منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات فانتازيا (https://www.liilas.com/vb3/f187/)
-   -   56 _ ليال عربية ( كتابة ) (https://www.liilas.com/vb3/t206962.html)

سيريناد 18-07-19 12:14 PM

56 _ ليال عربية ( كتابة )
 
http://up.graaam.com/img/feac07bc13f...41680e9ca3.gif

العدد رقم )56( ليال عربية


عندما تطالعين سيرة أي كاتب غربي تقريبًا، فسوف تعرفين أنه قرأ ألف ليلة وليلة أول ما قرأ .. ونتيجة لهذا قرر أن يصير كاتبًا. ما حدث هنا هو أن شهرزاد لم تعد موجودة والقصص لم تُستكمل .. النتيجة أن معظم الكتاب الغربيين لم يكتبوا حرفًا !.. كيف تحكين قصصًا من الأدب الغربي بينما لا وجود لها أصلا ً ؟.. أنت كرجل يجاهد لبلوغ سقف بناية شامخة، بينما البناية ذاتها لم يعد لها وجود


سيريناد 18-07-19 12:16 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 

1 - ما أقسى الوحدة !
محاولات لا تنتهى من شريف لاستعادتها حتى بدأت تشعر بأنه ليس على ما يرام .. هذا الإصرار غير طبيعى ويعكس طفولة لا شك فيها أو ربما هو العناد ... الرجال يكشفون عن طبيعة طفولية مزعجة جداً عندما ترفضهم المرأة حتى ليوشكوا على أن يرتموا على الأرض ويركلوها بأقدامهم ويبكوا ..
بصراحة .. لم تسأل نفسها قط إن كانت ترغب فى العودة له أم لا . لقد استراحت لعملها ولحياتها .. وبدا لها أنه من الممكن أن تستمر هكذا للأبد ...
سوف تربى ابنتها وتأخذها للمدرسة وفى المساء سوف تشرح لها ما استغلق عليها من دروس .. وسوف تراقبها تنمو يوماً بعد يوم ثم تزوجها وتعيش وحدها , إلى أن يجدوها ميتة يوماً ما .. هذه هى حياتها كما خططت لها وكما لا ترى طريقاً آخر ..
على الأقل هى تملك نوعاً ساحراً من سبل الهروب هو فانتازيا .. فى النهاية عندما تموت سوف تقول لنفسها ساعة الاحتضار: إنها عاشت ألف حياة وحياة .. لقد عاشت فى عمر واحد ما عاشه ألوف البشر وما لم يعيشوه أيضاً .. قليل من البشر من يفخر بأنه تواثب فوق الأشجار مع طرزان أو كان مع هانيبال فى حملته العظيمة .. هى فعلت .. هل كان هذا خيالاً ؟ .. الخيال الذى تتألم فيه وتشعر بالبرد والنشوة والألم والشبع والرضا والتوتر ليس خيالاً بالضبط .. ما الواقع غير هذا ؟
لماذا يجب أن يوجد رجل فى هذا ؟
ابنته ؟ .. يمكنه أن يرى ابنته إذا شاء .. لكنها تعرف الرجال .. سوف يحتضن الطفلة فى حنان ويغمرها بقبلاته ويبتاع لها لعبة أو لعبتين , ثم ينسى عنها كل شئ بعد ذلك . عواطفهم خفيفة سطحية غير راسخة .. قد تكون الأنثى غامضة لا تعرف ما تريده حقاً لكن حبها أكيد وراسخ ...
ظلت تعتقد هذا حتى تلك الليلة .. تلك الليلة ...
******


كان هذا شهر رمضان ..
لقد تناولت بضع لقيمات هى السحور وبالطبع لم تأكل أمها معها لأن حالتها الصحية لا تسمح لها بالصيام . شربت كوب الشاى الجميل ثم دخلت الفراش وقدرت أن صوت التسابيح من الزاوية القريبة سوف يوقظها عند الفجر ..
وكانت نائمة بعمق تحلم بساحل أفريقيا والأسود كما كان ذلك الصياد فى قصة ( العجوز والبحر ) . سمعت صوت الشهيق العنيف .. بالطبع دخل هذا الصوت إلى عوالم الحلم , ثم أفاقت لتدرك أنها فى فراشها الصغير الملاصق للجدار , غارقة وسط الكتب طبعاً , وأن الصوت قادم من الغرفة الأخرى حيث أمها ..
وثبت من الفراش , وقد اضطرب قلبها لأن الدم تجمع فى قدميها .. لكنها تماسكت وهرعت إلى هناك ..
كانت الأم تشهق فى ذعر محاولة انتزاع أنفاسها من قبضة بخيلة لا تريد التخلى عن شئ ..
هآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه !
الذعر فى العينين العجوزين .. ومن الواضح أنها لا ترى تقريبا ً ...
لو لم يكن هذامنظر امرأة تموت فما هو ؟
هآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه !
لم تعرف عبير ما تفعل ولا كيف تتصرف ..
هكذا هرعت باكية وبقميص النوم والقدمين الحافيتين تركض فى الشارع . من مكان ما برزت جارة ومن مكان آخر برز أحد الشبان أقوياء البنية حافياً بفانلته الداخلية .. هذا النمط الذى يربط ساعده بالضمادات ويبدو أنه جاء العالم ليحمل الناس متوفين أومرضى .. سرعان ما تكونت مظاهرة صغيرة ويبدو أن هناك من طلب الإسعاف .. سوف يصل غداً طبعاً لأن الخدمات قد تحسنت كثيراً ...
الأم تختنق .. لا بد من عمل شئ ..
هنا أدركت عبير سحر مصر الذى يجعل الناس لا يكرهونها مهما حدث لهم .. أنت لست وحيداً أبداً فى مصر .. ربما تتضايق من هذا فى الظروف العادية , لكنك بالتأكيد لا تحتاج إلى أن تكون وحيداً عندما تكون أمك – لا سمح الله – موشكة على الاختناق ..


هرع الشباب الحفاة الذين يلبسون الفانلة الداخلية ويربطون سواعدهم , ليصنعوا محفة بدائية يضعون عليها الأم ليحملوها إلى المستشفى القريب .. لا وقت لانتظار الإسعاف طبعا ً , وتطوعت بعض الجارات بالصراخ والعويل والذعر .... بعض الجارات تطوعن بالعناية بابنة عبير التى لم تصح من نومها بعد ..


هكذا وجدت عبير نفسها فى المستشفى تراقب الأطباء يجرون تخطيط قلب لأمها , وفد بدا التوتر على الوجوه ... عينات دم .. قناع أكسجين على الوجه المجعد الحبيب ..


سدة رئوية .. هذا ما سمعته من الأطباء .. لا تعرف معنى ذلك لكنه مخيف بما يكفى .. جلطة فى الساق انفصلت قطعة منها ودارت مع الدم لتنحشر فى الشريان الرئوى ...


قال لها الطبيب إن أمها سعيدة الحظ , لأن الجلطة صغيرة الحجم ولسوف يتمكنون من إذابتها .. فى المعتاد تقتل هذه الجلطات المريض بسرعة البرق لو كانت ضخمة ..


جلست أمام غرفة العناية المركزة وقد تخلت عنها ساقاها .. كانت إحدى الجارات قد أحضرت لها ثياباً تصلح للخروج ...


كان من الممكن أن يكون هذا هو اليوم ..


كان من الممكن أن يكون هذا هو اليوم ..


بمعجزة ما أفلتت من الكارثة ..


وارتجفت هلعاً وهى تفكر فى البيت الخالى الموحش .. لا أحد يقطف الملوخية أو يحشو أصابع الكرنب . لا أحد يسألها عما فعلته أو يلومها أو يكلفها بشراء شئ من الناصية ...


سيكون هذا قاسياً .. سيكون مرعباً ..


إن لديها ابنتها , ولكن عبير تعتبر نفسها طفلة ما زالت بحاجة إلى من يعتنى بها .. لا تتصور أن تعنى بكائن آخر وحدها ..


الوحدة .. الوحدة .. هذا شئ مخيف ..


تراقب وجه أمها خلف قناع الأكسجين .. وتقول لنفسها : إنها لن تستطيع أن تعيش وحيدة .. لهذا يتزوج الناس كى لا يجدوا أنفسهم فى بيت خال مظلم .. ترى هل يمر شريف بذات المخاوف ؟ .. هل يخشى أن يجد نفسه وحيداً فجأة ؟


وهى ؟ .. هل ستعيش من دون زواج حقاً ؟ .. الفكرة التى بدت لها منطقية جداً أمس تبدو اليوم سخيفة جداً .. طفولية للغاية ..


********


عندما انتهت تلك الأيام السوداء , وعندما عادت أمها للبيت استقبلتها الحارة استقبال الفاتحين .. لم يخل البيت لحظة من أم عصام وأم رشا وأم حماده .. كلهن هناك , وقد اكتسبن صلاحيات غير مسبوقة فصار بوسع أية واحدة أن تدخل البيت متى شاءت أوتعد الطعام فى المطبخ أوتفتح الثلاجة ..
وبرغم أن عبير لا تميل للناس كثيراً , فقد أحبت كثيراً هذا الزحام .. الزحام الذى يضيع فيه أى شئ حتى نفسها .. إنها عاجزة فعلاً عن العثور على نفسها فى هذه الفوضى , وهذا شئ جميل .. لا وقت للقلق أو التفكير فى الغد ..
كانت الأم تتعافى بسرعة .. وبرغم أنها صارت تتعاطى قائمة هائلة من الأدوية فإن حالتها العامة كانت أفضل ..
المشكلة أن قائمة الأدوية هذه عبء مادى لا شك فيه , وقد طلبت من صفوت أن يقرضها بعض المال ففعل بسماحة , لكنها بالتأكيد لن تجرؤ على تكرار ذلك ..
هكذا كانت الأوضاع عندما دخلت إلى غرفتها ..
كانت أمها قد نامت فى سلام وتنفسها منتظم ..




للمرة الأولى تمد يدها إلى جهاز الأحلام غير شاعرة بالذنب .. سوف تغسل نفسها لمدة نصف ساعة ثم تعود لتواجه الواقع القاسى ...
من مكان ما فى الشارع انبعث صوت جهاز تليفزيون مفتوح ..
تسمع صوت زوزو نبيل الخشن الجميل إذا تتثاءب وتقول :
<< مولاى .. >>
ثم تنبعث تلك الموسيقى الخالدة التى هى نياط قلب يتمزق مع صياح ديك مع جنى يشق الجدار ويخرج .. إنها كل هذا فى وقت واحد ... مقطوعة ريمسكى كورساكوف Korsakov الأسطورية ..
ضغطت على زر التشغيل , وخطرت لها أن هذه الموسيقى قد تتسرب للحلم بشكل ما . وابتسمت للفكرة ..
لم تدر كم هى محقة ..
**********

سيريناد 18-07-19 12:18 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 


2- احكى يا شهر زاد ..
كانت هناك وسط النساء ..
الجو العام يوحى بأحد المخادع الشرقية التى رسمها ديلاكروا .. هناك ستائر .. الكثير منها .. هناك طنافس ووسائد .. هناك حوض ماء صغير يتصاعد منه بخار عطر الرائحة , وهناك طاووس أو اثنان يدوران حول الحوض ...
ربما وجدت نمراً كذلك لو بحثت بعناية ..
هناك جوار أكثرهن أفريقيات داكنات البشرة يقمن بتمشيط شعرها الأسود الطويل .. وهناك عبيد عراة الصدور سود البشرة من الذين يصلحون للمصارعة , يقفون فى شموخ وقد عقدوا سواعدهم على الصدور . شعرت بخجل لأن هؤلاء الأوغاد هنا , ثم تذكرت أن هؤلاء العبيد عولجوا بطريقة خاصة كى يخلوا من هرمونات الرجولة , ومهمتهم حماية النسوة فى الحريم ..
هناك جارية شقراء – لا بد أنها أوروبية – تعنى بأظفار قدميها , وأخرى تبدو كالصينيات تجلس جوارها ممسكة بصحفة عليها فاكهة طازجة .. شئ مستفز .. كأنها لا تستطيع التوقف عن التهام الفاكهة إلى أن تمشط شعرها , لكن من الواضح أن هذه حياتها ولا حياة أخرى .. أى أن يومها عبارة عن تبرج طويل فلا توجد لحظة خالية تأكل فيه


هناك من ترش عليها من قنينة عطر .. عطر مدوخ هو , يبدو أنه تم تقطيره من خلاصة الشرق ذاتها . جارية أخرى تحمل مرآة عملاقة تضعها أمامها ..
ترى عبير نفسها للمرة الأولى فى هذه القصة , فتدرك أنها ساحرة .. صغيرة الحجم دقيقة أقرب لطفلة .. لكن عينيها تشعان ذكاء وقوة شخصية , ومن الواضح أنها خبيثة كذلك ..
على رأسها عمامة عملاقة مزينة بريشة وماسة , وحول جيدها وفى ذراعيها كمية هائلة من الحلى والمجوهرات ..
هنا فهمت على الفور ..
لا توجد شخصيات كثيرة لها هذا الطابع , وهى تتخيل كيف كانت الملكة سميراميس تلبس وكذلك شجرة الدر .. نحن بالتأكيد فى بلد عربى فى العصر العباسى ..
شهرزاد ..
من سواها ؟
***********


كان هناك جالساً على فراش عملاق يبلغ ارتفاعه مترين , وقد اضطجع على جانبه ونزع عمامته فتدلى شعره الأسود الطويل الحريرى على كتفه , وكان يعبث فى لحيته بلا نوقف ..
تشق طريقها وسط غابة الستائر الحريرية لا تعرف أى طريق يقود إليه ..
هناك كان راقداً يدخن النارجيلة .. وقد وقف جواره ذلك العبد الأسود العملاق .. لا بد من عبد أسود لهؤلاء القوم وإلا فقدوا شعورهم بالتميز ...
هناك كان مضطجعاً يلتهم تفاحة حمراء ضخمة فى ملل , حتى ليوشك على أن يبصقها .. يأكلها ولا يريد ذلك لحظة ...
من يكون هذا سوى شهريار ؟
أخيراً بعد مسيرة ساعة وسط الستائر , بلغت الفراش فانحنت محيية بحركة رشيقة ذات طابع ملكى , فتوقف عن المضغ على سبيل التحية , ثم فرد لها العباءة التى وضعها على الفراش لتجلس فوقها .. تسلقت الفراش وتربعت شاعرة بأنها تغوص .. نعومة لا يمكن وصفها , فهل هو ريش النعام حقاً ؟


شهريار ..
الملك الشرقى الذى خانته زوجته فقطع رأسها , ثم قرر بعد هذا ألا يثق بأنثى للأبد .. وشعار حياته هو ( لا تأمنن إلى النساء .. ولا تثق بعهودهن ) ..
كان انتقام شهريار من جنس النساء شاملاً وقاسياً بالطبع ..
فى كل يوم يجلبون له عروساً عذراء يتزوجها ليلة واحدة , وفى الصباح يأتى مسرور السياف حاملاً السيف والدلو والنطع .
مسرور هذا يقطع رءوس الناس بالبساطة التى تقشر بها أنت ثمرة يوسفى . هكذا يهوى السيف ويسقط رأس العروس لليلة واحدة فى الدلو .. ويخرج المنادون ليبحثوا عن عروس أخرى ..
هذا يعنى أن هناك 365 رأساً مقطوعة فى كل سنة ...
هناك ملك آخر لم يقطع كل هذا العدد من الرءوس , لكن التاريخ منحه اسم ( شهريار بريطانيا ) , هو الملك هنرى الثامن ...
هنا تظهر شخصية شهرزاد الفريدة ...
إنها تلك الفتاة الذكية واسعة الحيلةالتى قررت أن تنجو بحياتها أولاً , ثم تنقذ نساء المملكة ثانية ..



لقد قبلت الذهاب لشهريار عروساً لليلة واحدة كما فعلت الفتيات الأخريات , لقد استشفت أن شهريار برغم هيبته الواضحة ولحيته العملاقة وعينيه المفترستين طفل كبير .. طفل يحب الحواديت كأى طفل آخر .. ويمكن القول أن هذا المعتقد يتسع ليشمل كل الرجال فى الحقيقة ..
هكذا بدأت تحكى له قصصاً ممتعة .. قصصاً لا تنتهى أبداً , وكل قصة تحمل نهاية شائقة .. كانت هى أول من ابتكر نظام ( القفلات ) أو Cliff Hangers إذن ..
هكذا يجد الأخ شهريار نفسه فى الصباح مخيراً بين الالتزام بعهده الرهيب وقطع رقبتها , أو الانتظار ليلة أخرى لمعرفة ما حدث بعد هذا ...
الطفل الكبير فضل أن ينتظر ..
والمشكلة أن كل ليلة تلد فصة أخرى لم تنته .. هكذا يكون عليه أن ينتظر ...
يشبه الأمر أن تحاول غلق باب تتدافع عبره أسراب من الدجاج .. لا تجد أبداً اللحظة المناسبة لغلق الباب ..
ظل الباب مواربا ً .. 1001 ليلة ... ثلاث سنوات تقريباً ...
********
لقد تضخم دور شهرزاد فى الوجدان الثقافى العالمى , حتى صارت ترمز للأنثى واسعة الحيلة التى استطاعت بذكائها ترويض الثور المشعر مفتول العضلات المسمى بالرجل .. لم يبقها حية سوى ذكائها وقدرتها على نسج قصص ممتعة ...


إنها الفنان عبرالعصور .. الفنان الذى يجب أن يقدم فناً جميلاً , وإلا طار عنقه .. النقاد سيطيرون عنقه والجمهور سيطير عنقه .. وهو نفسه سيطير عنقه , عندما لا يجد سبباً للحياة ..


هناك مسرور أبدى يحمل سيفاً ونطعاً وراء كل فنان .. ينتظر اللحظة التى يجف فيها فنه ..


وشهرزاد كانت فناناً .. فناناً خلدته الأساطير ..


فناناً لم يتوقف عن ابتكار قصص مسلية لمدة ألف ليلة وليلة ...


*******

سيريناد 18-07-19 12:20 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 

3 – احكى يا دنيا زاد ..
بدأت تفتش فى ذاكرتها عن قصة .. لا بد أنها تستكمل قصة قيلت أمس , فهذه هى تقنية ألف ليلة وليلة .. والقصة تلد قصة داخلها ثلاث قصص , وكل قصة داخلها قصتان , ويبدو أن هذه الطريقة العنقودية المعقدة سبقت كل المحاولات الأدبية السابقة ..
هنا نظر شهريار خارج الستائر فى ملل وقال :
ألن تأتى يا شهر زاد ؟
شهرزاد ؟ ..
هنا انزاحت الستائر ووجدت عبير نفسها تنظر إلى شهرزاد فعلاً .. امرأة ناضجة مكتملة فارعة الطول , وفى عينيها ذات الذكاء وقوة الشخصية .. هنا فهمت عبير .. لم تكن هى شهرزاد .. كانت هى دنيا زاد أختها التى جاءت لتعيش معها فى قصر الملك ..
ليس غريباً أن تجملها الجوارى فهى أخت ملكتهم .. ولهذا بدت أصغر سناً مما تتوقع ..


جلست شهرزاد على الفراش بدورها , فصارت الجلسة ثلاثية ..
قال شهريار فى لهفة وعيناه المجنونتان تلمعان :
هيه ! .. ماذا حدث للحمال فىقصة أمس ؟
ابتلعت شهرزاد ريقها .. كان لديها ما تريد قوله وإن كان عسيراً . بعد صمت طال قالت وهى تتحاشى نظرات الملك :
أنا بحاجة إلى راحة !
راحة ؟
نعم .. ضع نفسك مكانى .. هناك ما يسمى (سدة الكاتب Writer's block ) .. منذ 800 ليلة وأنا أحكى لك قصصاً مثيرة بلا توقف . بشرط أن تكون القصة كثعبان لا يمكن غلق الباب قبل أن يمر بالكامل , وقبل أن يمر يكون ثعبان آخر قد حشر رأسه معه .. أبذل هذا الجهد كى أنقذ عنقى وعنق الفتيات الأخريات .. الآن لا بد من لحظة نضوب .. لا بد من أن أتوقف لفترة وأستجمع أفكارى .. أنت لا تمنحنى هذه الفرصة .. لقد جففت !


عيناه صارتا عينى نمر وهو ينظر لها فيوشك على أن يحرق عمامتها .. قال من بين اسنانه :
والحل ؟
قالت وهى تتمطى على الفراش :
لا بد من التغيير !
بل لا بد من مسرور !!
لم تفهم هى , لكن مسروراً العملاق الزنجى فهم وهو على بعد أمتار , وما زال يقف خلف الستار .. وهكذا لم تدر عبير إلا والعملاق الزنجى الأبنوسى المبلل بالعرق يزيح أستارالفراش , ثم يهوى بسيف بتار من طراز السيوف التترية إياها على عنق شهرزاد ..
لقد صارت الفوضى بالغة ... ما من مجنون يقطع رأس امرأة على الفراش .. هكذا تحولت الغرفة إلى بركة دم .. وصاح شهريار متقززاً :
يا لك من غبى ! ... لماذا لم تقطع عنقها على النطع كما هى العادة ؟

قال مسرور وهو يحمل الرأس الجميل :
حسبت الأمر عاجلاً يا مولاى .. خطر لى أنها تهددكم !
تهددنى أنا يا أحمق ؟
ثم نهض متأففاً يبحث عن العبيد كى يعطوه ثياباً وحماماً وعطراً .. يحب رؤية الدماء لكنه يمقت أن يستحم بها ..
فقط عبير ظلت وحدها على الفراش ترتجف عاجزة عن الكلام أو الحركة أو الفرار ..
لقد تم كل شئ بسرعة البرق .. هناك حادث حقيقى عن رجل هندى كان يتناول عنقود عنب فى قطار فوثب قرد من النافذة وخطف العنقود , ثم فر من النافذة الأخرى .. ظل الرجل فى وضع متصلب ويده ما زالت فى وضع الإمساك بالعنقود وحبة عنب قرب شفتيه .. ظل على هذا الوضع ثلاث ساعات !
لقد وجدت نفسها فى موقف مشابه ..
لم تتحرك .. لم تتكلم .. لم تتنفس .. كأنها أصيبت ببله مغولى مفاجئ ..

وعندما أفاقت كانت على البساط الثرى السميك بينما جاريتان تعنيان بها ..
كانت تبكى منهارة وترتجف بلا توقف ..
لم تكن علاقتها بشهرزاد قوية .. كما قلنا هى قابلتها منذ ربع ساعة لأول مرة , لهذا لا يمكن أن نقول إنها تأثرت لموت أختها ..
فقط تأثرت لرؤيتها مصرع إنسان بهذه الوحشية ..
شهريار وحش .. شهريار سيكوباثى .. شهريار دموى ..
لقد ماتت شهرزاد وانتهى مبرر وجود ألف ليلة وليلة إذن .. لقد صارت 800 ليلة لا أكثر ..
هنا رأت فى مجال بصرها طيلساناً فاخراً وحذاء ثميناً محلى بالمجوهرات .. لم ترفع عينيها فقد عرفت من العطر أنه هو ..
قال بصوته الجهورى :
الآن أنت ضحيتى القادمة يا دنيا زاد ..
اىتجفت هلعاً .. ما ذنبها هى ؟
قال وهو يتجشأ :
إلا إذا ....
إلا إذا ماذا ؟

عاد صوته يتردد :
إلا إذا استطعت أن تواصلى مهمة أختك .. لقد كانت بارعة فى التأليف وحكت قصصاً رائعة .. هل تعتقدين أنك قادرة على استكمال المهمة .. ؟
نظرت له فى حيرة
إذن هذا هو المقلب وسبب وجودها فى هذه القصة .. عليها أن تسلى هذا الثور المولع بالدماء والقصص ..
قالت فى تردد وبصوت مبحوح :
سأحاول .. سأحاول ...
منذراً لوح بإصبعه :
وتعرفين طبعاً ما سيحدث لو لم ترق لى القصص ..
أعتقد أنه قطع عنقى طبعاً ..
لا .. قطع العنق يعنى أننى متسامح ومزاجى معتدل .. إن لدى خيالاً أقوى بكثير !!
**********

سيريناد 18-07-19 12:22 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 


4 – بلغنى أيها الملك الرشيد ..
الآن صارت عبير هى الزوجة الجديدة لشهريار ..
بدأت تفتش فى ذاكرتها عن قصة .. لا بد أن تستكمل قصة قيلت أمس , فهذه هى تقنية ألف ليلة وليلة .. والقصة تلد قصة داخلها ثلاث قصص , وكل قصة من هذه فيها قصتان .. حتى أنك عندما تعود للقصة الأصلية تكون موشكاً على فقدان الوعى ..
لقد ألبستها الجاريتان ثياب شهرزاد الواسعة عليها , ووضعتا العمامة الثقيلة على شعرها .. بدا التأثير غريباً كأن شهرزاد الأصلية قد خضعت لعملية انكماش مفاجئة ..
جاء شهريار فتثاءب وتمطى ثم ألقى بنفسه على الفراش الوثير , وفى عينيه بدت نظرة شغوف كطفل جاء وقت سماع قصص جدته .. بل إنه نام على بطنه واستند على قبضته وراح يركل الهواء بقدميه .. طفل كبير لكنه يملك نفوذاً مخيفاً وما أفظع الأطفال الذين يحق لهم القتل !
تنحنحت وتوكلت على الله , لكن صوتها خرج مبحوحاً ..حاولت أن تقلد نغمة صوت زوزو نبيل الأرستقراطية الأنفية قليلاً .. هذا الصوت الساحر الذى تربينا عليه جميعاً فى طفولتنا ..


قالت فى تؤدة :
بلغنى أيها الملك الرشيد .. ذو العقل السديد .. أنه كانت فى بلاد الفرنسيس .. مدينة تدعى باريس . كانت المدينة تغلى بالغضب .. وتشتعل بنيران اللهب . لأن لويس السادس عشر .. كان يعيش مع أعوانه فى القصر . لايبالى بشئون الرعية .. قدر ما يهتم بالصيد فى البرية . وزوجته ملكة تدعى مارى أنطوانيت .. هى سيدة البيت . ولم تكن فرنسية .. بل كانت نمساوية . ولما سمعت أن الناس يطالبون بالخبز .. لم تفهم سر هذا اللغز . واقترحت أن يأكلوا ( الجاتو ) .. بدلاً من الخبز الذى به طالبوا ..
كانت تعرف أن هذه المعلومة الأخيرة غيردقيقة .. مارى أنطوانيت ليست هى قائلة ( لم لا يأكلون الجاتو بدلاً من الخبز ؟ )
لكنها من المعتقدات التى صار تغييرها مستحيلاً .
كان شهريار يتابع. وبدا لها أنه من الممكن أن تنجح ... هو لم يقرأ رائعة ديكنز ( قصة مدينتين ) وبالتالى يمكن أن يبتلع كل شئ ..



واصلت الكلام :
كانت الشوارع تغلى بالثورة .. والحياة صارت مرة . وكانت فى أزقة العاصمة المنسية .. حركة مقاومة سرية . من أهم قوادها المسيو ديفارج .. وزوجته مدام ديفارج . وهى امرأة قاسية .. باردة وعاتية . وكانا يملكان حانة صغيرة .. لكنها خطيرة . يؤمها الثوار ليتآمروا .. فإذ الاح شرطى جروا . وكان الثوار يكنون أنفسهم باسم جاك .. حتى لايقعوا فى الشراك .
فى ذلك الوقت وصلت إلى المدينة .. فتاة حسناء لكنها حزينة . كان اسمها لوسى مانيت .. وأبوها طبيب حويط . سجنوه أعواماً فى سجن الباستيل .. ولم تسمعع نه سوى القليل .
وسجن الباستيل سجن رهيب .. لم يتحمله عقل الطبيب . فلما غادر السجن أخيراً .. صار محطماً كسيراً . واستضافه ديفارج فى حانته وأكرم وفادته .. فلما جاءت الفتاة تبحث عن أبيها .. أخذها ديفارج ليريها . نزلا معاً إلى غرفة مخفية .. حيث كان الطبيب عاكفاً على إصلاح الأحذية . فلما قابل ابنته بعد هذه الأعوام .. لم يعرفها وكاد ينام . بكت على صدره لله شاكرة .. وقررت أن تأخذه إلى انجلترا . بعيداً عن هذا البلد اللعين .. الذى يوشك على أن يصير الجحيم .



كان شهريار يصغى بضمير مخلص محاولاً أن يستمتع ..
كان هذا غريباً بالنسبة له .. أسماء غريبة .. أحداث غريبة ..
للأسف لم يرد لذهنها المنهك سوى عنوان ( قصة مدينتين ) قصة تشارلز ديكنز الرائعة . إنها سرقة أدبية بالمعنى الحرفى للكلمة , لكنها مضطرة لذلك كى تنقذ عنقها .. ديكنز نفسه كان سيسمح لها بالسرقة إذا عرف أن ثمن عدم السرقة هو السيف ..
كانت الأحداث سهلة يسيرة التذكر , فلم تكن معقدة مليئة بالأسماء مثل الكارثتين ( ديفيد كوبرفيلد ) و ( أوقات عصيبة ) ..
مد شهريار أنامله إلى عنقود العنب فأخذ بضع حبات دسها فى فمه وراح يمضغ فى بطء .. وقال :
أكملى ..
قالت عبير بصوتها الناعس :
يظهر هنا شاب وسيم .. كان متهماً بجرم عظيم . تشارلز دارنى هو اسم الشاب .. وقد برأه المحامى بلاصعاب . لأن المحامى الداهية .. كان يملك حيلة واعية . إذ ليه مساعد يدعى سيدنى كارتون .. يشبه دارنى فى الملامح واللون .. وهكذا شكك فى شهادة الشهود .. وبين للقاضى أن الشبه موجود . هكذا ظفر تشارلز دارنى بالحرية .. ووقع فى حب لوسى الوفية ..


قال لها شهريار فى دهشة :
هل تعنين أن هذا الـــ ... التشارلز دارنى يشبه سيدنى كارتون ؟
قالت باسمة :
نعم .. وهذه هى النقطة المهمة فى القصة .. أحد الرجلين شاب ناجح اجتماعياً , بينما الآخر صعلوك ولد خاسراً .. سوف يفوز تشارلز دارنى الوسيم الناجح بكل شئ ولوسى نفسها , لكنه يقع فى مشكلة خطيرة عندما تعتبره الثورة عدواً لها وتحكم عليه بالإعدام ... سوف نعرف أن سيدنى كارتون نفسه يحب لوسى سراً , وهكذا يقرر سيدنى كارتون أن يقوم بأعظم تضحية قام بها إنسان .. يضع نفسه مكان تشارلز دارنى ويذهب بدلاً منه إلى المقصلة وهو يردد : ما سأقوم به هو أفضل بكثير جداً من أى شئ فعلته من قبل ...


عبث شهريار فى لحيته وتساءل :
وما هى المقصلة ؟
الجيلوتين guillotine .. هذه طريقة متقدمة لقطع الرقاب , لكنها كانت فى البداية آلة للحصاد .. حولها الفرنسيون إلى آلة إعدام رهيبة , فهم لا يملكون مسروراً بالتأكيد ...
قال فى اشمئزاز :
لا أحب هذه الوسائل المتقدمة .. منظر الجلاد الذى يحمل السيف درامى أكثر ..
ثم داعب شاربه ولمعت نظرة ميزوجينية شنيعة فى عينه , وقال :
ما هو الحب الذى يدفع المرء إلى أن يضحى بعنقه من أجل امرأة ؟ .. النساء كائنات كالصراصير لا تستحق أية تضحية من أى نوع .. هذه قصة خيالية أكثرمن اللازم ..

قالت فى كياسة :
أبطال القصص أكثر جموحاً ودرامية من الناس العاديين .. هذا طبيعى وإلا ما كتب أحد عنهم حرفاً .. لن تجد رواية تحكى عن رجل ذهب للبقال وابتاع جبناً ثم عاد ليتناول عشاءه ويتجشأ وينام ..
أضاف شهريار وقد تذكر شيئاً :
هذه هى القصة إذن ؟ .. لقد أتلفتها تماماً ... لقد قلت لى كيف ستنتهى قبل أن تبدأ .. أنا أمقت الـــ spoilers


هنا تذكرت عبير أنه مستمع قصص ممتاز , ولاشئ يؤذى هؤلاء سوى أن يعرفوا نهاية القصة .. هذايقتلهم قتلاً . هنا لجأت إلى الحل الذى وصلت فيه شهرزاد إلى مرحلة الإبداع .. فتح جبهات جديدة :
فلما التقى دارنى وكارتون بعد المحاكمة .. تبادلا عبارات بالمجاملة مفعمة . شكر دارنى شبيهه على الدفاع الجميل .. الذى أنقذه من سجن الباستيل . فقال كارتون إن هذا يذكره بقصة الصياد الفقير .. الذى وجد لؤلؤة حجمها كبير .. وكان يحسبها ستجلب له السراء .. فلم تجلب سوى الضراء ..
قال لها شهريار فى فضول :
وما هى قصة اللؤلؤة ذات الحجم الكبير ؟
قالت فى غموض :
هى قصة غريبة .. وأحداثها عجيبة . وما هى بأعجب من قصة دارتانيان والفرسان الثلاثة الشجعان ..
هنا صاح الديك .. وأدركهما الصباح .. فسكتت دنيا زاد عن الكلام المباح ...
************

سيريناد 18-07-19 12:28 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 
5 – الصياد وزوجته الحبيبة .. واللؤلؤة العجيبة ..


فى اليوم التالى ذهب شهريار لتدبير شئون المملكة ..


تذكر أن شهريار ليس مجرد مستمع للقصص كما تظهره القصص , بل هو ملك قوى .. إن أباه هو من ملوك ساسان بجزرالهند والصين . أى – للدقة – هو يحكم منطقة ما فى جزر الملايو . وقد ورث شهريار عنه هذا الملك , أما أخوه شاه زمان فقد كان ملك سمرقند .


جلست عبير فى جناح الحريم .. وراحت واحدة من الجوارى تضفر شعرها وواحدة أخرى تضمخها بالعطر فى المشهد الممل المعتاد الذى يروق للغربيين ورسمه ديلاكروا مراراً . كانت شاردة الذهن لا تكف عن استكشاف مجالات القص المتعددة ..


إن لديها مخزوناً لا بأس به من القصص , لكنه يبدو غريباً ..


غريباً أكثر من اللازم يختلف بالتأكيد عن ذلك الجو الحميم العربى الذى اشتهرت به قصص شهرزاد .. بغداد والأزقة والحمالون والمتسولون والنساء الغامضات اللاتى يضعن الخمر .. من الصعب أن تستبدل بهذا الجو جو مسيو ديفارج ود.مانيت والمقصلة ..



لكن الحقيقة هى أنها بالفعل لا تذكر حرفاً من قصص ألف ليلة ..
تتذكر الجو العام .. هناك جنى فى مصباح وأربعون لصاً , لكن فيما عدا هذا لا توجد تفاصيل ..
على كل حال لا مفر من أن تستمر فى خطتها ..
سوف تحكى له ما تعرفه من أدب غربى أو عربى معاصر ...
لا يوجد حل آخر , وعليه إن لم يحب هذا أن يبحث عن طريقة تسلية أخرى ..
سوف تحكى له قصة اللؤلؤة رائعة شتاينبيك , ثم تتفرع منها إلى الفرسان الثلاثة رائعة دوما .. وبعدها تعود للؤلؤة ومنها إلى قصة مدينتين .. هذه هى التقنية التى تعرفها .. إن هذا سيطيل حياتها أسبوعين على الأقل ..
********



هكذا عندما جاء المساء وفرغ شهريار من قطع الرقاب , وتناول عشاءه الدسم الذى يتكون من خروفين , كل خروف قد حشى بديك رومى , والديك الرومى محشو بالدجاج , والدجاج محشو بالحمام , والحمام محشو بالعصافير , والعصافير محشوة بالجوز واللوز .. ثم شرب زقاً من خمر بابل , كان الآن فى حاجة إلى قصة مثيرة تناسب عملية الهضم ..
جاء إلى غرفته فشق طريقه وسط الستائر إلى أن بلغ الفراش , فارتمى عليه كأن جبلاً يجثم فوق صدره .. راح يلهث طلباً للهواء , ثم قال لها :
اليوم يا دنيا زاد أنا راغب فى سماع قصة الصياد الفقير واللؤلؤة ذات الحجم الكبير ..
ابتسمت فى ثقة أنثى تعرف أين وكيف تقود رجلاً أضخم منها بمراحل , وقالت :
بلغنى أيها الملك الرشيد .. ذو العقل السديد . أنه فى قرية مكسيكية .. كان صياد هندى سليم الطوية . وكان كينو هو اسمه .. وله زوجة فقيرة مثله . عاشا يعانيان الفقر والجوع .. ولديهما ابن رضيع . كان هو الذى يمنحهما الأمل .. ومن أجله يحبان العمل . حتى جاء اليوم الخطير .. عندما مشى عقرب فوق فراش الصغير . سقط فوق الرضيع فلدغه بذبانه .. قبل أن يقتله كينو . هكذا انتشر السم .. وجرى فى الرضيع مجرى الدم . حمل كينو صغيره إلى الطبيب الموجود .. وهو أسبانى يكره الهنود .


لكن الطبيب رفض فحص الرضيع .. لأنه يعرف أن الهنود حالهم وضيع . والهنود .. ليس معهم نقود . هكذا زعم أنه ليس هنالك .. وأرسل الخادم يخبر كينو بذلك . جن جنون الهندى وغلبه القنوط .. وأدرك أن ابنه سيموت ..
قال شهريار وقد اتسعت عيناه دهشة :
ليس معه أجرالطبيب ؟ .. أليس صياداً ؟
قالت عبير :
تعرف يا مولاى أن الصيادين يعيشون من يوم ليوم .. إن حياتهم تتوقف على رزقهم . كان كينو صياد لؤلؤ .. واللؤلؤ لا يوجد عندما تريده ..
ثم ابتلعت ريقها وعادت لعادة السجع :
كأنما يستجدى الأقدار .. وثب كينو إلى أعماق البحار . وراح يبحث عن لؤلؤة .. تحت ربوة ناتئة . من الغريب أنه وجد محارة كبيرة .. بداخلها لؤلؤة خطيرة . أكبر لؤلؤة رآها فى حياته .. ولن يرى مثلها حتى مماته . هكذا أطلق صرخة مدوية .. وجرى يخبر زوجته الوفية . لم يأت المساء .. حتى كانت القرية كلها قد عرفت بما وجده فى الماء . الكل شعروا بحقد عليه .. للثروة التى هبطت بين يديه . وقال الطبيب فى غرور .. إنه يعالج ابن كينو الصغير . وكان معلوماً لدى الفقراء .. أن الفقير الذى يصير ثرياً يمعن فى العطاء .


راح شهريار يصغى فى استمتاع لهذا الجزء . لأنه يحب قصص المجوهرات عامة .. هناك لؤلؤة وهناك صياد فقير .. يبدو أن لم يبتعد كثيراً عن جو ألف ليلة وليلة على كل حال ..
واصلت عبير سرد القصة :
امتلأ ذهن كينو بالأحلام .. سيعلم ابنه الحساب والأرقام .
سيذهب ابنه للمدرسة .. ويعرف كل شئ ويدرسه . وعند المساء جاء الطبيب .. زاعماً أنه لم يعرف أن الرضيع أصيب .
قال له كينو أن الصغير قد شفى من اللدغة المميتة .. لكن الطبيب أصر أن يفحصه بعناية مقيتة . وقال إن السم قد سرى فى الدم .. أخرج من حقيبته شيئاً فى ضوء السراج .. وقال إن هذا هو العلاج . بعد ساعات اشتدت الحمى بالرضيع .. وأفرغ معدته وانفجر فى الدموع . عندها عرف كينو أن السم نشيط .. وللرضيع مميت .
لكنه شعر بشك مريب .. تجاه ما أعطاه له الطبيب ..



حك شهريار رأسه من تحت العمامة وتساءل :
هل تعنين أن الطبيب قد يكون دس سماً للرضيع ؟
هذا وارد .. لقد عرف بموضوع اللؤلؤة ومن الممكن أنه جعل الرضيع يمرض أكثر ليعالجه ويطال بفاتورة فلكية ..
لقد جن بطل قصتك هذا ..
الحقيقة أنه سيغرق فى البارانويا .. سوف يعتقد أن كل شخص يتربص به والأشجار تتحرك .. كل شئ فى الكون يريد اللؤلؤة .. إن اللؤلؤة لن تجلب له سوى أسوأ ساعات حياته ..
قال شهريار محذراً وفى عينيه نظرة مخيفة :
حذار .. حذار .. لا تفسدى هذه القصة كذلك ..
تذكرت على الفور أن الشئ الوحيد الذى يبقيها حية ويبقى عنقها على كتفيها هو التشويق .. يجب أن يظل شهريار ينتظر معرفة ما سيحدث ..



قالت له وهى تتثاءب :
قصة غريبة , لكن ما هى أغرب من قصة دارتانيان والفرسان الثلاثة الشجعان ..
سوف تحكى له جزءاً من الفرسان الثلاثة , ثم تعود إلى كينو واللؤلؤة .. ثم تعود لقصة مدينتين .. هكذا ..
قصة الفرسان الثلاثة لا تروق لها . هناك جو مفتعل سخيف مزخرف بالدانتيلا .. كل شئ أنيق متغطرس , وهؤلاء السادة الشجعان الذين قبل أن يتبارزوا ينحنون ملوحين بالقبعات المزينة بريش الطاووس .. وجو المؤامرات التى يدبرها رشليو دائماً , وزجاجات السم الصغيرة .. و .. و .. لكنها على الأرجح ستروق لشهريار .
هنا لاحظت شيئاًغريباً .. إنها لا تتذكر حرفاً من قصة الفرسان الثلاثة .. انطباع عام عن القصة لكنها لا تستطيع أن تذكر فقرة كاملة منها ..
وماذا عن مغامرة كينو واللؤلؤة ؟ .. لا تعرف .. لقد تبخرت القصة من ذهنها ..
شعرت بأنها توشك على فقد الوعى ..
قالت لشهريار وهى تتثاءب :
مولاى .. لقد أدركنا الصباح وعلينا أن نكف عن الكلام المباح !

كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل .. ما زال الصباح بعيداً , لكنها أغمضت عينيها وأطلقت شخيرها ..
سمعته يقول فى غيظ :
ما زال الصباح بعيداً .. يا لك من بلهاء !
وراح يهزها فى عنف فارتفع شخيرها أكثر .. أطلق بعض السباب .. وفى النهاية بدأ صوت شخيره يتعالى هو الآخر .. من الصعبأن تظل متيقظاً عندما ترى من يغط فى سلام كطفل .
أما هى فلم تنم وعلى الأرجح لن تنام ..
يجب أن تعرف ما حدث لذاكرتها !
*********




6 – ليس ألزايمر لسوء الحظ ..
كانت جالسة فى جناح الحريم تمارس عملها اليومى : لا شئ . إلا لو كان الجلوس لفتاة صينية تقلم أظفارهاعملاً .. تقضم قطعة هائلة من أجاصة ( كمثرى ) ثم تلوكها مفكرة ..
ماذا حدث لذاكرتى ؟
من الممكن أن تحكى له أدباً عربياً .. هذا وارد .. بلغنى أيها الملك السعيد ذو العقل الرشيد .. أنه بقرب الميدان .. كانت عمارة اسمها يعقوبيان ..
أو : بلغنى أيها الملك السعيد ذو العقل الرشيد .. أن أحمد عبد الجواد .. كان تاجراً لديه أولاد .. وكان فى البيت صارماً وغير حنون .. لكنه كان يعشق الطرب والمجون ...
قطع عليها خواطرها صوت البنات يشهقن ويصرخن .. تعرف هذا النوع من الصراخ من طراز ( يا لهوى ! .. راجل ! ) .. معنى هذا أن رجلاً ظهر فى جناح الحريم . لا رجل يجرؤ على ذلك ما لم يكن راغباً فى قطع عنقه , أو هو ...........
المرشد ! ... نعم ..


يمشى بقامته الفارعة وبذلته السوداء المملة التى لا يخلعها أبداً , والقلم الكئيب إياه .. تتك .. تك .. تتك .. وأدركت أن الجوارى فررن مذعورات .. رؤية رجل غريب هنا لا تقل رعباً عن رؤية ديناصور ..
يحييها بهزة رأس ثم يلتقط تفاحة , ويمسحها فى كمه , ثم يقضم منها ..
لم يطل بك الوقت حتى صرت فى مشكلة ..
أشارت للجارية الصينية كى ترحل , ثم قالت له :
هل تتكلم عن داء ( ألزايمر ) الذى أصبت به مؤخراً ؟
قال وهو يلوك التفاحة :
كرونش .. كرونش ! .. ليس داء ألزايمر .. أنت وقعت فى ورطة زمنية كئيبة . هل تعرفين القصص إياها عندما يعود المرء عبر الزمن ليقتل المخترع الفلانى .. من ثم لا يعود وجود لاختراعه فى عالم الغد ؟ .. فى فيلم ( المفنى Terminator ) يرسل طغاة المستقبل قاتلاً آلياً عديم الرحمة لعالمنا , كى يقتل المرأة التى ستلد زعيم الثوار فيما بعد ...



حاولت أن تربط كلماته بما هى فيه فلم تفهم .. ضيقت عينيها أكثر بمعنى ( أوضح ) .. فقال :
عندما تطالعين سيرة أى كاتب غربى تقريباً , فسوف تعرفين أنه قرأ ألف ليلة وليلة أول ما قرأ .. ونتيجة لهذا قرر أن يصير كاتباً . ما حدث هنا هو أن شهرزاد لم تعد موجودة والقصص لم تُستكمل .. النتيجة أن معظم الكتاب الغربيين لم يكتبوا حرفاً ! .. كيف تحكين قصصاً من الأدب الغربة بينما لا وجود لها أصلاً ؟ .. أنت كرجل يجاهد لبلوغ سقف بناية شامخة , بينما البناية ذاتها لم يعد لها وجود .. تصعدين درجات سلم تلاشى .. تصعدين إلى قمة شجرة ذبلت واختفت !
نظرت له فى رعب وقد بدأت تفهم ..
قال لها بطريقته الباردة السمجة قليلاً :
محاولتك هذه سوف تخلخل تاريخ الأدب بالكامل .. سوف تنقرض قطاعات هائلة من الفنون ..
سألته فى هلع :
والحل ؟


الحل هو أن تحكى القصص كما كانت شهرزاد ستفعل بالضبط ..
نهضت واقفة ووضعت يديها فى خصرها :
كيف ؟ .. لا أذكر حرفاً من هذه القصص .. لم أقرأ ألف ليلة وليلة منذ كنت فى العاشرة ..
هذه مشكلتك ..
إذن لا يوجد حل ..
راح يفكر بعض الوقت , ثم قال لها وهو يصلح من ربطة عنقه :
هناك حل واحد .. إن قصص ألف ليلة وليلة مأخوذة من الحياة مع لعب حر بالخيال .. لو أنك مشيت فى شوارع بغداد ودمشق وبلاد فارس تستلهمين الأفكار , لربما استطعت أن تجدى بعض القصص ..
هل تعنى التأليف من البداية ؟
إن الحياة حبلى بالأفكار ..



ومن يسمح لى بهذه الفترة ؟ .. لقد رأيت بنفسى كيف طار عنق شهرزاد لأنها طلبت مهلة تستجمع فيها الإلهام ..
قال فى ثقة :
لا تقلقى بهذا الصدد .. يمكن أن أتفاهم مع شهريار .. يجب أن يقبل وإلا فلن تكون هناك ألف ليلة وليلة وبالتالى لن يكون هو نفسه موجوداً ..
فكرت قليلاً .. تبدو فكرة معقولة بالإضافة إلى أنها لا تملك الخيار .. لقد وضعتها فانتازيا فى هذا الموقف وعليها أن تقبل ..
هزت رأسها موافقة , وسألته :
متى نبدأ ؟
على الفور .. لكن لا بد أولاً من لقاء بعض الشخصيات المهمة ..
مثل من ؟ .. شكسبير ؟
تقريباً .. سوف تفهمين أكثر عندما تقابلينهم ..
**********

سيريناد 18-07-19 12:33 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 

7 – ما قبل ألف ليلة وليلة ..
السادة الجالسون كانوا مرعبين حقاً ..
لو كان ها معرضاً للحى والسوالف الكثة والثياب الفكتورية , فهو أنجح معرض ممكن .. وكانوا يرمقونها فى شك وكراهية ..
جلست عبير إلى المنضدة وأدركت انها لحظة عسيرة أخرى من لحظات فانتازيا .. لكنها على الأقل اطمأنت لوجود المرشد ..
بدا لها الأمر كأنها مقبلة على محاضرة يلقيها عدة أشخاص ..
وقف المرشد فى مركز الصدارة من المنضدة حسب قواعد الاتيكيت , وفرد صدره وقال بطريقة خطابية :
مما يسعدنا أن يكون معنا المسيو ( أنطوان جالان Galland ) الذى ينسب له أنه ترجم الليالى للأوروبيين للمرة الأولى عام 1717 .. وقد سمع هذه القصص من أحد المسيحيين فى حلب – سوريا .. لقد كان نجاح هذه التجربة ساحقاً ..


ثم أشار إلى رجل بريطانى الملامح ملتح مخيف جداً.. تذكرت عبير أنها تعرفه لكنها لم تذكر أين , فقال المرشد :
عند منابع النيل سبق لك لقاء السير ( بيرتون Burton ) . إنه مغامر شهير وخبير لغات شرقية وأفاق ونصاب كذلك .. يذكر التاريخ أنه تنكر كتاجر تركى مسلم كى يدخل مكة ويرى كيف يبدو الحج , وقدترجم ألف ليلة وليلة وكتاب كاما سوترا الهندى بلا حذف ..
كانت هذه خطوة جريئة جداً فى انجلترا الفكتورية .. إن ألف ليلة وليلة مليئة بما لا يصح أن يقرأه صغار السن كما تعرفين ..
نظر لها السير بيرتون نظرة وقحة وراحت عيناه تجولان فيما يتجاوز وجهها , فأدركت أنه استحق سمعته كرجل شديد الشهوانية .. لقد وجد ضالته فى ألف ليلة وليلة وكتاب كاما سوترا الهندى الذى هو فى الحقيقة مرجع لتعليم العلاقات الشهوانية . زاد الطين بلة بقيامه بإضافة ملاحظاته الخاصة .. يعنى من دون إضافته كان يمكن لبعض المقاطع أن تمر على من يقرأ , لكن الرجل حرص على أن يتغزل بها ويبرزها . على كل حال كانت ترجمته لألف ليلة هى الأكمل على الإطلاق ..
أما الأخ الثالث فهو :
دكتور ( مارادو ) الفرنسى الذى أصدر ترجمة عام 1898 ..


أخرج بيرتون سيجاراً عملاقاً قضم من طرفه قطعة وأشعله فتصاعدت سحابة كثيفة عطرة الرائحة , وسعل مرتين ثم قال :
كتاب ألف ليلة وليلة بالغ الأهمية .. يمكن بلا مبالغة القول إنه هومن صنع جوته ولافكرافت وإدجار آلان بو وفلوبير ودوما وشوسر وبوكاتشيو وكونان دويل وويلز وكويليو و .. و .. لقد قدم للغرب فن الخيال وفن السرد , ومن تحت عباءة ألف ليلة نضج الأدب الغربى .. وهو اليوم يعيد تصدير نفسه للشرق من جديد ... رباه !
ونفث سحابة كثيفة أخرى من الدخان وقال :
أنا فخور بما قمت به !
هنا تدخل جالان فوقف كالمحاضرين وقال :
هناك قصة محورية هيكلية هى قصة شهريار مع شهرزاد .. ثم تتفرع القصص التى تحكيها هى , وكل قصة تقود لقصة قد تقود لقصة أخرى .. فى هذه القصص تجدين آلاف الحيل الأدبية .. لا توجد حيلة أدبية معروفة لم تتطرق لها ألف ليلة وليلة ..


سألت عبير فى حرج :
آسفة على السؤال غبى .. لكن من هو المؤلف ؟ ..
لا أحد .. لا أحد يعرف .. لقد ذابت فى هذا الوعاء قصص فارسية وهندية وعربية ومصرية .. مثلاً قصة شهريار مع شهرزاد لها أصل هندى واضح .. هناك من وجد قصصاً تمت لحضارة ما بين النهرين , والبعض وجد قصصاً لها أصل يونانى مؤكد . يمكن القول إنه الشرق وقد تم تذويبه فى كتاب واحد ..
لا يوجد كتاب آخر يحوى هذا الخليط الساحر من العفاريت والسحر والشخصيات الحقيقية والخيالية ..
قال بيرتون ولعابه يسيل :
ولا كل هذا القدر من الإثارة الشهوانية ..
كانت عبير تعرف أن المجتمع الذى تتحدث عنه الليالى مجتمع ماجن عابث .. الكل يشرب الخمر بسهولة تامة , والكل يقضى وقته مع الجوارى , وكل امرأة خائنة بطبعها . الشريفة شريفة لأنها لم تجد فرصة للانحراف بعد . لهذا كانت معظم النسخ الموجودة فى السوق المصرية نسخاً مراقبة بعناية .. وفى الحقيقة لم تفقد الكثير من روعتها بهذا التهذيب , مما يدل على أن العنصر الشهوانى مقحم ..


كانت عبير تعرف أن المجتمع الذى تتحدث عنه الليالى مجتمع ماجن عابث .. الكل يشرب الخمر بسهولة تامة , والكل يقضى وقته مع الجوارى , وكل امرأة خائنة بطبعها . الشريفة شريفة لأنها لم تجد فرصة للانحراف بعد . لهذا كانت معظم النسخ الموجودة فى السوق المصرية نسخاً مراقبة بعناية .. وفى الحقيقة لم تفقد الكثير من روعتها بهذا التهذيب , مما يدل على أن العنصر الشهوانى مقحم ..
قال جالان مواصلاً محاضرته :
يتكرر كثيراً ظهور هارون الرشيد ووزيره جعفر .. هارون الرشيد هنا شخصية مخلقة بالكامل تختلف عن الشخصية التاريخية , فهو عابث يقضى الوقت مع الجوارى ويتسلى بهذه القصص المسلية التى ترد له . هنا خطأ تاريخى واضح لأن الدولة الساسانية زالت قبل هارون الرشيد بمائتى عام .. إذن كيف تحكى شهرزاد لشهريار – وهو من ملوك الساسان – عن هارون الرشيد الذى سيأتى بعده بقرنين ؟


جلس الرجل فنهض دكتور ( مارادو ) الفرنسى واتجه نحو لوح كتابة وبدأ يشخبط عليه بقطعة من الطبشور .. كان يرسم دوائر داخل دوائر ..لا .. هذه ليست دائرة بل حلقة دخان من سيجار بيرتون . قال مارادو :
القصة داخل القصة .. التقنية الأهم فى ألف ليلة وليلة .. تقليد فارسى قديم .. هناك تقنيات أخرى مهمة مثل الإرهاص أو الغرس .. حيث تقدمين معلومة أو شخصية لا يعرف القارئ أهميتها .. لكن أهميتها تتضح فيما بعد . هناك ألعاب زمنية خبيثة تتكرر فى عدة قصص وهى ألعاب متقدمة جداً تقنياً .. هناك الحلم المتبادل .. هناك النبوءة التى تتحقق ..
قال بيرتون وهو ينفث سحابة كثيفة أخرى :
إن ألف ليلة وليلة مزيج لعدة ثقافات , لكن فى النهاية لها مذاق عربى عراقى أصيل .. إن بغداد فى كل مكان منها وتتنفس فى كل صفحة .. لغة السرد ذاتها تشى بأن الراوى من بغداد ..


كانت عبير تصغى فى رهبة محاولة أن تحتفظ بهذا الكلام فلا تنساه .. معلومات كثيرة لكن كيف تنتفع بها ؟ . الحقيقة أنها لم تشعر قط أن الكتاب بهذه الأهمية .. كانت تعتبره مجرد كتاب مسل , لكن كلام هؤلاء القوم يوحى بأنه مجرة ثقافية كاملة .
قال جالان مواصلاً سباق قذف الطوب على رأسها :
يغلب الظن أن ألف ليلة وليلة وضعت بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر , لكنها لم تكف عن النمو منذ ذلك الحين ..
ثم نظر لها نظرة خطيرة كأنه مدير مخابرات فرغ من شرح المهمة لعميله :
النصيحة هى : لتكن نقطة ارتكازك بغداد .. تنطلقين منها وتعودين لها .. اختلطى بالناس وحاولى أن تجدى قصصاً .. إن هذا التراث الإنسانى العملاق أمانة بين يديك , ولولا أن شهريار تهور وقتل شهرزاد لظل هذا التراث حياً للأبد .. لكنه موشك على الانقراض .. وبانقراضه لن يكون هناك أدب معاصر .. نعم .. إن الأمر بهذه الخطورة فعلاً ...



قال بيرتون وهو ينفض رماد السيجار على شرشف المائدة الأبيض الأنيق :
هناك قواعد عدة سوف تتعلمينها .. مثلاً النساء العجائز خطرات جداً ولا يمكن الوثوق فيهن .. بالذات اللاتى يظهرن تدينهن وورعهن . كل إنسان فى ألف ليلة وليلة يشرب الخمر ببساطة حتى لو لم يذقها طيلة حياته من قبل . الإيمان بالقدرية شديد جداً .. كل الناس صيادون أو أمراء .. كل الجوارى يحفظن القرآن والشعر العربى وخبيرات فى الطب وعلم الفلك والفقه .. هارون الرشيد موجود فى كل مكان ومتنكر دائماً .. العدد أربعون مهم جداً وكذلك العدد ثلاثة .. كل النساء خائنات تقريباً .. الجان فى كل مكان .. كل إنسان ينشد الشعر فى أية لحظة , وطريقة استحسان الشعر هى أن يشق المرء ثيابه ويغشى عليه .. العطور مهمة جداً ومن علامات الترف .. سوف تلاحظين المساواة الكاملة بين الأديان والتسامح الشديد .. قلت للأوروبيين إن اليهود لم ينالوا قط تدليلاً كالذى نالوه فى العصر الذهبى الإسلامى , فلم يصدقنى أحد ..
راحت عبير تدون بسرعة كل هذا فى مفكرة صغيرة , فلما انتهت ساد صمت رهيب ..
أخيراً قال لها المرشد :
هيا بنا .. الوقت ضيق !!
*********



8 – ما هى الزرباجة ؟
كانت عبير تركب بغلة وتمشى فى سوق شرقية ما ..
لم تعرف أين هى بالتحديد .. على الأرجح هى فى بغداد ...
أمامها يركض عبد من عبيد القصص حافياً عملاقاً , وخلفها يركض عبد آخر ..
إذن هى ثرية ومن الواضح أنها فاتنة ... إن هذا المنظر الغامض اللافت للنظر هو تقريباً مشهد ظهور كل حسناء فى ألف ليلة وليلة ..
لاحظت ذلك الرجل الذى يلبس ثياباً عصرية نوعاً ويضع العوينات , ويبدو مثل تشيكوف إلى حدا ما .. كان يمشى جوار البغلة بنفس سرعتها ويدندن شيئاً ثم يدون كلمات فى مفكرة يحملها ... لم تكن بحاجة إلى السؤال :
أنت الموسيقار الروسى ريمسكى كورساكوف طبعاً ..
أحنى رأسه فى تهذيب وقال وهو يلهث من فرط المشى الحثيث :
بعينه .. أنا منهمك فى كتابة مقطوعة شهرزاد التى ستخلد اسمى .. لكن الفوضى التى حدثت فى الليالى كادت تدمر إلهامى تماماً ..



قالت عبير وهى تركل خاصرة البغلة :
لا أعرف كيف يكتبون الموسيقى , لكنى فقط أهنئك عليها , وأطلب منك ألا تتدخل أو تعوق مغامراتى ..
هذا آخر شئ أريده ..
وسرعان ما كان مشيه قد تأخر عن مسيرتها كثيراً ...
توقفت البغلة عند متجر ثياب على جانب الطريق , وهرع العبد إلى الداخل ثم عاد بالتاجر , وهو شاب وسيم بدا عليه الذعر .. ثم رآها فبدا عليه الذهول فالإعجاب ..
ككل فتيات هذه القصص ازاحت الخمار قليلاً لتسمح لذلك السهم الفاتن بأن يخترقه , وشعرت بنشوة كاملة عندما رأت تأثير هذه الطعنة عليه ..
يا فتى .. هل عندك ثياب جميلة ؟



لم يكن عنده لكنه كعادة التجار قادر على أن يأتيها بما تريد من التجار الآخرين , وقد راح يركض هنا وهناك يأتى لها بالعينات من الثياب وهى تختار فى كبرياء .. هذا يصلح .. لا أعرف بصدد هذا .. ربما لو كان هذا اللون أغمق ..
ثم إنها سألته من هو ...
قال فى شئ من الحياء :
أنا ابن تاجر كبير من بغداد , لكن أبى كان مولعاً باللهو فلم يترك لى إلا الديون .. لكنى استطعت بصعوبة بالغة أن أسدد الديون وأبدأ فى الكسب .. – وراح يحصى ما أخذته وقال – خمسة آلاف درهم .. ليس بالمبلغ الهين ..
ثم صمت .. وأدركت أنه يخجل من أن يطالبها بالدفع ... جميل .. ليس معها مال الآن ..



كانت الآن تعرف أنها جارية ( زبيدة ) زوجة هارون الرشيد شخصياً .. إنها بمثابة طفلتها المدللة .. لا مشكلة فى شراء الثياب الفاخرة فهى قادرة على الدفع ..
هكذا أخذت الثياب وانصرفت ...
ولم تدر أن الفتى لن ينام ليلته .. ليس بسبب القلق على المال .. إن أبطال ألف ليلة وليلة لا يسهرون لأسباب كهذه , ولكن يسهرون بسبب الهوى وتباريحه ..
فى الأسبوع التالى عادت إلى السوق .. إلى نفس الشاب ..
كما توقعت لم يسألها عن المال , وراح كالأبله يجلب لها أثواباً وأقمشة جديدة .. إلا أنها قررت أن ترفق به هذه المرة فأخرجت تلك الزكيبة المألوفة المليئة بالذهب وقالت فى دلال :
هات الميزان وزن مالك ..
وبالفعل دفعت ثمن ما أخذته وأجزلت له العطاء .. ثم سألته بطريقة عابرة :
هل لك زوجة ؟
قال متلعثماً :
لا .. أنا غيرمتزوج ..
تهيأت للرحيل مع عبديها ..



وعند ركن الشارع انتحت جانباً بأحد العبدين وطلبت منه أن ينقل للفتى الرسالة التالية .. هى ترغب فى الزواج منه .. سيدتها زبيدة موافقة بشرط أن ترى الفتى جيداً .. على الفتى أن يذهب لقصر هارون الرشيد ليخضع لمقابلة شخصية مع السيدة زبيدة .. الاختبار الأهم هو ألا يشعر به أحد .. فإن شعر به أحد كان الثمن عنقه ..
ذهب العبد للتاجر وتم الاتفاق معه ...
وفى المساء ذهب التاجر الشاب المفعم حباً إلى المسجد الذى بنته زبيدة على نهر دجلة , فصلى العشاء ثم أمضى الليل هناك .. كانت هذه هى التعليمات ..
فى المسجد كانت هناك صناديق فارغة , وعرف الفتى أن عليه أن يتوارى فى صندوق منها ...
تم كل شئ بسرعة وتم نقل الصناديق إلى القصر . وعندما انفتح الصندوق وجد الفتى نفسه وسط عشرين جارية بارعة الحسن , ووسطهن السيدة زبيدة شخصياً ..
إنها سيدة أريبة بالتأكيد .. من تنجح فى السيطرة على هارون الرشيد وتظل زوجته كل هذه الأعوام هى امرأة تملك دهاء عدة قواد ..

لم تكن عبير فى المجلس .. كانت واقفة وراء ستار تراقب اللقاء .. تراقب أسئلة زبيدة الدقيقة الصارمة للفتى .. تريد أن تعرف من أبوه ومن أمه ومن أين جاء بماله .. ثم فى النهاية قالت :
أنا موافقة .. سوف تقيم معنا لمدة عشرة أيام إلى أن أطلب الإذن من الخليفة ..
كاد الفتى يطير فرحاً وهوى على الأرض يلثمها بين قدمى زبيدة .. بينما أبدت هى التأفف الأرستقراطى المناسب ..
تم كتب الكتاب وصارت عبير عروساً للفتى ..
جلست عبير فى قمة زينتها إلى مأدبة العروسين , وكانت المأدبة مليئة بأصناف لا يمكن تبينها .. إنه المطبخ العباسى المترف ..
كان هناك طبق عملاق فيه شئ لا يمكن فهمه .. ربما طاووس محمر أو حوت مدخن أو حوت التهم طاووساً .. مالت عبيرعلى الجارية جوارها وسألتها عن هذا فقالت :
خافقية زرباجة محشوة بالسكر , وعليها ماء ورد ممسك , وفيها أصناف الدجاج المحمرة , وغيره من سائر الألوان مما يدهش العقول ..




مما يدهش العقول ؟ .. وما دخل السكر وماء الورد بالدجاج ؟ .. على كل حال هذا دائماً هو وصف الطعام فى قصص ألف ليلة وليلة , كما أن للهوى عبارات محددة تتكرر فى كل مرة , مما يدل على أن مؤلفى ألف ليلة وليلة كانوا يصفون ما يتحلب لعابهم من أجله .. هذا نوع من إشعال الخيال الشعبى ..
الفتى كان يحب الزرباجة كما هو واضح لأنه انقض عليها انقضاضاً , لدرجة أن عبير لم تفهم مكوناتها .. فقد لوث لحيته وفمه وأنامله كطفل يلتهم ( السريلاك ) ..
انتهى من الأكل فمسح يديه وتجشأ بصوت عال , بينما جاءت الزفة .. الزفة مجموعة من الجوارى يحملن الشموع ويقدن العروسين إلى المخدع ..
لما صارت وحدها معه فى ضوء الشموع , وضع يده على كتفها .. هنا اكتشفت شيئاً .. هى لا تعرف ما هى الزرباجة لكن لها ألعن رائحة يمكن وصفها عندما تلتصق باليد ..
صاحت فى جنون :
ألم تغسل يدك ؟


قال فى ارتباك :
بلى .. لكن .. نعم . اكتفيت بمسحها ..
كانت الرائحة تثيرجنونها ... وأدركت أنها تمر بحالة من الهستيريا لا مثيل لها .
صاحت منادية الجوارى :
تعالين حالاً !!
امتلأ المخدع بالجوارى الفاتنات , لكنهن مع العدد الكبير صرن مرعبات .. وقالت لهن :
هاتوا متولى ... ليقطع يده التى أكل بها الزرباجة ولم يغسلها !
قطع يد ؟ .. لماذا قالت هذا ؟ .. الأمر لا يستحق هذه الضوضاء والفتى لم يأكل فسيخاً مثلاً ليستحق ! .. لكنها أدركت أنها تنفذ خطوات قصة ما ..
لما بدت الجوارى غير متحمسات لهذا العقاب أمرتهن عبير بأن ينادين متولى .. اسم غريب جداً لجلاد لكنهما حدث ..
قيدت البنات الفتى على حين قطع متولى بالموسى إبهامى يديه وإبهامى قدميه .. الفتى يصرخ فى جنون صراخ من يُقطع إبهاماه ..



أقسم بالله ألا آكل الزرباجة بعد اليوم , إلا وقد غسلت يدى مئة وعشرين مرة بعدها .. أى ! ...
ثم فقد الوعى ..
الآن كان على عبير أن تعنى به وترفق به حتى يسترد صحته .. كأنها هدأت لما سمعت هذا القسم العجيب ..
عادت الأمور لمستقرها بعد هذا , كأنه من الطبيعى جداً أن تقطع الزوجة أصابع زوجها لأنه لم يغسلها .. لقد عادا زوجين متحابين سعيدين .. لكن الفتى ظل يحمل عقدة الزرباجة ويتحاشى أكلها فى أى وليمة , إلا بالطبع لو كان ينوى أن يغسل يديه 120 مرة ..
دونت عبير تفاصيل هذه القصة , ولم تدر كيف تستفيد منها .. أضف لهذا أنها تافهة , والأسوأ أن يكون مغزاها الأخلاقى هو : اغسل يديك قبل الأكل وبعده ..
على كل حال هى ما زالت تستكشف عوالم القصص ..
*********


وجدت نفسها فى بلاط شرقى يبدو كأنه لملك صينى أو يابانى ..
على عرش عظيم جلس الملك العظيم الذى يجيد العربية كأهلها ككل ملوك ألف ليلة وليلة .. وكان متحمساً يصدر الأوامر لرجاله :
أريد أن تكتبوا هذه القصة بماء الذهب !
أية قصة ؟ .. لا بد أنها رائعة ..
على كل حال أية قصة تروق للوالى أو الحاكم تكتب بماء الذهب .. كما أنها دائماً ( لو كتبت بالإبر على آماق البصر لصارت عبرة لمن يعتبر ) . كل القصص مذهلة ويجب تخليدها للأجيال القادمة .
أمام الملك الصينى كان رجل يلبس كخياط .. كيف يلبس الخياط ؟ .. هذه أسئلة بديهية لا داعى لإضاعة الوقت فيها ..
كانت هناك جثة راقدة على الأرض على جانبها .. أما لماذا أرقدوها على جانبها فلأن صاحبها أحدب .. وكان فمه مفتوحاً مع علامات اختناق واضحة تتبدى فى لونه ..
لو كانت عبير ذات خبرة طبية لشقت قصبة الرجل الهوائية وغرست فيها أنبوباً , أو لقامت بمناورة هايمليخ التى تحول أحشاءه إلى مدفع يقذف بما استقر فى الحنجرة ..


القصة كما فهمتها عبير هى أن الخياط كان متهماً بقتل الأحدب .. الخياط يؤكد أن الوفاء قضاء وقدر , لأنه دعا الأحدب للعشاء فى بيته .. كان هذا العشاء سمكاً مقلياً وخبزاً وليموناً .
يبدو أن الأحدب ازدرد قطعة سمك هائلة بما فيها من شوك .. فتورم حلقه ومات .. ولم يعرف الخياط ما يفعله فتخلص من الجثة ..
كان هناك طبيب .. والطبيب فى ذلك العصر كان على الأرجح مزيناً – حلاقاً – وقد راح يتفحص المتوفى ويفتح حلقه .. ثم هتف :
الأحدب حى يا ملك الزمان !
كان الملك يحب هذا الأحدب فعلاً , لأنه يضحكه .. وقد بدت له ميتته قاسية فعلاً لأنه يعنى مستقبلاً مملاً .. دنا فى وقار من المشهد أكثر ومط عنقه .. طبعاً كان من المفهوم أنه سيقطع رقبة المزين لو كان يهذى ..
أخرج المزين من حزامه عدة طبية كاملة : مكحلة بها دهان .
دهن به عنق الأحدب الميت , ثم أخرج كلابين وفتح فم الرجل وبعناية التقط قطعة السمك ...
هنا فقط سعل الأحدب وعطس ثم نهض وهو يردد :


لا إله إلا الله .. محمد رسول الله ..


انفجر ملك الصين يضحك .. يهتز .. يضحك .. عيناه دامعتان . كرشه يهتز .. ثم فقد وعيه وهو ما بدا غريباً لعبير لأن الموقف لم يكن ظريفاً لهذا الحد ..


لما أفاق الملك أمر بكتابة القصة بماء الذهب , ثم خلع على الخياط والمزين وعبير ..


قالت عبير فى خجل :


لكنى لم ...


لكن أحد العبيد نظر لها نظرة مخيفة .. ليس هذا وقت الرفض والقبول ..


هكذا انصرفت عبير وهى تفكر فى هذه القصة .. أحدب حسبوه مات لكنه لم يمت .. ما الجديد فى هذا وما الطريف ؟


لو حكت هذه القصص لشهريار لكان عليها أن تحفر قبرها أولاً .


********

سيريناد 18-07-19 12:43 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 


9 – مقلب ساخن ..
أحياناً يكون الانتقام شهياً .. خاصة عندما يقوم به زوج غيور ..
المشكلة هنا أن الزوجين هما اللذان استدرجا الفتى لهذا الشرك , وهذه تيمة تتكرر كثيراً فى ألف ليلة وليلة ..
كانت عبير متزوجة .. المكان هو بغداد ..
هناك نافذة جميلة ذات طراز عربى رائع من النوع الذى نسميه عندنا ( مشربية ) , ومنها كانت تطل على زقاق .. الزقاق فيه متجر خياط على الجهة الأخرى ..
كان الخياط جالساً وقد رجلاً على رجل وراح يخيط بعض قطع الثياب , ثم نظر لأعلى فالتقت عيناه بها .. الكهرباء ! .. السحر ! رأت عبير فى عينيه الانبهار المجنون بها , وعرفت أنها على الأرجح ستكون فاتنة فى أغلب هذه القصص ..
هكذا لم يعد يخيط شيئاً تقريباً .. أو للدقة صار يخيط أصابعه إلى بعضها ..
زوج عبير التقط الخيط .. ألقى نظرة على الزقاق وعرف ما هنالك ..


من دون كلمة حمل مجموعة من الأقمشة ونزل للخياط وطلب منه أن يفصل له هذا القماش قمصاناً ..
كان الخياط قد تحول بفعل الهوى إلى إنسان آلى , لذا هز رأسه موافقاً وراح يخيط ويخيط ..
فى نهاية اليوم جاءه الزوج ليأخذ عشرين قميصاً وسأل عن الثمن ..
هنا نظر الخياط إلى عبير فى المشربية , فلوحت بيدها أن لا .. لا تأخذ منه شيئاً ! .. هذه القمصان تخصها .
هكذا لم يتقاض شيئاً.. وقع فى عملية نصب ممتازة تعتصر جهده كله ..
**********


ككل قصص ألف ليلة وليلة لا بد من جارية تأتى للرجل وتخبره أن سيدتها ترغب فى لقياه .. أين ؟ .. فى الطاحونة تحت البيت ..
هكذا دق قلب الخياط واجفاً وعندما جاء الليل اتجه إلى الطاحونة .. الظلام دامس لكن الغرام يجعله شجاعاً ..
ذهب زوج عبير إلى الطحان وطلب منه تلك الخدمة .. هناك ثور آدمى فى الطاحونة وهو بحاجة إلى بعض التأديب ..
هكذا ذهب الطحان إلى الطاحونة فى الظلام , وأمسك بالخياط وربطه فى حجر الطاحون وهو يقول :
هذا الثور كسول برغم أن كمية القمح المطلوبة منى كثيرة .. سوف أربطه فى الحجر حتى الصباح !
وهكذا لم يجرؤ الخياط على الكلام , ووجد نفسه يدير الحجر فى صمت .. بينما تنهال عليه ضربات السياط ..
لم ينقذه إلا الفجر وقدوم الجارية لتحرره .. وتعتذر له , لكنه كان عاجزاً عن الكلام ..


عاد للسوق والمتجر كل عظمة فى جسده تؤلمه , فقرر أن ينسى كل شئ عن الحب .. لكن عبير أرسلت له الجارية كالعادة :
سيدتى مشتاقة لك وهى تقف فوق السطح بانتظارك ..
خرج الرجل متشككاً خائفاً ليكلم عبير .. فقالت له من أعلى :
لماذا قطعت التعامل بيننا ؟.. أقسم بالله إن ما حدث فى الطاحونة لم يكن لى فيه ذنب ..
وقالت له الجارية إن زوج عبير سيبيت خارج البيت هذه الليلة . هذا سيتيح فرص الوصال ..
هكذا ابتلع الثور الأحمق الطعم وذهب فى المساء إلى حيث كانت عبير.. مد يده لها لكن يداً أخرى هوت على قفاه ووجد نفسه يطير فى الهواء ..


وسرعان ما وجد الزوج يحمله إلى صاحب الشرطة – وهو الاسم القديم للمخفر- فتولوا ضربه علقة ساخنة بالسياط , ثم أركبوه جملاً وطافوا به شوارع بغداد .. طبعاً هذه كانت أسعد لحظة فى حياة الصبية الذين تولوا ضربه بالطوب وسكبت النساء الماء القذرعليه ...


لم تنته آلامه لأنه سقط من فوق الجمل فكسرت قدمه .. هكذا صار أعرج ....


هذه هى القصة كلها ! ....


مقلب لا بأس به لكنه لا يصلح لكى يكون حكاية .. دعك من أن الحب كما هو واضح لا ينتصر أبداً فى قصص ألف ليلة وليلة هذه ..


كانت عبير تشعر بمزيج من التوتر وخيبة الأمل وهى تنطلق لتعيش قصة أخرى ....


*********

هكذا راحت تجمع القصص .. تصغى وتتابع وأحياناً تشارك ..


لاحظت أن هناك مجموعة من القصص تتشابه كثيراً .. هناك شاب وسيم فى متجر , تاجر أو خياط , ثم تظهر له فتاة فاتنة تذهل عقله .. بعد هذا يتورط الفتى فى شئ ما .. هناك عدد أكثر من اللازم من الأطراف المبتورة .. أكثر منشاب فقد يده لأنه اتهم بالسرقة ..


هل هذا يحمل بصمة مؤلف واحد ؟ ...


مثلاً القصة التى كانت تعيش أحداثها هذه الأيام وكانت تدور فى مصر بالذات , كانت أحداثها كما يلى :


هناك شاب وسيم فاخر الثياب يأكل مع تاجر مسيحى , والملاحظ أن الشاب لا يستعمل سوى يده اليسرى مما يثير فضول المسيحى ..


سأله التاجر :


لماذا تأكل بيدك اليسرى ؟ .. هل باليمنى عاهة ما ؟




ككل واحد من أبطال ألف ليلة وليلة كان الشاب جاهزاً ببيتى شعر :
خليلى لا تســــــــأل على مابهم حتى
من اللوعة الحرى فتظهر أسقام
وما عن رضا فارقت سلمى معوضاً
ولــكــن للـــضــــرورة أحــكـام

طبعاً مقطع شعر ردئ .. معظم أشعار ألف ليلة وليلة رديئة لكن لها تأثير السحر على الأبطال , الذين يغشى عليهم أو يشقون ثيابهم أو يصرخون من الطرب فترتج القاعة من هول صرختهم ..


ثم إن الشاب أخرج ذراعه المتوارية خلف ثيابه فاتضح أنها مبتورة ..


بدأ يحكى قصته .. معظم أبطال ألف ليلة وليلة لهم قصة طويلة معقدة ...


لقد جاء الفتى من بغداد ليبيع القماش , وذهب إلى مكان يدعى قيصرية جرجس حيث حاول أن يبيع بضاعته مرة واحدة .. لم يستطع سوى أن يحصل على أمواله بالتقسيط ... وموعد القسط هو الاثنين والخميس من كل أسبوع ..



دخلت الحمام يوماً من الأيام وخرجت إلى الخان ودخلت موضعى , وأفطرت على قدح من الشراب , ثم نمت وانتبهت فأكلت دجاجة وتعطرت , وذهبت إلى دكان تاجر يقال له : بدر الدين البستانى فلما رآنى رحب بى وتحدث معى ساعة فى دكانه
هنا ظهرت عبير كالعادة ..
فتاة فاتنة تذهب العقول جاءت لتأخذ قطعة من القماش المشغول بالذهب . سوف تنقد بدر الدين ماله بعد أيام , لكن بدر الدين طلب ماله حالاً .. لأن الفتى جالس ينتظر وهذاموعد حصوله على القسط الأسبوعى الخاص به ..
نظرت عبير إلى الفتى نظرة من تلك النظرات التى تذهل الرجال , وابتسمت .. وكانت تعرف ما سيحدث .. الشهامة سوف تتحرك به إلى درجة أنه سيعرض عليها أن تأخذ ما تريد وتسدده فيما بعد .. فيما بعد .. ربما بعد ألف عام ..
إن رجال ألف ليلة وليلة يضعون الحب والجمال فى المرتبة رقم واحد . وهم أقرب إلى البلاهة يسهل خداعهم .. إن هرموناتهم هى صاحبة الكلمة الأولى فى أى قرار يتخذونه ..
لما رحلت الفتاة ظل الفتى يحدق فى الفراغ مذهولاً , ويبدو أنه نسى أين هو .

قال التاجر بدر الدين بلهجة العارفين :
إنها غنية .. هى ابنة أمير , وقد ورثت ثروته ..
الآن يعود الفتى إلى الخان الذى يقيم فيه , فيمارس أهم دور لأبطال ألف ليلة وليلة .. لا ينام .. لا يأكل .. مقروح الجفن لا خليل له سوى لواعج الغرام وتباريح الهوى ..
ومن جديد تأتيه الجارية لتبلغه أن سيدتها تهيم به حباً , وأنها تدعوه للقائها .. عليه أن يصلى الجمعة ثم يتوجه إلى باب زويلة ثم يسأل عن قاعة بركات النفيب المعروف بأبى شامة .. هذا هو عنوانها .. لا تنس أن الفتى عراقى والوصول لهذا العنوان مشكلة ..
خليط عجيب من التدين والصلاة والخمر والعربدة .. خليط لا يمكن فهمه فعلاً , لكننا اعتدناه فى صفحات ألف ليلة وليلة ..
*********



دق الفتى الباب ففتحت له جاريتان كأنهما قمران , وقالتا له :
ادخل .. إن سيدتنا تموت شوقاً لك ..
كانت الفاعة مغلقة بسبعة أبواب , وفى دائرها شبابيك مطلة على بستان فيه من الفواكه جميع الألوان , وبه أنهار دافقة وطيور ناطقة , وهى مبيضة بياضاً سلطانياً يرى الإنسان وجهه فيها .. وسقفها مطلى بذهب وفى دائرها طرزات مكتوبة باللازورد , قد حوت أوصافاً حسنة وأضاءت للناظرين , وأرضها مفروشة بالرخام المجزع , وفى أرضها فسقية , وفى أركان تلك الفسقية الدر والجوهر مفروشة بالبسط الحرير الملونة والمراتب ..
هذاهو وصف الأماكن غالباً ... كل مكان مذهل يذهب بالعقول ..
أما عن الطعام الذى قدمته عبير فهو كالعادة :
سفرة من أفخر الألوان من محمر ومرق ودجاج محشو ..
بعد الأكل قدموا له الطست والإبريق فغسل يده ثم تطيب بماء الورد والمسك .. هذه هى الطقوس ..
فى الليلة التالية عاد الفتى .. وقد غلبته عادة سيئة هى أن يترك لها فى كل مرة منديلاً به دنانير , كما أنه يعد فى فى كل يوم عشاء فاخراً ويرسله لعبير مع ( حمار ) . الطريقة القديمة لخدمة الدليفرى .
يوماً بعد يوم بعد يوم ... لقد أفلس الفتى ..



إن الإفلاس مع الرغبة فى البذخ مع الحب عوامل ثلاثة تقود المرء إلى الجنون ..
والجنون الذى وقع فيه الفتى هو أنه كان ذاهباً للقاء حبيبته , عندما اصطدم بجندى .. لا أحد يسرق جندياً ما لم يكن مجنوناً , والفتى مجنون .. مد يده إلى صرة المال المعلقة فى نطاق الجندى وأخذها ..
هنا نقول من جديد إنه ما من أحد يحاول نشل جندى وهو لم ينشل فى حياته ما لم يكن مخبولاً , والفتى مخبول .. هكذا شعر الجندى بيد الفتى الثقيلة وهى تنتزع ماله ..
هوى على وجهه بصفعة ثم اثنتين .. وسرعان ما التف الناس حول المشهد المهيب وتلقى الفتى علقة ممتازة .
حدث هذا أثناء قدوم الوالى ..
كانت السرقة ثابتة , والشهود كثيرون .. وهكذا أصدر الوالى أمره بقطع يد الفتى اليمنى ..
هكذا وقف الفتى ينزف وقد فقد يده اليمنى للأبد .. ورق له قلب الواقفين , حتى أن الجندى ترك له الكيس بما كان فيه من مال .. وقال له إن السرقة حرام , فأنشد الفتى :
والله ما كنت لصاً يا أخا ثقة
ولم أكن سارقاً يا أحسن الناس
ولكن رمتنى صروف الدهر عن عجل
فزاد همى ووسواس إفلاسى


يجب على المرء أن يتحلى بالصبر .. هذا الفتى قطعت يده منذ عشردقائق , ولا شك أنه يتألم كأنه فى الجحيم , وينزف بلا توقف , لكنه قادر على أن يتكلم شعراً .. دعك من المنطق الغريب .. والله لم يسرق ؟ .. إذن ما هو تعريف السرقة ؟
لقد عاد الفتى إلى عبير ولم يخبرها بما حدث له .. قال إنه مرهق ويريد أن ينام ..
يبدو أنه من السهل فى ألف ليلة وليلة أن تخفى أن يدك مقطوعة . لقد قلقت عبير وجاءته بشئ من الطعام والطعام كالعادة هو : سفرة من أفخر الألوان من محمر ومرق ودجاج محشو ..
لماذا لا تتكلم ؟ .. احك لى عما حدث لك اليوم ..
قدمت له كأساً من الشراب فرأته يتناوله بيده اليسرى ..



لماذا تستعمل يدك اليسرى ؟ .. هل تغير مركز التحكم فى مخك ؟
لكن الفتى أصر على ألا ترى يده ..
بعد عدة كئوس نام الفتى نوماً عميقاً .. هكذا مدت عبير يدها إلى كمه تعبث .. هكذا رأت يده المقطوعة .. وفى حزامه وجدت كيس المال .. بما ان النساء عباقرة فقد استنتجت على الفور أنه سرق وقطعت يده .
لم تنم ليلتها بل ذهبت لتذبح له أربع دجاجات ليعوض الدم الذى نزف منه ..
كانت الآن تشعر بشفقة حقيقية عليه مع زهو أنثوى مزعج .. الرجل الذى يحب امرأة لدرجة أن يبدد كل ماله ويسرق وتقطع يده , لهو عاشق لا تلقاه المرأة كل يوم .. هى لا تبالى بالمال .. لديها أكثرمن حاجتها لكنها بالفعل بحاجة إلى الحب ..



واستدعت الشهود كى تكتب كتابها على الفتى .. ثم قالت لهم :
اشهدوا أن جميع مالى الذى فى هذا الصندوق وجميع ما عندى من المماليك والجوارى لهذا الشاب ..
المفاجأة هنا هى أنها لم تنفق مليماً من المال الذى كان يعطيه لها .. كانت تحتفظ به فى صندوق من أجله .. هكذا صارت السرقة وقطع اليد وسيلة للحصول على الحب الأبدى ... يبدو أن الحب من غير يد يمنى له مذاق ألذ ...
المفاجأة الأجمل هى أنها ماتت بعد ذلك بخمسين يوماً فتركت له ثروتها كلها .. لقد صار الفتى ثرياً !
**********
10 – يجب صنع قصة ..


تجمعت القصص عند عبير .. قصص كثيرة جداً ..


كانت تشعر بتعاسة لأنها لا تعرف كيف تتحرك .. كان شهريار قد أعطاها إجازة لمدة أسبوعين تحاول فيها اكتساب قصص جديدة .. قصص لها ذات طابع ما كانت أختها تحكيه .. لا يريد قصصاً سخيفة عن مدن أوروبية تجتاحها الثورات , أو صيادى لؤلؤ مكسيكيين ..


عرفت أن المرشد نجح بصعوبة فى إقناع شهريار بالتخلى عن مزاجه الليلى لمدة أسبوعين, ويبدو أنه أعطاه مشغلاً صغيراً للأقراص المدمجة كىيستمتع بمشاهدة الأفلام فى فراشه كل ليلة .. لكن شهريار فظ لا يجيد سوى قطع الرقاب , وقد دمر الجهاز على الفور باستعماله الأخرق ..


هكذا عادت إلى القصر مهمومة كاسفة البال ..



استقبلتها الجوارى فقمن بإدخالها الحمام ونظفن جسدها وعطرنها .. ارتدت ثياباً جديرة بالأميرات , لكنها كانت مهمومة فعلاً .. لا تضيعن وقتكن يا فتيات فى تصفيف شعرى , فهذا الشعر الجميل سوف يستقر على النطع بعد ساعات .. هذه الثياب الحريرية الفاخرة سوف تتلوث بالدم ..
كان أكثر ما يضايقها هو أن تحكى تلك القصص التى تنتهى فجأة .. تقول ( تمت ) بينما المستمع يتهيأ للمزيد فيصاب بخيبة أمل وينظر لها غير مصدق .. هذه هى مشكلة ما لديها من قصص ..
جلست وطلبت قرطاساً وريشة ومحبرة .. هذه أشياء يستحيل العثور عليها فى الحريم , لكن الجوارى استطعن أن يجدن بعضها ..


بدأت تكتب :
1 – الصياد الذى حسب أنه قتل الأحدب بشوك السمك . وكان على ملك الصين أن يفصل فى القضية .
2 – التاجر الذى خدعه الزوجان ووضعاه فى حجر الطحين .
3 – المزين الذى رأى عشرة رجال فحسب أنهم ذاهبون لوليمة وانضم لهم .. طبعاً تبين أنهم ذاهبون كى تقطع رقابهم
هناك قصة مماثلة بالضبط بطلها أشعب الطفيلى .
4 – شاب عاشق تم استدراجه إلى بيت حيث ضربه عبد أسود علقة ساخنة , أصيب بعدها بالفالج .
5 – رجل أعور كان جزاراً اتهم بأنه يذبح الناس ويبيع لحومهم .. المشكلة هى أن الناس رأوا جثثاً معلقة فى متجره ، وكانت هذه لعبة خبيثة من ساحر شرير .
6 – رجل دعاه أحد الخبثاء إلى مأدبة لا طعام فيها .. بل هو نوع من البانتومايم ( التمثيل الإيمانى ) .. وكان يسخر منه لكنه رد له الصاع صاعين .
7 – الفتى الذى سرق من أجل الحب وقطعت يده .
8 – الفتى الذى قطعت زوجته إبهامه لأنه لم يغسل يده بعد أكل الزرباجة !
9 – إلخ ... إلخ ......



سوف تحكى هذا كله من دون حماسة شاعرة بالارتباك وأنها سمجة , وسوف ينتقل هذا كله لشهريار .. يجب على راوى القصة أن يكون أكثر الناس حماسة لها .. تستطيع سماع شهريار ينادى السياف كى يقطع عنقها .. وسوف يبحث فى الغد عن زوجة أخرى .
كانت جالسة أمام المرآة تحدق فى أغبى وأتعس وجه رأته فى حياتها ..
هنا انزاحت الستائر من خلفها ودخل شخص ما ..
شهريار ؟
ليس بهذه السترة السوداء والثياب الحديثة .. إنه المرشد كما هو واضح ..
يتقدم نحوها فى تؤدة وهو ينظر للأرض كما يفعلون فى أفلام الوسترن .. بلغ موضعها أمام المرآة فدس أنامله فى عروة حزامه وقال :
هل أنت جاهزة للسرد ؟
قالت فى غم :
تجربة فاشلة جداً ..



نظر للقرطاس الذى دونت عليه خواطرها , ثم انفجر يضحك .. لم تفهم ما هو مضحك فى هذا كله ..
قال لها :
أنت وقعت على قصص ممتازة .. قصص ألهمت شهرزاد نفسها ..لكن لا بد أنك لاحظت الطابع الواحد .. هذه القصص مصدرها مؤلف واحد بلا شك .. هناك دائماً جو السوق وجو التجار والخياطين والأقمشة .. هناك فاتنة تظهر وتخلب لب رجل ثم يتلقى عقابه .. هناك بتر أطراف وبعض القصص فيها فقء عيون .. يمكننا من هذه اللبنات أن نصنع قصة واحدة طويلة ...
ثم أخرج قطعة طبشور لا تعرف من أين جاء بها , وبدأ يخط على الجدار الحجرى ..
التركيب المعروف لألف ليلة وليلة هو الحلقات المتداخلة .. هناك شكل القصص العنقودى كذلك ..
أولاً : هناك القصة المحورية Wraparound التى تبدأ كل شئ وتنهى كل شئ .. إنها قصة شهرزاد ودنيا زاد ... سوف تبدئين السرد بالطريقة التى تعرفينها ..



ثانياً : هناك قصة محورية أصغر .. هذه هى قصة الخياط الذى يدعو الأحدب ليأكل عنده .. تنحشر شوكة سمك فى حلق الأحدب ويموت .. يتخلص الزوجان من الجثة .. هنا تقع بعض المواقف الطريفة , لأن كل واحد يصطدم بالجثة ويحسب أنه هو القاتل ... يحملان الجثة لجارهما الطبيب اليهودى ويفران .. هنا يجد الطبيب اليهودى نفسه فى موقف عسير .. يتخلص من الجثة فوق سطح جاره المسلم على أمل أن تأكلها الكلاب الضالة.
يأتى الجار المسلم ويحسب الجثة لصاً يتربص به فيوكزها بالعصا .. هكذا يخيل له أن عصاه هى سبب موت الأحدب .
يحمل الجثة ويتخلص منها عند جاره النصرانى .. النصرانى كان عائداً فى الظلام فحسب الأحدب لصاً وراح يكيل له الضربات , هنا مر حارس ليلى وحسب أنه رأى عملية قتل .. هكذا اقتاد النصرانى إلى الوالى .. يقرر الوالى عدم إعدام النصرانى لكن المسلم يعترف بأنه القاتل .. قبل إعدام المسلم يعترف اليهودى أنه الفاعل .. قبل إعدام اليهودى يعترف الخياط أنه الفاعل .. وضع محير ! .. سرعان ما يتصاعد الأمر إلى ملك الصين ونعرف هنا أنه كان يحب الأحدب لأنه مضحكه الخاص .. لهذا هو يريد قطع رقاب الجميع .
ثالثاً : هنا يقرر النصرانى أن يحكى قصة للملك لعلها تروق له .. إن ملوك ذلك العصر يتركون القتلة أحراراً لو كانت لديهم قصة مسلية . عملية الحكم مزاجية تماماً وتخضع لانبساط الرجل



تكوين القصة بهذه الطريقة يشبه أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة مبسوط يا سيدى ؟ ؛ حيث يغنى للباشا أغانى قديمة لعله يصفح عنه ولا يدخله السجن .. وفى كل مرة يصرالباشا على أنه لم يستمتع بما يكفى . سوف يحكى النصرانى أنه استضاف شاباً يصر على الأكل باليد اليسرى .. الشاب يحكى له قصة الغرام الذى دفعه للسرقة .. طبعاً لم ترق القصة للملك .. وهكذا ..
رابعاً : يحكى له المسلم قصة الشاب الذى لم يغسل يده بعد الزرباجة . لكن الملك ما زال مصراً على أن يعدم الجميع .. هكذا ..
خامساً : يحكى له اليهودى قصة عن شاب يوشك على الزواج من فتاة حسناء , ويحضر المزين ليحلق ويشذب شعره .. المزين ثرثار جداً كعادة الحلاقين .. لا يكف عن الكلام ثانية واحدة ..




سادساً : يحكى المزين قصته عندما رأى عشرة رجال فحسب أنهم ذاهبون إلى وليمة . تبين أنهم ذاهبون للخليفة كى يقطعأعناقهم .. بعد قطع أعناق عشرة وجد الخليفة العدد زائداً فطلب من المزين أن يحكى قصته .. يقول المزين للخليفة إنه رجل طيب وإنه أفضل واحد من أخوته الخمسة :
الأخ الأول هو الأحمق الذى ربطوه فى حجر الطاحون ..
الأخ الثانى هو الذى كاد العبد يفتك به وأصيب بالفالج .
الأخ الثالث هو الأعور الجزار الذى اتهموه ببيع لحوم البشر .
الأخ الرابع هو بطل أو ضحية محاولة نصب أخرى .
الأخ الخامس هو الذى تلقى دعوة للعشاء مع ممثل بانتومايم .
سابعاً : يسر الخليفة بالقصة ويعفو عن المزين .

ثامناً : نعود إلى ( ثانياً ) .. ما زلنا عند ملك الصين , وما زالت جثة الأحدب سؤالاً ينتظر الجواب . هنا يمد المزين يده فى حلق الأحدب وينزع الشوكة .. فيعود الأحدب للحياة ..
تاسعاً : نغلق الدائرة ونعود لشهريار ودنيا زاد ! .. التى تبدأ قصة أخرى .....
أهنئك .. لقد انتهيت لتوك من تأليف قصة الخياط والأحدب .
هتفت عبير مصفقة بيديها :
أنت بارع حقاً !
قال فى غرور :
طبعاً .. هذه القصص تمنحك عشر ليال على الأقل .. أنت تفهمين الآن كيف تنسجين قصص ألف ليلة وليلة ..
********



عندما جاء المساء كانت عبير جاهزة ..
وعندما دخل شهريار المخدع بقامته الفارعة وعطره وجثته العملاقة , وتمدد على الفراش ينتظر القصص التى ترضى شهوة السمع بعدما نال شهوة الطعام والنفوذ ..
هنا كانت عبير مستعدة لتحكى بصوتها الذى استعارته من زوزو نبيل , مع صوت موسيقى كورساكوف الساحرة التى بدأت تكتمل :
بلغنى أيها الملك السعيد , أنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان فى مدينة الصين , رجل خياط مبسوط الرزق يحل اللهو والطرب , وكان يخرج هو وزوجته فى بعض الأحيان يتفرجان على غرائب المنتزهات , فخرجا يوماً من أول النهار ورجعا آخره إلى منزلهما عند المساء , فوجدا فى طريقهما رجلاً أحدب رؤيته تضحك الغضبان , وتزيل الهم والأحزان , فعند ذلك تقدم الخياط هو وزوجته يتقوزان عليه ثم أنهما عزما عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة , فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت , فخرج الخياط إلى السوق وكان الليل قد أقبل , فاشترى سمكاً مقلياً وخبزاً وليموناً وحلاوة يتحلون بها , ثم رجع وحط السمك قدام الأحدب وجلسوا ........................
************




سيريناد 18-07-19 12:49 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 


11 – يونان وجان ..
واقفة على ضفاف دجلة تفكر فى القصة الجديدة ..
كانت فى الليل تحكى بنجاح تام قصتها ( الأحدب والخياط ) .. وفد راقت لشهريار جداً , وكانت تدرك ذلك من اتساع عينيه وتسارع تنفسه .. الطقل الكبير قاطع الرقاب قد وجد ما يريد ..
لكن كانت هناك ملاحظتان لم تجد لهما تقسيراً ...
منذ أيام يلاحقها ذلك الرجل . رجل يلبس ثياب العرب فى ذلك الزمن , لكنه يبدو مختلفاً .. يبدو أجنبياً أو هو أجنبى فعلاً . كلما نظرت خلفها رأته فى مكان ما , والأسوأ أنه يتظاهر بأنه لا يراها وأنه موجود بحكم الصدفة .. بالطبع لا يلاحقها فى المخدع , لكنها استطاعت أن ترى هذه الخرزة المتدلية من الستار فى أعلاه , وقد فحصتها فأدركت أنها تشبه أجهزة التنصت فعلاً ..


لماذا ؟ .. هل يراقبها شهريار ؟ .. هل يشك فيها ؟ .. إنه لا يثق بأية امرأة ومن الطبيعى أن يشك , لكن كيف ولماذا يستعين بالتكنلجيا المتقدمة بدلاً من إرسال أحد البصاصين ؟ .. إنه لا يفهم شيئاً فى التقنيات , والدليل أنه أتلف مشغل الأقراص بعد ثلاث دقائق ..
ظل هذا السؤال بلا جواب ..
الاحتمال الوحيد هو أن يكون من يراقبها هو نفسه من يتنصت عليها .. ولكن لماذا ؟
كانت قد اعتادت أن ترى المهتمين بألف ليلة وليلة حولها لكنهم لايضايقونها ... قابلت كورساكوف أكثر من مرة فهز رأسه وواصل الدندنة .. وقابلت جالان يكتب مذكرات .. لكنهم لم يخفوا وجودهم ..
على كل حال لا وقت تضيعه فى هذا الهراء .. إن الأسد جائع وبحاجة إلى قصص , وعليها أن تبتكر له بعضها بسرعة ...
*********

كان ذلك الصياد العجوز يحمل شبكته الثقيلة ويتجه للماء ..
قالت عبير لنفسها إن الرجل صياد .. بشرى خير ! ... الصياد له أهمية بالغة فى ألف ليلة وليلة , وعلى الأرجح سوف يستخرج زجاجة فيها جنى أو حذاء قديماً أو صندوقاً فيه جثة ..
إلخ .. المهم أنه سيجد شيئاً مثيراً ... توشك أن تعتقد أن كل أبطال ألف ليلة وليلة أمراء أو صيادون ..
توارت وراء شجرة وراحت تراقب الموقف ..
كان الصياد قد وجد صيداً ثقيلاً , فبدأ فصلمن (الصياد والعجوز ) لهيمنجواى , وهو يقاوم ويجاهد كى يخرج الشبكة .. ساذج .. الشباك الثقيلة بهذه الدرجة لا تحوى إلا جثثاً على الأرجح ..
بالفعل هى جثة , لكنها جثة حمار متعفن ...
أطلق الرجل أنيناً وعصر الشبكة , ثم طرحها من جديد ...
كان يوماً أسود والفشل يتكرر بين زجاجات فارغة وزئر ملئ بالطين .. إلخ ..
المرة الخامسة جعلته يخرج قمقماً من نحاس أصفر عليه خاتم سيدنا سليمان ... عندما تشترى زجاجة زيت فإن لها شكلاً مميزاً , وكذلك الخل له شكل مميز .. فى ألف ليلة وليلة هذا هو الشكل المصطلح عليه لزجاجات الجن ...
توارت عبير وقد عرفت ما سيحدث , فهى رأت فيلم ( لص بغداد ) ..



الصياد فتح السدادة , وهكذا انطلق لسان كثيف من الدخان إلى عنان السماء مع ضحكة شمهورشية بالطبع .. وبدأ الدخان يتخذ شكل عملاق / عفريت .. عملاق له ذات الوصف الدائم للجن ( رأسه فى السحاب ورجلاه فى التراب برأس كالقبة وأيد كالمدارى ورجلين كالصوارى , وفم كالمغارة , وأسنان كالحجارة , ومناخير كالإبريق , وعينين كالسراجين ) .
احتبس نفس عبير وهى تدرك أن هذا الشئ قادر على أن يراها ويفتك بها .. لتأمل أن يكون مثل الديناصورات لا يهاجم إلا ما يتحرك ..
قال المارد للصياد بصوت زلزل المكان :
أبشر أيها الصياد ..
ابتسم الصياد وتجعد وجهه العجوز ... لقد حان وقت الثراء إذن , لكن المارد قال :
أبشر بقتلك شر قتلة !
هنا بدأت عبير تتذكر القصة ..


المارد الذى كان يعمل عند سيدنا سليمان وعصاه , فحبسه فى هذا القمقم .. بعد مئة عام تمنى لو ينقذه أحد ليجعله ثرياً .. بعد مئة أخرى تمنى لو ينقذه أحد ليعطيه كنوز الأرض .. بعد أربعمائة عام تمنى لو ينقذه أحد ليقتله !
بالفعل تمت القصة كما توقعتها :
الصياد فى مأزق , لكنه يملك الحيلة .. السلاح الوحيد الذى امتلكه الإنسان ومكنه من حكم العالم . هكذا يعرض على العفريت تحديه الشهير :
لا أصدق أنك كنت بحجمك الهائل ذلك أسير هذا القمقم ..
العفاريت غبية وسهلة الاستفزاز ..
أنت رأيتنى أخرج منها ..
أعتقد أن الأمر كان يتعلق بلعبة بصرية أو خداع نظر أو تنويم مغناطيسى ..
قال العفريت من بين أسنانه :
أنت أحمق تماماً .. انظر !



وهوب ! .. غاب داخل القمقم من جديد , فوثب الصياد ليغلق السدادة ويعود هو السيد ..
حمل القمقم إلى البحر وحمل الزجاجة ليرميها وهو يقول للجنى:
سأرميك فى البحر .. إن كنت أقمت فيه ألفاً وثمانمائة عام فأنا أجعلك تمكث إلى أن تقوم الساعة , أما قلت لك أبقنى يبقيك الله ولا تقتلنى يقتلك الله ؟ فأبيت قولى وما أردت إلا غدرى فألقاك الله فى يدى فغدرت بك ..
توسل له الجنى كثيراً جداً , لكن الصياد لم يكن بهذه الحماقة .. كلا .. لا يمكن أن يكون بهذه الحماقة أبداً .. بل هو كذلك !
لقد صدق توسلات الجنى وقسمه الغليظ .. هكذا فتح له القمقم من جديد .
قالت عبير فى نفسها وهى ترى الدخان يحتشد فى السماء :
ضاع الصياد الأحمق !
بالفعل كان الجنى قد ركل القمقم ليغوص فى المحيط .. بمعنى أنه لا رجعة له .. عرف الصياد معنى هذه الخطوة وبلل سراويله من الرعب .. كان الصراع قوياً بين ( العفو عند المقدرة ) و( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) .. انتصرت المقولة الأولى للأسف .. ومن الواضح أن العفاريت لا تحفظ العهد ..
لم يستغرق الأمر وقتاً حتى هرس الجنى الصياد بإصبع قدمه .. ثم مسح بقاياه فى الرمل , وحلق فى السماء وهو يضحك ضحكته الشمهورشية المجلجلة ..
********


12 – يونان وجان ( ما زال صالحاً ) ..
لم يكن المشهد محبباً وقد أمضت وقتاً طويلاً شاعرة بالتقزز والهلع ..
لا تذكر أن القصة انتهت هذه النهاية المقتضبة الأليمة .. كانت أطول .. نفس الفكرة التى تراودها مع قصص جيمس بوند . لو كان الشرير أكثر عملية وحصافة لأعدم بوند وانتهى الفيلم بعد عشر دقائق , لكن الحاجة إلى حبكة تجعل الشرير يربط بوند فى فقاعة معلقة فى الهواء مربوطة بحبل مشتعل .. الخ .. هذا يمنح بوند عدة ساعات يفر فيها ..
لا تعرف متى وجدت نفسها تمشى فى بلاد يمكنها أن تخمن أنها بلاد الرومان . كانت تعمل مساعدة لطبيب مسن من الطراز الذى يسمونه ( نطاسى ) . وكان اسم الحكيم ( رويان ) .. لماذا رويان ؟ .. لأن هذه بلاد الرومان والملك يدعى يونان .. يبدو أن مؤلف القصة من المولعين بالسجع ..
كان الطبيب كأى واحد آخر من أطباء عصره .. يجيد الطب والفلك والنباتات والأعشاب .. إلخ ..


كان دورها يتلخص فى أن تخلط له الأعشاب التى يطلبها .. وكانت مهنة لا بأس بها ..
إلى أن جاء اليوم الذى قال لها الحكيم فيه :
أعدى الأدوات والبسى ثياباً نظيفة لأن الملك يونان يريد لقاءنا !
هذا شئ مذهل .. الذهاب للقاء الملك شخصياً .. القصر والهيلمان والعبيد .. كل شئ رائع ما عدا الملك نفسه .. إنه مصاب بالبرص .. على الأرجح هو الجذام لأن القدامى كانوا يخلطون بين المرضين ..
كان بشع المظهر , وكان يلبس عباءة يسدلها على وجهه معظم الوقت مما يجعله مرعباً أكثر .. من حين لآخر ترى ضمادات مبللة بالإفرازات أو الدم .. هذا لم يجعل المشهد أفضل ..
فحصه الحكيم على مهل ثم قال له :
مولاى .. علاجك سهل .. وسوف أفعلها من دون دهان ولا عقاقير ..
كيف ؟ .. لو فعلتها لأجزلت لك العطاء ..

أرسل الحكيم ( عبير ) لتجلب له بعض الأدوية , ثم قام بخلطها ليصنع منها كرة وصولجاناً ..
ودخل على الملك ليناوله الكرة والصولجان .. ثم انحنى بين يديه وقال :
سوف تمسك بهذين .. وتلعب بالكرة طيلة اليوم .. الهدف هو أن تعرق كفك فيتسرب لها الدواء ويدخل جسمك .. عندما ينتهى اليوم عد للقصر واستحم , ولسوف تجد أنك شفيت ..
علاج يبدو مبهراً , لكن لا بد من تجربته أولاً .. قد يكون مجرد لعب أطفال ..
وهكذا قضى الملك اليوم كله يلعب بالصولجان والكرة .. بدأ العرق يخرج من جسده ويبلل كل شئ .. وقد نفذ التعليمات حرفياً , وعند المساء عاد للقصر فاستحم ونام ..
عادت عبير مع الحكيم إلىبيتهما بانتظار الغد . لم يفتها أن تلاحظ أن ذلك الرجل الذى يراقبها كثيراً موجود هنا أيضاً . لقد صارت هذه عادة فيما يبدو .. من هو ؟ وماذا يريد بالضبط ؟

فى الصباح كانت المعجزة ..
أخذ الملك حمامه ثم وقف أمام المرآة ... لا توجد قروح .. لون الجلد متجانس جميل .. وجهه استعاد قدرته على التعبير ..
لقد شفى تماماً ! .. إن الحكيم رويان عبقرى فعلاً ..
هكذا عومل الحكيم وعبير مساعدته معاملة أفضل الأصدقاء وفتحت لهما الخزائن .. وطلب الملك من الحكيم أن يكون جليسه وأنيسه طيلة عمره ..
فى كل يوم كان يقدم الهدايا للحكيم ومساعدته .. ويبقيه معه حتى المساء .. وهى معاملة لا بد أن توغر النفوس فى النهاية ..
هنا بدأ مجرى الأحداث يتغير ..
*********


قال الوزير الحقود الذى تشى ملامحه بالشر والحسد ( لكن الملك لا يرى هذا كعادة القصص ) :
أهنئك بالشفاء يا مولاى ... لكن هناك نصيحة أرغب فى أن أقدمها لك ..
بدا التوتر على الملك , وارتسم على وجهه ذات التعبير الذى ارتسم على وجه عطيل من قبل عندما زرع ياجو الشك فى نفسه نحو ديدمونه . يبدو أننى كنت أحمق .. لم أفهم المكيدة التى تدور من وراء ظهرى ..
إن هذا الحكيم عدو لك .. لكنه قد كشف عن قدراته الخارقة . استطاع شفاءك بكرة فى يدك ! .. فهو قادر على أن يسممك بشئ تشمه .. إنه قوى جداً ..
حك الملك لحيته فى شرود وقال :
فعلاً .. هو قوى جداً .. والعمل ؟
قال الوزير فى براءة :
اضرب عنقه .. هذا هو الحل الجذرى الوحيد الذى أعرفه ..
راح الملك يفكر , ومن جديد بدت له الفكرة معقولة .. هو لن يحتاج إلى الحكيم مرة أخرى . ثم هو لن يأتى بعمل جديد , فقد فعلها قبله ملك يدعى سنمار عندما أعدم المهندس الذى بنى له قصراً منيفاً , وكانت أسبابه أوهى بالتأكيد : منعه من بناء قصر آخر لواحد آخر .. يجب ترك أخلاق العامة التقليدية للعامة ..



عندما جاء الحكيم استقبله الملك مع السياف وقال ضاحكاً :
أحضرتك كى اقطع رقبتك !
تبادل الحكيم وعبير نظرات الرعب .. هذه هى مشكلة مصادقة علية القوم .. إن مزاجهم نارى وتقلباتهم كثيرة ..
لماذا ؟ .. ماذا فعلت ؟
لأنك جاسوس يبغى قتلى ..
هكذا يصدق القصة التى جاءت من طرف واحد .. لكن ألف ليلة وليلة ترى هذا تصرفاً معقولاً ..
أهذا جزائى بعد ما شفاك الله على يدى ؟
لا مفر من قتلك .. أيها السياف !
وقفت عبير تولول .. سوف يقتلون الحكيم .. وبعدها ربما جاء دورها ..لكن على الأرجح سيكتفى الملك بطردها .. ماذا تفعل ؟ .. كيف تنقذ الموقف ؟
دنا منا الحكيم وهمس :
لا مفر .. إن رقبتى مقطوعة مقطوعة .. فقط يجب أن تسمعى ما أقول لك وتنفذيه حرفياً ..



ثم قال للملك :
أرجو أن تأذن لمساعدتى بأن تدبر أمورى مع أهلى وتستنقذ كتبى وأدواتى .. وسوف تأتى لك بكتاب مهم عندى .. كتاب يجب ألا يصل ليد العامة . لهذا الكتاب مزية عجيبة هى أنه لو وضعت رأسى جواره ثم عددت ثلاث صفحات , وقرأت أول سطور فى ثالث صفحة , فإن الرأس يكلمك ويرد على أسئلتك ..
هل تحاول خداعى ؟
أنا ميت .. والميت لا يحاول خداع أحد ..
صاح الملك فى سرور طالباً أن يساعدوا عبير على إنجاز مهمتها .. لقد تحرك بداخله الطفل الموجود فى كل ملوك ألف ليلة وليلة .. لو استطاع لقتل الحكيم الآن لكن الكتاب غير موجود ..
تم الاستعداد لكل شئ , فأحضر الحكيم الكتاب وطبعاً طلب من الملك أن يضع رأسه فيه بعد القطع ..
تم الأمر بسرعة .. السياف بارع حقاً .. لكن عبير بصراحة لم تعد تتحمل المزيد من الرءوس المقطوعة فى هذه القصص ..



أما الملك فوضع الرأس فى الطبق , وفتح الكتاب .. كانت الصفحات ملتصقة فبلل اصبعه وفتح أول صفحة .. الثانية ملتصقة .. اضطر من جديد لأن يبلل اصبعه ..
لا توجد كتابة ..
قالت عبير :
استمر فى التقليب يا مولاى ..
بلل الملك اصبعه من جديد .. كان السم الذى استعملته عبير على الصفحات من مادة راتنجية صمغية .. لهذا اضطر الملك إلى وضع إصبعه فى فمه مراراً .. لقد تلقى جرعة مضاعفة ..
سقط الملك ميتاً جوار رأس الحكيم .. هنا أنشد الرأس :
لو أنصفوا أنصفوا لكن بغوا
فبغى عليهم الدهر بالآفات والمحن
وأصبحوا ولسان الحال ينشدهم
هذا بذاك ولا عتب على الزمن
وعندما غادرت عبير القاعة لم يعترض طريقها أحد .. كان الجميع فى حالة ذهول .. بسبب هذا الانتقام المخيف من رأس مقطوع ..
**********



الآن كانت قد وصلت فى قصة الأحدب والخياط إلى إخوة المزين ذوى الحظ العاثر ..
قدرت أنها مع الكثير من المط والتثاؤب وقول الشعر والوصف المبالغ فيه , قد تستطيع أن تمد القصة ثلاثة أيام أخرى .. بعدها لن تجد زاداً ..
وكان شهريار متحمساً وعيناه تلمعان .. معنى هذا أن الأدرينالين يتدفق فى دمه .. من السهل على من يتدفق الأدرينالين فى دمه أن يقطع الرقاب .. لا بد من أن تتصرف بسرعة ولو اعتمدت على رصيدها الضئيل ..
الآن صارت لديها قصتان لا بأس بهما .. لكنها لا تعرف كيف تربطهما .. دعك من تفاهة قصة الصياد والعفريت , فقد تم القتل قبل أن تبدأ القصة ..
عادت عبير إلى الشط .. شط بركة هذه المرة .. وجلست تراقب مجريات الأمر .. من جديد رأت صياداً يلقى بشبكة ..
نظرت حولها فتوارى ذلك الذى كان يراقبها فجأة .. نفس الرجل شبه الأجنبى الذى يتبعها فى كل مكان .. ليس جالان ولا كورساكوف .. ربما هو بيرتون ؟ .. إن بيرتون يجيد التنكر كتاجر عربى , وقد دخل مكة متنكراً كتركى من قبل .. لكن لماذا يفعل هذا الآن ؟


تعلمت مما رأته أن مراقبة الصيادين تثمر قصة دائماً , لذا انتظرت قرب العجوز .. ثم وجدت أنه من الأفضل أن تجلس جواره ..
لمحها فأحنى رأسه وقال فى احترام واتضاع :
أنا صياد فقير ..
وأنا أبحث عن قصص حتى لا تطير رقبتى ..
عندما جذب الشبكة كف عن الكلام .. كان المشهد رائعاً لأن الشبكة كانت تحوى أسماكاً ملونة زاهية .. بيضاء وصفراء وحمراء .. ما هذا ؟ ... هل صارت البركة بحيرة استوائية فجأة ؟
شهق الصياد فى حماسة , فقالت عبير :
تحتاج إلى فلتر وموتور هواء .. ربما تحتاج إلى ( دوادة ) كذلك لإطعام السمك ..
قال ضاحكاً :
لا .. هذا السمك ليس لاستعمالى .. بل هو هدية للملك شخصياً .. سوف يجزل لى العطاء ..
وملأ إناء كبير بالماء ووضع فيه السمك , ثم هرع وهى خلفه إلى قصر الملك ..



لم يكن الملك هو هارون الرشيد وقتها .. على كل حال هو شخص يمكن أن ينبهر بهدية كهذه , وقد فتح الحراس الطريق للوافدين .. ورأى الملك السمك فأطلق صرخة انبهار عظيمة ..
سمك .. ! .. سمك ملون رائع الجمال !
قال الصياد فى سرور :
أظن أنك يا مولاى تنوى جعل هذا السمك نواة لأول متحف أحياء مائية فى بغداد !
بل سأفعل ما هو أكثر ..
ربما سوف تهديه لكلية العلوم ؟
بل سأقليه !
طريقة مبتكرة غريبة بعض الشئ للتعبيرعن الانبهار .. وقد نظر بعينين ناريتين لعبير وأنرها بأن تأخذ السمك للمطبخ وتتبله وتقليه . لم تجرؤ على الاعتراض أو قول إنها ليست جارية عنده ..
أعطوا للصياد 400 دينار !

اتجهت للمطبخ مغتاظة .. حتى أمها لم تنجح فى جعلها تنظف السمك فى عالم الواقع .. لكنها هنا مضطرة لذلك . بدأت تنظفه من الأحشاء – وهى عملية قذرة طبعاً – ثم تبلته ووضعته فى وعاء الزيت ..
طش ش ش ش ش !
هنا حدث شئ غريب ..
لقد انشق الجدار فجأة .. حتى خطر لعبير أنها فى قصة سندريلا وأن الجنية سوف تبدل بثيابها ثياباً تناسب الحفل .. سقطت على الأرض وقد فقدت ساقاها تماسكهما ..
ما رأته عبير يخرج من الجدار كان ( صبية رشيقة القد أسيلة الخد كاملة الوصف , كحيلة الطرف بوجه مليح وقد رجيح , لابسة كوفية من خز أزرق وفى أذنيها حلق وفى معصمها أساور , وفى أصابعها خواتيم بالفصوص المثمنة وفى يدهاقضيب من الخيزران ) .
غرست الصبية القضيب فى الزيت وصاحت :
يا سمك .. يا سمك .. هل أنت على العهد مقيم ؟

يبدو أنها تخلط بين هذه القصة وقصة سنوهوايت حيث النداء الشهير ( يا مرآتى .. يا مرآتى ) . المهم أن السمك المقلى أخرج رأسه من الزيت وقال بصوت سمك لاشك فيه :
نعم .. نعم .. إن عدت عدنا وإن وافيت وافينا ..
ثم احترق السمك وتحول إلى فحم ....
وغابت الصبية فى ثقب الجدار من جديد ...
كانت عبير تحاول أن تستجمع روعها عندما رأت الوزير يقف خلفها ويقول :
الملك ينتظر السمك !
حقاً غريب أمر هذا الملك الذى ينتظر السمك المقلى بهذه اللهفة , لكن عبير بالتأكيد كانت فى موقف بالغ السوء .. لا أحد يحرق سمك الملك ما لم يكن مجنوناً أو يريد الانتحار ..
لسبب ما حكت عبير قصتها للملك , فصدقها .. طلب أن يأتيه الصياد بمزيد من السمك ليكرر التجربة ..


وهنا تمارس ألف ليلة وليلة عنصر التكرار .. ما رأته عبير يتكرر بالضبط مع الوزير .. وما رآه الوزير يتكرر مع الملك ..
نفس القصة .. انشقاق الجدار .. الصبية .. القسم السمكى الغامض ..
هنا كانت القصة قد استحوذت بالكامل على تفكير الملك .. لهذا أحضر الصياد من جديد .. الصياد الذى سئم القصة كلها وتمنى أن يتخلص من هذا كله ..
لا بد أن نرى تلك البركة العجيبة التى تصطاد منها ..
وفى هذه المرة عاد الصياد إلى البركة كديك مبتل بالماء , فمن خلفه الملك وجيش كامل مسلح وعبير طبعاً ..
قال فى نفسه إن هذه القصة لن تمر على خير .. هناك رأس سيقطع فى هذا اليوم على الأرجح ..
***********

سيريناد 18-07-19 01:04 PM

رد: 56 _ ليال عربية ( كتابة )
 

13 – سمك ورجل نصف حجرى ..
قال الملك لعبير همساً حتى لايسمعه الرجال الذين انتشروا بين الخيام :
أريد أن أدور حول هذه المنطقة .. لا أستطيع أن أذهب بنفسى , لهذا أرجو أن تذهبى أنت لاستكشاف المكان .. قلبى يحدثنى بأن هناك لغزاً فى هذه البركة ..
ملاحظة ذكية فعلاً ... سمك يخرج رأسه ويتكلم , وهذا يجعل قلبه يحدثه بأن هناك لغزاً ..
هكذا مضت عبير وحدها فى تلك الرحلة .. مشت كثيراً جداً وهى تحمل سلاحاً صغيراً وطعاماً وتحمل مخاوف عديدة .. بالطبع لم يفارقها الشعور بأنها مراقبة .. لقد اعتادت أن تشعر بتلك النظرات من خلفها .. بالطبع لو التفتت فلن تجد شيئاً أ, ستجد ذلك الأجنبى الغريب ..
أمضت ليلتها فى الخلاء على شط البركة .. أشعلت ناراً تصطلى بها , وقدرت أنه لن يحدث لها مكروه .. الأهم هنا هو أن تكتمل القصة فلا مجال لظهور سفاح نساء أو غول ..


واصلت السير حتى ظهر اليوم التالى عندما رأت تلك القلعة السوداء ..
دقت الباب العملاق مراراً ثم عمدت إلى النداء لكن لا إجابة ..
كان الباب موارباً والإغراء قوياً .. على ما تذكر فإن القصص التى يدخل فيها البطل إلى قلعة الغول ليست ضمن ألف ليلة وليلة .. هكذا دخلت فى حذر والخنجر فى يدها , عالمة أنها عاجزة تماماً عن استخدامه ببراعة لو حدث شئ ..
وسط القصر كانت هناك فسقية .. عليها أربعة سباع من الذهب تلقى الماء من أفواهها ..
صوت بكاء .. هذا مؤكد ..
انتصب شعر رأسها فاتجهت نحو مصدر البكاء ..
فى حذر أزاحت ستاراً فرأت سريراً .. فوق السرير يجلس شاب تنطبق عليه علامات الوسامة فى ألف ليلة وليلة ( شاب مليح بقدر رجيح ولسان فصيح وجبين أزهر وخد أحمر وشامة على كرسى خده كترس من عنبر ) ..
كان نصفه الأسفل مغطى بالملاءة الموشاة بالذهب .. وكان يمارس عمل الشباب فى ألف ليلة وليلة : يبكى بلا توقف وينشد الشعر ..

قالت فى دهشة :
من أنت ؟ .. وما سر هذا السمك ؟
لم يرد ...
ببطء رهيب أزاح الملاءة عن نصفه السفلى فأشاحت بعينها خجلاً , لكن ما رأته جعلها تنظر من جديد .. إن النصف السفلى للفتى من حجر ! كأن نصف ميدوسا نظرت له فجمدته ..
قالت عبير لنفسها إن ألف ليلة وليلة تحوى أجزاء مرعبة بالتأكيد ..
اقتربت من الشاب الدامع قليلاً , فقال :
لى قصة ...........
لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر .. أعرف هذا . أرجو أن تكمل ..
كنت سلطان هذه المدينة , فلما توفى أبى تزوجت ابنة عمى ... عشنا حياة سعيدة باسمة . حتى جاء يوم نمت فيه على حجر جاريتين من جوارى ..
ابتلعت عبير ريقها وسألت :
أنت زوج عاشق وكنت نائماً على حجر جارية ؟


نعم .. هنا سمعتهن يتكلمن عنى .. يحسبننى نائماً . كن يحكين كيف أن زوجتى خائنة شريرة وكيف أننى غافل .. إنها تخدرنى بمنوم فى الشراب كل ليلة وتخرج ...
عندما صحوت جاءت زوجتى المحبة وقدمت لنا العشاء ثم صبت لى كأساً .. تظاهرت بأننى شربت مافيه وسكبته فى عبى , ثم تثاءبت وتظاهرت بالنوم . سمعت زوجتى اللطيفة المخلصة تقول : نم .. ليتك لا تصحو أبداً ! ثم لبست ثياب الخروج وخرجت ..
هذا المنظر يتكرر كثيراً فى الأساطير على كل حال , وفى الأساطير الإغريقية بالذات ..
عندما تبع الشاب زوجته رآها تتجه إلى قصر خارج المدينة , فتدخله .. بالداخل كان عبد أسود عملاق يجلس فى انتظارها , فركعت ولثمت الأرض بين قدميه ..
شعرت عبير بدهشة .. إن العبد الأسود شرير خائن كمعظم قصص ألف ليلة وليلة , وهى نظرة عنصرية قد تقبلها فى قصص غربية , لكن غريبة هنا فعلاً ...



لقد أصيب الشاب بذهول وهو يرى ابنة عمه الرقيقة المخلصة تتوسل لهذا العبد وتقبله مسترضية , بينما هو يسبها بأغلظ القول لأنها تأخرت عنه .. سلسلة شتائم لو جرؤ هو على استعمال كلمة واحدة منها لطلبت الطلاق ..
سألت عبير الفتى :
لحظة .. تقول إنها ابنة عمك ؟ .. وهى كذلك ساحرة كما هو واضح ..
نعم .. وما المشكلة ؟
ما هى الجذور التى أدت بها لهذا ؟ .. ما خلفيات شخصيتها ؟
ضحك الفتى كثيراً برغم ألمه وقال :
دعك من كلام النقاد هذا.. أفعال مبررة وسيكولوجية الشخصية وتاريخها .. نحن فى ألف ليلة وليلة المخصصة أصلاً لإمتاع الخيال الشعبى .. المقاييس النقدية هنا لا وجود لها .. إنها شريرة وكفى .. أشرار ألف ليلة وليلة أشرار من البداية ولا يحملون أى ظل رمادى .. والأخيار كذلك ..


لما نام الخائنان نهض الشاب , فحمل سيفه ورفعه وهوى على عنق العبد الأسود .. ثم فر .. هذه هى المشكلة الدائمة .
عليك عندما تقتل أحداً أن تتأكد من أنك فصلت الرأس .. هناك دائماً من يقدر على توصيل الأنسجة ..
جاء الصباح ومعه عادت ابنة العم إلى بيتها , لكنها كانت شاحبة دامعة تحيط بعينيها هالات تذكرك بالراكون , وارتدت السواد ..
قالت لزوجها الذى تظاهر بالدهشة :
هذا الحداد من أجل أمى التى توفيت الليلة .. وأبى الذى مات فى الجهاد .. وأخوى اللذين مات أحدهما ملسوعاً والآخر رديماً ! ..
هكذا ببساطة تريد إقناعه أنها فقدت أربعة من أهلها فى ليلى واحدة .. لكنه تظاهر بتصديقها .. والأدهى أنها أرادت أن تبنى ضريحاً للحزن تمضى فيه وقتها .
الحكاية أنها نقلت العبد – الذى قامت بتوصيل رقبته بطرقة ما – إلى الضريح , وحولته إلى زومبى تطعمه وتسقيه وتبكى جواره ..




لما عرف الشاب هذا جن جنونه .. وعرفت هى أنه هو الذى قطع عنق العبد حبيبها .. كان انتقامها سريعاً .. رددت بعض الكلمات وسرعان ما وجد الفتى أن نصفه السفلى تحول إلى حجر .. لقد صار قعيداً للأبد بأقسى طريقة ممكنة ..
الآن تخرج ابنة العم الساحرة كل ما كانت تخفيه من شر .. لقد خرجت كالطوفان الغاضب إلى العالم الخارجى , فسحرت كل سكان المدينة .. المسلمون سحرتهم إلى سمك أبيض .. النصارى صاروا سمكاً أزرق .. المجوس صاروا سمكاً أحمر .. اليهود صاروا سمكاً أصفر .. بالطبع لم تسمح لأحد بترف اختيار اللون الذى يفضله .. لو كانت لهذه القصة موعظة أخلاقية فهى : لا تتزوج ابنة عمك أبداً .
بعدما انتهت من هذا , بدأت تقتبس من الزملاء الإغريق بعض الأساليب .. مثلاً اقتبست عقاب برومثيوس المتجدد , فراحت تجلد الفتى مئة جلدة يومياً ( على نصفه اللحمى العلوى طبعاً ) .
كان الفتى يبكى بلا توقف وهو يحكى هذا لـ ( عبير ) وتوسل لها أن تنقذه .. وكانت قد فكرت فى خطة معقولة ..



إن العبد الأسود هناك فى الضريح ..
آى ! .. هذا أسوأ جزء فى القصة .. تقتل إنساناً وهو أقرب إلى زومبى كذلك .. إن قتل كائن بشع عملية بشعة بدورها , وكل من جرب قتل برص عملاق عرف هذه الخبرة ..
لكن هذا هو السبيل الوحيد لتحرير الشاب وتحرير سكان البلدة .. هكذا وجدت على الجدار سيفاً معلقاً فحملته . تباً .. إنه ثقيل كالخرتيت ..
مضت ماشية وهى تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ..
هناك فى ذلك الضريح كان جالساً وظهره لها .. دنت منه أكثر .. عملاق مخيف , ولو كان بكامل لياقته فقد انتهى أمرها .. لكنه كان واهناً يرتجف ..
عندما صارت على مسافة متر استدار لها ..
كان رأسه بالفعل لا يتصل بجسده إلا بجلد واه ضعيف .. كان يتأرجح ومن حين لآخر يسقط إلى جانب كرأس دمية .. لكن من الواضح أنه كان قادراً على البلع لأنه كان يحمل كأساً من الشراب ..



رآها فاتسعت عيناه الواسعتان أصلاً , واحمرت عيناه وأصدر خنفرة عنيفة .. تذكرت مشهد مواجهة الزومبى فى كل أفلام الرعب التى رأتها .. لا يختلف الأمر كثيراً , والزومبى مهما كان بطيئاً يلحق بك ويلتهمك مهما فعلت ..
هوت بالسيف على عنقه ولم تعط نفسها فرصة التردد , ثم أدارت وجهها كى لا ترى المشهد ... لا . لا بد أن تتأكد .. فما فعله الفتى من قبل هو أنه رحل قبل أن يتأكد ...
بصعوبة بالغة جرت الجثة مترين بعيداً ..
ثم أنها جلست فى مكانه وهى تحاول ألا تلوث قدميها بالدم ..
كان الظلام دامساً والرؤية عسيرة , وكان قبل موته يضع عباءة على كتفيه العاريتين , لذا وضعت نفس الغطاء على كتفيها , وأدارت ظهرها للجالس ..
تسمع صوت الخطوات الرشيقة .. تشم العطر الفواح . هناك من تدنو منها من الخلف ..
راحت عبيرتئن وغيرت صوتها ليناسب عملاقاً أسود مقطوع الرأس ..



قالت للساحرة بهذا الصوت الغريب :
انصرفى عنى يا ملعونة .. لا أريد أن أرى وجهك ..
جاء صوت الساحرة المذعور :
ماذا دهاك ؟ .. ماذا قارفت فى حقك يا حبيبى ؟
قارفت ؟ .. لقد ملأت البلاد بالتعاسة والبؤس , والنتيجة هى أنهم لا يكفون عن البكاء ويحرموننى النوم .. سكان البلدة وذلك الشاب حجرى القدمين .. هذا كثير فعلاً .. أريدهم أن يخرسوا !!
يمكن أن أعالج هذا حالاً ..
ثم أخرجت قارورة صغيرة من صدرها فعزمت عليها .. واستردت سحرها الذى ألقته على الناس وعلى الفتى .. وفى البركة تحولت الأسماك إلى بشر .. صحيح أن معظمهم ماتوا غرقاً على الفور لأنهم لا يعرفون السباحة , لكن المبدأ هو المهم ..
ومن محبسه جاء الفتى يتواثب غير مصدق .. كان يحتاج لساعات حتى يزول التنميل فى قدميه لكنه لم يجد وقتاً لهذا الهراء .. صاحت به ابنة عمه الساحرة فى اشمئزاز :
هيا ارحل ودعنا لا نر وجهك أبداً !


واستدارت لتكمل كلامها , لكن السيف كان فى طريقه لعنقها .. من المؤسف أنها لم تجد الوقت الكافى لتفهم أن عبير كانت هى التى تلعب دور العبد ..
وعندما سقط الرأس على الأرض عرف أهل البلدة أنهم تحرروا ..
لن يحصل الملك على سمك ملون بعد اليوم ..
************



14 – إنهم يسرقون قصصى ..
*********
عندما جلست عبير مع المرشد ترتب القصص التى مرت بها , كان هناك أكثر من مخطط فى ذهنها , ودار جدل طويل .. فى النهاية استقرت على التركيب التالى :
1 – قصة محورية حول شهريار ودنيا زاد التى تعده بقصة مثيرة جديدة .
2 – هنا تبدأ قصة الصياد والعفريت .. سنجرى تعديلاً يقضى بأن يتوسل الصياد للعفريت ألا يقتله حتى لا ينال جزاء الملك يونان ..
3 – هكذا يمكن أن نحكى قصة الملك يونان والحكيم .. هنا مغزى أخلاقى يبرر هذه القصة .
4 – نعود للصياد والعفريت . الخدعة البارعة للصياد التى تجعل العفريت يتوسل . فى تعديلنا لن يقتل العفريت الصياد , بل سيصحبه إلى البركة التى يخرج منها سمك ملون .. بهذا دمجنا صيادين معاً .. ومن هنا تبدأ قصة السمك الملون والشاب الذى تحول نصفه السفلى إلى حجر .. بما أن البطولة النسائية غير محببة للذوق الشعبى فى عصرما قبل ( لارا كروفت ) , فلسوف يقوم الملك بالمغامرة كلها وقتل العبد والساحرة .


5 – نعود لشهريار ودنيا زاد مع وعد بقصة أخرى .
فرحت عبير بهذا التعديل جداً وكتبته حتى لا تنساه .. لعلها بشئ من الإطناب تظفر بعشر ليال من السرد . وعندما عاد شهريار فى المساء وتمدد على الفراش وراح يتجشأ .. دنت منه دنيا زاد التى تحول دورها إلى جهاز تليفزيون , وبدأت تحكى :
بلغنى أيها الملك السعيد أنه كان رجل صياد وكان طاعناً فى السن .. وله زوجة وثلاثة أولاد وهو فقير الحال .. زكان من عادته أن يرمى شبكته كل يوم أربع مرات لا غير .. ثم أنه خرج يوماً من الأيام فى وقت الظهر إلى شاطئ البحر وحط معطفه .. وطرح شبكته وصبر إلى أن استقرت فى الماء ............... إلخ ..
**************


كانت جالسة فى المخدع بعد يومين راضية عن نفسها , عندما سمعت الخطوات المميزة للمرشد .. كان قادماً يجتاز طبقات الستائر الكثيفة حتى بلغها فجلس على حافة الفراش ..
كان مرهقاً غارقاً بالعرق وكان يحمل كتيباً سميكاً فى يده ..
على الغلاف رأت عبير الصورة المميزة لشهرزاد وهى تحكى لشهريار قصة جديدة .. لكن العنوان كان بلغة غريبة .. كان بالعبرية .. بحروفها القبيحة الشبيهة بأرجل العناكب ..



قالت له فى عدم فهم :
هل ترجموها للعبرية ؟
قال لاهثاً وهو يناولها الكتاب :
ليس بالضبط .. بل قاموا بتأليفها !
بدا عليها الغباء .. عم يتكلم بالضبط ؟ .. تأليف ما قامت هى بتأليفه ؟ .. قال فى إرهاق :
من عادة إسرائيل أن تنسب كل شئ لنفسها .. بدءاً بأهرام مصر التى يزعمون أنهم بناتها . كما قال المفكر عبد الوهاب المسيرى إنهم يعلنون فى كل مكان أن الكباب أكلة يهودية .. الكوشير – طعامهم الحلال – اسم مسروق ومحرف من الكشرى الذى نأكله .. يحاولون إثبات أن لديهم حضارة عريقة , ولكى يفعلوا هذا يسرقون حضارة راسخة بالفعل . هناك مركز دراسات فى تل أبيب نشر أعمال العبقرى كامل الكيلانى على زعم أنه يهودى إسرائيلى . الكيلانى هو من بسط قصص ألف ليلة وليلة وهذبها للأطفال , وهو اسم يفخر به الأدب العربى كله .
مؤخراً صدر كتاب لباحث اسمه د.جمال شاكر البدرى .. اسم الكتاب هو ( اليهود وألف ليلة وليلة ) . وفى هذا الكتاب يؤكد المؤلف أن ألف ليلة وليلة عمل كتبه اليهود . حجته فى ذلك أن كتاب ألف ليلة وليلة ظهر فى فترة ازدهار اليهود الثقافى والاقتصادى أى فى بعض فترات العصر العباسى والفاطمى !



هتفت عبير فى دهشة :
لكن الجو الإسلامى العباسى واضح جداً فى ألف ليلة وليلة .. إنها مليئة بالمجون لكنها برغم ذلك معجونة بالفكر العربى الإسلامى ..
رأى كذلك أن ألف ليلة وليلة تستعمل لفظ ( ملك ) أكثر من مما تستخدم لفظة ( خليفة ) أو ( أمير المؤمنين ) وهذا فى رأيه دليل كاف على يهوديتها ! .. وهو يرى أن شهرزاد شخصية نسائية يهودية بوضوح شديد .. تنقذ بنات جنسها كما أنقذتهن أخت زوجة كورش التى طلبت منه عودة بنى إسرائيل إلى أورشليم ! .. ويرى كذلك أن شهرزاد هو الاسم الرمزى للبطلة اليهودية ( أستير ) وشهريار هو اسم ( أحشويرش ) !
هتفت عبير فى ذهول :
هذا كذب صريح ..
لكن هذا لا يقارن بظهور قصصك بالعبرية , مع مقدمة تقول إنها الأصل الذى حاول العرب أن يخفوه ..



راحت تتذكر . نعم .. ذلك الوجه الأجنبى الذى يلاحقها فى كل مكان ويتنكر كالعرب ..
هناك جاسوس يتابع مغامراتى كلها ... أنا واثقة من ذلك . بل إن هناك من يتنصت على قصصى التى أحكيها لشهريار ليلاً ..
كل ما كان عليه هو النسخ والتوقيع .. إنه لرجل سعيد الحظ ..
ثم بدت على وجهه الصرامة والجدية .. وقال لها وهو يطوى الكتاب تحت إبطه :
سوف تستمرين فى عالم ألف ليلة وليلة لكن عليك أن تضللى الوغد .. ,ان تضعى أشياء تثبت أنك صاحبة هذه القصص .. لعبة ملكية فكرية من دون شهر عقــارى ولا دار محفوظات .. إن هذا سهل ...
لا أراه سهلاً .. كيف ؟
فكر قليلاً فى حماسة .. ثم قال بصوت عال :
لا أعرف ... !
******
تمت


الساعة الآن 03:14 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية