منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات أحلامي (https://www.liilas.com/vb3/f506/)
-   -   303 - عنيدة - فلورا كيد - روايات أحلامى المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/t207409.html)

سيريناد 16-02-20 09:30 PM

303 - عنيدة - فلورا كيد - روايات أحلامى المكتوبة
 
https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...b473440a78.gif

عــنــيــدة
من روايات أحلامى

الملخص

https://dorar.at/imup2/2019-08/62978...d5805da7c7.gif

" أتريدين أقناعي بأنك تحبينه لنفسه, وأنك مستعدة لمنحه كل شيء من دون مقابل؟ آه كم أنت ساذجة!..........".
أمرأتان ورجل واحد سيء السمعة , ذهبي الشعر , دائم الأسفار , ووسط الرياح والأمواج المتكسرة على الشاطىء الغربي من أسكوتلندا يحصل اللقاء الذي يستمر على كرّ وفرّ .
لا الثلج المتساقط على السفوح الجليدية يؤخره ولا المداخلات العنيفة من قبل الأصدقاء .......لكن موراغ وديفيد غير متفقين على أمور كثيرة وبينهما فرجينيا المتسلطة ذات السطوة الكبيرة والنفوذ , كذلك بينهما أندي الرقيق المحب رفيق الطفولة وموراغ موعودة به منذ سنوات طويلة.....
فكيف أخيرا , يتمكنان من أختراق كل التناقضات؟

سيريناد 16-02-20 09:34 PM

رد: 303 - عنيدة - روايات أحلامى المكتوبة
 
الحب من اول نظرة

https://lh4.google.com/Dani.vet23/SE...WA/5u5ekm1.png

توقفت موراغ هندرسن عن التدقيق في دفتر حسابات الفندق الصغير الذي كانت تباعد والدتها في أدارته,ووضعت رأسها بين كفيها على الطاولة أمامها , وراحت تحدق من خلال نافذة غرفة الطعام الى الأمواج المتلاطمة والجزر الداكنة التي كادت الأمطار الغزيرة تحجب رؤيتها , فالخريف في تلك السنة بدأ بداية قاسية أوقعت كثيرا من الأضرار في ذلك المنتجع الصيفي الصغير , على الشاطىء الغربي لأسكوتلندا حيث كانت تقيم موراغ هندرسن , ولحسن الطالع أن الفندق لم يتكبد ألا القليل من تلك الأضرار , مما أفرح موراغ بعض الشيء لأن موازنة حسابات الفندق لا تسمح ألا بصرف مبلغ زهيد من المال لأصلاحه , أضافة الى المبلغ المتوجب صرفه لأصلاح الأضرار العادية التي أصيب بها الفندق في الصيف الماضي .
ويا له من صيف! فالشمس لم تشرق فيه ألا أياما قليلة في مطلع حزيران ( يونيو) وأيلول( سبتمبر ) , أما في سائر الأيام , فكان المطر المنهمر بغير أنقطاع , والريح الهوجاء , يحملان المصطافين , نزلاء الفندق , على العودة الى مدنهم قبل أنتهاء عطلتهم الصيفية , ولولا بعض النزلاء , ومنهم بيتر مورتن , الذي كان يدير أعمال بناء محطة لتوليد الطاقة الكهربائية في مكان مجاور على ذلك الشاطىء ,وزميله المهندس في أدارة تلك الأعمال , لعجز الفندق عن تحقيق أية أرباح في تلك السنة .

فهل كانت جين هندرسون والدة موراغ على علم بالحالة المالية البائسة التي كان يعانيها الفندق؟ هذا ما كان يشغل بال موراغ , على الرغم من أنها كانت تثق بأن والدتها بعيدة عن الحماقة والتهور , فكلما حاولت أقناعها بالتقليل من وجبة الطعام كضرورة لتجنب الخسارة , رفضت وقالت:
" كيف يقوم الرجال بأعمالهم خير قيام بوجبة هزيلة من الطعام ؟ وكذلك , فكيف أحتفظ بسمعتي كأفضل طاهية للطعام على طول هذا الشاطىء وعرضه؟".
وكان هذا صحيحا , فهي تعلمت فنون طهي الطعام في أشهر مدارس البلاد ,وكذلك فعلت أبنتها موراغ , ولكن لفترة قصيرة لأن والدها مات فجأة منذ سنة وبضعة أشهر , فأضطرت الى العودة من مدرستها لمساعدة والدتها في أدارة شؤون الفندق.
وكان والدها الذي كان يعمل في شركة المقاولين التي تعاقدت لبناء محطة توليد الطاقة الكهربائية هو الذي أتى ببيتر مورتن الى الفندق حين بوشر بناء المحطة لأربع سنوات خلت , أما الآن , وبناء المحطة أشرف على الأنتهاء , فلم يبق لبيتر مورتن ولزملائه المهندسين وسواهم من المستخدمين ألا أن يغادروا المكان عائدين الى حيث جاؤوا , وهكذا يرجع المكان الى ما كان عليه سابقا من الحياة الرتيبة.
وفيما كانت موراغ غارقة في التفكير , صاحت والدتها تسألها أين أنت ؟ فلما أجابت أنها في غرفة الطعام , قالت لها والدتها:
" ماذا تقدرين أن تفعلي يا أبنتي , والغرفة كاد يلفها الظلام؟".
قالت هذا الكلام ودخلت الى الغرفة لتضيء كل الأنوار , ثم أسرعت الى النوافذ وأسدلت الستائر المخملية الطويلة , فعادت الحياة الى الغرفة ,وعندئذ ظهر ما كان في الغرفة من طاولات صغيرة وكراسي , فضلا عن خزانة ضخمة من خشب السنديان مطعّمة بالنحاس , وبدت النار في الموقدة المبنية بالأجر الأحمر على وشك التحوّل الى رماد , فما كان من جين هندرسن الوالدة ألا أن ركعت متأففة غاضبة تزيح الرماد وتضع مكانه قطع الحطب.
ثم وقفت وحدّقت الى أبنتها التي ظلت جالسة الى أحدى الطاولات , وقالت لها :
" كفاك أستسلاما لأحلام النهار! هل أنهيت التدقيق في دفتر الحسابات؟".
قالت ذلك وأخذت تخرج الملاعق والصحون من الخزانة , وترتبها على مائدة الطعام.
فأجابتها موراغ وهي تتمطى وتتثاءب :
" كلا , لم أنهه بعد , سأنهيه هذا المساء أن شاء الله , ما بالك تهيئين موائد الطعام ؟ هل حان الوقت؟".
فقالت أمها:
" نعم , وكان عليك أنت أن تهيئيها من قبل , لأن بيتر سيصطحب رجلا آخر هذه الليلة...... رجلا أسمه ديفيد , وسيقيم هنا الى كانون الثاني ( يناير).
فسألتها موراغ بغير أهتمام أذا كان الرجل قادما من لندن , وكانت تلملم بعض الفواتير والوصولات وتضعها في أماكنها الخاصة بها , وكانت موراغ , بينها وبين نفسها , لا تبالي بأولئك الرجال البريطانيين ذوي القامات النحيلة , واللهجات الغريبة , والتصرفات المرحة , الذين جاؤوا للعمل في محطة التوليد الكهربائي , ذلك أنها , وهي الخجول بطبعها , لم تجد ما تقوله لهم , على الرغم من أن جمالها كان يستهويهم وكان لديهم الكثير مما يقولونه لها , وذلك قبل أن يلاحظوا قلة أهتمامها بهم , فتركوها وشأنها , أما الآن فتمنت أن يكون القادم الجديد كهلا ومتزوجا , بحيث لا يكون عليها أن تتحمل , كعادتها , الدعابة والمزاح اللذين طالما أزعاجا وأحرجاها.
وقالت لها أمها :
" هذا القادم الجديد سيحل محل أحد المهندسين في محطة التوليد الكهربائي , بعد أن أقعده المرض , وكان فيما مضى يشغل الوظيفة نفسها , ولكنه رقي الى وظيفة أعلى وأحتفظت الشركة به في مكاتبها بلندن , وبيتر يعرفه جيدا , ويبدو أنه مسرور لمجيئه الى هنا".
فقالت موراغ:
" كم تضحكيني عندما تتكلمين عن المحطة كأنك تعرفين كل التفاصيل ........ أو كما لو كنت أحد مهندسيها !".
فأجابت أمها:
" نعم , أشعر أحيانا كأنني أعرف كل شيء , بعد أن أصغي الى أحاديث بيتر والآخرين , وتمر أيام تبدو فيها محطات التوليد الكهربائي كأنها طعامنا وشرابنا , خصوصا في فصل الشتاء , حين ينقطع مجيء الزائرين , والآن فاتني أن أسألك ماذا يقول آندي في رسالته , هل يذكر متى سيعود؟".
وأخرجت موراغ الرسالة من جيب سروالها وتمعنت في طابع البريد , وكانت الرسالة وصلتها ذلك الصباح من آندي روبرتسن الذي كان في عرض البحار على أحدث ناقلة للنفط , حيث يتناوب العمل كمهندس بحري.
وقالت موراغ لأمها:
" يقول آندي أنه سيعود في عطلة الأعياد , ورسالته مصدرها أثينا حيث رست الناقلة من دون ميعاد , وكان هذا من حسن حظ آندي , لأن الشمس هناك مشرقة والطقس جميل ودافىء , آه , كم أتوق الى السفر , فهذا المكان , دارليغ , موحش وكئيب في فصل الشتاء , بحيث يغادره الى أنكلترا أو سواها جميع الذين في سن الشباب , فبعد قليل سيذهب جوني الى الجنوب ,وتقول آن أنها حالما تنهي , هي وفرانك , دراستهما في كلية الفنون سيرحلان الى كندا وهكذا أودع أقرب أصدقائي اليّ".
وهنا رمقت جين أبنتها بنظرة كلها حنان , وعادت بالذاكرة الى الوقت الذي قطعت فيه موراغ دراستها لتعةود الى البيت حتى تساعدها في أدارة الفندق بعد موت زوجها , وقبلت جين هذا الأمر على مضض , لأنها كانت تفضّل أن تتابع موراغ دراستها الجامعية , بحيث تحصل على درجة علمية تؤهلها العمل في سبيل الرزق , ولكن موراغ رفضت ذلك بعناد , وها هي الآن جالسة الى الطاولة بقامتها الهيفاء , والرسالة في يدها , وعيناها الزرقاوان الواسعتان مليئتان بالشوق والحنين تحت أطراف شعرها الأسود القصير , وشفتاها المكتنزتان تتدليان قليلا حول مبسمها , وكم تمنت جين في تلك اللحظة أن تكون لها القدرة على أقناع أبنتها بالعودة الى أستئناف دراستها الجامعية , أذن لكانت تجنبت أن تراها على ما هي عليه من التذمر والخيبة.

كانت موراغ في التاسعة عشرة , فلا عجب ان يجتاحها قلق الشباب وعناده , ثم أنها آمنت أيمانا قاطعا بالحرية الفردية وروح التجديد في الرأيء والسلوك واللباس , وحين فارقها آندي , في شباط ( فبراير) الماضي , للقيام برحلته البحرية الطويلة , تعاهدا على أن لا يعدا أحدا بخطوبة أو زواج , الى حين عودته , وعندئذ نظران في أمر الزواج , واحدهما من الآخر , وكان هذا التعاهد مليئا بروح الشجاعة الهوجاء , ذلك أن الزواج في تلك السن المبكرة لم يكن قائما على التعقل , بقدر ما كان زيّا متبعا عند أبناء ذلك الجيل , ومع أن جين لم تكن , في قرارة نفسها , توافق على الزواج المبكر , ألا أنها قالت لموراغ على سبيل تعزيتها:
" آندي سيعود قريبا , وربما تزوجتما في مطلع السنة الجديدة!".
فقالت موراغ:
" هذا أذا أدخر المال الكافي , لأنه قال لي مرة أنه لن يتزوج حتى يجمع مالا يكفي لشراء بيت....... وهذا قد يستغرق سنين , ومن قال أن شراء بيت ضروري الى هذا الحد؟ فأنا لا أريد أن أتزوج ليكون لي بيت أقيم فيه , بينما هو بعيد عني في عرض البحار".
فقالت أمها:
" أنت غير ملزمة بالزواج منه , فأنت غير مخطوبة له خطوبة رسمية".
فأجابت موراغ :
" أعرف ذلك".
ثم قالت:
" ولكنه لم يطلب الزواج مني , وأنا لم أعده بأنني أنتظره".
ولاحت على فمها أبتسامة مفاجئة وهي تقول:
" لا تقلقي عليّ في هذا الشأن يا أمي , أنه الطقس الكئيب والتدقيق في دفتر حسابات الفندق هما اللذان ينغّصان عيشي , وستتحسن الحال حين يسقط الثلج ويصبح بأمكاني التزلج عليه".
وفتح الباب الخارجي , ثم الباب الداخلي , فدخلت الريح الغربية الى الغرفة , فبعثرت الأوراق وأخرجت الدخان من باب الموقدة , فصاحت الأم وأبنتها : " أغلق الباب !".
فأنغلق الباب بضجة شديدة ودخل بيتر مورتن الى الغرفة وقال معتذرا:
" كنا , أنا وديفيد , نحمل بعض الحقائب , في أيدينا فلم نستطع أن نقبض على الباب الخارجي جيدا , فأنفتح وهجم الريح وفتح الباب الداخلي , فمعذرة منكما ...... ذهب ديفيد ليأتي ببقية الحقائب".
ولاحظت موراغ , وهي تجمع الدفاتر والملفات , أن بيتر , كالعادة , لا يلتفت ألا الى أمها جين , كان بين الأربعين والخمسين من عمره , ذا شعر أسود وعينين عسليتين وملامح صلبة , ويتصف كمواطنيه اليوركشايرين بقوة العزيمة والشخصية التي تنم عنها نظراته الخاطفة وحركاته المتباطئة .
وقال بيتر لموراغ مداعبا :
" أما تزالين منصرفة الى جمع الأرقام؟".
فلم تجبه , بل مرّت من أمامه وهي تحمل بين يديها كومة من الدفاتر والأوراق , عبر باب غرفة الطعام , الى البهو الخارجي.
ولم تتمكن موراغ أن ترى رجلا مديد القامة يقترب نحوها , أكثر مما تمكن هو أن يراها , ذلك أن باقة الزهور الصفراء التي كان يحملها بين يديه حجبت عنه الرؤية , فكان أن تصادما بشدة , فوقع الرجل ممددا على الأرض , وموراغ على صدره , والدفاتر والأوراق مبعثرة في كل أتجاه , وقبل أن تتمكن من النهوض , كانت ذراع الرجل تلفها وتمنعها عن ذلك , وكم كان خوفها شديدا حين شعرت بخد خشن يضغط على خدها , وبصوت هازىء يقول لها:
" يدهشني أنك تهتمين بعملك كل هذا الأهتمام!".
وكان بيتر واقفا في البهو يضحك بصوت عال ويقول لجين:
" هذه عادة ديفيد هاكيت في دخول الأبواب , يا جين! فأنا لم أعرف رجلا كثير الوقوع مثل هذا الرجل ".
وألتفت الى ديفيد قائلا:
" نجحت حقا في أن تجعل الجميع يلاحظون دخولك".
ثم مدّ يده الى موراغ وهو يقول لها :
" أنهضي قبل أن تسحقي باقة الزهور".
فنهضت موراغ شاكرة معونته , فيما علت خديها حمرة الخجل والأرتباك , وحين نهض ديفيد هاكيت أيضا بقفزة رياشية سريعة , أقبلت عليه موراغ تعتذر منه بكلمات علقت في حلقها , ذلك أن الرجل كان مديد القامة , ذا شعر ذهبي اللون يشع تحت الضوء الكهربائي , وأخذت عيناه اللتان بلون البحر ترمقان موراغ بأبتسامة لاحت على وجهه المستطيل , فحسبته بطلا من الأبطال الأقدمين الذين طالما غزوا شاطىء بلادها , قد نفض عنه غبار السنين ودخل حياتها , وتصدت له بغريزة الدفاع عن النفس , فوقفت أمامه بأطول ما يمكن أن تبلغه قامتها , فيما شحب لون ملامحها الزاهر , وهي تقرأ الأعجاب الذي تجلّى في عينيه.
ولم يلاحظ بيتر حدوث أي أرتباك وتوتر , فبدأ بكلمات التعريف وقال لموراغ:
" هذا ديفيد هاكيت , يا موراغ , قدم من لندن لمساعدتنا في المحطة على الخروج من مأزق وقعنا فيه".
فقالت موراغ بخشونة :
" أخبير جديد أيضا؟".
ولكن ديفيد تلقى هذه الملاحظة بصدر رحب , فقال :
" خبير بشيء واحد فقط ....... هو أضحاك الناس , كما شاهدت الآن!".
فكان لرده المتسامح هذا أثره في نفس موراغ , أذ شعرت أنه كان بمثابة توبيخ لها وضعها في مكانها كفتاة مراهقة , كما شعرت بعجزها عن مقاومة نظراته الباسمة وهو يقول لها بصوت خافت:
" أنا مسرور بلقائك يا موراغ!".
وألتفت الى بيتر متابعا:
" وأنت رجل شاطر يا بيتر ,الآن عرفت لماذا تنزل في هذا الفندق".
ثم قام بيتر بتعريف ديفيد الى جين , فقدّم لها ديفيد باقة الزهور التي أصابها بعض العطب , فسرّت جدا بمبادرته هذه وأعجبت به أشد الأغجاب , ولم يرق ذلك لموراغ , أذ أعتبرت أن ديفيد لم يكن ألا كسواه من المهندسين الذين عملوا في المحطة , فهو متعجرف , يغزو ذلك المكان في الخفية ويأخذ منه ما يريد , ثم يغادره محملا بالغنيمة وتاركا الخراب وراءه , وهزت موراغ رأسها وهي تقول لنفسها:
"ماذا دهاني ؟ هذا الرجل لا علاقة بالغزاة الأقدمين من بني قومه , فهو لا يعدو كونه رجلا أنكليزيا متحضرا , وأن لم يرق لي".
ولملمت موراغ دفاترها وأوراقها التي تناثرت عند وقوعها , يعينها على ذلك ديفيد , ولكنها رفضت طلبه أن يحمل الدفاتر والأوراق عنها , فقابل رفضها بأبتسامته وقال بصوت خافت:
" أنا آسف على ما بدر مني , وأرجو ألا أكون أصبتك بأذى , فمن عادتي السيئة أنني لا أتبصر جيدا الى أين أنا ذاهب ...... وهذا يوقعني أحيانا في أدق المآزق , ولكن لي رجاء واحد , وهو أن لا ننسى كيف ألتقينا لأول مرة!".
فأرتبكت موراغ للطفه الزائد ولأبتسامته الساحرة , فلم تجد ما تقوله له , أمسكت بدفاترها وأوراقها , ملقية برأسها الى الوراء , لترى طريقها جيدا هذه المرة.
وسارت الليلة مسراها الطبيعي , فعاد رون شيلدز وستيف هاريس وريغ مارسر , وهم الثلاثة الذين يعملون في المحطة , لتناول طعام العشاء عند الساعة السادسة , وحاولت موراغ , بعدما حدث لها ما حدث مع ديفيد , أن تتهرب من أستضافة أولئك الرجال , ولكن والدتها جين لم توافق على ذلك , غير أنها أدركت , وهي تقوم بواجبها في غرفة الطعام , أن ديفيد الجالس بقرب بيتر الى مائدة الطعام , كان مأخوذا بالحديث معه , فلم يعرها الا قليل من الأهتمام.
وبعد العشاء , تناولت موراغ وأمها الطعام في المطبخ الواسع المريح الذي كان أيضا الغرفة التي يستخدمانها للجلوس في أوقات الأستراحة والفراغ من العمل , ثم قامتا بتنظيف الصحون وأحالتها الى ألسي وينس لغسلها , وهي المرأة التي كانت تقوم بهذه المهمة كل صباح ومساء , وبغيرها من المهمات الشاقة.
وكانت العادة أن تجلس موراغ الى أحدى طاولات غرف الطعام , بعد تنظيفها وترتيبها , للتدقيق في حسابات الفندق , بينما تكون والدتها جين جالسة عل كرسيها الهزاز , قبالة الموقدة , تحيك بالأبرة قميصا لموراغ , ولم يكن يقطع حبل الصمت والسكون أحيانا غير ضحكات الرجال من نزلاء الفندق الجالسين في غرفة الأستقبال , وذلك بالأضافة الى الأصوات المتعالية في البهو الخارجي , والى صرير باب هنا وباب هناك , أو الى أزيز محرّك سيارة تهيأ للأنطلاق في الممر الضيق.

وفي ذلك المساء , بعد العشاء , دخل بيتر الى الغرفة من غير أستئذان فجلس الى كرسي مريح قبالة جين , وكان من عادته أن يفعل ذلك , حين لم يكن مضطرا للعودة الى عمله في المحطة , وكانت موراغ تلاحظ هذا الأمر , منذ سنة تقريبا , بشيء من القلق , ولكن ما حدث بعد ظهر ذلك النهار جعلها تمعن النظر والتأمل في تطور علاقة بيتر بوالدتها جين , ذلك أنه كان , على مرور الأيام , يزداد جرأة في تصرفه مع جين , كمن له دالّة الرجل المدلل , وها هو الآن يدخل الى الغرفة , فتبتسم له , كعادتها , ولكن ببسمة فيها من الحب أكثر مما فيها من الترحيب الحار.
الحب؟ سألت موراغ نفسها وهي تنظر بعبوس الى الدفاتر أمامها , لماذا لم تلاحظ ذلك من قبل . فهما عاشقان كما يجب أن يكون العشق , فكيف لم تتبين ذلك؟ أيكون لأنها كانت غارقة في تفاصيل حياتها الخاصة طوال السنة الماضية؟ وفي أية حال , فلعل ما يبرر جهلها للأمر أن لا يتبادر الى ذهنها وقوع أمرأة كوالدتها في الحب والغرام , وهي في منتصف العمر , ولكن , لماذا لم تخبرها بذلك ؟ وهل كان عليها أن تفعل؟
مرّت هذه الخطرات ببال موراغ , ثم أنصرفت الى التدقيق في دفتر الحسابات الذي أمامها.
وفجأة أدركت ما كانت تعنيه تلك الخطوات .
أيكون أنها تحب آندي ؟ وأذا كانت لا تحبه , فلماذا وعدته بالأنتظار الى أن يعود؟ وهل تعرف الآن ما هو الحب؟
وتأوهت موراغ وهي تواجه هذه المسألة التي كانت سببا في أزعاجها , منذ فارقها آندي , ولم تجد لها حتى الآن جوابا مقنعا .
وقالت جين لبيتر مشيرة الى موراغ:
" عادت حليمة الى عادتها القديمة , كانت على هذه الحال في غرفة الطعام بعد الظهر , فماذا يا ترى ورد في رسالة آندي اليها؟".
فقال بيتر :
" لا بد أن يكون ورد شيء ما".
ونظر الى موراغ وقال:
" ما بك , يا موراغ ؟ أخبرينا".
فأجابت موراغ متأففة:
" كفاك يا بيتر , لماذا كل هذا الضجيج؟".
فأجابها بيتر:
" أذن سمعت ضحكاتنا ؟".
فقالت موراغ:
" نعم , وسمعت أيضا خبطة الباب....... وأزيز محرك السيارة".
فأعتذر بيتر قائلا:
" ديفيد هو الذي تسبب بذلك يا موراغ , عليك أن تتحملي بعض الضجيج الذي يحدثه وجوده هنا".
وألتفت بيتر الى جين وقال متابعا:
" وأرجو أن لا يزعج جيرانك , يا جين , أنه رجل يحب العمل في الليل , هذه عادته , فأين هو الآن ؟ في غرفته يعمل حتى طلوع الفجر , أو بعد موعد تناول طعام الفطور , لا تستغربي تصرفاته , بل حاولي أن تفهميها , فقد يأوي الى فراشه بعد ليل طويل من العمل , فلا ينهض ألا في المساء , عليك أن توقظيه , وهو يقول لك متى , وأنا أرجو , يا جين , أن لا يكون مصدر أزعاج لك!".
فأجابت جين:
" لا , لا ينشغل بالك , سنتدبر الأمر بعد وقت قصير , وبوسع موراغ أن تعتني به".
وهزت موراغ رأسها عند سماع هذا الكلام , ولكن جين تجاهلت أمارات الأضطراب والتمرد على وجهها.
وقال بيتر :
" حسنا".
وغرق في كرسيه المريح , ثم تابع قائلا:
" أذن , كل شيء على ما يرام , فكم خفف عني مجيء ديفيد الى العمل معي , كنت أظن أن كبير مهندسي الشركة في لندن لن يسمح له بالمجيء".
فقالت جين:
" لماذا؟".
فأجابها بيتر:
" لأن المسألة معقدة جدا , فرئيس الشركة معجب بديفيد كل الأعجاب ويحاول أن يهيئه لمنصب رفيع في الشركة , ولذلك نقلوه من العمل في المحطة هنا الى مركز الشركة في لندن , حيث تذهب مواهبه هدرا , فهو أحد أمهر المهندسين في الشركة , ويفضل العمل في تنفيذ المشاريع على العمل في مركز الأدارة".
وسألته جين:
" هل هو متزوج؟".
فأجابها بيتر:
" كلا , هناك فتيات كثيرات في حياته , ولكنه يحرص على البقاء طليقا من رباط الزوجية".
فقالت جين :
" يا له من شاب وسيم , وكم أحببت الزهور التي أهدانيها , هل رتبتها موراغ ترتيبا حسنا في المزهرية؟ ألا تعتقد يا بيتر , أن ديفيد هو الذي يجب أن يكون حذرا من الوقوع في الفخ هذه المرة؟".
وعلت على شفتيها أبتسامة هازئة , وأضافت قائلة:
" تذكّر يا بيتر , كم من الشبان العاملين في المحطة وقعوا ضحية الفتيات الأسكتلنديات اللواتي هن من مثيلات موراغ!".
وتبادل بيتر وجين نظرة حميمة كلها خبث , لاحظتها موراغ فقطبت جبينها أستنكارا , وقال بيتر:
" هذا صحيح , فأحد أولئك الفتيات ستتزوج جوني ردفيرن في العيد المقبل , وهي كاتي بار صديقة موراغ".
وألتفت الى موراغ سائلا:
" متى ينجز ثوب العرس يا موراغ؟".
فأجابت موراغ:
" يتم أنجازه ببطء لأن فيه كثيرا من التطريز ".
وكانت موراغ تساعد صديقتها في تصميم ثوبي العروس والعريس , ثم قالت في نفسها عن ديفيد:
"أذن , فذلك الأنكليزي صياد نساء! ولا عجب في ذلك بعدما رأيت فيه , من الباقة وحسن التصرف".
وألقت نظرة على باقة الزهور التي وضعت في المزهرية أمامها , فلم يوق لها أعجاب أمها بفطنة مهديها.
وقال لها بيتر :
" أما زلت تغالبين هذه الأرقام؟".
فأجابت موراغ:
" نعم , فهي لا تتوازن".
وهنا صاح بيتر :
" أتركيها أذن! سأنظر فيها بعد حين , أما الآن فأستريحي , وتعالي أخبريني ما رأيك في ديفيد , فأنا أخشى أن يكون قد ترك في نفسك أثرا سيئا , نتيجة ما حدث بعد الظهر".
فأنزعجت موراغ من صراحته وقالت:
" لم يعجبني ,فهو رجل متسلط فقط".
وأحمرت وجنتاها خجلا حين نظر اليها وجين نظرة أستغراب , وقالت لها جين بغضب:
" ما هذا الكلام يا موراغ؟".
ولكن بيتر تصدى للأمر بدهائه المعهود وقال لموراغ:
" ولعلك على صواب , فديفيد , يمكن أن يكون متسلطا فظ الطباع أن هو أرخى لحيته وأطال شعره ولبس خوذة المحاربين الأنكليز القدماء , فهو في الواقع من سلالة هؤلاء".
فأثار هذا الكلام أهتمام موراغ , فالتاريخ كان دائما موضوعا محببا اليها , على أن هذا الحوار لم يرق لجين , فقالت:
" ما هذه الثرثرة؟ لم أفهم شيئا بعد".
فقال بيتر ضاحكا:
" ألا يعني لك التاريخ شيئا ؟ كل ما في الأمر أن موراغ ترى أن ديفيد يشبه أولئك الغزاة القدماء الذين غزوا هذا الشاطىء , من مئات السنين , فهي لذلك لا تحبه".
فأجابت جين , موجهة كلامها الى موراغ:
" سواء أحببته أم لا , عليك أن تكوني مهذبة وحسنة التصرف معه".
وتطلعت موراغ الى بيتر , وكأنها تؤنبه على أجراء حوار تسبب في هذا التوبيخ الذي وجهته اليها أمها , فقال بيتر لجين:
" لا تقلقي يا جين , فديفيد لم يلاحظ شيئا , لأنه كان مأخوذا بجمال موراغ , وأنا أعتقد أنها تصرفت معه بخشونة , لأنها شعرت بالرعب".
فصاحت جين في وجه موراغ:
" بالرعب ؟ هل شعرت بالرعب يا موراغ؟".
فلم تجب موراغ , بل وقفت برأس مرفوع وقالت بحزم:
" لا تبالي بما يقوله بيتر يا أماه!".
ولكن جين أصرّت على القول:
" لماذا أرتعبت يا موراغ؟ فأنا أعتقد أن ديفيد رجل وسيم يثير الأعجاب , ومن حسن الطالع أن نجد رجلا مثله في هذه الأيام , وأنا لا أفهم لماذا تتخذين هذه المواقف العنيفة نحو الآخرين , فعليك أن تكوني أكثر تسامحا وسعة صدر".
وقبل أن تجد موراغ الجواب المناسب , أنبرى بيتر الى القول ضاحكا:
"لعلها كانت تخاف من أن يمسك بشعرها ويجرها الى سفينته ويقلع بها الى مكان بعيد!".
فرمقته موراغ بنظرة قاسية وتمتمت قائلة:
" ما أسخف هذا الكلام! ما أسخفه حقا!".
وخرجت لتهيء القهوة وهي غاضبة ,. لأن تصرفها الغريب مع ديفيد في ذلك النهار كان ظاهرا لكل ذي عينين.

سيريناد 16-02-20 09:50 PM

رد: 303 - عنيدة - روايات أحلامى المكتوبة
 
على شفير الحب

https://lh4.google.com/Dani.vet23/SE...WA/5u5ekm1.png

كان النهار التالي معتدلا ورطبا , أذ أستنفذت العاصفة قوتها أثناء الليل .
وفيما كانت موراغ تبحث عن بعض الأوراق البرية لتضمها الى باقات الزهور , بدأت الغيوم تنقشع رويدا رويدا لتظهر شمس الخريف الباهتة اللون.
وكانت قطرات المطر تتلألأ على الأوراق كما تتلألأ حبات الفضة , وكان لون البحر , فيما وراء سور الحديقة , يتبدل من الرمادي الى الأزرق الغامق.
وأستندت موراغ الى السور الحجري وحدقت الى الأفق البعيد , وهي غارقة في تأملاتها عبر التاريخ القديم , حين كان ذلك الشاطىء موطئا لأقدام الغزاة الأبطال , ذوي الشعر الذهبي والعيون الزرقاء.
وقطع حبل تأملاتها ضجيج محرك سيارة , فتطلعت من فوق السور , فأذا بسيارة صغيرة حمراء اللون تعبر من أمامها بسرعة وتستدير عند المدخل , وتقف بأزاء الرصيف خارج الباب الأمامي ,وفتح باب لسارة ,فخرجت ساقان طويلتان تلبسان سروالا غامق اللون , ثم تبعهما رأس ديفيد هاكيت وهو ينزل بصعوبة من مقعد السائق , وما أن أغلق باب السيارة حتى عادت موراغ مسرعة الى متابعة بحثها عن الأوراق البرية , آملة أن لا يكون رآها مختبئة بين شجيرات الحديقة , ولكن أملها خاب , ذلك أنه رآها , فحياها وقال لها:
" لمحتك تتطلعين من فوق السور , فلماذا أنت مختبئة؟".
فأجابت موراغ:
" مختبئة ؟ كلا , أنا أجمع بعض الأوراق البرية".
وخرجت من وراء أحدى الشجيرات الى الممر ووقفت قبالته , وهي تحاول أن تضبط أعصابها وتظهر بمظهر اللامبالي , والواقع أن حضوره جعل قلبها يخفق خفقانا سريعا.
وحدقت موراغ الى ديفيد , من دون أن تبتسم , فلاحظت أن أطراف شعره الذهبي حجبت فكّيه وفمه , وأن بشرة وجهه باهتة اللون وبياض عينيه يشوبه الأحمرار , على أن أبتسامته كانت جذابة الى أقصى حد.
وقال لها ديفيد:
" كنت أتمنى أن تكون تحيّتك لي أكثر حرارة وودا , ولكن لا بأس , فأنت رائعة الحسن".
وبذلت موراغ جهدها لتجاهل نظرته المغرية وكلامه المليء بالمديح , لأنها عزمت على التصرّف لا مجال فيه للعاطفة , فقالت:
" أخبرنا بيتر أنك قد تعود الى الفندق متأخرا هذه الليلة , فهل تريد أن تتناول طعام الفطور قبل أن تأوي الى فراشك؟".
فأجابها ديفيد:
" نعم , وخصوصا أذا كنت أنت هي التي ستقدمه اليّ".
وتطلع عبر سور الحديقة وتابع قائلا:
" ما أجمل هذا المنظر , أنت محظوظة بالأقامة في مثل هذا المكان , هل أنت من هواة السفن الشراعية؟".
قال ذلك بنبرة سريعة تنم عن أهتمام صادر من صميم قلبه فأجابت موراغ:
" نعم , في الصيف , والآن , أسمح لي أن أذهب لأخبر أمي بأنك هنا , كي تهيء لك طعامك".
فسارع ديفيد الى القول:
" لا , لا تفعلي , أنت أختبأت عندما رأيتني , ثم تحاولين الآن الهرب مني".
وأم***ا بذراعها وقال:
" لست جائعا الى الحد الذي لا يسمح لي أن أسألك بعض الأسئلة وأتمتع بهذا النسيم العليل ,فأنا أريد أن تخبريني ما هي أسماء تلك الجزر هناك , على مسافة من الشاطىء".
ولكن موراغ أبت أن تلين , فأنتزعت ذراعها من يد ديفيد وأخذت تردد أسماء الجزر بصوت صارم جاف , ولكن ذلك لم يؤثر في موقفه منها , بل زاده حماسة في متابعة الحوار معها , فقال:
" أخبرني بيتر أن المناظر الطبيعية هنا لا مثيل لها , ولكنني لم أصدقه بادىء الأمر , فالبارحة تنزهت بسيارتي في طريق الشاطىء , فما رأيت غير المطر والضباب , أسمحي لي أن أسألك عن تلك الجبال التي يشاهدها المسافر نحو الشمال!".
وكان من المحال أن تتجاهل موراغ أهتمامه الظاهر المخلص بما يتحدث عنه , فأضطرت الى الرد على أسئلته.
ثم قال لها ديفيد:
"لا شك أنك تحبين الأقامة هنا".
فأجابت موراغ:
"لا بأس بالأقامة هنا في الصيف , حين يجيء الزائرون , ولكن في الشتاء يعم الهدوء ولا يحدث شيء يذكر , وذلك يبعث الضجر , فأنت ترى أن الذين في سن الشباب قليلون هنا...... لأن معظمهم يذهبون الى العمل في المدن".
ونظرت اليه موراغ بحياء , ثم مالت بنظرها عنه وسارت نحو الفندق بعصبية ظاهرة , فسار ديفيد بجانبها وقال:
" لا أعتقد , يا موراغ , أن هذا المكان يبعث الضجر , لا هذا المكان ولا سواه ..... فهو يكون كما يصنعه الأنسان , ولعلك من حداثة السن , بحيث لم تتوصلي بعد الى معرفة هذه الحقيقة".
فقالت موراغ بحدة :
" أنت تتكلم كأنك شيخ طاعن في السن!".
ضحك ديفيد أعجابا وقال:
" أظن أنك في حوالي العشرين من العمر , فأنا أذن أكبر منك بعشر سنين ..... وأكثر منك خبرة في الحياة بما لا يقاس ......ولم يبق لي ألا قليل من البراءة!".
قال ذلك مداعبا , ثم تابع كلامه بجد مظهر لها أن دارلينغ لا يمكن أن تكون مكانا مضجرا , ما دامت تقيم فيها.
وهكذا مارس دايفيد براعته المعهودة في أجتذاب النساء اليه ,وكانت هذه البراعة تتخلص في أنه كان يجعل المرأة حائرة بين الشك في صدقه واليقين.
لذلك لم تهتم موراغ أن تجيب , بل فتحت الباب ودخلت الى البهو الخارجي , وتجاهلت وجوده معها , فذهبت الى أناء نحاسي كبير على طاولة التلفون وتناولته لتضع فيه الزهور والأوراق التي جمعتها في الحديقة.
فقال لها ديفيد:
" لا بد أن يكون هناك نشاط ما تساهمين فيه خلال فصل الشتاء!".
فأجابت :
" نعم , خصوصا أذا سقط الثلج , ولكن ليس هنا على الشاطىء , وأنما هناك في الجبال , حيث يمكننا أن نتزلج".
فقال ديفيد :
" نعم , التزلج! فكيف سها عن بالي ؟ أرجو أن تأخذيني معك عندما يسقط الثلج , فأنا أحسن اتزلج , ولكن لا أعدّ نفسي من أبطاله".
وتثاءب ديفيد فجأة وفرك عينيه , كان تعبا جدا , فالأفضل له أن يذهب الى النوم بدل أن يتابع الحوار مع موراغ من دون جدوى.
وهذا ما خطر ببال موراغ , وقد أخذت تشعر نحوه بشيء من التقدير , فقالت له:
" ألا تعتقد أنك يجب أن تأوي الى فراشك يا سيد هاكيت؟".
فهز رأسه موافقا وقال:
" نعم , وسأستغني عن تناول طعام الفطور وأذهب الى النوم , ولكن شرط أن تناديني ديفيد , وأن تأخذيني معك الى التزلج على الثلج عند أول فرصة".
فلم يسع موراغ ألا الأبتسام , وهي تقول :
" يا لك من رجل ملحاج! حسنا , أعدك يا ....... ديفيد , والآن أذهب عني!".
ومر الأسبوع مرورا خاطفا , وكان من عادته أن يتباطأ ويجري على وتيرة واحدة , وذلك بفضل وجود ديفيد .
وكان ديفيد يروح ويجيء الى الفندق على هواه , فيحضر لتناول طعام الفطور في التاسعة أو العاشرة صباحا وهو ناعس العينين , من دون أن يفارقه المرح ,وكانت موراغ تخجل في بادىء الأمر أن تدخل غرفته لتوقظه من قيلولة بعد الظهر , ولكنها أعتادت على ذلك .ووجدت أنها , مهما صرخت ونادته بأسمه , لم يكن ليستيقظ من سباته العمق , فكان عليها أن تهزه بكتفه , حتى أذا فتح عينيه هربت مسرعة من الغرفة قبل أن يبادر الى التحدث اليها.
فما أن ينهض ويلبس ثيابه حتى يندفع الى المطبخ , وعبثا قالت له موراغ بلباقة أن في الفندق غرفة خاصة بالنزلاء , وعليه أن ينتظر فيها الى أن يتم تهيئة الطعام في الغرفة المعدة له , ولكنه لم يقبل بكلامها , بل أصرّ على الحضور الى المطبخ الدافىء حيث كان يتجاذب أطراف الحديث مع جين عن أسفاره ومغاماته , وكان يلمّح ألى أنه طاه ماهر , فيصف بعض الأطعمة الغريبة , وكانت جين. كعادتها في حسن الضيافة , ترضى بجلوسه في المطبخ , على أن موراغ بذلت جهدها لتجاهل وجوده هناك , لا لأنه كان يوجه الكلام اليها كثيرا , بل لأنها كانت , بينها وبين نفسها , تؤخذ بطريقة أقاصيصه وحكاياته , ذلك أنه شاهد كثيرا في أسفاره ولقي عديدا من الناس الذين يثيرون الفضول والأهتمام , وكانت موراغ, في كل يوم , تعزم على مغادرة الغرفة حالما يدخلها ,ولكنها كانت تجد نفسها مسمرة في مكانها , بفعل الأثر الذي كانت تتركه في نفسها أحاديثه الشيقة عن أقطار غريبة كم كانت تود أن تتاح لها فرصة زيارتها , للتعرف اليها عن كثب.
وفي مساء يوم الجمعة ذهبت موراغ لزيارة صديقتها كايتي , في الجانب الآخر من دارليغ ,وكانت النجوم قد بدأت تشع في السماء مع الأنوار التي كانت تنطلق من المحطة عبر الخليج , وكان المنظر ساحرا حقا , فتذكر موراغ كيف أن الأهلين عارضوا أنشاء المحطة خوفا من أن تشوه جمال تلك المنطقة , ولكن معارضتهم هذه لم تنجح , نظرا الى الفوائد التي كانت ستسفر عنها , ومن ذلك ما نعمت به المنطقة من أزدهار نتج عن كثرة المهندسين والخبراء القادمين اليها لبناء المحطة , وعن تشغيل الأيدي المحلية العاملة فكانت أن زالت كل معارضة , خصوصا بعدما تبيّن أن المحطة لم تكن تظهر بأزاء التلال الخضراء وراءها , على أنها في الليل كانت تبدو كقصر سحري تتلألأ أضواؤه فوق مياه البحر الداكنة .
كانت كايتي فتاة سمراء صغيرة القامة طليقة اللسان , فما كادت موراغ وصديقتها الأخرى آن روس تجلسان في غرفة الأستقبال حتى بادرت كايتي الى سؤال موراغ عن رأيها في ديفيد , فتعجبت موراغ كيف علمت كايتي بمجيئه , ولما أستخبرتها أجابت بأن جوني قال لها أن ديفيد جاء بديلا عن مديره الذي أقعده المرض , وأنه رجل قدير جدا , فضلا عن أن الفتيات كلهن يقعن في غرامه.
فقالت آن :
" لا أستغرب ذلك".
وأزاحت جدائل شعرها الأسود الطويل عن وجهها , أجابت موراغ:
"كيف تقولين ذلك؟ هل تلاقيتما؟".
" نعم , كنت في الطريق أنتظر الباص , فنقلني في سيارته وهو عائد من المحطة , ما أسعد حظك يا موراغ , لأنه عندك في الفندق, لو كنت مكانك لترنحت غراما كلما دخل من الباب!".
وقطبت موراغ جبينها وهي منكبة على تطريز ثوب العرس الذي بين يديها ,وفكرت في نفسها أن آن مثال الفتاة التي تقبل بأن ينقلها رجل غريب في سيارته ,وخيّل اليها أن ديفيد المحدث البارع , وآن الجريئة الوقحة , وجدا الكثير مما يجمع بينهما.
وقالت آن :
" هيا يا موراغ! أخبرينا عن ذلك الفتى الرائع الذهبي الشعر".
فأجابت موراغ:
" لا شيء أخبركما به عنه سوى أنه لا يروق لي".
فقهقهت آن ضاحكة وقالت:
" هذه صراحة عرفت عنك ,ولكن , لماذا لا يروق لك؟ هل حاول أن يغازلك؟".
فلمعت عينا موراغ أحتجاجا على طريقة التعبير وأجابت:
" أنا أفضل الرجال الصادقين الذين لا يستخدمون المبالغة في المديح ولا النفاق في الأطراء!".
فقالت آن ساخرة:
"ها ها ! أذن , فهو يحاول معك هذا الأسلوب في الأغراء! وهو أسلوب غير ما تعودته من آندي , فلا عجب أن تضطربي وتستنكري , وأسمحي لي أن أسألك : هل آندي قادر على الكلام؟ فأنا لم أسمع منه سوى الجعير".
وهنا صاحت كايتي في وجه آن قائلة:
"" كفى يا آن , أنت تزعجين موراغ بهذا الكلام".
فقالت آن :
" آسفة , قد أكون محسودة منك يا موراغ , فالفتى الذهبي لم ينطق ألا بالقول بي : ( أين تريدينأن تنزلي؟) هذا مع العلم أنني حاولت الفوز بأعجابه ,ولكن أظن أنه صياد نساء ماهر , فخذي حذرك منه!".
ورأت كايتي أن الحديث عن هذا الموضوع قد طال وحان تغييره , فأقترحت أن تسمع صديقتيها أغنية جديدة صدرت حديثا.
وأنقضى ما تبقى من السهرة على خير ما يرام , فكن يخطن ويصغين الى الموسيقى , وأنضمت اليهن السيدة بار , والدة كايتي , فقدمت اليهن القهوة والفطائر ,وعند الساعة العاشرة والنصف نهضت موراغ مودعة وأسرعت الى الشارع عائدة الى الفندق مشيا على قدميها.
وكان وقع خطواتها يسمع في تلك الطريق الخالية , وهي تستعيد كلام آن الساخر عن آندي , وعبثا تمكنت أن تبعث آندي في ذاكرتها , فبقي طيفا لا شكل له ولا رسم ,ومالت الى الأعتقاد أنه يفتقر الى فن المحادثة والحوار , ولكنها لم تتوقع منه غير ذلك يوما من الأيام , فالكلام يقل بين أثنين تصاحبا منذ أيام الدراسة الأبتدائية , فضلا عن أن الأسكتلنديين قوم طبعوا على الخجل وصعوبة التعبير .
على أن بينها وبين آندي كثيرا مما يجمع ولا يفرق , فكلاهما يحب السير على الأقدام , وركوب الزوارق الشراعية , والسباحة , والتزلج على الثلج , وكانت علاقتهما صميمة ,ولو لم يطلب يدها للزواج منه , غير أنه سيفعل حين يعود في العيد , وستجيبه الى طلبه , وكل شيء سيجري على ما يرام , وسيعيشان في بيتهما الصغير في دارليغ , وحين يسافر للعمل , من وقت الى آخر , تبقى وحدها بأنتظار عودته .
هكذا كانت موراغ تفكر وهي تسير نحو البيت , ولم يقطع عليها حبل تفكيرها غير وقوف سيارة بجانبها وصوت ديفيد يقول لها :
" أصعدي".
فترددت موراغ في القبول , لم تكن تريد صحبته ,ولكنها كانت من جه أخرى ترغب في التخلص من التفكير في آندي ومستقبلها معه , ولم يخف على ديفيد ترددها , فقال لها ساخرا:
" أذا كنت تفضلين السير على قدميك فلا بأس , لن يزعجني رفضك!".
وأدركت موراغ أنها أساءت التصرف معه مرة أخرى , فما كان منها ألا أن أنحنت وصعدت الى السيارة وهي تقول له:
"كيف عرفتني في هذه العتمة؟".
فأجابها ديفيد:
" عرفتك من ساقيك!".
وحين أبدت أستنكارها , قال لها ديفيد :
" ما الخطأ في ذلك؟ فساقاك جميلتان جدا , وهذا نادر في هذه الأيام , وأنا أتمنى أن لا تغطيهما دائما بالسروال".
ولم تكن موراغ معتادة على سماع مثل هذه الملاحظات الخصوصية , فألتزمت الصمت , مما دفع ديفيد الى مزيد من المداعبة ,فقال:
" أرى أنك أضطربت من كلامي , وهذا نادر أيضا..... وأريد أن أسألك: لماذا تكرهينني؟".
وحارت موراغ بماذا تجيب , وكيف تكافح رجلا كهذا.
وتابع ديفيد قائلا:
"كوني صريحة , لا تشفقي عليّ ولا تكذبي , فنظراتك المعادية لي تفضحك , وهي تجعلني أهتز وأرتجف.......فأنا لم أتعود أن أكون مكروها من أحد ........ ما بك لا تتكلمين؟ هل فقدت لسانك؟".
فثارت موراغ لهذا التحدي ,وجاءت الكلمات قاسية جارحة على لسانها , فقالت:
" أنا لا أميل اليك...... لأنك وسيم الطلعة , وأنت تعرف ذلك , ولأنك حلو المعشر وشديد الثقة بنفسك , تكيل المديح للناس , في غفلة منم , كما تفعل مع والدتي , على أمل أن تكسب رضاهم فتنال ما تريد , فأنت مغرور وأناني , ولا شك أن لك عشيقات في كل مكان, وهمك أن تقنع كل واحدة منهن أنها هي المفضلة , ولكن الحقيقة هي أنك لا تحب أحدا ألا نفسك....... فكيف تنتظر مني ,وهذه حالك , أن أميل اليك وأعجب بك؟".
قالت موراغ هذا الكلام الشديد اللهجة وجلست تنتظر ردة فعله بخوف ورعدة.
وساورها الندم على ما أظهرته من عجز عن ضبط نفسها , أما كان من الأفضل أن تكبت عواطفها وتحتفظ برأيها , فلا تعطيه مبررا لمهاجمتها بكلامه اللاذع؟
ولكن , كم كانت دهشتها شديدة حين قال لها , بعد صمت طويل ,وبضحكة زادت في أثارة غيظها وأستنكارها :
" ليتك يا موراغ تعلمين كم أنت طريفة ومنعشة للروح! أما قال المثل : خذوا أخبارهم من صغارهم؟ وه أنت الآن تبدين رأيك فيّ , ولم يمض على معرفتك بي أكثر من أسبوع , ولكنك على صواب , فأنا أعرف أنني رجل وسيم , وأرجو أن أكون أيضا حلو المعشر , وأنا أبذل جهدي لأكون لبقا في تصرفاتي , فأبتسامة هنا وكلمة مهذبة هناك تعين على تخفيف أعباء النهار , أما أن أكون مغرورا , فهذا ما لم أتأكده بعد....... فأنا نشأت في عائلة لها خمسة بنين , وكان عليّ أن أكافح للحصول على ما أريد , أناني أنا؟ ربما , فمعظم الرجال أنانيون ........ هل كان لي عيشقات كثيرات؟ نعم , لماذا لا؟ أنا أنسان من لحم ودم , ولكنني ما أسأت الى أية واحدة منهن".
وشعرت موراغ انها , بعد هذا الكلام , كبالون منفّس , فتحليله الممتع لرأيها فيه أثبت لها أنها لا تزال غتاة مراهقة تعوزها الرهافة وعمق النظر ,وأذا كانت قد قصدت أن تجرحه بكلامها , فأنها لم تنجح هذه المرة أيضا.
وسألت موراغ نفسها:
" أما من طريقة تتغلب بها عليه؟".
وفي الدقائق الأخيرة , قبل وصولهما الى الفندق , شعرت موراغ بأنها تكرهه أكثر من أي وقت مضى , فدهشت لذلك أشد الدهشة , وحين وصلا , أوقف ديفيد السيارة وأطفأ المحرك وفتح لها الباب , فشكرته موراغ بصوت خافت فقال لها:
" لا أنتظر أن أنال منك أكثر من الشكر , نظرا الى رأيك السيء فيّ , وهذا مؤسف ولكن القناعة كنز لا يفنى!".
وأخطأت موراغ حين أدارت وجهها نحوه , لأنها بذلك جعلت وجهها قريبا جدا من وجهه , وحاول ديفيد أن يغتنم الفرصة ,ولكن موراغ تراجعت بسرعة ونزلت من السيارة وأتجهت نحو البيت , فلحق بها وهي تدخل البهو ,وقال لها بلهجة عادية , كأن شيئا لم يكن:
" ما أجمل هذا البيت , هل أقمت فيه دائما؟".
فهدأت هذه اللهجة الحميمة من غضبها , فلم يسعها ألا أن تجيب :
" نعم , هذا البيت لعائلة والدتي , حوّلته الى فندق منذ بضع سنوات......... وحين مات والدي أصبح مورد رزق لنا".
قال ديفيد:
" فكرة رائعة , فأمك طاهية ماهرة".
وحانت منها ألتفاتة فرأته يفتح باب غرفة الأستقبال مما سرّها لأنها تتخلص منه هكذا ,ولكنها ما أن تابعت سيرها نحو المطبخ , حتى ناداها قائلا:
" قفي يا موراغ , أنتظريني".
وفي لمحة بصر كان يمشي الى جانبها مرة ثانية , وهو يقول لها :
" لم أجد بيتر في غرفة الأستقبال , هل تعرفين أين يمكن أن يكون الآن ؟ لا أظنه ذهب الى الفراش".
فأجابت موراغ:
" لعله في المطبخ مع أمي".
فظهرت عليه الدهشة ,ولكنه سرعان ما رفع أحد حاجبيه الذهبيين وقال بخبث:
" ها ها .......هكذا أذن!".
فقال موراغ بأنزعاج:
"ماذا تعني؟ لا أفهم ما تقول".
فأجابها ديفيد مداعبا:
" تمهلي قليلا , هل يتردد بيتر الى المطبخ كثيرا؟".
فقالت موراغ:
" نعم , كل ليلة تقريبا...".
صمت ديفيد قليلا , ثم قال لها بهدوء:
" كان عليّ أن أنتبه الى ذلك حين مدح لي هذا الفندق كثيرا . والآن أنتظري حتى أجتمع به على أنفراد".
فصاحت موراغ وقد هالها ما لاح على وجهه الوسيم من دلائل الخبث:
" لا , لا تفعل , أياك أن تهزأ بهذا الأمر......... أعني صداقة أمي مع بيتر...... أرجوك أن لا تذكره لبيتر أو لأي أنسان".
فقال ديفيد:
" كما تشائين , يا لك من فتاة حساسة !".

وهنا خيّل الى موراغ أن هذا الرجل الغريب الأطوار يعرف بيتر معرفة عميقة , فلعله يخبرها عنه ليخفف من قلقها , وهكذا تناست خشونتها معه وقالت له بجرأة لا تخلو من الحنان:
" ديفيد ............... أريد أن أتحدث اليك بجد هذه المرة , فأسمع , أنت تعرف بيتر منذ سنوات , فهل هو صادق وشريف مع النساء؟".
وتجاوب ديفيد مع هذا التحوّل في عاطفتها نحوه , فأجابها بكثير من الجد:
" لا تقلقي على أمك يا صغيرتي , لأن بيتر من أفضل الرجال , فهو دائما يعمل الشيء المناسب , وأنا أعتقد أنه وأمك جين يكونان زوجين سعيدين!".
فتنهدت موراغ لكلامه ببعض الأرتياح , ولكنها أرادت مزيدا من الأقتناع , فقالت:
" وهل تظن أن ذلك ممكن ؟ أعني وقوعهما في الحب , فلم يمض على وفاة والدي وقت طويل , وأنا لا أقدر أن أفهم كيف تطيق أن يحلّ أحد مكانه!".
فرماها بنظرة عميقة , وتمهّل قبل أن يقول:
" هذا حديث مهم جدا , أقترح أن نتابعه بعيدا عن المكان الذي يوجد فيه بيتر وأمك!".
وجلسا على أحدى درجات السلم الذي يقود الى الطبقة العليا , فيما الموسيقى تنبعث خافتة من غرفة الأستقبال.
فقال ديفيد :
" هل تحدثت مع أمك عن هذا الأمر؟".
فأجابت موراغ :
" كلا , كنت أنتظر أن تقوم هي بالمبادرة هذا مع العلم أنني لم ألاحظ ذلك ألا أخيرا , وكنت غير متأكدة , ولا أظن أنه من السهل أن تسأل البنت أمها عن أمر كهذا , فقد يثير أستنكارها ".
فقال ديفيد :
" ألا تظنين أن أستشارة رجل غريب مثلي تددعو الى التساؤل؟ خصوصا وأنت لا تعجبين بي".
فأحمرت وجنتاها لهذه الملاحظة ,وآثرت أن لا تواجه نظراته الحادة , فقالت له:
" لا تنس أنك الشخص الوحيد الذي لاقيته ويعرف بيتر حق المعرفة!".
فقال ديفيد:
" حسنا , والآن أريد أن أسألك : هل كنت متعلقة بأبيك؟".
فأجابت موراغ:
"نعم , كان رجلا رائعا , وعلمني الكثير , وأنا أفتقده جدا ".
فقال ديفيد:
" حسنا , وأظن أن أمك تفتقده جدا أيضا ,وأذا كانت تحب بيتر , فهذا لا يعني أنها نسيت أباك".
وتوقف قليلا عن الكلام , وهو يحدق في السجادة التي أمامه , ثم تالع قائلا:
" هناك في رأيي عدة أنواع من الحب , فمن الممكن , مثلا , أن يحب الأنسان شخصين في الوقت نفسه , ولعل بيتر ووالدتك جين يمران الآن في تجربة حب من النوع الذي تفضلينه أنت , أي الحب الذي يؤدي دائما الى السعادة الزوجية , فهما على جانب عظيم من النضوج , وكلاهما بحاجة الى المعاشرة...... بيتر تزوج وفقد زوجته من دون أن تلد........وكان زوجا صالحا , وأذا تزوج والدتك جين فيكون خير معين لك , وهو في النهاية أفضل مني , أنا الطارق الغريب!".
وبعد أن نظر اليها مبتسما , تابع قائلا:
" أرجو أن أكون أعنتك بعض الشيء .......فكأنما أنا بنصائحي رجل في السبعين من العمر".
فأجابت موراغ:
" أنت رجل متفهّم وعمليّ ....... وأنا أشكرك على ما فعلت , وأظن أنك على حق في ما قلت , كل ما في الأمر هو أنني أنانية ولا أطيق أن يشاركني أحد في محبتي لأمي".
فقال لها ديفيد:
" ولكنك ستتزوجين قريبا , على ما علمت , فلماذا تنكرين السعادة لغيرك؟".
قال هذا ومدّ ساقيه الطويلتين على درجات السلم , فيما أسند ذراعيه على الدرجة وراءه , وكانت موراغ جالسة بأزائه , فراحت تتأمل وجهه وهو يحدق الى الأمام وبدا لها أن وجهه يشع ذكاء , وأن ملامحه تجمع بين الصفاء والبشاشة.
ثم قالت متعجبة:
" من أخبرك أنني سأتزوج قريبا؟".
فأجابها:
" بيتر أخبرني , وعلمت منه أيضا أن العريس الآن على ناقلة نفط في عرض البحر , وسيعود في العيد المقبل".
فقالت , وهي شاردة الذهن:
" نعم , ويا لينتني أعرف عن الحب قدر ما تعرف!".
وتذكرت موراغ أنها كانت لا تطيقه من قبل , وأما الآن فأنها تشعر وهي الى جانبه بالراحة والطمأنينة , ذلك أنه كان يوحي اليها بالعزم وشدة البأس , بخلاف آندي الذي عرفته منذ سنين , وهكذا عادت اليها المشكلة القديمة , هل تحب آندي حقا؟
وهنا نهض ديفيد وأمسك بيد موراغ لينهضها وهو يقول:
" حان لي الآن أن أرى بيتر".
وكانت لهجته جافة لأن سؤالها لم يرق له , ولأنه أحس أنها تحاول به أن تتعرف الى حياته الخاصة , ولم يكن في ذلك أي حرج , ألا أنه أرادها أن تعرف أنه يعاني مشاكل أهم مما يعنيه سؤالها بكثير, فهي في آخر الأمر لم تكن في نظره سوى فتاة طيبة , صادف أنها في البيت الذي يقيم فيه مؤقتا.
ولاحظت موراغ أنه أنزعج من سؤالها , فأحست بالمذلة , وكادت عيناها تغرورقان بالدموع وهي تتبعه في نزوله في درجات السلم , حتى أذا وصلا الى أرض الغرفة ألتفت اليها فجأة ونظر في عينيها قائلا:
" خفّفي عنك ,لا تأخذي هذا الأمر بكثير من الجد...... فأنا لا أزال أعتقد أن لك ساقين لا مثيل لهما في هذه الأنحاء!".
قال هذا وتركها وسار في الرواق.
ووقفت موراغ على درجة السلم وهي تفكّر هل أن ما بدر منه نحوها من لطف ومودة كان حقيقيا ومخلصا , وشعرت في تلك اللحظة كم كانت حائرة وشاردة الذهن.

سيريناد 16-02-20 09:52 PM

رد: 303 - عنيدة - روايات أحلامى المكتوبة
 
رأس على كتف

https://lh4.google.com/Dani.vet23/SE...WA/5u5ekm1.png

عزمت موراغ أن تفاتح والدتها جين في أمر علاقتها ببيتر , ولكن في غضون الأيام السبعة التالية لم يكن في الفندق هدوء يتيح لها ذلك , ففي يوم السبت جاء ثلاثة رجال , كان بيتر قد سارع الى أستعارتهم من محطة كهرباء مجاورة , وبالأضافة اليهم نزل في الفندق أربعة أعضاء في مؤتمر أقيم في فندق مجاور لم يتسع لهم و فأنشغلت جين وأبنتها موراغ الى أقصى حد , بحيث لم يكن لديهمت متسع من الوقت للتحدث عن أي شأن خاص.
ودامت الحال كذلك الى يوم الجمعة التالي , حين غادر النزلاء الفندق وعادت الحياة الى مسارها الطبيعي.
وذات ليلة عادت موراغ الى افندق من زيارة لصديقتها كايتي فما أن دخلت حتى وجدت والدتها جلسة في كرسيها المعتاد , فقالت لها وهي تجلس بجوارها :
" ما أجمل هذا الجو الهادىء !".
فقالت جين :
" نعم , كم أنا سعيدة أن أجد بعض الوقت أقضيه على أنفراد...............كان على بيتر أن يعود الى المحطة , ومنذ حين أتصل ليقول أنه سيتأخر , هو وديفيد , الى الساعة الحادية عشرة والنصف , وأنذرني أن ديفيد سيكون جائعا في ذلك الوقت , ويتمنى أن يتناول شيئا من الطعام".
فقالت موراغ:
" الأكل والنوم .......هذا ما كانا يفعلانه طوال هذا الأسبوع! هل كان العمل الذي يقومان به على مثل هذه الأهمية؟".
فأجابت جين :
" تعطلت بعض أجزاء المحرك في المحطة , فكان من الضرورة أصلاحها".
ثم تابعت كلامها قائلة:
" كيف حال كايتي؟".
فقالت موراغ:
" تثرثر كالعادة , تعيّن يوم عرسها في الثاني والعشرين من كانون الأول ( ديسمبر)".
فقالت جين :
" هل تكون ثياب العرس جاهزة في ذلك الوقت؟".
فأجابت موراغ:
" بكل تأكيد , وسيقضي العروسان شهر العسل قبل أن يسافرا الى أميركا الجنوبية , حيث أرسل جوني للعمل هناك... هنيئا لك يا كايتي!".
فسألتها جين :
" هل أنت حقا تحسدينها يا موراغ؟".
فأجابت موراغ:
" أذا كنت تقصدين بسؤالك أنني أحب الذهاب مع زوجي الى أقاصي الأرض , فالجواب نعم , هذا مع العلم أنني لا أمانع أن ذهبت وحدي!".
وتابعت موراغ كلامها قائلة:
" ولكن كايتي لا تهتم أن ذهبت مع جوني أو ذهبت وحدها , ما دامت تزوجته , كل ما تطمح اليه هو بيت نظيف مجهّز بآلة غسيل وثلاجة وسرير ينام فيه طفل!".
فقالت جين بدهشة:
" ألا تطمحين أنت الى مثل ذلك؟ كنت أظن أن فتيات هذه الأيام يسارعن الى الزواج كأنهن لا يرين في الحياة غير ذلك".
وظهر الشك والأرتباك على وجه موراغ وهي تقول :
" في الزواج أكثر مما تطمح اليه كايتي , ولو كنت زوجة جوني لأردت أن أذهب معه حيثما يذهب , فأنا أفضل أن أكون مع زوجي وأشاركه حياته على أن أقعد في البيت وأنتظر عودته , وكايتي تتمنى أن يقوم بوظيفة غير وظيفته الحالية....... وظيفة تبقيه في البيت ولا تجبره على السفر طويلا من حين الى آخر , وهي تحاول أن تدبر هذا الأمر منذ الآن".
فقالت جين :
"يظن كثيرون أن من واجب المرأة تدبير شؤون زوجها ومساعدته في عمله!".
فأستدركت موراغ قائلة:
" نعم , ولكن يجب أن لا تحاول تغييره وجعله غير ما هو!".
وتوقفت عن الكلام , أذ خطر لها أن الفرصة أتيحت لها الآن لمكاشفة أمها في موضوع العلاقة التي تربطها ببيتر , ولكنها قبل أن تجمع أفكاها للبدء بذلك , طرق الباب ودخل بيتر الى الغرفة .
فقالت جين:
" أراد عدت بعد طول غياب! قل لديفيد أن يحضر لتناول طعامه ".
وألتفتت الى موراغ وقالت لها:
" هيئي المائدة من فضلك!".
فأطاعت موراغ وهي منزعجة من مجيء بيتر في اللحظة التي حاولت فيها أن تتحدث عن العلاقة التي تربط أمها به.
وقال بيتر :
" ذهب ديفيد ليغتسل ,وسيحضر حالا".
وألتفت الى موراغ قائلا:
" كيف حالك يا موراغ؟ أفتقدتك كثيرا هذا الأسبوع".
فأجابت موراغ:
" أنا على ما يرام , أنشغلنا كثيرا هذا الأسبوع , وأنت , هل أنهيت العمل في العطل الذي طرأ على المحرك الكهربائي في المحطة؟".
فقال بيتر وهو يمد ساقيه بأرتياح صوب الموقد :
" كلا, مع الأسف , لكن المرحلة الصعبة أجتزناها ,ونأمل أن ننجز العمل كله يوم الأحد".
وفي هذه الأثناء كان ديفيد يأكل بصمت , وعلى وجهه تلك الملامح الهادئة , الصافية التي بدأت موراغ تفهمها وتعجب بها ,ومع أنها أخذت تعتاد عليه , ألا أنه كان لا يزال يملك القدرة على أن يجعلها تشعر بالحرج والأرتباك , خصوصا حين كان يجلس في المطبخ واثقا بنفسه, كمن له الحق أن يكون هناك , ومن هذه الناحية كان , في نظرها أسوأ من بيتر.

وفجأة قال ديفيد مخاطبا بيتر :
" أفسدت عليّ خطتي , يا بيتر , كان رون سيأخذني الى السباق غدا".
فأجابه بيتر :
" هاها , أنضممت الى المجموعة , أذن , كنت أظن أنك لا تفعل , لأن أقامتك هنا لن تدوم طويلا".
فقال ديفيد :
" أنت تعرفني جيدا , فأنا أنضم الى أي شيء , الحاة يجب أن تعاش , والمغامرة هي من طبعي".
فأجابه بيتر بلهجة جافة:
" هذا ما لاحظته فيك , ولكنني أرفض أن أتحمل اللوم , لأنك أنت هو الذي بلغت به الحماسة حدا دفع العاملين في المحطة الى العمل المضني , طول الأسبوع بغير أنقطاع".
فقال ديفيد ساخرا:
" وأنت تعلم جيدا أنك لهذا الغرض جئت بي الى هنا ...فلماذا هذا النفاق؟".
فقال بيتر , محاولا تغيير الموضوع:
" فليكن , ولكن متى سيجري السباق ؟ غدا؟".
فأجاب ديفيد :
" بعد الظهر , ثم نعود لتناول طعام العشاء في أحد المطاعم , فهل تعرف أحدا يرافقني بدلا من رون؟".
فسارع بيتر الى القول :
" موراغ ترافقك!".
فرفعت موراغ رأسها وكانت تتصفح مجلة نسائية , فسألها ديفيد أذا كانت توافق على أقتراح بيتر.
ولكن قبل أن تجيب صرخ بيتر بحزم :
" نعم , هي توافق على أقتراحي!".
فقالت موراغ:
" يا ليت.......ولكن علي أن أساعد أمي!".
كان هذا العذر أول ما تبادر الى ذهنها , فهي لم تكن تميل الى ديفيد الذي كان ينظر الها كمراهقة ,ثم أنها كانت على موعد مع شلة من الرفاق للذهاب الى غلاسكو للرقص في أحدى الحانات.
فقالت لها جين:
" عذر أقبح من ذنب ! كيف لا يمكنك الذهاب مع ديفيد أذا كان في ذلك خدمة له؟ سمعتك مرارا تتمنين الذهاب الى سباق السيارات , والآن جاءتك الفرصة".
وألتفتت الى ديفيد وتابعت كلامها قائلة:
" ستذهب معك يا ديفيد , فهي تحب ذلك".
وقدمت الى موراغ فنجانا من الشاي وأشارت عليها بأن تجلس مع ديفيد , ريثما تغسل الصحون , فحدقت اليها موراغ , وعلى وجهها دلائل التمرد , فقلما أمرتها أمها بمثل تلك الشدة من قبل.
وقال بيتر ,وهو يفرك يديه فرحا:
" تم الأتفاق , أذن".
فقالت موراغ:
" يبدو أنكما , أنت وأمي , تريدان التخلص مني غدا ...... أنا لا أعرف شيئا , عن قيادة سيارات السباق , فمن الأفضل أن تجد لديفيد أحدا غيري".
قالت هذا ونظرت الى ديفيد نظرة عدائية , فلعله يرفض أن ترافقه , ولكنه تقبل نظراتها بهدوء ولا مبالاة وهو يرشف الشاي .
ثم قال لها:
" سآتي لأصطحبك غدا في الحادية عشرة صباحا , وبعد أن أكون قد فحصت السيارة , فالسباق سيبدأ ظهرا , ألبسي ثيابا دافئة وأنتعلي حذاء سميكا".
وألتفت الى جين متابعا كلامه :
" وأنت يا جين , أرجوك أن تحضري لنا بعض الطعام كزاد لنا ".
فصاحت موراغ بأحتجاج :
" ولكنني لم أوافق على الذهاب معك!".
فقال ديفيد ضاحكا :
" أعرف أنك لم توافقي , ومع ذلك فأنت تموتين شوقا لتظهري براعتك في قيادة سيارة السباق , فضلا عن أنك لن تخذليني بعدما قمت بالترتيبات اللازمة ".
فجعلتها سخريته هذه تشعر , مرة أخرى , كم هي حمقاء , كان الحق معه , فهي راغبة كل الرغبة أن تظهر مهارتها في القيادة , فتبرهن له أنها لم تكن صبية ساذجة تعجز أن تتحدى الصعوبات , وأنها تميل مثله الى المغامرة وركوب المخاطر .
ولذلك قالت له بخضوع :
" فليكن , ولكن عليك أن تخبرني ماذا علي أن أفعل".
فأنبسطت أسارير ديفيد , وأبتسم أبتسامة حارة أذابت ما كانت تشعر به موراغ نحوه من عدائية , ثم قال لها:
" أنا معجب بك , يا موراغ , وأراهن على أنك ستكونين أجمل من قادت سيارة سباق غدا , سأذهب وأجلب خريطة المكان لننظر فيها معا , وأفسرها لك قدر الأمكان".
وفي صباح اليوم التالي جلست موراغ في مقعد السيارة الصغيرة الحمراء , وهي متوهجة الخدين , برّاقة العينين و كانت السيارة واحدة من نحو عشرين سيارة مختلفة الأحجام والألوان , وقفت كلها في مكان السباق , وكان الطقس داكنا ورطبا , ومياه المطر تتساقط من أغصان الأشجار العالية العارية على سطح السيارة التي جلست فيها موراغ.
وحانت من موراغ ألتفاتة , من خلال الشباك , الى ديفيد وهو يستفهم من مراقب السباق عن النهج الذي يجب أتباعه , ولم يلبث ديفيد أن فتح باب السيارة وجلس فيها وناول موراغ ورقة مكتوبا عليها بعض التعليمات , ثم أدار المحرك وهو يقول لها:
" أستعدي....... فسننطلق بعد دقيقتين".
وبعد دقيقتين تماما أنطلقا نحو الجنوب كما كان مقررا في ورقة التعليمات التي أعطيت لديفيد , ثم أخذت موراغ تشير على ديفيد , بناء على الخريطة التي أمامها , كيف يميل والى أين يتجه.
وأثار ذلك حماسة موراغ , وبدأ قلبها يخفق بشدة , وحاولت جهدها أن تحتفظ بتوازنها , فيما السارة تلف منعطفات الطريق على نحو مخيف.
وفجأة مال ديفيد الى جانب الطريق وأوقف السيارة وقال لها :
" لندع الآخرين يكملون طريقهم , وأما نحن فسنسير الى مكان على الخريطة يدعى ( كاسيل دوغلاس) , وهو مطعم , فنتناول الطعام هناك".
فقالت موراغ:
" ولكن الذهاب اليه يستغرق وقتا طويلا!".
فأجابها ديفيد :
" الساعة الآن تشير الى السادسة مساء , وبأمكاننا الوصول الى المطعم بعد ساعة ونصف الساعة , وأذا أضفنا ساعتين , نتناول خلالهما طعام العشاء , أصبح بمقدورنا أن نصل عائدين الى الفندق بعد منتصف الليل بقليل , وفي أية حال , سنتصل بجين ونخبرها بالأمر حتى لا ينشغل بالها .... هل توافقين؟".
فأنشرح صدر موراغ وأومأت بالأيجاب.
فقال لها ديفيد:
" أستريحي الآن وغني أغنية تخفف من عناء ما كابدناه من مشقة في هذا السباق".
ومع أن السيارة كانت تقفز وتميل يمينا ويسارا في الطريق الوعرة , ألا أن موراغ شعرت بالهدوء والمرح بفضل خفة ظل ديفيد , وتساءلت كيف علم أنها تحسن الغناء.
وشرعت موراغ بالغناء , وكلما وجدت أن ديفيد يصغي اليها بأعجاب أزداد حماسها , وطلب منها أن تردد أغنية تقول فيها الحبيبة لحبيبها أنها تأتي اليه أذا ناداها , على الرغم من معارضة الجميع , فلما رددتها قال لها:
" هل تأتين اليّ يا موراغ أذا ناديتك؟".
ففوجئت بهذا السؤال وعضت على شفتها السفلى غير عالمة بماذا تجيب , فهي في قرارة نفسها كانت تود أن تجيب ( نعم) , وشعر ديفيد بحيرتها ولم يقلقه صمتها وسكوتها عن الأجابة على سؤاله , وأنما آثر أن يتناسى الأمر , حتى أنه لم يطلب منها أن تواصل الغناء.
وحين وصلا الى الفندق لتناول الطعام , بعد كل تلك المشقة , وجداه مفتوحا وجميل المظهر , كان مشهورا ويأتي اليه عليّة القوم من سكان المدن المجاورة , وبدا لموراغ أن الذين يجلسون في غرفة الطعام , والليلة ليلة السبت , لا بد أن يكونوا في أجمل هندام , فقالت لديفيد وهو يوقف السيارة:
" ما لنا وللدخول الى هنا , يا ديفيد!".
فأجابها ديفيد :
" لماذا؟".
فقالت موراغ:
" لأنني لا ألبس الثياب اللائقة".
فنظر اليها ديفيد وهو يطفىء أنوار السيارة أستعدادا للنزول :
" أنت من الجمال بحيث لا شأن لما تلبسين؟".
فتعجبت من مديحه ورمقته بنظرة مشككة فيما يقول , غير أنه كان جادا , فتابع كلامه قائلا:
" نعم , أنا أعني ما أقول , كما هي عادتي".
فأحمرت وجنتاها من شدة الحياء , وسرها أن يطمئنها ديفيد بقوله أن الثياب لا تهم , وتبين لها ذلك حين دخلا الفندق ولقيا ترحيبا حارا.
ودخلت الى المرحاض , فغسلت وجهها وتزينت ومشطت شعرها وصففته على جبينها العريض الناصع , ونزعت عنها سترتها المبللة وأزالت لطخات الوحل عن سروالها , وكان قميصها الصوف الرائع كافيا لأبراز جمالها وزرقة عينيها.
ولما عادت الى غرفة الطعام , حيث كان ديفيد بأنتظارها , نهض لأستقبالها بأبتسامة كلها أعجاب.

وكان الطعام لذيذا , وفي أثناء تناوله أخبرت موراغ ديفيد بكل شيء عن حياتها , وكان هو يشجعها على ذلك بالأيحاء اليها أن ما تقوله في منتهى الأهمية , وفي آخر الأمر وجهت اليه هذا السؤال:
" الى أين ستذهب بعد أن تننتهي من عملك في المطة؟".
ولأول وهلة شعرت بأنها أفسدت الأنسجام الذي تحقق بينهما , لأن عينيه ضاقتا , وشفتيه فقدتا أبتسامتهما , ألا أن ذلك لم يمنع موراغ من الأصرار على معرفة الجواب عن سؤالها , فقالت:
" يقول بيتر أنك ستعود الى العمل في مكتب الشركة بلندن , وأنك لا تحب هذا النوع من العمل , وأنا أرى أن الحق معك لأن لندن كما يقال مكان لا يطاق".
فأجاب ديفيد:
" لندن مكان رائع.... وأنت لا تعلمين شيئا عنها... وسأريك أياها يوما ما".
فصاحت موراغ:
" هل تفعل حقا؟ أنا لا أعرف شيئا عنها كما تقول ........ ولكنني أشعر بأنني لن أحب العمل أو السكن فيها , أو في أية مدينة أخرى , ففي المدن وحشة ووحدة , ومع أن الناس كثيرون , فلا أحد منهم يعرف الآخر".
ووضعت يديها على خديها الحارتين لتبردهما وتابعت قائلة:
" هل تعتقد أنني ثرثرت كثيرا وقلت ما لا خير فيه؟".
فأجابها ديفيد:
"ربما....... ولكن حديثك كان ممتعا".
فقالت موراغ:
"ولكنك لم تجبني بعد على سؤالي , الى أين ستذهب بعدما تنتهي من عملك في المحطة؟".
فأجابها ديفيد ببرودة:
" لا أعلم , هناك بعض التعقيدات , والأفضل ألا نتحدث في هذا الموضوع الآن".
فأسكتها هذا الجواب البارد , وبهتت وتوردت وجنتاها , كان , على ما بدا لها , لا يريدها أن تعرف شيئا عنه.
وتابع ديفيد كلامه قائلا:
" متى ستتزوجين يا موراغ؟".
فاجأها هذا السؤال الشخصي المبشر , ولم يكن لها بعد أية خبرة في فن المراوغة , فأجابت :
" غير متأكدة بعد , ليس لدينا ترتيب معين متفق عليه, كل ما في الأمر أنني وعدت آندي بأنتظاره حتى يعود من سفره , فلا ألتزم بأحد سواه , وهو وعدني بذلك أيضا , وسنرى كيف تكون حالنا بعد عودته".
فتمتم ديفيد قائلا لها ساخرا:
" أي حب هو هذا الحب؟".
فقالت موراغ دفاعا عن نفسها:
" أنت لا تفهم أمرا كهذا , أنا وآندي ما نزال في مقتبل العمر , ولكن هذا لا يعني أننا سخيفان ,فهناك الجانب المالي الذي يجب أخذه بعين الأعتبار ....... آندي لا يكسب من المال ألا قليلا , وعليه أن يمارس الخدمة بضع سنوات أخرى ليصبح مهندسا كامل الأختصاص , وفي أية حال سنرى عندما يعود , فأذا كان أدخر ما يكفي من المال , قد نتزوج في أول العام الجديد".
فقال ديفيد:
"يبدو لي أن آندي هذا شاب ككل الأسكتلنديين , أعني حذرا وشاطرا , لا يقع بسهولة في حبائل فتاة جذابة مثلك..".
فغضبت موراغ لكلامه وقالت بعصبية ظاهرة:
" الأستهزاء سهل .... ولكن عليك أن تأخذ حذرك لأنك أنت أيضا لا تزال أعزب".
فلم تزعج ديفيد لهجتها هذه , بل حافظ على برودة أعصابه وأجابها بلطف:
" صحيح , ولكنني لم أرد أبدا , ولا مرة في حياتي , أن أبادل حريتي بأعباء الزواج ..... وسأبقى حرا , أروح وأجيء أينما أريد , لا يربطني ولا يقيدني رباط أو قيد , أتريدين قليلا من القهوة؟".
وهكذا كان ديفيد , كما قال لها بيتر , من النوع الذي تحبه وتبتعد عنه , وحين تذكرت هذا القول فقدت بعض السرور من مرافقتها له ذلك اليوم , فهي لم تصاحب في حياتها رجلا يتحلى بالصفات التي جعلت ديفيد حلو المعشر , بحيث تنسى في صحبته كل ما حولها ,وفيما كانا يشربان القهوة , حاولت موراغ أن تتخيل حال النساء اللواتي أحبهن وتركهن , فقال في نفسها: ( حذار أن يفكر أنه يقدر أن يضمني الى قائمتهن!).
وفي طريق العودة الى دارلينغ لجأت موراغ الى الراحة والصمت بفعل الطعام الشهي الذي تناولته والتعب المضني الذي عانته , وكان رأسها , بجدائله السوداء , يتمايل فيقع أحيانا على كتف ديفيد , وكلما وقع هناك أستفاقت وأصلحت من جلستها , ولكن من دون جدوى.
فقال لها ديفيد متمتما:
"لماذا لا تتركي رأسك على كتفي؟".
فراق لها ذلك وأستجابت له , فألقت رأسها على كتفه وغرقت في سبات عميق.
ولكن ما أن فعلت ذلك حتى أستفاقت مذعورة على صوت خشن يصيح بها :
" قومي , وصلنا ,والوقت جاوز منتصف الليل , خير لك أن تذهبي الى أمك وتخبريها بعودتك , وألا ظنت بي السوء !".
وأخذ ديفيد يتذمر ويتبرم , فأطاعته موراغ بتردد وهي دابلة الجفون من النعاس .
أمرها بحدة وحزم :
" أذهبي حالا , طابت ليلتك!".
فأجابت وهي تشعر بالكآبة والغمّ:
" طابت ليلتك أنت أيضا , شكرا لك على صحبتك زعشائك , أعتذر أذا كنت أزعجتك بشيء".
فقال:
" أشكرك على مجيئك معي , الآن أذهبي...... أنا آتي بالخريطة والأشياء الأخرى".
وأخذت موراغ , وهي تجر قدميها عبر البهو , تفكر هل أساءت اليه في شيء , وكيف؟ وألا لماذا أصبحت لهجته جافة قاسية في آخر الرحلة؟ وهزت رأسها وقالت في نفسها: ( سأعود الى التفكير في هذا الأمر بعد أن أستفيق من النوم).

سيريناد 16-02-20 09:54 PM

رد: 303 - عنيدة - روايات أحلامى المكتوبة
 
الغريمة المغرمة

https://lh4.google.com/Dani.vet23/SE...WA/5u5ekm1.png

العمل الشاق والمضني شغل العاملين في المحطة طوال الأسبوعين المقبلين , والرجال الخمسة المقيمون في الفندق كادوا يصلون اليل بالنهار , ولا سيما بيتر وديفيد ورون , ولذلك لم يكن لديهم الوقت الكافي للتحدث الى جين وموراغ ألا قليلا.
وقالت موراغ لكايتي وآن في سهرتهن المعتادة ليلة الجمعة :
" ما يدهشني في أولئك الرجال أن أحدا منهم لا يتذمر من العمل الطويل الشاق , بل يجعلون منه موضوعا للدعابة والمزاح".
فقالت كايتي:
"أنا أتذمّر , فقلما رأيت جوني هذا الأسبوع , أنه يتناوب العمل ليلا في المحطة , وكأن هذا لا يكفي حتى طلب منه ديفيد هاكيت أن يعمل ساعات أضافية , طبعا سيدفعون له لقاء هذه الساعات الأضافية , ولكن ما الفائدة أذا كان يصاب بالتعب الى حد لا يعود قادرا حتى على التحدث معي!".
فضحكت موراغ وقالت لها:
" أنتظري حتى تتزوجي جوني , فتري كيف يكون عليك أن تنهضي باكرا لأعداد طعام الفطور له.... وأن تنامي وحدك في الليل! فأنا وأمي لا نعرف شرقنا من غربنا لأن الرجال النازلين في الفندق لا يحضرون من العمل في أوقات معينة .... وشهيتهم للطعام تفوق الوصف! وهذا شيء يثير العجب حقا......".
فقالت كايتي:
" على جوني أن لا يظن أنني أتحمّل هذه الحالة طويلا , فلا بد أن أقنعه يوما بوظيفة أخرى يكون العمل فيها وفق ساعات معينة... أي من التاسعة صباحا الى الخامسة مساء , ومهما يكن , فلا أعتقد أن جوني يحب هذا النوع من العمل في المحطة , فطالما قال لي أنه يهلك الأعصاب , فضلا عن أنه محفوف بالمخاطر".
فعلقت موراغ على ذلك قائلة:
" أذا كان الأمر كذلك فأنت على حق بأن تقنعي جوني بالعمل في وظيفة أخرى , لكن بيتر وديفيد لا ينظران الى عملهما هذه النظرة , فهما لا يباليان بالمخاطر ... بل لعلهما يرحبان بها".
فقالت آن مازحة:
" هل رحب بها ديفيد حين جعلته يضيع في طريقه وأنتما في سيارة السباق؟".
فصاحت بهما موراغ:
" من أخبرك بذلك؟".
فأجابت كايتي:
" جوني أخبرني وأنا أخبرت آن..... الجميع في المحطة يتندرون بهذه الحادثة , خصوصا لأن ديفيد سائق ماهر , لا يمكن أن يضيع طريقه!".
وقالت آن لموراغ:
" هل تضللينا بقولك أنك غير معجبة بديفيد؟ فأذا كنت غير معجبة به , فكيف قضيت معه كل ذلك الوقت؟".
فأجابت موراغ غاضبة:
" أسكتي يا آن , كفاك!".
ولكن آن تابعت كلامها في موضوع آخر , فقالت:
" أتصلت بأيان اليوم , فأخبرني أن الثلج سقط هذا الأسبوع , فأذا أستمر في السقوط بضعة أيام يصبح بأمكاننا أن نذهب الى مزرعته للتزلج الأسبوع المقبل".
فقالت كايتي :
" لا يزال الوقت مبكرا للتزلج ......... فنحن بعد في الخريف!".
أجابت آن :
" لكن الطقس هذه السنة بارد أكثر من المعتاد .... والمرصد الجوي ينبىء بسقوط الثلج في أسكتلندا في كانون الأول ( ديسمبر) ".
فقالت موراغ:
" لا يمكن الأعتماد على المرصد الجوي دائما . ..... ولكن , ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.....".
وجاء شهر كانون الأول وأستمر الطقس في برودته , وكانت أخبار سقوط الثلج تتوارد , حتى أنه أصبح واضحا على سفوح الجبال , وكان لونه أبيض لامعا في وضح النهار , وبرتقالي اللون عند المساء وعند الصباح.
وبعث الطقس البارد نشاطا ملحوظا في موراغ , فبدأت تعد أدوات التزلج في ساعات فراغها القليلة , ذلك أن بيتر وزملاءه كانوا لا يزالون يعالجون الأزمة التي وقعت في المحطة , فيعملون بجهد ولساعات طويلة , آملين أن ينتهوا من ذلك قريبا ليعودوا الى نمط عملهم العادي.
وكانت موراغ تتوق الى مجيء ذلك اليوم , لأنها كانت تتهيأ للذهاب الى تلال هوايت كراكز , حيث أعتادت على التزلج كل سنة , منذ كانت في الحادية عشرة ,وكان المكان متواضعا , جهّزه أيان على أرضه , وهو أحد المزارعين الذين حازوا شهرة عالمية في التزلج , فبنى عددا من الأكواخ كان في وسع المتزلجين أن يبيتوا فيها , شرط أن يجلبوا طعامهم معهم.
وصحّ ما توقعه بيتر , فبعد بضعة أيام عادت الحياة في المحطة الى طبيعتها , وأصبح لدى موراغ متسع من الوقت لقضاء عطلة آخر الأسبوع في التزلج , وأتصلت آن لتقول لها أنها وأخاها داني وخطيبها فرانك سيأتون في سيارة صباح السبت لأصطحابها الى مكان التزلج , لأن أيان أخبرها أن الثلج سقط بما فيه الكفاية.

فشرعت موراغ تتهيأ حتى أذا ما جاء صباح السبت كانت على أتم الأستعداد , فتركت أدوات التزلج على البهو ودخلت المطبخ لجلب الزادلذي أعدته من قبل , فوجدت أمها جين هناك تهيء طعام الغداء , فقالت لها موراغ , وهي تحمل كيس الطعام :
"هذا الطعام يكفينا كلنا .....هل أنت متأكدة أنك قادرة على تدبير شؤون الفندق وحدك؟".
فأجابتها جين:
"أما قلت لك ذائما أن تطمئني ؟ أذهبي وأقضي وقتا ممتعا مع أبناء جيلك... .... أريدك أن تعاشريهم من حين الى آخر".
فوعدت موراغ أمها , على أن تعود مساء الأحد.
وفيما هي تعبر البهو شاهدت ديفيد واقفا قرب الطاولة التي يوضع عليها بريد النزلاء , وكان يقرأ رسالة وردت اليه , وبدا من ملامح وجهه العابسة أن ما جاء في الرسالة لم يرق له , وأحس بمرور موراغ فنظر اليها وقال:
" أين وعدك لي ؟ لا شيء أعمله في نهاية هذا الأسبوع , فلماذا لا تدعينني الى مرافقتك؟".
ووقفت سبارة أمام الباب وتعالى نداء راكبيها , فقالت موراغ:
" ها هم ينادونني ..... وعلي أن أسرع".
قالت هذا على أمل أن تتخلص منه , ولكنه أستوقفها ملحا عليها أن تأخذه معها , وكان يقول ذلك وهو يبتسم محاولا أقناعها , فقالت له:
" لكن آن وداني بأنتظاري في السيارة .... فأرجوك يا ديفيد أن تحيد من طريقي , لئلا يحسبا أنني عدلت عن الذهاب معهما".
فقال لها ديفيد:
" أخبريني الى أين أنتم ذاهبون للتزلج ,وأنا ألحق بكم بعد الغداء , ألا أذا أردتم أن تنتظروني!".
فهزت رأسها قائلة:
" لا , لا تفعل..... لا أعتقد أنك تحب ذلك المكان".
ولكن ديفيد أصر وبقي واقفا في طريقها يمنعها من السير بأتجاه الباب , ما لم تخبره الى أين هم ذاهبون.
فقالت له موراغ:
" المكان متواضع جدا , هنالك بضعة أكواخ , وعلينا نحن أن نهيء الطعام".
ثم أخذت تشرح له بالتفصيل أين المكان وكيف الوصول اليه , بينما هو يمزق الرسالة التي بين يديه , وأشارت عليه أن يخبر أمها جين بذهابه , ويطلب اليها أن تعطيه بعض الزاد أضافة الى ما كانت تحمله معها.
ثم أسرعت الى السيارة , وأما ديفيد فراح يقفز الدرج صاعدا الى غرفته لأعداد أغراضه واللحاق بها.
كانت شمس الشتاء الصفراء البلورية تنحدر عبر سفوح التلال البيضاء , فيما أخذت موراغ تتزلج نزولا فوق أحداها , كان الثلج رائعا , وكان التزلج عليه ممتعا للغاية.
وحانت منها ألتفاتة , فأذا بها تلمح سيارة حمراء صغيرة تقف بين السيارات قرب الأكواخ , فخفق قلبها وهي تحدق باحثة عن رجل ذي قامة طويلة مميّزة .
وأقتربت آن منها , وكانت ترتدي قبعة صوف حمراء , وقالت لها :
" ما لك واقفة؟ كنت أحسب أنك جئت للتزلج!".
ونظرت الى حيث تنظر موراغ , فلما رأت ديفيد تابعت كلامها قائلة:
" ها ها..... الفتى الذهبي!".
فصاحت بها موراغ:
" لا تصفيه بهذا الوصف........ أرجوك!".
فأجابت آن:
" لماذا لا؟ عليك أن تعترفي أنه كذلك.... والآن الى أين أنت ذاهبة؟".
دعتها موراغ الى السباق , فقبلت دعوتها , وفيما هما تنحدران الى أسفل السفح , كان ديفيد قد وصل الى هناك بقامته المديدة وهندامه الخاص بالتزلج , فلما أقتربت منه لم تتمالك من أظهار فرحها بقدومه.
فقال لها :
" يا لك من متزلجة ماهرة , كيف لي أن أنافسك؟".
أعجبها مديحه , فقالت وهي تنفي نظرات التقدير في عينيه :
" هل وجدت صعوبة في الطريق؟".
أجابها:
" كلا , كانت سهلة , ووجدت المكان من دون عناء , يا له من مكان رائع! كيف ظننت أنني لن أحبه؟ ربما لأنك لم تريدي أن أرافقك..........".
فقالت له:
" خيّل الي أن هذا النوع من الأمكنة لا يروق لك , فأسباب الراحة فيه ضئيلة كما ترى , وصاحبه أيان جهزه لمن كان مثلنا لا يتحمل نفقات التزلج هناك في الشمال , فلا لهو ولا تسلية ........ والأسرّة قاسية كالخشب".
فأجابها ديفيد:
" ما الذي جعلك تعتقدين أنني أبالي كثيرا بالرفاهية في مثل هذه الأحوال؟ وكيف أخذت أنطباعا كهذا عني؟".
وحين لاحظ الأحراج الذي أثاره فيها كلامه , تابع قائلا:
" ربما تمكنت أن أمحو هذا الأنطباع في نهاية هذا الأسبوع..... والآن دعينا نصعد الى أعلى السفح لنتزلج بعض الوقت , قبل أن يخيّم الظلام..... فأنا لا أحسن التزلج كما يجب!".
ومن تلك اللحظة أخذ الوقت يمر سريعا , فكان بالنسبة الى موراغ وقتا مليئا بالدعابة والمرح والشمس الساطعة , وكان القمر في الليل يلقي ضوءه على السفوح , فينعكس بياضا فضيا هنا , وظلالا ساحرة هناك.
وليلة السبت أحيا المتزلجون سهرة أختلط فيها الغناء الشعبي بأنغام قيثارة داني ومزمار أحد الحاضرين , وكان ديفيد جالسا الى جانب موراغ وذراعه تطوقها , وأنامله تداعب شعرها الأسود الطويل , وحين جاء وقت النوم تفرّق الجمع , فذهب كل واحد الى فراشه.
وطلع صباح الأحد مشمسا ورائقا كالثلج المضطجع على تلك السفوح البهية , فراح ديفيد وموراغ يتزلجان ببهجة ما بعدها بهجة ,حتى أن موراغ تغلبت على شعورها العدائي نحو ديفيد عندما تلاقيا لأول مرة , وبدأت تنعم وهي الى جانبه بسعادة تنعكس على وجهها الساحر الفتيّ.
وفي آخر النهار قالت آن لموراغ , وهما تخلعان ثياب التزلج وتستعدان للعودة مع الآخرين:
" تعالي معنا الى البيت الآن , ما رأيك؟".
فأجابت موراغ:
" كلا , أشكرك".
فقالت آن :
" لا ألومك على رفضك".
ثم أضافت وهما تسيران نحو الكوخ لجلب أغراضهما:
" يقول داني أنه ينوي قضاء نهاية الأسبوع المقبل في مكان رائع للتزلج في الشمال , أذا كان الطقس ملائما آنذاك , فقررت أنا وفرانك أن نرافقه ,ليتك تأتين معنا برفقة ديفيد , فهو حلو المعشر , ونرحب به كلنا".
فقالت لها موراغ:
" أتمنى ذلك ,ولكنني دعيت الى سهرة وداعية يقيمها العاملون في المحطة , ووعدت بقبول الدعوة".
فأجابت آن :
" بأمكانك أن تذهبي دائما الى سهرة راقصة , ولكن لا يتاح لك دائما أن تذهبي الى ذلك المكان الشهير للتزلج , وأنت طالما حلمت بالتزلج هناك".
فقالت موراغ بتأوه:
" أعرف ذلك , هل تكلف الرحلة كثيرا؟".
فأجابت آن :
" لا أعلم , سأسأل داني , أتصلي بي يوم الثلاثاء المقبل وأخبريني أذا كان في وسعك المجيء معنا".
ثم تابعت آن كلامها قائلة:
" هذا اليومان اللذان قضيناهما هنا لا يمكن أن ننساهما ......... أعدك بأن لا أخبر آندي عندما يعود, لكنني أريد أن أحذرك من ديفيد , فهو شاب وسيم , ولكن لا يؤمن جانبه".
فقالت موراغ:
" لا شيء بيني وبينه , فأطمأني ...... وبأمكانك أن تخبري آندي بما تشائين".
فأضطربت آن لكلامها وقالت:
"لا تكوني كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمل..... هل لاحظت كيف ينظر ديفيد اليك؟".
ولكن موراغ كانت في هذه الأثناء قد هرعت في أتجاه السيارة الحمراء الصغيرة التي كانت مصدر أرتياحها وهنائها , ذلك أنها أصبحت تتجاوب بكل قلبها مع ديفيد الذي كان يثير في قلبها شعور المرح ,ورأت أن وراء تلاعبه القاسي بالكلام يكمن الأطمئنان والصلابة اللتان كانت تحتاج اليهما في وحدتها وقلقها , وكانت عطلة نهاية الأسبوع كافية لتظهر لها , بعد التحدث اليه ومشاركته في ساعات المرح والضحك , أنه الرجل الذي في وسعه أن يخفف مما يصيب المراهقين , من قلق وأضطراب وحيرة في مواجهة الحياة.
وفيما هما عائدان في السيارة الى الفندق , أخذا يتجاذبان أطراف الأحاديث ويتبادلان الأغاني , ولكن ما أن نزلا من التلال الى السهل وأقتربا من أضواء القرى والمدن , حتى لزم ديفيد الصمت , فتعجبت موراغ من هذا التغيير المفاجىء ,وسألت نفسها هل كان هذا عائدا الى شعوره بالتعب , أو الى الضجر منها ؟ غير أنها صرفت هذه الفكرة من ذهنها وآثرت أن تعتبر المزاج الذي حل به عائدا الى ما يعانيه في أعماقه من تناقض ينعكس في الجانب المرح الذي يحاول أظهاره للناس.
على أنه لم يرق لها أن يصمت ديفيد هذا الصمت الذي أبقاها خارج عالمه , وشعرت أنها عادت لتكون تلك الفتاة الوحيدة الجالسة بقرب رجل غريب , يعيش حياة خفية لا تعلم عنها شيئا , ومع ذلك تحس نحوها بغيرة شديدة.
وكان كل شيء هادئا حين وصلا الى الفندق , فأوقف ديفيد السيارة في مكنها المعتاد ومد ساقيه الطويلتين وهو يقول متذمرا :
"سأحس بالوجع في الصباح , فجسمي سيكون يابسا كخشبة , أما أنت فلن تحسي ألا بلقليل من الوخز , فأنت تتريضين , بينما أنا أقضي معظم وقتي راكبا سيارتي ".
وأنشرح صدر موراغ لأن البسمة عادت الى وجهه , وتذكرت مزاحه عندما كانا يتزلجان على الثلج ,فأخذت تضحك فقال لها:
" ما بالك تضحكين؟".
فأجابت موراغ:
ط خطر لي بعض ما جرى لك فوق الثلج , وكيف نقلبت فاحا ساقيك بحيث كدت تنقسم شطرين............".
فقال ديفيد :
" لك أن تضحكي ,ولكنني كدت أموت , ومهما يكن , فسروري كان عظيما في العطلة الأسبوعية , وأنا أشكرك على ذلك ".
فأجابت موراغ:
" لا تشكرني ...... لأنك أنت فرضت نفسك عليّ".
فوضع ديفيد ذراعه حول كتفيها , فتراجعت قليلا من دون أن تشعر , فقال لها:
" بلى , الشكر لك يا موراغ, ولن أنسى فضلك!".

ونزل ديفيد من السيارة وأشار أليها أن تساعده على أخراج الحوائج , وبعد حين دخلا بهو الفندق وهما يغنيان ويقهقهان , وفجأة فتح الباب ودخل بيتر وأغلق الباب وراءه وهو يضع أصبعه على فمه مشيرا بالسكوت.
فصاح ديفيد غير مبال بأشارة بيتر:
" هاي......... أسمح لي أن أقدم لك الآنسة موراغ هندرسون التي لا مثيل لها في التزلج على الثلج...... فهي لا تغني كالعصفور فقط , بل تطير مثله أيضا...... والآن , ما لي أراك مرتبكا ومشيرا بالصمت ؟".
وما كاد بيتر يفتح فمه , حتى فتح الباب الذي أغلقه ودخلت منه أمرأة شقراء طويلة لقامة , حسنة الهندام ,تلبس ثوبا مرقطا بالأبيض , وكانت الأبتسامة وعلى وجهها تخفف من قساوة ملامحها , حين أقتربت من ديفيد ومدت يدها مرحبة به , وهي تقول:
" يسرني أن أراك يا ديفيد!".
قالت هذا وأمسكت بسترته ثم وقفت على رؤوس أصابعها وقبلته.
فتراجع ديفيد بلطف ألى الوراء وقال مبتسما برفق:
" اهلا بك يا جن....... أقدم لك موراغ هندرسون , هذه فرجينيا لانغدون يا موراغ , وهي معروفة بأسم جن .... متى قدمت ألى هنا يا جين؟".
فردت جين تحية موراغ لها ببرودة ثم قالت لديفيد:
" جئت البارحة بعد الظهر , وحالما وصلت أتصلت بك , فتعجبت كيف لم أجدك هنا ...... هل تلقيت رسالتي؟".
وأبتعدت موراغ عن ديفيد ووضعت أغراضها قرب الجدار أستعدادا لنقلها ألى غرفتها عندما تصعد للنوم , وتذكرت كيف كان ديفيد منزعجا وهو يقرأ الرسالة أمس , وكيف مزقها فيما بعد ,ووقفت تنتظر ماذا سيقول لفرجينيا , وهل يكذب عليها؟
فأجاب ديفيد :
" نعم , تلقيت الرسالة ....... ولكنني لم أتمكن من مقاومة رغبتي في الذهاب ألى التزلج , فذهبت".
فقالت له , وهي تنظر أليه من بين جفون كانت في رأي موراغ مزيفة:
" كان عليك أن تترك لي كلمة , يا حبيبي!".
فأجابها ديفيد :
" حان لك أن تعرفيني جيدا ..... فأنا عنيد ولا أعمل ألا ما يروق لي , وأعجب كيف تتحملينني ألى هذا اليوم".
وكان لا يزال يحمل أدوات التزلج على كتفه , فأبتعد عن فرجينيا كأنما أراد أن يتجاوزها ألى الدرج , ولكنها أمسكته وقالت له بأبتسامة مغرية:
" أتحملك لأنني أحبك , وأنا أصفح عنك , والآن , أذهب يا حبيبي وبدّل ثيابك , سنتناول طعام العشاء مع والدي في فندق رويال , أننا باقيان في أسكتلندا مدة أسبوعين و بينما هو يبحث في بعض الأمور المتعلقة بالشركة , وفي نهاية الأسبوع المقبل سنقضي السهرة في منزل الكولونيل موسغريف فهل ترافقنا؟ وهل تريد أن تقيم معنا في فندق رويال يا حبيبي؟".
وسمعت موراغ هذا الحديث وهي واقفة قرب الدرج بأنتظار أن تودع ديفيد , كما تقضي اللياقة , وبدا لها أن فيرجينيا كمن تصدر أوامرها لديفيد.
وأجاب ديفيد بحزم :
" أفضل أن أقيم هنا , شكرا".
وقال بيتر :
" سنترككما , أنا وموراغ , لتتداولا وحدكما في الأمور , والآن , وداعا يا فرجينيا , سنلتقي في السهرة الراقصة....".
وألتفت بيتر ألى موراغ وأمسكها بيدها وسار بها نحو المطبخ لتناول طعام العشاء مع جين , وشعرت موراع بالأرتياح وهو يمسكيدها , كأنما وجدت في فرجينيا خطرا يتهددها , وحين وصلا ألى المطبخ تنهد بيتر وقال لموراغ:
" كم سرّني مجيئكما ........ قضيت بعد الظهر وأنا أهدىء من روعها وأطيّب خاطرها .....فكيف ذهب ديفيد ألى التزلج وهو يعلم أنها ستأتي ؟ أيعجبك مثل هذا التصرف؟".
وحيّت موراغ أمها وجلست في مكانها المعتاد , بعد أن خلعت حذاءها , وجلس بيتر في مكانه المعتاد بقرب الموقدة.
وبعد حين قالت موراغ:
" من هي هذه المرأة؟".
فأجابت جين:
" هذه أبنة باسيل لانغدون رئيس الشركة؟".
فقالت موراغ :
" ولكن , هل هذا يمنحها حق الدلال على ديفيد؟".
فأجابها بيتر :
" هذا بحد ذاته لا يمنحها هذا الحق........ ولكنها منذ سنتين راهنت على أن تتزوج ديفيد , وأنا أعتقد أنه سيتزوجها , حين يقرر أن يعيش حياة مستقرة.


الساعة الآن 05:58 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية