منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   كوكتيل 2000 (https://www.liilas.com/vb3/f277/)
-   -   عاجل 49 - جدى الحبيب (https://www.liilas.com/vb3/t207264.html)

SHELL 29-11-19 10:15 PM

49 - جدى الحبيب
 
قصة العدد

(( جدى الحبيب ))



"جدك توفّي أمس.. احضر لتسلّم الميراث.."
برقية قصيرة، وصلتني حاملة تلك الكلمات المختصرة، من بلدة بسيطة، على الحدود السورية اللبنانية..
ولقد أدهشتني تلك البرقية في الواقع..
هذا لأنني لم ألتقِ بجدي لأمي هذا قط، منذ وعت عيناي الدنيا..
كل ما عرفته عنه هو تلك الصورة الكبيرة التي كانت تحتفظ بها أمي له، والتي كانت تثير خوفي منذ طفولتي؛ بسبب نظراته القوية القاسية فيها، وشاربه الضخم، الذي يحتلّ نصف وجهه، ويمنحه مظهراً يناسب بدايات القرن العشرين، وخاصة مع تلك الحلة الثمينة النمطية، التي يرتديها في الصورة، مستنداً إلى عكّاز ضخم، من الواضح أنه كان يتكئ عليه من باب الوجاهة، لا من باب العجز..
وكانت أمي، اللبنانية المولد والجنسية، تتحّدث عنه دوماً بفخر واعتزاز، وتحكي الكثير عن قوته وشهامته وبطولاته، في مواجهة المحتلين..
وفي مرة أو مرتين فحسب، تحدّثت عن غضبه منها، ومقاطعته لها؛ عندما تزوّجت من مصري، وأقامت معه في مصر، حيث وُلدت أنا ونشأت..
ولكن جدي هذا لم يحاول الاتصال بي قط، على الرغم من أن أمي كانت تؤكّد دوماً أنني حفيده الوحيد؛ نظراً لأنها ابنته الوحيدة، وأنا ابنها الوحيد..
ولم تذكر شيئاً أبداً عن ثرائه..
أو حتى عن مهنته..
ولقد توفّيت أمي منذ سنوات قليلة، وانقطع بوفاتها الحديث عن جدي، وانقطعت كل صلة سماعية لي به تماماً..
ثم فجأة تصلني تلك البرقية!!
لم أكن قد زرت لبنان قط، ولم تكن تلك الزيارة ضمن مخططاتي القريبة، أو حتى البعيدة، حتى وصلت تلك البرقية..
كانت تحمل توقيعاً لشخص يُدعى عدنان الموالي..
واسم تلك البلدة التي أرسلت منها..
ولكن الحديث عن الميراث، جعلني أعد حقيبتي، وأستقل أوّل طائرة إلى بيروت، وأنا أحلم بذلك الميراث، الذي لا أعلم مقداره أو حدوده، ولكنه أثار في نفسي خيالات عديدة، وأملا في الخلاص من الأزمات المالية التي أمرّ بها منذ وفاة والدي، وضياع ثروته، مع الأزمة الاقتصادية العالمية..
وفي مطار بيروت وقفت أنتظر وصول عدنان هذا، والذي أبلغته برقياً بموعد وصولي..
ولقد وصل بالفعل، بعد عشر دقائق فحسب، من خروجي من المطار..
ولم أشعر بالارتياح قط وأنا أصافحه للمرة الأولى..
لقد جاء في سيارة قديمة للغاية، ولكنها نظيفة ومعتنى بها جيداً، والعجيب أنها ما زالت تعمل بكفاءة، على الرغم من أن عمرها يتجاوز نصف القرن..

SHELL 29-11-19 10:16 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
والرجل نفسه كان يتجاوز هذا العمر أيضاً..
كان لديه شعر أشيب كثيف، وشارب يماثل شارب جدي ضخامة، ووجه كثير التجاعيد، وعينان ضيقتان، تكاد تتبيّن لونهما في صعوبة بالغة، من شدة ضيقهما، كما كان صوته خشناً غليظاً، إلى حد يدهشك..
وكان قليل الكلام، إلى حد مستفز..
ولقد صافحني عدنان في برود عجيب، ثم اصطحبني إلى سيارته القديمة، التي قطعنا بها رحلة طويلة مجهدة، لم أتصوّر قدرتها على قطعها، قبل أن نصل إلى تلك البلدة الصغيرة، التي عاش بها جدي ومات..
وأوّل ما لاحظته، عندما وصلنا إلى تلك البلدة، هو ذلك النفور العجيب، الذي يصيب كل من نمرّ به، عندما يتبيّن السيارة، وهوية قائدها..
كان نفوراً يمتزج بلمحة من الخوف والتوتر...
ولكن عدنان هذا لم يبالِ، وهو يواصل طريقه، إلى درب ضيق، يقود إلى أحد الجبال اللبنانية، التي شاهدتها في أفلام السينما فحسب..
وعبر ذلك الدرب الضيق، تواصلت رحلتنا، وعدنان يجيب تساؤلاتي العديدة بكلمات غاية في الاقتضاب، مشيراً إلى أنني سرعان ما أعرف كل شيء..
وأخيراً توّقفت بنا السيارة، عند قمة الجبل تقريباً، أمام منزل من طابقين، له طراز قديم، مشيّد وحده، في تلك البقعة، التي تطل على الحدود السورية اللبنانية مباشرة..
وهنا، أشار عدنان إلى المنزل، قائلاً بصوته الغليظ الخشن:
- هذا هو ميراثك.
أدهشني أن تنتهي بي الرحلة الشاقة إلى هذا، فغمغمت معترضاً:
- فقط؟!
رمقني عدنان بنظرة عجيبة دون تعليق، ثم حمل حقيبتي الوحيدة، واتجه بها نحو ذلك المنزل، فتتبعته دون مناقشة، ودخلت معه، ولأوّل مرة، المكان الذي عاش به جدي..
لم يكن المنزل من الداخل يختلف كثيراً عن طرازه من الخارج؛ إذ كان كل شيء فيه عتيقا، يعود إلى قرن من الزمان على الأقل..
الأثاث، والتحف، وتلك المدفأة القديمة..
كل شيء..
وكان هناك غبار خفيف، يكسو كل شيء فيه تقريباً، حتى لتتصوّر أن يداً لم تمتد إليه بالعناية، منذ زمن ليس بقليل..
وكانت الإضاءة فيه خافتة، إلى حد مستفز، حتى إنني سألت عدنان هذا، فور رؤيتي له:
- كم يبلغ ثمن هذا المنزل؟!
أجابني في غلظة:
- إنه ليس للبيع.
أجبته في غلظة مماثلة:
- لو أنه ميراثي، فهذا شأني أنا.
رمقني بنظرة لم ترُقْ لي إطلاقاً، وهو يصعد بحقيبتي إلى الطابق الثاني، مكرّراً:
- إنه ليس للبيع.
غاظني قوله هذا كثيراً، ليس لتدخّله في شئوني فحسب، ولكن لأنه، ومنذ النظرة الأولى، اتخذت قراراً بعدم الاحتفاظ بهذا المنزل الكئيب، أياً كانت الظروف..

SHELL 29-11-19 10:18 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
وفي سرعة، ومن خلال خبرتي في العمل التجاري، رحت أقيّم تلك التحف الكثيرة، التي تملأ كل الأركان، وقدّرت أنها وحدها تساوي ثروة، تكفي لإخراجي من أزمتي المالية تماماً..
وبغضّ النظر عن موقف عدنان المتعنّت، اتخذت قرار البيع، قبل حتى أن أصعد خلفه إلى الطابق الثاني، الذي يحوي ثلاث حجرات، وضع عدنان حقيبتي في واحدة منها، تحوي حجرة نوم عريقة الطراز، تشبه تلك التي نراها في الأفلام التاريخية، بفراشها الضخم ذي الأعمدة، وقطع الأثاث الكبيرة، والإضاءة شديدة الخفوت، والتي قرّرت استبدالها بإضاءة قوية، في الصباح التالي مباشرة..
ولقد وضع عدنان حقيبتي، ثم استدار لينصرف، دون كلمة إضافية، فسألته في لهجة قاسية بعض الشيء:
- وماذا عن الحجرتين الأخريين؟!
تجاهل سؤال تماماً، وهو يغادر الحجرة، فعدوت خلفه، أسأله في خشونة حادة:
- ماذا بهما؟!
التفت إليّ في بطء مستفز، وهو يجيب:
- أشياء خاصة.
قلت في حدة:
- لقد ورثت المنزل بكل ما فيه.. أليس كذلك؟!
صمت لحظات، متطلّعاً إلي بعينيه شديدتي الضيق، قبل أن يجيب في بطء:
- يفترض هذا.
أغاظتني إجابته، فقلت في شيء من العصبية:
- ماذا يعني هذا؟! إما أنه ميراثي أو لا.
واصل صمته لحظات أخرى، ثم أجاب، وهو يشيح بوجهه، مكملاً انصرافه:
– إنه كذلك.
وتوّقف قليلاً، قبل أن يلتفت إليّ نصف التفاتة، مضيفاً:
- لو أنك تستحقه.
بدا لي شديد الوقاحة بقوله هذا، فأمسكت كتفه في غضب، صائحاً في وجهه:
- إنك لم تخبرني بعد، ما شأنك بكل هذا.
وعلى الرغم مني، سرت في جسدي قشعريرة عجيبة، عندما أمسكت كتفه..
لقد كانت كتفه لينة، على نحو عجيب..
أو مخيف، لو شئت الدقة..
كانت وكأنها، على الرغم من نحوله، لا تحوي أية عظام..
على الإطلاق..

SHELL 29-11-19 10:19 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
كانت رخوة، حتى لتشعر وكأنك قد أمسكت قطعة من المطاط اللدن، المستخدم لصنع ألعاب الأطفال..
وبحركة حادة، أبعدت يدي عنه، وتراجعت خطوتين إلى خلف، وأنا أحدّق فيه في مزيج من الدهشة والذعر..
وهنا، لمحت على شفتيه شبح ابتسامة ساخرة، وهو يجيب في بطء، وبنفس اللهجة الغليظة والصوت الخشن:
- تستطيع أن تقول: إنني مدير هذا المنزل.
سألته في عصبية، وأنا أحاول تجاهل ملمس كتفه:
- ومن وضعك في هذا المكانة؟!
أجابني في حسم:
- جدك.
ثم مال نحوي، على نحو مخيف، وهو يضيف، في شيء من الصرامة:
- وهذا أحد شروط الميراث.
كانت أوّل مرة أشتمّ فيها رائحة أنفاسه الكريهة..
وسرت في جسدي قشعريرة أخرى.
لقد كانت أنفاسه أشبه برائحة قبر، انفتح بعد طول إغلاق..
رائحة تحمل هواء الموت الفاسد، وأنفاس مئات السنين من النسيان..
وتراجعت في خوف حقيقي، وأنا أتساءل: لماذا فعل جدي بي هذا؟!
لماذا؟!
وبكل عصبيتي وانفعالي، سألته:
- وأين وصية جدي، التي قالت هذا؟!
أجابني بغلظته وخشونته في برود:
- سآتيك بها، في الصباح الباكر.
وقفت لحظات أتطلعّ إليه، وأتبادل معه نظرة عصبية، قبل أن أشير إلى الحجرتين المغلقتين، قائلاً ما استطعت استكماله في نفسي من صرامة:
- افتح الحجرتين.. أريد أن أنظر ماذا بهما.
وقف يتطّلع إليّ بعينيه شديدتي الضيق لحظات، قبل أن يجيب في بطء:
- لست أدري أين وضع جدك مفتاحيهما.
قلت في حدة:
- أي قول هذا؟!
أجاب في برود، وهو يبتعد عني:
- سأبحث عنهما في الصباح.
تابعته ببصري، وهو يهبط إلى الطابق الأرضي، ويختفي داخل حجرة وحيدة فيه، ولم أشعر بالارتياح على الإطلاق وأنا أتطلع إلى الحجرتين المغلقتين، وبذلت جهداً حقيقياً في محاولة فتحهما، إلا أنني لم ألبث أن شعرت باليأس، فتركتهما، واتجهت نحو حجرة النوم الخاصة بي، و..
وفجأة، سمعت ذلك الأنين..
أنين شخص يتعّذب بشدة..
أو يحتضر..
وفي هذه المرة، لم تسرِ في جسدي قشعريرة..
بل انتفض كله..
وبمنتهى العنف..
فقد كان ذلك الأنين ينبعث من إحدى الحجرتين المغلقتين..
مباشرة.

***

SHELL 29-11-19 10:20 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
لم يغمض لي جفن لحظة واحدة، في ليلتي الأولى، في منزل جدي..
صحيح أن ذلك الأنين الذي انبعث من الحجرتين المغلقتين، لم يستغرق سوى دقيقة واحدة على الأكثر، إلا أنه أصابني بتوتر لا مثيل له..
ولقد حاولت جاهداً فتح باب تلك الحجرة، التي انبعث منها الأنين..
حاولت..
وحاولت..
وحاولت..
ولكن كل محاولاتي باءت بفشل ذريع..
كان الباب مصنوعا من خشب ثقيل، جعله أشبه بالفولاذ، وأكثر صموداً من باب قلعة منيعة.. ولكن ما أثار توتري أكثر هو أنني لم أستطع العثور على عدنان هذا أبداً..
لقد شاهدته بنفسي يدخل الحجرة، أسفل سلّم الطابق الثاني، ولم أشاهده يغادرها، أو يغادر المنزل قط بعدها، وعلى الرغم من هذا فقد اختفى تماماً دون أن يترك خلفه أدنى أثر..
ولقد هبطت إلى الطابق السفلي، وناديته أكثر من مرة، دون أن أحصل على جواب، لذا فقد اتجهت إلى تلك الحجرة، التي رأيته يدخلها، وفتحت بابها، و..
وكانت مفاجأة عجيبة..
الحجرة خالية تماماً..
لم تكن خالية من عدنان فحسب، ولكن من كل شيء..
وأي شيء..
كانت مجرّد حجرة صغيرة.. بلا نوافذ، وليس لها سوى باب واحد، وهو ذلك الذي رأيته يعبره..
وبخلاف هذا، لم يكن هناك شيء..
على الإطلاق..
ولأكثر من ساعة كاملة، رحت أفحص الحجرة، وأدق عليها بقبضتي؛ محاولاً كشف أية فجوات سرية خلفها..
ولم يكن هناك شيء..
ولقد ضاعف هذا من توتري ألف مرة..
بل ربما ألف ألف مرة..

SHELL 29-11-19 10:21 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
وعلى ذلك الضوء الخافت المزعج، رحت أتأمل منزل جدي مرة أخرى..
ومع تلك العراقة الواضحة، في كل ما حولي، وجدت عقلي يطرح تساؤلاً محيّراً..
ماذا كان يعمل جدي بالضبط؟!
أية مهنة كان يمتهن؟!
أمي لم تذكر هذا في أحاديثها قط..
كل ما ذكرته هو بطولاته، التي أظن أن معظمها من صنع خيالها، أو رغبتها في التباهي بوالدها، الذي قاطعها طيلة عمري..
ولا شيء عن تاريخه..
أو مهنته..
بل لا شيء حتى عن أمها!!
انتبهت فجأة إلى أن أمي لم تحدّثني عن أمها قط، طوال حياتها..
فقط عن أبيها..
فلماذا؟!
هل توفيت والدتها، وهي بعد أصغر من أن تذكرها؟!
أم إنها كانت تمتهن مهنة تخجل من ذكرها؟!
استغرقتني الأفكار والذكريات، وأنا أجلس في صالة منزل جدي الواسعة، المليئة بالتحف الأثرية، والتي جعلها الضوء شديد الخفوت تبدو في صورة مخيفة، إلى الحد الذي قررّت معه أن يكون أوّل ما أفعله في الصباح، هو النزول إلى تلك البلدة الصغيرة، عند سفح الجبل، وشراء مصابيح قوية، تحل محل تلك المصابيح القديمة المزعجة..
وعندما بدأت الشمس رحلة الشروق، وأرسلت دفعات ضوءها الأولى، عبر النوافذ الضيقة، بدأ رأسي يدور نسبياً، وشعرت وكأنني نصف نائم، قبل أن أنتبه فجأة، على صوت حركة ما في المكان..
وبحركة حادة متوترة، اعتدلت وأنا أفتح عيني عن آخرهما، وشعرت بجسدي ينتفض انتفاضة خفيفة، عندما وقع بصري على عدنان، بوجهه شديد التغضّن، وهو يضع أمامي صينية طعام صغيرة، عليها رغيف صغير من الخبز، وبيضة مسلوقة، وطبق يحوي القليل من اللبنة اللبنانية الشهيرة..
وبكل توتري، هتفت به:
- من أين جئت؟!
غمغم في خشونة:
- أنا لم أغادر قط.
حدّقت فيه في دهشة مستنكرة، قبل أن أهتف:
- ولكنني بحثت عنك في كل مكان، ولم أعثر لك على أدنى أثر.
أجابني بنفس الخشونة، وفي اقتضاب مستفز:
- أنا هنا طول الوقت.

SHELL 29-11-19 10:22 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
حدّقت فيه مرة أخرى، وكأنني أراه للمرة الأولى، ثم تجاوزت عن سؤاله عن أين أمضى ليلته، وأنا أسأله في توتر:
- وماذا عن ذلك الأنين؟!
رفع عينيه الضيقتين إلي في بطء، وهو يسألني في حذر:
- أي أنين؟!
أشرت إلى الطابق الثاني، وأنا أقول في شيء من الحدة:
- أمس، وعندما صعدت إلى الطابق الثاني، كان هناك أنين ينبعث من إحدى الحجرتين المغلقتين هناك.
بدا لي وكأنه يتطّلع إليّ في إمعان، إذ كان من الصعب الجزم بهذا، مع ضيق عينيه الشديد، ولكنه استغرق لحظات، قبل أن يجيب في بطء:
- من الواضح أن رحلتك أرهقتك كثيرا أمس، فتصوّرت أن.....
قاطعته في حدة:
- لم أكن واهماً.. كان هناك أنين واضح ينبعث من إحدى الحجرتين..
صمت لحظات أخرى، ثم أجاب بنفس البطء:
- ليس أنيناً.. إنه صوت الهواء، عبر أنابيب التهوية..
تطلعّت إليه في شك، جعله يضيف:
- جدك كان يسبق زمانه بزمان، ولقد أضاف إلى تصميمات منزله شبكة من أنابيب التهوية، تمر بكل الحجرات.. وفي بعض الليالي يمر الهواء عبر تلك الأنابيب، فيصدر ذلك الصوت الشبيه بالأنين.
واصلت نظرة الشك لحظات، فأشار بيده إلى الطابق العلوي، متابعاً:
- ستجد واحدة من تلك الفتحات بالقرب من أسفل فراشك.
لم يقنعني قوله أبداً، فملت نحوه، أقول في صرامة:
- أريد فتح الحجرتين.. اليوم.
هزّ كتفيه، قائلاً في خشونة:
- أخبرتك أنني سأبحث عن مفتاحيهما، بين متعلقات جدك.
قلت في صرامة، محاولاً تقليد خشونته:
- لن أنتظر حتى تفعل.
رفع رأسه بحركة تساؤل، فأضفت في صرامة وخشونة أكثر:
- سأهبط إلى البلدة، وأحضر من يفتحهما بالقوة.
مضت لحظات، وهو يتطلّع إليّ في صمت، ثم أشاح بوجهه، وقال في لهجة، اشتممت منها رائحة سخرية:
- يمكنك أن تحاول.
كان قد أولاني ظهره تقريباً، عندما قلت في عناد:
- سأذهب فوراً.
صمت لحظة أخرى، قبل أن يلتفت إليّ في بطء، وهو يخرج مفاتيح تلك السيارة القديمة، ويناولني إياها، قائلاً:
- افعل.. ولكن تناول طعام إفطارك أوّلاً.

SHELL 29-11-19 10:23 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
قلت، وأنا أنهض في حدة:
- لست أشعر بالجوع.
فوجئت بسحنته تنقلب على نحو مخيف، وهو يقول، في لهجة أقرب إلى الشراسة:
- ستتناول طعام إفطارك أولاً.. من الضروري أن تظل بصحة جيّدة.
كان يمكنني القول هنا إنني قد واجهت لهجته ونظراته المخيفة في شجاعة، ولكن الواقع أنني لم أفعل، بل شعرت في أعماقي بشيء من الخوف، جعلني أعاود الجلوس، وأبدأ في تناول طعام الإفطار بالفعل، ثم لم يلبث ذلك العناد أن عاودني، فقلت في شيء من العصبية:
- سأستبدل كل هذه المصابيح أوّلاً.. إنني أبغض هذا الضوء الخافت.
أشاح بوجهه مرة أخرى، وهو يكرّر:
- يمكنك أن تحاول.
قالها، ثم اتجه في هدوء نحو باب المنزل، وغادره دون أن يضيف كلمة واحدة..
كنت قد انتهيت من تناول إفطاري الصغير بالفعل، عندما اختفى خارج المنزل، فاختطفت مفاتيح السيارة، واندفعت خلفه، وأنا أتساءل:
- هل سأذهب وحدي؟!
فتحت باب المنزل بحركة حادة، وأنا أنطق عبارتي هذه، ثم ارتفع حاجباي بعدها، في دهشة كبيرة..
لقد شاهدت عدنان يغادر المنزل، قبلي بدقيقة واحدة، وعلى الرغم من هذا، فلم يكن له أي أثر خارجه..
فقط كانت تلك السيارة القديمة تستقر، على بعد أمتار قليلة، تحت ضوء الشمس، وحولها المكان خالياً..
تماماً..
درت حول المنزل أبحث عنه مرة..
ومرتين..
وثلاثا..
ولكنه كان قد اختفى تماماً، كما لو أن الأرض قد انشقّت وابتلعته..
ضاعف هذا من توتري كثيراً، وضاعف أيضاً من إصراري على إحضار من يفتح الحجرتين المغلفتين، ويستبدل تلك المصابيح الخافتة..
وفي حزم وإصرار، ركبت السيارة القديمة، وأدرت محرّكها، وأدهشتني قوة المحّرك، في سيارة عتيقة مثلها، ولكنني قدتها في يسر، هابطاً عبر الممر الضيق، إلى حيث تلك البلدة الصغيرة..
ولقد أدهشني رد فعل سكّان تلك البلدة، كما أدهشني في المرة الأولى..
لقد كانوا يتحاشون السيارة، كما لو أنهم يتحاشون حيواناً مفترساً، وعندما توقفت؛ لأسأل أحدهم عن نجّار قريب، انطلق يعدو مبتعداً كما لو أن شياطين الأرض كلها تطارده..
وأخيراً توقفت عندما بدا لي أشبه بمقهى صغير، وهبطت من السيارة، التي يرمقها الكل بنظرة خوف واضحة، وسألت صاحب ذلك المقهى عن نجّار، فتطلّع إليّ لحظات في توتر، قبل أن يسألني في خفوت:
- لأي غرض؟!
أشرت بيدي إلى منزل جدي أعلى الجبل، وأنا أجيبه:
- هناك أبواب مغلقة، أعجز عن فتحها.
قال الرجل مستنكراً:
- هناك؟!
أجبته في حيرة:
- نعم.. هناك.
صمت لحظات أخرى، قبل أن يجيب في حزم، غلب عليه توتر شديد:
- لو دفعت كل ما تملك لن تجد شخصاً واحداً في البلدة كلها يقبل بالصعود إلى هناك.
أدهشتني إجابته في شدة، فسألته في توتر:
- ولماذا؟!
مال نحوي، في توتر يفوق توتري ألف مرة، وهو يجيب:
- لأن من يذهب إلى هناك، لا يعود.. أبداً.
وكانت إجابته أشبه بالصدمة..
صدمة بلا حدود...
على الإطلاق.

***

SHELL 29-11-19 10:25 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
طوال طريق عودتي إلى منزل جدي، لم أتوقف لحظة واحدة عن التفكير، في موقف أهل تلك البلدة الصغيرة منه.. وأقصد من منزل جدي، وليس من جدي نفسه..
هذا لأنه من العجيب أن أحداً في البلدة كلها لم يرَ جدي في حياته قط..
والأعجب أنه لا هو، ولا حتى عدنان هذا، قد تعاملا مع أي مكان في البلدة كلها، منذ عهد طويل للغاية..
وحديث ذلك الرجل عن أن أحداً لا يعود من منزل جدي، كان حديثاً عجيباً، ما زلت أذكر كل حرف منه، عندما سألته:
- وما الذي يعنيه هذا بالضبط؟!
أشار بيده، وهو يجيب في حذر:
- لست أدري، جدي أخبرني بهذا، عندما كنت صغيراً.
تطلعت إليه في دهشة كبيرة، عندما نطق الجزء الأخير من عبارته..
فوفقاً لملامحه، كان يبدو في منتصف الخمسينات من عمره، فكيف روى له جده ذلك، عن منزل جدي، عندما كان صغيراً؟!
إننا نتحدث عن نصف قرن من الزمان!!
عن خمسين عاماً دفعة واحدة!!
فكيف؟!
التفسير الوحيد، الذي جال بذهني، هو أن هذا المنزل ليس منزل جدي منذ البداية، بل هو ميراث عائلي، يعود إلى عهد بعيد..
هذا يفسر عراقته الواضحة..
وذلك الكم الكبير من التحف فيه..
والإضاءة الخافتة..
زاد تذكّر تلك الإضاءة الخافتة من توتري، فتحسست الحقيبة الصغيرة، التي تستقر على المقعد المجاور، والتي تحوي أقوى مصابيح كهربية وجدتها في البلدة؛ حتى أتجاوز تلك الإضاءة المستفزة..
أما فيما يتعلق بالباقي، فقد كان عدنان على حق..
لم يرضَ مخلوق واحد بالصعود معي إلى المنزل؛ لفتح البابين المغلقين، على الرغم من المبلغ شديد الإغراء، الذي عرضته..
كانوا يخافون الذهاب إلى هناك على نحو عجيب..
بل يخشون حتى مجرد الحديث عن ذلك المنزل..
وكلهم، بلا استثناء، يجهلون تماماً أي شيء عن جدي..
لا أحد رآه..
أو سمعه..
أو علم حتى بوجوده..
الوحيد الذي يعرفونه، هو عدنان..
وحتى هو، كانوا يجهلون اسمه تماماً..

SHELL 29-11-19 10:26 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
كل ما يعرفونه عنه، هو أنه ذلك الشيخ المخيف، الذي يهبط بسيارته العريقة، من منزل الشر (وهو الاسم الذي يطلقونه على منزل جدي)، ويعبر بلدتهم في بطء، دون أن يلقي نظرة واحدة على أهل البلدة، الذين لا يرفعون أبصارهم عنه، وعن سيارته، حتى يختفي في الوادي.. وطوال دهر كامل، لم يتوقف في البلدة مرة واحدة..
ولا مرة واحدة!!
توقفت ذكرياتي، عندما أوقفت السيارة أمام منزل جدي، وحملت مفاتيحها، مع حقيبة المصابيح إلى الداخل، وأنا أنادي عدنان..
ومن تلك الحجرة الخالية، في الطابق السفلي، رأيته يخرج، ويغلق الباب خلفه في إحكام، فسألته، دون أن أنجح في كتمان عصبيتي وتوتري:
- ماذا كنت تفعل هناك؟!
سألني في برود:
- أين؟!
كان السؤال مستفزاً، حتى إنه زاد من عصبيتي، وأنا أشير إلى الحجرة، التي خرج منها، صائحاً في حدة:
- في تلك الحجرة الخالية.
ارتفع حاجباه الكثان على نحو عجيب، وهو يقول مستنكراً:
- خالية؟!
اندفعت نحو الحجرة، وأنا أواصل بنفس الحدة:
- نعم.. خالية.. لقد بحثت عنك فيها أمس، و..
فتحت باب الحجرة بحركة عصبية، وأنا أنطق عبارتي هذه..
ثم توقفت الكلمات في حلقي دفعة واحدة..
واتسعت عيناي عن آخرهما..
فتلك الحجرة التي رأيتها خالية بالأمس، إلا من أربعة جدران، صارت فجأة ممتلئة بالأثاث، الذي ينتشر في كل ركن منها..
فراش قديم..
ومنضدة طعام صغيرة..
وعدة مقاعد..
ودولاب شبه متهالك..
وقطعة أثاث ذات أدراج..
وسجادة صغيرة..
هذا بالإضافة لبعض الملابس، التي ألقيت في إهمال، على المقاعد والفراش..
ورفّ لكتب قديمة..
و...
صرخت بكل دهشتي:
- مستحيل!
سألني عدنان في برود:
- ما المستحيل بالضبط؟!
هتفت، وأنا أشير إلى تلك الحجرة:
- هذه الحجرة كانت خالية تماماً أمس.
عاد يرفع حاجبيه في دهشة مستنكرة، وهو يقول:
- خالية؟! أأنت واثق من أنه لم يكن حلماً.
انعقد حاجباي في غضب، وأنا أهتف به:
- لماذا تفعل هذا بالضبط؟!
سألني في هدوء:
- أفعل ماذا بالضبط؟!
صرخت فيه:
- لماذا تحاول إرباكي إلى هذا الحد؟!

SHELL 29-11-19 10:27 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
بدا بارداً إلى حد مستفز، وهو يقول:
- ولماذا أحاول هذا؟!
فجأة، ومع سؤاله، قفزت فكرة عجيبة إلى رأسي..
فكرة لست أدري لماذا لم تخطر ببالي من قبل!!
فكرة جعلتني أصرخ فيه، بكل ما في نفسي من انفلات:
- للاستيلاء على ميراثي.
بدت عليه دهشة عجيبة، ممتزجة بلمحة ساخرة، وهو يقول:
- أهذا ما تتصوره؟!
واصلت صراخي، قائلا:
- نعم.. إنك، ومنذ قدومي إلى هنا، تحاول إثارة الخوف في نفس المكان، وإثارة ارتباكي وحيرتي مما يحدث فيه؛ في محاولة لدفعي إلى الفرار منه، أو التخلي عنه؛ لكي تفوز أنت به، وربما بما يحويه.
تصاعدت السخرية، في ملامحه وصوته، وهو يقول:
- يا له من خيال جامح!
صرخت كطفل عنيد:
- ليس خيالاً، بل هو حقيقة.. هل يمكنك أن تفسر لي اختفاءك العجيب أمس؟! أو مراوغتك بشأن فتح الحجرتين المغلقتين؟! ثم أين وصية جدي، التي نصّ فيها على أنك ينبغي أن تدير المنزل من بعده؟! أين؟!
ظل يرمقني بنظرة عجيبة، من خلف عينيه الضيقتين، قبل أن يتجه نحو الحجرة، التي أقف ببابها، وهو يقول في بطء:
- سيدهشك أن لديّ إجابات واضحة لكل هذا.
تجاوزني إلى داخل الحجرة، واتجه إلى قطعة الأثاث ذات الأدراج، وهو يقول:
- انظر هنا.
كان يشير إلى قطعة الأثاث، فترددت قليلاً، ثم اتجهت إليه، وألقيت نظرة على سطح قطعة الأثاث في حذر..
كانت هناك طبقة رفيعة من الغبار، تغطي سطحها، على نحو يوحي بأنها هناك منذ زمن ليس بالقصير..
وفي توتر، غمغمت:
- من يدري؟! ربما..
قبل أن أتم عبارتي، رفع عدنان قطعة الأثاث عن الأرض، وأزاحها قليلاً، ثم أشار إلى الموضع، الذي كانت فيه..
ولم أملك جواباً في الواقع..
فقد كان توزيع الغبار، الذي ترك أثراً واضحاً، خالياً منه، في الموضع الذي كانت تحتله قطعة الأثاث، قبل أن يزيحها عدنان، دليلاً آخر على أنها كانت هنا منذ زمن..
وشعرت بذاتي تكاد تنفجر، من فرط التوتر..
فما أراه أمامي مستحيل!!
ألف مرة!!!
لقد فتحت هذه الحجرة بنفسي أمس، وكانت خالية تماماً...
ولم يكن هذا وهماً..
أو حلماً...
أو خيالاً..
ولكن ما أراه أمامي الآن أيضاً ليس وهماً أو حلماً أو خيالاً..
فكيف؟!
كيف؟!
وقفت أحدق في موضع الغبار كالأبله، وعدنان يقول، في لهجة واضحة السخرية:
- هذا الدليل الأول فحسب.

SHELL 29-11-19 10:28 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
سألته في عصبية:
- أهناك أدلة أخرى؟!
أشار بيده، قائلاً:
- بالتأكيد.
وفي هدوء، أخرج من جيب سترته القديمة مظروفاً، من ورق سميك، لست أظنه لا يزال مستخدماً، في زمننا هذا، وناولني إياه، وهو يقول في هدوء:
- وصية جدك.
بدت عليّ دهشة واضحة، وأنا أمدّ يدي لألتقط المظروف في حذر، وكأنني أخشى أن تلوثه أصابعي..
وبأصابع مرتجفة، فضضت المظروف، لأخرج منه ورقة من ذلك النوع البائد الثقيل نفسه، بدت وكأنها مكتوبة بريشة حبر قديمة..
ورقة بها كلمات قليلة مختصرة، تمنحني ميراث المنزل وكل ما فيه، مع شرط أن يبقى عدنان مديراً له مدى حياته..
وفي توتر، قلت:
- ومن أدراني أنها وصية جدي بالفعل؟! لماذا لا تكون أنت كتبتها؟! إنها لا تحمل أية أختام، أو توقيعات رسمية، ولا يوجد شهود عليها أيضاً.
أجابني في هدوء:
- إنها نسخة تركها جدك لك، وهناك أخرى تم توثيقها في بيت العدل، ويمكنك الرجوع إليها لو أردت.
طويت الورقة، وأعدتها إلى المظروف القديم، ودسستها في جيبي، وأنا أقول في توتر ملحوظ:
- هذا لا يعد دليلاً بالنسبة لي.
دسّ يده في جيبه مرة أخرى، وأخرجها وهو يقول:
- وماذا عن هذين؟!
في هذه المرة، ارتفع حاجباي في شدة..
فما أخرجه من جيبه كان حقاً عجيباً..
للغاية.

***

SHELL 29-11-19 10:29 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
لدقيقة كاملة أو يزيد، لم أنبس ببنت شفة، وأنا أقف أمام "عدنان"، حدقا في ذلك الشيء العجيب الذي أخرجه من جيبه.
مفتاحان من الكريستال، لهما تكوين مفاتيح الأبواب القديمة..
مع فارق مدهش..
كانا يتألّقان ببريق عجيب، يبدو وكأنه ينبعث من داخلهما..
ولقد انعقد لساني لمرآهما طويلا، قبل أن أتساءل:
- ما هذا بالضبط؟!
أجابني "عدنان" في هدوء:
- مفتاحا الحجرتين المغلقتين.
إجابته جعلتني أعاود التحديق في المفتاحين لحظات، قبل أن أقول بكل الدهشة:
- مستحيل!!
سألني، ولهجته تحمل رنة، بدت لي ساخرة:
- ولماذا؟!
أجبته في توتر:
- البابان ثقيلان للغاية، والمفتاحان من الكريستال، و..
قاطعني، مغادرا الحجرة:
- ولم لا تختبرهما بنفسك؟!
لحقت به على السلم، وأنا أقول، في توتر أكثر:
- سينكسران، فور إدارتهما في الرتاج.
قال، وهو يواصل صعوده، دون أن يلتفت إلى:
- لن يفعلا.
بلغنا معا الطابق الثاني، وتوقفنا أمام البابين المغلقين، فناولني أحد المفتاحين، وهو يشير إلى أحد البابين، قائلا:
- هيا.
التقطت المفتاح في حذر، وترددت لحظة، قبل أن أدسه في الثقب الخاص به في الباب، ثم توقفت لأنظر إلى "عدنان" مرة أخرى، فقال في حزم:
- أدره.
تردّدت لحظة أخرى، ثم حسمت أمري..
وأدرت المفتاح..
ولدهشتي الكبرى دار المفتاح في سهولة، وسمعت صوت الرتاج ينفتح، قبل أن يتحرّك الباب في هدوء، دون حتى أن أفتحه..
وتراجعت كالمصعوق..
كانت الحجرة التي بدت أمامي مخيفة..
مخيفة بكل ما تحمله من معانٍ..
لم يكن بها حقا ما يخيف..
بل لم يكن بها أي شيء..
على الإطلاق..
وعلى الرغم من هذا، فقد كانت مخيفة..
مخيفة..
مخيفة..

SHELL 29-11-19 10:31 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
هذا لأنها كانت حجرة سوداء..
حجرة خالية..
بلا أثاث..
أو نوافذ..
وكل شيء فيها أسود..
الجدران..
والسقف..
وحتى الأرضية..
كانت أشبه بكتلة مخيفة من السواد..
وبكل توتر الدنيا، هتفت:
-ما هذا بالضبط؟!
أجابني بكل هدوء:
- جدك له مزاج خاص.. خاص جدا.
هتفت منزعجا:
- أي مزاج هذا؟!
أجاب بنفس الهدوء، وإن امتزج هذه المرة بلمحته الساخرة المستفزة:
تطلّعت إليه لحظات في غضب، ثم تراجعت، وأنا أغلق باب الحجرة السوداء، ثم اتجهت إلى الباب الآخر، وأنا أقول في عصبية:
- وماذا عن الحجرة الأخرى؟!
لم يجِب سؤالي، وإنما ناولني المفتاح الثاني، فتردّدت كثيرا وأنا أتطلّع إليه في راحته، فقال في برود وبلهجة لمحت فيها نبرة آمرة:
- خذه.
التقطت المفتاح من يده، في حركة عصبية، واستدرت أدسّه في ثقب الباب في حزم، ولكنني ترددت مرة أخرى، وأنا أتساءل عمّا يمكن أن أجده فيها، حتى سمعته يقول من خلفي:
- هل تخشى أن تفتحه؟!
أغضبتني عبارته، فأدرت المفتاح في الباب، وشعرت بالباب ينفتح، دون حتى أن ألمسه..
وعلى الرغم من أنني كنت أتوقع أمرا عجيبا، إلا أنني، وعلى الرغم مني، تراجعت في حركة حادة عنيفة، وأنا أطلق شهقة مكتومة..
الحجرة كانت أيضا خالية تماما..
ولكنها لم تكُن سوداء..
كانت قرمزية داكنة..
بلون الدم..
تماما كما لو أنها قد طليت بالدم..
دم البشر..
وعلى الرغم مني، هتفت:
- ياللبشاعة!
رأيت "عدنان" يبتسم ابتسامته المستفزة، وهو يقول بهدوئه الأكثر استفزازا:
- مزاج جدك.
استدرت إليه بحركة حادة، وأمسكت معصمه في قوة مفاجئة، وأنا أقول في صرامة شديدة العصبية:
- مهلا.
وفي هذه المرة أيضا، انتفض جسدي في عنف مع ملمسه..
لقد أمسكت معصمه في قوة..
وتلامست أصابعي..
لم يكُن معصمه شديد النحول فحسب..
بل كان مثل كتفه تماما..
بلا عظام..
وفي ذعر، تراجعت، وارتطمت على الرغم مني بباب حجرة الدم؛ فاندفعت مبتعدا في اشمئزاز، وأنا أصرخ فيه:
- ما أنت بالضبط؟!
رأيت شبح تلك الابتسامة المستفزة على شفتيه، وهو يسحب معصمه، قائلا بنفس الهدوء:
- بشرى مثلك، ولكنني مصاب بمرض وراثي نادر، يجعل عظامي لينة للغاية.
حدقت فيه لحظات غير مصدق، قبل أن أهتف:
- مستحيل! لو أن عظامك بهذه الليونة لَمَا أمكن لساقك أن تحملانك!
صمت لحظات، قبل أن يقول:
- هذا صحيح.
ثم رفع سرواله عن إحدى ساقيه، وهو يضيف:
- لذا فأنا أرتدي هذا دوما.
حدقت في الجهاز الذي يحيط بساقه، والذي يُشبه تلك الأجهزة الطبية التي يستخدمها ذوو الإعاقة، وغمغمت في توتر:
- هذا تفسير منطقي.

SHELL 29-11-19 10:33 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
أعاد إنزال سرواله، وهو يقول:
- والآن.. ماذا أردت أن تقول.
تذكّرت ما أردت قوله، عندما أمسكت يده، فاستعدت صرامتي وأنا أقول:
- لماذا تتحدّث عن جدي بصيغة الحاضر، وليس بصيغة الغائب.
أجابني في سرعة:
- لأنه حاضر.
تراجعت في دهشة فاستدرك، وهو يشير إلى رأسه:
- في رأسي على الأقل.
حدقت فيه لحظات في شك، ثم لم ألبث أن قرّرت طرح هذا الأمر عن ذهني مؤقتا، وأنا أغلق الباب الثاني، قائلا:
- يبدو أنه هناك الكثير، مما أودّ معرفته عن جدي.
ثم انعقد حاجباي، وأنا أضيف في صرامة:
- وعن هذا المنزل.
اعتدل، وهو يقول في برود:
- سل ما بدا لك.
تذكّرت حقيبة المصابيح، وأنا أشير إلى السقف، قائلا:
- لماذا هذه الإضاءة شديدة الخفوت؟!
كرّر تلك العبارة المستفزة:
- مزاج جدك.
قلت في حدة:
- وهل كان مزاجه سوداويا إلى هذا الحد؟!
هزّ كتفيه اللينين، وقال:
- من وجه نظرك؟!
قلت في حدة أكثر:
- يبدو أنك تشاركه مزاجه هذا!
أجاب في حزم:
- بالتأكيد.
استعدت صرامتي، وأنا أقول:
- ولكن مزاجي يختلف.
غمغم:
- هذا واضح.
قلت بنفس الصرامة:
-ولأن مزاجي مختلف.. ولأنني المالك الحالي لهذا المنزل، فكل شيء فيه سيتغيّر؛ ليناسب مزاجي أنا.
وقف يتطلّع إليّ لحظات في صمت بارد، قبل أن يقول:
- يمكنك أن تحاول.
صرخت فيه:
- لا تكرر هذه العبارة مرة أخرى.
ابتسم تلك الابتسامة الشبحية الساخرة، وهو يكرر في عناد:
- يمكنك أن تحاول.
قالها، واستدار منصرفا، على نحو استفزّ كل مشاعري، فصرخت فيه، وهو يهبط في درجات السلم:
- وسأبدأ باستبدال تلك المصابيح الضعيفة.. وفورا.
لم يجِب صراخي هذه المرة، وهو يصل إلى الطابق الأرضي، ويختفي في حجرته، فاندفعت إلى حيث حقيبة المصابيح، والتقطت منه مصباحا بقوة مائتي وات، وجذبت مقعدا كبيرا، أسفل أحد مصابيح الصالة، واستخدمت منديلي لأحل المصباح القديم من مكانه، ثم وضعت المصباح القوى بدلا منه..
وأضأت المصباح..
وفي هذه المرة، قفزت دهشتي إلى الذروة..
ودفعة واحدة.

***

SHELL 29-11-19 10:34 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
هذا المنزل يكاد يُصيبني بجنون مطبق..
لقد اختبرت تلك المصابيح بنفسي مرتين في المتجر الذي ابتعتها منه، وكانت في كل مرة قوية مبهرة..
حتى في وضح النهار..

أما هنا، فهي ليست كذلك..
على الإطلاق..

في كل مكان أستبدل فيه المصابيح يُفاجئني نفس الضوء شديد الخفوت!
حاولت..
وحاولت..
وحاولت..
وفي كل مرة وكل مكان أحصل على النتيجة نفسها..

ضوء مستفز شديد الخفوت أصابني بحالة عصبية، جعلتني أصرخ في "عدنان":
- ماذا أصاب مصابيح هذا المنزل المجنون؟!
أجابني في برود، وكأنه يتعمّد أن يستفزني:
- هكذا أراده جدك.

التفت إليه بنظرة نارية، فأشاح بوجهه؛ ربما ليخفي ابتسامة مقيتة وهو يضيف:
- وهكذا سيبقى.
صحت به في تحدٍّ:
- المنزل سيكون كما أريده أنا، حتى لو اضطررت إلى إحضار فني خاص من سوريا لاستبدال شبكة الكهرباء كلها.

كرّر تلك العبارة التي استفزتني دوما:
- يمكنك أن تحاول.

ودون أن أدري وجدت نفسي أقفز من مكاني، وقد أفقدني الغضب صوابي مع أعصابي الثائرة، وأنقض عليه في عنف، أدهشني أنا شخصيا..

ولكن الذي أدهشني أكثر هو ما حدث بعدها؛ فالمفترض أن "عدنان" هذا يعاني مرونة عظام شديدة، وعلى الرغم من هذا، فعندما ارتطمت به شعرت وكأنني أرتطم بجدار من صخر..

وكانت الصدمة قوية، أشعرتني بآلام في كل عظمة في جسدي، وجعلتني أرتدّ عنه وأسقط على مسافة مترين منه..

أمّا هو، فلم يهتزّ بمقدار أنملة.. فقط أدار عينيه إليّ، وقال في لهجة عجيبة تجمع بين الصرامة والسخرية والشماتة:
- لم يكُن هذا تصرّفا متحضّرا.

تراجعت زحفا وأنا أحدّق فيه في رعب تملكني لأول مرة..
ما هذا الرجل بالضبط؟!
بل ما هذا الشيء؟!
أيعاني من مرونة عظام أم صلابة جسد؟!
أهو بشر مثلنا أم...؟!

SHELL 29-11-19 10:35 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
قبل حتى أن يكتمل الجواب في ذهني، وجدت نفسي أهتف بلا وعي:
- أخرج.
استدار بجسده كله نحوي، وتطلّع إليّ في تحدٍّ؛ فصرخت بكل انفعالي:
- أخرج.. لا أريدك في هذا المنزل لحظة واحدة.

ظلّ واقفا مكانه يرمقني بنظرة مخيفة، قبل أن يقول في بطء وصرامة:
- وصية جدك تمنعك من إخراجي.
صرخت بقوة أكبر:
- غادر المنزل أو أقتلك.

تألّقت تلك الضحكة الساخرة في عينيه، وإن لم تنتقل لمحة منها إلى ملامحه، وهو يقول بكل غلظة:
- يمكنك أن تحاول.
نطقها ثم استدار، واتجه نحو حجرته الصغيرة في هدوء، وأنا أصرخ من خلفه، بكل عصبيتي:
- أقسم أن أقتلك إن لم تفعل... أقسم.

شاهدته يفتح باب حجرته الصغيرة ويدخل الحجرة التي بدا أثاثها القديم واضحا، أشبه بصورة كئيبة موروثة، ثم أغلق الباب خلفه، وسمعت صوت رتاجه ينزلق، فقفزت من مكاني، وأنا أواصل صراخي:
- لا يمكنك أن تتحدّاني.. أنا مالك المنزل الحالي، ومن حقي أن...

كنت أندفع نحو حجرته الصغيرة وأنا أصرخ، وفتحت بابها بحركة حادة، مع الجزء الأول من آخر العبارة السابقة، و..
وانتفض جسدي كله في عنف..
وفي كياني -وليس في جسدي وحده- سرت قشعريرة باردة كالثلج..
أو أشد برودة منه..

ولست أدري كم اتسعت عيناي، ولكنني أتصوّرهما قد التهما وجهي كله من شدة اتساعهما، وأنا أحدق فيما أمامي..
ولست أدري حتى، هل تكفي كلمة الذهول أم إنها غير كافية لوصف ما أصابني!
فقد كانت الحجرة التي أمامي، والتي شاهدت أثاثها القديم بنفس عبر بابها المفتوح منذ ثوانٍ قليلة، تماما كما رأيتها في المرة الأولى..
خالية..
تماما..
فقط جدران وسقف وأرضية..
بلا نوافذ..
أو أثاث..
أو حتى "عدنان"..

وبلا وعي أيضا، وجدت نفسي أصرخ:
- مستحيل.. مستحيل!

وتراجعت في رعب بلا حدود..
وشعرت أنني قد ارتطمت بشيء ما..
واختلّ توازني..
وسقطت..

لم يبد لي أنني أسقط أرضا، بل في بئر عميقة..
عميقة..
عميقة..
وبلا قرار..
ومن بعيد، سمعت صوت جدي يناديني باسمي..
وكان الصوت يأتي من أعماق البئر..
و..
فجأة، استيقظت..

" هل غفوت قليلا؟!"..
ألقى عليَّ "عدنان" السؤال وهو منحن فوقي؛ فانتفض جسدي في عنف، وصرخت:
- أنت؟!
تراجع في شيء من الدهشة، وهو يقول:
- نعم.. هو أنا!!

SHELL 29-11-19 10:37 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
حدقت في وجهه بنظرة تجمع بين الدهشة والخوف والاستنكار، استقبلها هو في هدوء مستفز، وهو يشير إلى شيء ما أمامي، متسائلا:
- هل أنهيت فطورك؟!

حدقت فيه مرة أخرى، مستنكرا عبارته، ثم انتبهت فجأة إلى أنني أجلس في الطابق السفلي من المنزل، وأمامي صينية طعام صغيرة عليها بقايا رغيف من الخبز وقشر بيضة مسلوقة وبقايا لبنة في طبق صغير..
وفي هدوء مستفز، رفع هو صينية الطعام وهو يقول:
- جدك كان يرى دوما أن الإفطار هو أهم وجبات اليوم.

هتفت به:
- من أين جئت؟!
أجاب، دون أن يلتفت إلى:
- أنا هنا طوال الوقت.
شعرت بقوة أنني قد مررت بهذا الموقف من قبل..

نفس الكلمات!!
نفس السؤال!
ونفس الجواب!!

شعرت بحيرة شديدة وأنا أنتزع نفسي عنوة من المقعد الذي أجلس عليه، وقلت في عصبية:
- سأستبدل كل هذه المصابيح.. إنني أبغض هذا الضوء الخافت.

لم أكد أنطقها حتى أيقنت من أني أكرّر شيئا فعلته من قبل؛ خاصة عندما أشاح هو بوجهه، وكرر عبارته الاستفزازية:
- يمكنك أن تحاول.
ضاعف هذا من عصبيتي وتوتري، فقلت وأنا أتلفّت حولي:
- أين حقيبة المصابيح؟!

توقّف ليلتفت إليَّ متسائلا:
- أي مصابيح؟!

قلت في حدة:
- تلك التي ابتعتها من البلدة؛ لاستبدال هذه المصابيح القديمة.
بدت دهشة حقيقية على وجهه، وهو يحدق في وجهي، قائلا:
- من البلدة؟!

نطقها في استنكار شديد، قبل أن يضيف في حذر وتفكير:
- ولكنني لست أذكر أننا قد توقفنا لشراء شيء، عندما مررنا بها!!
قلت في حدة أكثر:
- أنت تعلم أنني قد ذهبت وحدي بالسيارة، و..

قاطعني في دهشة أكبر، بدت لي طبيعية وحقيقية للغاية:
- وحدك؟! كيف؟!
سرى الغضب والانفعال في كياني، وأنا أجيب:
- أنت تعلم كيف.. لقد أعطيتني مفتاح السيارة، و..

قاطعني مرة أخرى:
- مهلا.. أنا لم أعطِك مفاتيح السيارة، ولا يمكنني أن أفعل؛ فأنا وحدي أعرف أسلوب قيادتها.

صحت فيه:
- ولكنني قدتها بالفعل إلى البلدة، وسكانها شهود على هذا.. لقد ابتعت المصابيح من متجر صغير، يمكنني أن أصف لك عنوانه بمنتهى الدقة.

أشار بيده، قائلا في قلق:
- أكان حلمك واضحا إلى هذا الحد؟!
صرخت، وقد استنفدت الأحداث أعصابي:
- لم يكُن حُلما.. لماذا تفعل هذا بي؟!

هزّ كتفيه العجوزين، وهو يقول:
- لست أحاول أن أفعل شيئا، وها هي مفاتيح السيارة.. أرني كيف ستقودها!!
اختطفت المفاتيح من يده اختطافا، واندفعت خارج المنزل إلى حيث تقف السيارة، ودفعت جسدي داخلها، و..
وتوقّفت..

ليست هذه هي السيارة نفسها التي قدتها إلى البلدة أمس..
إنها تبدو كنسخة طبق الأصل منها..
ولكنها ليست هي حتما..
التابلوه يختلف تماما..
بل كل شيء في آليات القيادة يختلف..
عصا السرعة متصلة بعجلة القيادة، وليست مزروعة بين المقعدين الأماميين..
والمفتاح في المنتصف، وليس إلى اليمين..
حتى المذياع يبدو أكبر حجما..

SHELL 29-11-19 10:38 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
"أين السيارة التي أحضرتني بها من المطار؟!"..
هتفت بالسؤال في عصبية، فأجابني "عدنان" في بطء وكأنه يحاول تهدئة طفل صغير:
- أنت تجلس داخلها.

قلت في ذروة العصبية:
- كلا.. ليست هذه هي السيارة التي ذهبت بها إلى البلدة صباح أمس.
مال نحوي، وهو يقول في بطء:
- من المستحيل أن تكون قد ذهبت إلى البلدة صباح أمس، لا في تلك السيارة ولا في غيرها.
صحت به:
- ولماذا مستحيل؟!

مال عليَّ أكثر بأنفاسه الكريهة، وهو يُجيب:
- لأن طائرتك القادمة من القاهرة، هبطت في مطار بيروت ظهر أمس فحسب.
وكان جوابه صدمة قوية، جعلت رأسي يدور مرة أخرى..
وبمنتهى العنف،،،

***

إرهاق شديد، ذلك الذي شعرت به، منذ استيقظت هذا الصباح..
إرهاق، ربما لم أشعر بمثله، في حياتي كلها..
فذلك الكابوس، الذي هاجمني أمس، زلزل كياني كله..
كابوس رؤية جدي الراحل واقفاً إلى جوار فراشي..
أو فراشه، لو صح القول..
والعجيب أنني، في كابوسي، شاهدته في وضوح..
تماماً مثلما كنت أشاهده طيلة حياتي..
نفس الشارب الضخم..
والملامح الصارمة القاسية...
وتلك النظرة..
نظرة قاسية مخيفة، كانت دوماً تثير رعبي، منذ وعت عيناي الدنيا..
وفي الكابوس كان يرتدي نفس تلك الحلة النمطية القديمة، التي كان يرتديها في صورته التي أحفظها عن ظهر قلب..
ولكن أعجب ما في هذا الكابوس هو أنني لم أستيقظ بعده، كما يحدث مع كل الكوابيس..
رأيته فيه واقفاً، يتطلع إلي في صمت، وضوء البرق ينعكس على وجهه المخيف..
وانتفض جسدي كله..
ثم غرقت في نوم عميق..
أعمق نوم حظيت به في حياتي كلها..
ومع أول ضوء من أضواء النهار استيقظت فجأة..

SHELL 29-11-19 10:39 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
كان الجو صحواً، بخلاف ما كان عليه في الليلة الماضية، والشمس مشرقة، في سماء خالية من السحب..
وعلى ضوء الشمس، الذي ملأ الحجرة، بدت لي الأمور مختلفة تماماً، حتى إنني جلست على طرف فراشي، أتطلّع إلى الحجرة في حيرة، وكأنني أراها لأول مرة، وأنا أشعر بهذا الإرهاق، الذي جعلني أحتاج إلى ربع ساعة كاملة، قبل أن أستطيع النهوض، وارتداء ثيابي..
وكالمعتاد، كان عدنان قد أعدّ لي طعام الإفطار..
بيضة مسلوقة، وقليل من اللبنة، ورغيف صغير من الخبز...
والعجيب أن رؤيته لم تستفزني، كما كان يحدث سابقاً، كما لو أنني قد اعتدت وجوده، وأسلوبه المستفزّ..
وبينما أتناول إفطاري، سألته:
- متى تحسّن الطقس؟!
نظر إليّ في دهشة، وهو يقول:
- أنه على الحال نفسه منذ أمس.
أشرت بيدي، قائلاً:
- وماذا عن الرعد والبرق والمطر أمس؟!
توقّف عدنان بغتة، وتطلّع إليّ في حيرة، وهو يقول:
- أي رعد وبرق ومطر؟!
شعرت بالتوتر، وأنا أقول:
- ألم تشعر بكل هذا أمس؟!
وعلى الرغم من عينيه شديدتي الضيق، شعرت وكأنه يتطلّع إليّ بنظرة حائرة مشفقة، قبل أن يقول:
- هل راودك حلم آخر أمس؟!
انعقد حاجباي في شدة، دون أن أجيب..
ما الذي يعنيه بسؤاله هذا؟!
هل كان ذلك الطقس الرهيب جزءاً من كابوسي؟!
ولكن كيف؟!
إنني لم أشهد في حياتي كلها كابوساً بهذه الدقة!
تطلّعت إلى عدنان في صمت، دون أن أجيب سؤاله..
ماذا يحدث في منزل جدي؟!
"أريد أن أزور قبر جدي..".
لست أدري حتى لماذا نطقت تلك العبارة فجأة، ولكن تلك الدهشة العجيبة، التي ارتسمت على وجه عدنان جعلتني أضيف في إصرار:
- واليوم بالتحديد.
تأملني عدنان لحظات، ثم قال:
- لماذا؟!
قلت في حدة:
- ولماذا لا؟
هز كتفيه، مجيباً:
- ربما لأننا هنا لم نعتد هذا.
سألته في تحدّ:
- ألا يزور اللبنانيون قبور موتاهم؟!
قال في بطء:
- ربما يفعلون، ولكننا لا نفعل.
سألته في دهشة:
- أليس من المفترض أنكم منهم؟!
هزّ رأسه في بطء، دون أن يرفع عينيه عن وجهي، وهو يقول:
- إنهم لا يعتبروننا كذلك.
تصاعدت دهشتي وأنا أقول:
- ولماذا؟!
هزّ كتفيه اللينين، وهو يجيب:
- يمكنك أن تسألهم.
قلت في عناد:
- سأفعل.

SHELL 29-11-19 10:40 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
خيّل إليّ أنني ألمح شبح ابتسامة على شفتيه، فكرّرت في حدة:
- أريد أن أزور قبر جدي.
صمت لحظات، ثم قال في هدوء:
- إنك تجلس فوقه.
عبارته جعلتني أثب من مقعدي، في حركة غريزية، وأحدق في الأرضية، قائلاً في انزعاج حقيقي:
- فوقه؟!
حملت شفتاه ابتسامة ساخرة واضحة هذه المرة، وهو يقول:
- ليس بالمعنى اللفظي.
حدقت فيه متسائلاً، فأضاف:
- جدّك لم يدفن.. لقد أوصى بحرق جثمانه، ووضع رماده في قبو المنزل.
ازداد تحديقي في وجهه، فأشار بيده إلى الأرضية، قائلاً:
- هل ترغب في رؤية رماده؟!
قلت في توتر:
- بالتأكيد.
صمت لحظات، وكأنما يحسم أمراً ما في ذهنه، ثم أشار إلي، قائلاً:
- اتبعني.
فوجئت به يتجه إلى حجرة المكتب الصغيرة، في الطابق الأرضي، فلحقت به وكلي فضول يلتهم كياني، وعندما دخلنا حجرة المكتب، لم أجد سوى المكتب القديم، ومكتبة صغيرة خلفه، ومقعدين أثريين أمام المكتب...
وعندما رآني أتلفّت حولي، قال في لهجة شبه ساخرة:
- لا تتعجل.
اتجه مباشرة نحو المكتبة الصغيرة، وجذب كتاباً قديماً فيها، و...
وقفزت دهشتي مرة أخرى..
فمع جذب الكتاب، دارت المكتبة حول محورها في بطء، كاشفة مدخل سرياً خلفها، ذكّرني بالأفلام الأسطورية القديمة، فغمغمت في توتر:
- أية أسرار أخرى يخفيها هذا المنزل؟!
أجابني في هدوء مستفز كعادته، وهو يعبر ذلك المدخل السري:
- الكثير..
لحقت به، ووجدت أمامي درجات سلم دائرية، تهبط إلى أسفل، حيث ينبعث ضوء خافت، وقال عدنان، وهو يهبط في درجات السلم القديمة:
- كن على حذر.
هبطت خلفه في درجات السلم، حتى بلغنا باباً أخر، يعلوه مصباح خافت، هو مصدر الضوء الذي شاهدته، وأمسك هو مقبض الباب، ثم التفت إلي، وهو يقول:
- استعدّ.
لم أدر ما الذي ينبغي أن أستعدّ له، ولا كيف أفعل، حتى أدار هو المقبض، وفتح الباب..
وانطلقت من حلقي شهقة كبيرة....
فبعبور هذا الباب الأخير، كنت كمن قفز فجأة من عالم إلى آخر..
أو من زمن إلى آخر..
لقد عبرته، وكأنني أعبر آلة زمن من القرن الثامن عشر إلى القرن الثاني والعشرين دفعة واحدة..
فعلى عكس المنزل كله، كانت أمامي قاعة مضاءة بضوء ساطع قوي، لم أتبيّن مصدره بالضبط..
قاعة حديثة، أو إنها حتى تسبق الزمن الذي أعيش فيه..
كانت قاعة واسعة، بمساحة المنزل كله تقريباً، جدرانها من مادة تشبه البلاستيك، ذات لون أبيض ناصع، يزيد من سطوع الضوء في المكان، وقد تراصّت فيها أجهزة حديثة، ذات شاشات رقمية كبيرة، تتصل كلها بمجموعة من أحدث أجهزة الكمبيوتر، التي لم أرَ مثيلاً لها من قبل..
وفي منتصف القاعة كانت هناك مائدة كبيرة، أشبه بالموائد الجراحية، يعلوها جسم مستدير ضخم، تراصّت فيه مجموعة من المصابيح الكبيرة، وإلى جوار المائدة كانت هناك أخرى صغيرة، استقرّ فوقها جهاز عجيب، لم أفهم طبيعته بالضبط..
وهناك، في نهاية القاعة، كان هناك صندوق من زجاج سميك، في منتصفه وعاء زجاجي أنيق، يحوي كمية من الرماد..
رماد جدي على الأرجح..
وقفت ذاهلاً مشدوهاً، أدير عيني في القاعة، وسمعت عدنان يقول، بذلك الهدوء، الذي كاد يفقدني أعصابي:
- جدك أوصى بعدم إطلاعك على قاعة أبحاثه الخاصة، إلا عندما تطلب بنفسك زيارة قبره.

SHELL 29-11-19 10:42 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
غمغمت بكل انفعالي:
- هل كان جدي جراحاً؟!
أجابني في احترام واضح:
- جدك رجل عظيم.
التفتّ إليه، أكرر في عصبية:
- أكان جراحاً؟!
قال في فخر:
- جدّك عالم وباحث، يسبق زمانه بقرن من العلم على الأقل.
سألته، وأنا أدير عيني مرة أخرى في القاعة:
- وفيم كان يبحث بالضبط؟!
أجاب بغموضه المعتاد:
- يبحث في أمور شتى.
ثم اتجه إلى دولاب من زجاج، حوى عدداً من الملفات وأسطوانات الكمبيوتر، وهو يكمل:
- وستجد هنا كل التفاصيل.
حدّقت في ذلك الدولاب الزجاجي، وقد انعقد لساني، من فرط الدهشة والمفاجأة والانفعال، في حين أضاف هو في حزم:
- لكي تكمل أبحاثه.
انتفض جسدي، وأنا أهتف في دهشة مستنكرة:
- أنا؟!
بدت لهجة شديدة الصرامة، وهو يقول:
- هكذا أوصى جدك.
قلت في حدة:
- فليوصِ كما يشاء، ولكنني لست أدري شيئاً عن مثل هذه الأمور!
أشار إلى الدولاب الزجاجي، قائلاً بنفس الصرامة:
- هنا ستجد كل ما تريد.
حدّقت في الدولاب الزجاجي، وأنا أقول:
- مستحيل! هذا أمر يحتاج إلى دراسة طويلة، وعلم كبير، و...
بترت عبارتي فجأة، عندما سمعت صوت الباب من خلفي يغلق، فالتفت إليه في ذعر، تضاعف عندما وجدت أن عدنان قد أغلق الباب بعد انصرافه، فاندفعت نحو الباب، وأنا أهتف:
- ماذا تفعل؟!
ثم اتّسعت عيناي في ذعر أكثر..
فباب المعمل المغلق في إحكام، لم تكن به وسيلة لفتحه من الداخل..
وهذا يعني أنني قد أصبحت سجيناً..
سجين في معمل منزل جدي...
الحبيب.

***

SHELL 29-11-19 10:43 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
"عن أية مصابيح تتحدث يا أستاذ؟!"

حدق صاحب متجر الأدوات الكهربائية، في تلك البلدة الصغيرة، في وجهي بدهشة حقيقية، عندما سألته عن المصابيح التي ابتعتها منه بالأمس، وهزّ رأسه في حيرة واضحة، وهو يردف:
- إنها أول مرة أراك هنا.

زادت عبارته من عصبيتي، وأنا أقول:
-ألا تذكرني يا رجل.. لقد ابتعت منك تلك المصابيح أمس، و..

قاطعني في ضيق:
- البلدة صغيرة يا أستاذ، ومبيعاتنا ليست كبيرة، حتى أنسى غريباً ابتاع ذلك القدر الذي تذكره من المصابيح.

ومال نحوي بشاربه الكبير، متسائلاً:
- ثم أين تلك المصابيح؟!

وهنا جاء دوري لأحدق في وجهه في صمت..
فأنا لم أعثر على تلك المصابيح قط، منذ استيقظت في منزل جدي..
حتى ذلك المصباح، الذي غيّرته بنفسي، لم يكن له وجود..
ومن المستحيل أن يكون كل ما مررت به حلماً!!
مستحيل!!
وألف مستحيل!!
الأحلام لا تكون أبداً بهذا الوضوح..
ولا بكل تلك التفاصيل..
أبداً..

"ما تاريخ اليوم يا هذا؟!"..
ألقيت السؤال فجأة على صاحب المتجر، فالتفت يشير إلى نتيجة حائط، ذات أرقام كبيرة، معلقة على جدار متجره..
وخفق قلبي في عنف..
هذا أيضاً مستحيل!
التاريخ يقول: إن طائرتي قد وصلت بيروت أمس فقط!!
وهذا يعني أن كل ما مررت به لم يكن حقيقة..
كل ما رأيته..
وسمعته..
وخبرته..
وشعرت به..
كل هذا لم يكن حقيقة..
مستحيل!

شعرت برأسي يدور بعنف حقيقي، حتى إنني كدت أسقط أرضاً، فأسرع صاحب المتجر يمسك يدي، وهو يقول:
- هل أحضر لك مقعداً يا أستاذ؟!

لوحت بيدي، قائلاً:
- كلا.. إنه مجرد دوار بسيط.
سألني في اهتمام:
- هل تناولت طعام إفطارك؟!

SHELL 29-11-19 10:44 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
أومأت برأسي إيجاباً، وتحاملت على نفسي، حتى عدت إلى السيارة القديمة، التي يتعامل معها الكل في البلدة وكأنها كائن من عالم آخر، وقررت العودة إلى المنزل..

لم أستطع قط فهم ما يحدث..
الرجل الآخر، الذي روى لي كل شيء، في المقهى الصغير، أذكر ملامحه جيداً، وأسلوبه في الحديث، وحتى اسمه، وعلى الرغم من هذا فهو لا يذكر أنه قد التقى بي، أو تحدث معي!!!
ومن المستحيل أن يكون كل هذا حلماً!
لن أذكر ملامح وصوت ومكان الرجل بهذه الدقة، في حلم عادي!
هناك شيء ما..
شيء لا أفهمه..
ولا أستطيع فهمه..

حيرتي جعلتني أقود تلك السيارة القديمة في بطء، متأملاً ذلك المشهد، للمنطقة الفاصلة بين الحدود السورية اللبنانية، وتساءلت: لماذا اختار جدي هذه البقعة بالتحديد؛ ليشيد فيها منزله هذا؟!
أم إنه ورثه عن أجداده كما قالت الروايات؟!
هذا لو أنها قيلت بالفعل..
ولم تكن حلماً..
أو وهْماً..
أخرجت هاتفي المحمول من جيبي، محاولاً معرفة التاريخ الحقيقي عليه..
لم يكن يلتقط أية إشارات، لأية شبكة، منذ قدومي إلى هذه البلدة، ولكن برامجه كانت تواصل عملها، وتشير في وضوح إلى أن الجميع على حقّ..
لقد وصلت بالأمس فقط!!
فكيف يحمل رأسي كل هذه الذكريات؟!
وماذا عن كل ما رأيته؟!
ماذا عن الحجرتين المغلقتين، والمفتاحين المصنوعين من الكريستال العجيب؟!
أهما حقيقة؟!
أم جزء من الحلم؟!
أو من الكابوس؟!
واصلت القيادة في بطء، حتى وصلت إلى منزل جدي، على قمة الجبل، ومن هناك بدت لي الصورة عجيبة..
كان المنزل يطلّ على مساحة هائلة من الدولتين..
سوريا ولبنان..
تماماً كما لو كان مركز مراقبة مثاليا..

وعندما وصلت كانت الشمس قد بلغت المغيب، وكان المفترض أن يبدو لي المشهد وهي تلقي أشعتها الأخيرة على الربوع الخضراء مشهداً رومانسياً جميلاً، يستحقّ تسجيله في لوحة فنية، أو صورة ضوئية..
ولكنني، وفي تلك اللحظة بالذات، رأيته أشبه بمشهد مخيف..
فمع زاوية غروب الشمس، ألقى منزل جدي ظلالاً طويلة في المكان..
وكانت ظلالاً مفزعة..
وإلى أقصى حدّ..
فمن موضعي كان المنزل ببرجيه الصغيرين على جانبيه، يلقي ظلاً أشبه برأس شيطان، كما رآه خيال الأدباء عبر العصور..
وجه طويل، وقرنان قصيران على جانبيه..

"هل عدت؟!"..

اخترق صوت عدنان أفكاري، فوجدت نفسي أرتجف، على الرغم مني، وأستدير إليه في حركة حادة..
كان يقف في ظلّ المنزل، والشمس تغرب من خلاله، مما جعله يبدو أشبه بشبح أسود نحيل مخيف..

وفي توتر عصبي، قلت:
- نعم.. عدت.. ولكنني لا أفهم.

SHELL 29-11-19 10:45 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
تقدّم نحوي، وهو يسألني في هدوء:
- لا تفهم ماذا؟!

قلت في عصبية:
- كل ما يحدث.. عقلي يحمل ذكريات يوم ضائع.. وهي ذكريات واضحة، ودقيقة، بها كل التفاصيل، التي لا تجعل منها حلماً أو وهماً.

قال في اهتمام حقيقي:
- ربما هي رؤيا إذن.

رؤيا؟!

لم يخطر هذا الاحتمال في ذهني قط..
ولم يكن من الممكن أن يخطر..
ربما لأنه ليس هناك من سبب لتصوّر هذا..
أو لأنه لم يحدث معي من قبل قط..

ولقد أردت أن أقول هذا، أو أن أستنكر ما قاله عدنان، إلا أنني وجدت نفسي أتطلع إليه في صمت فحسب، دون أن أنطق حرفاً واحداً، فواصل هو تقدّمه نحوي، وهو يقول:
- جدّك كانت تراوده رؤى عظيمة.

ثم مال نحوي، حتى شممت رائحته الكريهة، وهو يكمل في حماس:
- وكانت كلها تتحقق.

أشحت بوجهي عن أنفاسه، وأنا أسأله في عصبية:
- هل عثرت على مفتاحي الحجرتين المغلقتين؟!

اعتدل، وهو يقول في هدوء:
- لا توجد هنا حجرات مغلقة.

صحت فيه، وقد انفلتت انفعالاتي:
- أنت تعلم أن هناك حجرتين مغلقتين، إلى جوار حجرة نومي تماماً.

وقف يتطلع إليّ لحظات في صمت، ولسان حاله يقول: "يا للمسكين"، قبل أن يشير إليّ قائلاً:
-أرني إياهما إذن.

اندفعت إلى داخل المنزل، وصعدت في درجات السلم عدواً، من فرط الانفعال، ثم عدوت نحو حجرة نومي، في الطابق الثاني و...

وفجأة، توقفت بحركة حادة، حتى إنني قد فقدت توازني، وسقطت أرضاً، أمام باب الحجرة المجاورة لحجرتي..
وكان هذا سبب سقوطي بالفعل..

فإلى جوار حجرة نومي، لم تكن هناك حجرتان مغلقتان..
بل حجرة واحدة فحسب..
ولم يكن هناك أي أثر لحجرة أخرى..
على الإطلاق..

حدقت في الجدار ذاهلاً، باحثاً عن أي أثر لتلك الحجرة الثانية، حتى وجدت عدنان يمدّ يده إلي؛ ليعاونني على النهوض، وهو يغمغم في قلق:
- ماذا أصابك؟!

SHELL 29-11-19 10:46 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
تجاهلت يده الممدودة، وأنا أتذكر طراوة جسده، المثيرة للتوتر، وعاونت نفسي على النهوض، وأنا أغمغم في عصبية:
- أين الحجرة الثانية:
حمل صوته دهشته، وهو يقول:
- لم تكن هناك أبداً حجرة ثانية.. هذا جناح جدك الخاص، به حجرة نومه، وحجرة مخطوطاته.

نهضت واقفاً، وحدقت في الحجرة لحظات، ثم مددت يدي أدفع بابها في حذر، و...
وبكل هدوء وسلاسة، انفتح باب الحجرة..
وبلغت دهشتي ذروتها..

لقد كانت حجرة واسعة، بها مكتبة تحتلّ كل جدرانها، من الأرض إلى السقف، وتشبه تماماً تلك المكتبات، التي كنت أراها في أفلام السينما القديمة، والتي بها سلّم خشبي، يدور حولها؛ للوصول إلى الكتب في الأرفف العالية..
وكلها كانت تكتظّ بالكتب والمخطوطات..
كمّ هائل من الكتب والمخطوطات، يستحيل نقلها إلى المكان، خلال الفترة التي غبتها في البلدة..
ولم يحتمل رأسي كل هذه الصدمات..

وبينما أشعر بدوار شديد، غمغمت:
-ما يحدث هنا ليس طبيعياً.. ليس طبيعياً على الإطلاق.
سمعت صوت عدنان، وكأنه يأتي من بئر سحيقة، قائلاً في قلق شديد:
- ماذا بك؟! هل...
وبعدها لم أسمع شيئاً..
ولم أشعر بأي شيء..
أظنني قد فقدت الوعي على الأرجح..
أو أنه قد أصابتني حمّى ما..

فلقد شعرت وكأنني أطير على وسادة هوائية دافئة، إلى داخل أسطوانة كبيرة مظلمة، أضيئت بضوء أزرق باهت، فور استقراري داخلها، ثم تحوّل ذلك الضوء إلى الأحمر الدموي، و..

وفجأة، استعدت وعيي..
كنت أرقد على فراشي، في حجرة نوم جدي القديمة، وكان الجو في الخارج عاصفاً، ببرق ورعد ومطر..
ثم، ومع سطوع البرق، رأيت ذلك الشخص، الذي يقف عند طرف فراشي، متطلعاً إليّ بنظرة صارمة، أحفظها جيداً منذ طفولتي..
وانتفض جسدي، كما لم ينتفض من قبل..
فذلك الواقف، عند طرف فراشي، كان جدي..
جدي الحبيب..
الراحل.

***

SHELL 29-11-19 10:47 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
بعد خمس ساعات من الحبس الانفرادي الإجباري، في معمل جدي، صرت أجزم بأنه كان عبقريا، سبق زمانه بقرن على الأقل..
ولكن قراءة أبحاثه أرعبتني بعض الشيء..
هذا لأن جدي كان يبحث في ذلك الحلم، الذي راود مئات العلماء والكيميائيين، عبر قرون وقرون..
حلم إكسير الشباب..
ذلك الxxxx الأسطوري، الذي يتناوله المرء، فيبقى شاباً لقرون وقرون، دون أن تبلى خلاياه، أو يصيبها التلف وتواجهه أعراض الشيخوخة..
ولست أدري لماذا ذكرتني أبحاثه برواية ماري شيلي الشهيرة "فرانكنشتاين"، والتي لم أتقبّلها كفكرة علمية أبداً في حداثتي وشبابي؛ إذ إنها تتحدث عن إحياء جثث الموتى، باستخدام الكهرباء، التي كانت طاقة رهيبة إبان كشفها، حتى إنها أثارت خيال العديدين، فلم يتصوروا حدوداً لها..
تماماً كما فعلت الطاقة النووية بخيالنا بعدها..
وكما ستفعل أية طاقة جديدة فيما بعد..
ثم إن رواية ماري شيلي كانت تحمل من الفلسفة أكثر مما تحمل من الخيال؛ إذ تتحدث، من خلال إطار خيالي، عن مسئولية الخالق عن المخلوق، أو المبدع عن إبداعه، أو حتى الأب عن أبنائه..
أما أمامي، عبر الملفات والوثائق، التي تركها جدي، فهو -نظرياً- واقع جديد، يثير ألف خيال وخيال..
لقد تعامل مع الأمر، على نحو علمي تماماً..
درس لسنوات طويلة تلك التغيرات، التي تصيب الخلية البشرية، مع تقدّم الإنسان في العمر، وتوصّل، منذ ما يقرب من نصف القرن، إلى أن سرّ الشيخوخة، هو تراكم سموم مؤكسدة، على الغلاف الخارجي للخلية، تمنعها من الاستفادة بالأكسجين، الذي يضخّه الدم، فتهلك، وتتداعى، ويصعب تجديدها بالمقدار نفسه..
ولقد سبق العلم الحديث بنصف قرن، في هذا المضمار؛ إذ لم يتم كشف علاقة الأكسدة بضعف الخلية، وظهور عوامل الشيخوخة على البشر وباقي الكائنات، إلا في السنوات الأخيرة فحسب.. (حقيقة علمية).
وطوال نصف القرن التالي، أجرى جدي الراحل آلاف التجارب، التي تستهدف منع أكسدة الخلية، أو إزالة الأكسدة عنها..
كان يتعامل مع الأمر، كما لو أنه صدأ تكوّن عبر السنين، ووسائل تجاوز تأثيره، تعتمد على منع تكوّنه، أو إزالته بمزيل للصدأ..
والxxxx، الذي ظلّ يعمل عليه طويلاً، يمكن تشبيهه بمزيل الصدأ هذا..
وثائقه وأوراقه حوت الكثير من المعلومات، عن الxxxx الذي حاول ابتكاره..
والقليل جداً عن عينات البحث، التي استخدمها..
ففي كل أوراقه ووثائقه، وحتى أسطواناته الرقمية، لا توجد إشارة واحدة، إلى من أجرى عليهم تجاربه..
أو ما أجرى عليه تجاربه..
أكانت حيوانات تجارب معملية معتادة..

SHELL 29-11-19 10:48 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
أم........
توقّف ذهني في خوف حقيقي، عندما بلغت كلمة "أم" هذه..
فماذا لو أنه كان يُجري تجاربه على البشر؟!
أمن الممكن أن تتجاوز معه الأمور، إلى هذا الحد؟!
هل يمكن أن يكون هذا تفسير العبارة، التي قالت: إن من يحضر إلى هذا المنزل لا يعود قط؟!
هذا لو أنها قيلت بحق!!
عادت الأمور ترتبك في ذهني مرة أخرى، وعاد ذلك الصداع العجيب يهاجم رأسي، ويجعلني راغباً بشدة في النوم، فأرحت رأسي على سطح ذلك المكتب الصغير، في ركن المعمل، وتطلّعت لحظات إلى الوعاء الأثري الأنيق، داخل ذلك الصندوق الزجاجي، والذي يحوي رماد جدي الحبيب، وغمغمت، وأنا أسبل جفني، في إرهاق عجيب:
- ماذا تريد منى يا جدي؟! بل ماذا تتوقع مني؟!
سمعت صوت رتاج باب المعمل يتحرّك، وصوت الباب يُفتح، إلا أنني لم أستطع حتى الالتفات إليه..
وعلى الرغم من أن عقلي كان قد فقد معظم إدراكه فعلياً، إلا أنني أكاد أقسم إنني قد سمعت شخصين يتحدثان، قبل أن أسقط في ظلام عميق..
عميق..
إلى أقصى حد..
وفي هذا الظلام، عاودني كابوس مشابه للأول..
كابوس رأيت فيه جدي، يرتدي معطف معمله الأبيض، ويحملني مع عدنان إلى تلك المنضدة الجراحية، في منتصف معمله..
وكان هناك دخان كثيف، يخرج من ذلك الوعاء، الذي يحوي رماده..
دخان كثيف للغاية..
وكان لذلك الدخان لون الدم..
وفي كابوسي، بدا جدي أكثر قسوة، مما يبدو عليه في صورته..
وعندما قيّدني بمعاونة عدنان على منضدة الجراحة، صرخت:
- لا يا جدي.. لا تفعل بي هذا..
وبكل قسوته، أجاب :
- هذا لصالحك.

قالها في كابوسي، دون أي شعور أو انفعال، حتى لقد بدا وكأنه شخص بلا حياة.. أو أنني رأيته في كابوسي هكذا؛ لأنني أعلم أنه فعلياً بلا حياة..
وعلى الرغم من عبارته، فقد واصلت صراخي، وأخذت أصرخ..
وأصرخ..
وأصرخ..
"استيقظ.. إنه كابوس..".
كان صوت عدنان هو الذي أخرجني من كابوسي، أو انتزعني منه انتزاعاً، وهو يهزّني في قوة، هاتفاً بعبارته السابقة، ففتحت عيني دفعة واحدة، وحدقت فيه برعب حقيقي، جعله يتراجع مغمغماً:
- لم أقصد أن أفزعك، ولكنك كنت تصرخ، و...
لم يحاول إتمام عبارته، باعتبار أن نصفها الثاني واضح، ولكنني انتبهت إلى أنني لست داخل معمل جدي، وإنما في حجرة نومه، فهتفت في عصبية:
- لماذا نقلتني إلى هنا؟!
تراجع في دهشة، مغمغماً في استنكار:
- نقلتك؟!
لم أعد أحتمل هذا الأسلوب، لذا فقد صحت به في حدة:
- اسمع يا عدنان.. لقد سئمت هذه الألاعيب.. لقد غلبني النوم، من شدة الإرهاق، في معمل جدي، و...
قاطعني بهتاف، يحمل كل الدهشة والاستنكار :
- معمل جدك؟! أي معمل؟!
كان هذا كفيلاً بأن تتفجر كل انفعالاتي، لأصرخ في ثورة:
- كفى.. هذا لم يعد يُحتمل.. لقد قضيت خمس ساعات كاملة، أقرأ وثائق جدي، وأطالع أسطواناته الرقمية، وما زلت أذكر كل ما جاء بها، من أبحاث ونتائج، حول إكسير الشباب، وأذكر، وبمنتهى الدقة، تفاصيل كل ركن في معمل جدي، من أجهزة الكمبيوتر، وحتى ذلك الوعاء، الذي يحوي رماده، مروراً بالمنضدة الجراحية، و...
تلك النظرة الذاهلة التي حدّق بها عدنان في وجهي، جعلتني أبتر عبارتي دفعة واحدة، وجعلت صوتي ينخفض في يأس، وأنا أقول في عصبية:

SHELL 29-11-19 10:50 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
- لا تقل لي: إن كل هذا لم يحدث!
ظلّ صامتاً، يتطلع إليّ لحظات، قبل أن يهز رأسه، مغمغماً:
- لن أقول شيئاً.
نطقها في إشفاق، جعل قلبي يرتجف بين ضلوعي، في انتظار الخطوة التالية، فقلّب هو كفيه، مستطرداً:
- ولكنني سأتبعك إلى حيث تشاء.
قلت في عصبية:
- ما الذي يعنيه هذا؟!
قلّب كفيه مرة أخرى، وزفر في أسى، مجيباً:
- صحيح أن جدّك رجل عظيم، ولكنه لا يتعامل بتلك الأجهزة الحديثة، التي تتحدث عنها..
اندفعت أصيح فيه:
- لا تحاول أن...
قاطعني، محاولاً تهدئتي:
- قلت: إنني سأتبعك إلى حيث تشاء، بغضّ النظر عن أي شيء.
هتفت في حدة:
- وأنا سألتك عما يعنيه هذا.
هز رأسه في أسى، قائلاً:
- لست أدري ماذا أصابك منذ وصلت إلى هنا، ولكنك تتحدث عن معمل وأجهزة حديثة.. قُدْني إليها إذن.
استرجع عقلي في لحظة، كل الخطوات التي قام بها، فاندفعت أغادر الحجرة، وأنا أهتف في تحدّ:
- نعم.. سأقودك إليها.
سمعت وقع قدميه، وهو يسرع للحاق بي، فتابعت، وأنا أسبقه، في الهبوط في درجات السلم:
- كل هذا هناك، خلف تلك المكتبة الصغيرة، في الطابق الأرضي، حيث المدخل السري، إلى معمل جدي.
سمعته من خلفي يقول مشفقاً:
- معمل حديث، ومدخل سري؟!! هل تكثر من قراءة روايات المغامرات؟!
أغاظتني عبارته الأخيرة، فاندفعت نحو مكتب الطابق الأرضي، حيث تلك المكتبة الصغيرة، وقفزت يدي إلى نفس الكتاب، الذي استخدمه لفتح المدخل السري، وجذبته بالوسيلة نفسها، و...
ولم يحدث شيء..
تراجعت كل الدهشة، وأنا أحدّق في الكتاب، ثم في الفراغ، الذي انتزعته منه، ثم انقضضت بكل غضبى على المكتبة، أحاول زحزحتها من مكانها، فهتف هو منزعجاً:
- حذار أن تسقط الكتب.
صرخت بكل انفعالي:
- المدخل السري خلف هذه المكتبة.
قال بنفس اللهجة المشفقة:
- اهدأ، وسنتعاون معاً في دفعها.
تعاون معي بالفعل، ورحنا نزيح تلك المكتبة الصغيرة معاً..
كانت ثقيلة للغاية، شأن كل أثاث زمنها، إلا أنها راحت تنزاح رويداً رويداً، وكلما انزاح جزء منها، شعرت نفسي باليأس، مع الجدار المصمت، الذي يظهر خلفها..
وكمحاولة يائسة أخيرة، رحت أطرق الجدار بقبضتي في قوة؛ في محاولة لأن استشفّ أي فراغ خلفه..
ولم يكن هناك أي فراغ..
ولا أي مدخل سرّي بالتالي..
وانهرت على أقرب مقعد صادفني، وقد تحوّل كياني إلى كتلة من اليأس..
ولم يعد هناك مفر من أن أعترف، بأن عدنان على حق هذه المرة..
شيء ما أصابني، منذ وضعت قدميّ في هذا البيت..
شيء مزعج، غامض، عجيب..
ومخيف..
للغاية..
"ماذا الآن؟!"..
ألقى عدنان سؤاله في حذر، فغمغمت، دون أن أرفع عيني إليه:
- لست أدري.
صمت لحظات، ثم سألني في حذر:
- أما زلت تذكر كل شيء في وضوح، كما لو أنك قد عشته بالفعل؟!
أومأت برأسي إيجاباً في يأس، وأنا أكاد أبكي، من شدة الحيرة، فصمت لحظة أخرى، ثم قال في صوت خافت:
- العجيب أنك قد ذكرت أمراً لم أخبرك به بعدُ.
رفعت عيني إليه متسائلاً، فتابع في حذر:
- رماد جدّك.. لست أدري كيف علمت بشأنه.
سألته في دهشة، وجسدي يرتجف من المفاجأة:
- أهو موجود بالفعل؟!
أومأ برأسه إيجاباً، وأشار بيده، قائلاً:
- في ذلك الوعاء في حجرتك، على المائدة الصغيرة، إلى جوار النافذة..
هتفت في دهشة منزعجة:
- أيحوي رماد جدي؟!
أومأ برأسه إيجاباً في بطء، قبل أن يغمغم:
- وهذا يضعني أمام تفسير واحد.
سألته في توتر:
- وما هو؟!
أجابني في سرعة:
- إنها محاولة اتصال.
كررت في دهشة حذرة:
- محاولة اتصال؟!
أومأ برأسه إيجاباً مرة أخرى، بنفس البطء، قبل أن يقول في مهابة:
- نعم.. محاولة اتصال من جدك.
بدت الدهشة على ملامحي، فأضاف في رهبة:
- أو بمعنى أدق، من روح جدك.
وخيّل إلى أن الموقف كله ينقصه سطوع البرق، حتى يكتمل المشهد..
مشهد الرعب.

***

SHELL 29-11-19 10:52 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
قضيت ليلتي أتطلّع إلى الوعاء في رعب


ليلة عصيبة تلك التي قضيتها، بعد ما قاله لي "عدنان" عن محاولة روح جدي الاتصال بي على هذا النحو..

ذلك الوعاء الأنيق المجاور للنافذة، والذي كنت أراه مع شروق كل شمس صورة مبدعة للجمال، قضيت ليلتي أتطلّع إليه في رعب، متصوّرا أن تخرج منه روح جدي في أي لحظة..

وعلى الرغم مني، رحت أُفكّر في هذا الاحتمال..
ماذا لو أن روح جدي تحاول الاتصال بي حتما؟!
ماذا لو أن لديه ما يريد إخباري به؟!

لقد قرأت وشاهدت أعمالا كثيرة، تتحدّث عن هذا..
عن روح هائمة، تريد إيصال رسالة إلى عالم الأحياء..
أو تحذير ما..

وفي قلق شديد، رحت أتساءل: ما الذي يمكن أن تحاول روح جدي الحبيب إبلاغي به بالضبط عبر هذا الاتصال؟!
أهو أمر يتعلّق بموته؟!
هل مات قتيلا مثلا؟!
أم إنه هناك ما يريدني بالفعل أن أكمله؟!

قضيت شطرا طويلا من الليل أفكّر في هذا، قبل أن يغلبني النوم في النهاية قبيل الفجر بساعة واحدة..
ثم هاجمني ذلك الكابوس مرة أخرى..

كابوس تصوّرت فيه أنني أفتح عيني؛ فأجد جدي واقفا عند طرف فراشي، يتطلّع إليّ بنظراته الصارمة، وهو يرتدي حلته التقليدية القديمة..

ثم فجأة، تحوّلت الحلة إلى معطف معامل أبيض..
وتحوّلت حجرة النوم إلى ذلك المعمل في القبو..
وإلى جوار جدي، وقف عدنان يتطلّع إليّ بدوره..

كانت دائرة المصابيح الضخمة كلها مضاءة، تصبّ على وجهي وجسدي، وكل أجهزة الكمبيوتر الحديثة في المعمل تعمل، وشاشاتها ترسم آلاف الرموز العجيبة..

ولأول مرة في كابوسي، سمعت صوت جدي الخشن، وهو يقول:
- خلاياه الأصلية بدأت تستيقظ.
أجابه "عدنان" في اهتمام:
- يبدو هذا، ولكنني كنت أتوقّع وقتا أطول.

هز جسدي رأسه في صرامة، وهو يقول:
- خلاياه البشرية ليست في قوة الخلايا الأصلية.
كنت أتطلّع إليهما بنظرة خاوية، وبلا أي انفعالات تقريبا، ورأيت جدي يميل نحوي ويسألني:
- هل تراني في وضوح؟!

SHELL 29-11-19 10:53 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
أردت أن أجيب بشيء ما، ولكن -وكما يحدث في الكوابيس- انعقد لساني، ولم أستطِع قول شيء..
أي شيء..
وفي غضب، اعتدل جدي، وقال "عدنان" بنفس هدوئه المستفز:
- أخبرتك أنه سيحتاج إلى وقت أطول.
هز جدي رأسه نفيا في قوة، وقال في صرامة شديدة:
- كلا..

ثم عاد يميل نحوي في شدة، وتطلّع إلى عيني المفتوحتين مباشرة، وهو يقول في صرامة غاضبة:
- لقد حان الوقت.. استيقظ.
وانتفض جسدي في عنف..
واستيقظت..

كانت الشمس تغمر حجرتي عندما فتحت عيني، وشعاع منها ينعكس على ذلك الوعاء، ثم يتجه نحو وجهي مباشرة..
ولأول مرة ألاحظ هذا..
شعاع الشمس، أظهر بريقا خاصا في ذلك الوعاء..
بريق يعكس كل ألوان الطيف مجتمعة..

لست أدري كيف لم أنتبه إلى هذا في المرات السابقة، ولعل السبب هو رؤيتي الشخصية لذلك الوعاء في السابق، ورؤيتي له اليوم..
ربما!!

نهضت من فراشي، واقتربت في شيء من الحذر من ذلك الوعاء..
إنه وعاء جميل المظهر ولا شك، ولكنه مصنوع من مادة غير عادية، أو من قطع صغيرة من مواد مختلفة، لكل منها نوعه وبريقه..

والأضواء التي تبعث من انعكاس أشعة الشمس عليه، تمتزج مع بعضها البعض، لتبعث في نفسك شعورا عجيبا..
شعور هو مزيج من الرهبة والخوف مع استرخاء لا يناسب كليهما..
وبمنتهى الحذر والتوتر، مددت يدي ألمس ذلك الوعاء للمرة الأولى..

ثم تراجعت في ذعر..
الوعاء معدني تماما، كما يوحي شكله وبريقه، ولكن ملمسه ناعم إلى حد مدهش، أشبه بملمس مخملي رقيق..
ثم أنه بارد إلى درجة عجيبة، كما لو كان مصنوعا من الثلج، وليس من المعدن..
وعلى بُعد مترين منه، رحت أتأمله في توتر، وعقلي يطرح على عشرات الأسئلة..

من أي شيء صنع هذا؟!
وكيف؟!
وهل يحوي بالفعل رماد جدي؟!
ولماذا هو هنا؟!
لماذا؟!
لماذا؟!
لماذا؟!

ملت نحو الوعاء في حذر، وأمسكت غطاءه البارد وجذبته في رفق؛ لألقي نظرة على رماد جدي..
ولم يرتفع الغطاء..
جذبته مرة ثانية..
وثالثة..
ورابعة..

SHELL 29-11-19 10:54 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
وفي كل مرة كنت أجذبه بقوة أكبر..
وأكثر..
ثم بدت لي الحقيقة واضحة..
الغطاء مثبت في الوعاء على نحو ما، بحيث لا يمكن رفعه عنه أبدا، وكأنما حرص جدي، أو حرص "عدنان"، على ألا يفتحه أحد؛ خشية أن يتناثر رماد جدي؛ جرّاء خطأ ما أو هفوة ما..

دفعت أكبر قدر من الشجاعة إلى جسدي، وحاولت أن أطغي به على كل مشاعري، ومددت يدي ألتقط الوعاء، وأرفعه عن تلك المنضدة الصغيرة..
وهنا انتفض جسدي مرة أخرى..
وبمنتهى العنف..
الوعاء كان مثبتا أيضا بالمنضدة..

حقيقة كشفتها، عندما حاولت رفعه أولا في رفق ثم في قوة، تحوّلت بعدها إلى إصرار، بل وعنف، على الرغم من ملمسه البارد الذي صار يؤلم يدي..
وهنا تراجعت، ورحت أحدق فيه مرة أخرى..
أي وعاء هذا؟!
والسؤال الأهم: أهو بالفعل وعاء لحفظ الرماد، أم إنه شيء آخر؟!

استمر تحديقي فيه لحظات، انتقلت خلالها مشاعري كلها من الخوف إلى الضيق، ثم إلى غضب، جعلني أهتف في حدة:
" - عدنان".. أين أنت؟!
لم يجِب سؤالي الذي كررت النداء به عدة مرات؛ فاندفعت خارج الحجرة، وأنا أهتف به مرة أخيرة، قبل أن أهبط للبحث عن "عدنان" هذا..

كان المنزل هادئا ساكنا، تغمره أشعة الشمس، عبر كل نوافذه المفتوحة، وكان مرتبا نظيفا للغاية، وتلك السيارة عتيقة الطراز تقف أمامه، في نفس موضعها، ولكن لم يكن هناك أثر لـ"عدنان"..
أي أثر !!

قضيت ما يقرب من نصف الساعة في البحث عنه، وفحصت خلال هذا تلك المكتبة الصغيرة مرة أخرى، ولكنه كان قد اختفى تماما..

وعلى نفس المقعد الذي اعتدت تناول طعام إفطاري عنده، جلست أدير عقلي في كل ما حدث، منذ وصلت إلى هذا المكان..

كل شيء، وكل حدث، وكل موقف، كان يدعو لحيرة، لا حدود لها، كما لو أنني أحيا في فيلم سينمائي، من أفلام الرعب الأمريكية، وليس في عالم الواقع..
أغمضت عيني، وتساءلت: أمن الممكن أن يكون كل هذا حلما؟!
أو حتى كابوس، من نوع لم أمرّ به من قبل؟!

ولكن الأحلام وحتى الكوابيس لا تأتي بهذا الوضوح، وبكل هذه التفاصيل الدقيقة، والمشاعر الواضحة المميزة..
ولو أنه ليس حلما، فما هو؟!
لو لم أجد جوابا؛ فهذا لن يعني أن ما يحدث في منزل جدي الحبيب أمر عادي، بأي مقياس عملي أو علمي أو حتى منطقي..
ما يحدث هو أمر عجيب..
عجيب..
عجيب إلى أقصى حد..

ثم فجأة، قفزت تلك الفكرة إلى رأسي..
إنه "عدنان" ولا شك..

SHELL 29-11-19 10:56 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
"عدنان" يريد إصابتي بالجنون أو بالرعب ودفعي لمغادرة المنزل، حتى يمكنه الاستيلاء عليه لنفسه..
فالمنزل، بكل ما يحويه من تحف نادرة، يساوي ثروة بلا شك..
ثروة كبيرة..
ثروة، ربما تقدّر بالملايين..
نعم.. هو "عدنان".. هذا هو التفسير الوحيد..

نهضت في حزم، عند هذه النقطة، أناديه مرة أخرى في قوة، على الرغم من ثقتي في أني لن أتلقّى جوابا..
ومع الصمت والسكون اللذين أجاباني، طرح عقلي عليّ سؤالا جديدا..
لو أن "عدنان" هو من يفعل هذا حقا؛ فكيف يفعله؟!
كيف يدس كل هذا في عقلي، ويقنع به مشاعري؟!
كيف؟!
" إنه الوعاء."...

هتفت بالكلمة في انفعال، عندما بدا لي أنه يستخدم ذلك الوعاء العجيب الذي يعكس أشعة الشمس على وجهي كل صباح؛ لكي يضعني في حالة أشبه بالتنويم المغنطيسي، يمكنني معها أن أحيا في عالم من الوهم، متصورا أنه كل الحقيقة..

مع هذا الاستنتاج اندفعت أصعد إلى أعلى، عائدا إلى حجرة النوم، وإلى ذلك الوعاء مباشرة..
وأمام الوعاء توقفت متوترا، وأنا أتطلّع إلى بريقه العجيب، ثم غمغمت في عصبية:
- سامحني يا جدي الحبيب، لو أن رمادك داخل هذا الوعاء بالفعل.

اعتمدت على المنضدة بقدمي اليمنى، واستنفرت كل قوتي، وجذبت الوعاء..
كان ملتصقا بالمنضدة في قوة، إلا أن أصابعي شعرت ببدء حركته، فوجدت نفسي، ودون أن أشعر، أصرخ بكل قوتي:
- ساعدني يا جدي.
ومع نهاية صرختي، انفلت الوعاء، وفقدت مع انفلاته توازني، وتراجع جسدي في عنف، وأنا أتشبّث بالوعاء، بكل ما أملك من قوة..

وعلى الرغم من قوة ارتطامي بالأرض، لم أشعر بأي ألم، وكأن مشاعري كلها قد توقّفت عند ضرورة الحفاظ على الوعاء..
وبأي ثمن..
ولكن ارتطامي بالأرض، أطار غطاء الوعاء الذي بدا لي شديد الإحكام، فصرخت بكل ارتياعي:
- لا.. رماد جدي..
وعبر الوعاء المفتوح، تناثر رماد جدي الجبيب في هواء الحجرة، وتساقط بعضه على وجهي، فسعلت في قوة، وأغلقت عيني في شدة..

وسمعت تلك الأصوات من حولي..
ومع خفقات الرعب في قلبي، فتحت عيني اللتين اتسعتا عن آخرهما، في رعب ذاهل..
فما رأيته أمامي كان مذهلا..
وبكل المقاييس..

***

SHELL 29-11-19 10:57 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
كان وجه جدي يحمّل تلك النظرة الصارمة


مستحيل!! لا يمكن أن يكون ما آراه حقيقياً!!
إنني لم أعد في حجرة نوم جدي..
لم أعد ممسكاً بذلك الوعاء، ولا يحمل وجهي أثر رماده!!

لقد فتحت عيني، لأجد نفسي مقيداً إلى تلك المنضدة الجراحية، في معمل جدي، الذي أكد عدنان أنه لا وجود له..
وأمامي مباشرة يقف عدنان مبتسماً ابتسامة هادئة، خلف آخر شخص يمكن أن أراه في عالم الحقيقة..
جدي..
كان حياً تماماً، ويحمل تلك النظرة الصارمة، التي حفظتها من صورته الكبيرة في منزلنا، ولكنه لم يكن يرتدي حلته العتيقة النمطية..
كان يرتدي معطفاً أبيض اللون، يشبه معاطف الأطباء، ويرتكن بيده على جهاز عجيب، لم أشهد مثيلاً له في حياتي كلها من قبل..

حدقت فيهما ذاهلاً، قبل أن أغلق عيني في قوة، وأغمغم بكل توتري:
- ليس هذا حقيقيا.. إنه حلم.. كابوس..
شعرت بملمس يد جدي على وجهي، وهو يقول في صرامة خشنة:
- بل هو حقيقة.. أنت لست نائماً.

وأضاف عدنان في ارتياح:
- لقد استيقظت.
فتحت عيني أحدّق فيهما مرة أخرى في ذهول، قبل أن أقول بصوت مرتجف:
- ولكن جدي مات بالفعل.
اعتدل جدي، وهو يقول في صرامة:
- كانت هذه هي الوسيلة الأفضل لجذبك إلى هنا.

حدقت في جدي مرة أخرى، غير مصدق أنه على قيد الحياة، وقلت بنفس الصوت المرتجف:
- إذن فأنت لم تمت.
مطّ شفتيه، وهو يقول:
- ليس بعد.

هززت رأسي في قوة، وأنا أقول:
- ولكنك تبدو كصورتك تماماً، التي أحفظها منذ طفولتي.. لا أحد يبقى على الهيئة نفسها، لأكثر من ثلاثين عاماً.
أجاب، وهو يتحسس شاشة جهازه:
- إنها هيئتي، منذ جئت إلى هنا.

لم أفهم ما الذي تعنيه عبارته، ولا لماذا يقيدانني إلى المنضدة، التي تكاد دائرة الضوء فوقها تغشي بصري، فقلت بكل توتري:
- لست أفهم شيئاً.
أجابني عدنان هذه المرة، بنفس هدوئه المستفز:
- أنت في نصفك واحد منا، وكان من الضروري أن تصل انفعالاتك إلى ذروتها، حتى تبلغ خلاياك الحد الأقصى؛ لإيقاظ النصف الخاص بنا، على حساب نصفك البشري.

حدقت فيه ذاهلاً، وأنا أحاول التخلص عبثاً من قيودي، مكرراً:
- لست أفهم شيئاً.. لست أفهم شيئاً!!
تحسّس جدي وجهي مرة أخرى، قبل أن يقول:
- الواقع أننا جنس يحيا على الأرض، منذ ملايين السنين، ولكننا لم نفصح عن وجودنا قط، منذ بدأت الحضارة البشرية على وجه الأرض.. وهذا المنزل هو النقطة الرئيسية، التي يمكننا عندها الاتصال المباشر بعالم البشر.. وستتعلم الكثير عن جنسك الحقيقي، مع مرور الوقت.

SHELL 29-11-19 10:58 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
رددت ذاهلاً:
- جنسي الحقيقي؟!
مطّ شفتيه، وهو يقول بصرامته الخشنة:
- أمك خالفت القواعد، وفرّت من هنا، وتزوّجت بشرياً، وكنت أنت نتاج هذا الزواج.. لم نكن نعلم ما إذا كنت تحمل في جيناتك خلايانا أم لا، وكان من الضروري أن نحضرك إلى هنا؛ حتى نكشف هذا.

استرخى جسدي، من فرط ذهولي، وعقلي يسترجع كل ما مرّ بي، منذ وصولي إلى منزل جدي، وما بدا لي كأمور يستحيل فهمها، وغمغمت مستسلماً:
- إذن فكل ما رأيته وواجهته هنا كان.....
قاطعني جدي، قائلاً:
- مجرد وهم.. وهْم صنعته واحدة من آلاتنا المتطورة، التي تجعلك تحيا فيه بكل حواسك، كما لو كان حقيقة ملموسة..
وأضاف عدنان، بابتسامة باهتة:
- الواقع أنك لم تعد في وعيك، منذ وضعت قدميك في السيارة، أمام مطار بيروت.. أجهزتنا أفقدتك وعيك مباشرة، ثم سيطرت على عقلك؛ لتحيا في عالم افتراضي، صنعناه لك.

قال جدي، وهو يشد جسده في صرامة:
- كان الهدف هو إنهاك عقلك بمتناقضات لا حصر لها، تجهد مشاعرك وخلاياك البشرية، حتى تتغلب عليها خلايا بني جنسك.
ثم مال نحوي بشدة، مضيفاً:
- ولقد نجح هذا تماماً.

أشار عدنان إلى الجهاز، وهو يقول:
- جهازنا أكد أن خلايا جنسنا قد انتصرت أخيراً، وأنك قد صرت بالفعل واحداً منا.
أضاف جدي بصرامته الخشنة:
- ولقد عملنا على ألا تستيقظ خلاياك البشرية، إلا بالقدر الذي لا يسمح لها بالسيطرة على كيانك مرة أخرى.
غمغمت في مرارة:
- أتعني أنني لم أعد بشرياً؟!

أجابني في حزم:
- في الجزء الأعظم منك.
ثم بدأ في حلّ قيودي مع عدنان، وهو يضيف:
- والواقع أن هذا سيضيف إليك قوة جديدة، تؤهلك لاحتلال موقعي، بعد أن حان وقت عودتي.
سألته في استسلام عجيب:
- عودتك إلى ماذا؟!

أجاب في صرامة:
- ستعرف كل هذا مع مرور الوقت.
كانا قد حلا قيودي كلها، فنهضت في بطء، أتطلع إليهما في استسلام كامل، في حين خلع جدي معطفه الأبيض، وناوله إلى عدنان، وهو يقول:
- هذا المنزل صار ملكاً لك، منذ هذه اللحظة، وعدنان سيبقى معك لرعايتك، وليشرح لك كل ما تريد معرفته، حتى موعد اللقاء.

سألته بنفس الاستسلام:
- أي لقاء؟!
أجاب، دون أن يلتفت إليّ:
- ستعلم في حينه.
ثم اتجه نحو ذلك الصندوق الزجاجي، الذي يحوي الوعاء، الذي أخبرني عدنان أنه يحوي رماده، عندما كنت أحيا في ذلك العالم الوهمي الافتراضي، وهو يضيف:
- وعليك أن تعلم، ومنذ هذه اللحظة، أنه لم يعد مسموحاً لك بمغادرة هذا المنزل بعد الآن.. أبداً.

كان هذا القول كفيلاً بإثارة كل غضبي وتوتري فيما مضى، ولكن العجيب أنني قد استقبلته في استسلام عجيب، وأنا أردد بلا انفعال:
- أبداً؟!

SHELL 29-11-19 10:59 PM

رد: 49 - جدى الحبيب
 
لمس الصندوق الزجاجي بيده، وهو يجيب في صرامة:
- أبداً.
وما أن لمس ذلك الصندوق، حتى بدا وكأن جسده كله يتلاشى، ثم يتحول إلى ما يشبه الدخان الأزرق الكثيف، الذي عبر زجاج الصندوق، مخالفاً كل قواعد الطبيعة، ثم غاص في قلب الوعاء الأنيق في منتصف الصندوق، وتلاشى بدوره..

وللحظات، جلست أحدّق في الصندوق الزجاجي بلا مشاعر، حتى قال عدنان في هدوء شديد:
- هذا يشبه ما تطلقون عليه، في العلم الأرضي اسم الانتقال الآني.
غمغمت متسائلاً:
- وإلى أين ينقله؟!
أجاب بنفس الهدوء:
- إلى عالمنا.

وقفت أمام نافذة منزل جدي، أراقب غروب الشمس، وأنا أستعيد في ذهني كل هذا، وأسترجع كل تفاصيل ذلك العالم الافتراضي، الذي عشت فيه..
كان المنزل يشبه تماماً ما رأيته فيه..
كل شيء فيه قديم عريق، ويمتلئ بالتحف الثمينة، فيما عدا عدة فروق أساسية..
الطابق العلوي كان يحوي حجرة نوم واحدة، ولا وجود للحجرتين الأخريين على الإطلاق..
وحجرة عدنان لم تعد خالية، ولا حتى مؤثثة بذلك الأثاث العريق..
لقد كانت تحوي حجرة مكتب، تضم العديد من الوثائق الأصلية، والكتب الثمينة..
والمعمل كان موجوداً بالفعل، خلف تلك المكتبة الصغيرة..
ولكن الأهم أن الإضاءة لم تكن خافتة على الإطلاق..
وفي داخلي تولّد شعور عجيب..
شعور بأنني لم أعد بشرياً..
ولم أكن كذلك على الإطلاق..

ومن خلفي، جاء عدنان يسألني، في احترام شديد:
- هل ترغب في أي شيء.. يا سيدي؟!
كانت أول مرة يخاطبني فيها بهذا اللقب، على الرغم من أنه بدا لي معتاداً، وأنا أقول:
- كلا.. يمكنك الانصراف.

تساءلت، والشمس تختفي في الأفق، عن ذلك اللقاء، الذي لم يخبرني أحدهم شيئاً عنه..
بمن سألتقي؟!
وكيف؟!
ولماذا؟!

ومع غياب الشمس، ابتعدت عن النافذة الكبيرة، ووقفت أمام مرآة عريقة في أحد جدران المنزل، لألقي نظرة على ملامحي الجديدة..
الملامح التي هي نسخة طبق الأصل من ملامح جدي..
الحبيب.

***

تمت


الساعة الآن 09:42 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية