منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   (رواية) ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى (https://www.liilas.com/vb3/t206142.html)

عمرو مصطفى 25-07-18 09:06 AM

ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
هذه قصة واقعية لا تعتمد اعتماداً كلياً على الواقع..
وخيالية لا تعتمد اعتماداً كلياً على الخيال..
هي شيء له مذاق خاص جداً..
وإحساس دافئ جداً..

عمرو مصطفى 25-07-18 09:08 AM

رد: ليس الآن ( رواية)
 

مقدمة الراوي

كنت في صباح ذلك اليوم كعادتي أمارس رياضة المشي بين أحياء شرق المدينة.. حيث كل شبر وتحت كل حجر تقبع ذكرى ما..
وما أشجى الذكريات بشرق المدينة..
تحت إبطي رزمة من الورق هي نتاج عمل مضني من الكتابة على مدار عامين ..ولعل الدار التي اتفقت معي على نشر ذلك العمل قد مات صاحبها أو على الأقل نسي اتفاقه معي..
ـ أعرف أن القصة تمثل لك ذكريات خاصة.. لكن تلك الذكريات لم تعد ملكاً لك وحدك ولابد للأجيال القادمة أن تطلع عليها وترسخ في
وجدانها
تلك العبارات التي دغدغ بها صاحب دار النشر مشاعري يومها ـ والتي لم تكن بحاجة لدغدغة حقيقة ـ مازالت ترن في أذني..
قلت له يومها.. أي منذ عامين :
ـ أنت محق.. لكن هل تتصور أن ما حدث تستوعبه قصة
ـ أعرف أنها ملحمة كبرى تلك التي خاضها شعبنا ضد الظلاميين.. لكن حتى إن لم تكن قصتك كافية فهي على الأقل ستكون ضربة المعول الأولى التي ستصنع شرخاً في حاجز الصمت.. بعدها سيتتابع الكتاب على إثرك وسيكون لك فضل أول محاولة.. ومن سن سنة حسنة...
قلت له في ملل :
ـ لقد نجحت في إثارة حماسي فعلاً.. لكن هذا العمل لن يكون سهلاً
إنه بحاجة لطول نفس وصبر..
ابتسم وهو يتراجع في مقعده متمتماً :
ـ متى يمكنك الانتهاء منها على أقصى تقدير؟
صمت برهة وشرد بصري قليلاً.. الجواب كان محفوراً في صدري..
ـ ليس الآن
لقد مر عامان على هذا الحوار.. اليوم أحمل قصتي تحت إبطي وأمر بها في جنبات شرق المدينة حيث وقعت أحداث القصة.. وكأنني أقارن بينها وبين معالم المدينة العجوز.. مراجعة أخيرة وعجيبة للقصة قبل أن تقع في يد الناشر..
والبداية كانت عند مقهى شرق المدينة العتيد..
مقهى المعلم فوزي الذي كان مأوى لجميع أطياف مجتمعنا..
العامل والموظف والجامعي ومن لا عمل له.. اليوم صار معلماً سياحياً بعد حرب النضال التي خاضها شعبنا منذ عدة سنوات..
اليوم صار رواد ذلك المقهى نجوماً في سماء تاريخنا الحديث..
لوحت بكفي لرواد المقهى محسن والشيخ حسن الفقي وابتسمت متذكراً.. وتنهدت حسرات على تلك الأيام..
كان هذا المقهى هو نواة المقاومة التي اجتاحت شرق المدينة زمن الحرب.. الأن هو مجرد مقهى يساعدك على قتل بعض الوقت مع كميات من المشروبات الشعبية التي تدفع على (النوتة) غالباً.. لكنهاـ أي المشروبات ـ ليست من النوع الذي ينسيك نفسك والحمد لله.. ليس في هذا المقهى على الأقل .. فهذا المقهى له تاريخ لا ينبغي له أن يدنس..
تركت المقهى تطاردني أصوات ارتطام قطع الزهر و الدومينو المستفزة و أكملت السير الحثيث.. هنا لفحت أنفاسي رائحة (زفارة) السمك المعتادة كلما أقبلت على محل سمكة.. كان الأخير يتسلى برش الماء على طاولة السمك ولم يكد يراني حتى أشار لي مبتهجاً أن هلم.. شكرته واضعاً كفي على صدري..
ـ تعلم يا سمكة أنني عاشق لعالم البحار.. لكن.. ليس الآن..
وكالعادة يبدأ سيال الذكريات يتداعى.. وجه سمكة معلم أخر من معالم شرق المدينة..
لكنها ذكريات أبعد ما تكون عن بيع السمك..
وتحسست قصتي تحت إبطي وكأنني اطمئن على تلك الذكرى قبل أن أترك محل المعلم سمكه..
ثم أحكمت غلق فتحتي أنفي استعداداً لـ...
لا أطيق رائحة الدواجن خصوصاً تلك التي امتزجت برائحة الدم والأحشاء.. لو تسللت الرائحة إلى أنفي ربما تقيأت في أية لحظة..
طيور وزة .. لافتة متسخة بجوارها رسم ساذج لدجاجة تشبه الفيل .. وبجوار الأقفاص التي يرمقك منها الدجاج في ترقب يقف وزة ممسكاً بسكين مرعبة الشكل..
لوحت له بكفي الحرة وخرجت الكلمات من فمي خنفاء قليلاً بسبب ضغطي على فتحتي أنفي بيدي الأخرى :
ـ مسك وعنبر يا وزة..
ـ تفضل يا أستاذ..
قلت بنفس النبرة الخنفاء المثيرة للضحك :
ـ أريدك أن تذبح لي وزة ؟
ابتسم كاشفاً عن صفي لولي! وقال واضعاً كفه على صفحة عنقه:
ـ رقبتي يا أستاذ.. فقط تفضل وشرفنا..
قلت مشيراً للأوراق كي يفهم :
ـ ليس الآن يا معلم وزة فلدي مشاغل..
وتركته ومضيت .. فسمعته يصيح من خلفي ضاحكاً :
ـ اسمي مكتوب؟..
قلت دون أن التفت :
ـ جداً..
وابتسمت للذكرى التي طفت على السطح.. وهمست لنفسي:
كانت لنا أوطان...
اخترت أحد الشوارع الجانبية الضيقة والتي تفضي إلى الطريق الرئيس.. لكنني كنت محظوظاً كالعادة فالشارع الضيق لم يكن خالياً!
مجموعة من الصبية يلعبون الكرة بحماس شديد.. حتى أنهم لا يشعرون بأي شيء يدور من حولهم .. العالم كله صار رقعة لا تتجاوز عشرة أمتار طولاً في ثلاثة أمتار عرضا.. تتأرجح فيها كرة عابثة من هنا إلى هناك .. وعلى المار بين اللاعبين الصغار أن ينتبه لنفسه ويأخذ حذره وعينه على الكرة. كأنه تحول إلى لاعب أخر لكن بهدف مختلف.. الخروج من بينهم سالماً..
عندما كنا في مثل سنهم كنا نتوقف عن اللعب حينما يمر أحدهم حتى لا يصاب بأذى.. اليوم تتوسل عيناك لهؤلاء الصبية أن توقفوا قليلاً حتى أمضي في سبيلي ..
لكن جنون الكرة يصل للذروة فقط حينما يرون طلتك البهية..
وتطير الكرة لتنسف كل أمالك في المرور الهادئ.. وكيف تتحرك قيد أنملة وقد طارت نظارتك الطبية إلى حيث تنتظرها قدم حافية تدهسها بقسوة..
حاولت أن أتحسس الأرض بحثاً عنها بيسراي.. وفي نفس الوقت الذي أطبق بعضدي الأيمن على رزمة الذكريات كي لا تفلت وتحدث الكارثة.. وسمعتهم يتصايحون فيما بينهم..
الكل يتبرأ مما حدث.. هذه الكرة جاءت من الشارع الأخر!..
ـ ‌ أسف يا عمو..
دنا الصوت الذي يخطو بحذر نحو الرجولة وشعرت بملمس نظارتي الحبيبة وهي تدس في يدي ..
بسرعة ارتديت النظارة متلهفاً العودة مرة أخرى للعالم.. وأول ما طالعت كان وجه الصبي الذي ناولني النظارة ..
ـ أسف يا عمو ..
كان يرمقني في ترقب.. هل سأصفعه على وجهه ؟أم أكتفي ببعض السباب.. هو مستعد لأي رد فعل قاسي فيما يبدو..
كان الصبية قد تحلقوا من حولي وكأنهم يشاهدون فقرة في سيرك..
الوجوه المغبرة والأقدام الحافية والسراويل القصيرة وقصات الشعر العجيبة.. كل هذا كان أكثر مما تحتمله أعصابي ..
من حق هؤلاء الصبية أن يلعبوا.. لكن من حقهم كذلك علينا أن يفهموا طبيعة العالم من حولهم.. وأنه لا يقتصر على عشرة أمتار تركض فيها كرة من هنا إلى هناك..
اعتدلت قائماً ونفضت الغبار عن ثيابي وسعلت مرتين بفعل الغبار طبعاً.. بحثت بعيني المنهكة عن الساحرة المستديرة حتى وقعت عليها بالقرب من منزل خرب.. تتأرجح على حافة حفرة صنعها أحدهم بجوار باب البيت الخرب لسبب مجهول..
ولا إرادياً تحسست رزمة الأوراق كعادتي كلما لاحت لي ذكرى ما..
ذكرى دفعتني دفعا لتوجيه السؤال التالي للصبية المتحلقين حولي :
ـ هل يعرف أحدكم قصة شعبنا مع الظلاميين ؟
تبادلوا النظرات فيما بينهم .. هذا أخر ما يمكنهم توقعه مني .. لسان حالهم يتساءل : لماذا لم يمضي ذلك الكهل إلى حاله وتركنا لحالنا؟
ـ لا تعرفون؟
تكلم الصبي الذي ناولني النظارة :
ـ وهل كان لشعبنا قصة؟
شعرت بغصة في حلقي.. وصعوبة في التنفس.. لكنني بالرغم من ذلك عدت أكرر بصوت مبحوح :
ـ لا تعرفون !
قال الصبي وهو يبتسم بلا مبالاة :
ـ نحن لا نعرف سوى لعب الكرة .. إنها الإجازة الصيفية يا عمو..
وتناثرت من حولي الضحكات.. وتردد صداها في أذني ممتزجاً بأصوات أخرى قادمة من ماضي ليس ببعيد .. ليس للحد الذي ينسى معه أبنائنا ما جرى وما كان ..
ماذا تعرف أنت أيها الغر الساذج عن الظلاميين.. هه؟
أريد فقط أن أفهم ..
ليس الآن ...
لماذا ...؟
ليس الآن ..
استجمعت أنفاسي وكبحت جماح ذكرياتي وعبراتي..
الكابوس الذي كنت أخشاه قد تحقق.. ونشأ جيل لا يعرف ما جرى لشعبنا من جراء أفة النسيان..
قلت لهم بمرارة :
ـ اجلسوا معي ساعة .. أحكي لكم قصة شعبنا..
تبادلوا نظرات الحيرى..
ـ ليس الآن يا عمو.. نريد أن نواصل اللعب ..
لكن صوتي هدر منذراً بالويل :
ـ بل الآن ..
وجلست على الأرض.. وجلس الصبية من حولي ممتقعين..
وبيد مرتجفة تناولت رزمة الأوراق.. وبأنفاس ملتهبة بدأت أقرأ لهم قصتهم التي يجهلونها..
***



عمرو مصطفى 25-07-18 09:10 AM

رد: ليس الآن ( رواية)
 
تمهيد
(ما الذي يخيف في قاع المدينة؟)







لا يذكر تحديداً متى أظلمت من حوله الموجودات..
عندما قرر والده أن يترك الأسرة وينضم لقائمة خرج ولم يعد.. أم عندما ترك مدرسته صغيراً ليعمل ويساعد أمه ؟..أم عندما وضعته أمه، وجاءت به لتلك الحياة..
كذا سأل والدته يوماً.. قالت له:
ـ الظلام هو أصل الأشياء.. كذا قال لي والدك قبل أن يرحل
ـ رحل إلى أين ؟
أخبرته أنه ذهب إلى قاع المدينة.. واختفى في فجوة أرضية من تلك الفجوات التي تملأ القاع.. أخذه الظلاميون إلى غير رجعة..
ـ من هؤلاء الظلاميين ؟
ـ مخلوقات تعيش في الظلام تحت الأرض.. إنهم يأتون ليلاً من أجل الأطفال المزعجين كثيري الأسئلة..
لم ينس حركة إصبعها التحذيرية أمام ناظريه وهي تقول:
ـ إياك أن تقترب من قاع المدينة.. فلن تعود..
ابتلع ريقه متمتماً :
ـ أمن الممكن أن ألقى والدي هناك يوماً ؟
تهزه بعنف صارخة :
ـ لا أحد يظل حياً في قاع المدينة.. الشيطان يسكن هناك
نظر لها في رعب، وأقسم أنه لن يقترب من القاع.. لن يقترب..
ابتسامة منتصرة ارتسمت على وجه أمه.. لقد نجحت في زرع الرعب الأبدي في قلب ابنها.. هكذا تحميه للأبد من الضياع كما ضاع والده الأحمق الذي ظن أن الفشل سبب وجيه للفرار إلى قاع المدينة.. لقد شعرت أن ابنها سيصير نسخة أخرى من والده.. لذا هو مرشح للضياع كما ضاع أبيه..
وهي لن تسمح له بذلك..
ومازال الفتى يتساءل متى أظلمت من حوله الموجودات؟..
عندما ماتت أمه وتركته وحيداً..
أم عندما طرد من عمله للمرة الثالثة..
ـ أنت فاشل ابن فاشل..
نظر لصاحب العمل في غل :
ـ هل كنت تعرف والدي؟
دفعه صاحب العمل خارجاً وهو يسبه :
ـ وهل يخفى القمر.. الحمار الذي ترك زوجته وفر إلى قاع المدينة ولم يعد.. لعله الأن ينتظرك هناك مع الظلاميين.. أذهب إليه فمن شابه أباه ما ظلم
أم لعلها أظلمت حقاً عندما عاد إلى الغرفة التي يسكن بها ليجد حاجياته قد ألقيت في الشارع بجوار الرصيف.. صاحب البيت كان عملياً.. وحينما رفع طرفه إلى نافذة حجرته رأى وجه الساكن الجديد يطل عليه منها..
حمل حاجياته على كتفه وانطلق هائماً على وجهه..
لا يكاد يرى أي بصيص من ضوء.. ظلام.. ظلام.. ليل سرمدي يزحف على كل شبر من عالمه لا يترك له أي أمل في نهار جديد.
الظلام هو أصل الأشياء
تباً لصاحب العمل.. تباً لصاحب البيت.. تباً للعالم أجمع..
عملياً لا يوجد مكان يأوي إليه غير.. غير قاع المدينة..
قاع المدينة!
لكنه لم يرتجف هذه المرة.. ولم لا.. قاع المدينة المكان الوحيد الذي لن يطرده منه أحد.. ولن يطالبه بأجر مقابل البقاء..
الشيطان يسكن هناك
فكر أنه لم يتعامل طوال حياته إلا مع شياطين.. حتى أمه التي كانت تخوفه من الشيطان.. كانت شيطان أخر في صورة أم.. ماتت ولم يستفد منها إلا الرعب من قاع المدينة التي ابتلعت أبيه..
ما الذي يخيف في قاع المدينة؟.. الظلام؟
الظلام هو أصل الأشياء
لا يدري لماذا بدا له والده في تلك اللحظة عبقرياً..
تأمل اللافتات التحذيرية التي يضعها رجال السلطة لمنع الزائرين وابتسم في مقت.. هو لا يخشى ما يحذرون.. أي جحيم سيلقاه سيكون أفضل بالتأكيد من الجحيم الذي لفظه..
ـ قف..
تجمدت الدماء في عروقه.. استدار حيث الصوت فرأى دورية جوالة من دوريات السلطة التي تحوم حول القاع لمنع الحمقى من التوغل..
كان قد اتخذ قراره.. لن يعود..
وهكذا ألقى بأحماله وانطلق يعدو بجنون..
ـ قف.. قف..
لن يتوقف.. لن يتراجع.. لقد اتخذ قراره.. سيلحق بوالده..
سيهبط إلى باطن الأرض.. لن يعود.. لن يعود.. لن يعود..
إلا............
لينتقم...
***
شعر بقدمه تنزلق في إحدى الفجوات..
حاول التشبث بشيء.. أي شيء.. لكن سرعة انزلاقه مع المفاجأة أفقدته التحكم بنفسه.. فراغ مظلم دامس غاص فيه لثوان..
ثم تدحرج جسده على ما يشبه المنحدر.. شعر بوخذات عديدة في جسده.. وحينما سكن جسده أخيراً تحسس نفسه فأدرك أنه قد جرح في أكثر من موضع..
ظلام دامس ورائحة عضوية خانقة.. إنه في إحدى ممرات الصرف الصحي لقاع المدينة والتي لم تعد تستعمل منذ عقود..
هي الآن مسكن الطائفة الظلامية التي يخشاها سكان السطح..
بالرغم من ذلك لم يشعر بالخوف.. حتى وقلبه يدق بعنف.. إنها دقات تخبره أنه قريب جداً منه..
ـ أبي !
صرخ فتردد صدى صرخته عبر ممرات الصرف العتيقة..
ـ أبي!
صرخ وهو يتوغل أكثر وأكثر...
ـ أبي!
صرخ وهو يسمع صوت تلك الحركة الخافتة بجواره.. إن لم يكن فأراً فماذا عساه يكون؟
ـ أبي!
صرخ وهو يتساءل عن تلك الأنفاس الكريهة التي تلفح وجهه الآن.. إن لم تكن أنفاسهم فماذا عساها تكون؟..
ـ أبي!
ـ شششششششششش
توقف عن الصياح وتوقف قلبه عن النبض.. أغمض عينيه.. وبدأ يسمع الصوت الهامس في أذنيه :
ـ لا تلوث الظلام..
ومن قلبه تمنى أن تكون النهاية أسرع وأرحم.. ولأول مرة في حياته يشعر بالرضا..
بعد قليل سيلقى والده..
***


عمرو مصطفى 25-07-18 02:27 PM

رد: ليس الآن ( رواية)
 

الجزء الأول


" سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة..
سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب..
هذا عهدي لك.. "







(1)

في ذلك الوقت كنا لا نعرف تحديداً من أين جاءوا..
هناك نظريات عدة تتحدث عن أصل النشأة لما كنا نسميهم بالظلاميين..
في البداية كان الحديث عن تحور طرأ على بعض أبناء شعبنا نتيجة ظلم طبقي صارخ أدى بهم إلى اللجوء إلى الكهوف والمغارات والسراديب تحت الأرض.. من هنا نشأ جيل لا يعرف النور .. ومن هنا أطلق عليهم البعض الظلاميين .. لكن بعض الجمعيات الخيرية كانت تعتبر هذه التسمية زيادة في الظلم والقهر لهذه الطائفة المطحونة..
ـ ما يحدث على أرض شعـ.. شعبنا الأسمر جريمة بكل مقاييس الشعوب المتحضرة.. فصـ.. فصيل كامل من أبناء الشعب يحيا في باطن الأرض والويل كل الويل له إن فكر في الخروج للنور.. هذه قصة تصـ.. تصدم كل إنسان متحضر..
هكذا تكلم الدكتور العوادلي في إحدى الندوات التي كانت تسمح لها السلطة بالانعقاد في تلك الفترة من أجل التعبير عن الرأي.. تحديداً في غرب المدينة حيث تسكن النخبة المثقفة من شعبنا والمرفهة كذلك..
ـ سياسة القمع وتكميم الأفواه هي ما أنتجت لنا ما نسميه زوراً بالطائفة الظلامية
والعوادلي هو أحد أبناء شعبنا لكنه قضى معظم حياته يعمل عند الشعب الأصفر.. وهذا كان مدعاة للتشكيك فيه من قبل أصحاب النظرية المضادة حول حقيقة الطائفة الظلامية..
البعض يعتبره بطلاً ثائراً من أجل حرية الشعوب..
.. والبعض الأخر وكانوا قلة في ذلك الوقت يعتبرونه رجل الشعب الأصفر والذي يتولى تمهيد الأرض لمقدمهم.. لكن ما علاقة ذلك بالظلاميين يا ترى؟..
حاول بعضهم أن يتساءل في تلك الندوة :
ـ لكن يا دكتور هناك وجهة نظر لدي سلطتنا أن...
هنا تمت مقاطعة المتسائل البريء من قبل الحضور ولم يستطع أن يواصل أمام سيل التهم التي انهالت على رأسه..
ـ هذا عميل للسلطة مدسوس علينا..
ـ يسمحون لنا بعقد الندوات ثم يزرعون بيننا من يفسدها علينا
وقال المتسائل وهو مبهوت :
ـ والله أنا منكم فقط كنت أعرض وجهة النظر الأخرى ليرد عليها الدكتور العوادلي ..
هنا تكلم العوادلي :
ـ يا عزيزي هناك نقاط محد.. محددة تم الاتفاق عليها لتتم مناقشتها في الندوة ولا يـ.. يحق لأي أحد أن يخرج على تلك النقاط.. واضح؟..
وجلس المتسائل ممتقعاً وهو يداري أفكاره السوداء..
بعدها عاد العوادلي يواصل كلامه عن القمع وتكميم الأفواه!
لكن ما حقيقة النظرية الأخرى التي تتبناها السلطة.. والتي لم يسمح العوادلي بعرضها في ندوته..
النظرية المضادة تتحدث عن الظلاميين كشعب غامض مخيف لا يمت بصلة لشعبنا الطيب المسالم..
***
لا تقترب.
هذه اللافتة ستجدها بكثرة بالقرب من قاع المدينة.. حيث تكثر تلك الفجوات التي توصل لعالم سفلي يمر عبر شبكات معقدة تحت أرض المدينة.. لكن ماذا لو تجاهل أحدهم تلك اللافتات..
بعض من قرروا الولوج في قاع المدينة والاقتراب من الفجوات الأرضية.. لم يعودوا ليخبروا ذويهم بما رأوا.. ولم يتوقف الأمر على المغامرين فقد جرت حوادث قتل عديدة وغريبة لأفراد من شعبنا بعيداً عن قاع المدينة وكان التفسير عند السلطة أن هذه الحوداث جراء تسلل ليلي لأحد كائنات الظلام.. وفى الصباح كنا نجد جثة أو جثتين وأحياناً كان يتم خطف الأجساد إلى سرداب غائر في قاع المدينة أو كهف عميق في أحد الجبال .. ماذا كان يحدث للمختطفين .. ؟
حول هذا تدور التكهنات .. ويمكنك أن تستنتج ذلك بسهولة لو علمت أن الجثث التي وجدت كانت خالية من الدماء.. لكن طبعاً هناك من يشكك في نسبة ذلك للظلاميين أصلاً وتبقى الأمور عائمة.. وهذه النظرية التي تبناها رجال السلطة عندنا عاملوا الطائفة الظلامية من خلالها..
كنا نسمع بين الحين والحين أن السلطة جردت حملة شعواء على كل البؤر القريبة للكائنات الظلامية ..
لا أحد يغامر بإنزال قوات السلطة لتلك البؤر لذا يتم ضرب تلك البؤر بقاذفات اللهب .. وكان هذا يثير الجمعيات الحقوقية لدى شعبنا والتي تتصل مباشرة بشعوب الخارج خصوصاً الشعب الأصفر ..ويبدأ الضغط العالمي على شعبنا من أجل رفع الأكف عن طائفة مقهورة يدفعها القحط والظلم إلى اعتداءات فردية غير مسئولة.
والحل...
ـ الحوار ....
هكذا قالها السيد الأشقر نوسام المندوب السامي عن الشعب الأصفر أمام حشد من رجال الصحافة والإعلام في مؤتمر عالمي صاخب ..
سأله أحد الصحفيين:
- وكيف يتم الحوار مع طائفة تحيا في السراديب والكهوف ولا أحد يعلم لهم متحدث رسمي يمكن التفاهم معه .
هنا أشرق وجه الأشقر وقال بحماس يحسد عليه :
ـ الحوار لغة الشعوب المتحضرة وإذا كنت تحاور همجياً بربرياً بنجاح فهذا يعنى أنك غلبته بتحضرك ..أما الفشل فقد يعنى أنك لست متحضراً كما تدعى ...
كانت كلماته تتنزل على أذان السيد المسئول الأكبر عن شعبنا كالكرابيج والرسالة باتت واضحة .. نحن فاشلون في دمج تلك الطائفة المسكينة في باقي أطياف الشعب .. ولم يكن أمام السيد المسئول الأكبر سوى دعوة السيد الأشقر للقاء كائنات الظلام ولسان حاله يقول :
ـ عسى أن تبتلعه حفرة من حفر الظلاميين أو يغوص في كهف من كهوفهم إلى الأبد وتكف سلطة شعبه عن الحديث حول الحوار معهم
***
في تلك الأثناء غادر السيد وسام دائرة الظل التي لا يفارقها إلا في حالة حدوث أمر جلل..
كان فارع القامه أصلع الرأس لم يبق إلا بعض الشعر التذكاري على جانبي رأسه لكن له عينان سوداوان عميقتان تجذبانك جذباً ناحية هاويه بلا قرار ...وكان كذلك مندوباً من سلطة شعبنا لاستقبال نوسام القادم للحوار مع الظلاميين ..
وسام وإن كان يظهر بمظهر الدبلوماسي الحاذق لكنه في نفس الوقت رجل أمن من الدرجة الأولى .. بطل من أبطال شعبنا المنسيين.. وهو كذلك خبير في مواجهة الطائفة الظلامية ( فهو ممن يتبنون النظرية الأخرى عن الظلاميين ) وكان خير مبعوث من شعبنا لاستقبال السيد الأشقر واصطحابه إلى شتى البؤر التي يريد زيارتها في محاولته الاتصال بالكائنات السفلية ...
ـ السيد وسام – قالها نوسام – أنت أخر شخص اتوقع وجوده في استقبالي.
نظر له وسام وابتسم في مقت قائلا ً:
ـ المسئول الأول عن شعبنا يهتم بدعوتك للحوار..
ـ أظن أن مجيئي كان من أجل الحوار .. لا الحرب..
ـ لست هنا بصفه أمنية .. أنا معك بصفة دبلوماسية بحتة..
طبعا ًلم يقتنع السيد الأشقر وما اهتم وسام بإقناعه.. عليه فقط أن ينهي تلك المهمة السمجة ويعود بتقريره الموعود للمسئول الأكبر ...
ـ إذن هلا بدأنا جولتنا...
قالها السيد نوسام في مرح فرد عليه وسام في سماجه:
ـ هل تحب أن تبدأ بالحفر في قاع المدينة أم بالكهوف في الجبال؟
ـ معي فريق علمي متكامل سيحدد لنا الهدف بدقة...
تجاهل وسام الرد على عبارته الأخيرة وإن كان عقله قد اشتعل بها وصار كالأتون الملتهب.. فريق علمي.. سيحدد الهدف ..
وإلى جوار السيد الأشقر كان هناك ثلاثة شباب يرتدون المناظير الطبية ومعهم حقائب متوسطة الحجم قدمهم نوسام بانتشاء لوسام :
ـ رجال الفريق ب.. لديهم وسيلة علمية ترصد تحركات الظلاميين بدقة..
قال وسام من بين أسنانه :
ـ هل شكلتم فريق كامل لاختراع وسيلة رصد لكائنات الظلام .. هذا مجهود شاق واهتمام فائق لو أردتم رأيي.
ـ السلام العالمي هو أسمى أهداف شعبنا الأصفر كما تعلم ومن أجل هذا الهدف نبذل الكثير والكثير...
فرك وسام أذنه قائلا ً في ملل :
ـ هذا يحفظه كل طفل يشاهد طائراتكم وهى تقصف بيوتهم ليل نهار من أجل السلام العالمي...
مط نوسام شفتيه معلنا ً عبثيه الحوار مع وسام في تلك النقطة ثم إنه أعلن في حبور عن بزوغ فجر جديد ..فجر الحوار التاريخي مع كائنات الظلام . وسطعت أضواء عدسات التصوير على وجهه ووجوه رجال الفريق ب . وظهر وسام الذى فضل أن يوليه لعدسات التصوير... فهو لم ينس بعد حسه الأمني الرافض لأضواء الصحافة والإعلام ..
وسمع همس نوسام في أذنيه :
- ليس الظلاميون وحدهم من يخشى الأضواء يا عزيزي..
ولم يجد وسام رداً أفضل من أن يبتسم له مكشراً عن أنيابه ....
***



(2)
قاع المدينة ...
حيث تكثر الفجوات التي توصل لعالم سفلى تحكمه طائفة الظلام ..
لا أحد يمرح ويسرح ليلاً بالقرب من تلك الفجوات إلا إذا كان مخبولاً أو مخموراً ... وغالباً لن يعود ليحكي ما حصل ..ليؤكد أو ينفي .. وتبقى الأمور عائمة.. لكن ذلك الشاب اليافع الذى يمضى قدماً في سبيله لا يلوى على شيء تؤكد خطواته الواثقة الحازمة أنه ليس مخبولاً أو سكيراً .. ذلك الشاب يمضي ناحيه الخطر بإصرار ... لم يبق إلا الانتحار ... ذلك الفتى يريد أن ينتحر بولوجه إلى قاع المدينة في ذلك الوقت من الليل ..
ـ قف ..
صرخة حازمه لا تخرج إلا من حنجرة مدربة على الصراخ بهذه الطريقة الأمنية الحازمة ... تجمد الشاب في مكانه ثم التفت ببطء إلى مصدر الصوت..
ـ هل أنت معتوه ...؟
قالها رجل السلطة وهو يقترب من الفتى.. تلفت حوله في حذر ثم أمسكه من كتفه هامساً :
ـ هل تريد الانتحار ..؟
نظر له الشاب نظرة خاوية... وتساءل :
ـ لماذا تنزعج بهذه الطريقة يا رجل السلطة ...؟
ـ ألا تفهم ... أنت تقترب منهم ....
ـ تقصد أبناء الظلام ... ألم تعلن السلطة عن دعوتها للحوار معهم وجاء وفد من الشعب الأصفر لبداية الحوار ... لماذا نخاف من الاقتراب إذن ..هه..؟
وسكت الشرطي..
كان شيخاً قد جاوز الخمسين لكنه وقف حائراً تائهاً لا يعرف كيف يرد على ذلك الفتى اليافع ..
ـ ما اسمك أيها الشاب ...؟
ـ نادر...من شرق المدينة ...
رتب الشرطي عاتقه في رفق قائلاً :
ـ تعال إذن معي بعيداً ... المكان هنا خطر جداً ..
دفع نادر كفه بعيداً وصاح بحنق :
ـ خطر!... كيف سنتحاور إذن مع ذلك الخطر ...؟
ـ ليس هذا من شأنك ..
جاءت العبارة القاسية الحازمة من خلفهما فأجفلا ...
تراجع رجل السلطة للخلف ممتقعاً وهو يؤدى التحية العسكرية بيد ترتجف على حين ظل الشاب على وقفته المتحفزة كالسهم الذى يستعد للانطلاق في أيه لحظه ...
ـ السيد وسام شخصياً ..
مد السيد وسام كفه ناحيه الفتى مصافحاً ولم ينكر الشاب مدى قوة الشخص الذى يواجه..
كأن تياراً كهربائياً مر عبر أعصابه وهو يصافحه ...
ـ أنت شاب من شبابنا الواعد كما أرى.. ولا يتوجب عليك أن تقف من سلطتك هذا الموقف الحانق المتشكك ...
حاول نادر السيطرة على أعصابه وهو يقول :
ـ أريد فقط أن أفهم ..
نظر وسام في ساعته قائلاً :
ـ ليس الآن...
ـ لماذا ...؟
ببطء يرفع وسام عينيه إلى الشاب ..وبهدوء وثقة يكرر :
ـ ليس الآن..
هنا وجد الشاب حشداً مرعباً من رجال السلطة في الأزياء الرسمية يحول بينه و بين السيد وسام حتى لا يكاد يرى سوى صلعته اللامعة وعينيه العميقتين المطمئنتين....
نظر إليه نظرة متسائلة بمعنى : هل اطمئن؟.. فنظر إليه وسام نظرة أبوية مطمئنة بمعنى : اطمئن هذا وعد .. و بينما حمل نادر حملاً بعيداً عن المشهد عقد وسام كفيه خلف ظهره ورمق المكان في برود قائلاً :
- هل المكان جاهز..؟
اقترب منه سليمان ساعده الأيمن و همس في أذنه بشيء ما .. فرفع ساعته إلى عينيه و قال :
ـ على بركة الله...
بعدها ظهرت السيارة الدبلوماسية تحمل شعار الشعب الأصفر و بداخلها وفد الحوار الموعود ....
***
تم اختيار الفجوة بعناية فائقة .. وقام الفريق ب بوضع أجهزة دقيقة وتوصيلها بأسلاك متصلة ببعض الشاشات و أخرج الأشقر آلة حاسبة و أخذ يضرب أخماس في أسداس و بعد ساعة أعلن أن هذه الحفرة أو الفجوة مثالية تماماً ...
كان السيد وسام يراقبه من داخل عربة خاصة من وراء منظار داكن و بيده اليمنى تناول علبه عصير ورقيه و قام برشف رشفات منها ثم التفت متسائلاً إلى سليمان الجالس إلى جواره بالسيارة :
ـ هل أحضرتم بعض اللب و الفول السوداني ...؟
قال معاونه في هدوء :
ـ اعتقدنا أن السيد الأشقر سيكون أكثر تسلية من اللب و الفول السوداني يا سيدى ..
بالفعل كان مسلياً وهو ينبطح على وجهه جوار الحفرة و يسترق السمع.. ثم يعتدل و يخلع سترته و يشمر عن ساعديه معلناً أنه مستعد الأن للنزول..
كان هناك عدد لا بآس به من كاميرات التليفزيون وكاميرات عدة قنوات عالمية و محلية تنقل الحدث الجلل لحظه بلحظه..
الحدث العالمي .. اللقاء المرتقب مع أبناء العالم السفلى تتبناه حكومة الشعب الأصفر ..
ـ الأن سأنزل و معي الفريق ب مزودين بكاميرا لنقل الحدث .. لا حراسه و لا سلاح ... هذا هو القانون ... اليوم سنكشف لكم جانب خفي ظل مستوراً لعقود عن الطائفة الظلامية ...
و همس سليمان في أذن السيد وسام :
ـ ترى هل سيعود ...؟
ضغط وسام على أسنانه و قال :
ـ سيعود ... بنى الأصفر لا يتهورون .. و لا يضحون برجل مثل نوسام .
ثم ألقى نظرة من أسفل منظاره الداكن على نوسام والفريق ب وهم يثبون داخل الحفرة حاملين معدات التصوير اللازمة... وعاد ليقول لمعاونه في حسم :
ـ من أجل هذا تم تكليفي بتلك العملية..

في نفس الوقت علت شهقات ملايين المشاهدين المنبهرين بما فعله نوسام وفريقه منذ ثانية واحده.. مذاعاً بالبث الحى عبر الأقمار الصناعية.. يا لشجاعته!.. يا لبسالته!.. وتفانيه من أجل قضية الحوار .
هكذا كانت عبارات الإعجاب و الانبهار عبر شعوب العالم ... واحد فقط أبتلع كل هذا بداخله وحافظ على هدوء أعصابه رغم ما يعتمل في نفسه من قلق و شك و ريبه.. هذا الواحد هو وسام رجل الشعب الأمني ...
قال لمعاونه في برود لا يخلو من حدة :
ـ شغلوا البث المباشر...
كانت سيارته مزوده بجهاز مرئي صغير الحجم لكنه أستطاع رؤيه ما يحدث بدقه ...
حشد الصحافة والإعلام يتابعون ما يجرى داخل الفجوة عبر شاشة مرئي مسطحه ..
كان الأشقر يتحرك داخل الفجوة الأرضية في حذر..
تأملته أم نادر في انبهار عبر الشاشة و هي تضع صحفة الطعام أمام ولدها لكنه كان قد استعاض عن الطعام بأصابعه التي كان يعض عليها متابعاً الأحداث على الشاشة ..
ـ إنه يشبه ذلك الممثل الذي يحبه أخوك مدحت..
نظر لها نادر ولم يعلق ..ابتلع أفكاره وعاد يتابع العرض ..
الأشقر يتعثر يعتدل فيتنفس المشاهدين الصعداء... كان نوسام يقدم عرضاً سينمائياً لا تستطيع معه أن تغمض عينيك...
ممر ضيق طويل يبدو بلا نهاية و يبدو من صوت أنفاس الأشقر أن الهواء بدأ يقل و من قلبه دعي عليه السيد وسام بأن يلفظ أنفاسه الأخيرة.. هنا سمع المشاهدون عبر الشاشات صيحة الأشقر المنتصرة ..
ـ مرحى... هل ترون ما أرى ...؟
ولمح المشاهدون ذلك الجسد النحيل المضطرب يتحرك من اليمين لليسار و سمع الكل صيحة حادة أشبه بصيحة وطواط منزعج
ـ تعال يا صغيري ... لا تخشى شيئاً.. بابا جاء إليك للحوار.. أعرف أنك مبعوث من قبل عشيرتك... أعرف أنك تفهمني مثلما أفهمك ... دعنا نثبت للعالم أنكم أناس مسالمون...
مره أخرى تحرك الجسد النحيل و بدا للحظه وجهه أمام الشاشات فعلت صيحات الدهشة و الفزع من ملايين المشاهدين و رجال الصحافة المحيطون بالفجوة ...
أما وسام فقد أراح ذقنه على راحته وهو يتمتم :
ـ إنه هو ..كما توقعنا ..
قال سليمان في بطء حذر :
ـ كان ينبغي أن نبيد تلك الطائفة الملعونة..
لم يعلق وسام ..وعاد يتابع المشهد ..
كان نوسام الآن قد جلس متربعاً.. جذب نفس عميق ثم تمتم في انبهار وهو ينظر في الجهة التي يختبئ فيها الكائن :
ـ مذهل ... لقد حدث تبدل مزرى لهذه الطائفة البائسة...
و تحركت الكاميرا لتتركز الصورة على الكائن ... كان شبيهاً بالبشر في أطرافه مع نحول شديد وشحوب في البشرة وله عينان واسعتان جداً و شفتين و أذنيه تشبه أذني الوطواط...وشعره أسود فاحم منسدل على كتفيه و يرتدي معطف طويل أسود ومهترئ..
ـ مصاص دماء..
هكذا تمتم نادر وهو يتأمل الكائن على الشاشة.. بالفعل هذا هو ما كان يبدو عليه ذلك الكائن بالنسبة لغالب المشاهدين .. حتى أن الأشقر بدأ يتحسس عنقه وهو يقترب منه حثيثاً ..
ـ هل تفهم لغتي...؟
لمعت عينا الكائن للحظه ثم .. انفرجت شفتيه فبرزت أسنانه الحاده لتزيد الطين بلة.. وشهق نوسام وحبس المشاهدين أنفاسهم .. و
ـ نعم أفهم ...
ودوت الشهقات المذهولة عبر حناجر ملايين المشاهدين... المفاجأة كانت مذهلة... وصاح الأشقر مهللاً :
ـ مرحي... أنتم تتكلمون بلغة الشعب الأسمر...هذا سيسهل مهمتي و سيوضح قضيتكم أمام العالم ... العالم كله الأن يستمع إليكم ... و لأول مرة بعد عقود من الاضطهاد و العنف الذى عانيتموه في القاع...
مرة أخرى تلكم الكرابيج تهوى على أذن وسام ... هذا التبكيت الموجه كالصواريخ الموجهة.. لابد أن صاروخاً وصل لحجرة السيد المسئول الأكبر الأن وهو جالس يتابع الأحداث من مكتبه ... كان وسام يعرف أن حكومة الشعب الأصفر تصطاد في الماء العكر و أنها ستستغل قضية الكائنات الظلامية أسوأ استغلال ...لكن المدهش هنا بالنسبة لأبناء شعبنا هو: كيف قررت تلك الكائنات الوحشية أن تبدل سياستها مع سكان السطح و تقرر الجلوس على مائدة الحوار؟.. و لماذا يتم هذا مع بنى الأصفر... وسام يعلم أنهم يجيدون لغتنا لأنهم أصلاً من بنى شعبنا و لأنه واجههم كثيراً و له معهم ملف حافل بالأسرار... لكن المدهش هنا هو هذا الكائن الذى جاء ليوصل للعالم رسالة ما من عشيرته... رسالة ربما تقلب العالم على رؤوس سلطة شعبنا.... كان يتكلم الأن بصوت كالفحيح يتناسب مع هيئته التي تشبه الصورة التقليدية لمصاصي الدماء ...
ـ لم تمتد إلينا أيدي البشر إلا بالقتل و الحرق...
اعترض نوسام قائلاً :
ـ تقصد أيادي شعبكم الأسمر فأنتم بشر مثلهم لكنه القهر الغير مبرر..
ـ نحن لا نفرق ... كل الكائنات التي تحيا في النور تتشابه ...
ـ صدقني هذا التشابه شكلي فقط ... و إلا ما أرسلت من قبل شعبي الأصفر لإجراء هذا الحوار معكم ... نحن نختلف عن الأخرين .
ـ إنه لمن دواعي سرور شعبنا الظلامي أن يجد أخيراً من يستمع
إليه... نحن طائفة عاشت لعقود طويلة تحت الأرض و في الكهوف لكننا لم ننس أصلنا أبداً ... لكن البعض حاول على مدار السنوات أن يجعلنا ننسي ... و نقنع بباطن الأرض ... و نحن نعلم أولادنا جيل بعد جيل ... أننا و أبناء ظهر الأرض إخوة لكنهم بغوا علينا و لابد أن نعود يوماً للسطح و ننعم بالضياء مثلهم .
مسح نوسام عبرة كادت تغادر مقلتيه!.. ثم قال في تأثر :
ـ هذا فظيع !...
ـ مهما تكلمت أيها السيد القادم من السطح فلن أعبر عما يجيش به شعبنا من مشاعر المرارة و الحسرة و الظلم ... و لم يكتف إخواننا بهذا بل أثاروا حولنا الشائعات المغرضة التي زادت من الفجوة بيننا و بينهم فوق الأرض ...
ـ لا تظلم جميع إخوانك ... لعلها طبقه معينة تتحكم بمصير هم على مدار العقود و تعمى عيون الجميع عن الحقيقة ...
ـ أعرفهم ... و نسميهم عندنا تنانين النار ... لأننا لم نري منهم سوى الحرق بالنيران ...
قالها ثم خلع رداءه واستدار كاشفاً ظهره للكاميرا .. فظهرت فقرات ظهره جلية مع عظام قفصه الصدري و معها علامات حرق بشعه جعلت نوسام يكتم فمه بكفه مانعاً شهقة جزع عارمة!... كان ظهر الكائن الظلامي قد حفرت فيه أخاديد بفعل النيران ..
لا أحد يغامر بإنزال قوات شرطية لتلك البؤر .. لذا ..يتم ضرب تلك البؤر القريبة للكائنات بالنابلم ..
كانت قبضة وسام تسحق علبه العصير الورقية وكان من داخلة يصرخ : هذا عبث .. هذا خطر ..هذا للأسف لا يمكن إيقافه لأنه يشاهد من قبل الملايين ..
وكان الكائن الظلامي قد عاد بوجهه للشاشات ليستطرد :
ـ نحن لا نطالب إلا بحقنا في النور .. أن تلسع جلودنا حرارة الشمس و ننعم بضيائها .. فهل تسمحون ..؟
تنحنح نوسام ثم قال في جدية :
ـ أيها السيد الظلامي .. باسم شعبنا الشعب الأصفر .. أبلغكم تضامننا الكامل مع قضيتكم .. و دعمنا الكامل لكم في حياة متكافئة مع إخوانكم فوق الأرض... و ستتحمل حكومة شعبنا عبء التفاوض مع شعبكم حتى يسمح لكم بالعيش معكم على السطح سواء بسواء ..
و مد يده إليه مصافحاً وهو يكمل بدبلوماسية :
ـ شرفت بلقائكم .. أنا نوسام مندوب الشعب الأصفر.
ومد إليه الكائن كفاً نحيلة باردة وهو يقول :
ـ شرفت بلقائكم .. أنا يسرم مندوب الشعب الظلامي ..
وكان التصافح الحار عبر الشاشات و أمام ملايين المشاهدات وتحت سيل العبرات.. يقول بكل وضوح أن الأيام القادمة حبلى..
***




(3)
أحياناً يذهب نادر إلى مقهى مجاور لمنزله .. ليس له أصحاب كثر لكن هناك حشد من رواد المقهى يتمتعون بروح مرحة ومسلية.. يجد نفسه أحياناً أمام عروض مسرحية بلا مسرح لشرائح متنوعة ومختلفة من مجتمعه.. كان بحاجه هذه المرة إلى قياس ردة فعل الشارع بخصوص اللقاء غير العادي مع الطائفة الظلامية...
فيما يفكر الناس؟..
و هل هناك أحد يوافقه في رأيه فيصرح به؟.. أم يخرس للأبد؟ .. كان أولهم الحاج فوزي صاحب المقهى وهو دائماً متهم من قبل رواد المقهى بالاستغلال والغش فيما يقدم من مشاريب شعبية.. كان رأي ذلك الطاغية الصريح كما يلي :
ـ لقد أدمع ذلك الكائن قلبي قبل عيني.. هل هؤلاء هم وحوش ما تحت الأرض كما حاولت السلطة المفترية أن تقنعنا ..؟ حسبي الله و نعم الوكيل ..
وثانيهم الشاب محسن أحد هؤلاء الذين اعتبروا البطالة مهنة مقدسة والجلوس على المقهى هو استراحة محارب لابد منها بين ساعات العمل الشاق!! كان يدخن النرجيلة و ينفس سحب الدخان من منخريه باحتراف واقتدار فبدا كتنين أسطوري قرر أن يتنازل ويدلو بدلوه في أزمتنا السياسية :
ـ مئة بالمئة هناك سر تخفيه السلطة حول هذه الطائفة .. لماذا تضطهد تلك الطائفة المسكينة لعقود من قبل السلطة .. لابد أن هناك في الموضوع سر ..
وهناك الشيخ حسن أحد مقرئي المآتم المعتبرين في المدينة ويبدو أنه يقوم بعمل (عمرة) لرأسه قبل أن يقرأ على روح أحد المراحيم بمآتم مجاور .. لكن هذا لا يمنعه أحياناً من أن يكون له رأي فيما يدور.. وبلهجة العالم ببواطن القبور تكلم :
ـ الافتراء له أخر.. و الكذب ليس له أرجل.. لقد فضحتهم شعوب بني الأصفر ...و قلبت عليهم بقية الشعوب ..
بعدها تتابعت الآراء المفحمة ..
ـ هؤلاء لديهم حرية .. حرية حقيقية يا رجل ..
ـ ونحن لدينا (حُمرية) .. (حُمرية) حقيقية يا رجل...
ـ هع .. هع .. هع .....
أغلق نادر أذنيه بكفيه و قرر أن يفر من هذا الجحيم .. لقد فهم .. عليه أن يخرس و لا يدلي بدلوه ... لا أحد يفهم .. و ربما كان هو واحداً من هؤلاء الذين لا يفهمون .. لكن ..
أريد فقط أن أفهم ..
ليس الأن ..
لماذا ..؟
ليس الأن..
السيد وسام يفهم .. أنه يثق به .. كذلك شعبنا كله يثق به .. لكن هل ستظل تلك الثقة موجودة بعد عرض السيد نوسام المباشر على الهواء ..؟
هنا صم أذنه صياح جماعي حانق..
مظاهرة عارمة تجوب الطريق الرئيس رافعة لافتات تندد بممارسات سلطة شعبنا تجاه الظلاميين .. لكن هل هذا المحمول على الأعناق هو العوادلي شخصياً؟..
كانت صورته دائماً ما تثير الضحك بصلعته وعويناته التي تشترك مع أنفه وشاربه في صنع وجه كاريكاتيري يثير السخرية ..
لكنه بدا له في تلك اللحظة أقرب لغراب البين..
***
مقابلة هامة جرت بين السيد وسام و المسئول الأكبر عن شعبنا و دون تردد أخرج السيد وسام ملف ضخم ووضعة على مكتب المسئول الأكبر .. نظر الأخير للملف ثم لوسام.. ثم تكلم بلهجة هادئة :
ـ هل هذا هو كل شيء يا وسام ؟..
ـ خلاصة مجهود شهور مضنية من جمع المعلومات و فحصها و تحليلها وصولاً للنتائج النهائية والتي كنا نتوقعها أيها المسئول الأكبر ..
قلب المسئول الأكبر أوراق الملف وهو يلقي بنظرات عابرة على بعض الفقرات و حبس وسام أنفاسه ..
ترى كيف سيكون القرار ..؟
ـ ما رأيك ..؟
قالها المسئول الأكبر دون أن يرفع عينيه عن أوراق الملف.. و جاء الجواب القاطع من وسام ..
ـ لابد أن نفضح كل شيء أمام الرأي العام العالمي ... نتغدى بالشعب الأصفر قبل أن يتعشى بنا ..
قطب المسئول الأكبر حاجبيه مستنكراً الفكرة .. هو يعرف حكومة الشعب الأصفر جيداً ... وهذا الكشف المدوي قد يدفعهم إلى عمل جنوني غير مضمون العواقب ..
ـ لكن يا سيدى ....
قاطعة المسئول الأكبر في حسم :
ـ هذا هو قراري يا وسام ..المرحلة القادمة ستكون أصعب ما يكون على شعبنا و أمنه و سلامته سيكونان على المحك.. الصدام مع الشعب الأصفر قادم لا محالة فقط علينا أن نؤخره بقدر الإمكان
وأطرق وسام إلى الأرض.... لم يكن ليعترض رأي المسئول الأكبر فهو صاحب القرار النهائي و الحاسم لسياسة شعبنا ... كما أنه ـ أي وسام ـ مستعد لكل الاحتمالات و قد أعد بالفعل خطة احتياطية إذا ما قرر المسئول الأكبر سلوك الطريق الأخر...
و شد وسام قامته في اعتداد أمام مكتب السيد المسئول الأكبر و ووعده أنه سيبذل و رجاله أقصى ما يمكنهم لتحقيق أمن و سلامة شعبنا... كلا الرجلين كان يثق في الأخر .. كلا الرجلين كان مقدما على أحداث عاصفة و جارفة .. تحتاج إلى قدر خرافي من التحمل و التضحية و التفاني ..
و كانا أحق بها و أهلها..
ـ لقد بدأت التظاهرات بالفعل.. العوادلي يقودها بنفسه..
قالها سليمان للسيد وسام و هو يغادر مكتب المسئول الأكبر فلم يبد عليه أي تأثر ..فقط قال و هو يضع منظار الشمس الداكن على عينيه:
ـ لقد دارت العجلة و لم يعد باستطاعة أحد إيقافها...
***
بالأمس كان شعبنا يرتجف خوفاً من ذكر بؤر الظلاميين و يخشى الاقتراب من الفجوات التي يتسللون منها.. و اليوم .. تخرج التظاهرات تطوف بالفجوات مطالبة بخروج الظلاميين إلى النور ..كثير من الأبواق الشعبية التي كانت تندد بالظلام و الظلاميين صارت أبواق دعاية لهم .. و لقضيتهم ..
الدكتور العوادلي ظهر أمام الشاشات يقود المظاهرة الحاشدة ناحية واحدة من الفجوات .. وتوقفت المظاهرة عند حافة الفجوة وبدأ الهتاف المحموم بحق الظلاميين في الخروج للنور.. وبعد قليل نقلت وسائل الإعلام صورة العوادلي وهو يتأبط ذراع يسرم الذي غادر باطن الأرض.. ووقف الاثنان يبتسمان وهما يشيران بعلامة النصر ..
طبعاً اقتحم المشهد حشد من رجال السلطة المدججين بالعصي والدروع بغية الوصول ليسرم..
لكن كان عليهم أولاً أن يخوضوا بحراً متلاطماً من البشر الغاضب
وبدأ الصدام المروع ..
ومع أول قنبلة دخانية و أول دفعة مياه لتفريق المتظاهرين تنصب كراهية شعبنا لرجال السلطة حماة الشعب و تنانين النار كما يدعوهم الظلاميون ..
لم تعد المعركة معركة السلطة مع الظلاميين..
صارت معركة سلطة مع شعب.. لم يكن رجال السلطة من المريخ.. هم من أبناء شعبنا.. يستفذهم ما يستفذنا.. وينتابهم ما ينتاب سائر البشر.. وكان هناك من يلعب على ذلك الوتر باحتراف..
وحينما نجحت قنابل الغاز والماء في دفع الحشود وإخلاء المكان المحيط بالفجوة التي غادرها يسرم لم يكن للأخير ولا للعوادلي أي أثر..
ذابا كما يذوب الملح.. حتى تشكك البعض في أنهما كانا موجودان أصلاً..
خرجا.. نفخا في نار الفتنة فتأججت.. وعادا من حيث أتيا..
توقف رجال السلطة يلهثون عند حافة الفجوة المظلمة.. هم يعرفون أن الاقتراب بدون سلاح قاذف اللهب خطر جداً.. هكذا علموهم..
ـ إنهم مصممون
همس بها أحدهم وهو ينظر للحشود التي عادت تقترب من جديد في تصميم..
ـ الحرية للظلاميين
ـ تسقط السلطة..
وحينما قذف أول حجر وشج أول رأس ارتفع النداء عبر أجهزة الاتصال يأمر أفراد السلطلة بالتراجع وعدم الرد.. كان مشهداً لا ينسى..
رجال السلطة يتراجعون محتمين بالدروع متبوعين بأمطار من الحجارة.. والحشود الغاضبة تتقدم على أصوات الصراخ والهتاف المحموم..
لقد مرت علينا أيام نحسات لم نر مثلها من قبل ..
لم يكن أحد يفهم بالضبط إلى أين تنقاد الجموع الغاضبة..
وما سر كل ذلك الغضب المبالغ فيه ؟.. كانت عاصفة العقل الجمعي تعصف بكل دعوى للتعقل والنظر عن بعد.. السلطة شياطين من سقر ولابد أن يعودوا من حيث أتوا!..
صدامات عنيفة جرت تطورت إلى حد مهاجمة مقرات السلطة نفسها ونظرة أمنية فاحصة على كل ما يدور كانت تؤكد أن هناك يداً آثمة تعبث بهذا الشعب الطيب وتقوده إلى الهاوية ..
وللناظر من خارج أن يرى ما لا يراه الناظر من قلب ميادين المواجهة بين أبناء شعبنا وسلطته..
ـ الوضع سيء ...
ـ هناك محاولة جادة لإنهاك رجال السلطة..
قالها السيد وسام عبر الهاتف فاخترقت عبارته أذن مقدم رجال السلطة .. ازدرد لعابه وقال :
ـ أريد تعزيزات .. لو استمر الأمر ستعم الفوضى المدينة.
ـ لا تسمح بانهيار رجالك، هذا هو ما يراد .. الظلاميون لن يغادروا إلا بعد انهيار السلطة .. و ستأتيك تعزيزات ..
و أغلق الخط معه ثم التفت إلى معاونه سليمان :
ـ هذا الرجل لن يصمد لساعات ...الأغبياء يهدمون السد الذى يحميهم من طوفان الظلاميين..
ـ المشكلة أننا نمنع رجال السلطة من إطلاق الرصاص الحى على شعبنا الهائج..
أغمض وسام عينيه قائلاً :
ـ ولن نفعل ..
قال سليمان في حذر :
ـ نطلق الرصاص الحى .. فيموت البعض .. من أجل حياة الجميع .. حتى لو لم نفعل.. تهمة قتل المتظاهرين جاهزة قتلنا أم لم نقتل..
فتح وسام عينيه وقال في برود :
ـ أو نقطع على الجميع الطريق ... أطلب لي المسئول الأكبر ...
طلب سليمان رقماً ثم ناول وسام الهاتف... و حينما جائه صوت المسئول قال :
ـ سيدى .. لا بد من احتواء الموقف سريعاً...
ـ لا عنف يا وسام .. هذا خط أحمر ...
ـ لست هذا الرجل ... كل ما هنالك أننا سنخرج على الرأي العام و نعلن لهم موافقة السلطة على خروج الظلاميين إلى سطح الأرض...
لم يتلق جواباً .. فقط صوت تنهيد عميق أصدره السيد المسئول الأكبر..
الكل يعرف أن هذه الخطوة قادمة بلا ريب.. لكن ليس الخبر كالمعاينة.. واستطرد وسام :
ـ سيغادر الظلاميون إلى السطح بعد إنهاك قوة السلطة فلماذا لا نرتجل وندعهم يخرجون ونحن محتفظين بقوتنا .. من يدري ربما قرروا تغيير قواعد اللعبة كلها..
ـ ومن يحب لقواعد اللعبة أن تتغير؟
ساد الصمت برهة.. ثم تكلم وسام :
ـ سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذا عهدي لك..
ـ لعلك على حق كعهدي بك يا وسام ..
و بالفعل خرج السيد المسئول الأكبر على الشاشات ليعلن أنه قرر بداية عهد جديد من التسامح مع سكان باطن الأرض ..
و ليخرجوا إلى السطح بسلام!..
***




يتبع

bluemay 26-07-18 11:52 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،

عوداً حميداً أستاذ عمرو


الرواية الجديدة مختلفة عما سبق وطرحته هنا بالوحي..

ممتلئة بالغموض و الرسائل الضمنية والتي تريد اذهانا لماحة ومتفتحة

انتظر القادم لتتضح لي بعض الجوانب التي اشكل علي فهمها.

مع تمنياتنا لك بالتوفيق واتمامها على خير وسلامة

عمرو مصطفى 28-07-18 07:55 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3704462)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،

عوداً حميداً أستاذ عمرو


الرواية الجديدة مختلفة عما سبق وطرحته هنا بالوحي..

ممتلئة بالغموض و الرسائل الضمنية والتي تريد اذهانا لماحة ومتفتحة

انتظر القادم لتتضح لي بعض الجوانب التي اشكل علي فهمها.

مع تمنياتنا لك بالتوفيق واتمامها على خير وسلامة

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..

بورك فيكم يا أستاذة بلومي .. والقصة أضاءت بحضوركم الكريم كالعادة ..
بالفعل قد تكون الرواية مختلفة من حيث الأحداث التي تتناولها .. والرسائل الضمنية أعتقد أنها ستصل
إليكم بسهولة، و مع تتابع الأحداث ربما لن يصير هناك غموض إن شاء الله..
دعيني أعطيك مفتاح للخريطة كنوع من (التغشيش) .. فقط حاولي استعمال المرآة عند قراءة (بعض)الأسماء وستنجلي لك الأمور.
تحياتي لحضرتك.

عمرو مصطفى 28-07-18 08:00 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(4)
نوسام لم يتوقع هذا القرار..
كان يجلس إلى مائدة خشبية في مكان ما تحت الأرض يشبه ممرات الصرف الصحي التي يراها نوسام في بلاده .. ويبدو أن هذا المكان القذر المليء بجثث الفئران، هو أنظف مكان يمكن للأخير أن يجتمع فيه بالظلاميين.. على المائدة كان يجلس شيخ عجوز سقطت معظم أسنانه لكنه استعاض عنها بطاقم أسنان قام بخلعه وانهمك في تنظيفه..
وبين الحين والحين كان يهب واقفاً ويوزع ركلاته وصفعاته على الظلاميين من حوله..
ـ اصمتوا يا حمقى.. أنتم تشوشون علينا تفكيرنا.
كان سمت الزعامة واضحاً على هذا الشيخ.. إذ تكور الظلاميون على جوانب الممرات وهم يعوون كالذئاب.. كانوا جوعى.. وقد طال انتظارهم للطعام..
هنا لمح بعضهم فأر يعدو هارباً فتواثبوا خلفه.. لكن دوت زمجرة حادة جعلتهم يجفلون.. ثم يتراجعون.. وظهر ذلك الظلامي ذو المعطف الطويل وهو يقبض على الفأر بيسراه.. كان هو صاحب اللقاء التاريخي مع نوسام.. وبدا واضحاً من تراجع الجموع الجائعة أمامه ماله هنا من سطوة ونفوذ أيضاً..
الأن يمكنك أن تلمس تشابهاً ما بينه وبين الزعيم.. اقترب واثقاً بحمله من المائدة التي يجلس عليها نوسام مع زعيم الظلاميين.. وهمس بصوت كالفحيح :
ـ شعبنا جائع يا أبي ؟
وكزه كبير الظلاميين ليصمته وهو يومئ بطرفه ناحية نوسام..
كان الأخير مستغرقاً في التفكير العميق..
مال دشرم بجسده على المائدة الخشبية وحاول أن يرسم ابتسامة بريئة على وجهه وهو يسأل نوسام بلطف :
ـ والأن يا سيد..
نظر له نوسام في برود فأردف :
ـ هل سنخرج للنور بالفعل أم؟..
هز نوسام رأسه متمتماً :
ـ هناك من يعرقل سير الأمور ... و لابد أن ننحيه جانباً..
رفع يسرم صيده الثمين إلى شفتيه الداكنتين وهو يغمغم في مقت :
ـ إنه تنين النار الذى يسمونه السيد وسام .. كم أشتاق إلى تذوق دمه..
نظر نوسام ليسرم و تقلصت أمعائه رغماً عنه.. هو يعرف أن الشعوب الظلامية تتقمص دور الوطاويط حتي الثمالة لكنه لم يرحب أبداً برؤية هذا الطقس رأى العين ...
ـ يبدو أنك ستذوق دمه قريباً يا يسرم ..
هنا صاح زعيم الظلاميين في شبق :
ـ سنغادر إذن ليبدأ الحفل.
التفت إليه نوسام محتداً فانكمش حيث يجلس و قد فطن إلى أنه أساء وتجاوز الحد.. قال له نوسام في حزم :
ـ لا قرار لكم على السطح ما دامت السلطة موجودة .. لا بد أن نتخلص من تلك الطبقة الحاكمة ..الطبقة التي تعرف الكثير ..سنستغل الحديث عن سنوات الاضطهاد و القهر و الحرق و سنطالب بمحاكمة المسئول الأكبر و عزله من منصبه و سنحرص على أن يصل شخص أخر للحكم ... أخر شخص يمكن توقعه ...
قالها و هو ينظر إلى يسرم الذى كان ما يزال يستمتع بدماء الفأر ثم قال مستطرداً :
ـ لنتخلص أولاً من العقبة التي تعرقل مخططنا .. الزميل وسام الذى يبهرنا دائماً بالمفاجئات ...
رفع يسرم عينيه الواسعتين إليه و قال في برود :
ـ رجالي لن يستطيعوا الوصول إليه..
ـ لا حاجه بي لخفافيشك .. هذا عمل محترف .. عمل للضباع ..
ثم نظر إلى ساعته مغمغماً :
ـ اتعشم أن يكون الفريق ب مستيقظاً الآن ...
***
نادر لم يشارك في أي من الأحداث التي جرت ..
كان يقضى معظم وقته في متابعه الأخبار السيئة.. مشاهد الدماء ومقرات السلطة المحترقة صارت شعار المرحلة ..ماذا حدث لشعبنا الطيب المسالم.. أي يد آثمة تعبث بهذا الشعب المستكين وتدفعه دفعاً نحو هدف غامض .. كم أحضرت له والدته الطعام و الشراب و هو جالس كالتمثال أمام الشاشة يتابع الأحداث بعين لا تطرف.. ثم تأتى بعد ساعة لتجد الطعام و الشراب كما هو ... و كان يسمعها و هي تدعوا الله أن يهدئ الأحوال و تعود الحياه الطبيعية لشعبنا المسالم الآمن كما كانت دائماً ...
ـ كيف و نحن نسعي لإخراج الظلاميين من معاقلهم يا أمي ..
التفتت إليه و هي تحمل الصفحة التي برد بها الطعام و قالت في أمل :
ـ هم إخواننا .. و قد عانوا كثيراً و أن الأوان أن يعودوا إلى سطح الأرض..
أمسك نادر رأسه و قد بدأ الدوار يكتنفه ... حتى أمه وصل إليها ذلك الفيروس العجيب ..
أم لعله هوس جرى في عروق الناس مجرى الدم ..
ـ حتى أنت يا أمي ..
ـ أخوك مدحت أيضاً خرج صباحاً ليشارك في مظاهرة عارمة أمام هيئة السلطة العامة سيذيعون نبئها بعد قليل .. لقد وعدني أنه سيظهر حتماً و هو محمول على الأعناق .. و سيلوح لي بالتأكيد ..
مدحت أيضاً .. الغر الساذج .. مثال الفشل المجسد قرر أن يكتشف نفسه في جو المظاهرات و الصياح .. و.. و الاختلاط !!
هو يعلم أخيه الطالح جيداً و يعلم سوء نيته .. لكن ماذا يفعل الأن ؟.
هل يبلغ عن أمه و أخيه كي يرتاح منهما؟!.. أم يخرج هائماً على وجهه ... و تذكر الصدامات التي تذاع صباح مساء بين رجال السلطة و الشباب الثائر المؤمن بقضية إخوة الظلام ... هو يعلم أنه لو مات أحدهم في تلك المظاهرة فلن يكون مدحت.. هو كما يقال في المثل العامي مثل العملة الممسوحة سيلف ويدور و يعود إليك مرة أخرى.. لكن من واجبه أن يقلق ..من واجبه أن يخرج ليبحث عن أخيه و يعود به سالماً إلى الدار ..
ـ أمي سأذهب وراء مدحت ..
ـ مرحى هكذا تكون ولدي حقاً .. لا تنس أن تتصل بي حينما تكون قريباً من الكاميرا ..
غادر نادر البيت وصفع الباب من خلفه محنقاً...
- أين ذهبت عقول الناس ؟
لم يبتعد كثيراً حتى لمح أخيه المبجل على ناصية الشارع كان يمشي بانتشاء ملوحاً بعلم شعبنا في يده ... ألم يقل أن هذا الغر الساذج كابوس لا يمكنك الخلاص منه ...
ـ نادر إلى أين ؟.
ـ كنت ذاهباً إليك .
ضحك ضحكه رقيعة و لوح بالعلم في يده قائلاً :
ـ فاتك الكثير .. لقد انتهت التظاهرات .. ألم تسمع بيان المسئول الأكبر .. لقد قرر أن يذعن لرغبة الشعب...سيخرج الظلاميون إلى النور بعد عقود الظلمة و القهر... نجحت ثورتنا على الرغم من كونها بلا رأس..
هنا كان نادر قد وصل إلى مرحلة الانفجار... صرخ في وجهه و هو يتردد في ركله :
ـ ماذا تعرف أنت أيها الغر الساذج عن الظلاميين هه ...؟
تراجع مدحت وهو يدفع بالعلم ليحول بينه وبين أخيه قائلاً في ذعر :
ـ ماذا دهاك يا نادر .؟ لقد أفسد رجال السلطة دماغك بالأوهام و شوهوا لك صورة إخوة الظلام البؤساء ...
ـ و منذ متى و أنت تهتم حتى بأقرب الناس إليك... أنت أبله بليد المشاعر وعديم المسئولية ..
ـ سامحك الله .. لكن أمي على مثل رأيي .. أي أننا أغلبية .. و الحق مع الأغلبية دائماً.. و غداً ستعرف كم كنت مخدوعاً من قبل طغاة السلطة .. حينما نحاكم المسئول الأكبر على جرائمه ضد إخواننا الظلاميين.. و بعد أن استعملهم كفزاعة كي يحكم سيطرته على شعبنا..
وتوقف نادر مشدوهاً..
من أين أتي مدحت الضحل بهذا الكلام العجيب .؟ من الذى لقنه مثل هذا الكلام .؟ وأي شيطان يعبث بعقول شبابنا؟.. هو نفسه كان شاباً لكنه في سن يسمح له أن يميز بين الغث والثمين أما مدحت فقد أتم عامه السابع عشر منذ أسبوع ومازال يخطئ حينما يكتب اسمه مدحت فيكتبه (متحت) لأن هكذا تنطقها الألسنة .. فمن أين أتيتم بالدال إذن؟!
إنها مؤامرة ...
كل شيء يحدث حوله يؤكد له أن هناك مؤامرة ما تحاك لهذا الشعب الطيب في الظلام .. ومنذ حل علينا السيد نوسام بطلته البهية بالذات .. لقد صار الوسيط الرسمي بين الظلاميين و سلطة شعبنا وأحياناً كثيرة يخرج ليصرح تصريحات نيابة عن الظلاميين.. هذا الرجل لغز.. ماله ولنا ... لماذا يتدخل الشعب الأصفر في شئوننا؟..
ـ نادر أين ذهبت؟
رمق أخيه بنظرة خاوية ثم استدار عائداً للبيت دون تعليق..
ـ نادر.. عدت سريعاً.. يا لك من فاشل..
لم يسمع عبارات أمه الساخرة وهو يتجه لشاشة المرئي ويقلب بجنون بين القنوات المتعددة التي تتكلم عن الأحداث.. سيجن لو لم يفهم.. لكن الذي يريد أن يفهم شيئاً من الإعلام في تلك الأوقات لن يكون أقل جنوناً..
هنا توقف عند وجه مميز يدلي بتصريح على إحدى القنوات الإخبارية الخاصة..
أم لعلها تعليمات..
كان هو السيد نوسام يقرر بلهجة العالم ببواطن الأمور: أن الشعب الظلامي لن يغادر حتى يطمئن .. ولن يطمئن حتى يحاكم المسئولين عن ترويعه على مدار السنين الماضية .. وقال عبارة توقف عندها نادر كثيراً :
ـ لابد أن يحاكم المسئول الأكبر على جرائمه ضد الظلاميين بعد أن جعلهم فزاعة لشعبه الطيب يستخدمها كي يحكم السيطرة على الأمور و يشعر الشعب أنهم بحاجه إليه ..
الأن علم نادر علم اليقين .. من أين يأتي أخيه الصغير بهذا الكلام الغريب..
وعلم كذلك مدى سذاجته حينما تصور أن ثورتهم بلا رأس..
***





(5)

لقد هدأت شوارع المدينة بعد قرار الإذعان ..
ما أجمل شوارع المدينة وهي خاوية هادئة من الصخب .. كان وسام متوجهاً بسيارته إلى مقر المسئول الأكبر، و معه سائقه وحارس شخصي يجلس إلى جانبه.. لم يكن معه سليمان لحسن حظه .. لماذا ..؟ لأن الفريق ب الذى لم يكن فريق علمي بالمعنى الحرفي .. كان يرصد سيارة وسام.. ويستعد لإزاحته من الوجود. الفريق ب فريق محترف من نوع خاص يسمى عند المنظمات الأمنية بفريق الضباع .. وطبعاً لم يأت بهم نوسام إلى هنا ليعرضهم في حديقة الحيوان!..
قال الضبع ب -1 وهو يتابع مسار سيارة السيد وسام على شاشة صغيرة أمامه :
ـ شوارع خالية هادئة .. ستكون عملية هادئة و نظيفة ..
قال ب -2 وهو يعبئ سلاحه المضاد للدبابات :
ـ متى سيكون في مرماي ..؟
كان الفريق يقف فوق أحد أسطح البنايات في الشارع الرئيس الذى ستعبره سيارة وسام الأن ..
قال ب -3 :
ـ عشرون ثانيه ويظهر في مرماك يا ب -2 ..
حمل ب -2 السلاح المضاد على كتفه وارتكز على سور السطح وهو يحكم التصويب قائلاً :
ـ عملية هادئة ونظيفة !!
وظهرت سيارة وسام ... وضغط ب -2 الزناد لكن ب -3 عطس فارتطم رأسه برأس ب -2 .. و خرجت القذيفة المضادة مخلفة وراءها خيطاً من الدخان وانفجرت على بعد امتار من سيارة وسام التي قفزت مثل بطة عملاقة وانقلبت على الرصيف ...
تبادل الفريق ب النظرات قبل أن يخرج ب -1 منديل ورقي ويعطيه
لـ ب -3 ليمسح أنفه الذى سال وهو يقول في برود :
ـ قذيفة ثانيه يا ب -2 .. وبسرعة ..
وقبل أن يلقم ب -2 سلاحه بقذيفة جديدة تحطم باب سيارة وسام بركلة عاتيه ثم قفز منها حارسه الشخصي وهو يطلق الرصاص باتجاه مصدر القذيفة .. وتراجع الفريق ب للوراء فوق السطح .. أخرج ب -1 و ب -3 سلاحين آليين ثم تقدما من حافة السطح وأمطرا سيارة وسام بالرصاص..
بعد دقائق توقفوا بعد أن أدرك كليهما أن الصيد قد غادر السيارة أثناء تراجعهم عن الحافة .. وأدركوا كذلك أن الشارع كله قد استيقظ مذعوراً ... لكن لا مفر من مواصلة العملية لإزاحة السيد وسام من الطريق ..
ـ لن يبتعدا كثيراً ...
ـ ذلك الرجل محظوظ والحظ لا يعتمد عليه كثيرا ً في عملنا .. عطسسس .. تباً.. لقد أصبت بالبرد ..
ـ أصمت يا ب -3 .. و ابقى أنت هنا حتى لا تفضحنا ..
اخترقا الزحام الشديد المحيط بالسيارة المقلوبة وتفرقا في اتجاهين للبحث عن الصيد .. تباً .. الزحام الشديد.. من أين يأتي كل هذا الكم من الفضوليين ...لحظة ..هل هذا هو وسام ..؟
وحينما شهر ب -1 مسدسه كان ذلك الذي ظنه وسام قد اختفى وسط الزحام .. وسرعان ما علا الصياح من قبل الناس المحتشدين ووجد ب -1 نفسه وقد تكالبت عليه الجموع ..
ـ ب -1 سقط يا ب -3
ـ تباً ... هذا حظ سيء ... عطسسس ...
هنا دوت أبواق سيارات السلطة وهي تنهب الطريق مقتربة من الحادث ...
ودوى صوت نوسام عبر وسيلة الاتصال برجليه المتبقيين :
ـ الفريق ب ..هنا عرين الدودة البيضاء أجب ..
ـ ب -1 سقط ... و ب -3 أصيب بالبرد!... والهدف يفر عبر الشوارع الجانبية فيما نظن..
ـ حدد لي المكان الذي فقدتم فيه الهدف ثم انسحب فوراً..
ألقى ب -2 بيانات الموضع الذى فقد فيه الصيد بسرعه وتلقاه نوسام في مقره السرى في إحدى فجوات الظلاميين.. هرش رأسه قليلاً ثم طلب رقماً :
ـ سمكه ؟..
أتاه صوت أجش يتحدث بلهجة شعبنا، لكن بسوقية احترافية .. هذا صوت بلطجي على الأرجح :
ـ مرحباً يا بك ...
ـ هناك رجلين هربا من التجنيد الإجباري في منطقتك .. سأعطيك أوصافهم وعشرة آلاف ترللى أخضر .. لكن خذ الحذر فالمكان يعج برجال السلطة .. حاول أن تهيج العامة على رجال السلطة حتى يتسنى لك إحداث فوضى عارمة .. هذا مهم جداً..
ـ إذا سيكون هناك عشرة آلاف ترللى أخرى ...
نوسام يعرف سمكة جيداً ... ويعرف أن موت السيد وسام على يد بلطجية شعبه كان أخر شيء يمكن أن يخطر له على بال.. سيتخلص من وسام ويحدث الفوضى المنشودة .. عصفورين بحجر واحد ..
هذا كثير والله ..
***
كان لابد لنادر أن يترك الفراش .. لا أحد يستطيع أن يواصل النوم بضمير مرتاح بعد سماع دوي انفجار و طلقات رصاص وهرج ومرج يوقظ الموتى.. غادر غرفته فرأى الذعر يطل من عيني والدته و أخيه مدحت ..
ـ ماذا يحدث .؟ هل هي الحرب .؟
طلب من كليهما العودة للغرف و توجه بحرص إلى النافذة .. من وراء الشيش رأي العشرات يتجهون ناحية الشارع الرئيس وسمع كلمات مختلطة حاول أن ينسج منها كلام مفيد ..
ـ لقد ضربوها بصاروخ .. أي والله ..
ـ هل هناك مصابين .؟
ـ لقد قبضوا على رجل أجنبي مسلح ...
كان يرتدي ثيابه على عجل ليعرف أكثر .. و لم ينس توجيه تحذير لأخيه مدحت ألا ينظر من النافذة أو الشرفة .. و حينما فتح باب المنزل ليغادر تلقي دفعة في صدره من خارج، طار على أثرها ليرتطم بأثاث المنزل ..
و قبل أن يستوعب الموقف لمح رجلين يدلفان و ينغلق الباب من وراءهما
كان مفترضاً أن يصرخ .. أن يستغيث.. أو حتى يعترض لكنه بالرغم منه شاعت على وجهه دهشة عارمة.. استحالت إلى ابتسامة عريضة مرحبة ..
***


عمرو مصطفى 31-07-18 10:58 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(6)

حينما دلف ب ـ2 إلى السيارة الدبلوماسية سمع ب -3 وهو مستمر في العطس.. حياه وجلس في المقعد الخلفي مسترخياً :
ـ هل من أخبار عن ب -1 .؟
ـ عطسس .. لا أسمع إلا أصوات جلبة وأصوات أبواق سيارات السلطة..
لا أظن الموضوع يستغرق كل هذا الجدل ... لماذا لم يتسلم رجال السلطة ب -1 وينتهي الأمر ...
هنا انفتح باب السيارة ودلف إليها ب -1 ليجلس بجوار ب -3 ...
ـ أنت تسمع جلبة لأنى فقدت جهاز الاتصال هناك ..
ـ ب -1 .. هذا غريب ...
قالها ب -3 وهو يدير المقود وتنطلق السيارة ..
على حين بدأ ب -1 يفسر لهم سر عودته :
ـ شعب غريب .. لقد كادوا يفتكون بي في أول الأمر .. ثم لما جاءت عربات السلطة انصب غضبهم على رجال السلطة و رفضوا تسليمي مما أدى إلى اشتباك عنيف بينهم و بين رجال السلطة ... ووجدت نفسى حراً بعد أن كدت ألفظ أنفاسي الأخيرة ..
قهقه ب -2 وهو يتراجع في مقعده أكثر ثم قال في استمتاع :
ـ شعب غريب بالفعل ... لكنه يستحق ما سيحدث له ..
هنا لاحت لهم تجمعات بشرية غاضبة .. ظهر من بينهم شخص أسمر فارع الطول يرتدي سترة جلدية ويلوح بسيف طويل بيده في الهواء
وتبدو عليه أمارات القيادة .. كان معه عدد لا بأس به من بين الجموع يحملون السلاح الأبيض وينادونه بسمكة..
هناك أدخنة تتصاعد وألسنة نيران مصدرها إحدى سيارات السلطة والتي تحولت لكومة فحم مشتعل .. وللأسف كان حشد كبير من أبناء شعبنا الغاضب يلهج بالهتافات الملتهبة المنادية بسقوط السلطة الغادرة الخائنة !..
صاح سمكة وهو مستمر في ممارسة دوره التحريضي بينهم :
ـ الأمر أوضح من الشمس يا رجال .. السلطة تبغي إبادة الشعب الذى وقف في وجهها .. خدرونا ثم انقلبوا علينا في المساء .. و يضربون الناس بالصواريخ ..
وهتف متحمس أخر :
ـ لا تتركوا رجل واحد من رجال السلطة يمشي على الأرض ..
و لم يكن الشعب بحاجه إلى ذلك الهتاف بالفعل .. ومن جديد انفجرت جموع شعبنا وعدنا من حيث بدأنا .. الويل لكل رجل سلطة يلقيه حظه العاثر في طريقهم ...
لقد مات العديد من رجال السلطة في تلك الليلة المشؤمة وتفرقت دمائهم هدراً بين الجموع الثائرة ..
و بينما الجموع الغاضبة تجتاح المدينة اقترب أحد رجال سمكة من الأخير و مال على أذنه قائلاً :
ـ لم نعثر له على أثر .. ربما غادروا الحي بالفعل ..
ـ عشرون آلف ترللي يا ابن الـ ... ستضيع علينا .. اقلبوا الأرض بحثاً عنه ولا تعبئوا بالسلطة فقد انكسرت شوكتها أخيراً ..
و انطلق بلطجية سمكة ليباشروا البحث المضنى عن رجل الأمن الأول .. بينما أجرى هو اتصال بالسيد نوسام ليخبره بالتطورات ..
كان نوسام سعيداً بالرغم من ذلك .. فقد استطاع استغلال حادثة وسام أسوأ استغلال .. الأن وسام معزول عن رجال السلطة، و سيسقط عما قريب في يد رجال سمكه .. على حين سيجهز الشعب الأخرق على جهازه الأمني .. بعدها ..
يخرج الظلاميون إلى النور ..
و إلى مهمتهم الأساسية ...
ـ اسمع يا سمكة.. سوف أحدد لك عدة مراكز أمنيه حساسة .. عليك أن تدفع الجموع إليها حتى يتم شل حركة السلطة نهائياً ..
ضحك سمكة كأي بلطجي يحترم نفسه و قال :
ـ هذا يوم سعدي بالتأكيد ..سنتخلص من السلطة.. و يصير القانون أن لا قانون .. سنصير ملوك الشوارع ...
و أنهى نوسام المكالمة وهو يلتفت إلى دشرم و يسرم مبتسماً في خبث :
ـ يؤسفني أنك لن تجد الوقت الكافي لذلك يا عزيزي سمكة ... فملوك الشوارع الحقيقيون سيكونون أخر من تتوقع أنت و بنى شعبك ..
هنا دخل أحد الكائنات الظلامية صائحاً في شبق :
ـ هناك ثلاثة من الصفر يطلبون الإذن بالدخول .. و دمائهم شابة.. شابة..
صاح نوسام في تقزز :
ـ إنهم الفريق ب إياكم أن تمسوهم بسوء ...
ظهر الإحباط على وجه الكائن الشبق وهو يشير بكفه كي يدخل رجال الفريق ب.. وهكذا انضم الجميع للحفل..
قال يسرم وهو يتشمم رجال الفريق ب في شبق:
ـ شعبنا الظلامي صبر كثيراً.. و لا أحد يضمن العواقب لو انفلت الزمام ..
زجره نوسام قائلاً :
ـ اصبروا يا حمقى هؤلاء رجالى و ليسوا للأكل ..
امتقعت وجوه رجال الفريق ب وقد فطنوا إلى طبيعة الحوار و تحسست أيديهم أسلحتهم لكن نوسام هدأهم قائلاً :
ـ هدوء يا رفاق.. نحن في معسكر واحد .. أليس كذلك يا يسرم ..
هز الأخير رأسه كي ينفض عنها مشهد الدماء التي يراها تجري عبر عروق رجال الفريق ب و تدفعه دفعاً إلى الجنون ...
ثم قال في خضوع :
ـ إنه كذلك يا زعيم ..
و قال دشرم مؤيداً :
ـ إننا نفضل دماء شعبنا .. ساكني السطح .. أنتم أصدقائنا ..
هنا عقد نوسام كفيه خلف ظهره مثل أي قائد عسكري يقود معركة ..
وقال في حزم :
ـ ساعات قليلة و يبدأ الحفل الحقيقي ..
بالفعل لم تمض ثلاث ساعات حتى عمت الفوضى المدينة وخرج مذيع القناة الأولى لشعبنا على الشاشات ليعلن أخر الأنباء لكن أحدهم أزاحه ونزع منه ناقل الصوت واستدار في مواجهة الشاشة .. كان نحيلاً مفلفل الشعر من ذلك النوع الذي يلبس الحلق ويمضغ نصف كيلو من اللبان .. ابتسم للكاميرا في بلاهة قائلاً :
ـ الشعب سيطر على المدينة .. لم يعد هناك سلطة سوى سلطة الشعب ..ولم تعد هناك نشرة أخبار لأننا لم نعد بحاجة لمزيد من الأكاذيب ...
هنا دق جرس هاتف نوسام فوضعه على أذنه مستغرقاً في السماع ثم أصدر همهمات مندهشة قبل أن يغلق هاتفه و يعيده إلى جيب سترته قائلاً للظلاميين :
ـ لقد توارت السلطة بالفعل.. اختفى المسئول الأكبر و معه كل رجاله، و المدينة تفتح ذراعيها أمامكم ..
هنا أصدر الظلاميان دشرم و يسرم فحيحاً له مغزى ..
لكن نوسام بحكم خبرته شم رائحة فخ ما ..
لابد أن نتريث ..
لكن الظلاميين فقدوا السيطرة على أنفسهم.. الشبق إلى الدماء كان هو محركهم ... وأصدر دشرم أوامره بالخروج إلى السطح ...
ـ انتظروا يا حمقى ...
لكن ذهبت مناشدات نوسام سدى ..وكان أول من أطل برأسه خارجاً من إحدى فجوات قاع المدينة .. يسرم .. الممثل الذى أجاد دوره يوماً ما في استدرار العبرات من شعبنا الطيب المسكين ...
وكانت مسيرة شعبية تجوب قاع المدينة و تهتف بحقوق الظلاميين في الخروج للسطح .. و حينما لمح منظر المسيرة خروج أول الظلاميين
صاح :
ـ ها هم إخواننا ...
لقد مرح الظلاميون كثيراً مع تلك المسيرة .. كانوا مثل الجراد المنتشر و المسيرة كانت لا تحمل إلا العصي تحسباً لمواجهة مع السلطة .. وماذا كانت لتفعل تلك العصي مع الأسنان الحادة تنغرس في الأعناق ....
سرعة الهجوم و الامتصاص كانت رهيبة .. وفي قاع المدينة فرشت الأرض بالجثث الخالية من الدماء .. واستلقى المئات من إخوة الظلام منتفخي البطون بعد أن ملئت دماً ..
وفي وسطهم وقف يسرم وهو يلعق شفتيه باستمتاع ثم رفع رأسه للسماء صائحاً في نشوة :
ـ ما أشهى الدماء التي تجري في عروق الحمقى ..
عشرات و مئات الفجوات في الأرض وفي الكهوف كانت تفيض بالمئات و الألوف من الطائفة الظلامية التي تئن بطونهم جوعاً ..
ما كانت تجرؤ على الخروج بتلك الكميات أيام السلطة .. أما الأن فلم يعد هناك شيء يوقفها..
ـ ألم تفكروا في أن ما يجرى مجرد خدعة لاستدراجكم ..
كذا صاح نوسام في جنون.. لكن دشرم قابل جنونه بكل بساطة :
ـ ولو .. سيموت البعض والباقون سيعودون مرة أخرى إلى باطن الأرض هذه هي حياتنا ..
ـ لستم أصحاب القرار هنا..
ابتسم دشرم كاشفاً عن طاقم أسنانه و قال في خبث :
ـ من يستطيع أن يسيطر على جحافل الظلاميين إذا ما هاجت شهوتها للدماء.. هذا عيب صنعة لو أردتم رأيي ..
غطى نوسام عينية بكفه وقد صعد الدم إلى رأسه .. هل يبلغ القيادة العليا للشعب الأصفر؟.. أم ينتظر ما تسفر عنه الأحداث؟..
ربما يسيطر الظلاميون على السطح بالفعل، من يستطيع أن يجزم أن في الأمر خدعة من وسام.. صحيح أنه أختفى في ظروف غامضة كما أختفى المسئول الأكبر .. لكن ربما كان الاختفاء هروب من السفينة قبل أن تغرق و...
لكنه يعلم قيادة شعبنا جيداً.. خصوصاً السيد وسام.. ليسوا من ذلك النوع أبداً. رباه .. لقد وقع في حيص بيص ... هنا دوى هاتفه النقال فرفعه إلى أذنه ولم يكد يسمع الصوت على الطرف الأخر حتى امتقع وجهه وقال بصوت مبحوح :
ـ سيدي المسئول الأعظم.. هل وصلتكم الأخبار؟ وسائل الإعلام تنقل ما يدور على السطح.. رائع.. إنه.. إنه بفضل توجيهاتكم العليا...
و أنهى الاتصال و العرق يتفصد من جبينه ... لقد انغرست قدماه في مستنقع الأحداث الغامض .. سلطة شعبه لا تفهم لغة الاحتمالات..
لقد طلب منه تحديد وقت مناسب للتدخل الفوري لقوات الشعب الأصفر في شأن شعبنا .. طبعاً نتيجة غريبة على أذن العامي لكنها حتمية بالنسبة لصانعي القرار ..هم لا ينتظرون الذريعة التي بها يعتدون على مقدرات الشعوب الأبية ..بل يصنعونها ..والذريعة هي سيطرة الظلاميون على مقدرات الشعب الأسمر، فما كان للشعب الأصفر مرهف الحس أن يترك شعبنا المسكين تسيطر عليه حفنة من الظلاميين المتوحشين!!
***






(7)

ـ جحافل الطائفة الظلامية تجتاح غرب المدينة..
هكذا استهل النشرة مذيع القناة الأولى للتليفزيون الشعبي ذو الشعر (المفلفل) والقرط المتدلي من إحدى أذنيه ـ المذيع لا التليفزيون طبعاً ـ كان يحاول أن يبدو متماسكا وهو يمضغ نصف كيلو من العلكة .. فمازال لديه المزيد من الأخبار المفجعة ..
ـ لا يوجد رجل سلطة واحد يوحد الله في المدينة .. لا جديد بخصوص اختفاء السيد المسئول الأكبر و رجله الأمني السيد وسام .. فليرحمنا الله ...
كان هذا حينما وثب عليه كائن ظلامي ونشب أسنانه في عنقه وسط صراخ وعويل ودماء تناثرت على الكاميرات.. بعدها برز وجه يسرم والدماء تنساب من بين شفتيه وقام بتثبيت ناقل الصوت إلى رقبته قبل أن يبتسم قائلاً :
ـ نعتذر عن المشهد المؤسف ..لكنه شيء ضروري لحياة الظلاميين أمثالي .. أرجوا أن يكون جميع إخواني الأن متابعين لهذا البيان العاجل... نحن نسيطر على غرب المدينة تقريباً... لا داعى للمقاومة ... دعونا نعقد اتفاق . نحن حريصون على حياتكم .. لا يوجد عاقل يفسد سلة الطعام كلها ... ولا يوجد راعي ضأن يذبح كل الشياه التي يملكها مرة واحدة... أنتم طعامنا شئتم أم أبيتم ... سنقوم برعايتكم رعاية تامة .. أفضل طعام وشراب في مقابل أن تمدونا بدمائكم الحارة .. محدثكم يسرم ... المسئول الأكبر الحالي عن دمائكم ..هـي هـي .. انتهى البيان ..
وصرخ المعلم فوزى صاحب المقهى :
ـ يا أولاد الـ... أنا قلت منذ البداية هؤلاء شياطين أبناء شياطين..
ولطم الشاب محسن وجهه بمبسم النرجيلة وهو يولول :
ـ الأن فهمت السر الذى جعل السلطة تضطهد هؤلاء الوحوش..
واصفر لون الشيخ حسن الفقي وهو يضع كفه على رأسه هاتفاً :
ـ لقد خدعنا الشعب الأصفر... خونة .. خونة ..
ـ وماذا بعد ..؟
التفت الجميع إلى مصدر الصوت .. كان نادر يقف على باب المقهى وقد اكتسى وجهه بصرامة وحزم لم يعهدها أحد عليه من قبل ... لكن هذا لم يمنعهم من الإيجاب ...
ـ سيفتكون بنا ... يجب أن نختبئ بسرعة ..
ـ نختبئ أين ؟ في باطن الأرض مثلاً !
ـ لنرحل عن هنا فوراً..
صرخ نادر والدخان الأسود يتصاعد أمام عينيه :
ـ هل لدي أحدكم اقتراح أخر أكثر جبناً ...؟
قال محسن وهو يحاول منع ساقيه من الارتجاف :
ـ الوقت ليس وقت الشعارات يا أخ نادر ...
ورتب المعلم فوزى على عاتقه مهدئاً :
ـ يا ولدي هؤلاء الوحوش الليلية مصاصي دماء .. لم يصمد أمامهم أحد في غرب المدينة فماذا نصنع نحن هنا .. في الشرق ...
ـ نعيدهم إلى حيث جاءوا ...
ضحك الشيخ حسن الفقي ضحكة مفتعلة هي أقرب للبكاء قبل أن يقول بصوت يقطر رعباً :
ـ كيف ؟.. نصنع لهم عمل سفلي مثلاً ؟
سكت نادر برهة وكأنه يسترجع ذكرى ما قريبة.. وتعلقت العيون بوجهه المرهق المهموم..
ـ سنحيط شرق المدينة بالنيران ..
حملق جمهور القهوة في وجه نادر مستغربين اقتراحه، فعاجلهم هو قبل أن يتفوه أحدهم بكلمة :
ـ أنا أعرف جيداً كيف نواجه تلك الكائنات .. النار تفزعهم ..
وشرد قليلاً وهو يستطرد بأسى :
ـ لهذا كان رجال السلطة يضربونهم بقاذفات اللهب .. كانت تمنعهم من العبور إلينا .. وهذا ما سنفعله .. إذا كانت السلطة قد توارت بسبب حماقتنا .. فكل فرد في شعبنا سيتحول إلى رجل سلطة.
ـ من أين أتيت بهذا الكلام .؟
جذب نادر نفس عميق وهو يحدجهم بنظرات تبض بالقوة والعزم..
ـ ليس الآن...
ربما شك البعض أن الواقف أمامهم الأن هو نفسه الشاب نادر المسالم قليل الكلام الذى كان بالأمس .. كلماته كانت تفيض بالقوة والثقة ..
هو يعرف ما يتكلم عنه جيداً .. هو يذكرهم بشخص ما.. شخص كان يعرف عن شعبنا الكثير والكثير ..لكنه صار الأن مجرد ذكرى مجهولة.. المهم أن كل ذلك بعث في نفوسهم شيء من الاطمئنان والثقة.. أما نادر، فكان من داخله لا يقل دهشة عن رواد المقهى، وسكان شرق المدينة .. لقد تحول بين عشية وضحاها إلى رجل الأمن الأول لشعبنا ..
لم يشعر لحظة بالفخر أو الكبرياء .. فالمسئولية كانت أكبر من كل تلك المشاعر..
وحينما حانت منه نظرة لوجهه في مرآة المقهى المغبشة شعر أنه كبر عشر سنوات على الأقل ...
***

























bluemay 01-08-18 06:50 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اشكرك لمفتاح الخريطة

الآن بدأت بفهم الغموض..

بصراحة اجدني منجذبة وغارقة في الاحداث ولكن تخذلني الاحرف لأدلي بتعليق مناسب

كما عودتنا اسلوب سلس وجذاب ولا ننسى حس الدعابة

الذي يضفي على كتاباتك ألقاً مميزاً


بإنتظار ما ستسفر عنه الاحداث القادمة

تقبل مروري وشكري

عمرو مصطفى 01-08-18 08:41 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3704714)
اشكرك لمفتاح الخريطة

الآن بدأت بفهم الغموض..

بصراحة اجدني منجذبة وغارقة في الاحداث ولكن تخذلني الاحرف لأدلي بتعليق مناسب

كما عودتنا اسلوب سلس وجذاب ولا ننسى حس الدعابة

الذي يضفي على كتاباتك ألقاً مميزاً


بإنتظار ما ستسفر عنه الاحداث القادمة

تقبل مروري وشكري

العفو يا أستاذة بلومي ..
ويكفيني شرف متابعتك وإن لم تكن هناك ردود ..
وأرجو أن تظل الرواية عند حسن ظنكم للنهاية ..
انتهى الجزء الأول من روايتنا .. وإلى الجزء الثاني بمشيئة الله ..

عمرو مصطفى 01-08-18 08:43 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 


الجزء الثاني

"أتحدث عن الرجال الذين لا يعرفهم أحد.. ولا يتذكرهم أحد إلا كالحلم العابر الذي تنسى تفاصيله بمجرد الاستيقاظ.. لكن يظل مذاقه في حلقك ما حييت.."






(1)
تصريحات شعوب العالم تترا تبعاً لتصريحات الشعب الأصفر، الذي يعتبر نفسه سيداً على شعوب الأرض! ..
إننا نشعر بالقلق لما يحدث ..
استيلاء الظلاميون على مقدرات شعب عريق مثل الشعب الأسمر شيء محزن...
وفي لحظة نسى العالم من الذى دعي للحوار مع الظلاميين أولاً ...
ألم نقل أن النسيان هو أفة الشعوب ..
ودعا السيد الأعظم للشعب الأصفر إلى انعقاد اجتماع طارئ لقيادات شعوب الأرض لبحث الشأن الداخلي لشعبنا الأبي ... نوسام بدأ يتفاءل شيئاً فشيئاً .. كل شيء يمضى كما خطط له الأجداد .. أمة بني الأصفر لن تسود إلا بالتفريق والتحريش .. ظلاميين وسطحيين تافهين .. فلتهدأ روح الأجداد التي خططت .. لم تعد ثمة سلطة أو قيادة لشعبنا يلتف حولها الناس .. الظلاميون ينتشرون في غرب المدينة وغداً سيجتاحون شرقها .. دون مقاومة .. لقد انتصر عقل نوسام على عقل السيد وسام .. كم كان يتمنى أن يرى وجهه الأن .. وجه الرجل الذى أذل أجهزة أمن عديدة على رأسها الجهاز الأمني للشعب الأصفر..
لم يعد هناك من يسد مسد ذلك الرجل الأمني الفذ ..
ـ السلام عليكم ورحمة الله... إليكم هذا البيان الهام ..
انتفض نوسام في مقره تحت الأرض إلى جوار دشرم .. كانت شاشة المرئي تنقل بث حي من شرق المدينة ... لعق دشرم شفتيه وقال :
ـ مازالت هناك قنوات بث في شرق المدينة ؟!
ـ انتظر لنسمع ...
قالها نوسام وقلبه يدق بعنف .. ترى من الذى سيدلي بالبيان .. وعلى الفور احتلت ذهنه صورة شخص واحد ... وسام ..
يسرم كان يتابع من مكتب المسئول الأكبر بعد أن صار مكتبه، ولم تكن حالته بأفضل من حالة نوسام ... كان يجلس على سطح المكتب نفسه وهو يلعق كفيه، وعينيه تترقبان البيان .. كان لتوه قد فرغ من شرب دم أحد رجال السكرتارية ولعله كان أخرهم.. وتركه جثة هامدة خالية من الدماء بجوار مكتبه.. الغريب أن بجواره وقف شخص مألوف عاقداً ساعديه وفي عينيه نظرة خضوع وترقب ..
ـ سيد سليمان .. بصفتك مستشاري الأمني الخاص !.. انصت معي لهذا البيان وقل لي رأيك..
قالها يسرم في برود وعينه تتابع الشاشة بانتظار من سيظهر..
ـ بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا البيان موجه لكل سكان شرق المدينة .. ومن تبقي حياً في غربها ..
صاح نوسام في استنكار :
ـ تباً .. ومن هذا الشاب ؟!..
لعق الظلامي الأكبر دشرم شفتيه وهو يقول في بطء :
ـ انتظر لنسمع ...
كان نادر يرتدي زي رجال السلطة المميز وقد ظهر متجهماً وهالات سوداء تحيط بعينيه.. وخلفه كان علم شعبنا المجيد... كان منهمكاً في إلقاء البيان بنبرة ألية خالية من أي انفعال :
ـ إلى كل أبناء شعبنا.. عليكم أن تعلموا أنه بأيديكم أخرجتم الظلاميين من جحورهم.. وبأيديكم ستعيدونهم مرة أخرى.. شعبنا لم و لن يتوقف مصيره على أحد كائناً من كان.. شعبنا قادر بحول الله وقوته على رد كائنات الظلام إلى جحورها، وسيفعل.. إن شاء الله..
إلى كل من يأبى أن يصير طعاماً لقوى الظلام وما تزال تنبض عروقه بالدماء الحرة الأبية.. حي على الشرف.. حي على شرق المدينة.. فالشرق ما يزال صامداً..
تقلص وجه نوسام وهو يكرر سؤاله بقرف :
ـ من هذا الشاب ..؟
داعبت أصابع ب -1 لوحة مفاتيح حاسوبه النقال بحثاً عن معلومات ثم رفع رأسه إلى رئيسه قائلاً :
ـ اسمه نادر !
التفت إليه نوسام في حده منتظراً المزيد لكنه استطرد في برود :
ـ هذا هو ما لدينا من معلومات...
وعاد نوسام يتابع البيان على الشاشة بوجه محتقن...
ـ إننا هنا نقول لقوى الظلام.. كل قوى الظلام.. تحت الأرض وفوقها .. بالداخل والخارج : نحن هنا في الشرق بانتظاركم... وقبوركم اليوم بأيدينا قد حفرت..
واختفت صورة نادر من على الشاشات وظهرت أفلام تسجيلية تصور عمليات رجال السلطة السابقة على بؤر الظلاميين ..
هجمات بقاذفات اللهب ...
ـ مستحيل .. إنهم لا يملكون شيئاً في الشرق ... المنشئات الأمنية والسلاح كله سقط في أيدينا في الغرب ...
قالها يسرم عبر الهاتف بحقد .. بغل .. فجاءه صوت نوسام ليقول في برود صارم :
ـ لكنهم يملكون وسيلة إعلام مرئي... سيقلبون الدنيا على رؤوسكم.
ـ سنهاجم الليلة شرق المدينة ولن يشرب من دم ذلك الأراجوز غيري ...
ـ يسرم .. أنا لا أرتاح إلى هذا الفتى .. كن على حذر ...
قالها نوسام لكن يسرم نظر لمستشاره الأمني الجديد مستفتياً فهز الأخير رأسه نافياً وقال بلهجة حازمة :
ـ لا تلتفت إلى أراجيفه... ربما كان ما تشاهدونه رسالة تم تسجيلها منذ أيام قبل سقوط السلطة .. لتستخدم فيما بعد لتعطيلكم .
أطلق يسرم فحيحاً حماسياً وأنهى المكالمة مع نوسام ثم قفز من فوق سطح المكتب وتعلق بنجفة عملاقة في السقف صارخاً بصوته الحاد:
ـ إلى الشرق ..
وقفز عبر النافذة التي تطل على فناء واسع محاط بسور ضخم لحماية مقر المسئول الأكبر .. كان به حشد هائل من الظلاميين، لم تكد تري كبيرها يحط بقدميه على الأرض حتى أصدرت فحيحاً جماعياً تصاعد إلى عنان السماء وهي تردد بصوت واحد اسم يسرم...
ومن النافذة التي قفز منها الأخير لتوه.. وقف السيد سليمان يراقب المشهد بوجه جامد ...
***
ـ ينصر دينك ..
ـ عاش .. عاش ..
ـ شعبنا ولاد والله ...
لم يسمع نادر معظم عبارات المديح وهو يشق طريقه عائداً من مبنى البث المباشر لقد صار الشاب المنسي حديث الساعة الأن .. وكان يرى في وجوه الشعب نظرة جديدة حلت محل نظرة الخراف اليائسة إلى شفرة الجزار ... صارت هناك نظرة أمل في غدٍ جديد لا وجود فيه لكائنات الظلام ...
وبرز العديد من رجال السلطة المتوارية وقدموا أنفسهم إليه وحلفوا له على الثبات في مواجهة قوى الظلام .. وبدأ هو في شرح خطة المواجهة ...
ـ سيتم عمل لجان شعبية تحيط بشرق المدينة وكل لجنة تستعد بالمشاعل والحطب الوافر لإيقادها في المساء.. في المساء سيحاط شرق المدينة بالنيران.. الليل هو أفضل وقت لهجوم الكائنات الظلامية ..هي ترى جيداً في الليل بعكس البشر الطبيعيين..
هنا برز له من بين الجموع رجل طويل متين البنيان وقدم نفسه على أنه أحد رجال السلطة السابقين ويدعى جلال ..
كان يتكلم وهو ينظر إليه نظرة فاحصة لا تخلو من شك :
ـ هذا حل مؤقت أيها الـ.. القائد ... وسنظل محاصرين للأبد بقوى الظلام حتى تنضب مواردنا ونستسلم في النهاية ..
ـ من قال أننا سنكتفي بالدفاع فقط .. لابد أن ننتقل للهجوم .. معظم السلاح الخفيف والثقيل و الآلات العسكرية معبأ في مخازن سرية غرب المدينة ولابد أن نصل إليه يوماً ما...
داعب جلال شاربه وهو ينظر لنادر مليا ثم قال مغمغماً :
ـ هذا صحيح ...
وتبادل النظرات مع بقية رجال السلطة المحيطين .. وفهم نادر سر نظراتهم إنه نفس السؤال الذى يتردد كثيراً ..
من أين يأتي ذلك الشاب بالمعلومات ؟
أريد فقط أن أفهم
ليس الأن ....
لماذا ..؟
ليس الأن ....
" لابد من تدريب العديد من رجال الشعب على السلاح ..."
انتزعته عبارة جلال من شروده فالتفت إليه قائلاً بسرعه :
ـ بالتأكيد ... لكن لابد أن نقتصد في الذخيرة .. أعلم أنكم تحتفظون ببعض الذخيرة لكنها ليست بالقدر الكافي .. لذا يجب أن نقتصد ...
مرة أخرى يتبادل جلال النظرات مع بقية الرجال.. ثم عاد يصوب نظراته المتشككة إلى نادر وهو يقول :
ـ أيها القائد... على الرغم من أننا لا نعرفك من بين صفوف رجال السلطة ... لكنك تتحدث كواحد منا ...
نظر إليه نادر في ثبات لبرهة قبل أن يقول في هدوء :
ـ أنا واحد منكم بالفعل ...
ـ كيف هذا؟
سأله نادر بغتة :
ـ ماذا كنت قبل أن تلتحق بالسلطة أيها الضابط .؟
أجابه جلال في حذر :
ـ كنت مدنياً من عامة الشعب ...
ـ وحينما كنت تنتهى من عملك اليومي أين كنت تذهب ؟
ـ أعود إلى بيتي لأمارس حياتي العادية ..
ـ وحينما تحال للتقاعد ماذا ستصبح ؟.
ـ مواطناً من عامة الشعب ...
ـ هل تجد فارقاً ..؟
هنا سكت جلال .. ظل يتبادل النظرات مع نادر قبل أن يقول في خضوع :
ـ لا أجد فارقاً أيها القائد ...
أرسل نادر نظرة إلى أبناء شعبنا وهو يهمس بثقة :
ـ ولا أنا ..
***
ـ كيف حالك يا سمكة ..؟
ضغط الأخير على أسنانه وهو يرد على نوسام عبر الهاتف :
ـ نحن لم نتفق على هذا يا خواجة ؟..
ـ لا تسئ فهمى يا سمكة أرجوك...
ضرب سمكة المائدة الصغيرة التي أمامه بقدمه وهو يزمجر :
ـ جعلتني أشارك في إزاحة رجال السلطة ليركب الظلاميين أكتافنا.. لم نتفق على هذا يا خواجة..
ـ أرجوك أهدئ يا سمكة .. أنت رجلي الأثير في شرق المدينة ولن يمسك أحد بسوء ..
ـ لماذا يا خواجة .؟ هل الظلاميون سيفرقون بين دمي ودم أي واحد أخر ..
ـ هذا هو ما أعدك به .. أنا الأن أحدثك في عمل .. ألا ترى أنني بحاجة إليك ولا أستطيع الاستغناء عن خدماتك ...
حك سمكة ظهره بأظفاره الطويلة المتسخة وهو يفكر.. ثم قال بصوت لم يخلو بعد من رنة غضب :
ـ أنا ما زلت رجلك في شرق المدينة...
ـ فتىً طيب...
قالها نوسام ثم سكت هنيهة.. عاد بعدها ليكمل :
ـ مهمتك تتعلق بذلك الشاب حديث الساعة عندكم.. ماذا يدعي ؟..
ـ نادر يا خواجة .. سيصعدون به للقمر عما قريب ..
ـ لكنك ستجعل روحه تصعد إلى السماء قبلها يا سمكة ..
تقلص وجه سمكة وهو مستمر في حك ظهرة .. تباً لذلك البرغوث الذي...
ـ عظيم يا خواجة .. لكن هذا الشاب يساوى الكثير بكل تأكيد ...
جائه صوت نوسام مرحباً عبر الهاتف :
ـ خمسون آلف ترللي ... بعد أن تقتله ..
ـ مئة يا خواجة ... وقبل أن أقتله ...
***





مملكة الغيوم 02-08-18 02:40 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
السلام عليكم ورحمة الله
بهنيك عمرو على الروايه اللتى حضرت احداثها يوم بيوم هما فعلا زى ما وصفتهم مخلوقات الظلام اللى كانو اكبر سذاجه قام بها الشعب الاسمر واللى اخدت الكتير فى رجليها وما زال بعض السذج بين براثنها اهنيك واتمنى لك مزيد التوفيق
:55::55::55:

عمرو مصطفى 04-08-18 08:20 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مملكة الغيوم (المشاركة 3704771)
السلام عليكم ورحمة الله
بهنيك عمرو على الروايه اللتى حضرت احداثها يوم بيوم هما فعلا زى ما وصفتهم مخلوقات الظلام اللى كانو اكبر سذاجه قام بها الشعب الاسمر واللى اخدت الكتير فى رجليها وما زال بعض السذج بين براثنها اهنيك واتمنى لك مزيد التوفيق
:55::55::55:

أحسن الله إليك .. وبصرك مقاصد الرشاد .. كنا جميعاً في قلب تلك الأحداث العاصفة التي ترسخت في وجدان جيلنا.. وكنا أحوج ما يكون للابتعاد عنها لنرى أوضح .. لنهدأ ونفكر .. ثم نقرر أن نمسك بالقلم ، ونكتب شيئاً نتركه للأجيال التالية .. التي حتماً ستنسى مع مرور الأيام .. وما أسرع مضي الأيام ..
هذا أقل ما يجب علينا تجاههم، أن نترك لهم لافتة تدلهم على الطريق الصحيح ..

عمرو مصطفى 04-08-18 08:23 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(2)
اللجان الشعبية تحاصر شرق المدينة ...
كان لابد أن ينتهى إحكام السيطرة على شرق المدينة قبل غروب الشمس وحلول الظلام.. والعشرات والمئات من الفارين من غرب المدينة ينضمون لإخوانهم تلبية لنداء ذلك الشاب الذي بزغ نجمه فجأة في قلب الأحداث..
كان نادر يشعر أنه لم يغمض له جفن منذ عقود.. لكن بعض المشاهد جعلته رغماً عنه يبقى متيقظاً..
جر ساقيه ناحية الجموع ليتابع المشهد عن قرب ..
الضابط جلال عاكفاً على تدريب حشد من سكان شرق المدينة على القتال بالأسلحة النارية .. وشاعت ابتسامة أمل على وجه نادر المكفهر حينما لمح شلة المقهى في أول المتدربين .. صحيح أن المعلم فوزي كاد يفقأ عين جلال بأول طلقه لكنه يتعلم بسرعة.. لم يعد الشاب محسن يرتجف وكان فخوراً بنفسه وهو يحمل السلاح كالمحترفين .. أما الشيخ حسن الفقي فقد أذعن لأوامر نادر .. عليه أن يستغل موهبته في تلاوة القرآن بتذكير رجال اللجان الشعبية بفضل الجهاد والثبات بدلاً من تذكير الأموات بعد أن فاتهم أوان التذكرة ...
ـ ألستم بحاجة إلى مقاتل تحت العشرين ...
التفت نادر فرأى أخيه مدحت قادماً وهو يحمل في يده عكاز والده الراحل .. والمثير هنا أن والدته جاءت تحمل في يدها يد الهون الذي تدق به الثوم ولوحت بها قائله في جدية :
ـ دعهم يجربوا ضربة واحدة من هون أمك وسوف...
حاول نادر أن يبتسم رغماً عنه.. بعد أن نست تقاسيم وجهه كيف ترسم الابتسامة.. قال برفق :
ـ أمي .. مكانك مع بقية النساء .. في البيوت .. لو نجحوا في اختراقنا ستكونون أنتم خط دفاعنا الأخير عبر النوافذ والشرف ..
ثم نظر إلى أخيه مردفاً :
ـ وأنت يا مدحت ..هل ما زلت مصر على كتابة اسمك ( متحت )؟..
ضحك الأخير ولوح بعكاز والده قائلاً :
ـ لقد تغيرت كثيراً يا أخي العزيز .. لقد كنت واحداً ممن شاركوا في هدم جهاز السلطة حامي الشعب .. ولابد أن أشارك معكم اليوم لعلى أكفر عن ذنبي القديم ...
ـ الكل سيشارك يا أخي العزيز .. لم يعد هناك خيار أخر ..
ثم التفت لأمه مردفاً :
ـ وأنت يا أمي .. عودي مع النساء فالرجال بحاجة للتغذية قبيل المعركة..
ـ من حقنا الوقوف معكم جنباً إلى جنب.. دعك من تلك الأفكار الذكورية العنصرية.. التي ورثتها من أبيك.
تذكر نادر البرامج الإعلامية التي أدمنتها أمه على مدار عقود، والتي تغذي فكرة أن المرأة مفيدة جداً في أي مكان يجمعها بالرجال .. لكنك إذا احتجت إليها في مكانها فلن تجدها أبداً..
قال لها في صبر:
ـ يا أمي.. الأفكار الذكورية لا تواجه أبداً بالأفكار الذكورية..
نظرت له في غير فهم فابتسم هو في غموض..
لم تفهم أن أفكار التحرر والمساواة التي تلقفتها عبر الإعلام هي من بنات أفكار الرجال أنفسهم.. وتصب في صالح أهوائهم الردية..
هنا ارتفع صوت جلبه ونقاش حاد عند إحدى اللجان الشعبية ..ثم برز جلال وهو يلوح بكفه قائلاً :
ـ أيها القائد .. إنه سمكة بلطجي شرق المدينة العتيد.. يريد أن يقابلك .. يقول أنه جاء متطوعاً ...
صرف نادر أمه وأخيه برفق ثم التفت إلى جلال قائلاً :
ـ دعوه يأتي ....
ـ لكنه يرفض التفتيش .. ومعه حقيبة سوداء مريبة ..
تقدم نادر إلى جوار جلال ناحية الجهة التي تتصاعد منها الجلبة ولمح سمكة وهو يحيط حقيبة جلدية سوداء بذراعه اليسرى ويلوح بمطواة في يده اليمنى صائحاً :
ـ سمكة لا يفتش في منطقته .. إياكم أن تقتربوا ..
صاح نادر ليسمع سمكة وسط الصخب :
ـ دعوه...
التفت سمكة إلى نادر وتهلل وجهه صائحاً :
ـ ألم تسمعوا كلمة كبيركم؟ ..
اقترب منه نادر مشيراً إلى المطواة التي بيده قائلاً :
ـ لا مكان بيننا للبلطجة يا سمكة ..
اغلق سمكة المطواة باحترافية ثم دسها في جيب سرواله قائلاً :
ـ لقد تبت من البلطجة يا كبير وجئت أعرض خدماتي .. و ..
ووضع الحقيبة على الأرض ثم انحنى ليفتحها مستطرداً :
ـ وأموالي كذلك ..
تأمل نادر ومعه جلال وبقية رجال اللجان الشعبية الأوراق المالية التي تملأ الحقيبة الجلدية بدهشة كبيرة ... غمغم جلال :
ـ أموال مسروقة ...
رفع سمكة طرفة إليه قائلاً في سخرية :
ـ إنها مائة ألف ترللي .. ثمن رأس قائدكم ...
عقد نادر ساعديه أمام صدره ونظر لسمكة مستفهماً :
ـ من ؟
ابتسم سمكة وهو ينهض مجيباً :
ـ زبون قديم من بنى الأصفر ... لكن سمكة قرر ألا يستمر مع المعسكر الشرير...
اقترب منه نادر هامساً في خفوت :
ـ نوسام...
صاح جلال وهو يحول بينه وبين سمكة :
ـ حذار أيها القائد قد تكون خدعة ..
نظر سمكة إليه بلا مبالاة على حين رتب نادر على ساعده مطمئننا قبل أن يقول لسمكة في هدوء :
ـ ولماذا قررت ترك المعسكر الشرير يا سمكة؟..
ـ سمكة ليس خائناً بطبعة .. أنا استعمل قوتي لمن يدفع الثمن .. أنا فتوة مثل فتوات الزمن الغابر لكن المجتمع أساء فهمى.. وعلى رأسهم رجال السلطة .. لذا كنت سعيداً جداً وأنا أشعل النار من تحت أقدامهم ..ثم اكتشفت أن الجانب الذى استخدمني لهدم السلطة كان يهدف فقط إلى إخراج الظلاميين إلى السطح .. والذين لن يفرقوا بين دماء سمكة وأي دماء أخرى .. لقد خدعني ذلك الأصفر وقررت أن أخدعه أنا أيضاً .. وأنا هنا رهن إشارتك ويسعدني أن أكون سبباً في رجحان كفتكم .. سأضمن لكم عشرات البلطجية يمكنهم أن يثيروا الرعب في قلوب الظلاميين بمجرد رؤيتهم ..
وضع نادر كفه على عاتق سمكة ونظر في عينيه قائلاً :
ـ قلت .. لا مكان للبلطجية بيننا يا سمكة ..
ابتسم سمكة في حرج ثم قال بلهجة صادقة :
ـ أعذرني فمازال لساني يخونني..
ثم صوب عبارته قائلاً :
ـ هناك العشرات من الفتوات مستعدين لغسل ماضيهم بالانضمام إليكم ...
اعترض جلال قائلاً :
ـ هل سنقاتل إلى جوار المجرمين و النوار .. ؟
قال له نادر وهو يرمقه بنظرة باردة :
ـ ومن منا لم يجرم ؟..
***
ـ كيف حالك يا دكتور؟
ابتلع العوادلي ريقه وهو يتأمل العيون الجشعة والأنياب الحادة التي تلتمع في ظلام الغرفة على الضوء المتسلل عبر نافذة حجرته..
لم يغادر بيته منذ استيلاء الظلاميون على غرب المدينة.. ظل يراقب المذبحة من وراء النافذة في الظلام.. وينتظر..
حتى فوجئ بتلك الزيارة المفاجئة من نوسام ومعه حشد من الظلاميين.. وقد بدا مظهر الأول المتأنق دائماً متناقضاً مع هيئة الظلاميين الرثة ناهيك عن رائحة الدماء الطازجة التي تفوح مع كل حركاتهم وسكناتهم..
قال بصوت مبحوح وكأنه يخشى استثارتهم:
ـ ببـ.. بخير.. ها.. هل هناك ججـ.. جديد؟
عقد نوسام ساعديه أمام صدره وقال في حزم :
ـ أكيد يا دكتور.. دورك لن يتوقف عند الاختباء في بيتك وغلق هاتفك.. لعمري هذا خوف لا مبرر له يا دكتور.. هذا أمر قد دفناه سوياً كما تقولون ..
ـ أنا لست مخـ.. مخـتبئاً .. كما أنني حذر في استعمال وسائل الاتصال ..
ـ وسائل الاتصال في أيدينا الأن.. يبدو أنك لا تشاهد الأخبار أيضاً.. على العموم كانت فرصة طيبة كي أزورك في بيتك.. ولأخبرك كذلك أنك سترحل فوراً لشرق المدينة؟
زاغت عيناه بالطبع وجف حلقه.. لم يتخيل نفسه أبداً بين براثن سكان شرق المدينة المتحمسين .. حتماً سيحولونه إلى شاورمة جزاء له على جره لشعبنا الطيب إلى فخ الظلاميين..
ـ شـشـ.. شرق المدينة!.. كـ.. كيف؟
ـ اطمئن يا دكتور الذي يحميك في غرب المدينة من الظلاميين قادر على حمايتك في شرق المدينة من فلول السلطة..
ـ صصـ..صحيح.. لكن.. مشكلتي ليست مع السلطة بقدر ما هي مع الشعب الأسمر ذاته..
ابتسم نوسام في مكر.. وغمز بعينه قائلاً :
ـ تنسى دائماً أنك واحد من الشعب الأسمر.. وأنك طيب مثلهم ويسهل التغرير بك.. كما غرر بهم ..
ـ وما هو دو..دو.. دوري بالضبط..
ـ هو دورك منذ البداية يا دكتور..
ثم جال ببصره في أرجاء بيت العوادلي وهو يكمل :
ـ لكن أين واجب الضيافة يا دكتور؟.. يبدو أنك قد تأثرت بنا لحد بعيد.
وضحك وخلفه تتابعت ضحكات الظلاميين.. ومن جديد فاحت رائحة الدماء وزهمها.. ارتبك العوادلي وهو يشير لهم كي يجلسوا قائلاً :
ـ أنا أعـ.. أعرف شرابك يا سيد نوسام.. لحظة .. سأستدعي خادمي كي ... لكن.. بالنسبة للسادة الظلاميين...أأ..
وصمت متحيراً .. لكن نوسام أنقذه من الحيرة حينما قال برقة :
ـ لا عليك يا دكتور.. سيشربون الخادم!
***



عمرو مصطفى 05-08-18 08:03 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(3)
سيل الجرذان الظلامية يجتاح غرب المدينة
ألا تفهم .. أنت تقترب منهم ..
ليس هذا من شأنك
أيها القائد ..
فتح نادر عينيه.. فرأى جلال قد جاء يوقظه وقد حل الظلام..
ـ هناك سيارة تقترب .. تبدو فاخرة لعلها تابعة لبعض المسئولين غرب المدينة ..
ونهض معه نادر ليرى القادم ..
كانت اللجان متحفزة بعضهم يحمل أسلحة نارية وبعضهم يحمل أسلحة بيضاء وجنازير، وتنعكس على وجوههم المرهقة ظلال النيران التي أوقدوها ...
ـ أخرج من السيارة ببطء وعرف نفسك..
انفتح باب السيارة الفاخرة ونزل منها شيخ عجوز يتعثر .. رفع ذراعيه عالياً وتأمل الجمع بوجه ممتقع ..
ـ أأ ..أنا منكم ...
عقد نادر حاجبيه متمتماً :
ـ الدكتور العوادلي ..
تقدم الدكتور العوادلي وهو يلهث من فرط الجهد المضنى الذى بذله منذ هبط من السيارة المكيفة وحتى وصل إلى حشد اللجان الشعبية المترقب ! ثم خر على ركبتيه ممسكاً بصدره :
ـ لـ .. لقد نجوت بـ .. بأعجوبه ...
اقترب منه نادر قائلاً في اهتمام :
ـ هل هم قريبون ؟..
رفع العوادلي طرفه إليه قائلاً بصوته المتقطع :
ـ إنهم سريعون جداً كادوا يلحقون بي رغم أنهم يعدون على أقدامهم و أنا في سيارتي ...
صرخ جلال :
ـ استعدوا ...
تكهرب الجو وتحول الحشد إلى قنابل تنتظر من ينتزع فتيلها لتنفجر، على حين مد نادر كفه للعوادلي ليعتمد عليها قائماً ... ذلك العوادلي المتهالك نجا من أنياب الظلاميين علي حين هلك مئات وألوف الشباب اليافع والواعد ..
ـ أ .. أنا معك يا .. يا سيد .. نادر ...وأضم صو .. صوتي إلى ..
صو .. صوتك .. في مواجهة الظا .. الظلاميين ...
نظر إليه نادر في ثبات فازدرد ريقه وهربت الدماء من وجهه ..
قال له نادر في برود :
ـ كنت أحد المنادين بخروج الظلاميين للنور ..
ـ كـ .. كل الشعب كـ .. كان كذلك ..
ـ الشعب يتبع من ينظر له.. وكنت أحد المنظرين الكبار المدافعين عن الظلاميين ..
عدل العوادلي من وضع منظاره الطبي وهو يقول مرتبكاً :
ـ أ .. أسف لـ ..لقد .. غر.. غرر بي..
نظرة نارية لمعت في عيني نادر ارتعدت لها فرائص العوادلي قبل أن يصيح نادر منادياً أخيه مدحت .. طبعاً تصور العوادلي أن مدحت هذا يقوم بدور مسرور السياف هنا.. وأنه سيطير رأسه ويضعها في طست بين يدي نادر.. لكنه فوجئ بشاب أخضر العود من أولئك الشباب الذين يلقاهم في الندوات المسمومة.. كان ينظر إليه بانبهار وهو يصيح :
ـ الدكتور العوادلي شخصياً ... أنا من المعجبين بك جداً ..
حاول العوادلي أن يبتسم لكن نادر قطع عليه ابتسامته وهو يقول لمدحت في صرامه :
ـ خذ الدكتور العوادلي إلى مكان النساء .. سيكون هناك بأمان ..
ـ هذا لطف منك ..
قالها العوادلي ثم تأبط ذراع مدحت الذى لم يصدق نفسه .. العوادلي يتأبط ذراعه شخصياً .. وقاده إلى حيث أمره نادر وهو لا يكف عن سكب عبارات المدح والثناء على أذني العجوز... وعاد نادر ليلتحم برجال المقاومة الشعبية المتحفزة وصاح ليسمع المعتلين لأسطح البنايات :
ـ محسن .. هل ترى شيئاً ..؟
برز وجه محسن من فوق سطح البناية وبرزت عروق رقبته وهو يهتف :
ـ يتدفقون عبر الطريق السريع الذى يربط الشرق بالغرب ...
ـ أعدادهم ..؟
بصق محسن في تقزز قبل أن يجيب:
ـ كالنمل..
وجاء جلال ومعه مجموعة من رجال السلطة القدامى يحملون بعض قاذفات اللهب وقد اكتست وجوههم بالجدية .
ـ لا تتدخلوا إلا لو فشلنا نحن في صدهم ساعتها يمكنكم فتح النيران على الجميع ...
قال جلال وهو يرمق الأفق :
ـ هل سيغامرون بالهجوم رغم النيران التي أوقدناها ....
ـ لن يهاجموا..
قالها نادر في بساطة فنظروا إليه في دهشة.. فقال لهم موضحاً :
ـ بل نحن من سيهاجم ..
***
جحافل الظلاميين تتدفق عبر الطريق السريع كالسيل الجارف، ولا صوت يعلو على صوت فحيح الحقد الدفين..
الظلاميين ليسوا بحاجة لوسائل مواصلات فهم يستطيعون قطع مسافات هائلة سعياً على الأقدام..
ومن بعيد تتبدى معالم الأحياء السكنية لشرق المدينة وقد أحيطت بسور من النيران ..
وتوقف الزحف، ومعه توقف الفحيح...
لا شيء سوى أصوات اللهاث ولعق الأصابع و الشفاه...
ثم صرخ يسرم :
ـ لااااااه.. كان المفترض أن يستسلموا مثل الأخرين ...
وقفز عشرة فوق بعضهم البعض صانعين برجاً ووثب يسرم ليعتليهم كلهم كي يتمكن من إلقاء نظرة أشمل على الموقف.. فبدا الأمر أشبه بفقرة في سيرك..
ـ سنحاصرهم حتى تخمد النيران أو تسقط عليها الأمطار ..
ثم عاد إلى الأرض فأحاط به جيش الخفافيش الظلامية منصتين :
ـ تدبروا أمركم عن طريق قنص بعض الحيوانات إلى أن يستسلم المحاصرون...
هنا شق الهواء شيء ما يتصاعد منه الدخان .. زجاجة تم حشر خرقه مشتعلة في فوهتها ... وأخذت العيون الواسعة تراقب الزجاجة الطائرة في عدم فهم حتى سقطت بينهم ودوى الانفجار ... عندئذ أدركت الكائنات ماهيه تلك الزجاجة وهي تصرخ وتقفز مبتعدة عن دائرة النيران .. هناك ثلاثة منهم تحولوا إلى زهرة نارية تتلوى من فرط الألم....
وكان أول الغيث قطر مثلما يقولون ..
عشرات الزجاجات تتطاير في الهواء وتهوى على الأجساد الظلامية .
ـ تراجعوا ...
تصاعد فحيح النيران.. وفحيح الآلام ..
عشرات الانفجارات تدوى وجحافل الظلاميين تتراجع بعد أن سيطر عليها الرعب وقاد زمامها الخوف الجبلي من النيران ..
كانت فرقة رماة الزجاجات الحارقة هي إحدى الفرق الخاصة التي أعدها نادر بالاستعانة بالبلطجي التائب سمكة .. تم صنع مئات الزجاجات المتفجرة لتكون طليعة الهجوم على الظلاميين .. وهكذا تحول المحاصرين إلى مهاجمين وصار من يحاصرونهم فارين تحت وطأة نيران الزجاجات الحارقة ..
وصرخ محسن من فوق سطح البناية التي صارت برج مراقبة :
ـ إنهم يتراجعون .. يتراجعون ..
وارتج المكان بالتكبير والتهليل ... وبرقت عينا نادر وهو يهمس لجلال :
ـ أبلغ سمكة ألا يتوقف عن مطاردتهم بالدراجات النارية والزجاجات الحارقة ..
وتلقى سمكة مكالمة جلال وهو يلقي زجاجة أخيرة ناحية حشد من الكائنات الفارة قبل أن يدهس ثلاثة أخرين تحت إطارات الدراجة النارية .
وصاح في مجموعته أن استمروا في مطاردة الشياطين ...
ـ مجموعة تطلق الزجاجات ومجموعة تطلق الخرطوش ...
أخرج بعضهم بالفعل بنادق الخرطوش التي حصلوا عليها من مراكز السلطة إبان الفوضى التي سبقت خروج الظلاميين.. اليوم يحملونها تحت سمع وبصر فلول رجال السلطة.. و بتوجيههم ..
كم تتبدل الأمور..
صوبوا البنادق تجاه الجحافل الفارة على أضواء كشافات الدراجات النارية.. وسرعان ما تصاعدت صرخات الكائنات الظلامية وكرات البلي الحارقة تمزق لحومهم ...
هنا فوجئ أحد راكبي الدراجات بمن يثب عليه من خلف فأطلق سبه وأسنان الظلامي تنشب في عنقه .. هناك من توارى في الظلام وطوق راكبي الدراجات.
ـ تباً ..لقد نالوا مني ..
ـ أصمد يا وزة ..
قالها سمكة وهو يصوب خرطوشه ناحية الكائن الذى تعلق بالسيد وزة، والذى انتابته حالة من الهياج وهو يحاول انتزاع الكائن من وراء ظهره لكن الأخير غرس أنيابه في عنقه كالكلابات..
ودوت طلقة.. وتبعتها طلقات...
وتهاوى الكائن ووزة يصرخ في رفاقه :
ـ ستقتلونني معه يا حمقى ..
ـ هل أنت بخير يا وزة ..؟
تحسس وزة عنقه وهو يسحب زجاجة مولوتوف من جراب خلفه على الدراجة :
ـ لقد سحب مني لتر دم كامل ...
وأشعل زجاجة حارقة وألقاها بغل ناحية فلول الفارين الذين تفرقوا على جانبي الطريق السريع والذى افترش بالجثث التي اشتعلت بها النيران واخترقها الخرطوش ... مشهد مروع لم يخطر حتى على بال هؤلاء الذين كانوا يوماً ما بلطجية ..ورفع سمكة هاتفه وطلب جلال :
ـ ريس جلال ...
ـ الضابط جلال...
بصق سمكة بصوت مسموع قبل أن يقول :
ـ لا مؤاخذة يا جلال باشا... الفئران تبتعد بشكل كافي ...
لحظات من الصمت ثم جاء صوت جلال عبر الهاتف يأمره بأن يتوقف عن مطاردة الظلاميين .. لكن يظل يحوم حول المكان ليتأكد من عدم تجمعهم مرة أخرى ..
هنا صرخ وزة في جزع :
ـ أريد نقل دم بسرعة .. سأموت يا حمقى ..
زجره سمكة قائلاً :
ـ اخرس يا وزة .. ليعطيه أحدكم لفافة حشيش كي يخرس قليلاً ..
تردد صوت جلال منزعجاً عبر الهاتف :
ـ حشيش ..! هذا مخالف للقانون يا سمكة .. الويل لك ...!
ـ أي حشيش يا باشا .. أنا أقول أعطوه (بقشيييش!!)..
***

عمرو مصطفى 06-08-18 08:47 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(4)
المكان هنا لا يطاق ...
هاته النسوة لا يعرفن أي تقاليد راقية ولا يتعاملن كنساء أصلاً.. بالنسبة إلى العوادلي الذى تربي ونشأ في مجتمع بني الأصفر، هؤلاء النسوة أقرب للرجال منهم للنساء..
لذا فقد قرر أن يجلس بينهم ولا ينطق بحرف مع بعض هز الرأس بين الحين والحين حتى لا يتهم بقلة الذوق .. لقد تصور في البداية أن نادر قد أحسن ضيافته ورفق به بإلحاقه بالنساء، ثم تأكد لديه أن هذه أشنع عقوبة يمكن تخيلها..
ـ لماذا لا تدخل معنا في الحديث يا دكتور .؟
قالتها والدة نادر على طريقة النساء (العشريات) كما يقال عندنا فأجفل العوادلي واصفر وجهه... ماذا يقول لهاته النسوة الرجال.. أبعد الجلوس مع صفوة المجتمع وأكابر الرؤساء والزعماء يجلسه نادر مع هؤلاء الساحرات الشريرات ..
ـ ما .. ماذا أقول بالـ .. بالضبط ..
(مصمصت) إحدى النساء بشفتيها قبل أن تقول مشفقة :
ـ لماذا يتعتع؟ يبدو كأنه ممسوس يا أم نادر ... تعال يا (ضنايا) لأرقيك..
وقامت إليه فذهل العوادلي وهو يتأمل حجمها الهائل عاجزاً عن النطق .. من الأحمق الذي أيقظ ذلك الديناصور الأنثوي.. وتصور للحظة أنها ستجلس على أنفاسه وينتهى أمره للأبد .. لقد فعلها فيه نادر ..
ـ لـ .. لحظة يا (مسز)....
ـ (مسز) !!!
قالتها وهي تضرب بيدها على صدرها كأنها تلقت إهانة جارحة.. وبدا للعوادلي لحظة أنها تزداد انتفاخاً كأنها موشكة على الانفجار في وجهه.. العوادلي لم يفهم طبعاً أنها ظنت به الظنون لأن وقع كلمة (مسز) على أذنها قريبة من كلمة يستعملها الرعاع للتعبير عن الجمال الأنثوي الطاغي.. وطبعاً انهالت على رأسه باللعنات والاتهامات بأنه (عجوز وناقص) الخ ...
هنا دوى صوت هاتفه المحمول لينقذه من الكارثة التي تورط فيها.. انتحى جانباً ورفع الهاتف إلى أذنيه متجاهلاً سيل السباب المنتقى..
ـ ألو... سيد نوسام ..
جائه صوت نوسام بنبرة لا تخلو من القلق :
ـ تأخرت جداً يا دكتور .. ولم تتصل حسب الموعد ..
ـ سامحني يا سيد نوسام .. أنا هنا في سيرك حقيقي ..
ـ المهم يا دكتور ... ما هو الوضع لديك ؟...
ـ الوضع فريد من نوعه .. الشعب هنا في شرق المدينة متحمس جداً للمواجهة ... ملتف حول قيادته .. و ...
جائه صوت نوسام محنقاً :
ـ كفى شعراً... أريد أن أعرف مصير يسرم الأحمق ورجاله الظلاميين ...
ـ الحقيقة أنا هنا جالس مع بعض النسوة لطيفي المعشر وبعيد عن ميدان الحدث..
كان يتكلم في خفوت .. لكن نوسام كان ثائراً ..
ـ جالس مع بعض النسوة ... هل أرسلتك لشرق المدينة كي تجلس مع بعض النسوة يا دكتور ... ألم تشبع من مجالسة النساء في محافلنا بالخارج ..
رمق العوادلي رفقة النساء وأزدرد لعابه قائلاً :
ـ لا تذهب .. بـ .. بعيداً يا سيد نوسام أنا شبه محتجز هنا ..
ـ هل كشف أمرك .؟
ـ إنه لا يطيق رؤية ظلي .. لأنه لم ينس دعاياتي السابقة المؤيدة للظلاميين.
ـ هذا لا شيء .. تحرك يا دكتور وكن مفيداً ....
هنا دوى صوت التهليل والتكبير من الخارج وانتفضت بعض النسوة وفزعن إلى النوافذ وعدن بالتهليل والتكبير والزغاريد..
واضح أن الكفة تميل لرجال شرق المدينة..
عاد العوادلي إلى نوسام الذى سأله بانزعاج عن سر الأصوات لديه...
ـ إنهم يتقدمون على الظلاميين .. ألم أقل لك أنهم متحمسون ...
ـ أريد منك وصفاً دقيقاً لدفاعاتهم يا دكتور.. تحرك فشعبنا لا يطعم الكسالى .
ـ سـ .. سأفعل ...
هنا سمع الصوت الحازم من خلفه يتساءل :
ـ ستفعل ماذا يا دكتور ؟
استدار وقلبه يخفق ليرى نادر و بجواره جلال ومعه عدد من رجال شعبنا يتأملونه في شك.. متى دخلوا؟
خر على ركبتيه عند قدمي نادر ورفع كفه مستجدياً :
ـ سأفعل كل ما.. ما تريده مني .. فـ.. فقط لا تتركني مع هؤلاء النسوة..
نظر إليه نادر ملياً ثم التفت للنساء متسائلاً :
ـ ماذا فعلتم بالرجل؟
***
أخيراً توقفت الكتل الظلامية الفارة ... صوت اللهاث الغاضب ورائحة اللحم المشوي تفعم الأنوف الحساسة وتثير في نفوسهم الرعب والفزع من عدوتهم اللدود .. النار ..
وهتف يسرم وهو يرفع عقيرته إلى السماء :
ـ من جديد تعود التنانين النارية ....
وتحسس ظهره في ألم مستطرداً :
ـ بعد أن ظننا أنها توارت إلى الأبد ...
صرح أحدهم وهو يطفئ النار التي اشتعلت بكاحله بضربها بالأرض عدة مرات :
ـ لقد صار الشعب كله تنانين نارية.. أي جحيم ألقيتنا فيه يا رجل.
التفت يسرم في ثورة إلى المتكلم فانكمش في مكانه والدخان الأسود كريه الرائحة يتصاعد من كاحله..
ـ لماذا لم يصل الدعم من السيد نوسام .؟
هكذا تساءل ظلامي أخر احترق نصف وجهه وذابت معالمه وبقى نصفه الأخر متحمساً للكلام... لكن قبضة يسرم أطبقت على عنقه وجعلته يبتلع لسانه..
ـ يسرم ليس بحاجة إلى أحد... لقد صرنا ملوكاً على هذا الشعب ... ولن يعود الزمن للوراء .. لقد ولى عهد السلطة وتنانين النار .. وجاء عهد الظلاميين ..
قال أخر قد احترق شعر رأسه بالكامل وبدا رأسه مثل ثمرة القلقاس :
ـ وما هي الخطة التي سنقتحم بها النيران يا يسرم ؟..
لعق يسرم شفتيه ولمعت عيناه في جشع ..
ـ لن نحاصرهم .. سنقلد أعدائنا ونباغتهم بالهجوم ..
ـ والنيران التي تحيط بهم .؟.
تشمم يسرم الهواء كأنما هو ذئب يبحث عن فريسته .. ودارت عينيه في المكان بحثاً عن شيء ما ... كان الطريق السريع ممتد إلى ما لا نهاية لكن يوجد مبنى على مسافة قريبة من تلك المباني التي يضعها شعب السطح على امتداد الطريق السريع لتمد سياراتهم بذلك السائل النفاذ .. محطة وقود هناك قابعة في الظلام وقد فر عامليها أو ماتوا .. لكن ليس هذا هو المهم .. المهم هو تلك الحافلة الواقفة بجوار المحطة .. حافلة ضخمة خالية من الركاب .. ولعق يسرم كفيه متمتماً :
ـ حلمت يوماً وأنا طفل بركوب حافلة مثل تلك....
ثم التفت إلى الكائنات المترقبة صارخاً :
ـ الملوك لا يهاجمون على الأقدام يا سادة الظلام ...
لم يكن يسرم ولا أحد من الظلاميين يجيد قيادة مثل تلك الحافلات .. لكن القرد قد يكتب يوماً شعراً لو مكنته من ألة كاتبة كما يدعي بعضهم... وهكذا اندفعت الحافلة للوراء أولاً فاصطدمت بجدار المحطة .. وتصايحت كائنات الظلام المتكدسة بالداخل وما زال بعضهم بالخارج يحاول الولوج فبرز وجه يسرم من النافذة المجاورة لمقعد القيادة وهتف :
ـ لن نركب جميعاً يا حمقى .. كفوا عن العبث واتبعوا يسرم على الأقدام ..
واندفعت الحافلة وورائها جحافل الكائنات الظلامية التي لم تجد لها مكاناً.. وكان مشهداً فريداً من نوعه ....
ومن بعيد لمح سمكة وشركاه وهم على الدراجات النارية المشهد من بعيد..
ـ ما هذا بالضبط ؟..
قالها وزة وهو يحاول إشعال سيجارة وزجاجة مولوتوف في نفس
الوقت :
ـ أحد عاثري الحظ .. قرر أن يمر الأن من الطريق السريع ... ليجد تلك الغيلان تطارده .
حشى سمكة سلاحه بالخرطوش قائلاً :
ـ لقد عملت أعمالاً طيبة أكثر مما تحتمل أعصابي .. لكن لابأس لنضيف إليها عملاً أخر ..
قالها ثم انطلق على دراجته وخلفه بقية الفريق ... كان أملهم إنقاذ سائق الحافلة ومن معه ... كان أملهم أن يمنعوا كائنات الظلام من الوصول إليه .. فانقسموا إلى فريقين ميمنة وميسرة كي يتفرقوا على جانبي الحافلة كي يسهل التعامل مع الكائنات المطاردة للحافلة بحسب ما يظنون.. ومع ظلمة الليل لم يلحظ أحدهم ماهية قائد الحافلة الذى اقترب منهم وهو يضغط على أسنانه الحادة وعلى دواسة الوقود أكثر لتندفع الحافلة بسرعة أكبر ..
وتمتم في نشوة :
ـ حلم الطفولة يتحقق ...
وعلى مسافة قريبة من الدراجات البخارية القادمة من الاتجاه المعاكس أدار يسرم المقود ..
وكان الصدام مروعاً... وصوت تهشم الدراجات والعظام بشعاً من تحت إطارات الحافلة الضخمة ... سمكة كان من المحظوظين فقد زحف بدراجته بعيداً عن إطارات الحافلة عدة أمتار وهو يسب قائد الحافلة الأحمق ويترحم على رفاقه الذين تحولوا لعجين .. وحينما اعتدل من سقطته وكل عظمه في جسده تئن والرضوض والخدوش و السحجات رسمت لوحة سرياليه على جسده .. ساعتها أدرك أنه لم يكن محظوظاً .. كان هناك عشرات العيون المتسعة تتطلع إليه في جشع ... وكان الموت تحت عجلات الحافلة بالنسبة له أرحم من الموت بأسنان الظلاميين ....
***

bluemay 06-08-18 07:25 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
رائعة بقدر الألم الذي خُطّت به.

وما زلنا نترقب القادم،

تقبل مروري

مملكة الغيوم 07-08-18 01:14 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
السلام عليكم ورحمة الله
فى نشوة حب السلطه وحب الكرسى كان الظلاميون يتصرفون بهمجيه لم يعهدها الشعب الاسمر قبحه الله من كرسى جلب لنا الهم والالم وما زال الظلاميون يمشون بيننا بالشائعات حتى اصابنا القرف من السوشل ميديا
احسنت الوصف والتصوير والعوادلى او ال----بلاش نكمل جنى على العراق وكان نفسه يتممها بينا بس الشعب الاسمر دايما ربنا حاميه تقبل مرورى:55::55:

عمرو مصطفى 07-08-18 08:59 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3704921)
رائعة بقدر الألم الذي خُطّت به.

وما زلنا نترقب القادم،

تقبل مروري

القادم قادم بلا شك!! .. هذه معلومة لا يستطيع أحد التشكيك فيها أبداً !!..

تقديري البالغ لمتابعتكم ..

عمرو مصطفى 07-08-18 09:11 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مملكة الغيوم (المشاركة 3704937)
السلام عليكم ورحمة الله
فى نشوة حب السلطه وحب الكرسى كان الظلاميون يتصرفون بهمجيه لم يعهدها الشعب الاسمر قبحه الله من كرسى جلب لنا الهم والالم وما زال الظلاميون يمشون بيننا بالشائعات حتى اصابنا القرف من السوشل ميديا
احسنت الوصف والتصوير والعوادلى او ال----بلاش نكمل جنى على العراق وكان نفسه يتممها بينا بس الشعب الاسمر دايما ربنا حاميه تقبل مرورى:55::55:

أحسنت هذا هو المهم .. أن الظلاميين ما زالوا بيننا .. وهناك رسالة مهمة ومؤسفة في خاتمة القصة، متعلقة بمسألة الاستمرارية لقوى الظلام هذه ..
بالنسبة للحاج العوادلي فقد أعددت له نهاية رائعة في القصة اتمنى أن تتحقق وتكون من حظه ونصيبه في الواقع، مادياً أومعنويا .. أو كلاهما معا..

عمرو مصطفى 07-08-18 01:02 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(5)

ـ لماذا ؟..
ببطء يرفع نادر طرفه متأملاً وجه جلال الحانق..
كان جالساً باسترخاء مستنداً إلى جدار أحد المنازل بالقرب من اللجان الشعبية..
ـ لماذا ماذا ..؟
اشاح جلال بوجهه جهة الدكتور العوادلي الذى يسرح ويمرح بين رجال اللجان الشعبية في رسالة واضحة.. فهز نادر رأسه متفهماً و قال في هدوء:
ـ لم يحن وقته بعد .. كما أنه مفيد لنا في الفترة الحالية ... نحن بحاجة إلى بوق دعاية أمام شعوب العالم لتأييد موقفنا ...
ـ فقط .. نتركه يتجسس علينا من أجل الدعاية ؟..
مدد نادر قدميه أكثر وتثائب في كسل، ثم قال بعينين حمراوين :
ـ ليس هذا فقط .. هناك أشياء أخرى ..
ـ مثل ماذا ؟..
رفع نادر حاجبيه ولاح على شفتيه شبح ابتسامه وهو يقول :
ـ ليس الآن ..
هنا دوى صوت محسن كجهاز الإنذار المبكر :
ـ حافلة تقترب .. يبدو أنه سائق فار من الظلاميين ...
نهض نادر وكالعادة نهض كل رجال اللجان نهضة رجل واحد منتظرين الأسوأ .. على حين وثب العوادلي متعلقاً بعنق المعلم فوزي وهو ينظر من وراء كتفه في ترقب وذعر ...
ـ دعني ألقى نظرة ..
قالها نادر ثم صعد المبنى الذى يجلس فوق سطحه محسن للمراقبة ولتدخين النرجيلة على انفراد بعيداً عن الفضوليين .. أشار محسن بكفه إلى الأفق وقال مؤكداً :
ـ هناك ... الطريق السريع ...
دقق نادر النظر ثم التفت إلى محسن قائلاً في قرف :
ـ هلا أرحتني من رائحة النرجيلة هذه ..
ـ لولاها لما رأيت ما رأيت .. إنها أفضل منبه..
هنا جاء جلال وهو يلهث من أثر السلم متسائلاً فالتفت إليه نادر
صائحاً :
ـ هل سمعت عن حصان طروادة ؟.
ضيق جلال عينيه كأنما بوغت بالسؤال، ثم رنا ببصره ناحية الحافلة القادمة من قلب الظلام على الطريق السريع وبرقت عيناه في فهم ..
ـ حصان طروادة المشوي ؟..
ولم يستطع نادر منع نفسه من الابتسام وهو يلتفت إلى محسن قائلاً :
ـ محسن دورك لم يعد مجرد (ناضورجي).. لقد حان وقت اختبار قدراتك على القنص ..
رفع محسن بندقيته قائلاً في حماس :
ـ سيسعدني هذا .. أنا أمقت دور الناضورجي أصلاً فهو يذكرني بأيام تدخيني للحشيش مع ...
وقطع عبارته وهو يرمق جلال ممتقعاً لكن نادر جذب الأخير من ذراعه وانطلقا لاتخاذ مواقعهم ..
وارتفعت الصيحات التحذيرية مدوية متسلسلة عبر اللجان الشعبية المتناثرة على نواحي الشوارع الفرعية بشرق المدينة .. وخصوصاً عند تلك التي تواجه الطريق السريع عند أطراف المنازل ...
ـ أصحى .. أصحى ...
كان هذا هو هتاف اللجان الشعبية في حالة التنبيه على خطر قادم .. وكان الخطر القادم حافلة يقودها كائن ظلامي شبه مجنون..مجنون بحب الدماء.. مجنون بحب الزعامة ... ومن حوله صراخ وطاويط الظلام وفحيحهم أحال الحافلة إلى سيرك متحرك .. ولما تبدت النيران التي أشعلها شعبنا كسياج محيط بشرق المدينة بدأ صوتهم يخفت مع بعض الهمهمات المضطربة ولعق الشفاه والأصابع ...
ـ استعدوا .. سنقهر عدوتنا النار ..
صاح بها يسرم وهو يزيد السرعة بأقصى ما يملك..
ومرقت الحافلة من أتون النار الملتهب وعبرته إلى الجهة الأخرى..
ولمح يسرم العشرات من المرابطين خلف النار يتراجعون متحاشين الحافلة التي تنقض عليهم من بين النيران كالعنقاء..
ـ مزقوهم ..
ولم يكن الظلاميين بحاجة لهذا الأمر بالفعل لكنهم قبل أن يتحركوا قيد أنملة رأوهم قادمين .. كل ظلامي يعرف حقيقة هؤلاء القادمين وحقيقة تلك الأزياء التي تشبه أزياء رواد الفضاء، وتلك الأشياء التي يحملونها والمتصلة بأنابيب يحملونها على ظهورهم ..
ولم يسمعوا صوت جلال قائد فرقة قاذفي اللهب وهو يعطي إشارة البدء ...
البدء في شوي حصان طروادة..
وبينما يتصارع الظلاميون للخروج من الحافلة ويصارع يسرم كي يتراجع بها بدأ حفل الشواء .. تحولت الحافلة إلى كتلة ملتهبة .. كتلة ملتهبة تنفصل عنها كتل صغيرة كانت منذ قليل كائنات ظلامية تحلم بوجبة طازجة من الدماء .. البعض نجح في الخروج من النوافذ والقفز عبر كتلة النيران .. لكن محسن ومعه العديد من قناصة الأسطح أثبتوا كفاءة غير عادية في اصطيادهم ..
يسرم قفز من النافذة المجاورة لمقعد القيادة وكور جسده وهو يتدحرج بعيداً عن النيران وسمع دوى الطلقات التي ارتطمت بالأرض بالقرب منه ... وحينما اعتدل لمح جلال يصوب ناحيته قاذفة اللهب فقفز في الهواء وتعلق بإحدى أنابيب الصرف وبدأ يتسلقها كالقرد وفي سرعة شيطانية ... وخارج جدار النار وقف من تبقى من الظلاميين وقد احجموا عن خوض النار بأجسادهم .. وقفوا ينصتون إلى صراخ إخوانهم ويتراجعون لاإرادياً..
لقد انتهى أمرهم.
بالفعل انتهى أمر الحافلة التي اقتحموا بها النيران .. ولم يبق سوى بعض الفارين عاثري الحظ الذين نجحوا في التسلل إلى بعض البيوت لكن تبين لهم أن نار رجال السلطة والشعب أرحم بكثير من الوقوع في قبضة نساء شرق المدينة .. وهكذا رأينا الظلاميين الذين روعوا غرب المدينة يفرون ولهم صراخ من أمام نساء شرق المدينة المدججين بعصي المكانس وأواني الألومنيوم..
إحدى هؤلاء النسوة وثبت بواحد من الفارين وأقسمت أن تعصره عصراً حتى ينز كل قطرة دم امتصها من عروق أبناء شعبنا في غرب المدينة.. طبعاً تحول الظلامي إلى ما يشبه العصيدة..
وجاء المعلم فوزي حاملاً عكازه الذي ورثه عن أبيه وخلفه عدد لا بأس به من رجال المقاومة .. وصاح في غضب هادر :
ـ لا تجعلوهم يتسللون إلى الحريم.. لو مس أحدهم طرف واحدة من نسائنا فسوف...
وابتلع بقية عبارته وهو يتأمل الظلامي الذي تحول إلى عصير طماطم طازج بين يدي ما أطلق عليهم (حريم).. ثم إنه التفت إلى الرجال خلفه قائلاً:
ـ كفى الله المؤمنين شر القتال.
نادر كان يتابع تسلل يسرم عبر مواسير صرف إحدى البنايات وكان يعرف أنه يقصد القناصة المرابطين لحماية ظهر الرجال على الأرض.. وحينما هم بالنهوض خلفه فوجئ بحشد من الرجال يحيطون به من كل جانب في رسالة واضحة .. لن نتركك تغامر بنفسك ونحن متوفرون ..وسمع صوت جلال يهتف :
ـ إنه مجرد واحد أيها القائد..
لكن نادر صاح به وبمن حوله :
ـ نعم هو شيطان واحد يمكنه شرب دماء نصف سكان شرق المدينة.. نبهوا القناصة فوق السطح وليصعد بعضكم لدعمهم .
ارتفع الصياح التحذيري بالرجال فوق الأسطح على حين تحرك البعض لدعمهم كما أمر نادر..
أما يسرم فقد نجح في الوصول إلى نهاية أنابيب الصرف بتلك البناية وقفز فوق سطحها ولم يكد يستقر حتى وثب برجلنا هناك
وتكور الاثنان أرضاً.. رجلنا فقد سلاحه مع السقطة لكنه قاوم يسرم بشراسة.. والأخير كان يعرف طريقه جيداً إلى عنقه..
بعد ثوان خارقت قوى الرجل فتركه ورفع طرفه ليبصر السطح المجاور.. كان يتعمد الزحف محتمياً بسور السطح من طلقات القناصة المجاورين.. وفي اللحظة المناسبة يثب وثبة هائلة يعبر بها الفراغ الفاصل بين الأسطح ويهوي على سطح جديد بحثاً عن المزيد
من الرجال.. ولم تكد قدميه تستقر هذه المرة حتى تلقت رأسه ضربة هزت كيانه .. ولمح بعينين زائغتين الشاب محسن وهو يتحسس النرجيلة التي هوى بها لتوه على رأسه والتي تهشمت قاعدتها الزجاجية..
ثم هوى يسرم كالحجر بين يدي محسن الذي سارع إلى حافة السطح وصاح في حنق :
ـ لقد أسرت أحدهم ... وتحطمت النرجيلة !
***





(6)

أحبطنا محاولة الظلاميين الولوج إلى شرق المدينة وفر من بقي منهم بعد أن سقط زعيمهم يسرم ....
من سوء حظ محسن أن ذخيرته نفدت.. فاضطر إلى ضربه بزجاجة النرجيلة الثقيلة .. لقد تهشمت الأخيرة وفقد محسن أعز ما يملك وهو مستعد جدياً لتلقي العزاء في تحطم النرجيلة..
أمر نادر بإحصاء الخسائر، لقد فقد أبناء شعبنا مجموعة من الأبطال كانوا بالأمس بلطجية يثيرون الفزع في قلوب الشعب ... فختم لهم بخاتمة خير.. وصاروا أبطالاً يحتسبون في مصاف الشهداء... مجموعة سمكة راكبي الدراجات الذين حصدهم يسرم بالحافلة حصداً لم يعد منهم أحداً .. أمر نادر الضابط جلال بعمل جولة استكشافية ومعه عدد من السيارات فعاد بعد ساعة محملاً بالجثث .. جثث تم دهسها وامتصاص ما بقي فيها من دماء .. وأمر نادر بدفن الجثث سريعاً حتى لا تفت رؤيتهم في عضد بقية المقاتلين.
ـ هل هناك مفقودين؟..
قالها نادر فأجابه جلال واجماً :
ـ لم نجد سمكة ولا وزة ..
ـ هذا يعني أنهم أحياء ؟..
هز جلال رأسه في بطء نافياً وهو يقول :
ـ هذا ليس مؤكداً.. ربما حملوهم معهم في رحلة العودة كخزين للطعام ...
تقلصت أمعاء نادر وهو يتخيل .. رباه .. منذ ساعات كان يحدث سمكة والأن لم يعد هناك سمكة ... ولم يتخيل يوماً لا هو ولا جلال ولا أحد من سكان شرق المدينة أن رحيل سمكة سيسبب لهم كل هذا القدر من الحزن والأسى ..
***
لكن من قال أن سمكة رحل أصلاً ؟..
صحيح أن الكائنات الظلامية التي تخلفت عن الركب أحاطت به وقد أثارتها رائحة الدماء التي بدأت تنزف من جروحه لكن .. وزة أيضاً كان ما يزال حياً .. وما يزال قادراً على إلقاء زجاجات المولوتوف ..
ـ وزة .. مرحى يا رجل ...
وتناثر الشرر وتفرقت الكائنات في كل مكان .. والمحصلة هي احتراق ثلاثة منها .. وكان لابد من الفرار قبل أن تعاود البقية الهجوم.. جرى سمكة ناحية الدراجة وقام برفعها وخلفه وزة يطلق بعض الخرطوش فيتناثر البلي الحارق على الأجساد الظلامية .... هنا وثب أحدهم وأنشب أنيابه في ساعد سمكة الذى يمسك بمقود الدراجة فأطلق صرخة عاتية ثم أهوى بقبضته الأخرى على رأس الكائن حتى تخلى عن ساعده.. ووثب فوق الدراجة ووثب خلفه وزة وهو يحشو سلاحه بالخرطوش ..
ـ لم يعد معي مولوتوف .. والخرطوش قرب على النفاد ...
ضغط سمكة على أسنانه وهو ينطلق بالدراجة صارخاً :
ـ تشبث جيداً .. سنعود لرفاقنا ...
ـ رفاقنا ماتوا يا سمكة .. ولم يعد لنا رفاق ...
هز سمكة رأسه في عنف قائلاً :
ـ ما زال لنا رفاق في شرق المدينة يا وزة وهم بحاجة إلينا..
هنا انقض أحدهم عليه من الأمام .. ولم يعد يرى شيئاً ..
وصرخ وزة .. وصرخ هو والألم يعصف به.. الوغد ينشب أسنانه في رقبته وصوت لهاثه المسعور يفعم أذنيه.. و.. انقلبت الدراجة البخارية على جانبها وقفز وزة للوراء متخلياً عنها .. على حين ظل الكائن متشبثاً بعنق سمكة والدراجة تزحف بهما مسافة لا بأس بها على الأرض الإسفلتية قبل أن تسكن أخيراً .. لم تفلح الضربات المحمومة مع الوغد المتشبث لذا فقد مد سمكة كفه في جيب سرواله وأخرج مطواته الأثيرة (قرن الغزال)ودون تردد أولجها في جسد الكائن .. لم يعد يفرق هل هذه دمائه أم دماء الكائن الذى مزقه بمطواته لتوه.. كان الدوار يكتنف رأسه وشعر بضعف عام نتيجة ما فقده من دماء لكنه حاول أن يعتدل ليطمئن على وزة ..
لقد قفز الأحمق من فوق الدراجة قبل أن تنقلب وهى طريقة أسرع للموت في أحيان كثيرة لمن يريد تفادي انقلاب الدراجات .. سرعان ما يسقط على شيء ما فتدق عنقه أو تتهشم جمجمته.. ترى إلى أي المصيرين صرت يا وزة يا صاحب العمر .. هنا صكت أذنيه أصوات المص والبلع وهاله المصير الأسوأ لصديق عمره..
ـ لاااااااه ...
كان هناك حشد من الكائنات عاكفون على مص دماء وزة الذى بدا ساكن الحركة تماماً ولا يكاد يرى منه إلا قدميه من كثرة تكالب الكائنات الظمآى على جسده .. وصرخ سمكة صرخة أخيرة أودعها كل ما تبقى فيه من قوى ثم مادت به الأرض ونما إلى مسامعه وهو يهوى في دوامة الضعف والوهن صوت طلقات تدوى من ورائه ..وحينما حاول أن يلتفت سقط على ظهره .. ورأى مشهداً مشوشاً لسيارة ضخمة فوقها طبق إرسال ومن سطح الكابينة برز شخص يصوب مدفعاً رشاشاً ويطلق منه الرصاص .... ثم أحاط بناظريه الضباب الكثيف وتلاشى كل شيء خلف جدار من السواد الحالك..
ـ سيكونون بخير ... رغم ما فقدوه من دماء ...
هذا أول ما نمى إلى مسامعه وهو يفتح عينيه في بطء .. كان لابد له أن يسأل السؤال الأبدي الذى يسأله كل من يفيق من غيبوبة ..
ـ أين أنا يا أولاد الـ...
رفع ب ـ 1 أحد حاجبيه قائلاً :
ـ أهدأ .. لقد قمنا بإنقاذك ..
بدأ سمكة يستوعب المكان حوله .. هو داخل مكان يشبه عربة الإسعاف من الداخل ... هناك فراشان متجاوران كان هو نائماً على أحدهما ووزة نائماً على الأخر .. هناك محاليل تم توصيلها إلى عروقهما .... كان وزة يتنفس في عمق .. إنه حي ... واكتسى وجه سمكة بالامتنان وهو يقول :
ـ ما ظننت أنني سأفتح عيناي مرة أخرى .. الشكر وحده لا يكفي يا .. يا..؟
ـ ب ـ1 ..
ـ بماذا ؟!..
ابتسم ب ـ 1 وهو يراقب شيء ما على شاشة حاسوب وضعه على منضدة صغيرة أمامه ثم قال :
ـ هو جاهز الأن يا سيد نوسام ..
أعتدل سمكة في حركة حادة كادت تقلب عمود المحاليل وهو يتذكر ذلك الاسم .. رباه .. إنه لم ينجوا بعد إذن .. لقد عاد إلى قبضة سيده القديم ..
هنا دوى الصوت المميز للسيد نوسام :
ـ حمداً لله على سلامتك يا سمكة ..
قال سمكة في تردد وهو يرمق شاشة الحاسوب التي نقلت صورة للسيد نوسام وهو داخل مكان يشبه القبو :
ـ سمكة لن ينسى هذا الجميل لك يا خواجه ...
حك نوسام وجنته بظفره وهو يقول في بطء :
ـ هل أنت بحالة جيدة يا سمكة فعلاً ...؟
ابتلع سمكة ريقه وهو ينظر لـ ب ـ 1 ثم قال :
ـ الفضل يعود لرجالك يا خواجه ....
ـ أنت رجلي أيضاً يا سمكة ... لكن .. هل تذكر اتفاقنا ؟...
صاح سمكة بسرعة :
ـ هؤلاء الحمقى أفسدوا كل شيء ... كنت قريباً جداً من الهدف وعلى وشك النيل منه .. حتى بادر الظلاميون بالهجوم الأحمق ووجدت نفسي أقاتل إلى جانب الشعب مضطراً .. وكاد الظلاميون الحمقى أن يقتلوني .. بدلاً من أن يساعدوني ...
أنهى سمكة دفاعه وكتم أنفاسه منتظراً النتائج .. وتمنى في سره أن يكون نوسام أحمقاً بما يكفى ليصدق ... كان الأخير ينصت وهو مرتكز بذقنه على كفه وظل صامتاً لبرهة.. حتى بدأ العرق يتفصد من جبين سمكة..
ـ أنت محق ...
حاول سمكة أن يكتم زفرة حارة كادت تفضحه على حين استطرد نوسام قائلاً :
ـ الظلاميون همجيون غير منظمين .. وشهوانيين .. وأخطر ما فيهم .. لا يقدرون قيمة التواصل عبر الوسائل الحديثة .. والحمد لله أن الفريق ب وصل إليك في الوقت المناسب .. الأن ستعود يا بطل إلى معسكر شعبكم الباسل وأعدك هذه المرة .. أنه لن يحول بينك وبين الهدف شيء ..
ثم تحول بالكلام إلى ب ـ 1 قائلاً :
ـ ب ـ 1 .. ستنزلون سمكة ورفيقه عند أقرب نقطة يمكنهم بعدها السير حتى يصلوا إلى اللجان الشعبية ....
هنا تذكر سمكة شيئاً :
ـ وزة لم يستعد وعيه بعد .. كما أن الدماء التي فقدناها...
قاطعه ب ـ 1 قائلاً :
ـ تم عمل نقل دم لكليكما وسيفيق صاحبك قبل شروق الشمس ..
ـ والطعام .. أنا جائع بشدة .. ولا شك أن وزة سيكون كذلك ...
أطلق نوسام ضحكة عارمة قبل أن يسعل هاتفاً :
ـ كح .. كح .. طلباتك أوامر يا (سي) سمكة ..
ثم انقلبت سحنته فجأة وهدر صوته في توحش :
ـ ولا مجال للفشل هذه المرة .. أريد رأس ذلك الوغد نادر لأزين بها حجرة مكتبي .. أنا مستعد أن أتحول لظلامي أخر كي أتمكن من شرب دمه ....
أما سمكة فقد حمد الله في سره .. نوسام فاقت حماقته كل توقعاته..
وبينما اختفت صورة الأخير توجه ب ـ 1 إلى ثلاجة صغيرة بجوار المنضدة التي يضع عليها الحاسوب وتناول بعض المعلبات ثم قذفها في حجر سمكة الذى تأملها في شك، ثم رفع طرفه إليه وصاح متنمراً :
ـ هل تمزح معي؟.. قلت لكم أنا جائع يا حمقى.
ثم استرخى واضعاً ساقاً على ساق وأردف :
ـ أريد طاجن عكاوي.
***



مملكة الغيوم 08-08-18 03:34 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
السلا م عليكم ورحمة الله
اتمنى فعلا اشوف نهايه تمزق فيها اوصال العوادلى كما مزق اوصال بلد عريق ونهايه ابشع لكل نوسام يريد بنا شرا
فى انتظار سمكه والعكاوى دمت بخير

عمرو مصطفى 08-08-18 09:43 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مملكة الغيوم (المشاركة 3704967)
السلا م عليكم ورحمة الله
اتمنى فعلا اشوف نهايه تمزق فيها اوصال العوادلى كما مزق اوصال بلد عريق ونهايه ابشع لكل نوسام يريد بنا شرا
فى انتظار سمكه والعكاوى دمت بخير

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..

النهايات قادمة إن شاء الله .. وبعضها ملموس في الواقع بالفعل ..

لكن بالنسبة للعكاوي لا أعتقد أن فكرة أكلها من يد ضباع نوسام فكرة صائبة.

عمرو مصطفى 11-08-18 09:39 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(7)
ظل رجال اللجان الشعبية يضحكون ويتندرون على نوسام وفريقه بعد أن استمعوا إلى ما جرى لسمكة و وزة.. كان سمكه يراهنهم على كل ما في جيبه أنه قادر على خداع نوسام للمرة الثالثة..
ولأول مرة رتب جلال على عاتق سمكة وهو يقول مبتسماً :
ـ لقد تحولت إلى بطل شعبي يا سمكة ..
ـ مثل أبطال (الحواديت)؟
تعالت الضحكات من حوله على حين ظل نادر صامتاً لبرهة وهو ينظر لسمكة ووزة .. بلطجية الأمس أبطال اليوم ...
ثم اكتشف أن الجميع سكت بانتظار تعليقه فابتلع ريقه وقال :
ـ ربما غداً تكتشف أنك كنت أعظم من كل أبطال (الحواديت).. على الأقل أنت حقيقة يراها الجميع ..
ثم إنه استدار في مواجهة الجموع المحيطة.. وأخذ يتفرس في وجوههم.. جلال.. محسن.. المعلم فوزي ..الشيخ حسن الفقي..
شاع على وجهه البشر مردفاً :
ـ الحقيقة أنكم كنتم جميعاً أبطال تلك الملحمة.. سيتوقف التاريخ طويلاً أمام ما فعلتموه هنا في شرق المدينة..
وفي زاوية المشهد وقف العوادلي يداعب ذقنه بأنامله .. يبحث له عن دور من أدوار البطولة التي توزع .... ولما تأكد أنه خارج إطار البطولة قرر أن يجد لنفسه موضع حجر .. رفع كفه ونعق مثل الغربان ..
ـ ربما نكون قد دحرناهم في الشرق .. لكن مازال الغرب بأيديهم ..
التفتت إليه الوجوه .. وشاعت ابتسامة رائقة على وجه نادر وهو يصيح :
ـ ومن قال أن التاريخ سيتوقف هنا في الشرق للأبد.. ألا تشاهدون ...
وتحرك المعلم فوزي ناحية شاشة المرئي الضخمة التي أحضرها من المقهى لتسلية المقاومين وقام بتشغيل البث المباشر لأخر الأخبار .... الأخبار تأتى من الغرب يومياً تحت سطوة الظلاميين ... فالمذيع من هؤلاء يذيع الموجز وهو يتلفت حوله .. لو أخطأ في حرف فستكون نهايته السريعة وإلا فالكل ينتهى أمره إلى طعام .. اليوم خرج المذيع على الشاشات هادئاً ثابتاً مستقراً ......
وانعقد حاجبي العوادلي و احولت عيناه تقريباً وهو يستمع للمذيع الواثق يقول :
ـ انتهى الكابوس .. سقط قائد الظلاميين في الشرق أسيراً وجاري السيطرة على فلول الظلاميين في الغرب ....
واختفت صورته لتظهر صورة حية من الشارع في الغرب .. جحافل من الشعب الذى قرر ألا يكون طعاماً للظلاميين .. يطوفون بالشوارع.. والويل كل الويل لأى ظلامي عاثر الحظ يقع في طريقهم .. وفي السماء حلقت طائرات تابعة لقوات السلطة ..
معظم السلاح الخفيف والثقيل والآلات العسكرية مخبئة في مخازن سرية غرب المدينة ولابد أن نصل إليه..
وتصايحت الجموع ملوحة لسرب الطائرات ..
والتفت جلال بحدة إلى نادر الذي بادله النظرات التي تداري الكثير
وعادت صورة المذيع مع صوته :
ـ لقد عادت السلطة المتوارية .. عادت إلى ميدان المعركة ..عادت إلى الشعب ..
كاد العوادلي أن يفقد وعيه على حين تعانق محسن مع المعلم فوزي .. ورفع جلال قبضته وهزها في قوة... وهرش سمكة مؤخرة رأسه في عدم فهم... وعقد نادر ساعديه أمام صدره وهو يبتسم في رضا .
وبعين الخيال رأى وجه ما.. وجه أسود مكفهر.. يتابع الأخبار بعينين لا تريان.. لو كان نوسام آدمي المشاعر لمات بالفالج الأن..
ـ ألم يحن الوقت بعد؟
التفت نادر فإذا بجلال ينظر إليه نظرة إجلال.. فابتسم في غموض واطرق للأرض متسائلاً :
ـ لأي شيء؟
حك جلال أنفه وهو يضيق عينيه قائلاً :
ـ لنعرف حقيقة من كان يقودنا..
اتسعت ابتسامة نادر غموضاً وهو يرنو للأفق..
ـ أتدري يا جلال.. هذه المدينة التي تضمنا جميعاً.. بشرقها وغربها.. مدينة مغرقة في العراقة والقدم.. وليست بالسهولة التي قد تبدو عليها أمام الأخرين.. إنها أصعب وأمنع مما تتخيل.. وستظل كذلك إلى ما شاء الله..
ـ كنا على علم منذ البداية بما سيحدث أليس كذلك؟.. لم يكن في تحركاتنا أي ارتجال.. فلماذا تركناه يحدث؟
شرد نادر كأنما يستعيد ذكرى ما.. وبدأ يهمس كأنما يحدث نفسه:
ـ الخطة كانت كما يلي.. سنمتص الصدمة.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذه كانت الخطة وعلى هذا كان العهد..
ـ عهد من؟
ـ عهد الرجال..
غمز جلال بعينه قائلاً :
ـ كلنا رجال..
أومأ نادر برأسه واكتسى وجهه بالأسى :
ـ أتحدث عن الرجال الذين لا يعرفهم أحد.. ولا يتذكرهم أحد إلا كالحلم العابر الذي تنسى تفاصيله بمجرد الاستيقاظ.. لكن يظل مذاقه في حلقك ما حييت..
ـ تتكلم مثل الشعراء..
ابتسم نادر بركن فمه وشردت عيناه مرة أخرى بعيداً وهو يهمس:
ـ كذلك هم.. فرسان شعراء..
***




عمرو مصطفى 11-08-18 09:40 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 


الجزء الثالث

" هذا ليس عنواناً لفيلم رعب من تلك التي يدمنها الشعب الأصفر ويصدرها لشعوب العالم.. بل هذا هو الواقع المرير الذي استيقظ عليه بعد نوم عميق.."


عمرو مصطفى 11-08-18 09:41 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 

(1)
في مكان ما بشرق المدينة فتح يسرم عينيه ليجد نفسه في قفص حديدي داخل غرفة لها باب واحد ونافذة واحدة يتسرب منها ضوء القمر.. الغرفة تبدو كمخزن قديم تم إعداده لينزل فيه سجيناً..
قفز ناحية باب القفص وضرب رأسه به عدة مرات وهو يعوي كالذئاب..
بعد قليل انفتح الباب ودخل منه جلال ومعه نفر من رجال السلطة
لم يكد يسرم يلمحهم حتى أطلق فحيحاً غاضباً:
ـ أنا جائع..
نظر إليه جلال بلا مبالاة قائلاً :
ـ القائد جاء بنفسه ليقابلك..
تقلص وجه يسرم وهو يتذكر وجه نادر ذلك الشباب الذي ظهر فجأة
وقلب الأمور رأساً على عقب..
ـ أنا جائع يا حمقى.. ألا تفهمون..
هنا برز نادر وخلفه العوادلي فتراجع يسرم وانكمش في ركن القفص.. تساءل نادر :
ـ ألم تطعموه..؟
قال جلال :
ـ طعامنا لا يعجبه.. إنه يريد دماء..
التفت نادر إلى يسرم.. ثم اقترب من القفص..
ـ أيها القائد..
شعر بكف جلال المضطربة تحول بينه وبين التقدم لكنه ردها برفق
مطمئنا إياه.. ثم واصل الاقتراب حتى لامس وجهه القفص الحديدي وهو ينظر ليسرم في ثبات..
ـ هذه معاملة غيـ..غير أدمية بالمرة..
هذه كانت من العوادلي طبعاً.. التفت إليه جلال محنقاً فتراجع قائلاً :
ـ لابد أن نحرص على سمعتنا أمام الشعوب الأخرى.
قال نادر دون أن يرفع عينيه عن يسرم :
ـ هذا السجن أفضل بكثير من باطن الأرض حيث جاء يا دكتور..
هنا وثب يسرم واقفاً في منتصف القفص وصاح :
ـ أريد طعام يا حمقى.. ألا تفهمون..
رفع العوادلي سبابته قائلاً :
ـ هذا حـ.. حق من حقوق الإنسان..
كور جلال قبضته وبدا وكأنه موشك على الفتك بالعوادلي.. ثم أكبح جماح نفسه و قال في غيظ :
ـ إن كان شرب الدماء الإنسانية حق من حقوق الإنسان.. فيمكنك أن تتبرع له بدمك يا دكتور.
هرب الدم طبعاً من وجه العوادلي وتحسس عنقه مرة أخرى قائلاً :
ـ أنا لا أقـ.. أقصد هذا.. لكن هناك دائماً بديل للدماء البشرية..
هنا قال نادر وهو يرمق العوادلي بنظرة جانبية:
ـ البديل هو أن يعود لبشريته يا.. دكتور...
ثم عاد ينظر ليسرم والأخير يتضور جوعاً.. هذا المسخ لا يشغل باله الأن إلا الطعام.. وفكر نادر.. ماذا لو لم تكن هناك قضبان حديدية
تحول بينهما الآن.. هذا الكائن يستحق القتل مئات المرات..
لكن.. ليس الأن..
ـ لا يوجد هنا فئران؟..
قالها يسرم زاحفاً على ركبتيه وهو يتشمم الأرض..
غمغم جلال متقززاً :
ـ مع أي مسوخ قذرة نتعامل بالضبط؟
رفع يسرم وجهه إليه وأطلق فحيحاً غاضباً :
ـ ستدفعون ثمن هذا غالياً.. بنو الأصفر حلفائنا سيغزونكم لو تعرضتم لي بسوء.. لو كنت مكانكم لبحثت عن طعام لسيد الظلاميين
من يدري ساعتها .. ربما فكرت في الصفح عنكم..
عقد جلال ساعديه أمام صدره وتبادل النظرات مع نادر قبل أن يلتفت الأخير ليسرم قائلاً :
ـ لو كان الشعب الأصفر قادراً على غزونا منذ البداية.. لما كان لمؤامرتهم الكبرى معكم أي معنى..
لعق يسرم أصابعه وهو ينظر لنادر في غل :
ـ أكيد.. أكيد.. نحن مهمون لهم.. كما أنهم مهمون لنا.. لكنهم قادرون على حرق الأرض من تحت أقدامكم.. لا أحد يتحدى سياسة الشعب الأصفر.. ألم تتعلم شيئاً ممن سلفك..
ابتسم نادر قائلاً :
ـ نعم تعلمت.. تعلمت الكثير..
مال جلال للإمام كأنه يستنطق نادر المزيد.. لكن الأخير استدرك:
ـ لكنكم لا تتعلمون شيئاً ممن سلفكم يا سادة الظلام..
كاد العوادلي يموت غيظاً وكمداً.. ذلك الظلامي الأبله يتكلم بلا حساب.. لذا كان عليه أن يوجه دفة الحديث بعيداً :
ـ أنه يهـ.. يهذي من شدة الجوع.. أي علاقة تلك التي تجمع الشعب الأصفر رمز الحضارة والرقي بهؤلاء الوحوش..
قال نادر :
ـ من الذي سعى للحوار مع الظلاميين.. كلنا شاهدنا التمثيلية السخيفة التي أداها مبعوث الشعب الأصفر مع هذا اليسرم..
ـ أنا متأكد أنـ.. أنهم خدعوا فيهم مثلما خدعنا كلنا فيهم.
ـ إذن سنراهم قريباً معنا ضد الظلاميين؟
ابتلع العوادلي ريقه.. وبدا كأنه قد أسقط في يده..
ـ ر.. ر.. ربما..
نظر نادر في ساعته قائلاً :
ـ اعتقد أنك سهرت معنا أكثر من اللازم يا دكتور..
كانت إشارة واضحة فعدل العوادلي من ربطة عنقه وأستأذن في الانصراف وهو يتمنى للجميع ليلة سعيدة..
وبعد انصرافه تردد من جديد عواء يسرم الجائع.. طرق نادر على قضبان القفص الحديدي وقال:
ـ تريد دماءً حارة؟..
فغر يسرم فاه.. وسال الزبد من بين شدقيه وعينيه متعلقتان بشفتي نادر وهو يكمل :
ـ يمكنك أن تحصل على ما هو أفضل لو تعاونت مع أخونا جلال.
وحينما غادر نادر محبس يسرم همس لجلال :
ـ هذا الظلامي الجائع كنز معلومات.. أريدكم أن تعصروه حتى أخر قطرة..
ـ والعوادلي؟
ـ ليس الأن..
قالها باقتضاب، وتركه قبل أن يسمع منه أي تعليق..
***
في اليوم التالي انقلب العالم رأساً على عقب ..
العالم أشبه بحافلة يرى فيها لص يسرق عياناً بياناً ولا يتحرك أحد.. حتى يقرر أن يخرج أحدهم ويهلل : هذا لص .. فتنهال على الأخير الصفعات والركلات .. كان العالم بانتظار ذلك الـ ( جدع ) الذى سيطل برأسه ويدلي بدلوه لتتبعه الجموع .. وهذا الجدع بالمناسبة كان ..
سيد الشعب الأصفر ..
خرج وأعلن للجموع أنه قلق لما يحدث للشعب الأسمر .... ودعا للهدوء وضبط النفس والحوار ... ثم أنهى بيانه وطلب رجله هناك .. كان بحاجه إلى إفراغ شحنة الغضب في أحدهم ... وكان نوسام يستحق ..
ـ مازال الوقت مبكراً لنعلن فشلنا يا سيدي ..
ـ متى إذن ؟. عندما يعلن عدونا فشلنا على الملأ ..
ـ لدي خطة ـ قالها نوسام وهو يضغط على أسنانه ـ أقسم لك بتاريخي كله.. أنا لن أسمح بفشل خطة القرون ... خطة الأجداد ..
جائه صوت زعيم الشعب الأصفر متأففاً :
ـ أشرح لي خطتك .. وبناء عليها نبحث أمر بقائك هناك من عدمه
وبدأ نوسام على عجالة من أمره يشرح الخطة البديلة .. كان يشرحها على صوت صراخ الظلاميين وهتافات الشعب الأسمر الذي أفاق من ثباته العميق ... وما أشد هذا على نوسام.. إنه لا يتخيل شعبنا إلا نائماً وغارقاً في المتاهات التي يصنعها له هو وأسلافه ...
وأنهى نوسام المكالمة مع زعيم شعبه والتفت إلى دشرم .. أين أنت أيها القذر؟.. ها هو ذا متعلقاً ببعض الأستار يرتجف في رعب وهو يرمق عبر النافذة الطريق الرئيس والشعب الحاشد ...
ـ دشرم ..
صرخ نوسام فطار دشرم كأنما أصيب بصاعقة وتدحرج عند قدمي سيده وهو يلهث ثم رفع طرفه إليه مناشداً :
ـ أرجوك يا سيد .. لقد تلقى شعبنا الظلامي لطمة عاتية لم يتلق مثلها من قبل ...
جذبه نوسام من عنقه وقربه إليه :
ـ السبب هو .. الحماقة .. الاندفاع .. الهمجية ..
كان يتحدث وهو يضرب برأس دشرم الجدار والأخير تدور عينيه في محجريهما ... أخيراً تركه يسقط على الأرض واعتدل مكملاً :
ـ الأن على أحدهم أن يسمع ويطيع دون أن يتدخل من عند نفسه .. نوسام لديه خطة .. كل شيء يمكن أن يعاد بنائه ...
ورفع عقيرته مستطرداً في جنون :
ـ إننا نصنع قدرنا ...
***




bluemay 13-08-18 07:55 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اعجبني جدا المنحنى الذي اتخذته الاحداث
وكيف انقلبت الموازين..
ابدعت في التصوير والسرد

بإنتظار القادم

تقبل مروري

عمرو مصطفى 13-08-18 08:41 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3705104)
اعجبني جدا المنحنى الذي اتخذته الاحداث
وكيف انقلبت الموازين..
ابدعت في التصوير والسرد

بإنتظار القادم

تقبل مروري

الحمد لله عدنا بعد أن زالت لعنة الظلاميين!! ..
أشكرك جداً على جهدك في حذف المشاركات المكررة وأعتذر لك عن ذلك بشدة ..
وإن شاء الله نواصل القصة ..

عمرو مصطفى 13-08-18 08:46 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(2)
في اللحظات التالية كانت شعوب العالم الصفراء والخضراء والزرقاء تشاهد بثاً حياً ومباشراً للمذابح المروعة التي أحدثها شعبنا (الدموي!!) في صفوف الظلاميين المساكين!... وما بقي حياً منهم كان يظهر على الشاشات باكياً مستغيثاً بقوى العالم الرحيمة .. أرجوكم .. أنقذونا من جحيم إخواننا .. واحداً من هؤلاء ظهر يحمل لافتة كتب عليها بلغة بنى الأصفر .. لا للاضطهاد .. لا للمحارق .. لا للسلطة الغاشمة .. وحينما سأله المراسل عن سر الدماء التي تسيل من شدقيه قال بكل أسى أن أحد قاذفي اللهب نفدت أنابيبه فقرر أن يوسعه ركلاً بدلاً من شيه حياً .. وهذا طبعاً من حسن حظه.. وطبعاً أخذ يكشف للكاميرات عن مواضع الضرب والركل في مؤخرته.. واستفاد المشاهدون معلومة أن الظلامي حينما تركله في مؤخرته يسيل الدم من بين شدقيه.. هذا يحدث.. ويجد من يصدقه..
جثث الظلاميين المتناثرة على مساحات شاسعة توجع القلب، فإلى متى تستمر حملة الإبادة الجماعية العرقية لتلك الكائنات الظلامية الوادعة ؟!.. وإلى متى الصمت العالمي على تلك المجازر؟!
هنا يخرج المتحدث الرسمي للشعب الأصفر ليعلن أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي أمام إبادة طائفة كاملة لا تريد سوى حقها في الحياة .. دموع كثيرة سالت عبر العالم وانحدرت عبر جبال المشاعر لتستقر في وديان الضمائر المتوهجة مكونة نهراً ثائراً من الغضب الجامح .
انقلبت موازيين الأمور.. ببضع كاميرات وحفنة محطات بث فضائي أغرقت العالم في بحر من الترهات والأكاذيب .. هذه كانت أدوات نوسام والكارت الرابح والأخير لقلب الأمور عالمياً، ويبدو أنه قد نجح .. لقد صار العالم في واد .. وشعبنا المكافح المناضل ضد الظلاميين في وادٍ أخر ..
نست شعوب العالم حقيقة الظلاميين التي انكشفت على الهواء مباشرة.. وكما قلنا ونكرر : النسيان هو أفة الشعوب .. وإن كان النسيان أفة شعبنا اللاإرادية .. فهي عند كثير من الشعوب الأخرى .. أفة متعمدة مع سبق الإصرار والترصد ..
***
إننا نشعر بالقلق لما يحدث .. استيلاء الظلاميون على مقدرات شعب عريق مثل الشعب الأسمر شيء محزن ..
***
وما كان للشعب الأصفر مرهف الحس !! أن يترك شعبنا المسكين لحفنة من الظلاميين !
***
هكذا وجد نادر وزمرته أنفسهم أمام معركة من نوع أخر...
معركة إعلامية ...
وكان لابد من صد تلك الهجمة الشرسة بأخرى مماثلة.. كاشفة فاضحة ..
ـ دكتور العوادلي .. هذا وقتك ..
تلعثم كعادته ورمش بعينيه عدة مرات مستفهماً .. أشار له نادر إلى مبنى البث الشعبي قائلاً بنبره صارمة :
ـ حان الوقت كي تظهر للعالم حقيقة المواجهة أنت رجل لك كلمة مسموعة ورأي راجح عند بنى الأصفر...
ـ حـ .. حقاً ...
واضطر العوادلي أن يخرج أمام الشاشات ليعلن للعالم أن شعبنا الأسمر في مواجهة دامية مع قوى الشر والخراب ... لكنه لم ينس أن يدفع ب(إسفين) من (أسافينه) حتى لا يطير نوسام عنقه.. وهو أن على كلا الطائفتين المتقاتلين أن تعودا مرة أخرى للحوار، فبدت عبارته كالأفعى التي تأكل ذيلها ...... وحينما أنهى لقائه كاد جلال يفتك به لكن أصابع نادر أطبقت على ساعده ليهدأ .. ثم اقترب من العوادلي وقال في مقت :
ـ أي حوار يا دكتور ..؟
قال العوادلي وبراءة الأطفال في عينيه:
ـ لا توجد حرب للأبد .. لابد أن تأتي لحظة نجلس فيها للتفاوض ..
ـ مع قوى الظلام..
ـ بعضهم فقط .. الباقون غلابه .. أي والله! ...
***
البقية الباقية منهم عادت إلى الفجوات والكهوف..
كانوا بحاجة لإعادة تنظيم لصفوفهم المهترئة..
قام دشرم بحشدهم وبدون تفاصيل (فالتفاصيل لا تقدم لعامة الظلاميين) خرج بهم إلى حيث قاع المدينة واحتشدوا هنالك حول الخرائب... تتبعهم كاميرات الإعلام الشعوبي تصور ما يجري لحظة بلحظة .. هذا شعب حضاري يتظاهر ويعتصم كما تفعل الشعوب المتحضرة !!.. وفي لقاء مع قناة شعوبية قال دشرم بعد أن سكب عبرتين :
ـ لقد خطفوا ابني الوحيد يسرم ... لم نكن نعلم أن الأمور ستصل إلى هذا الحد حرقونا وسحلونا وقلنا : لنا الله .. لكن تصل إلى الخطف .. هذا لا يحتمل !!
وخلفه خفقت اللافتات التي تظهر صورة معبرة للمدعو يسرم وهو يبتسم في براءة مفزعة وعلت الأصوات بالصراخ والنحيب .. نريد يسرم .. فليفرجوا عن يسرم ... واستدار مراسل القناة ليختم اللقاء بكلمة مفحمة :
ـ مسلسل الخطف.. إلى أين ؟....
لم يتخيل شعبنا المناضل أن تكون المعركة بهذا الانحطاط ... وأن يصل الظلاميون مرة أخرى إلى السطح ويعتصموا في قاع المدينة تحميهم ترسانة إعلامية كاملة .. الاستمرار في مواجهة الظلاميين يعني شيء واحد ... التدخل من الشعوب الأخرى في شؤننا .... والبقاء يعني استفحال أمر الظلاميين مرة أخرى .. طريقين أحلاهما مر....
وجاء اليوم الذي طلب فيه السيد المبجل نوسام اللقاء الرسمي مع المسئول الأول عن شعبنا حالياً...
وسبب اللقاء : التباحث بشأن الأحداث الراهنة.. فنحن شعب مهم جداً لبني الأصفر .. فهم لن يناموا ملء جفونهم إلا بعد أن تستقر الأوضاع عندنا !!
***
كانت كل ذرة في جسد نادر تنتفض غضباً وحنقاً ...
سيلقى بعد قليل في مقر الحكم ذلك الوغد السافل الذى يحرق الأرض من تحت أقدام شعبنا... سيلقاه وسيحدثه كما يحدث السفراء وهو الذى تمنى أن يلقاه في الميدان ... رجلاً لرجل ...
كان هو نوسام رجل الحوار الأول المنتدب دائماً من قبل شعبه ...
وكان نادر جالساً في حجرة المكتب الخاصة بالمسئول الأول لكنه ظل محتفظاً بزي رجال السلطة المميز لا يخلعه.. سيقابل نوسام المتأنق هكذا .. وهكذا لابد أن يبدو المسئول الأول عن شعبنا أمام أعدائنا..
ومن حوله انتشر رجال السلطة وعلى رأسهم جلال .. رفضوا تركه مع نوسام بمفرده ..
ـ السلام عليكم ...
قالها نوسام وهو يدلف إلى مكتب المسئول الأول وعلى وجهه ابتسامة عريضة وقام نادر ليصافحه فكاد يخلع كفه لولا أن الأخر سحبها في خفة وعدل من ربطة عنقه قائلاً :
ـ إنه لشرف أن ألقاك أيها البطل الشعبي... وإنني لأتساءل .. إذا كنا قد جئنا من أجل الحوار فلماذا أرى جيش السلطة معسكراً في مكتبك ..
نظر إليه نادر ملياً ثم عقد ساعديه أمام صدره وقال :
ـ وإذا كنت قد جئت للحوار من أول يوم.. فلماذا جلبت معك فريق الضباع؟
أغمض نوسام عيناً وفتح عيناً وهو يدقق في وجه نادر .. آها .. هذا الشاب لا يبدو كما يبدو .. مجرد شاب من هؤلاء المتحمسين الذين ينتهى بهم الحال على المشانق ... مرة أخرى تتجسد أمامه ذكرى ذلك الوجه المرعب .. وجه رجل الأمن الأول الذى يعرف الكثير .. والذى قرر أن يختفى فجأة هو والمسئول الأكبر.. لكن ها هو ذا يظهر من جديد في صورة شابة تنبض بالحيوية..
كان كلاهما ينظر إلى الأخر نظرة حادة فاحصة مترقبة ...
وطال الصمت بينهما قبل أن يقول نوسام في برود :
ـ الفريق ب فريق علمي بحت .. وعلى العموم أنا لم أحضرهم معي.. فلما الخوف إذن...
نظر نادر في عيني نوسام مباشرة.. ما الذي يحول بينه وبين ذلك الوغد؟
على الرغم من قرب المسافة بينهما إلا أن نادر شعر أن بينه وبين غريمه مفاوز وقفار ... مفاوز وقفار سيعبرها يوماً لكن ..
ليس الأن ...
وحينما حاول أن يرسم على وجهه ابتسامة دبلوماسية، بدا كأسد يكشر عن أنيابه..
ارتجف نوسام وهو يفكر.. ما الذى يمكن أن يفعله معه ذلك الشاب المتهور.. وسام كان عجوزاً حكيماً .. هذا الشاب قد لا يتسم بنفس حكمة سلفه.. فقط لو قدر له وخرج من هنا حياً فسوف ينسفه نسفاً ..
لكن قبل هذا.. عليه أن يجالسه جلسة دبلوماسية !
***



عمرو مصطفى 15-08-18 12:00 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(3)

ـ والآن ...
قالها نادر وهو يلوح بكفيه في بساطة بمعنى أنه مصغي ... فتلاشت الأفكار السوداء من رأس نوسام وقرر أن يعود للواقع..
ـ أعتقد أنني أتحدث إلى شخص لا يحتاج إلى مقدمات .. كلانا يفهم الأخر ..
هز نادر رأسه نافياً في بطء وقال في برود :
ـ كان هذا فيما مضى .. اليوم.. كلا الشعبين يفهم الأخر.. لم تعد المعركة معركة أمنية تحدث من وراء الكواليس ..
رفع نوسام كفه معترضاً :
ـ لا توجد بيننا إلا المصالح المشتركة يا سيد نادر .. شعبي حريص على استقرار شعبك لأن هناك مصالح وتبعات ..
ـ قلت أن كلانا يفهم الأخر .. لم تكن أبداً العلاقة بين شعبينا علاقة حميمية إلا في الظاهر فقط .. والمصالح التي تدعيها هي مصلحة الشعب الأصفر فقط .. شعب استعماري أباً عن جد .. ويفترض في شعبنا أنه مستعمر أباً عن جد.. هذه هي العلاقة بكل بساطة يا سيد نوسام ..
ـ هذا كلام رائع ينم عن روح ثورية بارعة .. لكنه لا يمت بصلة لما نحن بصدده .. أنتم في ورطة يا سيد نادر .. العنف الداخلي سيؤدى بكم إلى الانهيار .. لابد من العودة للحوار .. وكنت قد قطعت شوطاً جيداً في هذا في زمن سابق وحان الوقت للوساطة التي تتبرع بها قيادة شعبنا لحقن الدماء ..
ـ هذا مخيب للآمال يا سيد نوسام.. تصورت أنكم ستقفون إلى جانب شعبنا في حربه للظلاميين.
ابتسم نوسام ابتسامة صفراء فاقعة وقال بلهجة تفوح منها رائحة الإنذار:
ـ لا أمل لكم إلا بالحوار.. ساعتها سيكون لكم كل الدعم من شعبنا الأصفر
أطرق نادر إلى الأرض ملياً ثم رفع رأسه وقال :
ـ شعبنا لا يأمل إلا في الله ...
رفع نوسام سبابته قائلاً في حماس :
ـ ونحن أيضاً شعارنا.. في الله نثق..
اقترب نادر بوجهه من نوسام واكتسى وجهه بصرامة أقلقت
الأخير وهو يقول:
ـ لدي عرض أخر لكم يا سيد نوسام .. اتركوا شعبنا وشأنه ... شعبنا قادر على مواجهة مشاكله بنفسه دون وصاية من أحد .. شعبنا فهم من صديقه ومن عدوه.. في الداخل وفي الخارج.. وعلى من يفكر في العبث بأمنه واستقراره أن يتخلص مني أولاً ..
خيم الصمت بعد عبارة نادر النارية.. وصداها يتردد في جنبات الغرفة.. حتى قطع نوسام حبل الصمت قائلاً :
ـ لكنكم حتى الأن غارقون مع أعداء الداخل..
ـ لا توجد حرب بلا خسائر ...
ـ الخسائر هذه المرة ليست ككل مرة .
ـ إنها كذلك لجميع الأطراف ..
ـ العالم كله مشحون ضدكم .. هل ستواجهون العالم ؟
ـ العالم القديم الذي كان يدور في فلك واحد.. نعم.. أما العالم الجديد الذي سيبزغ نجمه في الأفق .. وإني لأراه بعين الخيال.. يحمل لنا الأمل في خوض معركة شبه متكافئة..
فرك نوسام أذنه مفكراً ثم رفع حاجبيه قائلاً :
ـ حسناً هناك طلب خاص من سلطة شعبنا ... هل يمكنني لقاء السيد يسرم.. بعض التطمينات على صحته وخلافه، قد تهدئ الأوضاع ..
ـ يسرم بصحة جيدة .. رغم أنه لا يتناول الدماء .. وستتم محاكمته علنياً أمام العالم بصفته قائد المذبحة التي جرت لشعبنا ... سيكون أول ظلامي يخضع لمحاكمة علنية بعد أن صار أول ظلامي يجري حوار مع العالم الخارجي .. وأنصحك أن تتابع المحاكمة جيداً يا سيد نوسام .. فستحمل لك مفاجئات أرجوا أن تكون سارة ...
كان نادر يفهم أنه لن يفلح في استدراجه بكلمة.. ولن يبدى حتى أدني اضطراب أو قلق .. لكنه يعلم يقيناً أنه يغلي من داخله .. بعد أن وصلته كل الرسائل التي أراد هو أن يوصلها إليه.. جذب نوسام نفساً عميقاً وهو ينظر لنادر نظره خاوية ...
ـ يؤسفني عدم استجابتكم لمناشدات شعبنا ... ليكن الله في عونكم فعلاً ...
ومد يده مصافحاً وهو يستطرد :
ـ احرص جيداً على حياة يسرم.. لا تدع أحداً يحرمه من محاكمة عادلة...
وصافحه نادر ولم يرد .. لقد وصلته الرسالة الخاصة بحذافيرها .. وانتهى اللقاء التاريخي عند هذا الحد.. عاد نوسام إلى مقر قيادته في سفارة شعبه والتقى بالفريق ب لكنه لم يتبادل معهم أي حوار .. فقط تلقى اتصالاً من قيادة شعبه ويبدو أنه سمع مالا يرضيه ... أنهى الاتصال والتفت إلى رجال الفريق ب قائلاً :
ـ يسرم لا يجب أن يحاكم ...
قال ب ـ 1 :
ـ نحن نحاول تحديد مكانه بالفعل ... لكن هل تعتقد أن هذا هو الكارت الوحيد ..
قالها وهو يشير إلى شاشة مرئي في أقصى الحجرة .. كان هناك مؤتمراً صحفياً يعقده السيد سليمان .. مساعد السيد وسام رجل الأمن الأول سابقاً والمختفي حالياً..
وكان هذا يعنى أن ب ـ 1 صادقاً ... يسرم ليس الكارت الوحيد ...
***
أسئلة عديدة طرحت على السيد سليمان .. وجه قديم عاد للظهور وفي الوقت المناسب .. ماذا حدث للسيد وسام وللمسئول السابق ؟.. كان هذا هو السؤال الذى يتردد بأساليب مختلفة وطرق ملتوية .. لكن الإجابة كانت بأساليب مختلفة وطرق ملتوية : ليس الأن ..
فلاش .. فلاش .. همهمات .. ثم .. سؤال أخر :
ـ أين كنت مختفياً الفترة الماضية ؟..
ـ اعتزلت الحياة الأمنية منذ اختفاء السيد وسام ..
ـ وأين اختفى السيد وسام ..ومعه المسئول الأول ..؟
ـ لا أعرف تحديداً .. هل يعرف أحدكم ..؟
ـ هل صحيح أنك تعاونت مع الظلاميين ؟..
تزايد الصخب وضاع صوته وسط الهرج والمرج... هدوء .. هدوء يا سادة .. قام أحد الصحفيين الثائرين ووجه سؤال أشبه بالقذيفة :
ـ أنت لم تكن مع السيد وسام حينما حاولوا اغتياله.. هل لهذا معنىً عندك؟
ابتسم سليمان قائلاً :
ـ يعنى أنني كنت محظوظاً ..
عاد الضجيج مرة أخرى والمزيد من الفلاشات .. ورفع سليمان كفه مهدئاً :
ـ أنا على استعداد لاحتمال المزيد ...
تساءل نفس الصحفي :
ـ هل كانت لك علاقة بالظلاميين؟..
ـ نعم..
دوت الهمهمات المتفاجئة.. وأكمل السيد سليمان موضحاً وهو يبتسم:
ـ علاقة الصياد بالطريدة..
ـ يقولون أنك تعاونت مع الظلاميين إبان سيطرتهم على غرب المدينة..
ـ يقولون!.. اعطني أسماء من فضلك أو اجلس واعطي فرصة لغيرك..
جلس الصحفي بوجه أحمر.. وقامت صحفية وجهها لوحة سريالية من كثرة الأصباغ، وصاحت بصوت حاد:
ـ ما هي علاقة الظلاميين بالشعب الأصفر ؟
هنا علاه الصمت لبرهة.. وتعلقت العيون بشفتيه التي انفرجت عن ابتسامة مقيتة.. تبعتها عبارة أشد مقتاً :
ـ علاقة الصنعة بالصانع ..
***




عمرو مصطفى 18-08-18 07:45 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 

(4)

(الجزء التالي من ملفات بني الأصفر السرية)
قبل قرن من الأن..
كان السيد فريمان من المؤسسين الأوائل لحضارة الشعب الأصفر..
إنه ذلك المزيج الفريد الذي لا يتكرر كثيراً.. إنه ذلك العسكري والسياسي والعالم ورجل الدين الواعظ ..
فريمان طموح .. فريمان عبقري .. فريمان صبور..
كان يطمح في سيادة الجنس الأصفر ..عالم واحد.. حكومة واحدة..
اقتصاد واحد ..ثقافة واحدة .. دين واحد ..
كان عبقرياً لأنه فهم أن العالم لن يتحد تحت راية بني جنسه إلا بعد هزات واضطرابات عنيفة يركع بعدها العالم للنظام الجديد ..كان يفهم أن العالم لن يتحد إلا بعد ان يتمزق ويأكل الأخ لحم أخيه ..
وكل هذا لن يكون ولن يحدث وهناك شعب يقظ يقف دائماً حجر عثرة في سبيل طموحاته .. الشعب الأسمر ..
كان صبوراً .. لذا فقد عكف سنوات عديدة فقد فيها عدد لا بأس به من الشعر وشاب ما تبقى منه حتى أحكم مخططاته نظرياً وبدأ تنفيذها عملياً .. طبعاً بعد أخذ موافقة سلطة شعبه التي تتبنى أمثاله من العباقرة الواعدين ..
فريمان يهوى قراءة الروايات الخيالية وقد أثرت فيه رواية قرئها
يوماً ما عن مسافر الزمن .. الذي ذهب للمستقبل حيث صار الناس طبقتين .. طبقة مرفهة هشة تحيا على السطح وطبقة تحت باطن الأرض تتغذى على سكان السطح .. شغلت تلك الفكرة باله لسنوات وسنوات ..ما الذي يمنع حدوث ذلك بالفعل في المستقبل ..؟
ثم ابتاع قصة جديدة عن مصاصي الدماء فراقت له جداً .. تخيل لو كان يملك جيشاً من هؤلاء .. لن يحتاجوا لتموين ولا لسلاح .. تموينهم دماء الأعداء وسلاحهم الأنياب الحادة التي تنغرس في الأعناق ..
وابتسم في مقت ..وبدأ ينسج في خياله الفكرة التي سيعمل عليها شعبه جيل بعد جيل ..وكانت البداية في معمله الخاص.
***
( الجزء التالي من ملفات الظلاميين السرية)
قبل قرن من الأن.. على أرض الشعب الأسمر نشأ الشاب حسن أنبلا كأحد مواطني شعبنا الأسمر.. مواطناً متواضع الحال(وهناك من يشكك في أصوله أيضاً ) لكنه كان يحمل طموحات غير متواضعة بالمرة..
نشأ حسن أنبلا وسط الدراويش وهم طائفة من الممخرقين الصوفية حيث يرتمي المريد بين يدي سيده العارف كالميت بين يدي مغسله..
كان هذا يعجب أنبلا جداً وكان يطمح في أن يكون يوماً ما عارفاً يرتمي المريدين تحت قدميه لكنه كان يرى دائماً أن هناك شيء ما غير مكتمل في كل هذا .. هذه الطاعة العمياء من المريدين لا تستغل كما ينبغي لها أن تستغل ..
رجل يبحث عن السلطة .. والمجد .. المجد للشعب الأسمر .. لكن تحت راية حسن أنبلا وإلا فهو العار والشنار على هذا الشعب الطيب أن يطلب المجد تحت راية أخرى.
وطبعاً كان هذا سبباً في معارضة واسعة لأنبلا من شيخه العارف
ومن بعض رفاقه العقلاء الذين يشمون رائحة الكوارث قبل أن تقع ..
وكان هذا سبباً في حقد أنبلا على كل المثبطين.. حتى أنه تمنى يوماً أن يأكل حنجرة شيخه العارف ويشرب من دماء رفاقه ..هؤلاء هم الخونة الحقيقيون لفكرته الوليدة وهؤلاء سيدفعون الثمن يوماً وسيكون الثمن غاليا .
هناك من يجزم أن أنبلا لم يفكر في تأسيس جماعته بمعزل عن دسائس خارجية .. بل البعض يقول أن جماعة أنبلا خطط لها قبل ميلاد أنبلا نفسه .. لكننا سنرصد لكم اللقاء الأول .. بين الدرويش الشاب وعارف أخر لكنه من نوع فريد ..
ها هو ذا الفتى اليانع المفعم بالأطماع - والمحبط كذلك - يتسكع في قاع المدينة وسط الخرائب باحثاً عن شيء ما لا يدري كنهه ..
هنا لمح ذلك الظل القادم من الجهة الأخرى.. سرت في جسده رعدة وهو يرمق صاحب الظل المرعب ..
ـ من أنت ..؟ شيطان ؟
همس صاحب الظل بصوت عميق :
ـ ربما ..
ومال عليه صاحب الظل المدثر بالسواد .. وأكمل :
ـ وربما أسوأ ..
صاح في ريبة :
ـ أنت من بني الأصفر ..؟
ـ بلى يا أنبلا ..
ـ وتعرف اسمي ..!
ـ أمثالك هم محط اهتمام شعبنا يا أنبلا .. أنت عبقري أخر يتوارى
وسط قمامة شعبكم ..
شاعت على وجهه ابتسامة جشعة .. كان ذكياً لا يضيع الوقت في ذعر لا معنى له .. لقد عانى بما فيه الكفاية ولم يعد هناك ما يثير ذعره
ـ لم يعد لدي ما أخسره ..
ـ الخسران ..كلمة لا وجود لها في قاموس شعبنا .. معنا ستكون إنسان جديد يا أنبلا .. فقط انضم للمعسكر الذي سينتصر ..
ـ ماذا تريدون ..؟
ابتسم فريمان وفرد كفه فإذا بها قارورة بها سائل أسود .. وقال بصوت كالفحيح :
ـ روحك يا أنبلا ..
كان فريمان معجباً أيضاً بقصة فاوست الذي باع روحه للشيطان ..
وكان أنبلا فاوست أخر باع روحه لشيطان من شياطين الأنس .. فلم يتردد في قبول دعوة فريمان وكان مذاق القارورة مراً كالحنظل لكنه لم يعبأ .. لقد تذوق ما هو أشنع .. طلب منه فريمان أن يتردد عليه في نفس المكان ولا يتصرف من دماغه لو طرأت عليه أي تغيرات ..
تصور أنبلا أن تلك التغيرات ستكون قوة عاتية .. بدنية أو ذهنيه
لكن شيئاً من هذا لم يحدث .. فقط بدأ يعشق الظلام وينفر من الطعام العادي مع شبق عجيب لشيء لم يخطر له على بال .. الدماء .. مشهد الدماء وهي تقتر من الذبيحة المعلقة عند الجزار كان يثير جنونه .. شعر بالخوف ولم يفهم .. وحينما ذهب حسب الموعد للقاء فريمان فهم .. كان فريمان يحمل له طعامه الجديد ..
ـ طعامك من اليوم هو الدماء .. ومسكنك هو الظلام .. أنت الأول لكنك لن تكون الأخير ..
ـ لقد صنعت مني مسخاً ..
ـ لقد حققت لك حلمك .. ألم تتمنى يوماً شرب دماء أعدائك ..
هنا تذكر .. وجه العارف والرفاق الذين عادوا فكرته وثبطوه ..
وبرقت عيناه في جشع .. ونهم .. قال له فريمان مستدركاً :
ـ لكن تذكر أن أمرك لن ينهض إلا بالخفاء .. والطاعة ..
قالها وهو يشعل سيجاره ويدخنها بعمق متأملاً صنيعته .. هنا لاحظ الاضطراب الذي انتاب أنبلا ..
ـ ماذا دهاك ..؟
ـ لا أدري أشعر باضطراب شديد تجاه النار ..
أخ!.. عيوب الصنعه .. لابد من وجود أثر جانبي.. هكذا علمته التجارب . قال له في تؤدة :
ـ لا تظهر خوفك من النيران أمام أحد.. النيران نقطة ضعف بني جنسك .
كان يكره ذلك.. ولا يفهمه.. ولم يعد الرجوع للوراء ممكناً..
أطرق للأرض وقال من بين أسنانه :
ـ أريد أن أجرب موهبتي الجديدة ..
ـ فقط لا تترك شهوداً ..
جثث عديدة وجدت لرفاق الأمس خالية من الدماء .. ولم يفهم أحد سبب ذلك .. ثقافة مصاصي الدماء لم تكن منتشرة في اوساط شعبنا خصوصاً في أوساط الدراويش .. لذا عزى ذلك البعض أنه مرض ما أو طاعون يترك الجثة خالية من الدماء .. لكن أحدهم لم يربط بين ذلك وبين الشاب أنبلا خصوصاً أن كل من ماتوا كانوا معارضين لفكرته ولم يبق إلا من يؤيدها .. العارف فهم هذا في اللحظة الأخيرة وقرر أن يصارح أنبلا بذلك لكن هذا كما ذكرنا كان في اللحظة الأخيرة ..
ساعتها فهم العارف .. ودماء الحياة تتسرب منه.. فهم .. والذعر يطل من عينيه .. فهم .. والأرض تميد من تحته .. فهم .. لكنه تمكن من قول شيء ما بصوت واهن :
ـ أنت الشيطان..
ترك أنبلا عنقه قليلا ليتمكن من الكلام.. قال كلمة واحدة مقتضبة :
ـ ربما .
ثم عاد إلى عنقه ليكمل مهمته الأثيرة ...
***
(الجزء ا التالي من الملفات السرية لسلطة الشعب الأسمر)
استطاع أنبلا أن يجلب المزيد من المتعاونين لتنظيمه الجديد .. فقد علمه فريمان كيف يباشر ضم أعضاء جدد بنفسه .. كان أنبلا يختار العضو الجديد بعناية ولا يجعله يتناول السائل الأسود إلا بعد تمحيص شديد .. بعدها يدلي بالقسم الخاص قبل قبوله كعضو في أخوية أنبلا
أسس أنبلا جماعته التي كانت تعرف باسمه في ذلك الوقت لا على أنهم مجرد مجموعة من الدراويش في التكايا .. لكن على أنهم تنظيم عسكري هرمي صارم بالمعنى الحرفي للكلمة ..
تنظيم من مصاصي الدماء عاشقي الظلام .. لكن لهم غرض فريد .. السيطرة .. والسيطرة الكاملة .. على القلوب وعلى المفاهيم ..الحق لن يعرف إلا من طريق واحد ألا وهو طريق ..أنبلا..
الظلام هو الأصل .. وهو الحق الذي لا مراء فيه .. والصدام مع سلطة شعبنا كان أمراً حتميا ً.. وهل صنع الظلاميين إلا من أجل ذلك ..
بدأ رجال السلطة يلاحظون زيادة الضحايا من أبناء شعبنا حينما يجن الليل .. العديد من الجثث الخالية من الدماء وجدت في الشوارع الخلفية وظل الفاعل مجهول .. ثم وجدت جثة أحد كبار المسئولين لشعبنا خالية من الدماء في حجرة مكتبه .. هنا جن جنون السلطة .. الأمر أشبه باغتيال سياسي .. منصب الرجل الامني بالغ الحساسية لكن الذي اثار الشكوك أنه كان يهاجم دائماً جماعة أنبلا ويتهمهم بأنهم تنظيم عسكري في دثار من الدروشة .. بدأت الشكوك تحوم حول أنبلا ورجاله وفي النهاية تمكن رجال السلطة من تحديد الجاني هذه المرة .. وبالفعل وقع عدد من خفافيش أنبلا في قبضة رجال السلطة رغم استعمال التنظيم للمكر والدهاء والخفاء في اقتناص الفرائس من الشعب .. واعترفوا تحت الضغط .. جماعة أنبلا الظلامية وراء كل الأحداث .. الغريب أن من اعترف منهم كان يتكلم بتلقائية وكأن امتصاص دماء الناس حق مكفول وواجب محتوم .. كان الإنكار لكل ما ارتكب من جرائم هو شعار الظلاميين وفي الصباح أعلن أنبلا أن هؤلاء ليسوا منه وليس منهم ..! بل هم خارجون عن سيطرته..
ـ نحن مجرد مجموعة من الدراويش!
لقد صنع فريمان كابوساً يؤرق منام شعبنا في كل ليلة .. تحسس عنقك يا أخي فهل هذه الليلة ليلتك ..؟ الذعر والرعب .. كانا شعار المرحلة
و بدأت عمليات الدراويش منذ ذلك الحين تأخذ منحى سياسي ..
وبدأت أنظار الشعب تتجه بالبغض لتلك الطائفة التي يرتكب أفرادها الجرائم بالليل ويتبرأ زعيمها منهم بالنهار.. حتى أنبلا بدأ يشعر بالقلق
تجاه أبنائه الذين صنعهم بيديه.. لقد صنع وحوشاً يصعب السيطرة عليهم
وفي لحظات بعينها كان يقف بينه وبين نفسه ويتذكر اليوم الذي انقلب فيه على شيخه العارف.. مازال مذاق الدم الصدئ عالق بلسانه كالأشواك..
ترى هل سيأتي اليوم الذي سيعضه فيه أحد كلابه التي سمنها؟
السنا على الحق؟
ألم تعلمنا أن الظلام هو الأصل؟
لماذا تحول بيننا وبين الهدف الذي جمعتنا من أجله..
أين أنت يا فريمان؟.. هكذا تساءل وهو يتراجع بظهره أمام هجمة الأسئلة الحانقة.. لن يعطيهم ظهره.. هذا ليس مضمون العواقب..
هل حدث ما حدث في ذلك اليوم أم بعده؟.. لا نعرف تحديداً.. المهم أن جثة أنبلا الخالية من الدماء كانت حديث الساعة.. لم يحزن أبناء شعبنا على رحيل ذلك الكابوس.. فقد نال جزائه الأوفى على يد أبنائه..
لكن الأبناء كان لديهم رأي أخر.. أنبلا قتله رجال السلطة.. أنبلا شهيد الفكرة التي ذرعها في عقول طائفته.. وجثته الخالية من الدماء تمويه عبقري من سلطة شعبنا لصرف التهمة إلى أبنائه!..
رحل أنبلا ولم ترحل معه فكرته ولا من يدعمها ..
تم حظر التنظيم وقبض على العديد من أبناء أنبلا .. لكن الباقون لجأوا إلى الأقبية والمغارات .. ومن يومها سماهم شعبنا بالظلاميين .. تعاقبت عدة قيادات بعد أنبلا وحملت أعباء التنظيم بعد المؤسس .. وطبعاً كانت على علاقة ما بفريمان .. وبعد رحيل فريمان لم تنقطع العلاقات بين بني الأصفر والظلاميين .. فريمان ترك المخطط لمن يتولاه من بعده وهكذا يترك كل خلف الملف كاملاً لمن وراءه .. والأيام تمضي وتطوي معها الحقائق وتلقي على الأذهان غبار النسيان ..
نسى شعبنا من هم الظلاميين .. وانقرضت أجيال عاصرت المأساة وظهرت أجيال لا تعرف عن الظلاميين إلا مجرد الاسم .. فقط رجال السلطة هم من حملوا عبء مكافحة الظلاميين.
هنا يأتي الجزء الثاني من المخطط الشيطاني .. تعكير صفو العلاقة بين شعبنا وسلطته..
كل يوم يمر كان يباعد الفجوة بين رجال السلطة وأبناء الشعب الطيب المطحون .. ويقربهم من الكلاب المسعورة المتربصة تحت الأرض..
ومن هنا استطاع الظلاميين الظهور من جديد كفصيل مضطهد من فصائل شعبنا المطحون .. ووجد من يصدقه ويتعاطف معه .. ويتظاهر من أجله مدافعاً عن حقه في الخروج للنور ..
ووجدوا كذلك مصدراً جيداً للطعام !
***



عمرو مصطفى 18-08-18 07:49 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 

(5)

أغلق نوسام عينيه محاولاً التركيز..
و تبادل رجال الفريق ب النظرات المترقبة.. لابد من عمل شيء.. الأمور تتفلت مرة أخرى.. ورسالة شعبنا واضحة.. تخلوا عن الظلاميين.. أو نكشف للعالم حقيقتكم ..
ـ صلوني بدشرم ..
طلب ب ـ 2 رقماً، ثم ناول نوسام السماعة .. كان هناك صخب شديد عبر الهاتف نظراً لجو الاعتصام في قاع المدينة .. وطلب نوسام من دشرم أن يهدئ الجموع حتى يستطيع التحدث ...
ـ الأمر خطير يا دشرم .. عما قريب لن نستطيع دعمكم ..
ـ إذن فقد ضعنا .. ضعنا ..
ـ ليس بعد .. هناك دائماً حل بديل .. أنتم تملكون قاع المدينة وتحيط بكم وكالات الإعلام تحت سمع وبصر العالم .. أعلنوا دولتكم الخاصة وسنعترف بها ومن وراءنا العالم كله سيعترف بكم ..
ـ ولو قرروا مداهمتنا ...
ـ سنتدخل قطعاً لدعم حقوق المعارضة..
***
كان السيد الأعظم للشعب الأصفر ينتظر على الهاتف..
دخان الغضب يتصاعد من منخاريه مثل تنانين الأساطير.. والحقيقة أن نادر كان ينتظر تلك المكالمة بفارغ الصبر لكنه كان يتعمد إذلال ذلك الوغد المتعجرف الذي حسب نفسه مرشداً وملهماً للعالم أجمع... وحينما قرر أخيراً أن يرد على مكالمته وجد المسئول الأكبر عن شعب بني الأصفر واضحاً جداً.. لا يملك وقت للمراوغات السياسية.. لقد نضج لحمه على نار الانتظار.. طلب منه مباشرة وقف المهزلة التي تحدث .. وتسليم الشعب الأصفر كل المستندات الموثقة التي تثبت أن ثمة علاقة بينهم وبين الظلاميين وفي المقابل الدعم الكامل لنادر من الشعب الأصفر.... ورد نادر الرد الذى ظل يحفظه لفترة طويلة .. وينتظر بفارغ الصبر اللحظة المناسبة لقوله..
ـ شعبنا لا يقبل أي تدخل في الشأن الداخلي .. الوثائق والمستندات سيتم نشرها على الملأ في محاكمة شعوبية..
ـ أنتم لا تعرفون حقيقة ما تواجهون..
ـ ولا أنتم...
وانتهت المكالمة .. لكن نادر اشتم رائحة الشياط المنبعثة من محدثه عبر الأثير ..
قال له جلال :
ـ سيجن جنونهم..
ـ لذا علينا أن نحتاط جيداً للخطوة التالية..
ـ ماذا تتوقع؟
ـ علينا أن ننتظر أولاً لعبة الخصم.. وبناء عليها سنتحرك .
ولم يمض وقت طويل حتى طلبت سلطة الشعب الأصفر رسمياً عودة رجلها نوسام إلى الوطن وإنهاء مهمته الرسمية..
وكان هذا القرار في ظاهره إعلان هزيمة لنوسام.. لكن نادر لم يفرح بهذا الخبر.. وطلب من جلال أن يكون يقظاً هو ورجاله كما لم يكونوا من قبل!..
***
حينما ركب نوسام طائرة العودة كان قد ترك خلفه ثلاث مهام للثلاثي الأثير لديه .. فريق الضباع ..
فبينما هو يربط حزام مقعده .. توجه ب ـ 1 إلى شرق المدينة .. لتصفية يسرم .. و ب ـ 2 إلى منزل السيد سليمان لتصفيته .. أما ب ـ 3 فكان الشرف والمجد من نصيبه سيتولى طعن الشعب الأسمر في قلبه النابض ..
نادر ..
***
وحينما أقلعت طائرة نوسام وهو يمنى نفسه بالنتائج الطيبة كان رجله ب ـ 1 يمارس دور السائح المبهور بشرق المدينة .. وإلى جواره كان المعلم فوزي صاحب المقهى يمارس دور مرشده السياحي .. كان قد توقف به أمام صنبور ماء علاه الصدأ وبدأ يتكلم بحماسة :
ـ هذا صنبور الحاج حنفي .. من الأثار المهمة التي يقصدها السائحون من كل بقاع العالم للشرب من مياهه العذبة .. هل تحب أن تشرب؟
ازدرد ب -1 لعابه بصعوبه وهو يتأمل الصنبور الصدئ قائلاً :
ـ يكفيني أن ألتقط له بعض الصور ..
ـ الصورة بعشرة ترللي أخضر فقط يا خواجة ..
وهكذا وقف ب-1 بجوار الصنبور وهو يشير بإبهامه للكاميرا التي أعطاها للمعلم فوزي كي يلتقط له بعض الصور التذكارية..
ـ هل يمكنني مشاهدة المكان الذي حدثت فيه المواجهة الكبرى مع الظلاميين؟
فتل المعلم فوزي شاربه في فخر وانتشاء ثم أشار له كي يتبعه قائلاً :
ـ لكن زيارة هذا الأثر وحده بخمسين ترللي أخضر..
ـ لا بأس يا معلم (فزوي )..
ـ فوزي يا خواجة..
وهكذا أمضى ب-1 يومه في التسكع والتقاط الصور هنا وهناك وعينه المدربة تدرس كل شبر من الأرض .. صحيح أن المعلم فوزي سلبه كل المال الذي معه لكنه كان يعرف أنه قريب جداً من هدفه ..
ـ هذه ماسورة الصرف الصحي التي تسلقها الظلامي الملعون إياه.. الصورة هنا بمئة ترللي أخضر..
وضع ب-1 يده في جيب سرواله ثم تنهد قائلاً :
ـ الحقيقة لم يعد هناك المزيد ..
قال المعلم فوزي بتلقائية وهو يشير للساعة التي يرتديها ب-1:
ـ كم تساوي ساعة اليد هذه ؟
نظر ب-1 لساعته في جزع ثم رفع طرفه للمعلم فوزي قائلاً بذعر:
ـ إنها تساوي ألف ترللي وحدها أيها الجشع ..
ـ إذن يمكنك التقاط عشر صور لماسورة الصرف الأثرية ..
ـ إذن خذ الساعة أيها الجشع واصطحبن للسطح ...
على سطح البناية التي تسلقها يسرم يوماً ما وقف ب-1 يلتقط بعض الصور وقد ارتدى جلباب المعلم فوزي وإلى جواره كان الأخير قد حشر نفسه حشراً في ثياب الأول وحاول عبثاً بوجه محتقن غلق أزرار السراويل القصير لكن كرشه ظل عائقاً أمام تحقيق آماله ..
كان ب-1 يسبح تقريباً في ثياب المعلم فوزي وهو يتحرك يمنة ويسرة لالتقاط الصور :
ـ هل أنت مرتاح الضمير يا معلم (فزوي) بتلك المقايضة؟
شهق المعلم فوزي وتمعر وجهه صائحاً :
ـ هذا جلباب أثري ورثته عن جد جد جد جدي.. أحمد الله أنني وافقتك على مبادلته بتلك (الهلاهيل)!
ـ أنت جشع .. ليست هذه أخلاق أولاد البلد...
هنا لمح ب ـ 1 سمكة قادماً فتهلل وجهه :
ـ مستر سمكة تعال انقذني أرجوك ...
غمز سمكة للمعلم فوزي كي ينسحب ثم التفت إلى ب-1 :
ـ الحمد لله أنني وصلت في الوقت المناسب.. لقد وقعت في يد من لا يرحم..
ثم مال عليه هامساً بلهجة خطرة :
ـ لقد خاطرت بنفسك حينما ولجت في شرق المدينة بدون تنسيق سابق معي
تشبث ب-1 بساعده متوسلاً :
ـ لاعليك يا مستر سمكة.. لم يعد هناك وقت.. هل يمكنني الاعتماد عليك؟..
شمر سمكة عن ساعديه وهو يقول بلهجة جادة :
ـ جئت من أجل رأس الظلامي؟..
ابتسم ب ـ1 في افتعال ورتب على عاتق سمكه قائلاً :
ـ أنت رجل لماح يا مستر سمكة.. اعتقد أننا سنصل لاتفاق.. هه؟
رفع سمكه حاجبه الأيمن قائلاً :
ـ كم ستدفعون؟
ـ ألم يكفيك ما حصلت عليه من مال سابق.. دون أن تحقق لنا شيئاً على أرض الواقع.
ـ أنا عند كلمتي.. ولم أحدد لكم الوقت الذي سأنفذ فيه ما طلبتموه..
أحمر وجه ب ـ1 وهو يصيح :
ـ أنت مخادع إذن.. لقد خدعتنا جميعاً
ـ وأنت تخلط الشغل.. لا علاقة بين المقاولة التي تعاقدنا عليها سابقاً.. وبين المقاولة الجديدة..
فكر ب ـ1.. عليه أن يجاريه.. بالنسبة إليه كان سمكة لا يعدو كونه نصاباً يلعب على كل الحبال.. قال له بغيظ :
ـ المال بعد أن أصل للظلامي ..
ـ وما الضامن ؟..
تحسس ب-1 رقبته قائلاً :
ـ رقبتي تحت رحمتك ..
هرش سمكة في قفاه مفكراً .. ثم قال بعد برهة :
ـ كنت أعتقد أن رقبة ذلك الظلامي تساوي أكثر .. لكن حالياً يمكنني أن أقنع برقبتك ..
وفي لحظة خاطفة حال بينهما جيش من رجال السلطة المتحمسين أحاطوا بالضبع ب -1.. طرحوه أرضاً وكبلوا حركته تماماً وهو بعد لم يفق من الصدمة .. ثم حمل حملاً خارج المبنى ليجد حشد حاشد من أبناء شعبنا جاءوا ليشيعوه باللعنات .. ميز وجوه عديدة مألوفة .. من وجه جلال رجل السلطة الأول.. إلى المعلم فوزي إلى.. سمكة..
سمكة الذي اكتشف لأول مرة أنه ليس مجرد نصاب يبيع أي شيء مقابل المال..
ثم صمت أذنيه أصوات عواء جماعي حاد .. ظن في البداية أنها أصوات أبواق سيارات السلطة .. ثم تبين له أنها زغاريد تعبر عن شدة الفرحة على طريقة نساء شعبنا ..
كان يوماً مشهوداً من أيام شعبنا..
***



(6)
وبينما نوسام يتمطى متململاً في مقعده بالطائرة وهو يرمق السحاب عبر زجاج الطائرة.. كان رجله ب ـ 2 على وشك فقدان عقله .. لقد ظن أنه أطلق الرصاص من مسدسه الكاتم على أكثر من ثلاثة سليمان حتى الأن .. لقد اكتشف اكتشافاً مهماً المنزل مسكون بالأشباح..!
أشباح كلها تشبه السيد سليمان!.. تباً ....!
هناك من يعبث به .. وعليه أن يوفر ذخيرته لـ ... لكن صفعة عاتية هوت على قفاه أطارت من عقله كل ما تعلمه من فنون الاغتيالات .. استدار ضاغطاً على أسنانه و الزناد فعبرت رصاصاته الفراغ .. لقد تلقى صفعة من شبح .. ومرقت الرصاصات من إحدى النوافذ محطمة الزجاج بدوي مكتوم .. ثم أصدر مسدسه التكة المميزة التي تعنى أنه بحاجة إلى تلقيم .. ولم يكن هذا هو الوقت المناسب أبداً لهذا المقلب .. فمهما بلغت سرعته في تلقيم مسدسه فلن تبلغ سرعه السيد سليمان الذى طرحه أرضاً وبرك فوقه مثبتاً إياه وهمس في أذنه بحقد :
ـ أنا لم أتمكن من إكمال عشائي بسببك أيها الحيوان .. هذا يبرر غضبى منك بالطبع ..
الضربة التالية لم يتمكن ب ـ 2 من معرفة مصدرها هل هي قبضة خصمه أم ركبته أم رأسه .. المهم أن الكهرباء انقطعت فجأة في عقله وساد الظلام من حوله ولم يعد يعبأ بأي شيء بعدها .. فما ألذ الغيبوبة في تلك الأوقات..
***
لكن ب ـ 3 كان قد أعد خطة عبقرية للتسلل إلى مقر المسئول الأول ..
هناك معلومة مهمة لدى الضبع الثالث متعلقة بهذا الشعب وهو اعتقادهم أن رجال الشعب الأصفر أحلى من نسائهم ..
وبما أن مسألة الشذوذ مستبعدة ههنا فكان على ب ـ3 أن يجري عملية تحول ظاهري.. بالفعل كانت التجربة فريدة من نوعها .. النظرات الحيوانية التي ظلت تطارده وهو في طريقه لمقر المسئول الأكبر لشعبنا جعلته يكتشف جانب جديد من مواهبة كان مخفياً عنه..
الأن هو صحفية تابعة لمجلة عالمية تدعى هيلين باركر .. جاءت لتسجيل حوار صحفي مع المسئول الأكبر عن شعبنا ..
وبعد أن استطاع النفاذ عبر رجال الحراسة المنتشرة والتوغل في قلب مقر المسئول الأول .. وجد نفسه يتحرك وحيداً في ممر طويل مفروش بالسجاد الأحمر يفضي إلى باب ضخم مزدان بالنقوش الذهبية .. ابتلع ريقه وقال لنفسه : لا يفصلك عن قلب هذا الشعب سوى هذا الباب التحفة.
حينما صار على بعد متر من الباب انفتح تلقائياً .. ثم برز من وراءه جلال وعلى جانبيه رجلين من رجال السلطة .. ابتسم الضبع ابتسامة
فاتنة جعلت شفتي جلال ترتعشان .. هيلين تؤدي عملها بنجاح ..
ـ دقائق قليلة وتقابلين فخامة السيد المسئول الأكبر ..
ثم تنحنح مرتبكاً وهو يشير للضبع بكفه ناحية الباب :
ـ فقط هناك إجراء أخير ..
حاول ب ـ 3 أن يكظم غيظه .. قال بصوته الذي صار رفيعاً رقيقاً وهو يلوح بأصابعه بحركة عابثة :
ـ بكل سرور..
هنا تنحى جلال جانبا وبرز من خلفة مجموعة من النساء المتشحين بالسواد .. لم ير ب ـ 3 فريق أمني بهذا الشكل من قبل .. لقد احتاج إلى عدة ثوان حتى يدرك أن هؤلاء المتشحات بالسواد هم مجموعة منتقاة من نساء شعبنا الأسمر .. وابتسم جلال في رقة موضحاً :
ـ مجرد تفتيش ذاتي بسيط .. كوني متعاونة مع أخواتك ..
ـ أوبس!!
وفي لحظة وجد الضبع الثالث نفسه داخل غرفة جانبية محاط بحشد النسوة الذين رمقوه بنظرات باردة وقد صنعوا حوله دائرة ..
ـ ماذا بك أيتها الشابة ؟
ـ مسكينة تبدو مضطربة .. لا تخافين ..
كانت الكلمات تصدر من النسوة دون أي انفعال يذكر على الملامح ..
ملامح جامدة ونظرات ميتة ..
ـ أخلعي أيتها الشابة .. لا داعي للخجل ههنا ..
لم يشعر ب ـ 3 بمثل هذا الرعب من قبل .. الضبع لا يملك قلباً يرتجف ولا مشاعر .. فما الذي جرى له ؟ لقد صار أنثوياً أكثر من اللازم وحان الوقت كي يفعل شيئاً ليخرج من تلك الورطة القاتلة..
لكنه كان لا يدرك طبيعة ما يواجه ؟
بعد أن نزعوا شعره المستعار وأشياء أخرى لا داعي لذكرها جاء دور القباقيب لترتفع إلى عنان السماء .. ومع صيحة البدء انهالت عليه القباقيب الخشبية ..
ظل يصرخ حتى تدخل جلال ورجاله وأحاطوا معصميه بالأغلال .. لكنه وجد الوقت ليقول شيئاً ممزوجاً بالدماء :
ـ يا إلهي .. لقد استدرجوني ..!
فهمها الأحمق متأخراً جداً .. ورفع جلال جهاز اللاسلكي إلى فيه وأخبر القائد أن العملية (صيد الضباع ) قد تمت بنجاح ... وحينما انتفض نوسام في مقعده وقد أيقظه إعلان الطيار دخول الطائرة المجال الجوي لوطنه .. كان نادر يبتسم مغمضاً عينيه في ارتياح بعد أن اطمئن .. لقد رحل نوسام وسقط فريقه ولم يعد هناك سوى خطوة واحدة ..
***



bluemay 19-08-18 12:32 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
ههههههههه


هااااايل

غاية في الابداع ما شاء الله


متشوقين لما ستسفر عنه الاحداث القادمة


تقبل مروري وجزيل شكري

مملكة الغيوم 21-08-18 07:35 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
عيدكم مبارك كل عام وانتم بخير
ههههههههه سررت بما حدث للضباع فى انتظار المزيد وعيد سعيد

عمرو مصطفى 25-08-18 07:47 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3705255)
ههههههههه


هااااايل

غاية في الابداع ما شاء الله


متشوقين لما ستسفر عنه الاحداث القادمة


تقبل مروري وجزيل شكري

لم يبق إلا القليل ..
جاري تنزيل البقية الباقية إن شاء الله..
تقديري لمرورك العطر ..

عمرو مصطفى 25-08-18 07:52 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مملكة الغيوم (المشاركة 3705295)
عيدكم مبارك كل عام وانتم بخير
ههههههههه سررت بما حدث للضباع فى انتظار المزيد وعيد سعيد

كل عام وأنتم بخير ..
للأسف انشغلنا بلحوم الظلاميين أأ.. أقصد الأضاحي، وتركنا القصة .
الفصول الأخيرة في الطريق ..
أرجو أن تكون النهاية عند حسن ظن الجميع ..

عمرو مصطفى 25-08-18 07:54 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(7)
الظلاميون يعانون في اعتصامهم بقاع المدينة ..
لقد تخلى عنهم الحلفاء .. وصاروا بأنيابهم العارية في مواجهة حاسمة مع سلطة شعبنا .. صار الطعام شحيحاً نادراً... عدد الحمقى الذين يمرون من قاع المدينة من شعبنا سهواً أو عتهاً صار قليلاً ... صار الظلاميون يقتتلون حول جثث ضحاياهم .. وشاهد دشرم عدداً منهم يسقط تحت وطأة الصراع على الطعام... فتبادل العطشى النظرات مع زعيمهم، فأومئ لهم وهو يزدرد لعابه، فهجموا على إخوانهم الذين سقطوا وارتووا من دمائهم حتى ثملوا .. الظلامي يشرب من دم الظلامي .. لابد أنه أقسم أن يدفع شعبنا الثمن غاليا .. هنا علا صوت ضجيج مميز فأجفلت الجموع وامتقعت الوجوه ...
عربات السلطة تحاصر قاع المدينة ..صرخ دشرم مستبقاً الجموع :
ـ اثبتوا يا حمقى ... لن يستطيعوا مداهمتكم .. النصر سيكون حليفنا في النهاية .. لأن الخير دائماً ينتصر..
تبادل الظلاميون النظرات الحائرة .. لكنهم تعلموا أن القائد دائماً على حق وأن طاعته سبيل النجاة والنصر .. قائدنا لا يخطئ أبداً .. لذا فقد تكتلوا من حوله مزمعين الموت دونه .. وهو من القلب يوجههم صارخاً :
ـ لا تنسوا قضيتكم .. إننا نقاتل من أجل هدف نبيل .. ولن يتخلى عنا الله .. الله معنا .. شعوب العالم تشاهدكم الأن أيها الأبطال وأنتم تستبسلون في سبيل قضيتكم ...
هنا وكزه أحد معاونيه هامساً في أذنه :
ـ لقد فر المراسلون حاملين كل الكاميرات ..
امتقع وجه دشرم وهمس في رعب :
ـ هل دبرتم لنا مخرج..
ـ هناك واحد دائماً..
ازدرد لعابه متمتماً :
ـ البركة في الشباب إذن.
ثم عاد ليزعق بصوت حاول أن يكسبه بعض الحماس :
ـ إن شعب الظلاميين أقوى من الظروف .. أقوى من المحن... مهما تخلى عنا الأصدقاء فالله معنا .. وهو ناصرنا ...
كانت عربات السلطة قد حاصرت قاع المدينة من كل الجوانب وفي السماء حلقت طائرات السلطة فوق رؤوس الظلاميين .. ومن موقعه رفع جلال مكبر الصوت وبدأ يهتف عبره :
ـ عودوا إلى القاع .. عودوا إلى الكهوف ... ولن يمس أحد بأذى ...
التفت دشرم إلى الجموع وصرخ فيهم :
ـ نعود مرة أخرى للجحور ... حتى يتسنى لهم غلق الفجوات علينا ويتحول القاع إلى قبر أبدى لشعبنا ... الموت دون ذلك ..
وتصايح الظلاميين :
ـ الموت دون ذلك .. الموت دون ذلك ...
خفض جلال مكبر الصوت ونظر إلى رجاله الذين يحاصرون قاع المدينة .. وهز رأسه في يأس :
ـ لم يتركوا لنا أي خيار ...
هنا برز الدكتور العوادلي كعادته مثل غراب البين ورفع كفه معترضا.. نظر له جلال متقززاً فرفع سبابته في وجهه قائلاً :
- هذا اسـ .. استعمال مفرط للـ ..للقوة ..
تقلص وجه جلال وهو يصيح :
ـ ماذا تقول ..؟ أنا لا أسمعك جيداً ..!
ورفع يده مشيراً إلى قاذفي اللهب كي يستعدوا وهو يرمق الظلاميين الثائرين... لأول مرة هو لا يحب ما سيقوم به.. ولا يدري لماذا ؟..
ربما لأنهم كانوا قديماً يستعملون النار لإفزاع تلك الكائنات وردها للقاع لا بقصد إحراقهم.. لكن قد يأتي الحرق تبعاً .. لكنه اليوم سيصب اللهب مباشرة على الجموع الغفيرة المحتشدة .. لكن من قال أنهم سيصمدون عند إطلاق أول قذيفة لهب .. لا شك أنهم سيفرون للقاع .. ومن أعماق قلبه تمنى أن يفعلوا ..
وتقدم قاذفي اللهب في تؤدة وعند مسافة مناسبة صوبوا القاذفات منتظرين إشارة البدء من قائدهم جلال .. الظلاميون يضطربون حول دشرم .. والأخير يصرخ فيهم أن اثبتوا .. موتوا رجالاً ...
العوادلي يصرخ :
ـ أنا احتج ..
و جلال يفتح فمه ليعطي أمر الأطلاق ..و..
هنا هبت عاصفة عاتية جعلت الجميع ينحني والغبار يعمى الوجوه .. وهبطت طائرة هليوكوبتر عليها علم شعبنا وإلى جوارها شعار المسئول الأول .. هبطت في ساحة خالية وراء العربات المحاصرة وقفز منها نادر في خفة وعدا ناحية جلال الذى هتف في دهشة واستنكار:
ـ القائد بنفسه .. هذه مخاطرة قصوى ..
لكن نادر انتزع منه مكبر الصوت والتفت يواجه جموع الظلاميين متجاهلاً اعتراض جلال ...
ـ إلى كل المعتصمين في قاع المدينة ... إلى كل المعتصمين في قاع المدينة .. اسمعوا هذا الكلام جيداً .. أنتم لم تخلقوا للظلام .. لكن تم دفعكم إليه دفعاً .. والذين دفعوكم إليه تخلوا عنكم .. ونحن لن نتخلى عنكم .. لأنكم منا .. لكن هناك من تعمد تشويه فطرتكم ..
انعقد حاجبي جلال مستنكراً .. في حين تبادل الظلاميون النظرات المستغربة .. هم لم يسمعوا أبداً مثل هذا الكلام من قبل .. دشرم كان يغلي من داخله .. هو الوحيد الذى يعرف ما الذى يرمي إليه نادر ..
ـ لا تسمعوا هذا الكلام الفارغ .. الظلام هو أصل الأشياء .. والنور أمر عارض .. أنتم الأصل .. أنتم أصحاب الحق ..
وعاد صوت نادر يتردد :
ـ ماتزال هناك فرصة يا إخواننا ... أننا لن نطالبكم بالعودة للجحور .. بل نطالبكم بالانضمام إلينا على السطح .. فقط تخلصوا مما علق برؤوسكم من أفكار ظلامية .. عودوا إلى أدميتكم .. تصيرون منا ونصير منكم .. أنتم لم تخلقوا لمص دماء إخوانكم .. أنتم بشر .. بشر ..
وساد الصمت تحت وقع الكلمات ..
حتى دشرم لم يجد ما يقله ...
ـ من قرر أن يغادر الظلام للأبد وينضم إلى إخوانه... فليغادر قاع المدينة .. توجد حافلات ستحملكم إلى مصحات تم إعدادها لإعادة تأهيلكم من جديد .. ومن يبقى فقد أختار الظلام إلى الأبد ...
وخفض نادر مكبر الصوت وهو يلهث في انفعال، وأخذ يتبادل النظرات مع جلال الذى هز رأسه في عدم فهم.. ثم اقترب منه بخطوات واسعة ومال عله هامساً :
ـ ماذا تتوقع ...؟
بلل نادر شفتيه بلسانه قبل أن يهمس بصوت مبحوح :
ـ لا أعرف .. أقسم لك يا جلال أنني لا أعرف ...
***
نظر ذلك الظلامي إلى قدميه ثم رفع طرفه إلى السماء صارخاً :
ـ ماذا تنتظرون يا حمقى ...؟
ثم انطلق يعدو ناحية خلاصه ... وخلفه انفصل ثان .. وثالث .. ورابع ..
وأمام عينيه الملتاعتين رأى دشرم العشرات والمئات يلوذون برجال السلطة متفلتين من بين يديه .... لكن لا .. هكذا صرخ صارخ بداخله ... كان ينظر إلى نادر الذى تهلل وجهه وهو يتابع صفوف الظلاميين تغادر قاع المدينة ناحية الحافلات ...
وتمتم دشرم من بين الخلص من رجاله وعينه تركز على واحد بعينه :
ـ الذى تدعو إليه قد يقتلك ..
قالها ثم انفصل عن رفاقه والتحم بصفوف المغادرين .. الصفوف تقترب من عربات السلطة حيث يقف جلال ورجاله، وحيث يقترب نادر في عدم حرص قاتل من الصفوف ملوحاً لهم بقبضته في تأييد .. وانتبه جلال لذلك فرفع كفه صائحاً :
ـ حذار أيها القائد ..
هنا قفز دشرم من بين الصفوف واثباً ناحية نادر الذى ارتفع حاجباه في دهشة وهو ينظر في عيني دشرم الناريتين وأسنانه الحادة تلمع و..
وفجأة اكتسى وجه نادر بصرامه لا حدود لها، وزم شفتيه وهو يرفع مكبر الصوت ويهوى به على رأس دشرم ..
وتوقف المشهد كله في لحظة ...
الكل تجمد في مكانه .. جلال .. رجال السلطة .. الظلاميون ..
ووقف نادر ممسكاً بمكبر الصوت وهو يرمق دشرم الذى سقط عند قدميه وقد زاغت عيناه وتدلي لسانه خارج فمه ورأسه يدور ...
ـ هل أنت بخير ..؟
قالها جلال وهو يندفع ناحية نادر على حين لوح العوادلي بقبضته في الهواء محتداً :
ـ أنا احتج على هذه الطريقة العنيفة في التعامل مع الـ...
ببطء التفت إليه نادر .. نظرته جعلت العوادلي يبتلع لسانه أخيراً ..
قال نادر :
ـ لم تمتد يدى إلى أي ظلامي من قبل.. لكنه كان يستحق ...
***
لم يغادر كل الظلاميين بالطبع ..
كانت ماتزال هناك مجموعة مؤمنة بالفكرة قررت أن تختار الظلام مرة أخرى .. وكان نادر ورجاله يعرفون أن المرحلة القادمة لن تكون بالسهلة أو اليسيرة .. الطائفة الجريحة لن يهنأ لها بال حتى تنتقم من شعبنا .. وعلى شعبنا أن يكون متيقظاً في تلك المرحلة الحرجة .. مرحلة كفاح جرثومة زرعت في قلب شعبنا النابض .. مرحلة كفاح قد تستمر لأيام .. لأسابيع .. ربما لأعوام .. وكان الدرس المهم هنا، هو ألا ينسى شعبنا مع مرور الأيام من عدوه ومن وليه وأن لا يستدرج مرة أخرى إلى فخ الظلاميين..
***

عمرو مصطفى 25-08-18 07:55 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(8)
قهرنا الظلاميين على سطح الأرض وحان وقت تطهير القاع حيث البؤر التي بها يقبعون ومنها يشنون غاراتهم على أبناء شعبنا ..
وقاد جلال الذي صار مسئولاً عن سلطة شعبنا حملة شعواء على الفجوات التي تعج بالظلاميين ..
لأول مرة يلج رجال السلطة إلى القاع ويواجهون الظلاميين في عقر دارهم ولم تكن المواجهة بالأمر الهين .. كان القاع مفاجئة مفجعة لرجال السلطة ..
عالم مظلم كئيب عطن الرائحة.. وبين الحين والحين تتعثر قدم في جثة جافة خالية من الدماء.. ويزداد رجال السلطة احتقاناً ويعصف بهم الغضب .. سيمزقون أي ظلامي يجدونه.. لكن أين هؤلاء الشياطين؟..
عشرات بل مئات الأنفاق المعقدة تحت الأرض تمتد لمساحات الله أعلم بمداها..
حصاد سنوات من العمل المضني في الظلام.. بالتعاون مع بني الأصفر..
لقد وجد رجال السلطة أثناء البحث في الأنفاق بعض الملفات السرية التي تتحدث عن تاريخ العلاقة بين الظلاميين والشعب الأصفر وقد تم إخراج تلك الملفات وسمحت السلطة بنشر بعضها على عامة شعبنا فيما بعد..
لكن السؤال الذي كان مطروحاً.. هل ماتزال هناك وسيلة اتصال بين الظلاميين وبين الشعب الأصفر..
ومتى يستطيع شعبنا تطهير كل تلك الأنفاق وسدها ؟..
كان لابد من قرار حاسم لتلك المعضلة .. رفع جلال جهاز اللاسلكي إلى فمه وعرض وجهة نظره على الطرف الأخر .. قيادة شعبنا ..
ـ لابد من سد تلك الفجوات على من فيها ..
جاوبه الصمت من الطرف الأخر .. هو يعرف رقة قلب القائد الجديد لشعبنا
لكن في مثل تلك الظروف .. لابد من طرح المشاعر جانباً ..
ـ لا فرق بين قتل الظلاميين وحرقهم وبين عزلهم عن الخارج فيموتون جوعاً .. نحن نحتاج لعشرات السنين حتى نسيطر على كل تلك الأنفاق ..
هنا جاء الرد الحازم من القائد :
ـ بالطبع أنا لست مشفقاً على حثالة الظلاميين .. أنا أفكر في خطتك تلك وفي نتائجها .. هل حقاً نستطيع عزل الظلاميين عن العالم الخارجي في باطن الأرض ؟
ـ هذا كان ممكناً حتى في العهد البائد .. لكن بني الأصفر ما كانوا سيسمحون بذلك .. أما الأن ..
ـ الأن فقط يمكننا أن نعرف كيف يتصل الظلاميين بالشعب الأصفر ..
لم يفهم جلال مراد القائد.. لكنه تساءل :
ـ نبدأ الأن في سد تلك الأنفاق؟
ـ بلى.. لكن بالماء.. الماء طهور يا جلال كما تعلم..
ابتسم جلال وهو ينهي الاتصال ثم التفت إلى رجاله قائلاً :
ـ لأول مرة سنقهر الظلاميين بالماء لا بالنار..
***
في البداية لم يفهم الظلاميين ما يحدث..
ظنوا أن رجال السلطة تراجعوا عن مطاردتهم وبدا بعضهم يتنفس الصعداء.. سنبدأ من جديد..
لكن عزروت لم يبد مرتاحاً.. إنه يشم رائحة الخطر عن بعد كأي ظلامي يحترم نفسه كذلك هو الرأس المدبر للظلاميين حالياً بعد سقوط دشرم .. وإليه انتقلت عهدة المحافظة على بقاء الطائفة..
وقد أقسم على ذلك بروح انبلا نفسه..
ـ هل تسمعون؟
قالها عزروت فصمتت الأصوات وسكنت الحركات..
والكل منصت..
هل هذا الصوت الخافت الذي يتصاعد شيئاً فشيئاً صوت هدير؟
وبدا الرعب يكتسي الوجوه وهم يتخيلون ماهية الخطر القادم..
هنا نهض عزروت قائلاً في ثقة :
ـ إنهم يصنعون لنا مقبرة مائية ..
ورددت الأنفاق الممتدة إلى ما لا نهاية صدى ضحكته الساخرة! ..
ـ تضحك وهم يغرقوننا! ..
قالها له أحدهم والذعر يكسو ملامحه.. فالتفت إليه عزروت وهو يلهث في جشع :
ـ بهذه السهولة يا رفاق .. إن هذا لأمر معيب ..
ـ أنت تعرف لنا مخرجاً من تلكم الأنفاق يا عزروت ؟
ـ بالتأكيد .. فقط اتبعوني ...
***
في قفص الاتهام وقف دشرم ويسرم يرمقان جموع الشعب التي جاءت تتأملهم كأحد عجائب الدنيا التي لم تعد سبع الأن .. كانا يبتسمان في بلادة وكأن شيئاً لم يكن .. نحن لم نتآمر مع بني الأصفر عليكم .. ولا كنا ننوي معاملتكم كخزين للطعام .. لم نكن نرغب إلا في بصيص من نور .. هه .. لماذا لا تصدقون يا حمقى؟ .. تباً للدعاوى المغرضة التي أدخلت الشيطان بيننا!..
المحاكمة كانت في أكبر ميادين المدينة وتم نصب منصة للقضاء في مقابلة قفص الاتهام .. حشد ضخم من رجال السلطة جاء ليحكم السيطرة على الجموع الثائرة من أبناء شعبنا كي لا يفتكوا بالأسيرين..
هنا هاجت الجموع حينما وصل القضاة للمنصة..
ـ أعدموهم..
ـ أعدموهم..
احتاج الأمر لعدة قرعات على المنصة كي يعود الهدوء..
ورمق كبير القضاة قفص الاتهام ثم أعلن بدء المحاكمة..
همس يسرم وهو يحاول منع ساقيه من الارتجاف:
ـ هل سيعدموننا حقا يا أبي؟
قال دشرم من بين أسنانه :
ـ الشعب الأصفر لن يسمح بهذا.. تجلد.. ولا تغتر بكل هذا الجو المشحون .. في النهاية سيجلسون مع سلطة الشعب الأصفر للتفاوض ..
ارتسم تعبير بائس على وجه يسرم وهو يرمق جموع شعبنا ونظرات الكراهية تبض من عيونهم .. قال في أسى:
ـ أنا لا أفهم سر كل هذا البغض لنا.. ونحن لا نحمل لهم إلا الخير!.. كل الخير!..
أطبق دشرم على قضبان القفص الباردة ورفع بصره للأفق هامساً :
ـ هذا ما دأب عليه ذلك الشعب البغيض المستعبد منذ فجر التاريخ .. لم يفهموا دعوة أبينا أنبلا الذي جاء ليحررهم من نير الاستعباد .. لم يفهموا سر النكبات والكوارث التي حلت عليهم منذ اليوم الذي استشهد فيه أنبلا .. ولست أظنهم سيفهمون .. لكن عدالة السماء قادمة ..
التفت إليه يسرم متلهفاً:
ـ هل لديك إلهام ما؟..
توهجت عينا دشرم وهو يمسح بحنو على قضبان القفص .. وترقرق الدمع في مقلتيه وهو يتمتم :
ـ بل منام .. لقد زارني الأب المؤسس أنبلا في المنام وأخبرني أن الله سيكون في عوننا ما تمسكنا بدعوته.. وأننا سنخرج من السجن وسنعود ملوكاً على رقاب الشعب الأسمر ..
***

bluemay 30-08-18 05:27 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
سلمت يداك

واعتذر للتأخير في التثبيت والتهنئة بالختام


ننتظر جديدك عما قريب

تقبل مروري و شكري

عمرو مصطفى 01-09-18 07:33 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3705663)
سلمت يداك

واعتذر للتأخير في التثبيت والتهنئة بالختام


ننتظر جديدك عما قريب

تقبل مروري و شكري

عفواً ولكن القصة لم تنته بعد ..

فيما يلي أخر الفصول والخاتمة إن شاء الله .. وشكراً جزيلاً على التثبيت.

عمرو مصطفى 01-09-18 07:34 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
(9)
وكان هناك ذلك الاجتماع العاجل حول الطاولة المستديرة، حيث تحاك المؤامرات دائماً ضد شعبنا ..
ماذا بعد الضربة الموجعة التي تلقاها المتآمرون ودمرت مخططات القرن؟ كانت هناك الخطة البديلة التي سيتم تنفيذها في المرحلة القادمة .. خطة سوداء تنبئ عن مدى سواد قلوب واضعيها ومدى الحقد الذى به يضطرمون ...
نسيت أن أخبركم أن العوادلي كان حاضراً لذلك الاجتماع، فقد تم استدعائه هو أيضاً للترتيبات القادمة.. وكانت الدماء قد عادت لوجهه المنهك الشاحب، حينما علم أن المرحلة القادمة تقتضي بقائه في بلاد الشعب الأصفر، بعيداً عن الخطر، حيث الهواء النقي الخالي من التلوث والأمان التام واحترام حقوق الإنسان!.. كان متحمساً جداً وهو يحك صلعته منتظراً التعليمات الجديدة..
ـ لابد أن يركع الشعب الأسمر ..
ـ لابد أن تزداد الدماء في الشوارع ..
ـ لابد أن ندعم الظلاميين من طرف خفي .. داخلي وخارجي ..
ـ لابد أن .. وأن .. وأن ..
هنا اقتحم القاعة شاب نحيل وصرخ في وجل :
ـ الظلاميون يجتاحون المدينة ..
نظر إليه سيد الشعب الأصفر في مقت ثم تساءل في برود :
ـ أي بني .. عن أي ظلاميين تتحدث ..؟
بالخارج كان المشهد أسرع من أن يوصف .. عشرات الفجوات في قاع المدينة تنضح بكائنات غريبة شاحبة واسعة العيون تلعق شفاها باستمرار في شبق .. كان كل مواطن في شوارع المدينة يواجه واحداً .. يصرخ في هلع ثم الأنياب الحادة تنشب في عنقه والدماء الحارة تنفر من وريده العنقي ..
الجنون يجتاح العديد من مدن الشعب الأصفر..
هذا ليس عنواناً لفيلم رعب من تلك التي يدمنها الشعب الأصفر ويصدرها لشعوب العالم.. بل هذا هو الواقع المرير الذي استيقظ عليه الشعب الأصفر بعد نوم عميق..
شعب يصرخ ودماء الحياة تفارق جسده مستغيثاً بسلطته..
ولا مجيب..
***
كان يجوب بسيارته الشوارع التي فرشت بالجثث..
بالمعنى الأصح كان يفر بعد أن انتهى أمر المدينة..
إنه أخر رجال السلطة الفارين.. رباه متى يصل للطريق السريع ويلحق ببقية الرفاق؟.. الأن يدرك مدى حماقته حينما تحرك ضميره وأخره عن اللحاق بهم.. الأن يدرك أنه تأخر أكثر من اللازم حينما رأى الهول الذي سبب تلك المذبحة يدركه..
حشد من الظلاميين يقودهم عزروت بنفسه..
لم يكد يلمحونه حتى علا صياحهم الحاد.. وانطلقوا خلفه كأسراب الجراد..
صرخ الشرطي وهو يدور بسيارته ليفر بجلده .. كان يجهل قدرات الظلاميين الخارقة في العدو على الأقدام..
ضغط على أسنانه وهو يلمح بعض أجساد الضحايا من بني شعبه الأصفر ترتجف على قارعة الطريق ولم تفارقها الروح بعد.. كانت هناك أيادي تشير إليه مستجدية لكنه لا يجرؤ على التوقف، أو حتى مجرد الالتفات.. سمع صوت التهشم المميز للعظام فأدرك إنه دهس بعضهم وهو يدور بسيارته.. وكانت تلك هي الخدمة الوحيدة التي قدمها رجل السلطة لأبناء شعبه.. وهو جعلهم يموتون بسرعة..
كان يأمل في مصير مختلف..
لكن بعض الظلاميين طار وهوى بثقله على سقف السيارة الذي انبعج من أثر السقطة بدوي مقيت.. وتعلق أخر بباب السيارة.. صرخ الشرطي كأنما مسه ألف شيطان وأدار المقود..
كيف استطاعوا الوصول إليه؟.. رباه.. كان عليه أن يزيد من سرعة السيـ...
ودارت السيارة حول نفسها مرة أخرى ليطير الظلامي الذي اعتلى سطحها ويرتطم بإخوانه المطاردين.. وانسحق الأخر الذي تعلق بالباب تحت إطاراتها وهي تدور.. هنا تكالب عليه الظلاميين من كل حدب وصوب.. وشعر الشرطي بجانب العربة يرتفع لأعلى.. تأمل الوجوه الشاحبة التي تتأمله من وراء الزجاج في جشع وصرخ مستجدياً.. هنا دوى صوت قيادته عبر المذياع :
ـ ماذا لديك يا جيسون؟.. جيسون.. لماذا لا ترد؟
لم يرد لأنه كان يبكي كالأطفال .. ثم تذكر فجأة أن لديه مسدساً..
ـ جيسون.. أجب.. هل أنت بخير؟
نظر للمذياع في حقد ثم إلى الوجوه الظلامية التي ترتطم بالزجاج الذي بدأت تظهر عليه الشروخ ..
استجمع أنفاسه وصوب المسدس جيداً وضغط الزناد..
وأمام أعين الظلاميين المتعطشة انفجر رأسه وتناثر الدم على الزجاج هدراً..
ـ جيسون..
يصرخ عزروت صرخة الجنون وهو يرقص وسط بركة من الدماء..
ـ جيسون..
العشرات يتقاتلون على جثته داخل العربة .. الكل يرغب في مزقة من دمه المهدور قبل أن...
ـ جيسون.. ماذا يجري عندك؟..
هنا رفع عزروت جهاز الاتصال إلى فمه، وهمس بصوت لاهث من فرط النشوة :
ـ ألم تفهموا بعد.. لقد قامت قيامتكم.

***
نوسام حمل بندقية الصيد على عاتقه وتأكد من أن الزوجة والأطفال بأمان في قبو بيته ثم أمر رجال الحرس بحصد أي كائن يتحرك على بعد نصف كيلو من مقر بيته.. والتفت إلى مجموعة تحمل قاذفات اللهب وقال بصوت أكثر التهاباً :
ـ جاهزون لحفل الشواء؟
ـ جاهزون سيدي ..
وأعطاه الرجال التحية في نفس الوقت الذي دوت فيه الطلقات .. امتقع وجهه متمتماً :
ـ لقد وصلوا ..
ثم حانت منه التفاتة إلى صورة جدارية ضخمة لجده الأكبر فريمان، وهو ينظر إليه بتلك النظرة القاسية المتفحصة التي طالما أثارت رعبه..
بادله نوسام نفس النظرة القاسية فبدا التشابه بينهما واضحاً رغم تباين المصير والمآل ..
ووجد نفسه يهمس لصورة جده :
ـ إنني أتساءل الآن عن مدى حكمتك؟...
***
وفي نشرة المساء، خرج السيد الأعظم لبني الأصفر ليعلن الحرب على كائنات الظلام التي تسللت لأراضي الشعب الأصفر بمؤامرة ما.. بعدها ظهرت على الشاشات قوات حاشدة تحمل قاذفات اللهب، وتلوح للشاشات في أمل.. مع سيل من التعليمات الصادرة من سلطة بني الأصفر :
ـ اللهب هو السلاح الفتاك الذي يقهر مخلوقات الظلام .. تأكد من أنك تحمل واحداً في دارك .. سيتم توزيع قاذفات اللهب بحسب القرب والبعد من المناطق المهددة ..
تأمل العوادلي قاذف اللهب الذي أعطوه إياه في حجرته بالفندق..
عليه أن يصوب تلك الفوهة للباب وحينما يشعر بأي حركة مريبة
يضغط على ذلك الزناد و..
هذه الطرقات الخشنة على الباب لا يمكن أن تكون لخدمة الغرف.. وهذا الفحيح لا يمكن أن يكون مصدره صنبور المياه..
تذكر وطنه الآمن في تلك اللحظات وعض شفته متحسراً..
الآن تأتيه فاتورة الحساب عبر الأميال..
صوب قاذف اللهب للباب وصرخ وهو يضغط الزناد.. صرخ وقد أصابه جنون الحريق..
وصرخ أكثر ولسان اللهب يمتد ليلتهم أثاث الغرفة من حوله.. لقد صنع لنفسه جحيمه الخاص على الأرض.. وتوقف العوادلي عن الصراخ المذعور..
الذي يذوب جلده بهذه الطريقة لا يجد وقتاً للصراخ أصلاً..
وبعد دوي الانفجار المتوقع لخزان الوقود اقتحم الظلاميون الغرفة ليجدوا وجبتهم مشوية..
العديد من المقاطعات تحولت لقطعة من اللهب من فرط استخدام تلك القاذفات بروح الجنون والذعر .. وخرج المسئول الأكبر لشعبنا الأسمر ليعلن في هدوء مستفز :
ـ على قيادة الشعب الأصفر ضبط النفس والسعي للحوار مع الظلاميين ..
لابد أن السيد الأعظم لبني الأصفر قد هشم شاشة المرئي بعد تلك الكلمة الحارقة أكثر من قاذفات اللهب ..
سيحتاجون لأيام وشهور حتى يفهموا ..
ماذا حدث وكيف حدث؟..
وكان هذا في الحقيقة .. هو كل ما يحتاجه شعبنا..
***
وبعيداً بعيداً .. عن كل ذاك الصخب..
كان هو جالساً يستمتع بهواء البحر المشبع باليود ..
ظل يتابع الجريدة من وراء منظاره الداكن .. ولأول مرة منذ فترة طويلة شعر بالراحة والطمأنينة تتسرب إلى نفسه القلقة التواقة إلى كل ما هو جديد من أخبار تخص شعبنا ..
"المرحلة القادمة ستكون أصعب ما يكون على شعبنا .. وأمنه وسلامته سيكونان على المحك .."
" سنمتص الصدمة يا سيدى.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذا عهدي لك.. "
ولأول مرة منذ تداعي تلك الأحداث .. وجدت بسمة دافئة سبيلها إلى وجهه الصخري الصارم..
***

عمرو مصطفى 01-09-18 07:36 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
خاتمة الراوي

ـ كانت تلك هي قصتكم مع الظلاميين..
قلتها وأنا أمسح العبرات من وراء عويناتي .. ثم وضعت رزمة الأوراق تحت إبطي واعتمدت على الأرض بكفي كي أنهض.. نفضت كفيا و ألقيت نظرة على الصبية المتحلقين .. كانت عيونهم متسعة وأنفاسهم متلاحقة من فرط الانبهار.. لوحت لهم بكفي مبتسماً :
ـ شكراً على حسن استماعكم .. يمكنكم العودة للعب الكرة..
واستدرت لأنصرف فنهض الصبية وتشبثوا بي وانهالت علي أسئلتهم :
ـ ماذا حدث لبني الأصفر بعدها ؟
ـ يمكنكم معرفة هذا من خلال متابعة نشرات الأخبار؟
ـ أين ذهب السيد وسام ؟ والمسئول الأسبق عن شعبنا ؟
ـ لا يهم أين ذهبوا.. المهم أنهم سلموا الراية ليد أمينة ..
ـ من أنت أيها العم الرائع ؟
استدرت إليهم ببطء .. كانت عيونهم في تلك اللحظة تشع ذكاءً..
رفعت طرفي إلى الأفق وغمغمت :
ـ أنا... أنا الذاكرة التي تحيا بها الشعوب ..
ـ ما هو دورك في القصة؟.. حدثنا أكثر عن نفسك ..
ابتسمت وشرد بصري بعيداً.. بعيداً.. وسمعت الجواب في عقلي قبل أن تهمس به شفتي :
ـ ليس الأن!
وتركتهم وعدت أواصل طريقي شاعراً بالطمأنينة تتسرب إلى نفسي..
فقد تركت خلفي صبية .. بذاكرة رجال ..
***
جلست أحتسي الشاي الذي أحضره لي صاحب دار النشر الذي وعدته منذ عامين بقصة ملحمية جيدة.. الحمد لله لم يمت كما توقعت لكن..
ترى هل ستروق له؟
رفع عينيه عن الأوراق وتمتم :
ـ رائع كعدي بك..
ابتسمت في ارتياح.. لكنه قطب جبينه مردفاً :
ـ لكن أنت تعرف أن السوق هذه الأيام له متطلبات أخرى.. منذ عامين كان يمكن لمثل ملحمتك تلك أن تحقق أعلى مبيعات.. لكن حالياً..
وقطع عبارته مشيراً إلى عدد من المطبوعات المتناثرة على مكتبه في إهمال.. مررت بعيني على عناوين بعضها فكدت أصاب بالفالج..
التنين الأزرق في صحبة الأرواح توقعات الأبراج للعام الدراسي الجديد ... لم استطع المواصلة..
جذبت قصتي برفق من أمامه ففهم أن رسالته قد وصلت.. قال متلطفاً :
ـ يمكن أن ننشرها لك مع بعض التعديلات و...
نظرت إليه بثبات..
ـ ما زلت أذكر كلامك عن الذكريات التي لم تعد ملكاً لي ويجب أن تطلع عليها الأجيال القادمة لترسخ في وجدانها.. الذكريات التي لم تعد ملكاً لصاحبها هي ليست ملكاً لرغباتك من باب أولى.
ابتسم قائلاً :
ـ هذه ليست وجهة نظري.. بل وجهة نظر السوق في وقتها..
ـ فهمت..
واعتدلت قائماً وعادت قصتي تحت إبطي الدافئ..
ـ إلى أين يا رجل..
تحاشيت النظر إلى وجهه وأنا أجيبه :
ـ لقد اكتشفت اكتشافاً خطيراً بخصوص قصتي..
ـ أنها بحاجة لبعض التعديلات..
ابتسمت له مكشراً عن أنيابي قائلاً :
ـ لا.. لقد اكتشفت أنها لم تنتهي بعد..
ـ ماذا بعد؟ ألم نقضي على الظلاميين..
ـ لا بعد..
نظر لي في عدم فهم.. لم أدر لماذا بدا لي وجهه في تلك اللحظة متبلداً كوجه وحيد القرن.. قلت له موضحاً وإن كان لا يستحق :
ـ الظلامي ليس فقط من يحيا تحت الأرض ويعيش على امتصاص دماء الأخرين.. هناك ظلاميين يعيشون بيننا في النور يرتدون الحلل الأنيقة.. وربطات العنق المنمقة ويتكلمون من أنوفهم.. ويؤدون لأعدائنا نفس الغرض.. بأساليب مختلفة..
ضيق عينيه محاولاً أن يستشف ما وراء كلامي :
ـ من تقصد؟
نظرت لحلته الأنيقة وربطة عنقه المنمقة ثم إلى مطبوعاته.. وابتسمت..
وحينما استدرت مغادراً سمعته من خلفي يبرطم..
ـ متى ستنتهي قصتك (الجملي) تلك؟..
طبعاً رددت عليه دون أن التفت الرد الذي مللتموه جميعاً..
ـ ل.. ي.. س.. ا.. ل.. آ.. ن
***
تمت
القاهرة جمادى الأولى 1437 - فبراير 2016

bluemay 01-09-18 01:17 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عمرو مصطفى (المشاركة 3705734)
عفواً ولكن القصة لم تنته بعد ..

فيما يلي أخر الفصول والخاتمة إن شاء الله .. وشكراً جزيلاً على التثبيت.


هههههههه


احسستها ناقصة ولكن كذبت حدسي

لما طالت غيبتك.

فالمعذرة

bluemay 01-09-18 01:28 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
سلمت يداك

واعتذر مرة اخرى لسوء الفهم


ننتظر جديدك عما قريب

تقبل مروري و شكري

عمرو مصطفى 01-09-18 02:14 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3705739)
هههههههه


احسستها ناقصة ولكن كذبت حدسي

لما طالت غيبتك.

فالمعذرة

لا عليك ..

عمرو مصطفى 01-09-18 02:17 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3705740)
سلمت يداك

واعتذر مرة اخرى لسوء الفهم


ننتظر جديدك عما قريب

تقبل مروري و شكري

سلمك الله ..
ولا داعي أبداً للاعتذار فلم يحدث شيء ..

مملكة الغيوم 05-09-18 05:22 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
السلام عليكم ورحمة الله
مبارك الختام كانت اكثر من رائعه كعهدنا بك
فى انتظار جديدك دائما ونتمنى ان تكمل شيئ فى سندباد حتى نكسر الروتين والملل عالم المغامرات بيكون اكثر اثاره وتشويق وانت تميزه بقلمك المميز نتمنى لك الخير والمزيد من التوفيق:55::55::55:

عمرو مصطفى 10-09-18 07:35 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مملكة الغيوم (المشاركة 3705830)
السلام عليكم ورحمة الله
مبارك الختام كانت اكثر من رائعه كعهدنا بك
فى انتظار جديدك دائما ونتمنى ان تكمل شيئ فى سندباد حتى نكسر الروتين والملل عالم المغامرات بيكون اكثر اثاره وتشويق وانت تميزه بقلمك المميز نتمنى لك الخير والمزيد من التوفيق:55::55::55:

بورك فيكم .. وأشكر لك حسن المتابعة، وإن شاء الله يكون هناك الجديد مع سندبادنا الفقري ..

قوت العتيبى 07-10-18 04:11 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
جاري القرءه ................................

عمرو مصطفى 13-10-18 01:35 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قوت العتيبى (المشاركة 3706735)
جاري القرءه ................................

قراءة سعيدة.

fadi azar 18-05-19 09:34 PM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
رواية رائعة جدا

عمرو مصطفى 26-06-19 10:51 AM

رد: ليس الآن بقلمي / عمرو مصطفى
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة fadi azar (المشاركة 3715580)
رواية رائعة جدا

أشكرك بشدة

بوركت


الساعة الآن 04:51 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية