنين، والغرب لم يفعل سوى أنه يلعب ذات اللعبة التي نجيدها ..




بيجاسوس 22-07-07 09:30 AM

لماذا لم يشم عادل الورد ؟



امتحانات التيرم الأول للصف الثاني الابتدائي .. أشق طريقي وسط الزحام نحو اللجنة ممسكًا بكف (مريم) ابنتي الصغير إلى أن أصل للبوابة، فأدفع هذا وذاك من أولياء الأمور الذين يصرون على الوقوف أمام البوابة ليسدوها كأن هذا يجعل أطفالهم أذكى .. وفي النهاية أترك (مريم) لصف من العاملات مخيفات الشكل يناولنها لبعضهن يدًا بيد حتى تغيب في قدس الأقداس بالداخل، الأمر الذي يذكرني بمشهد الأب الذي ترك ابنته رهنًا لدى عصابة المخدرات في فيلم (الباطنية) إلى أن يجلب ثمن الحشيش الذي أخذه..

عدت في موعد الانصراف لآخذها بذات الصعوبة، خاصة مع أحجام الأمهات المرعبة كأنها حروب الديناصورات في العصر الطباشيري .. هنا لاحظت ظواهر عجيبة .. معظم الأمهات لم يعدن لبيوتهن قط وإنما ظللن طيلة فترة الامتحان على الباب يقرأن القرآن .. بعض الأمهات دامعات العيون، وثمة أم ترتجف وتتنفس بسرعة لتزيد قلوية دمها موشكة على الإصابة بحالة هستيرية.. بينما يخرج الأطفال مظفرين وقد بدا عليهم الغرور لأهميتهم المستجدة.. اكتشفت أن الأمهات يحملن جميعًا أسئلة الامتحان ليراجعنها مع الأطفال: جاوبت السؤال ده بإيه ؟.. قلت إيه هو لون القطة ؟.. الحتة دي مش في الكتاب..

ثم يتقلص وجه الأم من صعوبة الأسئلة وتردد بلا انقطاع: ولاد الكلب .. ربنا ينتقم منهم !.. ربنا ينتقم منهم !

سألتهن عن كيفية الحصول على هذه الأسئلة، فدللنني على صاحب مكتبة (شاطر) حصل على ورقة الامتحان وقام بتصويرها، وهو يبيع الورقة بعشرين قرشًا .. برغم إيماني بعبثية الموقف فقد وقفت في الطابور لأبتاع نسخة.. لن أكون الأب الوحيد الذي لم يشتر نسخة من الأسئلة ويكون علي أن أخبر أم العيال بهذا .. فقط رحت أتساءل عن الكيفية التي حصل بها هذا الأخ على أسئلة الامتحان، فلابد أنه يقتسم الأرباح مع أحد الإداريين بالداخل .. عشرون قرشًا في ألف ورقة خلال ساعة.. ليس مبلغًا سيئًا .. دعك من أنه حصل عليها بالتأكيد قبل مرور نصف الوقت كي يتمكن من تصوير كل هذه النسخ ..

عندما عدنا للبيت راجعت مريم الإجابات مع أمها، ثم تفرغت للاتصالات الهاتفية مع صاحباتها .. لماذا لم يشم عادل الورد ؟.. أنا قلت لأن عنده زكام .. مس هناء عدت علينا وقالت هي دي الإجابة الصح .. هكذا ظل الهاتف مشغولاً لمدة ساعتين ..

عندما تأملت في الموقف بعد ما هدأت الأمور وجدت شيئًا غير طبيعي وغير مبرر .. نحن نتكلم عن امتحان نصف العام للصف الثاني الابتدائي !... الصف الثاني الابتدائي !.. هل يستحق الأمر كل هذا الانفعال الزائد والتوتر ؟.. كل هؤلاء الصغار سينجحون بلا شك والمجموع لن يؤثر في مسار حياتهم، وإن لم أكن مخطئًا لن يحرمهم دخول كلية يحبونها..فماذا يصنعون في الثانوية العامة إذن ؟.. عندما لا يتناسب الانفعال مع المناسبة فإن ما تشعر به هو إحساس عارم بالسخف .. رجل يلطم خديه في الشارع لأنه لا يجد علبة الثقاب في جيبه ..

دموع وبكاء ومراجعات في الهاتف .. كل هذا من أجل (لماذا لم يشم عادل الورد ؟) و(ما لون القطة ؟).. هل هذا سلوك فسيولوجي ؟.. هل هذا سلوك عقلاني ؟.. هل هذا طبيعي ؟

في طفولتي – وأزعم أنني نشأت في أسرة مترابطة تهتم بأطفالها – لم يكن أحد يعلق أية أهمية على امتحانات من هذا النوع وبهذا الحجم .. في هذا الوقت كنت في مدرسة مجانية، ولم تكن (الأبله) قد أصيبت بذلك المرض المريع الذي حولها إلى (مس)، ولم تكن أعراض التحول إلى (مستر) قد أصابت الأستاذ .. كان المعلمون قومًا بارعين في مهنتهم ذوي ضمائر حية وثياب رثة – بالمناسبة - لأنهم لم يكونوا يحصدون الآلاف من الدروس الخصوصية... فقط كنت أخبر أهلي أن لدي امتحانًا غدًا فكانوا يعطونني الورق والأقلام اللازمة وينسون الأمر، ولم تبدأ هذه الهستيريا إلا مع دخولي الشهادة الابتدائية .. بدأت مع كثير من التحفظ ..

ما سبب هذا الذعر العام ؟

جاءني الجواب على الفور .. إنه الفراغ الروحي .. المصريون يفتقرون إلى مشروع قومي يضمهم ويوحد مشاعرهم لهذا يختلقون أي مشروع حتى لو كان (لماذا لم يشم عادل الورد ؟).. إنها الضغوط النفسية والاقتصادية والعاطفية والدينية تحاصر المصري الذي لا يجد طريقة لإخراجها إلا على باب اللجان .. فلابد من شماعة .. لابد من قناة لخروج كل هذا الضغط .. هكذا لا يجد المصري هدفًا إلا ذلك الطفل البائس ذا سبع السنوات الذي تقع على كتفيه الصغيرتين مسئولية كل شيء يحدث للأبوين .. وبما أن العصاب معد، فإن هذا التوتر ينتقل للطفل مع الوقت .. سوف يذهب إلى الامتحان شاعرًا بأنه مسئول عن آمال أمة وأحلام وطن .. وسوف يرتجف ويتوتر ويقضي الساعات على الهاتف يناقش لون القطة مع أصحابه .. اثنتا عشرة سنة من التوتر، ثم ينتهي وقوده في الثانوية العامة فلا يظفر إلا بخمسة وثمانين في المائة بعد كل هذه الصراخ .

الشخصية المصرية تعاني درجة عالية من التوتر العاطفي الذي يبحث عن مخرج .. مثلاً قد يأخذ هذا المخرج شكل توتر لا مبرر له كالذي رأيته على باب اللجنة .. هناك هواية صنع أبطال حتى لو كانوا من عينة شعبان عبد الرحيم لمجرد أنه قال (أنا باكره إسرائيل)...

د.(درية شرف الدين) شخصية عظيمة تظفر باحترام غالبية الناس، وقد تولت لفترة من الفترات رئاسة الرقابة على المصنفات ثم اضطرت للاستقالة بسبب ظروف خاصة .. هذا هو كل شيء .. ما حدث هو أن كثيرين حولوها لبطل قومي وأرسل أحدهم لجريدة يقول: هذه السيدة احترمت نفسها ورفضت أن تشارك في كل هذا الفساد فاستقالت !.. الغريب أنها لم تزعم شيئًا من هذا، وكل ما قالته هو أن ظروفها لا تسمح .. لكنه ذلك الجوع إلى بطل يحمل عنا العبء النفسي ويدفع ثمن أرواحنا..

الغضبة العارمة في قضية الرسوم الكاريكاتورية الدانمركية عظيمة ومفهومة، ولكن أين غضباتكم على نهب مصر وتزوير الانتخابات وتعرية الصحفيات وعلى احتلال العراق الذي يهين المصاحف في دورات المياه ؟. يحتاج الأمر إلى عالم اجتماع يفسر لنا هذا التناقض السلوكي عندما يهان الدين بيد الولايات المتحدة وعندما يهان بيد الدانمرك.

اتصلت بصديقي لأخبره بهذه الخواطر فوجدت الخط مشغولاً.. طلبته عدة مرات على مدى ساعة، وفي النهاية عرفت أن زوجته كانت تجري مكالمة طويلة مع أم (ندى) زميلة ابنته الطالبة في الصف الأول الابتدائي .. السبب هو أنهم - أولئك الأوغاد في المدرسة – قد أنقصوا درجتين من نتيجة الفتاة لأنها قالت إن لون القطة أسود بينما كتاب الوزارة يؤكد أنها بيضاء !.. الأم مصرة على تقديم شكوى وإعادة تصحيح الأوراق، بينما زوجة صديقي تقنعها أن كتاب الوزارة هو الحجة الأخيرة .. ما دام قال بيضاء يبقى بيضاء ... ثم أن هؤلاء لن ينصفوك أبدًا لأن التعليمات تقضي بأن يقللوا عدد من يدخلون الجامعات !

هكذا أنهت أم (ندى) المكالمة، ولن اندهش لو عرفت أنها ابتلعت أقراص الأسبيرين لتقتل نفسها بعد ما فقدت كل أمل في الغد ...

مصر تتحول يومًا بعد يوم إلى مستشفى مجانين كبير .. هل يدرك أحد هذه الحقيقة قبل فوات الأوان ؟





بيجاسوس 22-07-07 09:31 AM

أنا على أخويا وابن عمي



في فترة ما من حرب العراق، كانت المقاومة شيعية أساسًا قبل أن يقرر الصدر أن يحقن دماء رجاله، وكنت في تلك الآونة أتلقى سيلاً من الرسائل على بريدي الالكتروني خاصة بإحدى مجموعات الأخبار، وبالطبع كان اسم المرسل مستعارًا لكنه اسم (أصولي) جدًا.. كان محتوى الرسائل واحدًا تقريبًا .. الشيعة كفرة .. الشيعة خارجون على الملة .. البرهنة بالأدلة على فساد عقيدة الشيعة .. كل رسالة طويلة جدًا تحتاج إلى ساعة في قراءتها، ومعها عدد لا بأس به من الصور تظهر الشيعة وهم يمزقون أجسادهم بالجنازير أو السياط في الاحتفالات .. أو احد الأئمة يقبل طفلاً في شفتيه مع تعليق يقول : الشذوذ الجنسي ضرورة عند الشيعة .. الخ ...

يومًا بعد يوم تنهمر على الرسائل، ويمتلأ بريدي عدة مرات في اليوم .. هذا رجل كرس حياته لقضية واحدة يهون من أجلها كل مرتخص وغال ألا وهي أن الشيعة (موش تمام)..

في النهاية لم يعد الأمر محتملاً فكتبت ردًا على ذلك المخبول بحيث يُتاح للجميع في ذلك المنتدى قراءته .. قلت في هذا الرد: "عزيزي .. في الآونة الحالية التي ينتهك فيها الأمريكيون أعراض العراقيين، ويذبح شارون الفلسطينيين، لا يبدو أن هناك طرفًا قادرًا على القتال راغبًا فيه إلا حزب الله في لبنان وشيعة العراق، أي أن الشيعة هي الفئة الوحيدة التي تحارب الأمريكان والصهاينة في العالم الإسلامي كله .. فهل تعتقد بحق أن هذا أنسب وقت لإثبات أنهم كفرة فاسدو العقيدة ؟.. معنى كلامك أن من يحارب الأمريكان والصهاينة اليوم كافر .. وهي لعمري رسالة مريبة .. أنا لا أعتقد أنك عميل للمخابرات المركزية .. فقط أنا أعتبرك مجرد متعصب أحمق آخر ."

لم يرد الأخ المتحمس وأعتقد أنه كان ذكيًا، لأني أعددت له ردًا موجعًا على رده الذي لم يبعث به .. فقط تلقيت بضعة خطابات أكثرها من البحرين تؤيد ما قلت ، ولا احتاج لذكاء كبير كي أعرف أن مرسليها من الشيعة.. ودارت الأيام ثم بدأت سلسلة خطابات تتهم الوهابيين بكل شيء ممكن ..

الحقيقة أن هذا أثار دهشتي .. أولاً ليس هذا أنسب وقت لتصفية الخلاف بين المذاهب .. ليس والآنسة الحامل (لندي إنجلند) تجر عراقيًا عاريًا بحبل في عنقه . .. ثانيًا كنت أحسب أن الشيعة مسلمون وهذا كاف لجعلهم (من رجالنا) حسب تصنيف الأخ ابن لادن للفسطاطين، لكن هذه الخطابات تشعرك بأن الشيعة يعتنقون الديانة الهندوسية أو يعبدون النار ..

"فلنذبح بعضنا أولاً حتى لا يبقى سوى من هم على حق.. بعد هذا يصير القضاء على العدو سهلاً".. هذا هو شعار العرب الدائم الذي يصطدم مع بديهيات الاستراتيجية التي جعلت هتلر يتحالف مع الاتحاد السوفييتي ضد بولندا، ومع بديهيات الذكاء الشعبي الفطري الذي قال : "أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب .." فصارت الاستراتيجية هي: "أنا على اخويا وابن عمي والغريب"..

ليس التعصب داء عربيًا صميمًا، فقصص المذابح التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا تجعل قراءة تاريخ القرون الوسطى أقرب لقراءة قصص الرعب، وحتى في مصر تجد أن العلاقة بين الأرثوذوكس والبروتستانت غير طيبة على الإطلاق.. فإذا نحيت الدين جانبًا وجدت أن (الهوليجان Hooligans) البريطانيين يذبحون منافسيهم في مباريات كرة القدم حتى اشتهرت بريطانيا بأنها موطن التعصب الكروي .. أقول إن التعصب داء عالمي لكن هذا لا يعني أن نطالب بنصيبنا العادل منه ونتمسك به .. بل إننا نطالب بنصيب يفوق نصيب باقي الدول ..

عندما غزا صدام الكويت أبديت رفضي للموضوع أمام صديق تونسي، فاتهمني ومصر كلها بأننا عملاء لأمريكا .. ثم سألني في اشمئزاز: "حرام عليكم ..كيف ترسلون ألف طفلة (فتاة) للترفيه عن الجنود الأمريكيين ؟". جن جنوني غيظًا وقلت له إنه لو كان المتكلم مجنونًا فليكن المستمع عاقلاً.. هل تتخيل لجنة من الحكومة تطوف بالشوارع تختار من البنات أولئك اللاتي يصلحن لإمتاع الجنود الأمريكيين ؟.. و"متخافش يا حاج .. بنتك حتنام مع العساكر الأمريكان كام يوم كده وبعدين ترجعلك صاغ سليم".. تشاجرت معه لإهانته أولاً ولغبائه ثانيًا .. ثم فوجئت بأن صحفنا تروج ذات الإشاعة لكنها جعلت الفتيات بنات دولة عربية أخرى تؤيد صدام .. والمفترض أنهن يذهبن للتسرية عن الجنود العراقيين . وفي الحالتين الكل يصدق .. على كل حال يعتبر التشهير الأخلاقي والديني من الأسلحة العربية المحببة شائعة الاستخدام بدءًا بمستوى باتعة التي تشنع على سلفتها، وانتهاء بمستوى الدول ذاتها .. إن خصمك إما أن يكون كافرًا أو شاذًا جنسيًا أو – على الأقل – يبيع زوجته لمن يدفع أكثر ..

عندما وقعت الواقعة وسقط العراق رحت أرسل صور الدمار والضحايا لمن أعرفهم على شبكة الإنترنت.. ما ذنب أطفال العراق الذين وضعوا بين مطرقة الغزو الأمريكي وسندان طاغية غبي مغرور ؟.. يتلقى صديقي الكويتي هذه الرسالة فيرد علي في برود وقسوة قائلاً: " أطفال العراق حق يراد به باطل .. تذكر ان هؤلاء القوم تركوا صدامًا يحكمهم .. فهم إذن يستحقون ما يحدث لهم .. !" يا سلام !.. كأنه كان بوسع العراقيين الضغط على زر ليزول صدام لكنهم لم يفعلوا .. وهل تستطيع أنت يا صاحبي التخلص من حاكمك إذا أردت هذا ؟

لكن صديقي الكويتي مصر على موقفه في ثبات .. يرى أن مقاومة الأمريكيين عمل غير أخلاقي، وتشعر أنه يتمنى أن يرى كل عراقي يقتل وكل امرأة عراقية تغتصب وكل طفل عراقي يذبح .. ليكن .. لقد احتل صدام بلده ورأيه مبرر إلى حد ما .. إن دمه يغلي بالحقد فلا ألومه كثيرًا ..

قلت له إن رامسفيلد يتحدث عن سوريا في تحرش واشتهاء، فقال لي بنفس الفتور: "فليحتل سوريا !.. إن البعث هناك ليس أفضل حالاً من بعث صدام !!"

هكذا يتمنى ان يسقط بلدان عربيان شديدا الأهمية في قبضة الأمريكان لمجرد أن هذا يرضي لذة الانتقام .. وهكذا اتهمت بالسذاجة أو العمالة مرتين: عندما لم أقف مع صدام وعندما لم أقف ضد العراقيين ..

قصة أخرى وقعت عندما بدأ بعض الإرهابيين المتحمسين في ذبح السياح .. كنت خارج مصر وقرأت الخبر المروع في الجرائد، فأخبرت به زميل عمل مصريًا ممن يؤمنون أن سبب مشاكلنا كلها هو أن الرجال لا يطيلون لحيهم ويسمعون الأغاني .. قال في فرح وحشي: "فلتذهب السياحة للجحيم .. هي لا تقدم شيئًا للبلاد إلا النساء العاريات ".. حاولت أن أكلمه عن أن مصر لا تملك إلا موردين يتيمين للدخل هما السياحة وقناة السويس، وبالتأكيد يأتي السياح لبلادنا لأغراض أخرى غير عرض أجسادهم العارية أمام شبابنا، وأنه ليس من العدل ولا الدين في شيء أن تسمح للسائح بدخول البلاد ثم تذبحه، لكنه كان يرى أنني غافل عن الحقائق ولا افهم شيئًا .. وبشكل ما شعرت بأن منطقه يشبه منطق الأطفال .. يطلب لعبة فإذا لم ينلها قام بتحطيم كل ما لديه من ألعاب .. علي وعلى أعدائي يا رب ..

يبدو لي أننا العرب ميالون لبدء المعارك الخطأ في الوقت الخطأ .. لا دور للأولويات في حياتنا، كما أننا نملك استعدادًا هائلاً للتعصب .. صحيح أننا لا ننفرد به، لكننا حريصون على أن نستعمله بكفاءة ..

الحقيقة أن الحكام إفراز طبيعي لشعوبهم، وكيفما تكونوا يول عليكم .. مهما تبدل الحكام فلن يأتي إلا حكام هم النبت الطبيعي لهذه التربة العقلية التي تفتح النيران على الشيعة ونحن أحوج ما نكون لهم، وينصرون صدامًا وهو ظالم ويتخلون عن الشعب العراقي مظلومًا، ويرون أن ذبح السياح عمل بطولي ..

العقل العربي يحتاج لإعادة تثقيف والخروج من هذا المستنقع الضيق المتعصب الذي يحبس نفسه فيه، ولكن أين نبدأ ومتى وكيف ؟..




بيجاسوس 22-07-07 09:35 AM

برعم الوردة




يموت رجل الأعمال الملياردير وآخر كلمة يلفظها هي : (روزباد) أي برعم الوردة ... ترسل الصحف الأمريكية مندوبيها في تحقيق مرهق طويل لمعرفة كنه هذا الـ (روزباد).. يتحركون في كل إتجاه .. ما الذي مات الملياردير وهو يتمناه ؟ .. هو الذي أنشأ جنة صناعية كاملة اسمها (زانادو) فيها كل ما يشتهي .. في نهاية الفيلم نكتشف أن (روزباد) هي الزحافة التي كان يلعب بها في طفولته والتي اضطرت أمه لبيعها .. هكذا كبر الملياردير وامتلك أمريكا ذاتها لكنه ظل يتحرق شوقًا في عقله الباطن للعب بتلك الزحافة الصغيرة !... هذه هي القصة المؤثرة لفيلم (المواطن كين) تحفة (أورسون ويلز)، والذي يحكي قصة حياة ملك الصحافة الأمريكي (راندولف هيرست... )
عندنا في العامية المصرية نقول: "اللي ما شبعش على طبلية أبوه عمره ما يشبع".. وهو يفسر حالة الجوع النهم لدى كل هؤلاء المليارديرات الذين يملئون المجتمع المصري اليوم ولا يشبعون من النهب أبدًا .. السبب ببساطة أنهم لم يشبعوا في طفولتهم ..
ينطبق الكلام على المال ..
ينطبق على الحنان ..
ينطبق على الحب ..

***

كان يحبها بحق .. تلك الرائحة الوليدة للعواطف القادمة لتوها من المصنع بعد فك السيلوفان .. هذه أول مرة تستعمل فيها قلبك .. هل يعمل جيدًا ؟.. تذكر أننا ما زلنا في فترة الضمان .. رائحة المطر في الهواء والسكاشن التي تنتهي قبل الغروب .. والشعور الأليم بأنها ستنفد ..

السمراء المرهفة الرقيقة ذات عيني الغزال .. كان يملك تلك القدرة السحرية على رؤية الجمال في صديقة البطلة .. الحمقى ينظرون بإعجاب للبطلة، ويفوتهم أن يروا ويفهموا الكنوز التي لدى صديقتها الخجول الصموت .. عندما تقترب أنت وتنحني أمام العرافة المقدسة وتخبرها كم هي رائعة . كم هي أسطورية .. عندها تستحق وحدك أنهار اللبن والعسل التي ادخرتها لأول من يلاحظ ذلك .. أول من يدرك أنها أروع من صديقتها المفتعلة الملطخة بالأصباغ .


ويقول رفاقي: لن تفلح
ويقول رفاقي: هل تنجح ؟
أن ترقى درجات المذبح
وتبث الكاهنة العظمى
ترنيمة شجوى لا تبرح ؟


برعم الوردة




يموت رجل الأعمال الملياردير وآخر كلمة يلفظها هي : (روزباد) أي برعم الوردة ... ترسل الصحف الأمريكية مندوبيها في تحقيق مرهق طويل لمعرفة كنه هذا الـ (روزباد).. يتحركون في كل إتجاه .. ما الذي مات الملياردير وهو يتمناه ؟ .. هو الذي أنشأ جنة صناعية كاملة اسمها (زانادو) فيها كل ما يشتهي .. في نهاية الفيلم نكتشف أن (روزباد) هي الزحافة التي كان يلعب بها في طفولته والتي اضطرت أمه لبيعها .. هكذا كبر الملياردير وامتلك أمريكا ذاتها لكنه ظل يتحرق شوقًا في عقله الباطن للعب بتلك الزحافة الصغيرة !... هذه هي القصة المؤثرة لفيلم (المواطن كين) تحفة (أورسون ويلز)، والذي يحكي قصة حياة ملك الصحافة الأمريكي (راندولف هيرست... )
عندنا في العامية المصرية نقول: "اللي ما شبعش على طبلية أبوه عمره ما يشبع".. وهو يفسر حالة الجوع النهم لدى كل هؤلاء المليارديرات الذين يملئون المجتمع المصري اليوم ولا يشبعون من النهب أبدًا .. السبب ببساطة أنهم لم يشبعوا في طفولتهم ..
ينطبق الكلام على المال ..
ينطبق على الحنان ..
ينطبق على الحب ..

***

كان يحبها بحق .. تلك الرائحة الوليدة للعواطف القادمة لتوها من المصنع بعد فك السيلوفان .. هذه أول مرة تستعمل فيها قلبك .. هل يعمل جيدًا ؟.. تذكر أننا ما زلنا في فترة الضمان .. رائحة المطر في الهواء والسكاشن التي تنتهي قبل الغروب .. والشعور الأليم بأنها ستنفد ..

السمراء المرهفة الرقيقة ذات عيني الغزال .. كان يملك تلك القدرة السحرية على رؤية الجمال في صديقة البطلة .. الحمقى ينظرون بإعجاب للبطلة، ويفوتهم أن يروا ويفهموا الكنوز التي لدى صديقتها الخجول الصموت .. عندما تقترب أنت وتنحني أمام العرافة المقدسة وتخبرها كم هي رائعة . كم هي أسطورية .. عندها تستحق وحدك أنهار اللبن والعسل التي ادخرتها لأول من يلاحظ ذلك .. أول من يدرك أنها أروع من صديقتها المفتعلة الملطخة بالأصباغ .


ويقول رفاقي: لن تفلح
ويقول رفاقي: هل تنجح ؟
أن ترقى درجات المذبح
وتبث الكاهنة العظمى
ترنيمة شجوى لا تبرح ؟



كان يحبها في صمت ثلاثة أعوام، وفي حفل أسرة الكلية بمناسبة نهاية العام طلبوا منه أن يلقي قصيدة .. مال على الفتى الذي يعزف الأرغن الكهربي وطلب منه أن يتابع القصيدة بلحن (أرانجويه).. سأله في غيظ : إنت عاوز تقول قصيدة والا تغني ؟...
لن يفهم ..
وقف وبصوت مرتجف وعلى خلفية اللحن الرهيب، خرج الصوت متسربًا لأوتار قلوب الجالسين .. لو كان صوتًا واثقًا أو أكثر ثباتًا قليلاً لما أحدث هذا التأثير .. كان صادقًا وقد تلقى الجميع الإشارة بذلك .. كانت روحه هي التي تتكلم ..


ومهما كنت أو صرت .. أحبك مثلما أنت
فلا تتغيري أبدًا .. وكوني دائمًا أنت

..........................................

بعيدًا أنت تنسابين والأنظار تفترسك
وداعًا طفلتي السمراء حقًا سوف افتقدك ..




بعد الحفل تدنو منه لتقول له في لطف: كنت رائعًا .. يتراجع للخلف ويضرب الجدار بظهره شاعرًا بأنه يذوب في الأبدية .. وفي سره يهمس:


جاءت لتهمس : قد أجدت ..
فيا ملاكي رفرفي !
لو أنها كانت تعي ..
أني احترقت كما الذبابة في لهيب تلهفي !





يقول لها وهو يوشك على الإغماء:
ـ"القصيدة دي كانت لك !"
تقول وهي تنظر في عينيه:
ـ"ما انا عارفة!"

ألهذا يطلق الفرنسيون على الحب اسم (الميتة الصغرى) ؟.. أنت تموت فعلاً ..



تبدأ أيام الحلم ...
أطفال تغمرنا النشوة
نتبادل ألفاظًا خجلى ..
ألتذ براءة ضحكتها..
أجتر عبير سذاجتها..
وتجاهد كي تبدو أنثى
وأكافح كي أبدو رجلا !

...............

إني أهواها .. تهواني ..
يكفيها هذا .. يكفيني ..




ككل قصة حب أخرى لابد أن تفنى .. تفنى بالفراق أو الزواج .. المهم أنها تفنى .. كان هو الذي أدرك أن الحب جميل لكن تبعاته مستحيلة قاسية .. حسابه في المصرف بضعة جنيهات .. إنه طالب لم ينه دراسته بعد .. والده مدير شركة كبرى لكنه مدير شركة لم يختلس قط، لذا كان حسابه في المصرف أسوأ من حساب صاحبنا .. لماذا أطلب منك الانتظار من أجل حلم قد لا يكون أبدًا ؟.. صديقاتك يظفرن بالزيجات الثرية .. صديقاتك ينلن كل شيء .. فرسان الأحلام يحلقون في السماء من حولكن .. أنتن كبيرات ناضجات أما نحن فبعد أطفال نتلقى المصروف من آبائنا، ونتشاجر على لفافة تبغ وجدناها في درج أحدنا .. طيري مع صديقاتك .. طيري .. أتركيني هنا في الوحل .. ولا تعودي أبدًا ..

تبكي .. تدفن عينيها الجميلتين في منديلها فيصرخ فيها: طيري !!... طيري !

اليوم يعرف كم كان حكيمًا في قراره هذا عندما لم يستطع أن يتزوج إلا بعد سن الثلاثين ..



من دونك لن أزعم أبدًا أني أتنفس من دونك ..
من دونك أهذي .. أتثاءب .. أكتب أوراقًا .. أتعثر ..
ولبضع ثوان أتمادى ..
ولبضع قرون أتقهقر ..
أحيانًا أضحك .. أتناسى
أهمس ألفاظًا وسنانة ..
وأخط عبارات الشكوى من فوق جدار الزنزانة ...




يمر أمام بيتها في شارع النحاس كما فعل ألف مرة من قبل .. هذه المرة يرى بوضوح باقة الأزهار في شرفتها بالطابق الخامس ... رسالة صامتة بليغة:



وكانت باقة الازهار تنظر لي من الشرفة ..
لقد كانت تواسيني ..
تفتش في قفار العطف عن لفظ يعزيني ..
ورغم ضراوة الأشواك قد أحسست بالألفة ..
لقد كانت تصارحني بما قد كان في أمسي ..
ولم تجهل حكايا الوهم .. والآهات واللهفة ...




***

لماذا يتذكر هذا الآن ؟.. منذ ذلك الحين كف عن كتابة الشعر .. اكتسب هذا الاكتئاب الساخر مع تلك اللمسة المتعبة التي يعرفها كل من قابله .. إنه يتذكر .. كان هناك حب حقيقي حريف في حياته وقد اكتملت عناصره، لكنه ضاع للأبد ... ربما يشعر بدنو النهاية .. ربما يهمس وهو يرى عباءة الموت تظلل عينيه: برعم الوردة .. روزباد ... عندها لا تتساءلوا كثيرًا يا سادة ...

مهما حقق صاحبنا من نجاح أو انتصار .. مهما شاب شعره ... مهما اكتسب من حكمة .. فهو لم يتذوق الوجبة الوحيدة التي اشتهاها حقًا ..



بيجاسوس 22-07-07 09:52 AM

فما أنت يا مصر دار المضارب



عندما حدث انهيار البورصة في مصر وعدد من الدول العربية، رأينا ذلك المصري المسكين الذي يظهر دائمًا في النشرات .. يصرخ وقد مزق أزرار قميصه ليقف عاري الجذع ، وهو أداء مصري كلاسيكي للتعبير عن الجزع والإفلاس وإنه لا يبالي بشيء بعد الآن .. وذلك الذي سقط على الأرض والناس يرشون الماء على وجهه .. نفس الرجل – بعينه – رأيته يصرخ أمام شركة توظيف الأموال المغلقة، ورأيته يصرخ أمام مسرح بني سويف، ورأيته يصرخ بعد زلزال أكتوبر المشئوم، ورأيته يصرخ وهو ينتظر جثة قريبه الغارق مع العبارة أو المحترق في قطار الصعيد .. إنه المصري الأبدي الذي خدعوه وباعوا دمه وكليته وأطعموه الفراخ الفاسدة والزيتون بالورنيش .. المصري الذي جعلوه يعبد آمون ثم استبدلوا به آتون ثم أعادوا آمون ثم أقنعوه أن بونابرت مسلم صادق الإيمان ..

لكني – في هذه المرة بالذات – لم أكن قادرًا على التعاطف معه، بينما بكيت معه في مواقف أخرى. أنت دخلت سوقًا خطرة غير مستقرة يا صاحبي، وقد أغرتك المكاسب الفاحشة التي جناها الناس في أول فبراير بلا أدنى جهد ..سمعت قصة السيدة التي ربحت مليونًا في يومين.. لقد قامرت وعليك أن تتحمل نتائج المقامرة، فلا تحاول إقناعي أنك من ضحايا العبارة أو قطار الصعيد من فضلك ..

ربما تلاعبت بك الحكومة من أجل بعض الحيتان الكبار .. وما الجديد في هذا ؟.. هل هناك استقرار حقيقي في مصر يسمح بالمخاطرة ؟

يقول (مصطفى صادق الرافعي ) في لحظة (قرف) مرت به في نهاية العمر:

فما أنت يا مصر دار الأديب .. وما أنت بالبلد الطيب

يمكن استخدام هذا البيت في حالتك مع استبدال كلمة (المضارب) أو (المستثمر) بـ (الأديب)، برغم أن هذا يكسر الوزن ..

أمريكا – معقل الرأسمالية - شهدت كسادًا عظيمًا في أواخر العشرينات وهي قصة يعرفها كل من درس الاقتصاد، ولكن لا بأس من أن نتذكرها .. بدأ كل شيء في تلك الجمعة السوداء في أكتوبر عام 1929 .. هبوط مروع في الأسهم أحدث دوامات في العالم كله، ووجد بعض الأثرياء أنهم صاروا متسولين يطلبون اللقمة لأولادهم، وقد هبط مؤشر (داو جونز) في الفترة بين 1929 و1932 من 381 إلى 41 .. كان هذا الانهيار بعد فترة ازدهار غير مسبوقة في السوق، وهو نموذج للذعر العام عندما يحل بالمستثمرين مرة واحدة، بحيث يحتاج الأمر إلى علماء نفسيين أكثر منه خبراء اقتصاد ..

إنه عصر الجاز – النغمة وليس جاز الوابور – حيث راح الكل يجرب هذه اللعبة الجديدة المسلية: البورصة، فقد انتهت الحرب العالمية الأولى وغزت الكهرباء كل شيء واعدة بأنماط استهلاكية جديدة .. كانت هناك عادة شراء السهم (على الهامش) أي أنك تذهب للسمسار ولا تدفع ثمن السهم من جيبك، بل تدفع 10% وتقسط الباقي على عدة أشهر .. يرتفع ثمن السهم وبالتالي تسدد ثمنه وتربح. خافت الحكومة الفيدرالية من أن تتدخل في العملية حتى لا تحدث ذعرًا عامًا .ومارست سياسة عصر هوفر الشهيرة: (دعه يعمل .. دعه يمر).. أي بالعربي: سيبهم في حالهم ..

لكن خلف الأبواب المغلقة في مؤسسات الاقتصاد كان هناك الكثير من القلق .. كان السماسرة يقترضون كل هذا المال من المصارف ... أضف لهذا تشبع السوق بالكماليات كالثلاجة والسيارة بحيث لم يعد المستهلك بحاجة للمزيد وهذا أدى لبطء الاقتصاد .. بالتالي وقع الانهيار المروع..

يقول خبراء الاقتصاد إن هذا الهبوط دوري، لكن الولايات المتحدة استطاعت تأجيله في القرن العشرين بفضل الحاسبات الآلية ولأنها تعلمت من دروس الماضي.. فإذا كان هذا حال أمريكا فماذا عنا نحن حيث لا يوجد أي نوع من التخطيط من أي نوع ...؟.. كنت أعتقد أن الاقتصاد من أعقد العلوم وأكثرها استغلاقًا على الفهم، ثم وجدت أن المسئولين عن الاقتصاد في بلادنا يرون الرأي ذاته.. هذا الشاب المتأنق الذي يلبس القميص قصير الكمين وربطة العنق ويضع (البلو توث) في أذنه ويعلق (البيجر) في حزامه، يمتاز بشيء مهم: إنه لا يفقه شيئًا على الإطلاق في الاقتصاد ... لهذا هو يعمل في البورصة ويحقق كل هذه المكاسب ..

في فيلم (وول ستريت) الذي أخرجه (أوليفر ستون) نرى سمسار الأسهم (تشارلي شين) الطموح الذي وقع فريسة الرغبة في الكسب السريع.. يقترب من القمة جدًا ...ثم ينهار كل شيء .. يعود لأبيه الذي يعمل ميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]يًا في مصنع، فيلومه الأب قائلاً: "أنت لا تخلق شيئًا .. لا تزرع أشجارًا ولا تصلح آلة ولا تبني بناية ولا تعالج مريضًا .. كل ما تفعله هو بيع كلمات ووعود وأوهام .. حاول أن تجد لك مهنة حقيقية تنفع الناس .."

هذا هو كل شيء .. البورصة سوق بضاعتها الوحيدة الجشع .. من يدخلها يعرف ذلك وعلى من يغادرها أن يعرف ذلك ..

في هوجة قصة توظيف الأموال التي شغلت التسعينات، بح صوت خبراء الاقتصاد وهم يقنعون الناس إن هذه الشركات نصابة، وإنه لا سبيل لمنح هذه الفوائد العالية إلا بالسحب من رصيد المودع نفسه .. لكن الناس لم تصدق .. أقنعت نفسها أنها تهرب من ربا البنوك إلى حيث البركة واقتصاد (سيب فلوسك مع الحاج وماتسألش ).. وما زالوا مقتنعين حتى اليوم إن التجربة كانت ناجحة إلى حد أن الحكومة قررت تدميرها .. بعد فترة يتبين أن تلك الشركات كانت تضارب بالذهب .. يتضح أن أحد أصحابها كان يتعاطى المخدرات .. يعترف (أشرف السعد) في قناة الجزيرة قائلاً (أنا جزء من منظومة الفساد) كأنه بهذا نال صك الغفران وصار ضحية، وبرغم هذا يصر الناس على أن التجربة كانت ناجحة جدًا وأن الحكومة أفشلتها .. والقصة بعد كل هذا لا علاقة لها بالربا ولا أي شيء سوى الجشع .. الكثير منه .. خذ نقودك من حيث تعطي فائدة منخفضة إلى حيث تعطي فائدة أكبر، لكن الحاج يطيل لحيته ويلبس الجلباب فلابد أنه رجل مبروك ولابد أن تجارته حلال ..

والأمر في النهاية لا يزيد على ذلك الذي يعطي تحويشة العمر لساحر أفريقي يزعم أنه قادر على مضاعفتها .. هنا يذوب العقل ويتبخر المنطق فلا يبقى إلا حلم الثراء السهل .. ليس لهذا الرجل أن يملأ الدنيا صراخًا عندما يفر الساحر إلى (غانا) حاملاً تحويشة العمر ..

ثم تعال هنا .. لو كان الأمر موضوع مال حلال وبعد عن الربا، فلنسمع ما يقوله العلماء عن جزء من الموضوع هو المضاربة على العملات ..

في فتوى للشيخ د. محمد العصيمي يقول: " المتاجرة في العملات حرام عندي للأسباب الآتية : 1- نهى السلف عن جعل النقود مجالاً للمضاربة (منهم ابن تيمية، وابن القيم، والغزالي والمقريزي وغيرهم(. 2- العملات التي يوفرها الوسيط هي عملات مبيعة على المكشوف. فليس لدى السمسار شيء منها، أو عنده بعضها وليس عنده كل المبلغ. 3- لا يتم التقابض في بيع النقود الآن، بل البيوع تتم عبر آلية مخالفة للشرع، وهي تسليم الثمن والمثمن بعد يومي عمل، وما يحصل من تغيير في حسابات العميل ليس القبض الشرعي، بل هو تقييد في الحساب، وتحصل المقاصة في نهاية دوام اليوم، ويحصل التسليم الفعلي بعد يومي عمل. 4- كثير من الوسطاء العاملين في البورصة يقدمون خدمة الرافعة المالية، وهي قرض من السمسار للعميل وعليه فأي رسم يأخذه السمسار على القرض فهو ربا، وأي رسم يأخذه السمسار على عمليات العميل فهو من المنفعة في القرض، وهما محرمان. 5- دلت التجارب على أن المتاجرة في العملات ضارة بالاقتصاد. 6- ودلت التجارب على أن صغار المتاجرين في العملات هو أكثر الناس عرضة للخسارة، وعليه فمن كان مستعداً للخسارة الكبيرة، وهم غالباً كبار المتعاملين، مثل: الصناديق الاستثمارية الكبيرة جداً وغيرهم، فهذا يدخل السوق ويتحمل الخسارة إلى أمد معين، ثم يربح في النهاية، أما الصغار فهم حطب نار الخسائر التي تمر على العملات. ختاماً: هل نحن بحاجة فعلاً إلى الدخول في هذه المخاطرة، وإحراق أموال المسلمين لصالح هؤلاء السماسرة الغربيين الكبار؟"

هذا ما قاله (العصيمي)، أما ما يقوله الشيخ (القرضاوي) عن البورصة فهو: "

لا أستطيع أن أقول كلمة البورصة هكذا لوحدها فمن الواجب تفصيل أعمالها وأنشطتها، فإذا كان هناك أنشطة تتعلق ببيع العملات فبيع العملات تحكمه قواعد معينة وهو أنه إذا اختلف الجنسان فبيعوا واشتروا كيف شئتم إذا كان يداً بيد، فلابد من الفورية كعملية شراء دولارات بريالات أو بالجنيهات الإسترلينية أو بالين الياباني أو بالمارك الألماني أو أي شيء فلا مانع أن تشتري ولكن بشرط ألا يدخل الأجل في القضية، دخول الأجل معناه التحريم.. إذا دخل الأجل في هذه القضايا أصبح معناه أن الربا دخل في الموضوع"

هذان الرأيان منشوران وواضحان وهما لا يحرمان البورصة لكنهما يقولان بوضوح إن الأمر حساس يحتاج إلى حذر وترو شديدين، لكن رواد منتديات الإنترنت لا يعلقون بحرف وإنما يردد كل منهم إنه يشعر بارتباك، و(والله حيرتونا معاكم) كأنه لم يقرأ حرفًا مما قيل .. الموضوع ليس موضوع تقوى إذن وإنما هو سيفعل ما يحلو له مادام يعد بالكسب السهل .. هو فقط (مزنوق) في شيخ يقول له إن هذا كله حلال ..

أغلق قميصك الممزق يا صاحبي، فالبورصة ليست لعبة، وبفرض أنها كذلك فمصر ليست بالبلد الذي يمكنك أن تلعبها فيه .. البلد الذي تنام فيه وتصحو لتجد أن كل جنيه في جيبك تحول إلى ثلاثين قرشًا، ويختفي الدولار من المصارف ثم يظهر فجأة ويُفصل الموظفون الذين امتنعوا عن صرفه، ثم يختفي من جديد ويفصل الموظفون الذين صرفوه .. هذا البلد ليس أفضل بلد تمارس فيه ألعاب البورصة، فلا تحاول إقناعي بأنك ضحية من فضلك.




بيجاسوس 22-07-07 09:54 AM

عصر مراد بيه


يحدث الصبي ذو السنوات العشر صخبًا في فصل المدرسة الخاصة فتنهره المعلمة ، لكنه لا ينتهر ولا تحمر أذناه إنما ينظر في عينيها بتحد، ويقول ضاغطًا على كل كلمة من كلماته:

ـ"انت مش عارفة بتكلمي مين .. .. إنت نسيتي إن أهلي هما اللي بيدفعوا لك المرتب ؟.. وحياة أمي بكرة مش حتشتغلي في المدرسة دي !!"

تصاب المعلمة الشابة حديثة الخبرة بحالة جنون هستيري ممزوج بالدموع، وتقتاد الصبي إلى مدير المدرسة الذي يتصل بأبيه .. طبعًا كلنا يعرف بقية القصة .. الأب (مراد بيه) يأتي للمدرسة وينهال تقريعًا على المدرسة والمدير أمام ابنه ومن تيسر من تلاميذ أو عمال، ويكرر ما قاله ابنه من أن كل هؤلاء يتقاضون رواتبهم من جيبه، والأغرب هو أن شيئًا لا يحدث للصبي على الإطلاق .. فقط تطلب المعلمة أن يتم نقلها فلا تدرس لهذا الفصل ثانية .. أي أن تهديد الطفل قد تحقق بشكل ما لو أردت أن تأخذ الأمور بشكل متشائم..

من هو (مراد بيه) ؟.. هو شخصية ذات نفوذ وإن كان أحد لا يعرف مصدر نفوذه بالضبط.. ترى على ملامحه ذلك المزيج الفريد من الصفاقة والغلظة والغرور الذي يفوق الحد، وقد تعلم تلك النظرة البوليسية الموحية بالأهوال والتي تقول: "إنت مش عارف بتكلم مين".. يجيد إلقاءها وهو يفتح باب سيارته المرسيدس ليتشاجر مع هذا أو ذاك ..

لقد تغلغل (مراد بيه) في حياتنا إلى حد غير مسبوق .. سيطر على كل مكان وكل مرفق .. إنها الروح القبلية التي تضخمت في مجتمعنا والاستهانة بالقانون .. ما دمنا نحن من يرتكب الأخطاء ونؤذي فكل شيء على ما يرام والحياة حلوة. الجرم كل الجرم أن تُؤذى بفتح الذال..

مصر قد تحولت اليوم إلى فصل كبير من فصول هذه المدرسة الخاصة .. فصل لا يحترم أحدًا ويزرع في عقول أطفاله أن عدم احترام القانون هو جزء من السمو الاجتماعي .. نحن أكبر من المدرس .. اكبر من القانون .. الضعفاء والفقراء فقط هم من يحترمون المدرس ورجل الشرطة ويقفون في الصف، بينما نحن سادة (بنو مخزوم) ومن يجرؤ على اعتراضنا ميت ..

الأمثلة على ذلك كثيرة، وفي جعبة كل منا العشرات منها، لكني على سبيل المثال لا الحصر أذكر موضوع تقاطع شارعي (بطرس) و(سعيد) الذي يعرفه كل من يسكن في مدينة طنطا .. منذ أعوام وعند الثامنة مساء تقريبًا تلتقي في هذا الموضع عشرات من سيارات الشباب .. تراهم يسدون الطريق سدًا ويقفون خارج سياراتهم وأبوابها الأربعة مفتوحة، وموسيقا الكاسيت عالية جدًا وهم يتبادلون المزاح البذيء .. فلا يستطيع من يريد المرور عمل ذلك إلا بصعوبة وبعد ضغط آلة التنبيه عشرات المرات إلى أن يتنازل أحدهم ويغلق بابًا في قرف شديد، أما الفتيات فقد تعلمن أن يتجنبن هذا التقاطع بأي ثمن .. الملحوظة المهمة هي أن أغلب لوحات السيارات تحمل رقمين أو ثلاثة لا أكثر، وهناك عدد من النسور واللوحات السود والزجاج الفيميه .. بينما يقف شرطي مرور ريفي بائس من طراز (يا سنة سوخة) على بعد ثلاثة أمتار منهم عاجزًا عن عمل شيء، فيكتفي بالتعرض لسيارات الأجرة .. هو لا يريد أن يجازف، ولابد أنه يذكر أمثلة كثيرة لزملاء له فشلوا في تبديد هذه المظاهرة أو عوقبوا .. وكل سائق أجرة يعرف أنه من المستحيل تفرقة هؤلاء لأن كل واحد فيهم ابن اللواء (مراد بيه) أو ابن المستشار (مراد بيه).. ونحن نعرف كيف ينتهي كل كمين شرطة ببضع مكالمات بالموبايل .. و(كلم مراد بيه على التليفون).. فإذا رفض الضابط أن يضع الموبايل على أذنه، صاح الفتى في السماعة: يا مراد بيه .. الضابط مش عاوز يكلمك .. هكذا يتلقى الضابط المغتاظ المكالمة واللوم ويعيد الرخصة للفتى .. حبة جديدة تضاف لمسبحة غرور الفتى وثقته بأنه فوق أي قانون، وقصة جديدة يتفاخر بها في قعدات البانجو ..

سيارة تتوقف في مكان ممنوع وحساس أمنيًا بالمطار، فيعترض رجل الشرطة، هنا يخرج من السيارة رجل ضخم فخيم يلوح بالموبايل وينزع نظارته السوداء ليسمح للنظرة الأمنية الثاقبة بالخروج، ويقول للشرطي بلهجة تهديد: "أنا المستشار مراد كذا " .. برغم أن كلمة (مستشار) توجب عليه – كي يستحقها – أن يضرب المثل في احترام القانون .. وبالطبع يمتثل الشرطي البائس ويتراجع .. هو الغلبان الذي أفطر فجلاً وتغدى عدسًا .. هو القادم من (دشنة) ولو لم يأت البوكس ليحمله في نهاية الوردية لما عرف كيف يعود ولمات جوعًا ..

وفي (مارينا) منذ أعوام – كما قالت الصحف - أوقف شاب يبغي استعراض القوة سيارته بالعرض لتسد شارعًا رئيسًا، فتبقى السيارة حيث هي أربع ساعات لأن أحدًا لم يجرؤ على استدعاء الونش لجرها .. ما دام الفتى قد فعل هذا، فهو على الأرجح ابن (مراد بيه).. مراد بيه الذي قد يكون وزيرًا أو عضو مجلس شورى أو لواء كبيرًا في الداخلية، أو ربما هو صاحب مارينا نفسه ..

المستوى الآخر الذي بلغته المشكلة هو الادعاء .. كل الناس تعلمت كيف تتصنع أنها تمت بصلة لـ (مراد بيه).. لي صديق متأنق يجيد التمثيل، ويعرف في كل كمين مروري كيف يدعي أنه المستشار (مراد كذا) .. وقد ساعده الملصق الموضوع على زجاج سيارته والذي لا ينوي أن ينتزعه أبدًا .. صارحته بأنها مخاطرة وأنه لو طلب منه رجل الشرطة هويته لوجد نفسه في مأزق، فقال في ثقة إن هذا مستحيل .. لا أحد يجرؤ على طلب هوية (مراد بيه).. دعك من تلك النظرة الأمنية الغامضة التي تعلمها من أفلام (مراكز القوى)..

إنه ذلك الإحساس بعدم فعالية القانون، وأن هناك طبقة فوقه، وأن إجراءات التقاضي بطيئة، فإن تمت صار لديك حكم لا جدوى منه وعليك أن (تبله وتشرب ميته).. وكما يقول الغربيون: إن لم تستطع هزيمتهم فلتنضم لهم .. لا جدوى من هزيمة هؤلاء الذين صاروا يملكون مصر فعلاً، فلا مناص من الانضمام لهم بشكل ما .. عن طريق ابنك .. عن طريق النسب .. عن طريق المماحكة.. عن طريق لوحة سيارة عليها رقمان أو ثلاثة لا تقبل أن تبيعها مهما عرض عليك من مال ..

هناك حل آخر هو البلطجة .. بعض الناس سيأخذون حقهم بأيديهم ما دام القانون لن يعيده لهم .. منذ أيام استعمل أحد رؤساء الأحزاب – أستاذ قانون - مجموعة من البلطجية يقتحم بهم مقر الحزب، لأنه امتلك حكمًا لا يستطيع تنفيذه وهو مؤشر خطير جدًا على تراجع سلطة القانون واحترامه. أعتقد أن حوادث العنف سوف تتزايد باستمرار مع نمو هذه الطبقة وتنامي سلطة (مراد بيه).. من لا يملكون مراد بيه سوف يلجئون إلى (سوكة) و(سيد سوابق)..

لماذا تتسابق الأسر على أن يدخل أبناؤها كلية الشرطة ؟.. هناك أسباب كثيرة لكن أهمها أنها تريد أن تملك (مراد بيه) الخاص بها والذي تخالف به القوانين .. ولتحقيق هذا تتصل بـ (مراد بيه) آخر ليسهل لها أن يصير ابنها (مراد بيه).. كل أسرة تريد أن يكون عندها وكيل النيابة والمستشار فإن لم تجد واحدًا ناسبته أو تمحكت في قريب بعيد .. هكذا تستطيع أن تخالف القانون كما تشاء .. وترى السيدة تحدثك في فخر عن قرابتها لـ (مراد بيه) في الجمارك و(مراد بيه) في أمن الدولة و(مراد بيه) في دار القضاء العالي و(مراد بيه) في قسم (الساحل).. حتى كأنها من هواة جمع الطوابع تحدثك عن مجموعتها الخاصة من الـ (مراد بيهات)..

والمشكلة في مصر أن الأمر تجاوز مجرد لذة قهر الجيران .. إن النجاح الاجتماعي صار يقترن اقترانًا قويًا بالقدرة على خرق القوانين .. مش إحنا .. لقد تعبت كثيرًا حتى أبلغ مكانة تسمح لي بمخالفة القانون ولن أسمح لواحد من العامة بأن يحاسبني ..

لقد وصل الدرس كاملاً إلى ابن (مراد بيه) وإلى كل طفل في ذات الصف معه .. إلام سيصير هذا الصبي ؟.. وإلام سيصير زملاؤه الذين رأوا المواجهة بين قيمة العلم والاحترام وقيمة النفوذ والبلطجة وعرفوا بوضوح من الفائز .. ؟.. إلام سيصير الجميع بعد عشر سنوات؟.. لا أتمنى أن أكون موجودًا لأعرف ..





بيجاسوس 22-07-07 10:18 AM

لمصلحة من ؟


كان الفيلسوف الكلبي الشهير (ديوجين) يمضي تحت جنح الظلام حاملاً مصباحًا يفتش به عن رجل واحد شريف، ويقال إن بحثه كان سدى .. أعتقد أن القصة تتكرر في عالمنا العربي اليوم، لكن (ديوجين) المعاصر كان سيتعب كثيرًا جدًا في البحث عن رجل واحد يتحرى الدقة والعدل ..

سوف يبدو هذا المقال للبعض دفاعًا مستميتًا عن الحكومة في أسوأ وقت ممكن، لكنه ليس كذلك على الإطلاق، فليس الدفاع عن هذه الحكومة المتخبطة الفاسدة من الأمور المحببة للنفس .. إنه دفاع عن الدقة وعن تحري الصواب فيما يقوله المرء دون الخضوع لدكتاتورية الجماهير، ودون الشهوة الطاغية لأن تقول لها ما تريد سماعه .. أذكر مقولة بديعة للشيخ (القرضاوي) يقول فيها: إن نفاق رجل الدين للحاكم أمره مفضوح وبالتالي خطره محدود.. لكن الخطر كل الخطر هو أن ينافق رجل الدين الجماهير بأن يقول لها ما تحب سماعه .. الحقيقة أن المواطن المصري قد تغير كثيرًا جدًا، وما أريد قوله هو أن هذه الحكومة هي الإفراز الطبيعي لهذه الحالة.. إن الشعوب تستحق حكوماتها وكيفما تكونوا يول عليكم .

الموضوع يتعلق بأنفلونزا الطيور .. بالتحديد ذلك الحوار الذي أجراه مذيع قناة الجزيرة (أحمد منصور) مع مسئول مهم عن المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في مصر .. منذ اللحظة الأولى للحوار بدا واضحًا أن أحمد منصور يغلي غضبًا ويريد إخراج حممه على الحكومة المصرية .. لقد عاد أحمد منصور القديم العدواني الذي يقاطع ضيفه في كل جملة بلا استثناء ولا يكف عن ترقيص حاجبيه .. منذ فترة طويلة كف أحمد منصور عن أن يكون مشاكسًا مغرورًا ضيق الأفق، لكنه في هذه الحلقة استعاد ذلك التراث القديم ..

الضيف هادئ ثابت راسخ الحجة، وهو يؤكد في إصرار أن ما قامت به الحكومة المصرية هو ببساطة ما أوصت به منظمة الصحة العالمية حرفيًا، وان الوباء قد بدأت السيطرة عليه فعلاً بسبب هذه السياسة الحازمة .. لكن المذيع يزداد عصبية وخيبة أمل .. لقد جاء بالضيف ليقول إن الحكومة أخطأت وإن هناك مؤامرة، وإن الحيتان الكبيرة هي التي بدأت هذه الإشاعة للقضاء على ثروة مصر من الدواجن والبدء من جديد بشروطها ومصلحتها الخاصة ..

يصر أحمد منصور على كشف فساد الحكومة، فيعرض فيلمًا شنيعًا يظهر رجلاًَ يجمع الكتاكيت بمكنسة والسيجارة بين شفتيه ثم يشعل فيها النار وهي حية .. ويعرض فيلمًا آخر نرى فيه فلاحين يفرغون أجولة مليئة بالدجاج الميت في مصرف مائي (لم يسأل المذيع نفسه عن سبب موت كل هذه الدواجن إذا كانت انفلونزا الطيور إشاعة) .. علام تدل هذه الأفلام ؟.. تدل على أن المواطن جاهل همجي لا يبالي بتلويث مجرى النيل .. أي أنه فقد الحس الحضاري الذي تمتع به جده الفرعوني .. وتدل على انه وحش قاس لا يبالي بحرق الحيوانات حية، برغم تعليمات الدين الذي لا يكف عن الكلام عنه لحظة .. فما دخل الحكومة في هذا ؟.. الضيف يقول إن هذا الفيلم يخبرنا بحجم المشكلة.. وإنها لكبيرة وضخمة، لكن الحكومة غير مسئولة عن هذه التصرفات الارتجالية من البعض ..

يزداد المذيع عصبية .. خاصة عندما يكرر الضيف إنه مسئول عن الطب الوقائي ولا يدافع عن أية حكومة .. فقط هو يؤكد أن الحكومة المصرية تصرفت بحكمة لمرة واحدة في تاريخها .. "لا تدافع يا احمد عن الجهل بحجة الدفاع عن الفقراء .. للأسف كل من يعلم ومن لا يعلم يتكلم .. لو استطاع الفيروس أن يطور نفسه لينتقل من إنسان لإنسان لكانت كارثة على الفقراء والأغنياء معًا.."

يسأله أحمد منصور: لماذا تعدم الحكومة الدجاج دون فحصه ؟.. فيرد الضيف : لأنه لا يمكن فحص دجاجة دجاجة .. بروتوكول الصحة العالمية يقضي بإعدام الدجاج في دائرة محددة القطر تحيط بأي إصابة .. يسأله أحمد منصور: لماذا تنفرد مصر بهذه النسب العالية دون العالم ؟.. يقول الضيف إن مدينة هونج كونج سنة 1997 أعدمت مليون دجاجة .. فيصيح المذيع: هذا في عام 1997 .. نحن في عام 2006 !! ولسان حاله يقول: لقد جئت بك هنا كي تشتم الحكومة فماذا دهاك ؟.. كان يبحث عن وجبة دسمة من الهجوم على الحكومة ونظرية المؤامرة، فخيب الضيف أمله بهدوئه ومنطقه العلمي المتزن ..

الخلاصة أن المذيع أنهى الحلقة قبل موعدها بعشر دقائق، وتشاجر مع الضيف فعلاً عندما قال له هذا الأخير: كل ما تريدون هو أن تهاجموا الحكومة، فرد أحمد منصور: لسنا كذلك ولا أسمح لك .. وانتهت الحلقة وهو يضغط على عضلات فكيه من فرط انفعال ..

الحقيقة أن إنفلونزا الطيور نموذج ممتاز للطريقة التي يتعامل بها المصريون مع الحقائق .. قبل أن يظهر الوباء في مصر بستة أشهر، وبينما منظمة الصحة العالمية تؤكد بعناد أن مصر خالية من انفلونزا الطيور، خرجت جريدة مستقلة واسعة الانتشار بصفحة كاملة تؤكد أن انفلونزا الطيور تجتاح مصر وأن الحكومة تخفي الحقائق عن الشعب كالعادة .. ثم ظهر الوباء في مصر فعلاً فإذا بهذه الجريدة تخصص كل أعدادها للكلام عن الخدعة الكبرى التي قامت بها الحكومة لمصلحة الكبار .. !..

إذن متى كذبتم ؟.. هل كذبتم منذ ستة أشهر أم الآن ؟.. لكن الجميع ينسى .. حتى من كتب هذا الكلام نسى أنه كتبه ..

وفي القاهرة ترى مظاهرات أصحاب المزارع تشق الطريق متجهة لمبنى التلفزيون، وهي تحمل لافتات عليها العبارة المصرية الخالدة (لمصلحة من ؟).. و(إشاعة انفلونزا الطيور .. لماذا يا حكومة ؟)..

وفي سوق مزدحم بمدينتي طنطا يقف رجل حاملاً مكبر صوت يصيح: "الشيخ فلان الفلاني عضو مجلس الشعب يقول لكم إن موضوع انفلونزا الطيور إشاعة أطلقتها الحكومة من اجل بعض المستوردين وتجار اللحوم .. ربوا الدجاج كما يحلو لكم .. وكلوه .. فقط لا تنسوا التسمية قبل أن تأكلوا ".. مع الإشاعة الأخرى: "سبب انفلونزا الطيور هي الخنازير التي يربيها النصارى ..!" وتشعر بأن القائل يوشك أن يقول:"تخلصوا من النصارى لتنجوا من الوباء !".. طبعًا بما أن الدقة هي الدقة فأنا أعرف أن فيروس انفلونزا الطيور نشأ نتيجة تربية البط والخنازير في مكان واحد لدى الفلاحين الصينيين، لكني أعرف كذلك أن الخنازير ليست هي مصدره في مصر وإنما هي الطيور المهاجرة .. وأعرف كذلك أن الشيخ فلانًا عضو مجلس الشعب لا يحق له أن يبدي رأيه في قضية طبية ..

ثم يتفاقم الوباء، فينسى الناس على الفور ما قيل، ويشكون من أن الحكومة لم تتخذ الإجراءات الكافية لمنع دخول هذه الكارثة .. تبدأ الحكومة في إعدام الدجاج في حملة صارمة غير مسبوقة، فيشكو الناس من أنها تتخذ من الإجراءات ما هو عنيف ولا داعي له على الإطلاق .. توفر الحكومة الدجاج المجمد فيتساءل الناس عن المصدر الذي جاءت منه بالدجاج بهذه السرعة ..

المؤامرة .. دائمًا المؤامرة .. وهو تفكير مبرر من شعب لم يسمع الحقيقة مرة واحدة في حياته، لكن هناك شيئًا اسمه المنطق .. هناك الحقيقة المجردة التي لا يجب أن تتأثر بكونك من أعضاء الحزب الحاكم أو المعارضة ..

القصة التي تؤثر في كثيراً كلما تذكرتها هي قصة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه (ابراهيم) وحدث خسوف للشمس .. قال المسلمون: لقد خسفت الشمس حزناً على (إبراهيم).. عندها كان غضبه صلى الله عليه وسلم شديداً مخيفاً وقال لهم: الشمس والقمر آيتان من آيات الله ولا تخسفان لموت أحد ..

هذا درس في الموضوعية والدقة .. ما حدث حدث وما لم يحدث لم يحدث .. فقط .. كان بوسعه - صلى الله عليه وسلم - أن يؤكد القصة أو يصمت وكان المسلمون سيصدقونه على الفور، لكنه لم يطق هذا الخلط المستفز للحقائق والأوهام في عقول العامة ..

أحياناً تأخذنا الحماسة الشوفينية فنقول أشياء غير دقيقة على طول الخط.. مثلاً أذكر أنني قرأت ترجمة لقصة (رحلة إلى باطن الأرض) صدرت في العراق في الثمانينات .. حين وجد بطل القصة الوثائق قالت الترجمة إنه وجدها مكتوبة باللغة العربية، وإنه حين سئل (جول فيرن) مؤلف القصة: لماذا اخترت أن تكون الوثيقة بالعربية ؟ . رد: لأنها لغة المستقبل ..

حسن .. بالطبع لم يرد في القصة بتاتاً أن الوثيقة كتبت بالعربية .. ما قيل نصًا هو أنها كتبت بالحروف الرونية المستعملة في أيسلندا قديماً.. وهو منطقي لأن القصة تدور هناك .. وبالطبع لم يقل (جول فيرن) هذه العبارة قط .. هذا نموذج للشوفينية المضرة التي تلوي عنق الحقيقة وتجانب الموضوعية، لكنها تروق للناس وتدغدغ غرورهم ..

إن قصة انفلونزا الطيور وأحمد منصور وعضو مجلس الشعب الذي يعرف الحقيقة كلها هي قصة تلخص تفكيرنا الحالي كله .. ومن الغريب أن المعارضة تحتاج إلى شجاعة لا بأس بها، لكن معارضة المعارضة تحتاج إلى قدر أكبر منها !.. التشكيك عمل جريء، لكن التشكيك في التشكيك صار عملاً أكثر جرأة !




بيجاسوس 22-07-07 10:19 AM

بلدهم يا عمّ


كانت قناة الجزيرة تعرض على الهواء أحداثًا غريبة في ذلك اليوم: وزير خارجية مصر (أحمد ماهر) يزور الحرم القدسي .. منذ لحظة دخوله الحرم راح أحدهم – حماسي الهيئة واللهجة – يهتف في مكبر الصوت:

ـ"لا أهلاً بك ولا سهلاً... عد إلى أسيادك الصهاينة ولا تدنس هذا الحرم"

وبدأت الأحداث تتخذ منحى خطيرًا عندما تزاحم الغاضبون حول الوزير المسن، فصنع حراسه طوقًا حوله بأجسادهم ورأيت على وجهه أمارات الاختناق من فرط الانفعال ونقص الأكسجين، مع قلب ليس في أفضل حال .. كان يشخص بعينيه إلى السماء فاغر الفم متلاحق الأنفاس بينما يحاول الحراس حمل جسده الضخم خارج الحرم ..

كان المشهد مؤسفًا أليمًا .. هذا الذي تتصاعد الهتافات ضده ليس (شارون)، بل هو وزير خارجية أهم وأكبر دولة عربية .. الدولة التي ضحت بالكثير بسبب تحالفها مع الفلسطينيين .. دعك من البعد الإنساني لرؤية عجوز يوشك على الموت اختناقًا ..

مر المشهد بسلام، وتم نقل الوزير إلى مستشفى إسرائيلي حيث قيل إن الوضع مطمئن .. لكن هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر .. ما أثار رعبي وضيقي هو أنني كنت أشاهد هذا الأحداث بلا أدنى انفعال على الإطلاق .. لم أشعر بذرة تعاطف معه ولم تدمع عيني بسبب الإهانة التي وجهت لمصر على شاشات الفضائيات بلا داع .. كان مشهدًا غريبًا وكفى ..

عندما فكرت في الموضوع بهدوء بعد ذلك، وحاولت فهم سبب هذا البرود العجيب الذي تابعت به الأحداث، فهمت أن السبب هو ببساطة عدم انتماء مفرط .. هذا وزير خارجيتهم يتلقى الإهانات بسبب سياساتهم الخاطئة .. فما دخلي أنا في هذا كله وما دخل مصر ؟

هذا هو ما صنعوه بنا .. أعتقد أنني كنت سأبكي لو كان المشهد يمثل هدفًا يحرز في مرمى مصر في مباراة دولية ما .. بينما أنا فعلاً لا اعرف لماذا جاء (أحمد ماهر) إلى منصبه، ولا اعرف لماذا ذهب، ولا أعرف فيم تميز (أبو الغيط) عنه . وبالطبع لن أعرف أبدًا ما دار في تلك الزيارة التي قام بها (ماهر) إلى فلسطين ولن أعرف ..

هل لي رأي في الموضوع ؟.. هل هناك من يبالي بما أعتقده ؟.. ما زالت هناك بنود كاملة سرية في معاهدة (كامب ديفيد) عجز أكبر الصحفيين عن معرفتها .. كل ما يرشح لنا يأتي من الخارج .. هكذا هم يتفقون دون أن يأخذوا رأيي .. يوقعون .. يعينون .. يبيعون .. كل هذا من دون أخذ رأيي، فإذا أبديت اعتراضًا قيل لي إن هناك قنوات شرعية مخصصة لذلك .. القنوات الشرعية هي برلمان طُعن في شرعيته مرارًا.. وأعضاء يوافقون على كل شيء ولو كان الانضمام إلى جزر الكاريبي أو بيع الهرم (صحيح أن الأخوان صاروا يشكلون جانبًا لا يستهان به منه، لكن يظل عددهم غير مؤثر في القرار النهائي بدليل تمديد قانون الطوارئ)، ورئيس برلمان متأهب لوأد أي استجواب جاد حقيقي طالبًا الانتقال إلى جدول الأعمال..

إذن فليتلقوا الإهانات .. لتهاجمهم الصحافة العالمية .. لتوجه لهم أبلة (كوندي) اللوم وتضربهم بالخيرزانة على أطراف أناملهم.. لا يهم .. ليس هذا شأني .. هم ليسوا قومي وليسوا رجالي..

نفس السيناريو حدث بشكل مخفف مع خسارتنا فرصة تنظيم المونديال .. كانت فضيحة مدوية، لكني قابلتها بذات البرود المعتاد .. قلت لنفسي: هذه حكومتهم وهم قد حاولوا استضافة المونديال فتلقوا صفعة لأن استعداداتهم غير كافية .. ما لي أنا وهذا ؟.. ولماذا يجب أن أنفعل ؟

وقد اصطك الحس الشعبي المصري المرهف تعبيرًا مناسبًا للموقف هو (بلدهم يا عم).. نحن مجرد ضيوف هنا نعيش حياتنا على الهامش قدر الإمكان ..

الحقيقة أن هذا الاستقطاب الذي جعل الشعب والحكومة دولتين مختلفتين موجود منذ أواخر السبعينات ، وله عدة عوامل منها غياب الديمقراطية .. لا يمكنك أن تشعر بالانتماء لمشروع لا دخل لك فيه ولم يؤخذ برأيك في إنشائه، لكنهم يطالبونك بدفع ثمن فشله ، العامل الثاني هو ذبول فكرة القومية ذاتها، ويعود جزء منها إلى زحف المد الديني الذي يرى بعض أفراده أن الإندونيسي (محمد طوار) أقرب لك من المصري (مينا اسكندر) الساكن في شبرا.. في لحظة ما من التاريخ كف عبد الناصر أن يكون قائد الثورة و(بابا جمال) وتحول إلى طاغية علماني، وقال داعية كبير إنه سجد لله شكرًا يوم هزيمتنا في 1967 .. أي أن اليهود – بعبارة أخرى – هزموا دولة الكفر !.. وتحول (كمال أتاتورك) من عقلية تقدمية خلقت تركيا الجديدة إلى السفاح الذي مزق دولة الخلافة،. وقد كنت في مؤتمر طبي ذات مرة ودعت المحاضرة الجالسين إلى الوقوف لأن السلام الجمهوري لجمهورية مصر العربية سيُعزف حالاً.. وقف غالبية الموجودين، لكن من ظلوا جالسين راحوا ظلوا ينظرون لنا في تحد واشمئزاز غريبين .. لسان حالهم يقول: هل ما زلتم تؤمنون بهذه السخافات ؟.. هل سنعود لهذه الوثنية ؟

عندما يكف أفراد شعب عن تحية علمه أو الوقوف لدى عزف سلامه الوطني، فإن أجراس الخطر تدق .. إن العلم خرقة من القماش لكنها ترمز لكل شيء في مصر : الهرم .. النيل .. الشيخ رفعت .. الأزهر .. عبد الوهاب .. أم كلثوم .. ثورة 1919 .. نجيب محفوظ .. سيد قطب نفسه .. الخ .. وعندما ترفض تحية العلم فأنت في الواقع ترفض كل هذه الأشياء التي صنعت كلمة مصر ..

حتى فكرة كراهية إسرائيل ذاتها لم تعد بذات الوضوح الذي عرفناه في المدارس قديمًا .. ولولا المد الديني الذي يحمل تراثًا هائلاً من كراهية اليهود، ووجود المسجد الأقصى في الموضوع لذبلت الفكرة تمامًا .. دعك من الأخ السفاح شارون الذي نجح في أن يعيد القضية دامية متوهجة في الأذهان، وبالتالي قدم خدمة لا تُنسى للفلسطينيين من حيث لا يدري. كنت أحيانًا أجرب أن أدخل برامح المحادثة (شات) منتحلاً اسم فتاة إسرائيلية على سبيل جس النبض.. وكنت أطلب محادثة شاب مصري .. عندما أعلن له (حقيقة) إنني فتاة إسرائيلية، كان الشاب في 100% من الحالات يقول لي: وماذا في ذلك ؟.. العرب عفنون Arabs stink أصلاً.. وهو اعتراف وتنازل لا داعي له سوى كسب ثقة هذه الإسرائيلية التي إن لم تكن حسناء فعلى الأقل هي مستعدة لعمل أشياء كثيرة !

اجتماعات ومحادثات وجلسات مغلقة ومكالمات هاتفية تخبرنا بها الصحف .. لا تعرف أبدًا ما دار فيها .. المهم أن هناك من اجتمع ومن تكلم هاتفيًا .. والنتيجة هي أنك تمر بحالة أبوية فريدة .. أنت مجرد طفل يلهو في الصالة بينما أبوك يجلس في الصالون مع أصدقائه الكبار يقولون كلامًا لا تفهمه أنت ومن العيب أن تحاول أن تعرفه.. سوف تتحمل هذا لأنه أبوك .. لكن ماذا عن من ليس أباك ولا دور لك في وجوده هنا ؟

يحذر الجميع من بيع القطاع العام فيُباع .. يحذر الجميع من توقيع الكويز فتُوقع .. يحذر الجميع من ذبح القضاة فيذبحون .. ينصح الجميع بحضور جنازة بابا الفاتيكان فلا يحضرها أحد ذو أهمية .. ينصح الجميع باستقبال وزير الخارجية الفلسطيني المنتخب فلا يستقبله أحد .. ينصح الكثيرون – وأولهم محمد حسنين هيكل - بأهمية وجود خطوط دبلوماسية قوية مع إيران فلا يبالي أحد .. يحذر الكل من خطر تعويم الجنيه فيعومونه .. كل شيء يتحرك برغم إرادتك وبلا أخذ رأيك .. وكما يقول العظبم محمود المليجي في فيلم (اسكندرية ليه؟): وعايزني أكسبها ؟

نتيجة هذا تنمو اللامبالاة ويذبل التعاطف وتراقب وزير خارجيتك يُضرب في الحرم القدسي فلا تهتم .. هذه هي الصورة الأقل خطرًا , أما الصورة الأخطر فمثالها سقوط بغداد خلال ساعات ..لقد ذاب الجيش العراقي تمامًا لأن أفراده لم يستطيعوا الشعور بأنهم يدافعون عن بلادهم بل عن صدام .. صدام الذي ورطهم في حرب طاحنة مع إيران ثم غزا الكويت لأن (دماغه كده).. فلماذا يطالبهم بالموت في سبيله هو الذي لم يصغ لأحد سوى نفسه، ولم يسمح لأحد أن يفتح فمه إلا لإلقاء قصيدة مدح فيه ؟.. (صدام) الذي كان أطفال بلاده يموتون بسبب سياساته الحمقاء، لكنه كان يجد الوقت الكافي ليناقش المخرج الذي صنع فيلمًا عن قصة حياته في جلسات مطولة: أنت أظهرت معالم الألم على وجه الممثل لحظة إخراج الرصاصة .. هذا كذب .. أنا لم أبد أية علامة على الألم!

هكذا تسير الأمور .. لكن مصر هي مصر .. بالتأكيد لم نفقد انتماءنا لمصر الهرم والنيل وأحمد شوقي والشيخ رفعت والفول والطعمية ورائحة النعناع في الحقل وصوت أم كلثوم في الليل وعم (بسيوني) الفلاح العجوز الجالس يشرب الشاي على المصطبة ليلاً، وحتى جندي الأمن المركزي الذي يرفض أن يطيع أمر ضابطه ويضرب المتظاهرة الحامل .. هذه هي (بلدنا يا عم).. مصر الحقيقية الولود التي لا يعرفونها، والتي بدأت ملامحها تتقلص ألمًا معلنة قرب ولادة جديدة!




بيجاسوس 22-07-07 10:21 AM

أسعد أيام هدى



عظيمة هي قناة الجزيرة .. قد نختلف معها، وقد نراها منحازة لجهات بعينها ومتجاهلة لأمور بعينها، وقد يتهمها البعض بالعمالة وهي التهمة الجاهزة لوصم كل من نختلف معه .. إن من يختلف معك فكريًا في العالم العربي هو على الأرجح ملحد أو عميل أو شاذ جنسيًا، وبما انه من الصعب اتهام قناة كاملة بالشذوذ الجنسي تبقى تهمة العمالة .. (لم أصدق حتى سمعت بأذني أن هناك من اتهم منظمة حماس وحزب الله بالعمالة لإسرائيل، ولا أعرف المنطق اللوذعي الذي قاد لهذه الاستنتاجات العبقرية)..

أقول إن قناة الجزيرة فتحت نافذة وسط ستار التعتيم الإعلامي الكثيف، ولولاها لما عرفنا عن الانتفاضة إلا أنها (اضطرابات في الأرض المحتلة) كما كانت وسائل إعلامنا ستصفها .. وعن طريق قناة الجزيرة رأينا أبا (محمد الدرة) يصرخ متوسلاً للإسرائيليين كي يوقفوا الرصاص، ورأينا ظهر جثة الرضيعة (إيمان حجو) الذي تحول إلى فجوة دامية كبيرة، بينما حرصت (سي إن إن) وإعلامنا على إظهار الوجه فقط لأنه لا يعبر إلا عن سلام عميق لرضيعة نائمة، كأن ما فعله الإسرائيليون هو أن ساعدوا الصغيرة كي تنام في سلام ..

هذا التفوق الذي حققته الجزيرة في فلسطين جاء بفضل كتيبة العظماء وليد العمري وجيفارا البديري وشيرين أبو عقلة ومن معهم من مخرجين ومصورين وفنيين ..

حظي الأسود جعلني أفتح قناة الجزيرة يوم الجمعة 9 يونيو لأرى هذا المشهد الرهيب .. الطفلة (هدى) تجري على رمال الشاطئ وتتعثر وتنهض، وتصرخ في جنون وهستريا : أبويا !

أبوها جثة مفتوحة العينين فوق الرمال، بينما الفتاة تحتضنه .. لا تعرف السبب الذي جعله فجأة يرفض النطق وتلبية ندائها ربما للمرة الأولى.. ثم تجول الكاميرا لترينا ما تبقى من حياة هادئة لأسرة أرادت قضاء يوم على شط البحر في غزة .. العوامة .. دلو الماء .. الجاروف .. ثم أسرة الفتاة التي تحولت إلى عجين من اللحم المتفحم والدم .. العوامة والجاروف أشياء مدنية جدًا مسالمة جدًا يصعب أن تتلطخ بالدماء إلا في فيلم (الفك المفترس) لكن إسرائيل فعلتها ..

ما حدث هو أن سفينة حربية إسرائيلية في عرض البحر قررت أن تمازح هذه الأسرة البريئة بطريقتها .. وكان المذيع يجري التحقيقات ويصور بينما السفينة ما زالت هناك تراقب الموقف في استمتاع واضح ..

إن مشاهد الموت في فلسطين صارت يومية منذ زمن بعيد، لكن عندما يتعلق الأمر برجال المقاومة وقياداتها فهؤلاء أبطال اختاروا وتحملوا مسئولية قرارهم، وكل واحد منهم يتوقع اليوم الذي سيتحول فيه إلى أشلاء متفحمة يخرجونها من سيارة انصهر معدنها .. أما تلك الأسرة على الشاطئ فلم تختر شيئًا على الإطلاق .. كل ما أرادوه هو يوم من المرح بين الموج والرمال، فلابد أن (هدى) الصغيرة صحت صباحًا منتظرة أسعد يوم في حياتها .. ذات المشهد يذكرني بمشهد رأيته منذ ثلاث سنوات لذلك الصغير الفلسطيني الذي جلس وحده جوار النافذة في غرفة نومه يعد ألعابه لعيد الأضحى غدًا، فكان نصيبه طلقة في رأسه من قناص إسرائيلي يهوى المزاح بدوره .. ظرفاء وأولاد حظ هؤلاء الإسرائيليون حقًا ..

أسوأ ما في الأم أن هذه الحوادث صارت كثيرة إلى درجة أنها أذابت بعضها ونسيت.. عندما تملأ جوالاً بالبيض الهش فإنه يحطم بعضه فلا يبقى شيء، وإسرائيل تهوى تكديس البيض بحق ..

من أعطى قائد السفينة الحربية هذا الحق ؟.. إنه ليس ربًا ليقتلني بمشيئته كما يقول العظيم (أمل دنقل).. من أعطاه الحق في أن يحيل حياة هذه الطفلة إلى كوابيس ؟.. من أعطاه الحق في أن يملأ حياتي أنا بالكوابيس ؟

ويخرج بيان الحكومة الأمريكية كما هي العادة .. هم فقط يتفننون في العبارات التي تثير غيظك: "وقال الناطق باسم الخارجية شون ماكورماك إن بلاده تشجع إسرائيل على التفكير في نتائج هذه الأعمال" ..

يا سلام على التعبيرات العبقرية ! .. هذه أعمال أدبية وليست تصريحات سياسية .. لو أحضرت تشيكوف وكافكا وموم وماركيز وشكسبير لصياغة جملة سخيفة تتحسس دربها ولا تجرؤ على أن تقول أي شيء مثل (تشجع إسرائيل على التفكير في نتائج هذه الاعمال ) لاعترفوا بأنهم معدومو الموهبة .. من قبل رأى (بوش) أن قصف غزة بطائرات إف 16 (غير مفيد) .. دعك من التعبير العبقري الآخر : "نحن نشعر بقلق" .. طيلة الوقت هم قلقون .. ما كل هذا الحلم وهذا التهذيب ؟.. أتمنى للأخ بوش مصيبة تطيح به كي يشفى من عادة القلق نهائيًا ..

رجالنا لا ثمن لدمهم .. نساؤنا لا ثمن لدمهم .. أطفالنا لا ثمن لدمهم، بينما يبكي هؤلاء الغربيون تأثرًا ويرفعون الأنخاب وتعصر الأخت (أوبرا وينفري) عينيها تأثرًا بعملية إنقاذ درفيل جنح على ساحل فلوريدا، مع الكثير من الـ (واو) والـ (ياي) والـ (أوه) .. أي نفاق هذا ؟

السؤال الأهم هو ماذا يعتقد (عباس) أنه يفعله ؟.. يخرج ليتهم أعمال المقاومة بأنها [محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]ة، ويشجب قصف المدنيين الفلسطينيين بلغة عقلانية هادئة .. ما هو دوره بالضبط وهو عاجز عن حماية شعبه، وعاجز عن الاحتجاج على ما يحدث لشعبه ؟

لابد من أن يدفع هؤلاء الثمن .. أما من يتكلم عن الواقعية والتحضر ويطالب الفلسطينيين بأن يموتوا في أدب ورقي، فليخرس من فضله .. لا ثمن لهذا الدم إلا الدم .. لا .. ليس الدم كافيًا .. لو مات ألف إسرائيلي فلن يعوضوا (هدى) الصغيرة عن أبيها، ولن يعوضوا أم (إيمان حجو) عن رضيعتها ..لكنه أقل شيء ممكن لو كانت هناك عدالة حقًا في هذا العالم.




بيجاسوس 22-07-07 10:25 AM

الأمير فوق من ذكرت



لست أذكر المناسبة بالضبط، لأنني كنت مراهقًا في المدرسة الثانوية أجلس أمام جهاز التلفزيون، أتابع ما أذكر أنه حفل تكريم أو عيد للعلم .. شيء من هذا القبيل .. على المنصة يجلس الرئيس الراحل (أنور السادات)، واللحظة هي تكريم أحد أستاذته السابقين في المدرسة .. كان الرئيس الراحل يحب هذه المواقف لما فيها من مسحة درامية .. (هل تذكر الحطاب الفقير الذي آويته في دارك وأطعمته في تلك الليلة ؟.. لقد كان هو الخليفة متنكرًا ! .. وقد خلع عليك قصرًا وزكيبة من الذهب).. وقد سبق هذا تكريم مماثل لمن يدعى (سائق دمرو) الذي ساعد السادات في ظروف مماثلة ..

المهم أن الأستاذ المسن الذي تصلبت شرايين مخه، والذي عاش عصور النفاق منذ أيام مولانا ولي النعم، اعتلى المنبر فقال بالحرف الواحد: "الله يقول: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .. أما نحن فنقول: إن في خلق السادات والأرض .. كذا .."

أقسم بالله أن هذا قيل حرفيًا، وسوف أُسأل عنه يوم القيامة .. لقد أصابني الهلع من هذه الدرجة العبقرية المفزعة التي يمكن أن يبلغها النفاق .. والأغرب هو أن أحدًا لم يعترض، والرئيس المؤمن نفسه لم يهب لتصحيح كلمات الرجل ..

كانت نهاية عصر السادات كما أذكرها مهرجانًا دائمًا من المزايدة على فن النفاق، وإنني لأذكر جلسة مجلس الشعب الصاخبة لتنصيب السادات سادس الخلفاء الراشدين.. بما أنني طنطاوي فقد شعرت بجو المولد الأحمدي العام حيث الكل يصرخ .. الكل مبتل بالعرق .. الكل يزايد .. ثم قتل السادات في ذات العام تقريبًا فلم يفده أحد بالروح أو الدم، وبادر كاتب صحفي كبير إلى انتقاد طريقة حكمه بعد دفنه بيومين ..

تذكرت هذا كله عندما قرأت مذهولاً قصة الطالبة التي عبرت عن نفسها في موضوع التعبير فقامت الدنيا ولم تقعد .. كنت قد كتبت من قبل عن مفهوم الإذاعة المدرسية والمدرس الذي يرغب في أن يرضى عنه ناظر المدرسة، وناظر المدرسة الذي يشتهي أن يرضى عنه وكيل الوزارة، ووكيل الوزارة الذي يتمنى أن يرضى عنه الوزير .. كتبت عن التصور الحكومي للتلميذ المثالي الذي يرقص طربًا لاتفاقية الكويز أو توشكى، وقد امتلأ رأسه بكلمات من عينة (النبراس) و(العلياء) و(السؤدد) يرصها في أي موضوع تعبير .. التلميذ الذي يؤمن أن الحكومة دائمًا على حق، وأن أفضل رئيس جمهورية هو الرئيس الحالي في اللحظة الحالية ..

لم تكن (آلاء) كذلك .. وقد كتبت ما خطر لها في ورقة التعبير لأنها افترضت أنه ما دام اسم المادة تعبيرًا، فعليها أن تعبر عن نفسها .. قال البعض إنها كتبت تشتم (بوش) وقال البعض إنها طالبت الرئيس بأن يتقي الله ..المهم أنها اصطدمت بعقلية (النبراس) و(العين ما تعلاش على الحاجب) هذه فكانت النتيجة كما يعرفها الجميع .. وكما يقول الأستاذ محمد حماد في جريدة (العربي ) الناصري: " والذى رأى وقرأ وسمع دفاع المسئولين فى وزارة التعليم والتربية سابقا عن الإجراء الذى اتخذوه بحق الطالبة يتصور أنها خانت الوطن وخرجت عن الملة، إذ قالت للرئيس اتق الله واحكم بالإسلام، والأغرب أنهم لحسوا كلامهم صبيحة أعلن الرئيس عفوه الكريم عن ابنته الطالبة، وتغير الحال فاستقبلها الوزير بنفسه وهنأها على نجاحها الذى كانوا يريدون لها أن تخسره وتخسر معه عاما من عمرها! .. انقلب حال الوزارة وانقلب حال الصحف وخرست ألسنة السوء التى طالبت بمعاقبة الطالبة التى خرجت عن الأخلاق وأساءت الأدب، وتبدل الحال وأصبح ما قالته يدخل فى باب حرية الرأى التى يحترمها الرئيس ويحرضها وزميلاتها وزملاءها على ممارستها! "

هناك إشاعة قوية يتناقلها الناس حول أن أمن الدولة اقتنع بأن ما تقوله الفتاة ليس كلامها، بل هو كلام جهة أكبر وأخطر !.. هكذا تم اعتقال أبيها للتحقيق معه باعتباره بداية الخيط التي ستقود إلى (أيمن الظواهري) نفسه !.. سمعت هذه الإشاعة فلم أصدقها .. منطق النفاق يقول إنه لن يجرؤ أحد على التحرش بهذه الطالبة ثانية .. لقد اهتم الرئيس بها شخصيًا وصار الاقتراب منها محفوفًا بالخطر، وأعتقد أن هؤلاء المسئولين الملكيين أكثر من الملك سوف يدفعون ثمن نفاقهم غاليًا .. نفس ما حدث لمذيع شهير حاول أن يتملق الرئيس بطريقة ضايقته، وكانت النتيجة أن تم استبعاده تمامًا من أية حوارات أخرى مع الرئيس.. لقد انقلب السحر على الساحر ..

إن ثقافة النفاق عتيقة جدًا في بلادنا .. ومهما دارت الأيام فإن مفهوم الشاعر الذي يدخل على الخليفة فيمدحه، ويخرج حاملاً زكيبة مال ، هو مفهوم متأصل فينا ويصعب الخلاص منه ..

لا ازعم أنني درست الأدب العالمي، لكن أزعم أن أي دارس للأدب سيتعب كثيرًا حتى يجد بيتًا من الشعر في أية لغة يماثل ما قاله ابن هاني الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله :



ماشئت لا ماشاءت الاقدار....فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد .....وكأنما أنصارك الانصار !!


بصرف النظر عما في هذا الكلام – البيت الأول - من شرك صريح، فإن أية أمة يُقال فيها كلام كهذا هي أمة مقضي عليها بالفناء، فلا غرابة أن يقال إن هذا الشعر كان نذيرًا بفناء دولة العرب في الأندلس.

المزايدة تتكرر في قصص التراث بلا انقطاع .. ها هو ذا (أبو تمام) ينشد قصيدته السينية أمام الأمير (أحمد بن المعتصم) .. فيقول الشاعر في نفاق صادق حار واصفًا الأمير:



إقدام عمرو في سماحة حاتم .....في حلم أحنف في ذكاء اياس

هنا يتدخل رجل بلغت به (سلطنة) النفاق درجة أعلى .. هذا الرجل هو أبو يوسف يعقوب الكندي قائلاً:

ـ"الأمير فوق من ذكرت !"



يعني كل هذا النفاق غير كاف .. الأمير أعظم من هذا .. لابد من المزايدة فقد بدأ (مولد) النفاق .. وعلى الفور يستغل (أبو تمام) موهبته ليرتجل شعرًا لم يكن مكتوبًا:


لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس
فاللّه قد ضرب الاقل لنوره ......مثلا من المشكاة والنبراس



هذه القصة لا ترد في المراجع دليلاً على عبقرية النفاق أو قلة الأدب (فهناك تشبيه ضمني للأمير بالله تعالى) ، بل على براعة الشاعر وحسن تصرفه .. ولسبب ما أوشك أن أرى ذلك المسئول التربوي الذي ألغى امتحان آلاء يصرخ فيها : الأمير فوق من ذكرت !...

الأمثلة كثيرة جدًا ولا شك في أنني نسيت ذكر أهمها .. لكني أتذكر كذلك مقولة الأستاذ (أحمد بهجت) الرائعة : "للنفاق في بلادنا هيبة".. كان يحكي عن زيارته لأحد أصدقائه – ممن لم يعرف عنهم أي تدين - الذي صار شيخ طريقة .. قابله جالسًا في سرادق محاطًا بالمريدين، فتقدم نحوه ليصافحه وهو يوشك على الانفجار ضحكًا .. ثم أخذته هيبة النفاق فانحنى يلثم يده !

أحيانًا يبلغ النفاق درجات من التعقيد يصعب أن تتخيلها .. مثل ذلك المطرب الذي ينشد في أحد أعياد أكتوبر: "لا حيغنيني ولا يرقيني .. ولا فيه مصلحة بينه وبيني .. باقولها وأجري على الله .. علشان كده احنا اخترناه !" .. يريد أن يقنعني أن مدحه لرئيس الجمهورية هو كلمة حق أمام سلطان جائر ! .. وأجره بعد ذلك على الله ..

ذات مرة – قبل أن يدخل معترك السياسة بهذا الوضوح – زار السيد (جمال مبارك) مدرسة خاصة للفتيات في القاهرة، فنشرت التلميذات في إحدى المجلات رسالة مناشدة إلى الرئيس تقول: "نحن في بلد ديمقراطي ومن حقنا التعبير عما يجول بخاطرنا، وانت علمتنا الحرية وعدم الخوف .. لذا نطالب الرئيس مبارك بأن يكلف السيد (جمال) بوظيفة سياسية مهمة !".. هذا نوع من النفاق عجيب، على غرار: "أتركني أقول شهادتي التي سأسأل عنها أمام الله .. أنت أعظم وأروع من رأيت !".. تخيل لو أنهن نشرن رسالة يطالبن فيها الرئيس بعدم إسناد أي منصب رسمي لابنه !

المنافقون .. المنتفعون .. مشكلة هذا البلد وكل بلد عربي ..

هناك دومًا من يريدون أن يبقى الحال على ما هو عليه، وهم قادرون في أية لحظة على تنظيم المظاهرات المضادة، ونشر العرائض المكتوبة بالدم والمبايعة، وأن يملئوا البلد باللافتات المؤيدة لأي شخص وأي قرار في أية لحظة .. هؤلاء هم الذين يفرغون أي إصلاح حقيقي من محتواه ..

سواء كانت نية الرئيس (علي عبد الله صالح) صادقة في التخلي عن الحكم أم خلاف ذلك، فقد تكفل هؤلاء في اليمن بإحباطها وعادت الأمور كما كانت، وهم مستعدون في أي بلد عربي كي يهتفوا (الأمير فوق من ذكرت) في أية لحظة .. ولسوف يظهر لهم من يزيد بيتين من الشعر لإرضاء الحاكم..

الأمير فوق من ذكرت .. فلا مكان لطالبة ساذجة تعتقد أن موضوع التعبير يعطيها الحق في أن تعبر عن أفكارها .. والويل كل الويل لمن يبتعد عن ثقافة (السؤدد) و(النبراس) هذه .




بيجاسوس 22-07-07 10:29 AM

هوامش عن الحرب السادسة



في اليوم التالي مباشرة لسقوط بغداد، وجدت عند بائع الصحف جريدة أسبوعية تتصدر صفحتها الأولى صورة عملاقة لوزير الإعلام العراقي (الصحاف)، وقد كتب تحتها: "الصحاف: رمز الصدق الإعلامي".. هذه الجريدة لم تعرف بما حدث أمس ولم تجد الوقت لتبدل عناوينها، ففي الأسابيع التالية تحول الصحاف إلى رمز الكذب والجعجعة الخطابية الفارغة وانضم اسمه إلى اسم (أحمد سعيد) في مصر، وصار فقرة للإضحاك في الكوميديات الفضائية .. والكاريكاتور المرفق رسمه الفنان الشاب شريف عرفه تعبيرًا عن الرأي العام السائد وقتها .
برغم كل شيء فإن ذكرياتي عن الصحاف كانت إيجابية جدًا، ورأيي أنه أدى عمله كأفضل ما يكون .. يسقط الصاروخ الأمريكي في مكان من بغداد فيكون هناك خلال ربع ساعة غير خائف على حياته من قنبلة لم تنفجر بعد أو غارة تابعة، ويقدم الحقائق للصحفيين في ثبات وثقة مع الكثير من المرح.. وكم من مرة وجه ضربات محكمة لأكاذيب آلة الدعاية الأمريكية التي تقودها (سي إن إن) .. لقد كان بارعًا بحق حتى اللحظة الأخيرة، لكن الجيش خذله ..
نفس الشيء ينطبق على صمود العراقيين أمام القوة العظمى في الكون.. هل نسينا الأسابيع الثلاثة الأولى من الحرب والوقت العصيب الذي منحه العراقيون للأمريكيين ؟.. هل نسينا القتال لمدة عشرة أيام في ميناء (أم القصر) والهجمات على قوافل المؤن، وسقوط الأباتشي، والمدفعية الأرضية التي تصدت لكل صورايخ (كروز) ؟.. هل نسينا المشاجرات في البنتاجون ؟.. والاستجوابات التي خاضها رامسفيلد حول (هل وضعتنا في فيتنام جديدة ؟.. كيف دخلت هذه الحرب من دون قوات برية كافية ؟).. ملحمة رائعة ساعد فيها أن خطة الدفاع عن العراق وضعها عسكريون محترفون، بينما سقطت بغداد ذاتها خلال ساعات لأن خطة الدفاع عنها وضعها المحامي (قصي صدام حسين)، وبما أنه ابن رئيس الجمهورية فقد افترض أن هذا كاف لجعله يجيد الاستراتيجية والسباكة والفن التشكيلي وميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]ا الكم ..
سقطت بغداد .. وعلى الفور نسى الناس كل شيء وتبخرت كل هذه المقاومة الأسطورية، فلم يعد أحد يذكر إلا مشاهد الاقتحام والنهب ..ونسى الأمريكان كل اتهاماتهم لرامسفيلد فلم يعد إلا القائد المنتصر ..
قلبي معك يا شيخ (حسن نصر الله).. فلو أن إرادتك انتصرت واستطعت أن ترهق إسرائيل إلى حد وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، فلسوف تصير بطل الأمة ويخرس كل منتقديك .. الرجل الذي استطاع أن يقهر إسرائيل بمجموعة من الميليشيات ..
أما لو حطموك – لا سمح الله – فلسوف يلعنك هؤلاء الذين بحت حناجرهم هتافًا لك اليوم .. وسيذكر لك الناس إنك الرجل الذي تسبب في دمار لبنان، وبدد بحماقة النصر الجميل الذي صنعه من قبل .. وسيُقال إنك عميل إيران الذي أنسته الطاعة واجب الحذر .. ووقتها لن يتذكر احد حرفًا عن قصف حيفا والذعر الإسرائيلي وبطولات قرى الجنوب وقصف البارجة .. بل – الأدهى – سوف يقال إنك عميل لدى الموساد كلف بمهمة تبرير دخول إسرائيل إلى لبنان ...


-2-


منذ سمعت اسم (حسن نصر الله) للمرة الأولى وقعت في حبائله ككل من عرفه .. إنه كاريزما تمشي على قدمين، وعقل متزن ومنطق قوي لا تشوبه شائبة .. في الوقت نفسه هناك لمحة معينة من المكر اللطيف في عينيه، وهي لمحة تشي بأنه لم يتخل بعد عن براءة الطفل بداخله .. هذه البراءة بالذات هي التي تجعله يرفض أنصاف الحلول، ويحتفظ بدهشته تجاه ألعاب السياسة السخيفة .. الحق واضح لا شك فيه، والباطل واضح لا شك فيه، فلم الخلط إذن ؟.. إنه يتصرف بالضبط بالطريقة التي تتصور أنك كنت ستتصرف بها لو كنت تملك القوة، ولهذا يشعر الإسرائيليون بأن لهجة خطابه مختلفة عن لهجة باقي العرب الذين يتكلمون عن السيف والخيل ولا يستعملونهم ..

هذا الرجل لا يملك أوهامًا، ولا يشعر بحاجة لتفسير نفسه أو تقديم شهادة حسن سير وسلوك للغرب.. لقد كرر مرارًا إن المجتمع الدولي لا وجود له، وهو ما يؤمن به كل مواطن عربي، حتى ان أحدهم سألني: ما الذي نجنيه من مجلس الأمن والأمم المتحدة ولا عمل لهما إلا إدانتنا وحماية إسرائيل ؟.. لماذا لا تعلن الدول العربية جميعًا انسحابها من هاتين الجمعيتين التمثيليتين ؟.. حسن نصر الله يؤمن بالشيء ذاته، ويعمل بالضبط وفق بيت أبي القاسم الشابي:


لا عدل إلا أن تعادلت القوى ... وتصادم الإرهاب بالإرهاب




أذكر منذ عدة سنوات أن لبنان قام باستغلال حق مشروع له في مياه نهر الليطاني، لكن شارون هدد بأنه سيدمر أية مشاريع مائية تقام على هذا النهر لأنها تتعدى على حصة إسرائيل من المياه.. رأيت حسن نصر الله في قناة الجزيرة يقول بعبارات واضحة باردة: أية محاولة إسرائيلية ستقابل برد قاس، ولن يتأخر هذا الرد أكثر من الوقت الذي تستغرقه مكالمة أجريها على الهاتف المحمول !... هل تعرف ما حدث ؟.. أعلن (شارون) أن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين !!! وكنت أحسب هذه العبارة مقصورة على العرب فقط ..

الإسرائيليون أذكياء ويعرفون جيدًا أن هذا الرجل لا يطلق التهديدات جزافًا .. ليس صدام حسين الذي وعد بأن ينتحر مغول العصر على أسوار بغداد، ثم سقطت بغداد نفسها من دون رصاصة واحدة .. ليس الظواهري الذي فجر قنابل في مقهى أو في محطة أتوبيس في شبرا ليقتل طفلة عائدة من مدرستها، وذبح بعض السياح الألمان العزل، ولا يكف عن الكلام عن الكفاح برغم أنه لم يطلق طلقة واحدة على إسرائيل .. وفي العراق يتلخص كفاح القاعدة في تفجير مزارات الشيعة وذبح الجنود العراقيين .. قد يقول قائل إن الأمريكان هم من يفعل هذا.. إذن لماذا لم تنكر القاعدة ذلك في بيان واضح يا أخي ؟

الطريف في الموضوع هو أن الظواهري قرر أن يدلي بدلوه في الموضوع .. لا يمكن أن يسمح بكل هذه الشعبية لنصر الله الذي يوشك على التحول إلى بطل العروبة .. لابد من بيان لا معنى له كالعادة، وعلى الأرجح سوف يفجر محطة مترو في دولة أوروبية تساند العرب وترفض الحرب .. وسوف يتظاهر بالتحالف مع الشيعة مؤقتًا برغم أنه يراهم ألعن من الصهاينة ..


- 3 -


تذكرني ملامح (كوندوليزا رايس) بكومبارس مصرية شهيرة جدًا تلعب دائمًَا دور فتوة المدبح أو كودية الزار في الأفلام، وهذا مع احترامي الشديد للكومبارس لأنها لم تستمتع بقتل المدنيين، ولم تصف تمزيق الأطفال بأنه (مخاض من أجل شرق أوسط جديد).. فقط أتساءل ماذا كانت كودية الزار (رايس) ستقول لو كان هؤلاء الأطفال الممزقون في الصور إسرائيليين .. مش كله مخاض يا وليه ؟ (سامحوني على هذه اللغة السوقية)..

(بولتون) مندوب أمريكا في مجلس الأمن بشاربه الأبيض المضحك يقول إن ما فعله حزب الله بإسرائيل لا يمكن مقارنته بما فعلته إسرائيل في لبنان .. لقد خطف حزب الله جنديين كاملي التسليح وأزعج الإسرائيليين وجلب لهم (الخضة).. هذه جريمة شنعاء كما ترى لا تتساوى مع تمزيق بعض الأطفال العرب الذين لا قيمة لحياتهم .. والأرقام على كل حال تدل على تقييمهم للأمر .. خمسون إسرائيليًا مقابل أربعمائة عربي .. الإسرائيلي الواحد يساوي ثمانية من العرب وكانوا يودون لو ساوى عشرة ..

رأيت (بوش) بعينيه الضيقتين الغبيتين يقضم قطعة خبز بالكافيار، وبفم مليء يقول لبلير: "سيكون علينا الاتصال بسوريا لإنهاء هذا الـ Shit" .. ونسى الأحمق أن الميكروفون مفتوح. دعك من بلير الذي يقف مصغيًا لكلمات سيده الحكيمة، وقد رسم على وجهه تعبيرًا هو خليط من الاهتمام والفروسية والإخلاص من أعماق قلبه . وهو تعبير يجيد تمثيله دائمًا ..

سبحان الله !... شاهت الوجوه فعلاً.. من النادر أن يجتمع قبح القلوب وقبح الوجوه بهذا الشكل .. كلامك عن (الديموكراسي) يا مستر بوش لم يعد يخدع طفلاً عربيًا ..

لقد انتهت اللعبة ولم تعد هناك أية أوهام .. زال القناع عن وجه الأمريكي القبيح، وقد حرقت الولايات المتحدة أية جذور مستقبلية لها في العالم العربي .. حرقت أية مصداقية .. وكما قال أحد الإسرائيليين في جريدة (ها آرتز): "لقد قضينا على آخر أمل لنا في الذوبان في المنطقة .. صرنا مجرد بلطجي شرس أحمق .. "

قوة الرد الإسرائيلي رفعت الكثير من اللوم عما قام به حسن نصر الله وأعطته شرعية لا بأس بها .. عندما يقذفك طفل بحجر فتقوم بحرقه بالكيروسين، عندها لن يلوم أحد الطفل على قذفه الحجر .. سوف ينهال اللوم عليك أنت .. وأعتقد أن التراجع النسبي في موقف مصر والسعودية والأردن سببه بشاعة ما يحدث في لبنان، حيث صار لوم الضحية مخاطرة غير محمودة العواقب ..


- 4 -

قلبي معك يا شيخ (حسن نصر الله).. أعيش ذلك الكابوس الذي صار متكررًا .. أن ينتهي كل شيء في ساعات وبلا سابق إنذار، وأن يذوب حزب الله ونرى الإسرائيليين يملئون الجنوب اللبناني، بينما يبحثون عنك ويرجحون أنك فررت إلى سوريا .. رأيت هذا المشهد في كابول وبغداد، فليس من حقنا نحن العرب أن نشعر بنشوة النصر أو نتشفى في أقوى جيش في المنطقة وهو مرتبك ممزق .. وكما قال (محمد حسنين هيكل) تتعمد الولايات المتحدة في تكتيكاتها أن تظهر بمظهر المتعثر الذي يلاقي مصاعب في البداية.. هذا يرفع توقعات الجماهير لدرجة عالية، من ثم تكون السقطة مضاعفة لهذه التوقعات، ويكون الإحباط هائلاً.. المطلوب أن يؤمن المواطن العربي أنه لا جدوى، وأنه لا سبيل لهزيمة هؤلاء .. واحد فقط احتفظ بتفاؤله واحتفظ بيقينه الهادئ .. هذا الواحد ليس مغرورًا واهمًا مثل صدام حسين، وليس بائع كلام مثل الظواهري ..

أدعو الله أن تكون مدركًا لما تفعله حقًا يا شيخ حسن، وان تكون على قدر الحكمة وبعد النظر الذي توحي به كلماتك وقسماتك .. لقد احتل حزب الله مكانًا عزيزًا في وجداننا ومن العسير أن يصير هذا المكان خاويًا لا سمح الله


بيجاسوس 22-07-07 10:35 AM

مالكولم إكس:
درس لا يُنسى من الستينات


"لو لم تكن متأهبًا للموت من أجلها، فلتحذف لفظة
(الحرية) من قاموسك"
"لو اضطررت للتوسل إلى رجل آخر من أجل حريتك فأنت لن
تنالها أبدًا .. الحرية شيء يجب أن تناله أنت بنفسك"


مؤخرًا عرضت قناة إم بي سي 2 الفيلم المثير للجدل
(مالكولم إكس) والذي أراه للمرة الأولى .. قرأت عن الرجل الكثير لكني أعترف أن الفيلم البديع الذي أخرجه (سبايك لي) قدم بانوراما وافية لحياته بضعفه وقوته وصراعاته، وبتلك اللغة
التي لا يستطيع أي فن أن يقدمها سوى السينما .. منذ اللحظات الأولى للفيلم ترى مشهد العلم الأمريكي
يحترق فلا يبقى منه إلا حرف X بينما ترى المشهد الدامي
الذي صار شهيرًا جدًا .. رجال الشرطة البيض يضربون
(رودني كنج) أمام كاميرا أحد الهواة .. هذا المشهد
حدث عام 1991 ومعناه أن المشكلة لم تنته بعد،
برغم أن مالكولم إكس مات قبله بربع قرن..
يتفق (سيايك لي) مع (مالكولم) في أشياء كثيرة
أهمها المقت المطلق للرجل الأبيض .. هناك نوع
من العنصرية المضادة لدى (سبايك لي) الذي يظهر
البيض في أفلامه وحوشًا آدمية أو مجانين، وهناك فيلم له
لا أذكر اسمه يطارد فيه المدير الأبيض مبرمج الكمبيوتر الزنجي
العبقري متوسلاً له ألا يستقيل، وهذا التوسل يصل
لدرجة الزحف على الركبتين .. والسبب
أن المدير فصل سكرتيرة العبقري الأسود دون أن يستأذنه ..!
في هذا الفيلم نرى نشأة مالكولم إكس التي لم تترك له
سبيلاً سوى مقت البيض .. نشأة في
ولايات الجنوب شديدة التعصب وسط الأعناق
الحمراء كارهة السود .. له ستة أعمام قتل
البيض خمسة منهم .. أبوه القس الذي يدعو
إلى عودة السود إلى أفريقيا يتلقى هجمة من عصابات
الكوكلوكس كلان تحرق بيته، ثم يلقى حتفه على قضيب الترام في ظرو ف غامضة قيل إنها انتحار (من المسلي أن نتخيل أن أبي
هشم رأس نفسه ثم نام على قضيب الترام لينتحر).. الأم نفسها
شبه بيضاء لأن رجلاً أبيض اغتصب أمها .. لهذا تكره
لونها ولهذا تزوجت رجلا شديد السواد ... هنا يحكي
مالكولم عن عقدة الانتصار الجنسي كما أبدع في وصفها
الطيب صالح في (موسم الهجرة للشمال).. كل زنجي
يتوق إلى أن يظفر بامرأة بيضاء ليقهر كبرياء الرجل الأبيض ..
الحكومة الأمريكية تنزع الأطفال الثمانية من أمهم لأنها
غير مؤهلة لتربيتهم، ثم الأم تجن وتموت في مصحة ..
هذه هي الخلفية الأسرية التي خرج منها مالكولم ..
بيت متماسك متدين لكن الحكومة الأمريكية لم تتركه كذلك ..
_"في المدرسة كانوا يعتبرونني قطًا أو كلبًا بلا مشاعر،
وكانوا ينادونني بلفظة Nigger (زنجي) مراراً حتى
حسبتها اسمي .." لفظة Nigger لها خلفيات سيئة جدًا
تعود لأيام العبودية، وهي تختلف كثيرًا عن لفظة Negro المهذبة ..
لا سبيل لدى الفتى الأسود – الذي حرمته المدرسة
من أن يكون محاميًا - إلا أن يسير في الطريق الذي سار
فيه كثيرون قبله: الجريمة .. المخدرات .. النساء البيض ...
والنصر الرخيص الذي يحققه هو أن ينام مع امرأة بيضاء
ويقهرها بفحولته ويهينها ويرغمها على تقبيل قدمه ..
وهو لا يكف عن التساؤل وهو يرمق الأوغاد السود والعاهرات
ألم يكن من الممكن أن يأتي من بين هؤلاء مكتشف علاج
السرطان ؟.. كم طبيبًا ومحاميًا ومهندسًا فقده المجتمع
بفقد هؤلاء ؟في السجن – بتهمة معاشرة امرأة بيضاء
والسرقة – يقابل أهم رجل في حياته .. الرجل الذي يحدثه عن الإسلام وعن (أليجيا محمد).. (أليجيا محمد) هو زعيم أمة
الإسلام التي تدعو لنشر الدين الإسلامي بين زنوج أمريكا،
وهي صيغة غريبة نوعًا من الإسلام، وحتى مظهر (أليجيا محمد)
غريب كما نراه في الصور بالكاسكيت على رأسه الذي رسمت
عليه الشمس والقمر والنجوم .. لكن هذه الصيغة تقنع الشاب
الذي ولد من جديد ..في السجن يتعلم الفتى أن يقرأ الكتب ..
ويكون أول ما يفعله هو استكشاف لفظة (أسود ) في القاموس .
. إنها ترتبط بمعنى شرير .. عفن .. منفر .. قاس .. قذر ..
الابتزاز هو Black mail .. يقرر اكتشاف لفظة أبيض فيجد
أنها عكس الأسود في كل شيء .. هذا القاموس كتبه
رجل أبيض كما هو واضح .. من قال إن المسيح أشقر
أزرق العينين ؟... المسيح عبراني .. لهذا يوجد احتمال
لا بأس به أن بشرته داكنة ..
يخرج الفتى المسلم من السجن وقد صار ألد أعداء البيض،
وعداوته تتخذ صورة الحرب مع دعوة انفصالية قوية ..
"نحن مائة مليون أسود انتزعوا من وطنهم وبيوتهم وبيئتهم
ودينهم وألقوا هنا في أمريكا الشمالية ضائعين ...
أنا لست جمهوريًا .. لست ديمقراطيًا .. لست بالأحرى أمريكيًا
... أنا أسود .."يخطب في السود يدعوهم إلى إنقاذ ما تبقى
من أرواحهم: "أنتم سود .. سود رائعو الجمال .. الرجل
الأبيض يحاول تخديركم بالنساء والخمور والمخدرات ..
كل زجاجة خمر إنما هي مختومة بخاتم حكومي
أمريكي .. إن عصابات الكوكلوكس كلان التي كانت تحرق
بيوتكم في الماضي ما زالت موجودة . فقط هم استبدلوا
بالملاءة ثياب الشرطة .. " وفي حوار تلفزيوني يقول: "هناك
نوعان من الزنوج .. زنجي المزرعة وزنجي البيت .. زنجي البيت
يلبس ويأكل جيدًا وتجده يحب سيده أكثر مما يحب السيد نفسه ..
هذا الزنجي يدافع عن سيده ويقول بصدق إنه لا توجد مشكلة .."
خطب (مالكولم) لا تميل إلى التسامح الديني مع الآخر
أو أنصاف الحلول، ولا تخلو أبدًا من تهكم على المسيحية
بدعوتها المفرطة للتسامح، خاصة مع رمز التسامح
الزنجي (مارتن لوثر كنج).. إنه لا يقبل المسلم الأبيض
ولا المسيحي الأسود .. ثم يبلغ ذروة تطرفه عندما يدعو
السود صراحة إلى تكوين دولتهم الخاصة .. أن يصير البيض
والسود دولتين متجاورتين ..
وفي مشهد مهيب يسيء رجال الشرطة معاملة أحد
السود .. هنا يتجه مالكولم إلى قسم الشرطة ليرى
الرجل .. يحاول رجال الشرطة البيض طرده باحتقار على
طريقة: اغرب عن هنا .. لكنه يطلب من الضابط أن
ينظر من النافذة.. يا للهول !... الشارع كله يحاصره
السود .. يرتعد رجال الشرطة وينقلون المتهم إلى
المستشفى لعلاجه من جراحه، فيمشي السود في
مسيرة شبه عسكرية نحو المستشفى ليطمئنوا على
أخيهم .. فقط هنا يحاول الضباط البيض فض التجمهر،
فيشير مالكولم بإصبعه لرجاله فيبتعدون في صف واحد
منظم .. وكما يقول الضابط لصديقه: "هذه سلطة
مذهلة بالنسبة لفرد واحد !"
نفوذ مالكولم يتزايد .. هذه هي الفترة التي أطلق
فيها على نفسه اسم (إكس).. إكس الحرف الذي
يرمز للمجهول .. هو لا يعرف اسمه الحقيقي ولا من
أين جاء من أفريقيا، لهذا يعطي نفسه رمز المجهول .. دعك
من أن حرف X يذكره بالوسم الذي كانوا يحرقونه في
جلد العبيد. ولسوف نلاحظ أن أكثر أتباع جماعة أمة
الإسلام يحملون حرف X بدلاً من الاسم الثاني ..
ترتبط حركة مالكولم بجماعة أمة الإسلام و(أليجيا محمد)
الذي يجوب مالكولم البلاد يبشر بتعليماته كأنه رسول،
ويساعد في هذا طلاقة لسان مالكولم وثقل نطق أليجيا
محمد .. إنه يلعب ذات دور هارون مع سيدنا موسى
أو هكسلي مع داروين أو هالي مع نيوتن .. وهنا
نلمح صيغة التقديس الزائد التي يتعامل بها معه، فأليجيا
هو الحكمة المطلقة .. وهو الذي يعرف كل شيء، وهو
لا ينطق عن الهوى .. تلك هي المشكلة ، فكل
إنسان قابل للمناقشة والنقد ..
لكن مالكولم سوف يدفع غاليًا ثمن هذا الحماس
وهذا التفويض المطلق .. وسط دوامة التقديس
ونشوة الثورة هذه يكتشف أن أعضاء أمة الإسلام
كدسوا الثروات، ويكتشف ان أليجيا محمد أنجب طفلين
غير شرعيين من سكرتيرتين لمكتبه، ويكتشف أن
اليجيا يكرهه بسبب بريقه المتزايد وسط السود ..
تأتي الرحلة التي قام بها مالكولم إلى السعودية للحج
والتي كانت منحنى مهمًا في حياته .. في هذه الرحلة
التي أذابته روحيًا اكتشف انه جزء من كيان ضخم عملاق،
وأن هناك مسلمين أكثر بياضًا من الثلج، وأنه لا يستطيع
أن يرفض الآخرين لمجرد أنهم ليسوا سودًا .. "لقد كنا
نتحرك في ثورتنا مخدرين كأننا الزومبي، لكني بدأت أفيق
وأفهم".. لقد أفاق من عالم (أمة الإسلام) ليدخل الإسلام
الحقيقي .. من الطريف أنه تعرض لمشاكل جمة في المطار
لولا أنه اتصل بابن عبد الرحمن عزام، وسرعان ما جاءه
الأمير فيصل في الفندق ليبلغه بأنه ضيف على المملكة ..
في هذه الرحلة إلى الشرق وأفريقيا يمر مالكولم بمصر ..
لا ينسى الفيلم أن يرينا لمحة من زحام الناس حوله وفضولهم،
وبائع الطماطم الذي يعرض عليه شراء ثمرة الطماطم بعشرين
جنيهًا – في الستينات – وهي عادة خداع السائح التي
لم يتخل عنها المصري قط !
لقد تغير مالكولم فعلاً.. لم يعد يرى الإسلام بالمفهوم العنصري
الضيق لرجل أسود يريد الانتقام، بل هو يراه بمنظور واسع
يشمل كل البشر.. وكما قال: "عندما كنت في مكة استطعت
لأول مرة في حياتي أن أطلق على رجل أبيض أشقر
الشعر لفظة (أخي)".. وحينما عاد كان اسمه الجديد
هو (الحاج مالك)..
هنا تأتي لحظة الصدام مع جماعة أمة الإسلام
.. (مالكولم) القوة الضاربة للجماعة صار عدوًا لها .. وأي عدو !!!
يتلقى عدة تهديدات بالقتل من ذلك التحالف غير
المقدس بين البيض والمستفيدين من جماعة أمة
الإسلام .. هناك صورة شهيرة جدًا له في تلك
الفترة وهو يحمل بندقية آلية ويسترق النظر من
خصاص النافذة .. وفي هذه الفترة اعترف أحد خلصائه
بأن جماعة أمة الإسلام كلفته بزرع قنبلة في سيارة مالكولم ..
يتحرك مالكولم نحو نهايته التي يعرفها ويتوقعها
ويوشك أن يعرف موعدها (21 فبراير 1965) ... نفس السيناريو
الذي عرفناه مع حسن البنا عندما عرف أن الحكم بإعدامه
قد صدر من القصر.. وفي خطبة عامة له في نيويورك
يحدث أحد الأشخاص جلبة تستجلب انتباه الحراس،
وفي اللحظة التالية يهجم عليه من يفرغون في
جسده عشرات الطلقات ويفرون .. هناك من تم
اعتقالهم لكن الفوضى التي صاحبت الحدث ظلت قائمة
حتى اليوم، وما زال الكثيرون يتساءلون: من قتل
مالكولم إكس حقًا ...؟
القصة تثير العديد من علامات الاستفهام، وفيها مباحث
كثيرة تذكرنا بحالنا .. ما النتيجة المحتومة للتعصب
ومعاملة مجموعة من المواطنين على أنها من الدرجة الثانية ؟
.. ما خطر الانقياد الأعمى وتقديس بشر ليس نبيًا أو رسولاً ؟
.. ما خطر غياب المحاسبة عمن يفترض أنهم ضمير المجتمع ؟
.. لماذا يقتلوننا في اللحظة التي نفقد فيها تعصبنا ؟.. ثم –
الأهم – برغم تعصب المجتمع الأمريكي فإننا ننحني احترامًا
لتفتحه، وسماحه لرجل يدعو إلى تدمير أمريكا والحرب على
البيض والانفصال بأن يظل حيًا حتى التاسعة والثلاثين !.
ولو تركوه لأمن الدولة عندنا لانتهت المشكلة بعد أول خطبة له !
أسئلة لا حصر لها .. وفيلم لا يمكن نسيانه .. وشخصية
ما زالت حية ساخنة إلى اليوم .. لقد تغير الكثير لكن
(مالكولم إكس) ما زال حيًا .. مشاهد ضرب رجال
الشرطة لـرودني كنج تقول إنه ما زال حيًا ..!





بيجاسوس 22-07-07 10:36 AM

الكابوس الأمريكي



كلما رأيت تداعي الأحوال في مصر، وذلك الشرخ الذي يتسع ويتسع في الجدار منذرًا بالويل، فكرت في أنانيتي الخاصة عندما لم أفكر في الهجرة للولايات المتحدة من أجل أولادي .. لقد عانى (كونتا كينتي) جد (أليكس هيلي) الكثير عندما تم اختطافه من سواحل غانا وحُمل في قاع سفينة إلى العالم الجديد، لكننا – لو فكرنا تفكيرًا جانبيًا – لوجدنا أنه كان يكافح كي ينعم أحفاده اليوم باستعمال الألفاظ البذيئة وشرب الكولا ورقص الراب في بروكلين .. يكفي أن أحد أحفاده صار هو الكاتب العظيم (أليكس هيلي) ..

لي صديق فعلها في هذه السن المتأخرة نسبيًا .. السن التي لا تسمح لك بأن تغسل الصحون أو تقف في محطة وقود، بينما تقضي الليل منكبًا على دراسة الطب .. لكني في النهاية أجد أنني بالفعل لا أحب نمط الحياة الأمريكي ولا أطيقه .. حياة رُسمت سلفًا بكل مراحلها وسوف تتحرك فيها كأنك قطار يتحرك على خط حديدي .. صحيح أنك في مصر قطار آخر يتحرك بجرار تالف على خط حديدي متآكل، لكن الحياة هنا في مصر ذات طعم ولون ورائحة ..الكثير منها في الواقع ..



لو أنني ولدت في نيويورك وكنت ذكرًا بروتسنتيًا أبيض WASP فإن حياتي مرسومة عبر محطات معروفة صرت أحفظها من قراءة المجلات الأمريكية ومشاهدة أفلامهم ..



عالم المراهقة: هذا هو عالم المدرسة الثانوية وقلة الأدب والتطاول على المعلمين لأن التعليم ممل Boring.. مشكلتي هي البلطجي (هانك) الذي يتربص بي لأنني نحيل وبنظارة وهناك نمش على وجهي، وهو يتعمد إهانتي وسكب اللبن على رأسي ساعة الطعام، ولا احد يتعاطف معي في مجتمع لا يرحم المهزومين سواء كانوا هنودًا حمرًا أو عربًا أو زملاءك في الصف . ثم يأتي موعد الحفل الراقص السنوي وانتخاب الـ Broom queen أو ملكة الحفل .. كيف أقنع فتاة بأن تصحبني للحفل ؟.. كيف يرضى أبي بالتخلي عن السيارة ؟.. في حفل كهذا سوف تفقد حسناء الصف (كارول آن) عذريتها، وهي ليست مشكلة لأن أباها كان سيصحبها للطبيب النفسي لو تأخر الأمر أكثر من هذا ، ولربما ظهرت في إحدى حلقات (أوبرا) لمناقشة مشكلتها ...

البيزبول لعبة مملة يستحيل فهمها .. ملعب يشبه الماسة وشخص يضرب الكرة بمضرب يستعملونه لقتل الزوجات كذلك، وهناك ثور يلبس درعًا على صدره يتلقفها بقفاز .. ثم يصرخ الكل : "اركضوا يا فتيان !" ونحرز نقطًا لا ادري على أي شيء، لكن البيزبول هو الطريقة الوحيدة لقبولك في مجتمع كهذا، وكي تحبك الكتاكيت Chicks .. هناك كرة القدم الأمريكية العجيبة التي تلبس فيها الدروع وتضرب عددًا من الثيران، ولا تلمس قدمك الكرة مرة واحدة .. بينما المدرب (رالف) يصرخ في وحشية: سوف نسحقهم يا شباب !

كلها ألعاب معقدة تختلف عما يلعبه العالم كله، وكلها تحتاج إلى إمكانيات وثراء .

الكلية: تقريبًا نفس روتين المدرسة الثانوية.. أضف لهذا الحفلات الصاخبة التي يشرب فيها الجميع البيرة Booze وتتعرى الفتيات تمامًا .. هذه هي الفترة التي سأجرب فيها المخدرات لأول مرة .. سأكون محظوظًا لو شاركت في احتفالات (ماردي جرا) التي تذكرك بأعياد (باخوس) الرومانية الماجنة..

بعد التخرج: أنا أعمل في شركة تنفيذية ما تمارس المنافسة قاطعة الرقاب مع شركات أخرى .. القميص قصير الكمين وربطة العنق والعروض على جهاز الكمبيوتر .. مغازلة زميلة العمل عند براد الماء .. العمل من التاسعة للخامسة والخوف المزمن من الطرد والجوع .. لو طردت سأقوم بتعبئة لوازمي في علبة كبيرة من الورق المقوى وأخرج من الباب يرافقني رجل الأمن ...ولسوف أصير سكيرًا...

الأسرة: حفل الزفاف والسيارة التي ربطوا بها علب طعام محفوظة فارغة تحدث قعقعة .. مشكلة زوجتي هي تقليل السعرات في الطعام بسبب الشحوم حول الخصر .. يجب أن أقلل من ولعي بشطائر الهامبرجر والجبن .. ابنتي (سو ألين) صارت الآن مراهقة وقحة تصر على أن ترافق الفتية للمرقص وتقول لي: "داد .. أنت ابن عاهرة وسافل و[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف] .. أنا أكرهك".. تقولها وهي تهز شعرها الطويل ليغطي نصف وجهها ثم تندفع خارجة من الغرفة كنمر هائج …

فأبتلع الإهانة .. لو صفعتها لشكتني للشرطة وقُبض علي .. لابد من الصبر حتى أحل مشكلة تعاطيها المخدرات ومشكلة الحمل في سن الخامسة عشرة .. أذهب أنا وزوجتي لحفلات الكوكتيل حيث أقف أمام الناس لأحكي لهم عن (أظرف شيء حدث لي في طريقي لهذا الحفل).. و (أفضل مطعم يمكن أن تتناول فيه شطائر التونة بالبطاطا المقلية).. ثم نعود للبيت لتطالبني زوجتي بالطلاق بلا سبب وتبدأ في حساب ما يناله كل منا من ممتلكاتي ..

ربما تنجب زوجتي – لو لم تطلقني - طفلاً مشوهًا له أربعة أنوف وثلاث آذان وذيل .. هنا أقرأ في الصحف عن معهد في أوهايو متخصص في الأطفال الذين لهم أربعة أنوف وثلاث آذان وذيل .. أذهب هناك لأقابل د. (سميث باركر) خبير الأطفال ذوي الأربعة أنوف والثلاث آذان والذيل الذي يقول لي: "أهم شيء أن نجعل طفلك لا يشعر بالاختلاف عن الآخرين"

هكذا يصير طفلي رسامًا وأستاذًا جامعيًا وبطلاً في كرة القدم ، ويظهر في حلقة من حلقات (أوبرا) حيث يبكي الجميع مع كثير من (الواو والأوه وماي جاش) ...

السياسة: سواء كنت ديمقراطيًا أو جمهوريًا فأنا مؤمن أن الفلسطينيين إرهابيون يحاولون أن يأخذوا من اليهود الطيبين أرضهم .. أؤمن بالقيم الأمريكية وطريقة حياتنا .. أؤمن بالديموكراسي وماي فيلو أمريكانز .. أدعو لهم بالنصر في العراق الذي لا أعرف أين هو ولا مشكلته بالضبط .. ولا يعنيني شيء من هذا .. أحترم بشدة – أو أتظاهر باحترام - اليهود والزنوج والشواذ جنسيًا حتى لو كنت أنتمي للحزب الجمهوري ..كنت أمقت الشيوعية واليوم أمقت الإسلام .. هؤلاء القوم الذين يعبدون القمر ويذبحون الأطفال قرابين من أجل إلههم الذي يسمونه (الله) .. ويرقصون عراة في موسم الحصاد ..

الحادث: ثم أسقط من على الجبل وأنا أمارس التزلج فيتهشم ظهري وأصاب بالشلل، لكني أصر على المقاومة .. وأروح أضرب كرة البيزبول في الحائط طيلة اليوم على سبيل التدريب .. هكذا أستعيد صحتي، وأكتب قصتي في كتاب اسمه (كيف قهرت الشلل) وهو الكتاب الذي يشتريه التلفزيون فورًا، من ثم أتمكن من شراء ذلك البيت الجميل الذي كنت احلم بشرائه في (بالتيمور)..

النهاية: هذه هي سن سرطان القولون.. مشكلة التقدم في الرعاية الصحية هي أنك لا تموت بالتيفود ولا نوبة قلبية في سن الخمسين كما كان يحدث، بل تنتظر حتى سن الثمانين حين تقرر خلاياك أن تصاب بالجنون.. سأموت في المستشفى ويحرقون جثتي .. ثم يقف أولادي متظاهرين بالتأثر فوق قبري ويطوق أحدهم كتف أمه مواسيًا ويقول آخر: "وداعًا داد .. كنت عظيمًا ... "

أموت مطمئنًا لأن أولادي باقون من بعدي وسيمشون في نفس الدرب، ويحافظون على القيم الأمريكية .. قيم (علم النجوم اللامعة)...

هذه هي حياتي لو نشأت في أمريكا أو هاجرت إليها .. وإنني لأسألك بكل صدق : متى عشت ؟.. متى اختلفت ؟... هل هذه هي الحياة التي من أجلها أغسل الأطباق، ,و أدرس الطب ليلاً، وأبحث عن فتاة أمريكية (مضروبة) تقبل الزواج مني وتمنحني الجنسية ؟.. بصراحة عندما أقارن بين حياة (ماي فلو أمريكانز) هذه وحياتنا الحالية بما فيها من فوضى وعشوائية وفقر ومرض و(شعبان عبد الرحيم) فإن شعبان يكسب بالتأكيد ..!






بيجاسوس 22-07-07 10:38 AM

المطففون



كنت أموت من الظمأ في ذلك اليوم الحار، ولما كنت بطبعي غير مولع بالمياه الغازية، فقد اتجهت إلى محل لعصير القصب .. حبي الأول الذي أشعر بدهشة لكونه لم يغز العالم بعد، هناك صب لي البائع كوبًا كبيرًا حملته متلمظًا إلى شفتي، لأجد أنه عديم الرائحة والطعم.. فقط له لون كريه يذكرك بحساء القلقاس ...
أصابتني الحيرة .. كم يبلغ هامش الربح في كوب من عصير القصب ؟.. بالتأكيد هو لا يقل عن 80% .. وبالتالي حصل البائع على أربعين من الخمسين قرشًا التي هي ثمن الكوب، فماذا يريد ؟.. ولماذا يجب أن يغش العصير بخلطه بالماء البارد ؟.. لماذا لا يقدم لي سلعة جيدة ويكتفي بأربعين قرشًا بدلاً من ثمانية وأربعين ؟
قلت للرجل غاضبًا إنني لن أتعامل معه مرة أخرى، فهز رأسه في مزيج من الاعتذار الساخر واللامبالاة .. ماذا يخسره لو فقد زبونًا وماذا يكسبه إذا احتفظ به ؟
المهم بالنسبة له أنه أخذ مني هذه المرة وانتهى الأمر، ومحدش حينام جعان .. غدًا يأتي سواي .. هكذا تحول الإيمان بالرزق إلى مبرر للخداع بلا توقف ...
الحقيقة أن فلسفة هذا الموقف تنطبق على كل شيء في حياتنا بدءًا بكوب عصير قصب وانتهاء بسيارة فاخرة أو فيلا في الساحل الشمالي ..
***
برغم إنني طبيب، فأنا لا أضع علامة الهلال على زجاج سيارتي لأسباب واضحة .. إن هذا الهلال هو علامة استحلال دمي ومالي لدى أي ميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]ي أو تاجر أتعامل معه .. ولكم سألني هذا الصنايعي أو ذاك عن مهنتي فأقول (مدرس) أو (مندوب مبيعات) بلهجة عابرة ...

هذا الهلال يوشك أن يكون إعلانًا يقول لهؤلاء: (أنا أحمق .. فاخدعوني).. عندما يتعاملون مع طبيب فهم يتكلفون ذلك الاحترام الممزوج بالسخرية، ويقولون: يا دوك ألف مرة في الساعة .. وهم لا يكفون عن سرقتك .. المهمة التي يدفع سائق التاكسي ثلاثة جنيهات ثمنًا لها يطالبونك أنت بثلاثين من أجلها .. شعارهم هو : هذا رجل ثري .. رزق حلال أرسله الله لنا .. لقد خُلق ليُخدع .. فإن لم نخدعه فمن نخدع إذن ؟

أنا لا أملك عيادة، وبالتالي لا أعتقد أنني أخدع المرضى بأي شكل، ومعظم من أعرفهم من أطباء لا يفعلون ذلك، لكن كل واحد من الحرفيين أو التجار لديه ذخيرة كاملة من القصص عن أطباء نصابين ، وعن (الحاجة) التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وبرغم هذا أصر الطبيب على أن يدفعوا نصف مليون من الجنيهات مقدمًا قبل أن يفحصها .. أعرف أن هذه القصص تحدث فنحن لسنا في يوتوبيا ، لكن هذا ليس مبررًا للتعميم، وليس مبررًا للانتقام مني أنا بالذات أو من أول طبيب يطلب عونهم
في تصرف هؤلاء غباء لا شك فيه، لأنك لن تطرق بابهم ثانية.. لكنهم ليسوا من أساتذة علم التسويق، ولا يعنيهم في شيء أن تعود أو تذهب للجحيم .. لقد حصلوا على قطعة منك وفروا بها، وفيما عدا هذا هم مؤمنون بالرزق وبأن هناك مغفلاً آخر سوف يأتي غدًا ..
***
والغريب أنهم غير مخطئين تمامًا ..

رأيت أكثر من صديق ابتاع أشياء باهظة الثمن لا يحتاج لها عن طريق التسوق بالتلفزيون .. جهاز تخسيس وصابونة تذيب الشحوم وسبراي يزيل أي خدوش من سيارتك .. كنا نعيش قبل صابون إذابة الشحوم، ومن المؤكد أننا سنعيش بعده، لكن الإعلان يقنع الناس إن حياتهم مستحيلة وإنهم يعيشون كالكلاب من دون هذا الصابون ..

جرب صاحبي عبوة كاملة باهظة الثمن من السبراي الذي يعلنون عنه كي يزيل خدشًا عن سيارته، بلا أية نتيجة .. اتصل بالشركة فقالوا له إنه بحاجة لعبوة ثانية لأن سيارته (ميتالك).. ابتاع العبوة الثانية ولم يحدث شيء .. هنا فقط أدرك أنهم نصابون، لكنهم بالتأكيد جمعوا قدرًا لا بأس به من المال، ولن يضيرهم في شيء أن يعرف كل الناس أنهم نصابون .. إنهم الآن يبحثون عن طريقة النصب الجديدة ..

تسأل بائع الفاكهة عن الأسعار فيذكر لك في ثبات أرقامًا تعرف أنها ضعف سعر السوق .. هذا الرجل يرى من الحلال له أن يكسب الضعف بلا حق وأن أخسر أنا الضعف، لمجرد أنه مولع بنفسه ولمجرد أنه هو .. بينما يمكنه أن يشق بطني لو حاولت العكس .. الفارق بين الشطارة في التجارة والسرقة واضح أو يجب أن يكون واضحًا .. تحاول أن تفاصل فيرفض في غلظة وقلة ذوق وتعال .. كأنه يقول لك: ابتعد عني ولا تصدع رأسي .. فلتذهب إلى حيث ألقت ..

تلاحظ أنه لا يبيع تقريبًا منذ الصباح، وإنه من الخير له لو تنازل قليلاً عن جشعه كي يعود ببعض المال لأطفاله، لكنه يفضل أن يموت جوعا على أن يكون سمحًا ..

لا ينكر أحد أن هناك الكثير من التضخم والخلل الاقتصادي في مصر، لكن الجشع يلعب دورًا لا بأس به كذلك .. لا أعني أن الغلاء ظاهرة نفسية، لكن لا تنكر أن بعض السلع غالية لأن الكل يقول إنها غالية .. بعض الأسعار مرتفعة لأن الباعة يقولون إنها مرتفعة ..

هناك كاريكاتور رائع للفنان مصطفى حسين وأحمد رجب يظهر بائع ليمون يعرض بضاعته في علبة فيديو قديمة .... بائع من نمط الأوغاد الذين يجيد الفنان رسمهم ببراعة يرفع حاجب (الاشمئناط) الأيسر ويكلم الزبون قائلاً: "أيوه اللمونة بجنيه .. ما تشوف سعر الفيديو كام ؟"

وقد أقبل الغلاء مضطرًا، لكني – كما في حالة كوب عصير القصب تلك – لا أقبل الغش .. ما دمت قد دفعت ثمن الخدمة فلابد أن أحصل على مقابل لها .. دفعت ثمن اللحم كاملاً فما معنى أن أنال بضعة كيلوجرامات من الدهن والشغت ؟.. المشكلة أن هذه صارت القاعدة في مصر .. أنت لا تنال مقابل مالك أبدًا .. أنبوب معجون الأسنان أو الحلاقة ينتهي بعد ضغطتين لأنه يحوي فقاعة هواء عملاقة، وكأن صانعيه يحسبون أنهم يعبئون اسطوانات أكسجين .. كل طبيب يعرف معجزات الدواء المغشوش وكيف يشرب المريض زجاجة دواء سعال كاملة فلا يهدأ السعال لحظة، وكيف يبتلع علبة أقراص كاملة فلا تنخفض حرارته درجة، بينما نفس الدواء المستورد يصنع الأعاجيب .. كل طبيب يعرف (المقويات) ومضادات التأكسد التي تلتهم ميزانية المريض لأن ذرات جسده تزيد الكترونًا .. حتى أثناء كتابة هذا المقال اكتشفت أن حبارة الطابعة المعبأة في مصر قد فرغت .. أنا متأكد من أنني لم أطبع سوى خمسين صفحة وإن كنت عاجزًا عن إثبات ذلك .. إذن الصفحة الواحدة كلفتني جنيهين ... سأنهض لأغسل يدي بصابونة ينكمش حجمها في كل مرة أبتاعها فيها .. أشرب كوب شاي أضافوا له البيكربونات ليبدو غامقًا، ثم أبتلع قرصين من علاج الضغط الذي لا نفع منه، والذي يشبهه الأطباء بقطع الجبس ..

فإذا صار الغش التجاري والمغالاة دينًا فأنا أطالب هؤلاء بأن يكونوا من أتباعه

المخلصين .. لكنهم (إذا اكتالوا على الناس يستوفون).. دع واحدًَا من هؤلاء يتقاض

ثمن دوائه التالف أو لحمته المشغتة أو عصيره المخلوط بالماء بنقود مزورة ولسوف

يملأ الدنيا صراخًا عن الشرف وكيف انعدم الضمير، و(إنما الأمم الأخلاق ما بقيت)..

يقولها وهو يجرك من قفاك إلى أقرب قسم ..


ما الذي يفعله المزور الذي يطبع النقود على طابعة ليزر ملونة، ويختلف أخلاقيًا عما يفعله هؤلاء ؟.. كلاهما يريد كل شيء مقابل لا شيء .. الحقيقة أنني كلما فكرت في الموضوع ازددت دهشة .. لماذا لا نرحم أنفسنا ؟... وإذا كنا لا ننوي أن نتصرف بتحضر فلماذا لا تتدخل الدولة بحزم ؟ .. لماذا لا تمنع هذا الشلال المتدفق من الغش التجاري والاستغلال الذي لا يتوقف ؟





سؤال آخر: هل تعرف وحياة والدك الطريق لشراء طابعة ليزر ألوان مستعملة بسعر معقول ؟!!!!!


الساعة الآن 07:23 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية