منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   [قصة مكتملة] عكس الرحيل (https://www.liilas.com/vb3/t204517.html)

الفيورا 01-08-17 04:49 PM

رد: عكس الرحيل
 
[5]

سفره هذا حمل له الكثير من الأمل. منه سيستطيع دفع ديونه لآخر المطالبين، ليبقى له قرض البنك فقط. الأهم أنه سيبقى من نصيبه كم معتبر سيعطيه لخالته وزوجها ولطيف. كل يوم يعد نفسه أنه سيعوضها ذهبا. يعرف أن طيف ليست بالسطحية ولن تطلب منه فوق طاقته.. "ما راح تطلب أساسأ.." لكن تلك الحقيقة دفعته أكثر في السعي إلى تدليلها كما تستحق.

كلما وجد فكره يذهب إلى طيف، كلما تذكر تلك اللحظات الأخيرة التي جمعتهما.

فعلها.. حقا فعلها. وطيف لم تدفعه بعيدا باعتراض، بل استسلمت له بكل عذوبة فاقت كل آماله.

أترى إذا لم يكن مضطرا إلى الذهاب، هل كان ممكنا أن—

جره صوت صديقه صالح من غيابات أفكاره: مسرع ما اشتقت للمدام! لساتنا في الطريق.

تنحنح بحرج، غير قادر على الإنكار: شوف طريق الأشباح هذا أحسن بدل ما تطقها سواليف.

تجاهل صالح محاولته لإغلاق الموضوع تماما: الله يرحم أيام الثقل وما عندي وقت لخرابيط الحب والهيام، من ساعة ما تزوجت وانت مافي أخف منك.

رد عليه بحقد: بشوف فيك يوم..

تنهد صالح، داعيا من كل قلبه: الله يسمع منك!

ضحك: مشفوح الله لايبلانا..

رد الآخر بخبث: والله أحسن من قيس اللي جنبي.. شوي ويبكي على الأطلال.

ضربه باسما بخفة فوق رأسه. لا يستطيع إنكار كلمة، ولن يفعل.

من كان يدري أن حاله سينقلب بهذه الطريقة.

:

منذ سفر مالك، ابتدأت سلسلة من المكالمات بينهما.

في البداية، كانت مكالماته قصيرة، يسألها عن أحوال المنزل ويوصيها بنفسها وخالته وأبيها. لكن مع الأيام، مكالماته بدأت تطول، والفترات بينها بدأت تقصر. خففت عليها تلك المكالمات عن وحشتها في الملحق، معددة لأيام تمضي ببطئ. لكن الوقت مصيره الإنقضاء، وهاهو بقي يومان على عودة مالك بعد ثلاثة شهور من الغياب.

تمهل مالك لحظة بعد سلامه قبل أن يقول: نفسي أعرف إنتي ليش ما تتصلين؟

ردت وهي تحاول كبت سعالها: مو متعودة..

عرفت من تغير نبرة صوته أنها فشلت في محاولاتها. تسارعت نبضات قلبها لعمق القلق في صوته: تعبانة؟

سعلت لمرات لم تعددها قبل أن ترد بضعف: مو مرة.. نزلة برد بسيطة.

لم يصدقها: مو مرة وبسيطة؟ وهذا اللي اسمعه إيش؟ قولي لخالتي توديك المستشفى.

استنكرت الفكرة: ماله داعي والله، مصيرها بتخف.

رد بحزم وحدة لم تعهدها: طيف. اسمعي كلامي.. وإلا ليش أتعب نفسي؟

أغلق الخط ليتركها محدقة بجوالها، مذهولة، متوجسة، خائفة. لا تريده أن يغضب منها فهي—

صوت فتح الباب جعل طيف تنتبه إلى دخول زوجة أبيها عندها وبيدها عباءتها: يلا جهزي نفسك بنروح المستشفى.

استغربت: إيش؟

امتعضت ملامح تلك: والله مالوم مالك يوم إنه اتخرع. صوتك كأنك نص بالقبر./ قطبت حاجبيها عندما تحسستها: حرارتك نار.. انغمى عليك؟

لم تجب، لكن سكوتها كان إجابة كافية. لطالما كانت ضعيفة أمام الحمى، ومنذ الطفولة كانت حماها كفيلة بجعلها تغشى في مكانها. لا تدري كم مرة هرع أبوها وزوجته بها إلى المستشفى..

في الخمس سنوات الماضية، حاولت إخفاء ما بها. نجحت لمرات وفشلت مرات أكثر. يبدو أن أنها فشلت هذه المرة.

في اليوم التالي فتحت عيونها على مالك جالس في طرف السرير، يتحسس وجهها ليتفقد حماها. لوهلة، ظنت أنها تحلم فابتسمت. فقط عندما ابتسم بدوره أدركت أن هذا لم يكن حلما. جلست من نومها فورا، هاتفة بذعر متصاعد: مو كان المفروض تجي بكرة؟

نظر إليها بابتسامة مستغربة: كأنك ما تبغيني أجي../ ليجيبها أخيرا: خلصنا الشغل بدري وما كان فيه مانع نرجع.

كانت ستعترض على افتراضه بعدم رغبتها في عودته، لأنها لم تعرف شعور الإشتياق إلا بعد سفره، لكنه غير الموضوع: أخذتي دواك؟

أجابته بنعم، مشيرة إلى كيس الأدوية الموضوع على المنضدة جانبها. نظرت إليه مرة أخرى قبل أن تقول: ما كان المفروض تكلف خالتك عشان توديني المستشفى.

هز كتفيه: وش أسوي إذا إنتي مو عارفة شيء اسمه اهتمام بالنفس، لازم اهتم فيك.

:

خالته كانت تزور إحدى صديقاتها، وحماه كان نائما. هو كان يذاكر، وطيف..

أين كانت طيف..؟

قرر ترك مذاكرته ليتفقدها. ما زالت تتعافى لذا خشي أن تجهد نفسها وتمرض من جديد.

بحث إلى أن وصل إلى الحوش، ليراها في خضم غسله. ربما كان متيما إلى درجة الإسراف، فحتى مع قميص بيت بال، ملطخ ببقع طلاء لا تزول، مرفوع إلى الركبة لكي لا يبتل.. كانت مبهرة: مو أنا قلت مافي شغل لين ما تتشافين؟

ردت وهي تفرك الأرض بالصابون: هذاني بألف عافية.

تنهد، فهو تعلم بسرعة أن عناد طيف لا يمكن أن يواجه بالكلمات وحدها. أخذ منها الشطاف: روحي اجلسي، أنا بكمل عنك.

تكتفت لتسأله بشك: عمرك غسلت حوش؟

رد بلا مبالاة: عادي.. شغلة بسيطة.

تذكر كلماته تلك عندما إنزلق ووقع على الأرض أمام طيف التي حاولت وفشلت في كتم ضحكاتها. فقط رنين صوتها الضاحك العذب خفف من كبرياءه المشروخ، وفقط فرصة إسكاتها بختم شفاهها بلحظة خاطفة دواته إلى التعافي السريع. همس: عشان مرة ثانية ما تضحكي على زوجك.

ما أجمله، ذاك الاحمرار الذي كساها عندما أفلتها: بروح.. بروح أخذ دواي..

ابتسم على خطوها المتعجل المرتبك بعيدا عنه. "شكله لقيت طريقة أخليها تلتزم بعلاجها.."

:

بعودة مالك، رجع النمط الحياتي الذي إعتادته باستثناء واحد.. مشاعرها حياله.

تعودت على قربه حتى أصبحت تريد المزيد، حتى أصبحت تشعر بالخيبة كلما ابتعد بعد وصل. في غيابه أصبحت في السابعة عشر، وربما أكثر حساسية لتصرفاته نحوها. لا تدري كيف يراها.. طفلة، زوجة، أم ربما مجرد رفيقة سكن. لكن.. تعرف كيف تراه الآن. اتضحت الصورة حد البيان.

أصبحت تدرك ماذا كانت تعني كلمة (زوج) بالنسبة لها عندما كانت مرتبطة بمالك، ماذا يعني هو لها.

عندما قبلها وهم ليبتعد كعادته، وضعت يدها على ساعده، تستوقفه لتقترب خطوة. لا تدري كيف ستكون تبعات خطوتها هذه، إما الإيجاب أو الرفض.. لكنها لم تكن نادمة.

وضع أنامله على ذقنها، ليرفع نظراتها إليه. بثبات نظرت في عيونه، لترى عشرات المشاعر المبعثرة التي لم تستطع تصنيفها لأنه اقترب كما لم يفعل من قبل، اقترب لتذوب بين ذراعيه.

:

في هذه المرحلة المتقدمة من وضعه المرثي له، لم يهتم مالك بكونه مفضوحا تماما أمام خالته: ارجع للدنيا الله يخلف عليك. البنت لها ساعة تسألك إذا تبغى عيش.

عندها فقط أفاق من غفلة أحدثها هيجان مشاعر لم يهدأ منذ ليلة الأمس. ابتسم ابتسامة مبالغ في إشراقها وهو يجيب طيف التي تحاول جاهدة التصرف كأن كل شيء كان كالمعتاد، ليفضحها وجهها الممتقع بالحمرة: أي شي منك حلو..

خالته هزت رأسها بابتسامة مابين السخرية والسرور، بينما طيف بدت كأنها على وشك الاختناق.

بالنهاية، وضعت له العيش.

:

ربما كانت الحراسة الليلية لمراكز التسوق من أكثر الأعمال الباعثة على الضجر. الجيد أنه أحضر معه بعض الكتب، لعل وعسى سيستطيع التحضير لمحاضرات الغد.

رن هاتفه ليقطع هدوء هذه الليلة الرتيبة. رؤية اسم المتصل فقط طردت كل الضجر و الخمول منه، ليرد قبل الرنة الثانية. أتاه ذلك الصوت الهادئ: مالك..؟

"عيونه.." كان الرد الذي تشكل في ذهنه قبل أن يفكر بالرد، ليتنحنح ويرد باتزان: هلا. صار شي؟

أجابت: لاء..

استغرب، فطيف لم تتصل به بالعادة. مكالمتها هذه كانت مفاجأة بعثت فيه قلقا بعدما انقشعت غيمة سروره: متأكدة؟ لا تخبي علي ترى زعلي مافي أردى منه..

صوتها حمل ابتسامة عندما سألت: مو إنت اللي كنت تبغاني أتصل عليك؟

اطمئن أن الأمور كانت على خير: كويس إنك تذكرتي../ استدرجها: طيب.. مافي سبب ثاني خلاك تتصلي؟

بالكاد سمعها عندما همست بصدق: إيه.. صار صعب إني أنام وإنت غايب..

لأول مرة لا يعرف ماذا يقول، مخطوف الأنفاس، مسلوب اللب. مرت ثواني قبل أن يهمس بدوره، دفء وسعادة لا يستطيع وصفهما يكسوان صوته، يزيدانه ولعا ولهفة مع كل حرف ينطق به: طيف.. لا تقولي مثل هالكلام وأنا بعيد عنك..

لم تجب عليه. عرف أنها أقفلت الخط.

وجدها تعطيه ظهرها عندما رجع. عرف أنها مستيقظة من وضعيتها المتصلبة. سرعان ما لانت وضعيتها تلك عندما استلقى جانبها، لتحيطه بقيد حضنها النائم بعد فترة قصيرة.

اعترف بهمس موقن وهو يتأمل وجهها ويمرر أنامله على تقاسيمه بخفة: أحبك..

[انتهى البارت...]

الفيورا 01-08-17 04:50 PM

رد: عكس الرحيل
 
[6]

تطلع مالك إلى حضور الندوة التي دعي إليها في إحدى الجامعات المجاورة، فالملقي، ناصر النجم، كان واحدا من أهم رجال الأعمال في البلد بالإضافة إلى كونه بروفسورا في علوم الإقتصاد.

لم يخب ظنه، فالندوة كانت رائعة ومفيدة إلى حد عظيم. ربما تحمس زيادة عن الحد وسأل أسئلة كثيرة، لكن ناصر لم يبدو كأنه كان منزعجا.

كان على وشك الخروج من القاعة عندما سمع صوتا يناديه، ليرى أن ناصر النجم كان المنادي: سم..؟

ابتسم ناصر بأريحية وقورة قبل أن يتكلم، مادا يده لمصافحته: بغيت أعرف اسمك يا ولدي. لاحظت نباهتك في الندوة ما شاء الله..

ابتسم مالك بدوره عندما تخطى تفاجئه وصافحه بقوة: معك مالك زياد السامي..

للحظة، بدا ناصر كما لو أنه صعق من إجابته، لتتغير ملامح وجهه بعد ثانية: فرصة سعيدة.. عندي احساس إننا بنلتقي مرة ثانية إن شاء الله..

تركه ناصر بعد أن شتت سكرتيره انتباهه عنه، ليتساءل مالك عن ماذا كان يعنيه وهو في طريقه للخارج.

:

بغض النظر عن نباهة الفتى وفطنته، شيء مألوف فيه شد انتباه ناصر إليه.. ولا عجب، فقد تبين أنه كان ابن صديقه المختفي منذ أعوام طوال.

"أو يمكن المنفي.." فكر عندما دخل مكتب رأس مجموعة السامي المدبر، جاسر السامي. كان زياد وأبوه كالليل والنهار اختلافا، فبينما كانت العاطفة تقود زياد، كان التحليل البارد البحت مايقود قرارات جاسر. لم يحدث وأن اجتمع رأيهما في شيء..

عرف ما شده إلى مالك عندما رأى الطريقة المعهودة التي نظر فيها جده إليه، تلك النظرة التي أوحت بتقبل كل التحديات بشموح عنيد.

انخرطا في مواضيع جانبية إلى أن قرر ناصر التوجه إلى الأمر الذي زار هذا المكتب من أجله: سمعت إنكم تدورون على أثر زياد بعد كل ذي السنين..

صحيح أن عشرات صفقات العمل جمعت بينهما، لكن هذا لم يقلل من مرارته، فهذا الرجل هو من نفى صديقه من حياته، ليقطع هو ما بقي من علاقاته في عالمه السابق ويموت ليكونوا هم آخر من يعلم.

تنهد جاسر، حزن مكتوم يظهر على ملامحه الصخرية: وش تبغى يا ناصر؟ ما أظنك تفتح في ذا الموضوع بدون سبب.

ابتسم ببرود: أبد سلامتك، بس حبيت أقولك إني التقيت بولد زياد اليوم اللي فات.

تجمد جاسر تماما، لينظر إليه بتحذير: وإنت متأكد من كلامك..؟

بثقة أجاب: إيه، فيه شبه من أبوه.. ومنك.

:

رمش مالك بعدم تصديق، ليردف: تأكد مرة ثانية لو سمحت.

نقر موظف البنك بأريحية خاطفة على مفاتيح الحاسوب، ليعطيه نفس إجابته الأولى: تم دفع قرضك بالكامل وإيداع خمسين ألف ريال في حسابك.. تحب أسحب لك؟

لم يسمع باقي كلامه بعد تأكيده للقرض المدفوع.. ذاك القرض الذي أثقل على كاهله، الذي توقع رفقته البغيضة لسنوات وسنوات. "مو معقول.. مو معقول أبدا..": طيب.. ممكن تقولي مين اللي دفع القرض؟

نقر الموظف نقرات قليلة العدد ليجيبه بعد لحظة تفاجئ: جاسر السامي..

عقد مالك حاجبيه: جاسر السامي؟/ لتتسع عيونه باستيعاب: نفس جاسر السامي اللي..؟

هز موظف البنك كتفيه: على ما أظن.

خرج من البنك بخطوات تدفعها العزيمة لمعرفة ما سبب مساعدة شخص كجاسر السامي له.

:

وجد مقر المجموعة بسهولة. لاعجب فمجموعة السامي كانت أشهر من نار على علم أرجاء البلد. موظفو الإستقبال بدوا كما لو أنهم يكتمون ضحكاتهم كلما عبر عن رغبته بلقاء رئيس المجموعة بدون موعد، لكن سرعان ما تبدلت حالتهم عند ذكر اسمه. نظر مالك بعجب إلى الموظف الذي هتف وهو يرشده: من هنا طال عمرك..!

"عشتوا.. أنا من بين كل الناس ينقال لي طال عمرك؟"

دخل مكتبا غاية في الفخامة، وفي وسطه جلس رجل زاد سنه المتقدم من هيبته.. جاسر. بحركة بسيطة أمر السكريتير خلف مالك: ألغوا كل مواعيدي اليوم.. ما أبغى أي أحد يدخل علي.

هز السكريتير رأسه بخنوع وهو يغلق الباب، تاركا لهما وحدهما. أشار جاسر إلى الكرسي أمامه: تفضل.

لم يكن مرتاحا لفعل كما أمر لذا ظل واقفا، ليبدأ الآخر بالكلام: على ما أظن إنك هنا بخصوص القرض اللي دفعته عنك..

"يعني ما كان غلط.." رد: إيه... والخمسين ألف بعد./ لا يدري من أين لجاسر أن يسمع بظروفه، لكن كبرياءه لن يسمح بقبول ما دفعه: مشكور على اللي سويته، بس أنا ماني محتاج صدقة.

ابتسم جاسر بسخرية يخالطها رضا: ومين قال إن ذيك كانت صدقة؟ كل اللي سويته هو واجبي.

رفع مالك حاجبيه: واجبك؟

أجاب لتصدم مالك إجابته: واجبي كجدك../ أشار للكرسي مرة أخرى: تفضل.. ورانا حكاية طويلة.

:

(مدري وين أبوك التقى بأمك، لكن اللي أعرفه أنه كان متمسك فيها وبقرار زواجه منها على الرغم من خطبته لبنت عمه. أندم كل يوم على طردي له من البيت، لأني أعرف طبع أبوك.. إذا الواحد قطعه بطريق، هو يقطع كل الطرق.. وهذاني اللحين التقي بحفيدي بعد عشرين سنة وأنا غافل عنه..)

قضى المسافة إلى البيت بغفلة عن العالم حوله، مفكرا بكلام من اكتشف أنه جده. لطالما تساءل عنه، عن جدته، عن الأعمام والعمات وأبناءهم وبناتهن. لطالما كانت عائلة أبيه وحياته السابقة لغزا محيرا لمالك، ليعطى إجابة هذا اللغز على طبق من ذهب وبدون أي جهد يذكر.

لم يجب دعوة جده الراجية إلى السكن معه وجدته، بالكاد يستطيع استعياب كل ما حصل.. عليه أن يكلم خالته أولا، فإخبارها واجب نظرا لسكنه في بيتها.. وبعض نغزات جده عنها زرعت فيه شكا..

لم تكن ردة فعلها تلك التي توقعها عندما أخبرها بلقائه هذا الظهر، فهي تجمدت بالكامل، ملامح وجهها اكتسبت حدة و غضبا لم يره من قبل: خليني أحزر.. يبغاك تعيش مع العيلة صح؟

أجابها بصدق: إيه../ ليسأل بحذر: خالتي.. تعرفينه؟

ضحكت خالته ضحكة مريرة: إيه أعرفه..

إجابتها تلك أصابته بخيبة أمل طاعنة: يعني كنتي تعرفين إنهم كانوا يدورون علي من سنين، وتدرين إن طول عمري أبغى أشوفهم.. ولسى..

رفعت صوتها، لحظة فقدت فيها السيطرة على نفسها: مايستاهلوا!

اغتاظ من ردها: إنتي ما خليتي لي فرصة عشان أحكم بنفسي..

هزت كتفيها: ما يحتاج. ليه يدورونك اللحين؟ أكيد لأنهم ما يبغونك جنبي، ولما سمعوا أن أمك توفت لقوها فرصة عشان يبعدونك عن نسبنا الردي./ ضحكت باستهزاء: نفسي أشوف كيف بيتصرفوا لما يعرفوا إنك مربوط بذا البيت.

صعق، فكلامها المبطن لم يحتج إلى تحليل كثير لمعرفة معناه: يعني زواجي من طيف..؟

تنهدت: لو كان عندي بنت كنت زوجتك إياها.. هي كانت الخيار الوحيد.

يذكر كيف كان إصرار خالته على زواجه من طيف، على إتمامه والاستمرار به غريبا.. فهو لم يرها تعامل طيف كابنة قط. الآن عرف السبب.. كانت تريده أن يتعلق بها، أن يؤسس عائلة قد لا يتفق أهل والده معها..

وهو وقع في الفخ بكل جدارة.

صدمة.. أن تعرف بتلاعب شخص تعزه بحياتك، أن تكتشف أنك كنت مسيرا كدمية في عرض عرائس في خطة شخص آخر.

قال بكبرياء يشتعل ليحرق كل فكرة منطقية بدرت إلى ذهنه: أنا موب مربوط فيك ولا بذا البيت!

هتفت خالته بغضب جامح: أجل بيتي يتعذرك يا ولد السامي.. لا تجي عندي لما تشوف إنهم ماراح ينفعوك!

لم ينتظر كلمة بعد ذلك، متجها إلى الملحق بهدف واحد أعماه عن تبعات ما هم بفعله. حزم أغراضه بعجلة هائجة، ليستوقفه ذاك الصوت خلفه: لا تطلقني.

التفت بصمت إليها، ليرى أن طيف لم تكن تنظر إليه بل إلى أغراضه المبعثرة: سمعت كل شي.. ما ألومك إذا تبغى تطلقني، بس مو اللحين، أبوي ما راح يتحمل الخبر.

فقط عندها انقشعت تلك الغيمة الحمراء الثائرة التي كانت تعميه، ليدرك أنه مع كل السخط الذي شعر به.. لم يفكر ولو بثانية بالطلاق من طيف. ردد: أبوك..؟

لتقول: زواجنا ريح أبوي من هموم كثيرة.. وإلى الله يأخذ أمانته..

لم تكمل، لكنه عرف قصدها بالكامل.

ربما كان من الأنانية أن يخيب ظنه، أن يفكر في نفسه "وأنا؟ فيه سبب ما تبغين تتطلقي مني.. وله علاقة في؟"

:

ودعها عند الباب، لم يحضنها هذه المرة، وربما كان ذلك للأفضل، فهي لم تكن واثقة من قدرتها على التماسك أمامه و منع نفسها من البكاء. لم تنظر إليه منذ أن سمعت مواجهته مع زوجة أبيها.

همس و أوجعها: انتبهي على نفسك..

كوداعه أول مرة سافر فيها، لكن هذه المرة تختلف، فهو لن يعود.

[انتهى البارت...]

الفيورا 01-08-17 04:53 PM

رد: عكس الرحيل
 
البارت هذا مخصوص لثريا، يمكن يشرح دوافعها، يمكن لا..

[7]

بداية النقطة السوداء في حياتها كانت عندما سُجن أبوها ظلما، ليطلق سراحه بعد سنين وفوات الأوان، فأمها ماتت حزنا عليه، والناس أصبحوا يعايروها هي وإخوتها بأبيها خريج السجون.

بين أختها مناهل الساذجة و أخيها مازن اللامبالي، كانت ثريا وحدها من تواجه ظلمة واقعها. تزوج مازن لتصبح أخباره شحيحة في الوصول إلى دارهم. ومن بعد مازن كانت مناهل. مازالت تذكر اعترافها الخجول ذات ليلة عن الذي جعل زياد السامي يطرق باب بيتهم خاطبا لاهفا.

(طحت من درج السوق قدامه..)

خمنت أن وجه أختها تكشف أثناء سقوطها، ليراه ذلك الزياد غفلة. ومن رأى أختها مناهل سيجن من جمالها. ربما تبعها إلى بيتهم، فالمسافة بينه وبين السوق الذي كانت تبتاع أختها حاجيات البيت كانت قريبة. قصة ظريفة، غير مطابقة لواقع ما تحولت حياتهما إليه.

تزوجا لتمنع ثريا من زيارة أختها الحبيبة، رفيقة الروح والدرب. سلبها زياد إلى عالمه المنعزل، كدمية جميلة تحمى من أعين الناس.

لكن ثريا كانت له بالمرصاد، ولم تهتم بالأسوار التي وضعها زياد، لا، فقد انتهزت كل فرصة تسنح لها لزيارة أختها حتى أصبحت قادرة على توقع الأوقات المناسبة لزياراتها. ولادة مالك جعلتها أكثر إصرارا على عدم السماح لزياد أو أي من كان بقطع صلتها بأختها، على رؤية ذلك الطفل الرائع يكبر أمام عينيها ليناديها (خالتي). لم تسمح بزواجها والظروف التي مرت بسببه بثني عزيمتها.

زواجها..

شعرت بالوحدة عندما رحل مازن ومناهل. أبوها المغبون الصامت كان وجوده كعدمه في البيت، مغلق على نفسه في غرفته.
عندما لمحت لها زميلة دراسة عن رغبتها بخطبتها لأخيها، لم تتردد ثريا بالموافقة. مر الزواج على خير في السنوات الأولى، بين تدليل وتعاطف أهل زوجها معها. ولدت ولدان، منصور و طلال. في السنة الخامسة بدأ زوجها فواز يتكلم عن الزواج مرة أخرى.

كانت تلك بداية النهاية.

إعترضت وهاجت لتفاجأ بالتغير الجذري الذي حصل لكل من حولها. أخذوا ودهم بالسرعة نفسها التي أعطوا، لتترك وحيدة مرة أخرى، مسلوبة الروح من خلال أخذهم لأطفالها.

لا تدري لم تزوجت بسلطان، لم تقبلته بتلك السرعة، لكنها فعلت ولم تندم. كان يختلف تماما عن فواز، أكثر هدوءا، أكثر بساطة وقناعة. ربما عيبه المؤلم، إذا أمر كذاك يمكن أن يقال عنه عيبا، كان ذكره العفوي لزوجته المتوفية، ليذكرها بوضعها السابق. ألم يكفي هاجس المرأة الآتية، ليلاحقها طيف إمرأة كانت؟

تلك الصغيرة، ابنة سلطان..كم ناسبها اسمها، فرؤيتها كانت كفيلة بجعل سلطان يتذكر.

تذكر ذلك اليوم الذي أبدت بشيء من الذي كان يسبح في ذهنها.

بدت طيف جميلة بفستانها الوردي المنفوش وبراءة محياها المضيء. ركضت إليها بكل السرعة التي تستطيع فتاة في الرابعة ركضها، لتسأل بابتسامة عريضة: كيف شكلي؟ بابا يقول حلو!

أرادت إجابتها بأنها توافق والدها بالرأي، لكنها سكتت، مشتتة الإنتباه بعشرات الذكريات المتدافعة إلى عقلها، عن قول سلطان أن ابنته كانت نسخة من أمها، عن مدحه الدائم لها.. عن زوجها السابق.. عن معايرته وإهانته لها قبل أن يطلقها..

لم تقصد قولها، لم ترد، لكنها فعلت: عادي.. ماني شايفة شي جديد..

فقط رؤية النور يخبت من عيون طيف أيقظها من غفلتها، لتدرك ما فعلت.. كسرت فرحة طفلة بثوب العيد.

لم تسنح لها الفرصة لتصحح ونست، لتتكرر مواقف مشابهة، ليتكرر شعور الذنب نفسه، إلى أن توقفت طيف عن سؤالها، إلى أن توقفت عن الفرح بتلقي مديح والدها.

تجاهلت ما يعنيه ذلك، إلى أن رجع بقول طيف المستنكر عندما عرضت عليها الزواج بمالك: .. ورى ما تخطبيله بنت تستاهل اجل، موب وحدة ما تطيقيها وقلتي عنها الف عيب؟

كان بوسع ثريا القول أنها لن تحصل على مرشحة أفضل لحظتها، لكنها فضلت الاتجاه إلى أمور أهم، كخطتها للإبقاء بولد أختها الوحيد جانبها وعدم السماح لأهله بأخذه بعيدا كما فعل والده بأختها.

:

ذعرت.. تعترف أنها ذعرت.

كانت خطتها تجري بأفضل ما يمكن. لم تتوقع مدى تعلق مالك الشديد بطيف، لكنها لم تمانع البتة.

المكالمات والتهديدات التي تلقتها من عائلة السامي منذ وفاة أختها نغصت عليها، لكن ثريا وجدت لها طريقة في التعامل. من حسن حظها أن زياد قطع علاقته بهم أيضا، لدرجة عدم معرفتهم بالكثير الكثير عن تفاصيل حياته. اضطروا مرات عديدة لأخذ كلمتها كحقيقة، كالمرة التي قالت إنها لا تعرف أين ذهب ابن أختها أو أي أخبار عنه. لا تدري من أين عرفوا أن لزياد ولدا في بادئ الأمر. لا يهم، فما دام أنهم لا يعرفون بسكن مالك عندها، اللعبة ما زالت مستمرة.

كان يجري كل شيء حسب منوالها، ليحطم مالك ذلك بإخباره لها أنه التقى بجده.

في ذعرها تفوهت بأشياء لم يكن من الحكمة البوح بها، أشياء أودت بطردها مالك من بيتها..

لم تقصد.. لم تقصد.. أليس ذلك بعنوان مناسب لحياتها؟

:

لم يقطعهم مالك بالكلية، فهو كان يتصل بشكل أسبوعي بسلطان الذي كان يظنه مسافرا للعمل كالمرة السابقة. زيادة على أنه كان يرسل لهم مصروفا نهاية كل شهر.

أجابها عن سبب فعله ذلك عندما ردت هي عليه بدلا من سلطان الملقى طريح الفراش من التعب والمرض: مو عشانك..

تسمع سلطان يجيب عن سؤاله عنه وعن طيف وحتى هي.. لتفكر "موب بابن أبوك أبد.."

تمر شهور ويزداد سلطان عتبا وعدم رضا على مالك لطول غيبته.

تمر شهور أكثر.. ويموت سلطان.

ما بال كل من تحب يرحل؟

غريب كيف أن طيف صارت ما منعها من الغرق بالهم، لأن الفتاة كانت تخطو غير واعية إلى هلاكها بحزنها على والدها.

كيف لم يخطر على بالها، شعور طيف حيال موت والدها؟ كيف لم يخطر لها انهيارها المحتوم؟ لطالما كان والدها أولويتها.. ألم تستغل ثريا تلك النقطة مرة؟

كفكفت عن دمعها لتهتم بطيف، لترجعها إلى الوقوف على قدميها مرة أخرى. اعتادت من تلك الفتاة الصلابة، ورؤيتها منكسرة كسرها، فطر قلبها وأدماه.

بوفاة سلطان، كانت ثريا المتلقية لمكالمات مالك اللاهفة القلقة كل يوم. يسألها أتأكل؟ أتخرج؟ أتدرس؟ أتنام؟ وربما كانت لتبتسم لو لم يكن الذنب يخنقها لسماع كل ذلك الحب بصوت ابن أختها.

ما الذي فعلته؟ كيف أمكنها فعله؟

لم تعد تظن أن لها الحق بوصل مالك، لم يغظها حتى معرفة أن عائلته أرسلته لإكمال دراسته في خارج البلاد أيام بعد أن غادر بيتها. كانت متأكدة أنهم كانوا يريدون إبعاده عنها بأقرب فرصة ممكنة.. ولا عجب.

تعافت طيف ببطء لكن بإصرار.. لطالما كان إيمان تلك الفتاة قويا. قضت وقت بكاءها وحزنها على والدها بالدعاء له.

لشهور، حرصت ثريا على إبقاء مكالمات مالك سرا عن طيف، ليس برغبة منها بل بسبب ابن أختها. لسبب ما، وصاها ألا تسمعها طيف تتكلم معه. لم تر ثريا المنطق في ذلك. لم لا يسأل طيف عن أحوالها مباشرة بدلا من السؤال عنها؟

لكن لابد وللإنسان أن يخطئ ويتعثر.. وأتى يوم سمعتها طيف تكلم مالك.

بدت طيف كما لو أنها تريد قول شيء، تعابير وجهها الحيادية لا تفصح عما كان في بالها، فأعطتها ثريا الجوال بترقب، لتتسع عيونها بتفاجئ مما تفوهت به: تقدر تطلقني اللحين.

أعطتها الجوال بدون انتظار رد وذهبت..

ربما بدا صوت طيف باردا خاليا من المشاعر، لكن ثريا رأت الألم في تعابير وجهها. كان واضحا حبها وعدم رغبتها بالطلاق.. إذا، لم أعطت مالك الإذن؟

كانت ستسأل مالك، كاسرة قوانين مكالماتهما، لكنه أقفل الخط.

:

سألته في اتصاله التالي: بتطلقها؟

أجاب ببرود: طبعا لا. هي ما طلبت.

قطبت ثريا حاجبيها: بس هي قالتلك إنك تقدر تطلقها..

رد: هذيك قلتيها. قالت أقدر، وما دام تركت لي الخيار، فما راح أطلقها.

شعرت بغضب من تحايله الواضح واختياره المركز على ما تعنيه الكلمات: يعني بتظل معلقها؟!

لم يفتها الألم والحزن الذي ظهر بصوته، مهما حاول إخفاءه: لما تطلب مني هي بطلق. غير عن كذا مافي. زي ما الخيار في يدي، الخيار في يدها.

:

تطلب مرضا أطاحها طريحة الفراش لتدرك ثريا شيئا..

اهتمام طيف بها، تنقلها من مستشفى لآخر بحثا عن علاج لها، عدم تركها لتصارع آلام المرض لوحدها.. كان تصرفا مغايرا لما توقعته. ليس هذا نص القصة التي دارت في بالها أبدا بعد وفاة سلطان.

توقعت عودة ابنيها لها، بحثهما عنها ووصلها بعد قطيعة سنين. توقعت ترك طيف لها للعيش مع أي فرد من عائلة والدها الذين عرضوا مكانا لها على مضض، مجبرين.

لكن صغيراها أصبحا رجلان لا يكترثان ولا يلقيان لها بالا. تركاها.. بينما طيف بقيت.

مسحت طيف عن دمعها، وعندها فقط أفاقت ثريا من غيبوبة شجونها. لم تسألها طيف عما أبكاها.. فقط ساعدتها على الجلوس وقالت: وقت دواك جا..

نظرت ثريا إليها كأنها أول مرة تراها.

تذكرت ما قالته لمالك مرة..

(لو كان عندي بنت..)

كانت مخطئة.

لديها ابنة.. لديها ابنة..

:

كانت مفاجأة عندما اتصل بها أخوها مازن بعد أسبوع من تعافيها ليخبرها أنه سيصطحبها إلى السكن في مبنى الشقق الذي يملكه. بالكاد سمعت أخباره، ظنت أنه لن يهتم، ليثبت لها أنها كانت مخطئة في هذا أيضا.

أجابها عند سؤالها: راحت أختي الكبيرة بدون ما أشوفها لسنين.. ما أبغى يصير نفس الشيء مع أختي الصغيرة.

باعت البيت ووضعت ما حصلت منه في حساب أسسته لطيف. في معمعة وضب أغراضهم والإنتقال إلى جدة، فقدت جوال طيف وجوالها، ومعه الرقم الدولي الذي كان يتصل منه مالك.

مهما حاولت، لم تستطع العثور عليه أو حتى تذكر الرقم.

:

سنين تمضي..

تنهدت: هذا ثالث خاطب أرده بذاك العذر..

لترد طيف ببرود: مو عذر، حقيقة. أنا متزوجة.

"وهاذي المرة العاشرة اللي أقول هالكلام..": نقدر نروح المحكمة ويصلحوا وضعك.. مو شرط نحصل خبر من مالك وحنا ما نعرف حتى وينه فيه ولا نقدر نتصل عليه.

ذلك الجدار الجليدي تصدع، كما يفعل كلما ذكر اسم مالك: أنا مو مستنية خبر منه..

لم تصدقها ثريا. كيف تفعل وهي ترى طيف مازالت ترتدي خاتمه بعد سنين؟

[انتهى البارت...]

الفيورا 01-08-17 04:56 PM

رد: عكس الرحيل
 
وهذي النقلة للقسم الثاني من الرواية، مقدمة صغيرة..

[8]

"الحاضر"

تململت مي بطريقة عهدتها طيف منذ بداية صداقتهم: ما صار شغل ذا.. يختي خذي إجازة وزوريني. خففي من وحدتي. لا تتركيني أقعد أعدد فالجدران!

ضحكت: وين زوجك عشان يخفف من وحدتك؟

تنهدت تلك بحالمية مبالغ فيها: حبيب قلبي يفرفر في أرجاء العالم. آخر مرة كان في موسكو. الله يهديه، في أحد يقبل يروح هناك في عز شتاهم؟

لم تتخيل طيف ركوب طائرة من مدينة لأخرى، فكيف بمن جعل التنقل على الطائرات عملا له؟ عمل زوج مي كطيار جعله دائم الغياب عنها، لذا لم تمانع طيف اتصالاتها قط، فعلى الرغم من المرح في صوتها، تعرف أن صديقتها كانت تشعر بالوحدة. تمنت لو تستطيع زيارتها حقا، لكن ظروف العمل المتوترة حاليا لن تسمح لها بالفرصة. تحتاج إلى هذه الوظيفة، حقا تحتاجها.

وعدتها بالاتصال حالما ترجع من دوامها، لتتجهز ليوم عمل جديد. استقلت سيارة الأجرة إلى مقر عملها، شركة الورد الذهبي للمستحضرات الطبيعية.

لم تكن تفكر بتفقد النوعية كأساس عمل لها بعد أخذ شهادتها، كان طموحها البحوث بعد نيل الماجيستير. لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. على الأقل، كانت مرتاحة في وظيفتها هذه.

ثمان سنوات مضت منذ انتقالها وخالتها إلى جدة، بعيدا عن الرياض وحياتهم القديمة والذكريات التي بعثتها. لا تستطيع القول بأنها كانت سعيدة مقارنة بالماضي، لكنها كانت مقتنعة. هذا ما إحتاجته، فالتعلق ببضع ذكريات سعيدة لم يفدها.

:

شركة الورد الذهبي كانت مقر عملها لسنوات طوال، وكرئيسة القسم النسائي فيه، تعودت لمياء على روتين يومي، و عملت على اتباع موظفاتها لذات الروتين.

لكن.. منذ أن بعيت الشركة، الأوضاع تغيرت، والذين يجب عليها إجابتهم أصبحوا ذوو نفوذ هائل.

توترت عندما رن الهاتف معلنا أن المتصل كان المشرف المرسل من قبل المجموعة التي اشترت هذه الشركة. أحكمت قبض يدها المجعدة على السماعة قبل أن تجيب. أتاها صوت رجل حياها باحترام ثم سأل، شيء ما لم تستطع لمياء تحديده واضح في صوته: خبريني عن الموظفة طيف سلطان الفياض..

لم تحتج لمياء للبحث في سجلات موظفاتها لمعرفة من كان يقصد. لم تكن هناك سوى طيف واحدة تعمل في قسمها الصغير، وكانت ذات تميز جعلت لمياء تلاحظها من اللحظة التي تقدمت إليها بطلب العمل.

طيف سلطان الفياض، خريجة كيمياء حيوية بامتياز. الموظفة التي فاقت كفاءتها نظيرها في القسم الرئيسي.

كانت طيف شابة هادئة خلوقة، تأتي على الموعد ونادرا ما غابت خلال الثلاث سنوات التي عملت في هذه الشركة. لم يكن فيها شغب وصخب الشابات الذي اعتادت لمياء على توبيخه بمودة.

إذا كان على لمياء اختيار موظفتها المفضلة، فهي دون شك ستختار طيف.

كل ذلك، قالته للمشرف، قلقة متوجسة. سمعت بالإشاعات التي تحاك عن تصفية الموظفين. هل ستبدأ تلك التصفية في القسم النسائي؟

شكرها وأقفل الخط دون توضيح غايته، تاركا لمياء لهواجسها.

مرت على مكتب طيف لتفقد أحوالها، لتراها غارقة في العمل. لا يبدو أنه تم الاتصال بها.. حتى الآن.

نبهها صوت طيف إلى سرحانها: في شي أستاذة لمياء؟

هزت رأسها بابتسامة حاولت أن تكون مطمئنة: لا، لا.. مافي شي. كملي شغلك.

الحقيقة أنه كان الكثير لم تخبر المشرف به، لم يكن من المناسب أو الصحة إخباره. فهي فكرت مرة بتزويج ابنها بطيف لتكتشف أنها كانت، وللأسف، متزوجة. لم يفاجئها ذلك، فزيادة على رزانتها وتفانيها، كانت طيف ذات جمال مبهر.. حتى لو لم تبدو بأنها تهتم بنفسها وتأنقها على الإطلاق. خسارة، بكل صراحة.

تساءلت ما الذي سيقوله لها ذلك المشرف، ذلك المعروف بكونه يد جده اليمنى، مالك السامي..

:

رن هاتف المكتب لترد عليه دون أن يشيح نظرها عن شاشة الكمبيوتر: نعم؟

لا جواب. قطبت طيف حاجبيها باستغراب: لو سمحت وراي شغل، فممكن تعجل؟

لا جواب مرة أخرى. هزت كتفيها وأقفلت الخط. من الممكن أن المتصل قد أخطأ.

:

يا الله.. هي! كانت هي!

لم يسمح نفسه بالأمل وهو يجري الاتصال، ظل متوقعا أن يخيب أمله كما كانت العادة لثمان سنوات طوال.. لكن اليوم حصل تغيير، حصلت معجزة! أفكاره التي كانت تضج في ذهنه تبخرت، ليبقى هو في حالة خدر جنونية إثر سماعه لذات الصوت الذي لاحقه في أعذب ذكرياته و أجمل أحلامه.

(لو سمحت وراي شغل، فممكن تعجل؟)

ثمان سنوات مضت منذ آخر مرة سمع فيها ذلك الصوت، ثمان سنوات ظل يبحث فيها عن صاحبته، وأخيرا، عندما بدأ يفقد الأمل، وجدها!

حتى لو كان صوتها جافا، باردا كالصقيع، لا زال فاتنا ساحرا، ربما أكثر.. تعلق بكل حرف نطقته، حلله وأعاده كشريط في باله وروحه.

فكر كيف كان محظوظا بتوليه إجراءات شراء هذه الشركة بالذات. استغرب في بادئ الأمر عندما كلفه جده بهذه المهمة، لكنه الآن لم يكترث. مجيئه لهذه المدينة، لهذه الشركة، جعله يصادف اسما امتلك كل عرق من عروق قلبه.

ابتسم مالك بذهول أسكره، هامسا لنفسه: أخيرا لقيتك يا طيف..

[انتهى البارت...]

الفيورا 01-08-17 05:00 PM

رد: عكس الرحيل
 
وبهذا أكون خلصت التنزيل لليوم. دمتم بود.. :)


الساعة الآن 03:10 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية