منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات احلام المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f457/)
-   -   201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t203642.html)

mymemory 25-02-17 05:00 PM

201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة )
 
رواية أغنية كي يرحل للكاتبة ليز فيلدنغ
من روايات أحلام رقم (201)


الملخص

في اللحظة التي اجتاز فيها غانون عتبة كوخها، فقدت دورا
ما منحها الله إياه من عقل....
ليس السبب في مساعدتها له خوفها منه، ولا وقوعها
أسيرة سحره المدمر... بل فقط من أجل الفتاة الصغيرة
المريضة التي يحملها بين ذراعيه!
لكن هل تخدع نفسها؟ إن رجلاً يختطف طفلاً، ويسرق
طائرة ويقتحم منزل صديق له ثم يحتجز زوجته، رجل
لا يعرف حدوداً ولا شيء يردعه...لا شيء سوى ظنه
بأنها زوجة صديقه ريتشارد

أرجو ان تنال إعجابكم

للامانه الروايه منقوله بس عجبتنى عشان كدا جبتهالكوا

mymemory 25-02-17 05:01 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
الفصل الأول


1- استراحة الهارب
شيء ما انتزع ((دورا )) فجأة من نومها العميق.لقد اخترق مسامعها صوت غريب ,متخللا أصوات الليل المألوفة في الريف .
كانت قد لجأت إلي الريف بحثا عن الراحة , لكنها بعد ضجيج لندن . وجدت الليلة الأولى التي أمضتها وحدها في كوخ ( ريتشارد ) و ( بوبي ) موحشة , رغم اعتياد أذنيها علي أصوات الريف المختلفة . وأدركت أن ما كانت تظنه في البداية سكونا تاما, ما هو في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الخافتة.
استلقت الآن في سكون تام, تستمع إلى مجموعة الأصوات الليلية المألوفة . خرير النهر الرقيق الذي لا يبعد عن بابها أكثر من مئة ياردة ,و انسياب مياه المطر من الميازيب ببطء ,والوقع الرتيب لقطرات المياه المتساقطة من الأشجار التي تتلقى انهمار المطر .
.
كان يخترق هذه الأصوات المائية صراخ بطة مذعورة من شيء ما.... أتراه ثعلب ؟ في المرة الأولى التي سمعت دورا فيها أصوات الليل الغامضة الغريبة, تجمد الدم في عروقها, لكنها الآن, بعد مرور أسبوع على وجودها في الكوخ و لم تعد تشعر بالجبن إلى هذا الحد.
نزلت من سريرها وأسرعت إلى النافذة, على أتم استعداد لقذف المقتحم بسبابها وما تصل إليه يدها.
لكن المنظر الذي تكشف أمام ناظريها , في تلك اللحظة , كان بروز القمر بين السحب , ليلقى الضوء علي حدبات البط النائم , و السكينة البالغة التي كانت تكسو ضفتي النهر .كان كل ذلك يدل علي عدم وجود أي مخلوق , و إن يكن ثعلبا .
وضعت مرفقيها لبرهة علي عتبة النافذة ,مسندة ذقنها علي راحتيها . ثم مالت إلى الأمام تستنشق هواء الليل المفعم بشذا أزهار العسل الجبلية الممتزج بشذا الورود . أخذت تختزن هذه الروائح التي كانت تمثل لها وطنها انكلترا , بعد ما واجهته من رعب يثير الغثيان في مخيمات اللاجئين.
و من بعيد , لمع البرق يتبعه هزيم الرعد المنخفض . ارتعشت (دورا ) وأغلقت النافذة وتناولت معطفها المنزلي الحريري , بعدما أدركت أنها لن تستطيع الخلود إلى النوم والرعد يقصف في الأجواء . قررت النزول إلى الطابق السفلي , حيث يمكنها أن تدير الموسيقى التي تغطي ذلك الضجيج . أما النوم فتستطيع العودة إليه في أي وقت تشاء .وهذه هي إحدى المزايا الكثيرة للوحدة , بما في ذلك رقم تليفون لا يعرفه سوى اقرب المقربين من الأسرة .
.
فتحت باب غرفة النوم وخرجت ... ستعد أولا كوب شاي وبعد ذلك ....
وإذا بها تسمع ذلك الصوت مرة أخرى , فأدركت إن الذي أيقظها لم يكن صوت رعد .
كان صوتا أشبه بالسعال...سعال خفيف لطفل صغير .... وكان قريبا كأنه آت من داخل الكوخ .
لكن ما هذه السخافة ! . فالكوخ يحتوي علي جهاز امن شامل كان صهرها قد ركبه بعد أن قام باحتلاله متشرد لفترة ما .ولن يتكرر ذلك مره أخرى مع أي لص عادي , كما أنها واثقة من أنها لم تنس أي نافذة مفتوحة . لكن , لعلها مخطئة !
مالت من فوق درابزين السلم متنصتة , فلم تلتقط أذناها سوى الهدوء التام .
أتراها تخيلت صوتا ما ؟ نزلت درجة .كان الكوخ يبعد عن اقرب طريق عام عدة أميال , وكان المطر يهطل بغزارة طوال المساء .ما من عاقل يخرج طفلا من بيته في هذا الوقت المتأخر , خاصة إذا كان الطفل مريضا . نظرت في ساعتها , لكن الظلام كان دامسا فتعذرت عليها الرؤية . لا بد أن الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير .
نزلت درجة أخرى. قد يكون الصوت صادرا من حيوان صغير فضاعفه سكون الليل العميق .ومع ذلك بقت مترددة في نزول السلم .
و إذا بهزيم الرعد يجلجل فترتد به العاصفة من فوق التلال . نسيت كل شيء وهبطت السلم بسرعة بالغة ولجأت إلى غرفة الجلوس .لكم ما إن مدت يدها إلى زر الإضاءة , حتى أدركت أن الرعد كان أخر مشاكلها . ارتدت يدها إلى فمها المنفغر من الذهول . انساب ضوء القمر من النافذة ليسكب الضوء علي طفلة صغيرة بان التعب علي وجهها الهزيل .
.
كانت واقفة في وسط غرفة الجلوس . وخيل إلى ( دورا) للحظة مخيفة أنها رأت شبحا . ثم سعلت الطفلة مره أخرى لم تكن (دورا )علي معرفة بهذه الأمور , لكنها كانت واثقة من أن الأشباح لا تسعل .
كانت الطفلة ترتجف تحت الدثار الرقيق الذي يلف جسدها , وكان شعرها الداكن الرطب مشعثا وقد التصق بوجهها الشاحب , كما كانت قدماها عاريتين تماما . بدت هذه الطفلة من التعاسة بحيث لم تر دورا مثلها خارج مخيمات اللاجئين .
جمدت في مكانها للحظة لا تدري ما عليها فعله . لم يكن الخوف ما شعرت به تحديدا , لكن الشجاعة خانتها جراء ظهور هذه الطفلة الغريبة بهذا الشكل المفاجئ وسط غرفة الجلوس في بيت شقيقتها . وبدت عيناها كبيرتين للغاية وسط وجهها النحيل وهي تحدق إلى ( دورا) , فشعرت بشيء ما يحمل علي القلق في جمود هذه الطفلة الحذر .
ثم استعادت فجأة حسها المنطقي السليم , وخطر لها أن ما من سبب يدعو للخوف .فهذه الطفلة بحاجة إلى دفء وراحة بغض النظر عن المكان الذي أتت منه . تقدمت منها و أخذتها بين ذراعيها , تضمها لتعيد إليها الدفء من حرارة جسمها .
اتسعت عينا الطفلة بخوف وصمت , وظل جسدها متصلبا . لكن (دورا) أخذت تخفف عنها كما تفعل مع أي مخلوق صغير خائف . وتمتمت بصوت لا يكاد يعلو عن الهمس (( لا بأس , حبيبتي , لا تخافي! حدقت الطفلة مجفلة ويد (دورا) تمر علي جبينها لترفع خصلات شعرها الرطبة . كانت بشرتها حارة وجافة , ووجنتاها متقدتين بشكل مرضي بالرغم من شحوبها .
يجب على هذه الطفلة أن تكون في فراشها ألان في ليلة عاصفة كهذه , بدل أن تهيم علي وجهها وتدخل بيوت الغرباء . كما أنها بحاجة إلى طبيب .
تمتمت (دورا) : (ما اسمك , يا حلوه ؟).
... وتركت ما تبقى من أسئلة إلى الوقت المناسب .خاصة ذلك المتعلق بطريقة دخولها إلى الكوخ .
.
حدقت الطفلة بها لحظة , وبصوت يجمع بين التأوه و الأنين , تركت رأسها يسقط على كتف (دورا) . كان وزنها خفيفا , و يعود في معظمه إلى الدثار المبلل الذي ألقت به (دورا ) بعيدا , ودثرت الطفلة بمعطفها الحريري . من تراها تكون ؟ ومن أين ....؟
بقي السؤال معلقا في رأسها عندما سمعت صوت ارتطام مفاجئ آت من وراء باب الغرفة , ثم تعالى صوت رجل يطلق الشتائم .
يبدو أن الطفلة لم تكن وحدها . وقررت ( دورا) فجأة , بعد أن تملكها غضب عنيف , أن تتحدث إلى هذا اللص الذي يخرج طفلة مريضة معه في مغامراته الليلية . و دون الاكتراث بالخطر المحتمل من هذا الضيف غير المرغوب فيه , فتحت الباب علي مصراعيه وأضاءت النور .
_ أي شيء ....؟
كان الرجل الدخيل واقفا أمام خزانة وفي يده مصباح , فاستدار وهو يطرف بجفنيه من النور المفاجئ , رافعا يده الممسكة بالمصباح ليظلل عينيه .
فرأى (دورا) وهتف قائلا : ( رباه , من أنت ؟)
تجاهلت (دورا) أن الرجل يفوقها طولا بكثير وقد بدا قادرا على رفعها بالسهولة نفسها التي رفعت هي بها الطفلة بين ذراعيها . و تجاهلت كذلك مظهره الرث كأنه أمضى أسبوعا ينام في العراء وأجابته بحده : (من الذي يريد أن يعلم ؟) .
تصلب الرجل أمام هذا الهجوم .
_ أنا ....
و فجأة انزل ذراعه التي كانت امام وجهه وراح يبتسم .
.
كانت شقيقة (دورا)تمثل في الإعلانات وعارضة أزياء مما جعل (دورا ) قادرة علي تمييز الابتسامة المهنية المتكلفة . رأت نوعا من الطيبة في هذا الرجل و هو يتقدم نحوها وقد بدا عليه الارتياح و الهدوء :آسف لم اقصد الصياح , لكنك أخفتني .
- أنا أخفتك ؟
نظرت إليه دهشة من هدوء أعصابة ثم تمالكه نفسها وسألته : (كيف دخلت إلى هنا ؟)
_اخترقت القفل بمثقاب .
اعترف بذلك بصراحة و دون ارتباك و هو يتأملها بفضول . وأضاف : (ظننت الكوخ خاليا ).
كيف يخترق القفل و يعترف بذلك باسما دون أبداء أي ذرة من الخجل أو الندم ؟ أن أي لص عادي كان سيلوذ بالفرار . وأحكمت ذراعيها حول الطفلة التي استقرت علي وركها ...و لكن اللص العادي لا يصحب معه أطفالا مرضي في مغامراته الليلية !
_حسنا المنزل غير خال,كما ترى , فانا اسكن هنا .
قالت ذلك متجاهلة تواجدها المؤقت هنا في غياب أختها .
.
عندما عرضت عليها (بوبي ) استعمال الكوخ أثناء غيابها هي وريتشارد ,طلبت منها التصرف كما لو انه بيتها لكن الرفاهية تصحبها المسؤولية . و ها هي ذي ( دورا ) الآن ترى أن الوقت قد حان لكي تضطلع بالمسؤولية بشكل جاد .وهكذا , حملقت إلى هذا الدخيل , رافضة التأثر بما كان عليه هذا المتشرد الفارع القامة , ذو الابتسامة المتقنة , الذي يبحث بلا ريب عن مكان جاف يبيت ليلته فيه .
كررت قولها ( أنا اسكن هنا , ولا اؤجر غرفا سواء كان ذلك باجرة أم لا , لهذا , من الأفضل لك أن ترحل )
تلاشت ابتسامته فجأة : ( سأذهب حين أصبح مستعدا لذلك و .....)
فقاطعته : (قل ذلك للشرطة . فسيصلون إلى هنا في أي لحظة الآن .)
وحين علا صوتها , تصاعد بكاء الطفلة بشكل واهن متألم جعل (دورا) تلتفت إليها و هي تحتضنها برفق وتملس على شعرها .
_ماذا تفعل في الخارج مع هذه الطفلة المريضة , وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ كان يجب أن تكون في السرير .
هدأت الطفلة تحت لمساتها .
.
-سأضعها فيه تحديدا بعد أن اسخن لها بعض الحليب ....
قال ذلك بتوتر , مثبتا بذلك شكوكها . و أشار برأسه إلى علبة حليب كرتونية موضوعه علي المنضدة , وأضاف : ( لم أتوقع ان أجد أحدا هنا )
_سبق أن قلت هذا .
تجاهلت (دورا ) صوته الذي بدا متناقضا مع بنطالة الجينز الممزق والملون بالوحل , وكنزته القذرة التي تعلوها سترة جلدية لا بد أنها كلفته مبلغا باهظا , لكنها الآن باتت بالية من خشونة الاستعمال . يظل المتشرد متشردا و إن تحدث بلكنة تلامذة المدارس الخاصة .
_أظنك كنت عازما علي البقاء دون إذن مسبق .
بدا الضيق علي ملامح الرجل و هز كتفيه : (لا , طبعا . إن (ريتشارد ) لا يمانع في مكوثي هنا لعدة أيام .
-ريتشارد !
وارتفع حاجباها لدى تلفظه باسم صهرها بكل حرية .
_اعني (ريتشارد ماريوت)صاحب هذا البيت .
_أنا اعرف من هو ( ريتشارد ماريوت ). وأرجو المعذرة أن خالفتك الرأي بالنسبة إلى ردة فعله .فانا اعلم رأيه السيئ في مقتحمي البيوت عنوة .
بدا المرح علي وجه الرجل الدخيل عند سماعها وأجابها : (إلا إذا كان هو الفاعل ...فهو الذي علمني كيف ادخل إلى هنا ).
قال ذلك محدقا في عينيها في تحد فقالت باحتجاج : ( يستعمل ريتشارد مهاراته لاختيار أجهزة الإنذار وليس لاقتحام البيوت ).
.
_هذا صحيح .
اخذ (غانون) يتأمل المرأة الشابة التي كانت تتحداه بإصرار . فهي إما مجنونة , وأما أكثر خشونة مما تبدو عليه بكثير . كانت ترتدي قميص نوم من الساتان , ملتصقا علي جسدها بشكل مثير . أما المعطف الذي كان بإمكانها ستر نفسها به , فقد أحكمت لفه حول (صوفي)ليدفئها . حسنا , أن اشد النساء قساوة لهن نقاط ضعف . وهو أمر وجد نفسه هذه المرة فقط مرغما علي استغلاله لمصلحته . تقدم خطوة إلى الأمام. لكنها لم تتراجع , بل بقيت في مكانها و أخذت تحدق إليه . فقال : سأخذ (صوفي ) .
و إذا بالاهتمام يتوهج في عينيها بدلا من العداء . اخذ يقاوم شعوره بالذنب لما كان يوشك علي القيام به , لكن ابنته كانت في حاله لا تطاق و سيبذل كل ما في وسعه في سبيل سلامتها .
_تأخذها ؟
_لقد طلبت منا الذهاب .
ومد يديه إلى الطفلة , لكن (صوفي) شعرت بالانزعاج و أخذت تتذمر من النعاس بينما اخذت المرأة بها إلى الخلف و هي تضمها إلى صدرها , تؤنبه بحيرة ( لا . لا يمكنك إخراجها . إن حرارتها مرتفعه .)
_حقا؟ ووضع يده علي جبين الطفلة ثم هز كتفيه مذعنا ( قد تكونين علي حق . فقد مرت بأيام صعبه .)
ثم وضع يديه برفق تحت إبطي الطفلة كأنه يريد حملها , و قال ( لكن لا تقلقي , سنتدبر أمرنا بطريقة ما)
شعرت ( دورا) بقلبها ينفطر , وتبدى علي وجهها الصراع الداخلي الخاطف الذي أظلمت منه عيناها . كانت تريده أن يذهب , لكن ضميرها منعها من إخراج صوفي في مثل هذه الليلة الهوجاء . ثم قالت بعد أن انتصر ضميرها ( يمكنك أنت الذهاب , لكن ليس هي . أظنك كنت تريد تسخين بعض الحليب لها ؟)
.
نظر إلى علبة الحليب الكرتونية علي الخزانة إلى جانب زهرية تحتوي علي أزهار ذابلة حسنة التنسيق , علقت بقربها سترتان رثتنان علي مشجب خشبي .
كان المكان , في المرة الأخيرة التي زار فيها هذا الكوخ , عبارة عن غرفة صغيرة . لكنه الآن أصبح منزلا أنيقا من الحجر المتوج بالقرميد .
ارجع نظره إلى المرأة الشابة متوقعا , أن تطلب منه البقاء في أي لحظة , لأجل الطفلة . لقد آن الأوان لتذكيرها بأنه صديق ريتشارد . علق مصباحه اليدوي علي خطاف خلف الباب حيث وجده . كان هذا , علي الأقل , ما لم يتغير منذ رحلة الصيد تلك ... ثم التقط علبة الحليب ...
_نعم , هذا صحيح .
و أشار إلى الخزانة المفتوحة التي تحتوي علي الأحذية بدلا من المقلاة وغيرها من الأواني المماثلة التي كان يبحث عنها .
_كنت في الواقع ابحث عن قدر صغير لتسخين الحليب حين أقلقت راحتك . ماذا حدث للمطبخ ؟ ومتى ركب ريتشارد مولد الكهرباء ؟
أجابته (دورا) باختصار ( ليس هذا من شانك ).
بات واضحا لها الآن سبب تفحص الرجل للخزانة في الظلام , إذ لم يخطر له أن يبحث عن زر مصباح كهربائي . لربما رأى الكوخ من قبل , لكن ليس في ألاثني عشرا شهرا الماضيه لكن ذلك لا يعني أن ادعاءه معرفة ريتشارد أثار اهتمامها . إن أي شخص قريب من هذا المكان يعلم أن هذا الكوخ ملك لريتشارد ماريوت . ثم ما أهمية ذلك ؟ انه ما يزال مقتحما له .
قالت : ( لم اعرف اسمك ).
_جون غانون.
.
مد يده ليصافحها حسب العادة , كأنهما في حفلة كوكتيل وليس في مواجهة غريبة بعد منتصف الليل , كان ينبغي خلالها أن يكون منكمش بسهولة , بل العكس . فقد راحت عيناه تطوفان بإعجاب علي شعرها المشعث فوق المعطف الحريري المنسدل , و أظافر أصابع قدميها المطلية باللون الوردي . ثم نظر إلى وجهها , وقطب جبينه قائلا : ( هل تقابلنا من قبل ؟) .
لقد قابلت العديد من الناس حين عادت من البلقان . فكان الغرباء في الشارع يتحدثون إليها و الصحافيون يسعون وراءها ليكتبوا عن (تلك ) التي تركت عملها الاجتماعي لكي تقود شاحنات الإغاثة عبر أوروبا . إن اكتشف هويتها سيعرف أن الحظ حالفة لثقته برهافة إحساسها وطيبة قلبها . إن الحاجة إلى الهرب من هذا كله هي التي دفعت (دورا) للجوء إلى الكوخ فما الفائدة الآن من إثارة الموضوع ؟ من الأفضل إلا يتذكر أين رآها من قبل . لذلك تجاهلت يده الممدودة إليها . لم تكن تريد التزام التهذيب مع مجرم اقتحم بيت شقيقتها , رغم رقة صوته وعينية البنيتين وذقنه المشقوق بشكل جذاب , و إن كانت لم تحلق منذ أيام . كانت العينان البنيتان تطوفان بكل حرية علي تفاصيل جسدها . وبما أنها كانت تحمل الطفلة بين ذراعيها , لم تستطع التحرك بحرية لارتداء معطفها . لكنها عندما لاحظت عينيه المحدقتين في أظافر قدميها الوردية , أرجعت قدميها إلى الوراء وحجبتهما عن النظر وقالت : ( ليس الوقت مناسبا للتعارف ) .
أجابها بمرح باد على وجهه ( هذا صحيح . سأحاول بشكل أفضل ).
_لا تزعج نفسك .
.
فقال و هو ينظر إليها بتأمل (ليس من عادتي اقتحام البيوت عنوة . لكن من أنت ؟) .
حاولت (دورا) جاهدة كبت رغبة تملكتها في الاستفسار عن عاداته , وسألته : هل يهمك من أنا ؟ هز كتفه : ( لا أظن ذلك . لكن اسمحي لي بان أقول انك تعتبرين تقدما كبيرا بالنسبة إلى ما كانت علية إليزابيث . فهي ما كانت لتضيع وقتا على عمل تافه مثل طلاء أظافر القدمين .)
يا له من رجل قليل التهذيب . لم يكفه اقتحام البيت عنوه , بل اخذ يغازلها . ومع ذلك , بدأت تتقبل تدخله بحياة صهرها الخاصة . سألته مستفهمة ( إليزابيث ؟) .
-إليزابيث ماريوت , زوجة ريتشارد . تلك المرأة التي تنقصها المخيلة . ذلك النقص الناتج عن جشعها , والدليل علي ذلك تخليها عنه لأجل صيرفي .
_صيرفي؟
_اعني صاحب بنك , وليس الصراف الذي يجلس خلف المنضدة . لم أظن قط انه سيبيع بيته .
-ما الذي جعلك تظن انه باعه ؟
نظر حوله : هذا النوع من الأغراض لا يلائم ذوقه .
ابتسمت (دورا) بدورها : ربما أنت لا تعرفه جيدا كما تظن .
ألقى عليها نظره أخرى متأمله , ثم هز كتفيه : هل اسخن الحليب ؟ أم تسخنينه أنت ؟ أرى الأشياء كلها قد نقلت من مكانها .
لم يرد بذلك أن يريحها من حملها. بل وجد أكثر عرضه للإقناع وهي تحمل ( صوفي) بين ذراعيها .
-المطبخ من هناك.
.
نظر غانون حوله. كانت الألوان دافئة بلون الأرض . فقال وهو يمد يده إلى قدر نحاسية ويضعها بجانب الموقد : ( لقد توسعتم إلى داخل المخزن . هل بات كل شيء الآن بهذا الشكل ؟ )
_بأي شكل ؟
_بشكل الذي يحاكي ما نجده في مجلة (طراز العصر) .
_ أنا لا اقرأ أي مجلات من هذا الطراز . لهذا لا يمكنني الحكم .
لم يكن بالطبع في نية (دورا ) الخوض في حديث عن الديكور الداخلي مع لص وضيع . لكنها راجعت نفسها ... فالرجل من الارتياح و الرضا بحيث لا يمكن وصفه باللص الوضيع . أخذت تحملق إليه , لكنه لم يتأثر بذلك علي الإطلاق . بل هي التي كانت تبذل جهدا كبيرا لمواصلة التحدي . حولت نظرتها إلى الطفلة , وسألته : (هل قلت إن اسمها صوفي ؟ و هل هي ابنتك ؟).
_نعم
استدار ليسكب بعض الحليب في القدر . قالت بإلحاح : ( وهل تعلم أن حرارتها مرتفعه ؟)
_سبق أن ذكرت هذا .
_يجب أن يراها الطبيب.
_لدي بعض حبات من المضاد الحيوي لأجلها . كل ما تحتاجه ألان هو غذاء جيد وراحة تامة .
_هل هذه هي طريقتك في توفير هذا لها ؟ يجب أن تكون هذه الطفلة ألان في البيت مع أمها , وليس مع جوال يطوف بها الأنحاء في منتصف الليل ....
.
قاطعها قبل أن تقول رأيها في نوع الجوالين الذي ينتمي إليه هو , وألقى عليها نظرة جانبية تظهر جهلها بما تتحدث عنه : ( أهذا ما تظنينه ؟ ) .
من المحتمل أنها تجهل ذلك . لكن ما تعرفه جيدا أن علي (صوفي ) أن تكون ألان في بيتها . وعادت تنظر إلى الطفلة المرهقة التي توشك أن تستسلم للنعاس . كان من السهل أن تصعد بها ( دورا ) إلى غرفة نومها و تضعها في سريرها الدافئ . سألته ,وهي تقاوم بصعوبة الرغبة في القيام بذلك : ( كيف تعرفت إلى (ريتشارد ) ؟) .
_ كنا في مدرسة واحدة .
-حقا ؟
-حقا.
لم تكن (دورا ) تعلم تماما ما عليها توقعه . ربما تعارفا عن طريق عمل (ريتشارد) في مجال الأمن . أما أن يكونا في المرتبة نفسها , فهذا أمر يستدعي إعادة النظر فيه , لكن في المدرسة ! (ألما ميتر ) نفسها حيث يتعلم أولياء العهود . سألته مشوشة الذهن : ( من المؤكد انه يكبرك سنا ؟).
_بثماني سنوات أو ما شابة . كان هو صبيا من التلامذة القدماء بينما كنت أنا من تلامذة السنة الثانية الذين راحوا يرمونني بالكلمات الجارحة حين اكتشفوا أن أمي لم تكن متزوجة . لا أظن أن ذلك يحدث كثيرا هذه الأيام .
قالت وقد صعب عليها تصور هذا الرجل صغيرا عاجزا : ( لا . هل آواك ريتشارد تحت جناحه ؟)
_إن من طبعه حماية الضعفاء .
نظر إليها متسائلا (اعتقد أن ريتشارد يكبرك كثيرا . ما الذي يفعله لأجلك ؟ ) .
_أنا ؟
أضاف و هو ينظر إلى الإصلاحات المكلفة : ( لا أظنه يتحمل كل هذه المشقة ليؤجر البيت فحسب , فهل آواك أنت أيضا تحت جناحه الرقيق أم .....) .
كادت توضح له بسخط انه متزوج من أختها التي تكبرها بسبعة أعوام و حين قاطعها طرق حاد ومتكرر علي الباب الخلفي .
.


mymemory 25-02-17 05:31 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
الفصل الثاني


2- جرس الإنذار
تصلب جسم غانون , واخذ يحدق باتجاه الباب الخلفي قبل أن يحدجها بنظره عنيفة متسائلة .

-لا بد أنها الشرطة .
لم تصدق ما أحست به من شعور بعدم الارتياح لفكرة تسليم غانون للشرطة .
_الشرطة ؟
_سبق أن أنذرتك بذلك .
كان هذا صحيحا , لكنه كما يبدو لم يأخذ ذلك علي محمل الجد . لكنها عادت لتقوم مسار أفكارها ,لقد اقتحم البيت ويستحق السجن .
_لم يكن هناك جرس إنذار .
-ليس هناك بالطبع صوت جرس . فريتشارد لا يؤمن بمنح اللص فرصة الهرب ليتمكن من اقتحام بيوت أخرى .بل يفضل القبض عليه بالجرم المشهود .كنت أظنك تعلم ذلك ...ما دمت صديقة .
جرس إنذار ! تملك غانون الغضب من نفسه . لم يخطر قط بباله أن لهذا المكان جرس إنذار , حتى انه لم يزعج نفسه بالتأكيد من ذلك , بالرغم من القفل الجديد الغريب الشكل . لكن , من ذا الذي يضع جرسا في قفل على باب كوخ صيد مهجور ؟
.
لكنه لم يعد كوخ صيد مهجورا . بل استحال بيتا دافئا محترما تقطنه فتاة ذات وجه ملائكي , و هدوء أعصاب سمحا لها بمشاغلته بالحديث إلى أن تصل الشرطة , في حين ظن هو انه يتحايل عليها .... و قبل أن تتحرك , تقدم منها ليأخذ (صوفي ) . كان يشكو من الم في ضلوعه , لكن الوقت لم يكن ملائما الآن للاكتراث بذلك . قال متجهما :
_اعذريني إن لم ابق لمتابعة الحديث , أظن أن الباب الخلفي ما يزال في موضعه ؟.
تملك (دورا )القلق فقالت :
_لا يمكنك أن تخرج (بصوفي) في هذا الجو .
و أتى وميض البرق ليثبت كلاهما , بينما راح المطر يصفع النافذة من جديد . فتحول قلقها إلى تصميم :
_أنا أمنعك من ذلك .
لو كان الوضع مختلفا , لسخر منها , لكنه قال :
-حقا ؟ وكيف ستمنعينني ؟
_هكذا.
ووقفت حائلة بينه وبين الباب . أعجب غانون بشجاعتها , لكن الوقت الآن لم يكن للألاعيب . فلف ذراعه الأخرى حول خصرها ورفعها ليبعدها عن طريقه .شعر بألم حاد بين ضلوعه . ترنح قليلا وهو يضعها على الأرض .
-آه ,رباه ,إنك مصاب !
ورأته يميل متكئا إلى الجدار ينتظر سكون الألم ,فقالت :
-اسمع ,لا تقلق, سأتخلص منهم .
سألها بخشونة :
-حقا ؟ و لماذا تفعلين ذلك ؟
-الله اعلم .لكنني سأفعل . ابق هنا هادئا .
حدق بها وهي ترفع كتفيها , مهتزة عند الوركين , لتثبت قميص نومها جيدا .فكان لحركتها اثر مؤلم على ضلعيه المصدوعين .أنها على حق .لن يتمكن من الذهاب إلى أي مكان بسرعة كافية تؤمن له النجاة .
-مهما قلت لهم , سيدتي , لا تحاولي أن تبدي ماهرة أكثر مما ينبغي .
-ماهرة ؟أنا؟
افتر ثغرها فجأة عن ابتسامة عريضة وقالت:
-لا بد انك تمزح .لست سوى شقراء غبية ,عادية تماما .
.
شقراء ,هذا مؤكد , لكن عادية ؟ من الصعب أن ينطبق عليها هذا الوصف .غبية ؟ إطلاقا ! وعندما استدارت ,تعالي الطرق مرة أخرى .
قال بنبرة آمرة هادئة و هو يقف عند باب المطبخ لا يعرف إن كان عليه أن يثق بها :
-حاذري مما تقولين.
التفتت إلى الخلف . كان (غانون) و (صوفي) واقفين في باب المطبخ وقد وضع يده في جيبه يتحسس بأصابعه سلاحا خفيا . هذا غير صحيح . انه يخيفها فقط .... ربما عليها أن تخاف أكثر بكثير مما كانت تشعر به فعلا .

mymemory 25-02-17 05:32 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
ابتلعت ريقها بتوتر , واستدارت تفتح الباب بقدر ما يسمح به السلسلة . كان الشرطي الشاب الواقف أمامها شابا فتيا . خطر لها أن فكرة تقييد هذا الشاب لرجل مثل غانون وجره إلى المخفر سخيفة للغاية ومستحيلة . هذا إن كانت مقتنعة بالفكرة تلك . فلا بد أن هذا الرجل البائس سيذهب حالما يرتاح . كما كانت واثقة تماما انه سيوافق على ترك (صوفي) هنا إذا رأى أنها في أيد أمينة . سألها الشرطي الشاب :
-هل أنتي بخير, سيدة ماريوت ؟
يبدو انه ظنها (بوبي) شقيقتها . فكرة في تصحيح خطئه , لكنها امتنعت من ذلك .فهي تريده أن يرحل في أسرع وقت ممكن , وسيبطئ ذلك من سير الأمور .
_بأتم خير , لماذا ؟ ما الأمر ؟
_لا اعرف . لكن الشركة التي تتولى امن المنزل أبلغتنا أن جرس الإنذار لديك يقرع .آسف إن تأخرت في القدوم , لكننا خرجنا لتفقد الأنحاء بسبب العاصفة .
جاهدت للحفاظ على ابتسامتها لكي لا تظهر على وجهها سوى دهشة خفيفة . وتابع :
-لقد ألقيت نظرة حول المكان . وبدا لي كل شيء أمنا.
ثم رفع الشرطي بصرة :
_كما أن مصابيح جهازك الأمني لا يعمل .
_لا , فقد أطفأتها .
انبت نفسها لحماقتها . فلو أنها تركتها مضاءة لردعت زائرها غير المرغوب فيه . لكن, أين عساها تكون (صوفي) الآن لو أنها فعلت ذلك ؟
.
قابعة تحت إحدى الأشجار وقد بللها المطر تماما, لتصبح هدفا ممتازا ؟ لالتهاب رئوي ...مدت يدها و أدارت مفتاح النور. و سرعان ما غمر الضوء كل المنطقة حول البيت إلى مسافة مئة قدم , فظهرت سيارة البوليس المتوقفة على بعد ياردات قليلة .
_بإمكان هذا الضوء أن يكشف أي شيء اكبر من فار بقليل . و هذا الأمر يرهق أعصابي المتعبة .
ضحكت من حماقتها وحرصت على تجنيب صوتها أي نبرة تأكيد أو تشديد على أن لا تتفوه بكلمة أو تقوم بشيء يثير أعصاب الرجل القابع خلفها , ويحمله على الهرب (بصوفي) في ظلمة هذا الليل . لم تكن أعصابها تبدو بمثل هذه التلف, و مع ذلك لم تكن راغبة بترك شيء للظروف .
-هل تريدينني أن ادخل معك و أفتش المكان , للتأكد فقط ؟
تقدم خطوة إلى الأمام , لكنها لم ترفع السلسلة عن الباب :
_لا داعي لذلك في الواقع .
_ليس في الأمر إزعاج لي ....
و إذا بصوت زميلة يناديه من السيارة :
_(بيت ) إن كنت قد انتهيت , تعال حالا . تلقينا استدعاء آخر.
_سأوافيك حالا .
وعاد (بيت) إليها : (كما سبق أن قلت لك , لا بد أن البرق هو الذي أطلق جرس الإنذار , سيدة ماريوت ....لدينا حالة أخرى .
_يا لها من مشقة لكم . آسفة جدا لان رحلتكم ذهبت سدى .
_ما من مشكلة . لكن حاولي أن تتفقدي جهاز الإنذار في الصباح . كذلك دعي المصابيح مضاءة . إن ذلك يجعل اللصوص يفكرون مرتين قبل القيام بشيء .
لقد فات الأوان لذلك .
-سأفعل . شكرا لقدومك.
_انه واجبنا .تصبحين على خير سيدتي .
.
لم تكن تصدق أنها تتركه يذهب . ما هذا الذي تفكر فيه ؟ عليها أن تناديه ليعود ...
_أغلقي الباب سيدة ماريوت .الآن .
كان صوت (غانون ) يكاد لا يسمع في الناحية الأخرى من الباب . لقد فات الأوان . أغلقت الباب , ثم استدارت تستند إليه وقد وهنت ساقاها . يا لغبائها !
_لا اصدق أني فعلت ذلك .
_لا تقلقي ّ! فقد مثلت دور الشقراء الغبية بشكل يجعل الغلام المسكين يقتل نفسه و هو مندفع لتفقدك حالما يسمح له البرق وجرس الإنذار بذلك . علي فقط أن اعتمد على كونك زوجة محترمة , تعيده سريعا إلى عمله .
زوجة ؟ بقيت (دورا) لحظة لا تدرك ما الذي يتحدث عنه (غانون) . ثم خطر لها سريعا انه تبنى خطا الشرطي الشاب . حملقت إليه قائلة :
_أليس على أي زوجة محترمة أن تفعل ذلك في مثل هذه الظروف ؟
من تراها تخدع ؟ في مثل هذه الظروف , يتوجب على أي زوجة محترمة أن تصرخ حتى يتصدع بنيان البيت ... لا أن تقدم للص الراحة و الطمأنينة المنزلية .
-سنرى . إن كنت حقا صديقا طيبا لريتشارد , فما سبب يجعلني أخاف.
أخذت تحدق إلى يده التي لا تزال في جيبه و أضافت :
_أليس كذلك ؟
سحب يده بحذر من جيبه ,مخرجا البطانة معها ليريها انه كان خاليا تماما , وقال :
_لا , سيدة ماريوت لا شيء على الإطلاق .فضلا عن أنني أتوقع أن يخنقني ريتشارد بيديه إن آذيتك .
الحقيقة هي ؟ أن ضلوع (غانون) , تذيقه العذاب , وقد ناءت كتفاه بثقل (صوفي) فلم يعد يقوى على طرد ذبابه . كما انه لم يشأ أن يخيفها , فكل ما كان يريده هو عونها .
لم تكن (دورا ) تتوقع أن يكن (ريتشارد ) مثل هذه العواصف المشبوبة لأختها , لكنها كانت تعرف تماما ما قد يفعله بأي شخص يفكر في إيذائها .
.
و بما أن هذا المقتحم قد تبنى خطا الشرطي , فهو ألان يعتقد أنها زوجة ريتشارد . حسنا . إن كان اعتقاده هذا سيبقيها آمنه منه . فهي لن تكشف له خطاه .
_أتظن أن هذا متوقع ؟
تقابلت عيناه بعينيها لحظة , متقبلا تحديها , و إذا بملامحه تسودها الرقة التي تمثلت بابتسامة غريبة بجاذبيتها , ما جعلها تحبس أنفاسها .
_لا ليس متوقعا , سيدة ماريوت , بل أكيدا .
ابتلعت ريقها :
_يسرني انك تدرك ذلك, و ألان, إن كنت ستبقى, أليس من الأفضل أن تعطي صوفي الحليب ؟
نظر إلى الطفلة, لكنها تغط في النوم على كتفه, فهفا قلب دورا إليها.
_يا للمسكينة ! اسمع, لماذا لا تصعد بها إلى غرفتي و تضعها في سريري؟ سأحضر لك الحليب, فمن المحتمل أن تستيقظ.
اتسعت ابتسامته قليلا :
-مع إعجابي بمبادرتك هذه و شكري للطفك, إلا أني أفضل ترك أعطاء الأوامر لي أنا, و لك تنفيذها. فهذه الطريقة تزيد من شعوري بالأمان .
ابعد صوفي برفق عن كتفه, ثم وضعها بين ذراعي دورا برقة فائقة و هو يرفع عن وجهها خصلة من شعرها. لم تتحرك, عند ذلك رفع بصره و نظر إلى وجه دورا المتأمل.
_ربما أرسلت الشرطة بعيدا لقضاء أعمالهم, لكني واثق من انك مصممة بلا ريب على استدعاء قوي من نوع آخر عبر التلفون.
.
لم تكن قد فكرت لحظة في التلفون ... ولا يعني ذلك أن الفرصة سنحت لها لاستعماله . حسنا ربما يبالغ في تقدير طاقاتها الفكرية, لكن الوقت لم يفت بعد للقيام بذلك. فشقيقة ريتشارد تعيش مع زوجها بالقرب من الكوخ . وهم يعرفون تماما ما يتوجب عليهم فعله في ظرف كهذا. ابتسمت له تقديرا لمهارته و قالت:
_قد تكون على حق . أظنك تريد فصل التلفون ؟
فكر في الأمر فهو سيحتاج إلى التليفون إن أراد أن يسوي أوراق صوفي , لتصبح قانونية أمام السلطات , لكنه لن يتمكن من القيام بذلك الليلة . ثم انه لا يعرف طبيعة هذه المرأة لكي يجازف بترك التليفون موصولا . فقال :
_أظنني سأفعل .
فقالت و هو يكسب الحليب في الفنجان:
_إنه في غرفة الجلوس, و أرجوك أن لا تتلف الجدار عند انتزاعه, فقد تم وضعه حديثا.
_احضري لي مفكا للبراغي و سأعيد وصله قبل ذهابي . هل يوجد أي ملحق له في الطابق الأعلى ؟
_لا , و إن كنت واثقة من انك تفضل التحقق من ذلك بنفسك .
-آه , نعم , سأتحقق .
افتر ثغرة فجأة عن ابتسامة عريضة أظهرت الخطوط العميقة في وجنتيه.
وتألقت عيناه البنيتان بومضات ذهبية . وارتفعت زاوية فمه , كأن السخرية طبيعة ثانية فيه .
_كما أني أتفهم عدم رغبة ريتشارد في وضع جهاز تليفون في غرفة النوم .لو كنت زوجتي لما فعلت ذلك ,حتى على بعد عشرين ميلا حول بيتي .

mymemory 25-02-17 05:34 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
كان من عادة دورا أن توقف أي مغازل عند حده بكل سهولة. لكنها شعرت بالعجز أمامه و بالتخبط لتشكيل جواب مناسب. إذا لم تشعر بالقوة مع رجل مثل غانون قد يفعل أي شيء لكي يحقق ما يريد .
_من حسن الحظ أنني لست زوجتك .
جاهدت للحفاظ على قدر من البرودة, لكنها عجزت عن إخفاء نبرة الانفعال وعدم الاقتناع التي غلبت على صوتها. حاولت مرة أخرى :
_فكر كم يكون الأمر مزعجا دون تليفون .
-أن تكوني معي , دون مقاطعة , سيدة ماريوت و هو أمر يستحق كل ذلك الإزعاج .
كم هو حاذق في إعطاء الدروس في هذا الموضوع ! لقد مضى وقت طويل منذ استطاع رجل أن يجعلها تحمر خجلا.لكن الاحمرار الذي كسا وجنتيها كان واضحا.
باتت واثقة ألان من أن لا نية لدية لإيذائها. لكنه لا يزال رجلا خطيرا. في كل مرة كان يدعوها بلقب السيدة ماريوت , وتتقبل هي سوء الفهم هذا , كان يعني أنها تكذب عليه , إلى أن قالت له :
_لا تدعني بهذا الاسم , من فضلك .
.
رفع عينيه مدهوشا :
_لم لا ؟ أليس هو اسمك ؟
لم تؤكد له ذلك ولم تنكره أيضا , لكنها أجابت :
_ألا تظن أن لا داعي لهذه الرسميات ألان ؟ اسمي هو باندورا وأكثر الناس يدعونني دورا
_أنا لست (أكثر الناس ).
-هذا صحيح .(أكثر ) لا يقتحمون البيوت في الليالي و يخيفون النساء البريئات.
-من منا أخاف الثاني أكثر, هو سؤال قابل للجدل . لكن بالنسبة إلى الظروف , يمكننا أن نتفق ربما على مناداتك باسمك الكامل باندورا ليس من المناسب رفع الكلفة بيننا تماما .
_بالنسبة إلى أي ظروف ؟
-الظروف المتمثلة بزواجك من صديقي الحميم ريتشارد ماريوت . رغم أنك, لسبب ما, لا تضعين خاتم زواج.
يا له من رجل خطر حقا !
_لا أظن الخاتم ضروريا , بعكس ما يعتقده الناس .
علمت انه لن يقتنع بكلامها, لكنها لم تترك له فرصة للتعبير عن ذلك .
_لا اذكر أني رايتك في حفلة الزفاف .
السبب انه لم يكن هناك ورغم أنها وشقيقتها كانتا بالغتي التشابه , إلا أن بوبي كانت تفيض بهاء واتزانا . وما كان ليفوته الفرق بينهما. فتابعت مستدركه :
_آه , طبعا , أنت لم تكن حاضرا , فأنت لم تعلم بزواج ريتشارد .
_هل كان احتفالا كبيرا ؟
-نعم .
كان احتفالا ضخما . فقد كانت منزلة ريتشارد الاجتماعية و بصفته من الطبقة الارستقراطية , تثير اهتمام الصحافة . أما بوبي ...فكل ما تقوم به يشكل خبرا للصحافة . ولكن و بالرغم من حشود الناس , أدركت انه لم يكن بينهم . فما كانت لتنسى شخصا بمثل خطورة غانون . والتفتت إليه :
_لماذا لم يدعك إلى حفل زفافه ؟
-كنت خارج البلاد لفترة طويلة . وأثناء ذلك الحدث السعيد تحديدا ,
كان الاتصال بي غير ممكن .
-في عيد الميلاد .
-في عيد الميلاد ؟ لا بد أن ريتشارد كان سعيدا طوال السنة لأنه وجدك تحت شجرته . لابد لي , في الواقع , من أن حاول مضاعفة جهودي .
_لم يكن على ريتشارد أن يحاول , يا سيد غانون . لقد حدث الأمر بشكل طبيعي .
يا للسانها ... انه سيلقى بها في المتاعب إن هي لم تلتزم جانب الحذر. لكن , لم يبد على غانون أن مشاعره قد جرحت .
.
_يمكنك الاستغناء عن لقب (سيد) يا باندورا , ما دمنا اتفقنا على التخاطب بالاسم الأول .
حملقت دورا إليه . سحقا لها إن كانت ستناديه باسمه الأول جون .
_شكرا غانون .
ساد صمت قصير جدا قال بعده : العفو .
_و أنا أفضل حقا أن تناديني باسم دورا .
-سأتذكر ذلك .
_هل قلت أنك كنت خارج البلاد ؟
_نعم .
و لم يسهب في التفاصيل .
_فهمت .
عندما وضعت صوفي في سريرها وغطتها جيدا ,خطر ل دورا فجأة أنها قد تكون فهمت حقا, كانت الفتاة الصغيرة سوداء الشعر , وهكذا كان غانون أيضا . لكن بشرة صوفي كانت بسمرة سكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط . فالتفتت إليه :
_هل اختطفتها من أمها ؟ أنها ثمرة حب غير شرعي , أليس كذلك ؟
توقعت أن ينفجر غضبا في وجهها, لكنه لم يفعل. بل بدا عليه الاهتمام بمنطقها هذا . وسألها:
_ما الذي جعلك تظنين ذلك ؟
_حسنا ,من الواضح انك لست من مقتحمي البيوت ,يا غانون .كنت فقط تبحث عن مكان تختفي فيه عن الأنظار ,فتذكرت هذا الكوخ, مفترضا انه خال من السكان .
_إنها غلطتي . لكن ريتشارد كان سيساعدني لو كان هنا . متى سيعود ؟
_إن كنت تظنه سيساعدك في اختطاف طفلة من أمها, فأنت لا تعرفه جيدا.
_ريتشارد سيساعدني عندما يعلم الحقيقة .
_أنا هنا ,فاخبرني بالحقيقة, يا غانون.
_أين هو ؟
_ ريتشارد ؟
.
وترددت .كانت مصممة أن تخبره بأن صهرها سيعود في أي لحظة, و أن من الأفضل له أن يخرج قبل حضوره.ولكن ,بدا لها ألان أن غانون سيرحب بمجيئه . ولن يرحل إن هي أخبرته بأن ريتشارد سيعود.
يجب أن تخبره بالحقيقة إذن.لكن ليس كل الحقيقة.....و هي أن أختها بوبي قد ذهبت إلى الولايات المتحدة حيث وقعت لتوها عقدا مع شركة كبرى لإنتاج أدوات التجميل, وأن ريتشارد غير مستعد لترك عروسه تغيب عن نظره .
_آسفة, يا غانون , لكن ريتشارد ذهب في رحلة عمل إلى الولايات المتحدة , ولن يعود قبل أسبوع . وأنت حتما ستفهم الأمر إن لم اطلب منك البقاء بانتظاره.
توترت ملامحه :افهم تماما ,دورا . لكن إن كنت لا تريدينني أن أجول متشردا في الأنحاء ,فعليك أن تنوبي عنه , إنني بحاجة إلى نقود ووسيلة نقل .
_وسيلة نقل ؟
قطبت حاجبيها,حين خطر لها أن الشرطي لم يذكر شيئا عن عربة مشبوهة تقف في الجوار .
_وكيف جئت إلى هنا , من دون سيارة ؟
_سيرا على الأقدام .
_على الأقدام ؟ من أين ؟
إن اقرب طريق رئيسي يبعد عن الكوخ عدة أميال . لكنه لم يجب.
_حسنا , أظن انك تستطيع استعمال سيارتي .
كان سيأخذها على أي حال , لذا من الأفضل إن تعرضها عليه بنفسها نظرا للضرورة .
_شكرا لك .
أخذت دورا تحدق إلى الطفلة النائمة التي لم تتحرك منذ أن وضعتها في الفراش.
_و استطيع أن أزودك ببعض النقود.
رمقته بنظرة جانبية : أو الكثير منه إذا سمحت لي بالذهاب إلى البنك .
هز رأسه نفيا, فأضافت :لا . لا أظنك ستسمح لي بذلك .بإمكاني أن أعطيك بطاقة اعتمادي.
_ وأظنك ستعطيني الرقم الصحيح ؟
_سأفعل . فانا لا أريدك أن تعود.
.
و أضافت في قرارة نفسها بأنها لا تريده أن يعود غاضبا .كان هناك سبب آخر يجعلها تقنعه بأنها تخبره بالحقيقة .
_لكن, يجب أن تترك صوفي معي. فلا ينبغي أن تعاني من كل ذلك الإرهاق.
وعندما ظهرت على ملامحه إشارة استنكار التفتت إليه , وكلها ثقة من قدرتها على إقناعه .رأته يحدق إلى الطفلة النائمة وقد تغضن وجهه .ثم ,كأنه أحس بنظراتها , التفتت إليها في تحد ,فقالت وقد شعرت بعطف مفاجئ نحوه :سأعتني بها ,يا غانون؟
_حقا ؟و إلى متى ؟
كان هذا سؤالا غريبا .
_إلى أن تستطيع العودة إلى أمها طبعا. سآخذها إليها بنفسي إذا شئت ...لن اخبر الشرطة بشيء .
أضافت الجملة الأخيرة بعد أن رأت اضطرابه فنظر إليها بحدة: لم لا تخبرين الشرطة ؟
_لأنني لن استفيد شيئا من ذلك.لأنك صديق ريتشارد .
كانت تعلم أنها تتصرف بحماقة, لكن الطفلة الآن هي أهم من كل شيء آخر .
_هل لهذا الأمر أهمية ؟
اخذ غانون يحدق بوجهها , وقد بدا له مألوفا بشكل غريب . كان هاربا منذ أيام . منذ أن اختطف صوفي من مخيم اللاجئين . كان مصابا ,جائعا , مرهقا , وقد اقتحم كوخ ريتشارد نظرا لحاجته الماسة إلى مكان يتوارى فيه من الأنظار . مكان يضع فيه صوفي بأمان ريثما يستعيد قواه , و يسوي أموره .و هذه المرأة تقدم له معونتها رغم أنها لا تعرف عنه شيئا .و الأكثر من ذلك أنها تنظر إليه كأن قلبها سيتحطم .طبعا , إن لهذا الأمر أهمية .
قال : لن آخذها إلى أي مكان الليلة . وسأرى كيف تصبح غدا , وعند ذلك , أقرر ما سأفعل .
_إنها بحاجه إلى بعض الوقت , يا غانون , مهلة كافية للشفاء .
_و هذه
اخرج من جيبه زجاجة دواء صغيرة:فقالت بارتياب: وما هي هذه؟
_مجرد مضاد حيوي.
جلس على حافة السرير, و أيقظ الطفلة بروية وأقنعها بان تبتلع حبة مع قليل من الحليب.وقبل أن تلقي برأسها على الوسادة مجددا كانت قد استرسلت في النوم. استدار ينظر إلى الفتاة الواقفة بجانبه .
_أتساعديننا يا دورا ؟ فتعطينا قليلا مما لديك من أمل ؟
.
الشيء الذي يذكره أكثر الناس عن أسطورة باندورا بين أساطير الإغريق هو أن فضولها أثار جميع المتاعب في العالم . وقد تذكر أيضا أنها منحت العالم الأمل . فكيف لها أن تخذله؟
أطلقت دورا شهقة صغيره, لا تكاد تصدق السهولة التي تشدها فيها عينان دافئتان و ابتسامة قادرة على تحطيم قلب فتاة دون جهد حقيقي منه .
_أنت تسألني .كأن لي الخيار في الأمر .
غضبت من ضعفها هذا . لكنها مع ذلك , لن تنسى أنها أبعدت الشرطة عن البيت . كانت متواطئة معه سواء اعترفت بذلك أم لا ,وجالت عيناها فوق ظهر ضيفها الأشعث , ووجنتيه الغائرتين في وجهه المرهق ,و رقت مشاعرها . لا بد أنه يحب ابنته , ويفتقدها للغاية لكي يصل به الأمر إلى هذا الحد . قالت له : تبدو بحاجة إلى شيء تشربه غير الحليب .
مرر يده على وجهه دون وعي من التعب.
-أنت على حق, كان يوما جهنميا. شكرا لك . وهو لم ينته بعد .
لم ترد شكره, إنما كانت تريده أن يقوم بما هو صواب. سارت نحو الباب ,لكن جون غانون تمهل لحظة لينحني فوق السرير و يرفع الغطاء إلى ما فوق كتفي الصغيرة. كان مشهدا يدمي القلب بشكل غريب . لم يخبرها بالحقيقة كاملة . قالت :
_هل ننزل إلى الطابق السفلي كي لا نزعج صوفي ثم تخبرني عما يجري تحديدا ؟
.
أخذ جون غانون ينظر إلى الفتاة الطويلة الشقراء وهي تسكب له الشاي . كانت جميلة للغاية .فحين اندفعت إلى المطبخ وهي تحمل صوفي بين ذراعيها , توقف قلبه لحظة عن الخفقان , ليس لمجرد أنها اجفلته . كان سيشعر بالإحساس نفسها لو انه رآها في قاعة مزدحمة بالناس, و بنفس الحرارة تجري في عروقه . و قد أغضبه هذا . فقد كان في موقف بالغ الدقة بحيث يتعذر عليه السماح لأي امرأة مهما بلغ جمالها أن تصرف ذهنه عنه, في حين يحتاج إلى كل ما يملك من فطنة وحيلة و يقظة.
لكن غانون كان غاضبا من ريتشارد أيضا . رباه , كيف يمكنه ذلك ؟ انه يحب الرجل و يقدره كثيرا. لكن دورا , كما يبدو , تكاد لا تبلغ العشرين من العمر ... فهي حمل وديع بالنسبة إلى ريتشارد الذئب .... أصبح الرجل الذي كان بطله في يوم من الأيام عدوا للنساء, ساخرا عنيدا كالتيس بعد تحطم زواجه الأول, الذي افقده الصواب.....
لم يكن غاضبا من ريتشارد , و إنما غيورا من طراز قديم . كان راغبا في إيقاع هذه الفتاه في حبه. فقد كان وجوده معها بمفردهما في هذا الكوخ البعيد القابع في أعماق الريف مغريا إلى حد بعيد. لكن الشرف يملي عليه أن لا يقوم بحركة نحوها. كما أن الظروف لم تكن مؤاتية , فلم يكن لدية الوقت لمغامرات الحب الطارئة , أو حتى القوه لذلك . إن هذا لأمر مؤسف .فهذه الفتاه تملك ما يتخطى الجمال وحده , كانت تتحلى بالشجاعة .
.
إن أي فتاة أخرى , تجد نفسها في مواجهة مع مقتحم بيتها , كانت لتفقد أعصابها , لكن ما أظهرته هي كان الغضب فقط . ليس لاقتحامه البيت , بل لإخراجه صوفي في مثل هذه الليلة الممطرة . كأنه كان يملك خيارا في ذلك ! لقد تمكن من استغلال تلك الشجاعة حاليا . لكنه و حتى ألان لم يستطع إقناعها بأنه رجل يستحق المساعدة . و ريتشارد لن يصفح عنه قط لتوريطه عروسه الجميلة في مأزق كهذا . لا يعني هذا أنه يقلل من شانها , فهو يرى أن دورا قد تكون الوحيدة التي تجعله يجد في مشاكله وجهوده وتعبه قليلا من المتعة .
مع ذلك, لو سنحت لها الفرصة لطلب المساعدة و لما تأخرت. فسار نحو التليفون و انحنى يتفحص التجويف, ثم التفت إليها يسألها:
_ أين مفك البراغي ؟
كانت تراقبه بعينين رزينتين. ثم سارت بصمت على السجادة بقدميها الحافيتين الجميلتين و المعطف الحريري الناعم, الذي لفته حول جسدها بإحكام, يتمايل برقة مع وقع خطواتها. قالت وهي تناوله الشاي:
_ هل عليك القيام بذلك ؟ من غير المحتمل أن اتصل بالشرطة. فقد سبق و أبعدتهم من هنا .
_ الشرطة , نعم .لكنني واثق من أن هناك شخصا أخر ترغبين في استدعائه . سأعيد وصله قبل رحيلي . أعدك بذلك .
لم تبرح مكانها فعاد يقول: من الأسهل لي أن اسحبه من الجدار, يا دورا. ماذا تفضلين ؟
أذعنت لطلبه قائله : هناك مفك للبراغي في المطبخ .
-هل لك أن تحضريه إذن ؟
.
تمنى لو تسرع قبل أن يعاوده الألم في ضلوعه. استدارت بسرعة ,فحرك معطفها الهواء الذي لفح وجنته , وعادت بعد لحظة بمفك صغير . ثم سارت نحو الموقد وجثت أمامه. كان شعرها منسدلا على كتفيها فبدا أشبه بكتله من الخيوط الحريرية العسلية اللون في ضوء المصباح المستطيل الموضوع على الرف .تبا , تبا ...إنها مشكلة لم يحسب لها حسابا , أضيفت إلى المشاكل المثقلة بها حياته , بعد أن ظن كوخ ريتشارد الخالي مكانا ممتازا يتوارى فيه عن الأنظار حتى يسوى أوضاعه .
اخذ ينظر إليها تمد يدها إلى قضيب تحريك النار, كانت تهم بسحبه حين أطبقت أصابعه على معصمها. أجفلت و التفتت تنظر إليه و هي تقول محتجة:
_ أريد أن أحرك النار .
_ حقا ؟
تلاقت عيناهما لحظة. كانت عيناها رماديتين عاصفتين أشبه بالسحب الرعدية التي حجبت القمر أثناء اجتيازه الحقول صوفي تنشج باكية بين ذراعيه....قالت :
-ماذا ظننت غير ذلك ؟ إن صرعك بهذا القضيب لن يحسن الأمور , أليس كذلك؟
- انه سيمنحك وقتا كافيا تطلبين فيه العون .
أجابت و هي ترمق التليفون بنظرة ذات معنى .
-آه , هذا صحيح . وكيف تظنني سأقوم بذلك ؟ بواسطة التخاطب الفكري؟
_ لا , بل بواسطة سيارتك . قلت إن لديك سيارة, أليس كذلك ؟
كان معصمها رقيقا ناعما إلى حد مؤثر . وشعر بعظامها الرقيقة الهشة تحت أصابعه مما أثار في نفسه نوعا من الأشواق . كان مجرد التفكير فيها جنونا بذاته . لقد مضى وقت طويل منذ أن اقترب إلى هذا الحد من أمراه طيبة الرائحة.... أراد أن يضع شفتيه على النبض الذي شعر به يتسارع تحت جلدها الناصع البياض , و أن يدني راحتها من وجنته و يشدها إليه لكي يخفف من الم هذا الشوق غير المتوقع .
يا للجنون ......!

mymemory 25-02-17 05:45 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
3 ـ أغنية ..كي يستحم !

إنه جنون , حتى لو لم تكن زوجة " ريتشارد ماريوت " .وجنون أيضاً اعتقاده بإمكانها ضربه بالقضيب الحديدي بدم بارد.مع ذلك ,انتزعه من يدها بيده الأخرى قبل أن يترك معصمها .لم يكن في حالة تسمح له بالمجازفه ,فالحذر هو ماجعله ينجو منذ وقت طويل من أخطار هذا العالم .سألها :
_هكذا إذاً؟
لم تجبه,بل أخذت تفرك معصمها كأنها تمحو أثر لمسته عنها أشاح بوجهه عن عينيها كأنه اشمئز من نفسه وافكاره .
_سأهتم أنا بالنار .
راح يحرك الرماد بالقضيب الحديدي ماجعل الجمر يتوهج احمراراً قالت هازئه:
_هذا عمل الرجل أما أنا فعلي أن أسرع إلى المطبخ وأعد لك بعض الطعام .


.

_أشكر عرضك هذا ,لكن لا شكراً

لم يستطع أن يتذكر متى تناول الطعام أخر مره لقد نحل جسمه كثيراً,لكن كرامته كانت تعلو فوق كل شي سمعت معدته كلمة طعام ,فأخذت تحتج بصوت مسموع ألقى نظرة على الفتاة بجانبه وغامر بابتسامة:
_أنا اتبع حميه معينه لكن معدتي لم تتقبل بالوضع .
القى إلى الجمر ببعض العيدان الصغيرة من السلة بجانب الموقد .ساد صمت قصير كانا فيه يراقبان الحطب وهو يبدأ بالتدخين ثم يقرقع ملتهباً. كان شهر آب في انكلترا حافلاً بالعواصف والأمطار الغزيرة .
أما "دورا",التي ظلت جاثية على البساط بجانب الموقد,فقد شعرت بالرجفة التي تملكته كانت تحاول تهدئة مشاعرها, ونسيان ما رأت في عينيه وهو ممسك بمعصمها أرادت نسيان الدافع القهار الذي تملكها لتلف ذراعيها حوله وتحتضنه بقوة ما رأته في ملامح وجهه بحاجة إلى درجة أكبر من المواساة لهذا لم تحاول التملص منه , قالت :
_أنت مبلل !
.
كان صوتها يرتجف قليلاً التفت "غانون" إليها طويلاً قبل أن يحول نظرته إلى ساقيه كان بنطاله الجينز المبلل إلى الركبتين قد أخذ يجف في الحرارة كان قد خلع حذاءه الموحل في المطبخ ,لكن جوربيه تركا بصمات رطبة على السجادة الجديدة الرائعة الجمال .
_كان المطر يهطل بغزارة لا تهتمي ,ستجف ثيابي أمام النار .
_أنا لست مهتمه ,فلدي أعمال أفضل بكثير من تمريض رجل أحمق يجلس بثياب مبلله لكي يصاب بالتهاب رئوي.
قد يفكر "غانون" بأمور أسوأ من أن تمرّضه"باندورا ماريوت".لكنه لم يعتبر من الحكمه الإقرار بذلك ارتجف مرة أخرى لماذا لم يعشق"ريتشارد" فتاة عادية باهتة الجمال ؟وإن كان تزوج من فتاة مثل "دورا",لماذا لم يبق في بيته ليرعاها؟ لو كانت زوجته هو ,لما تركها وحدها لأسابيع متواصلة .
.
وعندما نهضت "دورا" برشاقة من أمام الوقد أمسك بيدها قائلاً:
_إلى أين تذهبين ؟
_لأبحث لك عن شي ترتديه.
غضبت للمسه لها مرة اخرى وغضبت من نفسها لرغبتها في ذلك .حاولت جذب معصمها من يده لكنه شدّد قبضته عليه.
_سآتي معك .
أبقاها إلى جانبه وهو يضيف الحطب إلى النار بحذر ثم قال:
_أريدك أن تريني أنحاء البيت .
_هل لديّ خيار في ذلك؟
_أريد أن أرى ما أحدثتم من تغيير في البيت منذ أن كنت هنا آخر مرة .
لم تصدق أنه شديد الاهتمام بموهبة أختها بالديكور الداخلي ,ماكان يريده حقاً هو استكشاف المكان ليعرف كيف أصبح سألته:
_و متى كان ذلك؟
_منذ وقت طويل كان"ريتشارد" قد دعاني إلى هنا لقضاء بضعة أيام في صيد السمك ... وهز كتفيه غير راغب في الإسهاب لم تلح عليه بالكلام فالأمر لايهمها ...ليس كثيراً
_حسناً بالنسبه إلى مكان يقضي فيه الرجال العطلة في صيد السمك ,لابد أنه كان ملائماً تماماً أما كبيت يصلح لأسرة فقد كانت تنقصه اشياء عديدة
_أسرة ؟لايزال الوقت مبكراً لهذا ,أليس كذلك؟
.
احمر وجهها مرة أخرى وتابعت متجاهله ثقل نظراته عليها
_أولاً ,لم يكن فيه حمام .
لمعت عيناه تحت أهدابه السوداء الكثيفة وهو ينظر إليها مفكراً
–أتعنين أني لست مضطراً للغوص في النهر عارياً ؟
_نعم , إلا إذا شئت أنت ذلك.
شعرت بالاستياء لكن لماذا لا تستاء ويدها أسيرة في يده,ما يجعلها تتنفس بصعوبة؟ لم تكن مستاءة فقط من اقتحامه البيت ,بل من جاذبيته التي لا يمكن إنكارها خاصةً عندما يرفع زاويتي فمه بتلك الابتسامة الصغيرة كما يفعل الآن فسألته:
_ما الذي يحملك على الضحك ؟
_أنت أستطيع قراءة أفكارك كأنها مكتوبة على جبينك بأحرف كبيرة الحجم .
_ هذا غير صحيح


.

_ تجاوبي معي

وأخذ يربّت على جبينها بأنامله ثم قال:
_ أنت تفكرين في مدى سرورك ورغبتك في مدّ يد العون لي في ذلك الماء البارد .
_ لا , أبداً!
خلع سترته بعد أن أطمأن إن "صوفي"في السرير . خفضت بصرها بسرعه , خوفاً من أن تكشف عيناها عن أكثرمما يجب, فرأت الكنزة القذرة التي كان يرتديها كانت محاكه باليد ,فتساءلت عن تلك المرأة التي بذلت كل ذلك الوقت والتعب لكي تدفئ " جون غانون" ؟أتراها والدة صوفي ؟
_سأبحث لك عن شئ ترتديه وبعد ذلك تقرر ما إذا كنت تفضّل حماماً دافئاً أم الغطس في الماء البارد , الخيار لك .
.
أحسّت بالضيق حين أدركت اهتمامها بأمره وسحبت يدها من يده بسهولة جعلتها تشك للحظه بأنه محكم عليها قبضته لكنها أخذت تفكر وهي تتجه نحو السلم (يا لي من معتوهه! إنه لم يكن يشد على يدي كرجل عاشق ,بل كسجّان يمسك بسجينه وعلي أن لاأنسى هذا....).
لاحظ "غانون"على الفور,أن الكوخ قد توسّع إلى قسم من المخزن القديم وأصبح جناح رب البيت في القسم الجديد منه ,مع حمامه الخاص وغرفة ملابس لأجل "بوبي" سارت "دورا"أمامه إلى الباب وفتحته على غرفة نوم فسيحة مفروشة بقطع من الأثاث القديمة الطراز, المصنوعه من خشب الصنوبر للحفاظ على طابع الكوخ وكانت السجادة الخضراء القطنية ناعمة ومنسجمة مع الستائر المخملية التي أٌبعدت إلى جانب واحد وحين همّت بإضاءة النور,هتف بها :
_انتظري أسدلي الستائر اولاً
هزت كتفيها وفعلت ما أمرها به من دون أن تنبس بكلمة ,ثم سارت نحو خزانة "ريتشارد" فتحتها وأخذت تبحث فوق الرفوف بسرعة إلى أن سحبت كنزة وبنطالاً .التفت إلى "غانون":
_هل هذه مناسبة؟
_رائعة !
.
كان متكئاً بشكل عفوي على باب الغرفة ينظر إليها كان ثمة شي في نظراته بعث رعشة في جسدها وخطر لها أن سماحها له باللحاق بها إلى غرفة النوم لم يكن مناسباً تماماً قال:
_لقد أصبح المكان واسعاً الآن.
لم يكن في كلامه مايثير اهتمامها لكن هذا ماحصل فقد ألقت حول الغرفة نظرة متوترة وهي تتسائل عما إذا رأى شيئاً فضح ادعاها صورة عرس تجمع بين"بوبي"و "ريتشارد" مثلاً أو أي شي آخر لكنها لم تر شيئاً .
_يسرني أنّك أعجبت بالبيت
تقدمت نحوه ودسّت الملابس في يديه ثم اطفأت النور لم تكن قد فكرت من قبل في ما سيفعله إن هو اكتشف كذبها عليه وقالت:
_الحمام من هذه الناحية أنا واثقة من أنك تستطيع استعمال الدوش.
شعرت بصوتها يرتجف ولم لا؟ لها الحق في أن تتوتر اعصابها لأن من يتعامل مع الشيطان كما يقول المثل عليه أن يلتزم الحذر.
_أستطيع طبعاً لكنك ستتفهمين إصراري على أن تبقي قريبة مني .
_ ماذا؟
اكتشف "غانون" أنّه جعل وجه "دورا" يحمّر خجلاً مما منحه نوعاً من القوة
_ها تريدينني أن اكرر ما قلته ؟
_لا! لا يمكنك أن تعني هذا .
_بل يمكنني مع الأسف .
قد يكون أسفه حقيقياً لكن "دورا"ارتابت في ذلك بينما تابع هو :
_صدقيني لا يمكنني المجازفة بأن تنتهزي الفرصة وتهربي إذا سجنتني الشرطة من سيرعى صوفي؟.
_و لماذا يسجنونك ؟
_أليس في اقتحامي هذا البيت مايكفي لذلك؟
_لن يحدث هذا إذا لم أقم عليك دعوى عاجلة.
_المسألة إذن متوقفة على هذه ال "إذا" !
لم تشأ التأكيد له بأنها لن تفعل و لماذا يصدقها ؟
.
_ليس عليك مشاركتي الدوش يا "دورا" لا أريد منك سوى الوقوف بالقرب من الباب لنتحدث فأعرف بذلك أنك هنا هذا كل ما في الأمر .
_كل ما في الأمر؟
كادت تنفجر غضباً ما أشد جرأته ! وهو يظنها زوجة "ريتشارد" حقاً
_ألا تهتم بردة فعل "ريتشارد"حيال هذه الفكرة ؟
وعلقت فجأة بهذه الفكرة لثقتها من أنها ستجعله يعيد التفكير مرتين .
_كان سيفعل الشيء نفسه لو كان مكاني إنه سيتفهم الأمر .
قد يكون أعاد التفكير مرتين فعلاً ,لكن النتيجة لم تتغيّر.
_هل سيتفهم حقاً؟وكم سيكون تفهمك أنت لو كنت مكانه ؟
يبدو إنه لم يهتم بتهديدها له "بريتشارد" كما كانت ترجو .
_لو كنت زوجتي ؟
مدّ يده يلامس وجنتها بأنامله الباردة في هذا الليل الهادئ الساكن لم تدرِ ما إذا كان البرق هو الذي أضاء الظلمة في الخارج أم هي كهرباء نضحت من أنامله على جسدها حبست انفاسها منتظرة الرعد لكنّ شيئاً لم يحدث أرادت أن تبتعد عنه كانت تعلم أن عليها الابتعاد عنه لكن النار المستعرة في عينيه سمّرتها في مكانها .
_لو كنت زوجتي يا "دورا" لأخذت أضربه حتى يتحوّل إلى عجينة بين يديّ لكنّي قد أتفهم الأمر بعد ذلك .


.

عندما أنزل يده , استطاعت أن تجد صوتها .

_فهمت حسناً هذا شيء يبعث على الاطمئنان .
وأطلقت ضحكة قصيرة مرتجفة .
_حقاً؟
_آه , نعم .
و أخذت خفقات قلبها تعود إلى وتيرتها المعتادة وقالت :
_أرى أنك ستعاني في المستقبل من ألم بالغ .
بدت على شفتيه تلك الابتسامة التي تشغل البال .
_يمكنك أن تفكري في كل ما يجعلك سعيدة . والآن من أي ناحية هو الحمام ؟
التزمت الصمت المطبق ,ولم تحاول مزيداً من الجدل معه لقد رأت مدى قدرته على إظهار القسوة لم تشك لحظة في معرفته "بريتشارد" لكن خطر لها الآن أنه لم يقل سوى أنهما صديقان وقد لا يشاركه "ريتشارد" آراءه وقد يكون هذا هو السبب في إصراره على قطع خط التليفون .
لو كانت هي زوجة "ريتشارد" لكان الاتصال به أول ما يخطر ببالها ثم لو كان صديقه حقاً كما يدعي لاقترح هو ذلك!
_من هنا .أرجو أن يعجبك الديكور ما دمت مهتماً إلى هذا الحدّ.
كان حماماً رائع التصميم فسيحاً ودافئاً ذا جدران بلون هو مزيج من البياض و الحمرة وسجادة تبرز لون خشب الباب الداكن وأدوات الحمام ,كان هناك كرسي ضخمة بذراعين ومنضدة مثقلة بنباتات غريبة وكومة من المجلات المصقولة الورق كان حماماً للاسترخاء نظر "غانون" حوله ثم أومأ ناحية الكرسي :
_ليس عليك أن تجلسي هنا بإمكانك وضع الكرسي أمام الباب والجلوس عليها .
_ شكراً

mymemory 25-02-17 05:47 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
أظهرت نبرتها تهكماً عميقاً وهي تخرج محاولة إقفال الباب فصاح فيها :
_لا!لا تقفلي الباب دعيه مشقوقاً وأبقي بقربه !
رفعت بصرها تحدق إليه دون أن يطرف لها جفن لكنه لم يتحرك قالت بهدوء :
_حسناً هناك كمية كبيرة من الماء الساخن وكذلك المناشف والشامبو .
أخذ يتجرد من ملابسه داخل الحمام فيما هي جالسة على الكرسي فجأة أطلق صرخة ألم وقفت دورا في مكانها وقالت بلهفة من وراء الباب :
.
_أنت مصاب ! أتراك حطمت سيارتك؟ هل "صوفي" مصابة أيضاً؟
_لا تفزعي يا "دورا" استريحي"صوفي" بخير وأضلعي ستشفى بنفسها في الوقت المناسب
_حقاً؟أما كان عليك أن تذهب إلى المستشفى ؟ سآخذك بسيارتي ...
_أنا واثق من أنك ستفعلين ذلك لكن صدقيني كل ما تحتاجه الأضلع المصدوعة للشفاء هو الزمن إنني أتحدث عن خبرة
_آ ....(وعادت إلى كرسيها).
ناداها قائلاً:
_تكلمي معي يا"دورا" أريد أن أعرف أنك هنا .
_ليس لدي ما أقوله لك .
_غني إذن .
تغني؟ أتراه مجنوناً؟ هل يريدها أن تغني له؟ فقالت :
_أنت الذي تغني لأنك الذي يستحم .
توقف صوت الماء فجأة وجاء صوت "غانون" آمراً :
_أظننا اتفقنا أنيّ أنا من يعطي الأوامر يا"دورا" إما أن تغني أو تدخلي معي إلى هنا ألا تحسنين الغناء؟
كادت تبتسم فقد كان عجزها عن حفظ النغم مدار مزاح الأسرة لكنّها تستطيع القيام بذلك إن استطاع احتمال سماعها وهكذا أخذت تغني واضعة كل مشاعرها في أغنية بدت لها تناسب خاطف أطفال )أرجوك . . . أتركني !).
وعندما ارتفع صوت الماء ليغطي صوتها ,صاح يقول :
_ارفعي صوتك .
أطاعته وطغت على مشاعرها روح الأغنية واستمتعت بذلك بحيث لم تدرك أن صوت تدفق الماء قد توقف.
_عندما تنهين اغنيتك , هل يمكنك أن تناوليني منشفة ؟
أوشكت أن تقول له أن يأخذها بنفسه , لكنها انتبهت الى أن ذلك يعني أن يخرج من الدوش عارياً . قفزت واقفة وجذبت منشفة ودفعتها اليه بقوه على امتداد ذراعها
_ شكرا
.
بعد ذلك بلحظات , خرج من الحمام وقد التف باحتشام , من خصره حتى كاحليه , بملاءة عنابية اللون .
التقط منشفه اخرى وأخذ ينشف بها شعره
سألها :
_أخبريني يا "دورا" . أين تعلمت الغناء بهذا الشكل السيء؟
_تعلمت؟
_ لايمكن لا أحد أن يغني بمثل هذا النشاز المتواصل دون أن يتلقى دروساً خاصة به
_ أظن انها موهبة من الله بلا شك
_ اسمحي لي اذن أن أقول انك موهوبة تماماً . ماذا كنت تفعلين قبل أن تبدأي بتأسيس بيت مع "ريتشارد" ؟ كيف تعرفتي اليه ؟
فقالت صادقة :
_قدمتنا شقيقتي الى بعضنا البعض . وقد جعلني انشاء البيت مشغولة على الدوام , أتريد استعارة موس للحلاقة؟
.
مّر على ذقنه بيده ونظر في المرآة . كان واضحا أن مارآه لم يسعده , سألها مشككاً :
_هل يعنيك هذا الأمر؟
فرفضت استفزازه لها :
_ أنا واثقة أنك ستكون أكثر ارتياحا بموس ريتشارد , ما دمت صديقاً قديماً له .
_ أظنه أخذه معه .
ولم يكن خطر هذا ببالها .
_ قد يكون لديه واحد احتياطي.
_ألا تعلمين؟
ربما كانت تعلم لو كانت زوجته حقاً لكنها لم تستطع أن تتصور "بوبي" تزعج نفسها بمثل هذة الأمور . ذلك أن أختها لم تكن ربة بيت , لكن ريتشارد لم يتزوجها لأجل مؤهلاتهاالبيتية .
همّت بالأنصراف , لكنه مد يده وأمسكها :
_ أين تذهبين ؟
.
_ لأحضره من غرفة "ريتشارد" ... أعني من غرفتنا ... لن أغيب دقيقة , أو تفضّل أن تطيل لحيتك للتنكر.
_ لا لاحاجه بي للتنكر
_حقاً ؟ هذا أفضل , لأن اللحيه لاتناسبك . سأستمر في الغناء , إذا شئت , لكي تسمعني
_افعلي أرجوك . إنما بهدوء , كي لاتوقظي "صوفي" فقط... غيري شريط التسجيل
_ ألم تعجبك الأغنية؟
لم تنتظر جوابه , بل ذهبت وهي تغني الأغنية نفسها , إنما بصوت خفيف . بينما راح يبتسم رغماً عنه
تابعت "دورا" الغناء والترنم بدون نغم وهي تبحث في خزانة حمام "ريتشارد" و "بوبي" لتجد أخيراً , وقد تملكها الارتياح , موس وصابون حلاقة وفرشاة حلاقة قديمة الطراز .
وعندما خرجت من الحمام , رفعت صوتها قليلاً بالغناء , وأسرعت عائدة الى غرفتها حيث لا تزال "صوفي" مستغرقة في نوم عميق . كان هاتفها الخليوي في حقيبة يدها . وساورها شعور بأن "غانون" سيغير عليها سواء عاجلاً أم آجلاً , لأجل المال أو بطاقة الرصيد أو مفاتيح السيارة , أخرجت الهاتف وهمّت بفتحه عندما انتبهت الى ظل "غانون" على السرير .
_ ماذا تفعلين ؟
قفزت يملأها الشعور بالذنب واستدارات تواجهه , ويداها خلف ظهرها:
_ لقد أفزعتني !
_ توقفت عن الغناء !
_ نعم ( أخذ قلبها يخفق بسرعه بالغة وهي تدس الهاتف تحت الأغطية).
_أنا .. ظننت أنني سمعت صوت "صوفي" تبكي, فلم أشأ ازعاجها بالطبقه العليا من صوتي
_لاتملكين طبقة صوت عاليه . ثم هل كانت تبكي حقاً؟
كان يرتدي بنطال ريتشارد ولا شي غير ذلك.
نظر الى الطفلة النائمة وسأل:
_أكانت تبكي ؟
_كلا. لابد انها الريح
سرّهاأنه لم يكن ينظر اليها , والا لعلم انها كاذبة . عاد ينظر اليها لكنّه لم يقل شيئاً , وإنما دار حولها ببساطة وانحنى فوق "صوفي" مسوياً الغطاء على جسمها .
.
حبست "دورا" أنفاسها عندما أخذ يسوي الملاءة السفلى. لابد أنه سيرى الهاتف , أو ربما ستستيقظ "صوفي " وتشعر به .
قالت "دورا" , راجية صرف اهتمامه : يبدو أن توهج وجهها قد تبدد أتظن أن حرارتها انخفضت ؟
وضعت يدها على جبين "صوفي" وأزاح "غانون" الملاءة ليلمس صدغ الطفله بأصابعه . ثم أوما مجبيا :
_أنها بحاجة فقط الى الراحة لكي تشفى .
_وهل ستحصل على ذلك أثناء السباق معك في الحقول تحت العاصفة الرعدية ؟
ورجت أن يكون الهجوم خير وسائل الدفاع ,
أجاب ملتفتاً اليها :
_ لا وهذا هو سبب أحضاري لها الى هنا . حسنا , أين هو ؟
جمدت في مكانها :
_"ماهو"؟
_ الموس .
ظنت ,لشعورها بالذنب , أنه يعني الهاتف الخليوي. وجاهدت كي لاتنظر الى السرير . لقد نسيت كل شي عن عدة حلاقة "ريتشارد"
_هاهو الموس !
.
وأشارت الى المنضدة بجانب السرير , ثم اتجهت نحو الباب , متلهفه الى إخراجه من الغرفة لكنه أوقفها :
_ لابأس , يا "دورا" يمكنني القيام بالأمر هنا .
وأخذ وعاء الصابون والموس والفرشاة , ولم يبدو عليه أنه لاحظ شيئاً.
_ لاسبب يمنعك من العودة الى النوم الان .
نظرت اليه بدهشة :
_أتريد مني العودة الى النوم ؟ لابد انك تمزح
قال باسما :
_" مادام سلوك حسناً, فأنتي آمنة تماما . لكن , مادامت "صوفي" احتلت سريرك , ابقي معها ان كان هذا يخفف من شعورك بالعجز"
_ ألا تريد البقاء معها ؟
_أنا واثق من رعايتك التامة لها , يا "دورا" . سأستلقى على الأريكة في الطابق السفلي.
لكنه لم يكن مستعجلاً في الخروج . ومد يده خلفها وتناول حقيبة يدها .
_لكنك لن تمانعي اذا أخذت هذة معي , أليس كذلك؟ من باب الأحتياط فقط.
هزت رأسها بصمت . كادت تفقد بسهولة اتصالها بالعالم الخارجي لو انها لم تنتهز الفرصة التي سنحت لها ...
_ لا. وخذ منها ماتشاء .
_ أرجو أن لا أضطر لذلك. لكن اذا فعلت , فسأترك لك وصلاً بدين لأي شيء آخذه.
.
قالت مبدية المرح:
_ هذا عظيم . ما من مشكلة . خذ ماتشاء .
فليذهب الى حيث يشاء , مادام سيخرج من هنا . كانت "دورا" واثقه من أن أختها ستتفهم الأمر , ويمكن "لغانون" أن يشرح "لريتشارد" كل شي عندما يقابله.
نظرت الى السرير . اذا مكثت مع الطفلة, لن يستطيع "غانون" التسلل خارجا بها . وعندما ينزل الى الطابق السفلي ستتمكن من اخراج هاتفها وطلب العون .
سألها وقد بدا غير مستعجل للخروج :
_ أتريدنني أن أسوي الأغطية فوقك, ما دام "ريتشارد" غير موجود؟
شعرت بوجنتيها تتوهجان :
_ أظن بامكاني القيام بذلك بنفسي . شكراً على كل حال . هل لك أن تغلق الباب خلفك؟
لم يتحرك .
_أرجوك.
هز كتفيه ثم توجه نحو الباب , وعندما فتحه التفت اليها :
_هل تريدين, عند استيقاظك من النوم , شاياً أم قهوة ؟
وعندما أصدرت صوتاً غاضباً ,قال:
_انني , فقط , أحاول أن أكون ضيفاً شهماً
.
_ الشهامة الفضلى هي أن تخرج الان .
_آسف , يا "دورا" . لايمكنني أن أكون شهماً الى ذلك الحد . "صوفي" بحاجة الى نوم مريح .
_ لماذا لا تخرج اذن وتتركنا في سلام ؟ سأتولى العناية بها .
تشابكت عيناهما لحظة طويلة
_ حقاً؟ لقد جئنا معاً , يا "دورا". لايمكنك أن تفصلي الواحد منا عن الآخر . حاولي ذلك وسوف تجدين اني أكثر ازعاجا مما تطيقين .
ثم أغلق الباب وتركها في الظلام .
لم يكن هذا صحيحا , في رأيها . لقد أبعدت الشرطة بالفعل , لكنها بحاجة الى نوع من العون يخرجها من هذا المأزق .
مالت على حافة السرير وأخرجت الهاتف من مكانه بحذر بالغ حابسة أنفاسها عندما تحركت "صوفي" في نومها . أن أي صوت يصدر من الغرفة قد يعيد "غانون " الى الغرفة .
أمسكت الهاتف بيد مرتجفه , ثم ضغطت الأزرار لتفتحه . لاشيء ... حاولت مره أخرى . لكن عابثاً! كانت البطارية فارغة تماماً.

زهرة منسية 25-02-17 07:38 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
الف مبرووووك mymemory نزول الرواية مشكورة على المجهود

الملخص حماسي بحب كتير الروايات اللى بيكون فيها اطفال

بانتظار اكتمالها للمتابعة

موفقة عزيزتى

mymemory 25-02-17 09:57 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زهرة منسية (المشاركة 3674636)
الف مبرووووك mymemory نزول الرواية مشكورة على المجهود

الملخص حماسي بحب كتير الروايات اللى بيكون فيها اطفال

بانتظار اكتمالها للمتابعة

موفقة عزيزتى

تسلميلى يا زهورتى على تشجيعك وكلامك الحلو ويا رب الروايه تعجبك
هستنى رايك لما تخلص

mymemory 25-02-17 09:58 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
4- أمومة


أغلق "غانون " الباب . ما الذي جرى له بحق الجحيم ؟

لقد أمضى عيد ميلاده الثلاثين في وكر للثعالب مليء بالثلج , كان هدفاً لرصاص القنص. كان أكبر وأكثر حنكة وتجارب في الحياة من أن يقفز كمراهق فقط لأنه التقى بأنثى دافئة.
لكنّ شيئاً واحداً مؤكداً , هو أن "دورا" لم تكن مثل أي عروس صادفها من قبل. فهي لم تكن سعيدة, كما أن العريس المجنون بحب عروسه لايرحل ويتركها خلفه . وتساءل ان كانت قد انتقلت من غرفتها الزوجية قبل رحيل "ريتشارد" أو بعده . لابد أن ذلك حدث قبل رحيله . ان أي امرأة لاتترك غرفة أعدتها لنفسها , إلا اذا طردت منها . وتوتر فكه.
.
وكذلك استرعت انتباهه تلك الطريقة التي نظرت بها اليه عندما خرج من الحمام . كانت تحدق اليه بعينين رائعتين.
تملكه ذلك الشعور المحير بانه سبق أن رآها من قبل . لكن كيف يمكنه أن ينسى فتاة نظرت اليه بعينين أشبه بماستين سوداوين ؟ عينين بعثتا التوتر في جسمه ؟كانت فكرة احتضان امرأة عطرة الرائحة لا تقاوم . حدق الى باب غرفة النوم. ثم شعر بالغضب من نفسه ومن أفكاره فاستدار ليهبط السلم . لو كانت لديه ذرة من عقل لتابع رحلته , لكن العقل لم يكن له مكان الآن فهناك "صوفي" ليهتم بأمرها .
كان عليه أن يتابع سيره في اللحظة التي أدرك فيها أن الكوخ لم يكن خاليا . لكن صحة "صوفي" لم تكن لتحتمل المزيد, بعد أن خلصها من هول المخيم باختطافها منه .
ستكون آمنه الآن في الكوخ ليوم أو يومين . ولن يطول الوقت قبل أن تكتشف السلطة مكان الطائرة التي كان قد استعارها , وهبط بها بذلك الشكل الخطر في الحقل مما سيلفت دون شك نظر الصحافة واهتمامها . كل ما كان يرجوه الآن الوقت المتاح له كافيا .

.

دفع باب الحمام , ووضع معدات الحلاقة في الحوض مع حقيبة "دورا" , ثم انتابته موجة من الغثيان . كان مرهقاً للغاية وجائعاً.
جلس يستريح ,ونظر الى صورته في المرآة , فلم يكد يعرف نفسه . كان بحاجة الى بعض الوقت لكي يتماثل للشفاء, مثل "صوفي" . فلو تمكن من النوم عدة ساعات , لاستطاع أن يفكر بوضوح ويسوي أموره .
حدق الى حقيبة "دورا". لم تكن من تلك الحقائب الصغيرة الأنيقة التي صنعت لتحتوي فقط على كيس نقود ومشط وقلم وأحمر شفاه . كانت حقيبة فسيحة تتسع لكل ما تحتاجه المرأة فتأخذه معها لكل مكان. أمسك بها , ثم فتحها وأفرغ محتوياتها على المنضدة .

.

سرت في نفسه موجه من الارتياح . فبعد أن توقفت فجأة عن دندنة تلك الأغنية الرهيبة , تملكه شك رهيب لفه أن يكون لديها هاتف خليوي . صحيح أنه لم يتسنى لها الوقت لاستعماله , ولكن هذا يعد اهمالاً منه . كان يجب أن ينتبه عندما لم تعترض كثيراً على قطع خط التلفون العادي .
أخذ يتفحص محتويات حقيبتها متأملاً. كانت فيها وصولات ... كل شي من السوبر ماركت , الى تفاصيل حساب بخط اليد من بيت أزياء في لندن . رفع حاجبيه في دهشة حين رأى المبلغ. بدا له من غير المعقول أن تستطيع امرأة واحدة انفاق كل هذا المال على الملابس .

.

كان هناك ايضاً كيس نقود يحتوي على خمسة وستين جنيهاً, ورخصة سير . كل ذلك باسم "دورا كافانااغ" . لابد أنها نقلت ذلك الآن الى اسم زوجها . أم تراها إحدى تلك النساء اللآتي يفضلن استعمال اسمهن الخاص ؟
كافاناغ؟ راح طيف يتحرك في أعماق ذاكرته ثم تبدد.هز رأسه. دع الذكرى تأتي لا إرادياً.
أمسك بمفكرة صغيرة . يا لها من فتاة كثيرة الأعمال ! فتح صفحة أو اثنتين ملأى بمواعيد غداء في مطاعم فخمة , ومناسبات أسبوعية مشطوبة بخط عمودي يظهر التخلف عن الحضور. ألقى بالمفكرة على الطاولة وهو يشعر بالاشمئزاز من نفسه لمجرد التفكير في فتحها . كل ما كان يهمه هو احتمال وجود هاتف خلويّ.

.

كانت الحقيبة تحتوي أيضاً على أدوات الزينة المعتادة, ودبابيس الشعر ومفاتيح السيارة. وضع المفاتيح في جيبه ثم تردّد لبعض الوقت حين تذكّر النقود. وأعاد كل الأغراض الأخرى الى الحقيبة.
لم يجد أيّ هاتف خلويّ, لحسن حظه. لكنّه, على غير عادته , أخطأ في عدم التنبه لذلك منذ البدء. كما أنه سيرتكب خطأ ثانياً إن لم يترك هذا الكرسي حالاً, قبل أن يستسلم للنوم.
وقف مترنحاً, ثم فتح صنبور الماء الساخن, وأرغم نفسه على الحلاقة رغم ارتجاف يده من شدّة الإرهاق.
قد يضطر للرحيل بسرعة. وعليه أن يحسّن مظهره ويهتم بأناقته كي لا يلفت النظر ويثير الشكوك حوله.
لذا يجب أن يأخذ معه بعض الملابس النظيفة من خزانة "ريتشارد" وهو أمر, من غير المحتمل أن تعترض عليه زوجته . بل إنه يشك في أن تلاحظ ذلك.
نشف وجهه , وحبس أنفاسه من الألم الحاد الذي شعر به عند ارتداء الكنزة . ثم مرّر يده في شعره وأدرك أنه بحاجه ماسة الى القص لكنه لا يستطيع شيئاً إزاء ذلك .
خطر له أن يصعد إلى غرفة النوم لإلقاء نظرة على "صوفي" وإعادة الحقيبة إلى مكانها. لكن, ما إن اقترب من الباب حتى وجده مفتوحاً على مصراعيه. كانت "صوفي" في السرير مستغرقة في النوم, كما تركها إلا أن "دورا" لم تكن إلى جانبها.

.

mymemory 25-02-17 09:59 PM

رد: أغنية كي يرحل
 

هبط "غانون" السلم بسرعة خاطفة متناسياً الألم في أضلعه.كان يتوقع أن يجد الباب الخارجي مفتوحاً على مصراعيه بسبب اندفاعها الجنوني للهرب منه . لكن كل شيء في غرفة الجلوس, كان على ما يرام .
كانت ألسنة النيران تستعر متراقصة في الموقد , ملقية بالدفء والأضواء المرتجفة على الكرسيين الموضوعين .كانت "دورا" تجلس متكورة على أحدهما , وقد أحنت رأسها على دفتر ملاحظات , وشعرها الأشقر يتألق في بركة من الضوء تنسكب من مصباح في الزاوية.حتى أنها لم ترفع رأسها إليه حين اندفع داخلاً الغرفة.
_ماذا تفعلين؟ ظننتك ستبقين مع "صوفي" . هيا , نامي.
كان صوته متلعثماً بعد أن أدرك مدى حماقته. تحركت قليلاً, وهي تعض طرف قلمها:
_ لم أستطع النوم. إنه الرعد , لقد جعلني أنهض من السرير .
_هل أنت خائفة من الرعد؟

.

تملكته الدهشة. كانت نحيفة رشيقة كشجر الصفصاف, لكنها كانت تتمتع أيضاً بنوع من القوة والمرونة. لم تكن تبدو من النوع الذي يخاف.
_ لا . إنه لا يخيفني .إنه يذكرني فقط بأحداث محزنة . أحداث أفضل عدم التفكير بها. فأقوم بعمل ما , ليساعدني على نسيانها.
_فهمت .
_لا . لم تفهم. لكن , ليس للأمر أهمية.
أخذت تنظر إليه بثبات, بعينيها السوداوين الكبيرتين ثم أشاحت عنه بوجهها وتناولت فنجانا بقربها . ظلّ يحدق بها , فقالت:
_ إنه شراب كاكاو . كان علي أن أعد لك فنجاناً. لكن , لو كنت مكانك, لخفت أن تضع لي فيه حبوباً منومة أو ما شابه.
قال يشاركها مزاحها العدائي:
_ ما كنت لتفعلي ذلك . لأنك متلهفة لرؤيتي أرحل .
_ هذا صحيح. لكن , مادمت لا تبدو عازماً على الرحيل , فالبديل الوحيد المتوفّر لي هو أن أعمد إلى تخديرك لأحضر شخصا يخرجك من هنا . يبدو لي ذلك أسهل بكثير من أن يحاول ضربك على رأسك بمحرك النار على كل حال, ما دمت لا أتعاطى الحبوب المنومة, فأنت آمن تماماً . هل ترغب بتناول الطعام؟ هناك علبة جبن غير مفتوحة في الثلاجة, أو بيض كما أنك أحضرت الحليب معك .
أعادت فنجانها إلى الطاولة ثم أخذت تضع ملاحظات في دفترها.
_ من أين اشتريته في هذا الوقت من الليل؟
لم يجب فأضافت:
_المكان الوحيد الذي أعرفه هو الكاراج الذي يفتح طوال الليل في الطريق الرئيسية.

.

توقفت عن الكتابة ثم رفعت بصرها إليه ذاهلة:
_هل مشيت كل تلك المسافة لتصل إلى هنا؟ مع صوفي؟
_مشيت ببطء
كانت الطريق خالية من القناصة والألغام الأرضية والقذائف... كان أمراً لطيفاً وسهلاً...
ونظر إلى الكرسي الذي يقابلها في تردّد ثم جلس عليها:

_ ماذا تفعلين؟
_ إني أكتب .
كان هذا واضحاً له .
_رسالة, شعر, طلب لالتماس العون والنجدة تضعينه في زجاجة وتقذفينها إلى النهر آملة في أن يراها أحد صيّادي السمك في الصباح؟
_ كلا, إنهّا في الحقيقة مقالة لمجلة نسائية.
_آه . هل أنت كاتبة؟ وهل أنت ناجحة؟
_هل تسألني إن كنت أكسب كثيراً من المال؟
_وهل تكسبين.؟
.

كان بإمكانها أن تخبره بأنها ليست بحاجة للعمل لأجل المال . بإمكانها أن تخبره بأن الجرائد والمجلات قد حاصرتها لأجل قصتها فقررت أن تكتبها للدعاية لقضيتها .لكنها لم تشأ أن يهتم بها إلى هذا الحد, فقالت:
_ لم أكسب بعد
رأت من ملامح وجهه المكفهرة أنه يظنها تخادع نفسها . وأخذ يغالب النعاس في كرسيه بسبب حرارة النار . عصر "غانون" عينيه وقرص جسر أنفه وهو يقاوم حاجته إلى النوم . وخطر له أن الطعام سيساعده , فقال:
_أظنني سأقبل عرضك بتحضير الطعام لي .
_إفعل ذلك بنفسك.
ودونت شيئاً في الدفتر بسرعة كأنها لا تهتم سواء أأكل أم لم يأكل .
_ يبدو أنك لم تأكل وجبه كاملة منذ أسبوع.
_ هذا صحيح .
حولت إليه انتباهها الكامل:
_ حقاً؟ أنت تبدو فظيعاً للغاية.
_ شكراً , لاحظت ذلك . كما أنني لا أشعر أني بصحّة جيّدة , إن كان ذلك يهمك .
مالت إلى الأمام كأنها تريد أن تمد يدها إليه . لكنها أبقت يديها على الدفتر في حجرها.
_إسمع , اذا كنت واثقاً من أنني لم أسممك , يسرني أن أعد لك شيئاً تأكله.
نظر إليها برهة, إنه واثق من أنها لن تسممه ,لكنه سيكتفي الآن بهذا القدر من الثقة.
_ بعض البيض واللحم لفقط.

.

نزلت عن الكرسي ووضعت الدفتر والقلم على المنضدة بجانبها.
_لن أتأخر.
نهض واقفاً, وأدركت أنه يتبعها إلى المطبخ.
_سأساعدك .
هزت كتفيها كأنما لا يهمها الأمر .لكن هذا كان يناسبها تماماً , فهي تفضّل أي شيء يبقيه في الطابق السفليّ .
_تلك هي الثلاجة .
اتجه نحو الثلاجة وأخذ يتفحّص محتويات الرفوف .أخرج عصير برتقال وصندوق بيض وعلبة لحم غير مفتوحة .
وضعت "دورا" المقلاة على النار بانتظار أن يفتح "غانون" علبة اللحم التي كانت قد اشترتها هذا الصباح . تثاءبت وهي تنظر إلى ساعة الحائط .كانت تقارب الثالثة بعد منتصف الليل .فتذكرت أنّ آخر مرة استعملت فيها هاتفها الخلوي كانت صباح يوم أمس . كانت تنتظر مخابرة فتركته مفتوحاً في حقيبتها عندما ذهبت إلى السوبر ماركت .لذلك, بات الآن فارغاً من الطاقة .كيف استطاعت أن تكون بهذا الغباء؟
بسهولة ..كان هذا هو الجواب البسيط . كانت دائماً ترتكب الخطأ نفسه ,دون اكتراث .

.

لقد وصلته بالكهرباء بجانب سريرها لكي تشحنه بالطاقة , وأخفته عن النظر قدر الإمكان . لكنها كانت تعلم أن "غانون" سيستمر في مراقبتها . ومن غير المحتمل أن يكتشف سرها إن هي أبقته بعيداً عن الغرفة .
لن يستغرق شحنه طويلاً . بعد أن ينهي "غانون" طعامه, وتذكّي النار في الموقد , لا بد أنّه سيستغرق في نوم عميق .
_لديّ بعض الفطر إن كنت تحبه .
سارت نحو الثلاجة .
_الفطر البريّ؟ من أين حصلت عليه ؟
_التقطته هذا الصباح .

.

نظرإليها متأملاً فأدركت ما كان يفكر فيه , فقالت :
_سآكل واحدة منها أوّلاً إذا شئت .
_ليس هذا ضرورياً . أستطيع رؤية الخطأ , سواء متعمداً أم لا .
وضعت اللّحم على الموقد ثم أخذت تكسر البيض في وعاء , بينما جلس على مقعد منخفض أمامها . سالها:
_كيف تعرفت إلى ريتشارد؟
أبقت عينيها على الوعاء , وتمنت لو أنها لم تبدأ قطّ هذا الخداع السخيف . تأوهت دون وعي :
_لقد اخبرتك . لقد عرّفتنا أختي ببعضنا البعض .
منحت نفسها وقتاً للتفكير في شيء مقنع أثناء خفقها البيض .
_ إنه ليس من روّاد الحفلات . فقد تعرف إلى زوجته الأولى في مباراة للرماية .
_أنا لا أجيد الرماية .
لم تكن بشرتها الرقيقة المشمشية اللون تدلُّ على تعرُّضها للشمس , كهواة الطبيعة ومحبّيها .
سألته :_ كيف أصبح اللحم ؟
تقدم من الموقد يتفقد المقلاة :
_ ممتاز .
ثم ألقى فوقه قليلاً من الفطر وهو ينظر إليها مفكرا ً بينما سكبت هي البيض في مقلاة صغيرة , قبل أن تتقدّم نحوه , قال :

.

_ لا بأس أخبريني كيف تعرفت إليه .
_ كان ذلك أثناء العمل .
وسّرها أن تضطرّ للتركيز على البيض . قررت أن من الأسهل عليها أن تتمسّك بقصة "بوبي" من ان تخترع قصة من عقلها .
_ هل كانت أختك تعمل عنده؟
كانت أختها , في الواقع , تعمل في تصوير فيلم للإعلان عن مواد الزينة على ضفاف النهر .
_ ليس تحديداً . . .
_"صوفي" ماذا حدث ؟
التفتت "دورا" فرأت الفتاة الصغيرة واقفة في العتبة . أثار شيء ما في حركاتها ذكريات مؤلمة في نفس "دورا".
_أظنها تريد الذهاب إلى الحمام , يا"غانون" . أتريدني أن أذهب معها ؟

.

_لا , فهي لاتعرفك. كما أنها لا تتكلم الإنكليزية جيداً .
انحنى وحمل الطفلة. أخذت "دورا" تنظر إليهما من بعيد , وكادت تقسم أنّ العرق يتصبّب على جبينه من شدّة الألم . ودون أن ينطق بكلمة واحدة , حملها عبر غرفة الجلوس قبل أن يتواريا في الردهة الأمامية.
غابا بعض الوقت . وبدأت "دورا" تتساءل إن كان استسلم للنوم بجانب الطفلة بعد أن أعادها إلى السرير . حين عاد الإثنان معاً, كانت "صوفي" ترتدي قميصاً نظيفاً يصل إلى قدميها , وسترة صوفية سميكة تجر ذيلها خلفها . قال وقد انبسطت أساريره :
_ غزوت خزانة ملابسك , وأرجو أنّك لا تمانعين . فقد بللت "صوفي" ملابسها .
قالت باسمة للطفلة :
_ما من مشكلة . مرحباً "صوفي" . بما أنك استيقظت الآن , هل تريدين أن تأكلي ؟

.

كانت قد أعدت خبزاً محمصاً , فمدت على القطع بيضاً مخفوقاً مقلياً .
ترجم "غانون" كلامها للطفلة , متحدثاً بلغة بدت مألوفة لـ "دورا" .
واتسعت عينا "صوفي"وهي تراه يجلس على كرسي منخفض ويضعها على ركبته ثم يقدم لها الطبق . أخذت تأكل بأصابعها بسرعة لا تكاد معها تمضغ طعامها , وراحت تلملم حتى الفتات الصغيرة من الطبق . قالت "دورا" :
_هناك المزيد.
لكن "غانون" هز رأسه :
_ هذا يكفي الآن .
وسحب طبقه نحوه وأخذ يأكل بشكل شاذ وبيد واحدة .
_ما هذا ؟ لا يمكنك أن تأكل بهذا الشكل . أعطني الطفلة .

.

لم يناقشها . لكنّ الطفلة تعلّقت به عندما انحنت "دورا" لتحملها . أخذ يتحدث إليها بلطف بنبرة مشجعة ووجدت "دورا" نفسها هدفاً لنظرات الفتاة الصغيرة . ثم رفعت لها "صوفي" ذراعيها بثقة تامة .
_ آه حبيبتي . جسمك بارد . سآخذها إلى جانب الموقد , "غانون" .
_ بكل تأكيد .
كانت قدما "صوفي" متجمدتين , فأخذتها "دورا" إلى الكرسي الكبير بجانب الموقد , مكورة نفسها والطفلة في حضنها . أخذت "صوفي" تحدق في شعر "دورا"الأشقر الطويل , ثم مدت يدها ولمسته .
قالت "دورا" بالإنكليزية :
- "شعر" .
كررت "صوفي" الكلمة باسمة , ثم ما لبثت أن أغمضت عينيها واستولى عليها النوم وهي لا تزال ممسكة بخصلة الشعر الذهبية الطويلة .و إذا لم تستطع " دورا" الحراك كيلا تزعج الطفلة , استندت إلى الخلف مسترخية , و أغمضت عينيها , أمام حرارة الموقد و هي تشعر بالنعاس .
عندما جاء "غانون" يبحث عنهما بعد خمس دقائق , كانتا نائمتين وقد احتضنت إحداهما الأخرى . وقف بجانبهما لحظة يفكر في إعادة "صوفي" إلى السرير , لكنه لم يشأ ازعاجها مرة أخرى , كما أن هذا الوضع قد يشعرها بمزيد من الاطمئنان , ويمكنه من انتهاز الفرصة والتمتع بقسط من الراحة لعدة دقائق , لعلمه بأن صوفي ستوقظه إذا نهضت "دورا".

.

أضاف الحطب إلى النار قبل أن يتمدد على الكرسي الآخر قبالتهما .ورغم الإعياء الشديد الذي يشعر به , إلا أنه رفض أن يغمض عينيه عن هذا المشهد المسالم .
لقد استسلمت المرأة والطفلة للنوم لشعورهما بالأمان . عادت به ذاكرته إلى الثماني والأربعين ساعة الماضية فأدرك أن هذا السلام لم يكن إلا مؤقتاً بالنسبة إليه وإلى "صوفي" على الأقل .


mymemory 26-02-17 10:56 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
استيقظت "دورا" وهي تشعر بتصلب وإنزعاج. كان رأسها في وضع متعب وأحسّت بالخدر في ذراعها اليسرى. لم تستطع لحظة تحديد مكانها. ثم طرفت بعينيها وهي ترى الرجل ممداً على الكرسي أمامها , ورأسه ملقى الى الخلف , وجسمه الطويل مسترخياً في النوم ,وعاد كل شيء لذاكرتها .

تذكرت "غانون" أكثر من أي شيء آخر . مستحيل , هذا المستبد الذي لا يطاق!
وتذكرت الهاتف في غرفتها في الطابق العلوي . لقد جلست مع "صوفي" أمام الموقد لأن الطفلة كانت باردة. ويبدو أنها غفت . لقد فات الأوان الآن . لكن , هل فات حقاً ؟ هو ذا "غانون" مستغرق في النوم . فعل الطعام والدفء فعلهما , وبعثا فيه الاسترخاء بعد كل ذلك الارهاق .
بدا أقل خطراً أثناء نومه ورأسه ملقى الى الخلف مبديا عنقه الطويل . بدا ضعيفا وهو تحت رحمتها .
فقدت ملامحه الصلبه في هدوئه وسكينته , ذينك التوتر والعنف اللذين كانا يسودانها أثناء غزوه لها في منتصف الليل . لم يبد لها الآن غازياً على الأطلاق , بل أشبه بأستاذ جامعي أو فنان .

.

كانت خصله من شعره الأسود قد سقطت على جبهته العاليه مسبغه عليها نوعاً من الرقة, كذلك على صدغيه الغائرين . وراح اهتزاز الضوء يبرز عينيه بلونهما المتأرجح بين الذهب والعقيق , لكنهما كانتا الآن مغمضتين وقد أسدلتا أهدابهما الكثيفة السوداء .
كان أنفه الطويل المستقيم وفمه الحازم وذقنه العنيدة خير دليل على رجولته التي لانهاية لقوتها واحتمالها . كان رائع الجمال الى درجة مذهلة.
لم يكن يبدو خطراً على الاطلاق بل رجلاً قد يكون أخاً أو عماً أو خالاً لأي إنسان . ونظرت الى الطفلة التي تكومت على كتفها ... أو اباً محباً. لكن المظاهر قد تكون خداعة . وهناك أكثر من نوع واحد من الخطر .

.

بدت " صوفي " مستغرقه في النوم هي أيضاً. والله وحده يعلم ماعانته هذة الطفلة. لكن سوء التغذية كان بادياً عليها , كذلك الارهاق. قد تتمكن ربما من حملها الى السرير دون أن توقظها .
لكن ما أن راحت تتحرك حتى فتحت الطفلة عينيها السوداوين الكبيرين . وقبل أن تصرخ , وضعت "دورا" أصبعها على شفتيها مشيره نحو "غانون" النائم .فهمت "صوفي" على الفور وأطبقت فمها وهي تنظر الى "غانون" . وحين أدركت السبب , وضعت هي أيضا اصبعها على شفتيها . ابتسمت لها "دورا" باستحسان فأشرق وجه الطفلة وهي تبادلها الابتسام . حتى الآن , كان كل شيء على مايرام .
استطاعت أن تقف حاملة الطفلة رغم تشنج عضلاتها المؤلم وهي تخطو بحذر فوق ساقي "غانون" الممدودتين . حاولت جاهدة أن لاتنظر اليه , لثقتها أنه سيشعر , بشكل ما , بوقع نظراتها عليه فيتحرك.

.

زحفت نحو الباب بصمت, و هي تتوقع مع كل خطوة أن يخترق صوته المنخفض الصمت ويسألها إلى أين هي ذاهبة . لكنها وصلت إلى الباب دون أن تزعجه . ثم صعدت السلالم وبلغت غرفتها وقلبها يخفق بعنف وهي تضع الطفلة في السرير .
أشارت إليها بالصمت مرّة أخرى قبل أن تخرج الهاتف من تحت السرير . لم تضع الوقت في طلب الرقم الذي تحفظه غيباً . همست تقول :
_هل يمكنني التحدث مع "فيرغس" من فضلك ؟
فأجابت السيدة هاريس :
_آسفة . لا أستطيع سماعك جيداً . الخط سيء .
همست بلهفة :
_فيرغس . هل هو موجود ؟
_لا أظنه خرج بعد . لحظة واحدة .
سمعت "دورا" صوت وضع السماعة على منضدة الردهة . ومضت لحظة طويلة حبست فيها "دورا" أنفاسها ثم فجأة سمعت السماعة ترفع وصوت "فيرغس" الهادىء يقول ببساطة : "كافاناغ" .

.

أدركت كيف ستكون ردة فعله . فهو سيتصرف باستعلاء , تماماً كما تصرف حين أخبرته عن تصميمها على قيادة شاحنة تحمل مساعدات إلى شرق أوروبا . . . وكان واثقاً من أنها ستتصل به تليفونياً خلال أسبوع لتطلب النجدة ضارعة . وتذكرت الوعد الذي قطعته لنفسها بأن تموت قبل أن تفعل ذلك .
وهكذا, مضت ثلاث ليالٍ في رحلة أشبه بكابوس داخل "غرازنيا" تجرّ مواد الإغاثة خلفها بأمان .ثلاث رحلات لو أنها صرخت خلالها بأعلى صوتها لما تمكن أخوها من مساعدتها رغم رابطة الدم بينهما . نجت من الإرهاق , وجنود الأعداء , والظروف البدائية ونقص المياه النظيفة وسوء الطعام , والرعب في مخيّمات اللاجئين ورصاص القنص . . .
والآن , وقد أصبحت في بيتها آمنة , أتراها ستندفع حقاً إلى "فيرغس" تطلب النجدة عند أول مشكلة صغيرة تواجهها ؟ إنه يبعد عنها مئة ميل فماذا يمكنه أن يفعل ؟ لا يتطلب الأمر مخيّلة خصبة. إنه بلا ريب سيتصل برئيس مخفر الشرطة الذي يعرفه, ويطلب منه إرسال شرطة مسلحة إلى الكوخ لإنقاذ أخته من موقف مخيف وضعت نفسها فيه .

.

أتراها حقاً تريد أن يأتي "فيرغس" إليها لينقذها؟
كانت قد ذهبت إلى "غرازنيا" لتعرض المساعدة لا لأن تأخذها. كانت تبحث عن التحدّي. ومع ذلك , حين جاءها التحدي مقتحماً بابها , تندفع إلى "فيرغس" تطلب العون؟
إن كان "غانون" صادقاً في ما يتعلق بشخصيته , فهي ليست في خطر . وحين أتت زاحفة إلى الطابق العلويّ هذا الصباح , كان بإمكانها انتهاز الفرصة للهرب . وإذا كانت تريد الشرطة لاستطاعت الاتّصال بهم بنفسها .
كانت صوفي راكعة على السرير وقد فتحت عينيها الكبيرتين تنظر إليها بجد , وأحنت رأسها قليلاً إلى الجانب كأنها تنتظر من "دورا" أن تقرر .
_ آلو , آلو. . .هل هناك أحد؟
كان صوت "فيرغس" يلح في أذنها . كلمة واحدة منه فتأتي الشرطة مندفعة لنجدتها . لكنه حين سخر من خطتها في السابق , أخبرته أنها امرأة راشدة. لقد حان الوقت الآن ربّما لتثبت هذه الحقيقة. لقد حدثتها غريزتها بأن "غانون" لن يؤذيها , ألا ينبغي على الراشدين أن يثقوا بغرائزهم ؟

.

لا شكّ في أنّ "غانون"و"صوفي" واقعان في مأزق من نوع ما. قد تكون حمقاء, لكنها ترغب في مساعدتهما بنفس القدر الذي شعرت به نحو أولئك اللاجئين التعساء الذين قابلتهم في غرازنيا .
_آسفة جداً . أخطأت في الرقم .
وقبل أن تغير رأيها , قطعت الاتصال ثم أعادت الهاتف إلى الشحن , مخفية إياه تحت السرير .ثم ابتسمت لـ"صوفي" :
_ هيا يا حلوتي, أظنك بحاجة إلى استحمام .
استيقظ "غانون" ببطء, من نومه العميق بشكل تدريجيّ إلى أن صحا تماماً . تمطى وشعر بالألم مازال موجوداً في جنبه إلا أنه أصبح أخف . ربما لم تكن إصابته سيئة كما كان يظن . او قد يكون الطعام الذي تناوله والنوم المتواصل الذي لم يحظ بمثله منذ أيام , كل ذلك جعله يشعر به خفيفاً .
لكن الجو كان أكثر برودة , فالنار كانت تخبو وتخمد شيئاً فشيئاً . فارتجف في هواء الصباح الباكر. ما كان يحتاجه الآن هو قهوة ساخنة , وبعد ذلك يصبح مستعداً لمواجهة مشاكلة المتراكمة .
لكنّه أدرك حين انتصب جالساً , وهو يفرك وجهه بيديه أن عليه تأجيل أمر القهوة والبيض , لأن المشكلة لا تحتمل الانتظار . كانت الكرسي القائمة في الجانب الآخر من الموقد خالية . لقد رحلت "صوفي" و "دورا" !


.

mymemory 26-02-17 10:57 PM

رد: أغنية كي يرحل
 

5-رجل في الفخ

قفز "غانون" من مكانه,ثم سمع ضحكاً فيما كان في منتصف الطريق إلى الباب الخلفي .توقف دهشاً ,واستدار على عقبيه مسرعاً نحو السلم.
كانت "دورا" راكعةً بجانب حوض الحمام تسكب الماء على "صوفي" بيديها . وعندما اندفع إلى الداخل, التفتت إليه باسمة:
- مرحباً .
كانت ترتدي قميصاً أزرق فضفاضاً وبنطالاً أسود يلتصق بساقيها.
وكان شعرها مربوطاً إلى الخلف بعصابة,وقد أزالت كلّ آثار التبرّج عن وجهها.بدت غير متكلفة لكن مذهلة.
- نحن نتسلى. أتريد أن تلعب؟
ابتلع ريقه وقد تسمّر في مكانه . يلعب؟هل لديها أيّ فكرة عما تقوله؟
قال متصلباً:
- كنت أتساءل أين عساكما تكونان.
- وأين عسانا نكون؟لكن يبدو أننا أزعجناك .
وابتسمت فأدخل إشراق فمها الاضطراب إلى نفسه:"بدوت حالماً للغاية وأنت نائم".
- حقاً؟
لكنه لا يشعر بذلك الآن.
- خطر لي أنّ صوفي سيمتعها الاستحمام.
- يبدو أنك على حق.
.
أفسحت له مكاناً ثم قالت تدعوه للجلوس:
- أحذرك من أن "صوفي" تحب أن ترشّ الماء حولها.
- حقاً؟
ركع بجانبها ولكنه لم ينظر إلى "صوفي".كانت "دورا" قد استحمت قبلها وما زال شعرها رطباً,بينما تفوح منها روائح الصابون والشامبو الطيبة , فلم يستطع تحويل عينيه عنها. راحا يحدّقان ببعضهما البعض,وشعر كأنه يعرفها طوال حياته. وإذا "بصوفي" تقذفه بالماء, وقد أزعجها إهماله لها. فالتفت إليها يقذفها بالماء بدوره فانفجرت ضاحكة وتوسّلت إليه بأن يتوقف. عندما التفت ليسحب منشفة من على الرف ,انتبه إلى أن "دورا" مازالت تحدق به بتركيز بالغ جعلها تعقد حاجبيها.
-"دورا"؟
بقيت لحظة تحدّق به, ثم استدارت بسرعة وسحبت منشفة وهي تخرج صوفي من الحوض وتجففها,ثم قالت فجأة:
- لم لا تذهب وتبدأ بإعداد الفطور يا "غانون"؟ بينما أفتش أنا عن ثياب ملائمة لصوفي؟
- أتفضلين طعاماً خاصاً؟
هزت رأسها نفياً دون أن تنظر إليه.
- وربما تعيد إشعال النار في الموقد,فهذا الصباح لا يبدو دافئاً تماماً,
ولا أريدها أن تصاب بالبرد.
- دعي ذلك لي.
وقف عند العتبة, وهو مصمّم هذه المرّة على عدم الالتفات بينما قالت:
"سأقوم بكل ما أستطيعه للمساعدة".
.
التفت إليها رغماً عنه. كانت واقفة, تحمل "صوفي" بين ذراعيها وقد جعل ضوء الصباح الباكر من خصلات شعرها المنفلتة ما يشبه الهالة.
أدرك في تلك اللحظة تحديداً,السبب الذي جعل "ريتشارد" يقع في غرامها. فقد حرص على أن يتزوجها لكي تبقى معه على الدوام. ولو كان هو في مكان "ريتشارد" لفعل مثله بالضبط.أومأ برأسه ثم اتجه نحو السلم دون أن ينطق بكلمة.
تنفست الصعداء, عندما توارى عن الأنظار. كانت"دورا" معتادة على تحديق الرجال بها . لكن,عندما ينظر"جون غانون" إليها, تشعر بالحرارة تسري في داخلها بشكل لم تعهده من قبل.
وضعت "صوفي" ذراعيها النحيلتين حول عنقها تحتضنها بشدة, والتفتت إليها "دورا" باسمة وقبلت وجنتها النحيلة:
- هيا يا حبيبتي , ولنبحث لك عن شيء ترتدينه.
لم تجد "دورا" في أدراجها ما يلائم "صوفي".فقد كانت بالغة الرقة
والنحول.هل هذا هو السبب الذي جعل "غانون" يخطفها؟ لأنها أُهملت بقسوة شديدة؟
مهما كان السبب , لا تستطيع أن تخبر "صوفي" به . لفتها بالملابس قدر ما أمكنها لكي تبقيها دافئة, ثم عانقتها وحملتها إلى الطابق السفلي .
- هذه الطفلة بحاجة إلى ملابس , يا غانون.
رفع بصره عن الموقد محدّقاً بها:
- تبدو لي على ما يرام .
- لا تكن غبياً. ليس لديها ملابس داخلية .
- لا أظن هذا الأمر يزعجها.
.
- وأنا أيضاً. لكن ماذا بالنسبة إلى الحذاء؟ حاولت أن ألبسها جواربي الصوفية ,فأخذت تنزلق من قدميها. ستبرد قدماها.
تململ بانزعاج:
- سرعان ما تشتعل النار في الموقد.
- هذا حل مؤقت,أم أنك تنوي البقاء هنا إلى أن ينمو جسدها في ملابسي؟
كانت هذه فكرة مغرية.
- لا نظراً للظروف, كلما أسرعنا بالرحيل كان أفضل.
- أيِّ ظروف؟
خطِف ابنته من معسكر للاجئين ؟ واحتمال أن تبدأ الشرطة الفرنسية والإنكليزية بالبحث عنه,هذا إن لم يكونوا قد بدؤا فعلاً؟أو لعله الخطر البالغ الذي يتربّص به إذا قام بارتكاب حماقة مع زوجة صديقه؟ كانت كلها أمور تدفعه إلى مغادرة الكوخ . لكن لا يشكل أي منها سبباً لطيفاً يمكن البوح به .
تعبت " دورا" من انتظار ردّه.
- إلى أين ستذهب , يا"غانون"؟ وماذا بالنسبة إلى "صوفي"؟ لا يمكنك أن تخرج بها من هنا بهذه السهولة. فهي طفلة, وبحاجة إلى دفء ومأوى.
إنها بحاجة إلى رعاية.
كان هذا أمراً جلياً, لكن النجاة هي الشيء الوحيد الذي يشغل باله..
وأن يصل بالطفلة إلى برِّ الأمان. كان يظن أنهما عندما يصلان إلى الكوخ سيرتاحان ويتعافيان وسيتسنى له الوقت للتفكير. لم يتوقع أن يجد أحداً. لم يكن يملك سوى شقته في لندن, وهي أول مكان قد تفكر الشرطة في البحث عنه فيه. . أخذ يكسر البيض في المقلاة.
- أنا مستعد لسماع أي اقتراح .
.
- حقاً ؟ حسناً,لم لا تحل كل مشكلة على حدة؟ قبل أن تأخذ " صوفي" يجب أن تؤمّن لها بعض الثياب. لهذا , سأذهب إلى المدينة وأشتري لها بعضاً منها.
حين رأت الرفض على وجهه ,أضافت تقول:" أو تذهب أنت وأبقى أنا مع " صوفي".
أخذ يحدق بها وهو يجهد لمعرفة ما تفكر فيه .لكنها أغلقت دونه كل شيء وبدت عيناها صافيتان كالمرآة.
- هل أستطيع أن أثق بك؟
- تثق بي لأفعل ماذا؟ شراء الملابس؟ أم إبقاء وجودك هنا سراً؟ لا أرى أحداً سوانا هنا, وبالتالي لا مفر لك من الثقة.
ثم وضعت " صوفي" على كرسي :" حسناً, أيتها السيدة الصغيرة. ما رأيك في القليل من رقائق الذرة المجففة مع الحليب؟"
وأخذت تخشخش بالعلبة و"صوفي" تضحك لها.
****

mymemory 26-02-17 10:58 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
حالما أنهت " صوفي" طعامها, ذهبت "دورا" لإحضار شريط القياس .
أخذت قياسها, ثم رسمت خطا حول قدمي الطفلة ما جعلها تضحك عند وضع العلامة بالقلم . سألها وهي تستعد للخروج:
- إلى أين ستذهبين للتسوق؟
- ليس إلى مكان من دون مفاتيح سيارتي (وراحت تتفقد محتويات حقيبة يدها) لا أدري أين وضعتها؟!
أخرجها من جيبه وناولها إياها: "أظنك تريدين هذه أيضاً ".
ثم أخرج كيس نقودها حيث بطاقة الاعتماد المصرفية.
- أظن ذلك .
فكر لحظة بالاحتفاظ بقطع النقود,لكنه لم يستطع إخراجها من الكيس أمام نظراتها المحدّقة. فدفعها إليها وهي تقول مجيبة عن سؤاله:
- سأذهب إلى متجر " مايبريدج". إنه أقرب المتاجر.
- سجلي كل ما تنفقينه . سأرد لك كل شيء حالما أذهب إلى المصرف.
- أرجوك لا تفكر في ذلك . لن يفلسني ابتياع بعض الملابس " لصوفي".
تذكر وصولات ملابسها الباهظة الثمن , فقال :
- ولا ريتشارد؟
.
حوّلت نظرتها عنه فجأة , وتمتمت مراوغة:
أنا واثقة من أنه سيفعل الشيء نفسه لو كان هنا. يجب أن أسرع قدر ما أستطيع .
تبعها حتى الكراج حيث سيارة " ريتشارد " الفخمة وإلى جانبها سيارة "بوبي " الرياضية الصغيرة المتألقة. وبدت سيارتها الميني الداكنة الخضرة تافهة بجانبهما, لكنا لم تكن تكترث بالتباهي وإثارة الإعجاب. قال وهو يفتح لها الباب لتخرج بالسيارة:
- لديكما سيارات كثيرة بالنسبة لشخصين .
شدت الحزام حولها قبل أن تنظر إليه:
- إنها فقط للتسوق. لكن, إذا فكرت في استعمال إحدى هاتين السيارتين قبل أن أعود, فأنا أنذرك بأن " ريتشارد" عطّل حركتهما قبل ذهابه.
قال ضاحكاً: "ألا يثق بك في ما يتعلق بسياراته؟".
ابتسمت في سخرية:"لا, بل إنه يعرف أصدقاءه أكثر مما يعرفونه هم".
ثم تحركت بالسيارة وهي تقول: "عندما أعود يا "غانون" من الأفضل لك أن تكون مستعداً لإخباري بكل شيء. من يعلم؟ إن وجدت حالتك تستحق العناية , قد تخطر لي أفكار بناءة لمساعدتك".
لم تترك له وقتاً للإجابة, بل استدارت بالسيارة, ثم اتجهت نحو الطريق العام.
أخذ "غانون " ينظر إليها وهي تبتعد, متسائلاً عما إذا كان قد ارتكب خطأً كبيراً. ما كان لأي رجل عاقل أن يظنّ ذلك. لكن, من يدري؟ إن في "دورا" شيئاً لم يستطع تحديده. وهذا ما كان يشغل باله... أو ربما كانت هي نفسها التي تشغل باله.
استدار بسرعة ودخل المنزل مقفلا الباب خلفه. ثم صعد إلى الطابق العلوي منادياً"صوفي" لتتبعه. ساعدها على الصعود إلى سرير "دورا" وطلب منها البقاء هناك بهدوء إلى أن يستحم ويغير ملابسه. حدثها أولاً بلغتها , ثم بالانكليزية.كلما أسرعت بتعلم اللغة كان ذلك أفضل. سألته:
- هل ستعود "دورا"؟
أجابها " غانون" , مكرراً الكلمات ببطء باللغة الانكليزية:
- أرجو ذلك, يا حبيبتي. ابقي تحت الغطاء ليدفئك , ولن أتأخر.
استحم وحلق ذقنه, ثم بحث في خزانة ملابس" ريتشارد". لم يكن قط بصلابة بنية " ريتشارد" كما أنه فقد الكثير من وزنه في الأشهر الماضية.
لكنه بدا حسن المظهر ببنطال عاديّ وقميص ناعم وسترة. لم يكن على عجلة ليغادر الغرفة. جعل يتفحص المنطقة من النافذة ليتأكد من عدم وجود أحد في الجوار. لكن المنطقة الممتدة على طول النهر كانت مهجورة.
.
ألقى نظرة على الحمام الذي كان مصمّماً بطراز حمام الضيوف الباذخ. ووجد باباً آخر يؤدي إلى غرفة ملابس بالغة الأناقة. دخل إليها وأخذ يصفر بهدوء أمام الملابس الباهظة الثمن. لم تكن وصولات الملابس التي رآها في حقيبة يد "دورا" سوى نقطة في بحر . وطافت عيناه على ثياب السهرة الرائعة, والملابس النهارية الأنيقة . لا يمكن لامرأة تعيش في الريف أن ترتدي هذه الملابس اليومية الأنيقة ...امرأة تلبس بنطالاً لاصقاً بجسمها وقمصاناً مقفلة فضفاضة تذهب بها إلى متاجر محلية. امرأة تعقد شعرها إلى الخلف بعصابة من مطاط . بدا هذا كله أكثر تكلفاً من أن ترتديه "دورا".
ومع ذلك , وجد في آخر صف الملابس التي لم تكن مغطاة تماماً بالملاءة البيضاء , البرهان الدافع على قولها الحقيقة . رفع الغطاء ليكشف عن ثوب من الحرير العاجي اللون وفوقه دثار مخملي . كان بالغ البساطة وبالغ التكلف في آنٍ واحد . أسدل الغطاء واستدار , لا يكاد يشعر بألم أضلعه عند قيامه بهذه الحركة المفاجئة . أدرك أنه لم يصدق حقاً حتى هذه اللحظة أن "ريتشارد" و"دورا" متزوجان . لم يرد أن يصدق ذلك .
ياله من معتوه ! سار نحو النافذة يتأمّل المنظر المألوف . لكنه لم يفهم .
ما الذي حدث بينهما ؟ لا بدّ أنه شيء خطير . وإلاّ, لماذا تنتقل دورا إلى غرفة الضيوف بينما كل ملابسها الرائعة مخزّنة في غرفة الجلوس؟
عاد إلى "صوفي" . فلديه من المشاكل ما يغنيه عن التفكير في مشاكل "ريتشارد " و"دورا" .مع ذلك, فهو يريد أن يفهم ما يجري . نظر إلى خزانة الثياب الصغيرة , ودون وخز من ضمير, فتح بابها, باحثاً عن شيء يكشف له سبب انتقالها من الغرفة الرئيسية.
أخذ يحدق في محتويات الخزانة , عاقدا حاجبيه في محاولة لفهم ما يزعجه.
ثم سمع صوت رنين جرس منخفض وممتد , وصوت "صوفي" وهي تضحك . تكرر الصوت, فالتفت ليرى الطفلة تلعب بشيء ما كان متوارياً وراء ثنيات غطاء السرير . هل وجدت "دورا" للطفلة لعبة من نوع ما؟
ثم تقدم منها خطوة , وعاد ذلك الشيء يرن . صرخت "صوفي" بدهشة وهي تنظر إليه مازحة :
- أنا لم أفعل هذا .
.
كاد يضحك عند رؤيتها :
- لا بأس يا حبيبتي .
أراد أن يشعرها باطمئنان كان يفتقده هو فيما الرنين مستمر :"إنه مجرد هاتف !" .
مجرد هاتف . سمع نفسه يردّد هذه الكلمات وهو لا يكاد يصدقها .
أمسكه بيده , لا يدري أعليه أن يجيب أم لا . لكن الهاتف حسم الأمر وتوقف عن الرنين .
رباه ,إنها فتاة غريبة الأطوار . كان بإمكانها استدعاء نصف سكان المنطقة عندما كان نائماً أمام الموقد في الطابق السفلّي .قد تكون فعلت ذلك . لكنها أخبرته بأنها تريد مساعدته , ونادته باسمه "جون" بصوتها الناعم المغري ذاك .ثم اقترحت برقّةٍ أن تذهب إلى المدينة لتشتري ملابس ل"صوفي" .تكلمت بشكل منطقيّ تماماً جعله يعيد إليها مفاتيح سيارتها دون أن يساوره أيّ شك .
رباه , بمن تراها اتصلت ؟ ب"ريتشارد"؟ لا بد أنها اتصلت به أولاً .
عرف الآن سبب ظهورها أقل توتراً هذا الصباح وأكثر رغبة في المساعدة.
كان قد أقنع نفسه بصوابيّة تفكيره حين سمع صوت سيارة تتقدّم ببطء نحو البيت . كان الوقت مبكرا لعودة "دورا" ,إلا إن كانت نسيت شيئاً .اتجه إلى النافذة بسرعة . لا , إنها ليست "دورا" ,بل سيارة الشرطة . سبق أن قال
ل"دورا " مازحاً إن فتاها الشرطي سيختلق عذراً ليعود لرؤيتها , لكنه لم يتوقع أن يفعل ذلك في العاشرة صباحاً .
ثم رأى من مركزه الحصين شاحنة شرطة صغيرة أخرى تتبعها. تراجع للخلف , وهو يطلق الشتائم , وحمل "صوفي" هابطاً السلالم بسرعة قبل أن يعيق هربه أيّ شيء .كان دثارها جافاً الآن , ومطوياً على الأريكة .
كانت الطريق تلتف عادةً خلف الكوخ .استغرق تسلل "غانون " في ذلك الاتجاه عدة لحظات . ثم جثم خلف السياج , متجاهلاً الألم البالغ الذي أخذ يسري بين أضلعه . وعاد ليحتمي داخل أجمة صغيرة من الأشجار الملتفة , حيث توقف هناك يستجمع أنفاسه ويمسح العرق البارد الذي غطى جبينه .
لم تأت "صوفي" بأي حركة , فقد مرّت بها مثل هذه الأوضاع مرات كثيرة ما جعلها تعتادها . لكنها تعلقت به دافنةً وجهها في ياقة سترته وقد جمدت من الخوف .
.
نظر أحد رجال الشرطة نحو الأجمة , فتراجع "غانون" بخفة إلى الداخل . ومع كل خطوة , راح يشتم في سره تلك الفتاة التي غدرت به بهذا الشكل الحذق . هل كانت تظن أنه سيأخذها رهينة لينجو بنفسه إذا ما داهمته الشرطة أثناء وجودها ؟ وهل هذا ما أخبرتهم به؟
استند إلى شجرة . لم يكن يلومها ,لكنها أخبرته بأنّها ستبذل ما في وسعها لمساعدته . لقد نظرت إليه بعينيها الرائعتين ونطقت باسمه , فأراد أن يصدقها! بكل خلية في جسده .آه , كم كان راغباً في تصديقها .
أخذ يراقب الشرطة وهي تحاصر الكوخ . ما الذي فعلته ؟ هل أخبرتهم بأنّها ستستدعيهم عندما تخرج من الكوخ ؟ وتخبرهم متى يدخلون آمنين؟. .
***
أخذت "دورا" تفكر وهي تنتقل بين سلسلة من المتاجر وتقف أمام منظر ثياب الأطفال المعروضة الذي يسيل اللعاب , وخطر لها أنّ المشكلة لا تكمن في أن تقرر ما عليها شراءه لفتاة صغيرة , وإنما متى تتوقف . كان هناك الكثير لتختار منه, فكل ثوب, وكل زوج من الجوارب, و كل رداء, كان يصرخ بها "اشتريني" . لكن , كانت الفائدة حاليا أهمّ من الزينة . وبما أن الفتيات الصغيرات يفضلن "الجينز" والكنزات فقد راحت تختار منها بلا
حساب , كما أطلقت لنفسها العنان في شراء أجمل ما وجدت من ملابس داخلية .
اختارت معطفاً واقياً من المطر متألق الألوان ببطانة وحشوة وناولته إلى عامل الصندوق .ثم رأت دمية من القماش , بشعر أسود ذكرتها كثيراّ "بصوفي" , ما جعلها تعجز عن مقاومتها . دفعت بواسطة بطاقة الاعتماد ,
ثم اتجهت إلى المصرف . فوجئت بنفسها تكتب ببساطة شيكاً بمبلغ خمسمئة جنيه ووقفت تنتظر بينما الموظف يتحقّق من حسابها .
.
لم يكن "غانون" قد طلب منها نقوداً , لكنها شعرت بأنه بحاجة إليها . لم تكن ,طبعاً , تنوي إعطاءه المبلغ فوراً . لم يكن ذلك معقولاً . ستحتفظ بالمال بعيداً عن متناول يده إلى أن يخبرها بقصته كلها .أين هو المكان الآمن ؟ ليس محفظة يدها بالتأكيد . استيقظت مجفلة من أحلام اليقظة لتدرك أن الموظف كان ينظر إليها بنفاذ صبر , منتظراً جوابها . قالت :
- آسفة .هل قلت شيئاً؟
- كيف تريدين نقودك , يا آنسة "كاڤاناغ"؟
- عشرات وعشرينات , من فضلك . آه , انتظر . . إجعلها عشرات فقط.
انتظرت "دورا" الموظف إلى أن يعد النقود ويسلّمها لها . ستفكر فيما ستفعله بالنقود عندما تصبح في سيارتها .
عادت تسير في مركز التسوق , ووقفت عند الخباز لشراء الخبز الطازج والكعك الحلو . وعندما مرت بالمكتبة , توقفت قبل أن تدخل إليها . كانت المعاجم الأجنبية في مكان واحد, فوجدت بسرعة الكتاب الذي تريده . حملته إلى مكتب البائع ووضعته بجانب كومة من الجرائد المحلية لتخرج كيس نقودها من الحقيبة .ثم ,وقع نظرها وهي تستعيد الكتاب على عنوان في الجريدة يقول : (طائرة مخطوفة تهبط اضطرارياً في حقل) .
جمدت مكانها لحظة , غير عابئة بموظفة الصندوق التي كانت تمد يدها إليها بالمشتريات .
لا يمكن أن يكون "غانون" . لا . إنه أمر أشدُّ إثارة من أن يكون حقيقياً .
وإذا بزفرة واهنة تخرج من بين شفتيها . كانت الليلة الماضية مسرحية مثيرة للغاية .لا ينقصها شيء .
هزيم الرعد المخيف والبرق يضيء مشهد رجل يملأه القنوط واللهفة وهو يحمل طفلة صغيرة يجتاز بها الحقول الموحلة باحثاً عن مأوى .ثم يصل إلى كوخ تقيم فيه امرأة شابة وحيدة لا حول لها , كانت نائمة في غرفتها .
.
لم يكن هذا مجرد حدث مثير ,وإنما فصول مسرحية كاملة . لكنّ الأمر كله سخيفٌ حقاً .لا يمكن أن يكون "غانون " قد خطف طائرة . ولماذا يفعل؟
وأخذت نسخة من الجريدة .
نظرت إلى القاموس في يدها , وجاءها الجواب على الفور .لقد سبق لها أن ذهبت إلى مخيمات اللاجئين وقابلت أطفالاً مثل "صوفي" وتحدّثت إليهم .
إنها ليست ابنته , بل لاجئة . لكن, لماذا يخطف رجل طائرة لكي يسرق طفلة من مخيم اللاجئين؟
كان الجواب واضحاً تماماً .لقد كانت هي هناك. وحملت الأطفال وبكت لأجلهم . حتى أنها تضرّعت إلى وكالة الإغاثة بأن يسمحوا لها بتبني واحد منهم .لكن , ما الفائدة؟ وكيف بإمكانك اختيار الطفل الذي ستساعده ؟ كان عمال الإغاثة قد شهدوا ذلك من قبل . وأقنعوها بالتخلّي عن الفكرة ,بلطف,
مؤكدين لها أنّ ما تفعله يساهم في مساعدة جميع الأطفال .
لكن"غانون" لم يسمح لنفسه بالتخلّي عن رغبته . وقد تصرف وفقاً لذلك . لكن , أن يسرق طائرة . . .!
بقيت تحدق بالصحيفة ,آملة العثور على ما يثبت خطأها. كان "غانون" يحب "صوفي" بإخلاص . بدا ذلك واضحاً في نظراته للطفلة , وفي نبرة صوته وهو يتحدث إليها بحنان بالغ . لكن, إذا قبض عليهما رجال الشرطة, فسيعيدون "صوفي" حتما إلى المخيم .لن يكون أمامهم خيار آخر.
- التالية .
عند سماع صوت موظفة الصندوق ,استيقظت "دورا" من تأملاتها
وقالت :
- آسفة .كنت أحلم .
- أتريدين الصحيفة؟
أتريدها ؟ يالسعادة الجاهل . في الساعات الماضية , كانت تظنُّ أنَّ مساعدة "غانون" هي عمل صائب . كانت في قرارة نفسها على يقين من ذلك . لكن, عليها أن تتأكد من أنه ليس مجرماً خطيراً هارباً من العدالة .
- نعم شكراً .
.
جلست في مقهى غريب وطلبت فنجاناً من القهوة , وقد استحوذت عليها أفكار تعيسة يائسة . ثم فتحت الجريدة وأخذت تقرأ . بالرغم من العنوان الكبير, وصورة الطائرة الصغيرة التي بدت مائلة قليلاً إلى الجانب , لم تعرض المقالة سوى الحد الأدنى من الحقائق:
(تبحث الشرطة عن سائق طائرة صغيرة بمحرك واحد اضطر إلى الهبوط في "مزرعة مارش" في الليلة الماضية . ومن المرجَّح أن تكون الطائرة مسروقة من أحد الحقول الخاصة خارج باريس , وقد أصيبت ببعض الخلل جراء الهبوط . وعند وصول رجال الطوارئ , كان السائق قد اختفى .
ويبدو أنه ولَّى هارباً سيراً على الأقدام .تطلب الشرطة المحلية من أي شخص رآه في المنطقة القريبة من مزرعة مارش الاتصال بها )
أما ما تبقّى من المقالة فكان مجرد تخمينات عن هوية قائد الطائرة. لم تقرأها لأنها كانت تعرف هويته حقّ المعرفة .
طائرة . لقد سرق طائرة . أي رجل هو هذا القادر على سرقة طائرة؟
كان الجواب واضحاً .هو رجل يائس .رجل قانط هارب مع طفلة صغيرة ..
"صوفي"! لم تعبأ "دورا" بشرب قهوتها .فوضعت بعض النقود, واختطفت أكياسها ثم ركضت .
أخذ "غانون "يراقب الشرطة وهي تحصر الكوخ ,وتتفحَّص المباني الخارجية ومخزن الحطب . سمعهم يطرقون الباب الخلفي ,كما رأى الشرطيين اللذين وقفا عند الباب الأمامي خوفاً من أن يهرب منه .دقيقة أخرى ويصلون إليه .
سمع , من مكانه ,صوت ارتطامٍ قوّي , كأَّنَّ الباب اقتُحم بالقوة .
بكت "صوفي" وأخذت ترتجف , فاشتدت ذراعاه حولها وهو يطمئنها بلطف . لن يتركها أبداً .لكنه , في قرارة نفسه ,كان مستاءً من حماقته التي دفعته إلى الوثوق ب"دورا" .كيف حلّت عليه كلّ تلك الحماقة؟
ألأنها نظرت إليه بعينين صافيتين وقالت إنها ستساعده ,صدقها كأيّ معتوه؟
.
***
عادت "دورا " مسرعة إلى الكوخ ,لتتوقف على بعد إنشات فقط من سيارة الشرطة . وكان باب الكوخ محطماً ومفتوحاً على مصراعيه .
شعرت برعب حقيقي .لقد قبضوا على "غانون" , وأخذوا "صوفي" منه .
هل سيقبضون عليها هي أيضاً بتهمة التواطؤ معه في الجريمة ؟ لكنّ صوتاً في داخلها أخذ يناقشها . . ألا تستحق هي ذلك فعلاً وقد عرًّضت نفسها للقبض عليها بتهمة إيواء رجل فارٍّ من العدالة ؟ إنها في وضع الآن لا تستحق لأجله سوى سخرية أخيها . لا يمكن لها أن تبرر ما فعلته بجهلها للحقيقة .فالجريدة , بعنوانها الرئيسي ,موضوعة على مقعد سيّارتها الخلفي.
فهل أسرعت إلى أقرب مخفر للشرطة للإدلاء بمعلوماتها ؟آه , لا . بل ذهبت للمصرف وقبضت شيكاً واشترت ملابس ل"صوفي" .
رباه, ما يمكن أن يحدث لها هي ليس هاماً ,لكن ما يمكن أن يحدث ل"صوفي" هو الذي يلهب فؤادها . فإذا سجنوا "غانون" , من تُراه سيرعاها ؟ ويكافح لأجلها ؟حتى إن تطلب ذلك أن تشغل بريطانيا كلها بمفردها . . . وأوروبا بأجمعها , لكي تبقيها سالمة .لكن إن هي سُجنت كذلك ,فلن تتمكن من مساعدة أحد .
أخذت ترتجف . لكن ليس لأنَّ فرصتها للنجاة بسيارتها باتت ضئيلة ,
بل جرّاء تصميمها العنيد . أعدت نفسها للقتال , وهي ترى رجال الشرطة يتوجهون نحوها .فلم تنتظر وصولهم ,بل نزلت من السيارة واندفعت إلى الباب المهشَّم .لم ترَ أي دليل على وقوع معركة, وكان كل شيء كما تركته.
.
فاستدارت تسأل ساخطة :
- ماذا حدث؟
لكنهم رجال شرطة , فهل ستكذب عليهم ؟ وفكرت في وضع اللاجئين المرعب في مخيماتهم , وفي "صوفي" .إنها ستكذب طبعاً , لأجلها : "من فعل هذا؟" .
كان صوتها يرتجف , لكّن ذلك لم يكن بالأمر السيِّء , لأنه ردة فعل طبيعية .
- آسف , يا آنسة . لكن لدينا معلومات بأنّ أحد الفارّين من العدالة قد يكون مختبئاً هنا .
فقطبت حاجبيها قائلة :
- فارّ من العدالة ؟ أتريد أن تقول إنّك أنتَ من فعل هذا ؟
فقال الشرطي الأكبر سناً :
- أنا الرقيب "ويلز" , يا آنسة ,وهذا الشرطي "مارتن" .
- لقد تقابلنا الليلة الماضية .
.
- نعم . حسناً , من الأفضل أن ندخل جميعاً إلى البيت .أريد أن أطرح عليكِ بعض الأسئلة . لن نتأخر . أحضر مشتريات السيدة يا "بيت" .
أظنها تحب تناول فنجان من الشاي أيضاً .
قالت بحدة :"هذا ليس ضرورياً . من سيدفع تكلفة كل هذا الخراب ؟" .
لم يُرهب كلامها رقيب الشرطة , لكنه أشار إلى الباب الخلفي , فدخلت متصلبة الجسم إلى غرفة الجلوس ,ثم استدارت تواجهه ببراءة تامة .
- أريد تفسيراً لكل هذا .
- الأمر يا آنسة يتعلق بتحرياتنا الليلة الماضية عن سبب انطلاق جرس الإنذار من دون سبب واضح .
- هكذا ؟
- علمنا من شركة السيد ماريوت الأمنيَّة أنَّ ماريوت وزوجته في الولايات المتحدة . وقالت السيدة المختصة بتنظيف البيت إنّها أُبلغت بأن البيت سيبقى خالياً لستّة أسابيع . لكن, عندما زارك الشرطي "مارتن" الليلة الماضية, تركتيه يظن أنك السيدة "ماريوت" . لذلك ,قد تفصحين لنا ,يا آنسة , عن شخصيتك الحقيقية وكيف حصلت على مفاتيح هذا الكوخ .
كان يتكلم بتهذيب بالغ ,لكنّ "دورا " لم يساورها أيّ شك في أنه يريد سماع الجواب على أسئلته .
.

mymemory 26-02-17 11:00 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
6- عناق باللوز والسكر

حدقت "دورا" بالرجل , ثم لوّحت بيدها باستعلاء , مشيرةً إلى الباب المهشم :
- أتعني أن كلَّ ما جرى الآن سببه أنّي لم أشأ, الليلة الماضية ,أن أضيّع وقت الشرطي "مارتن" بإصلاح خطأه عندما ظنَّ أنني شقيقتي؟
- شقيقتك؟
التفت إلى "مارتن". لقد قام الشرطي الشاب بعمله جيداً ,فلم تشأ أن تتسبَّب له بأي مشكلة ,لكن إذا وصل الأمر إلى حد المفاضلة بينه وبين "صوفي" فلن يكون أمامها خيار آخر . . لكن, لا ضرر من الاعتذار, وبشكل مؤثر أقرَّت بفعلتها :
- ربما كان عليّ أن أوضح الالتباس. لكنَّ الوقت
كان متأخراً جداً . . وكنت أنت مشغولاً جداً . .
وتابعت متناسية أنّه عرض عليها الدخول لتفتيش الكوخ : "أنا شقيقة "بوبي" . . "دورا كاڤاناغ" !
ومدّت يدها تصافح الشرطي حسب التقليد , فتردَّد لحظة ,
ثم صافحها :"إنني مسرورة جداً لأنَّ الفرصة سنحت لي لأشكرك على قدومك لتفقُّدي الليلة الماضية . إنه حقاً أمر يبعث على الاطمئنان الشديد أن يشعر المرء بمدى اهتمامك" .
أشارت إلى الباب قائلة : "أظنني شريكة في عصابة تستعمل كوخ شقيقتي كمخبأ . . . " .
أو محتجزة رغم إرادتك بواسطة رجل بائس .لقد رأيت الجريدة .
.
وأومأ إلى الصحيفة المحلية : "لم نستطع الاتصال بك تلفونياً ,ثم علمنا أنَّ الخطَّ مفصول . . ." .
- آه , لا ! لا أظنك اعتقدتَ . . . كم هذا محرج ! كان الأمر كله مجرد عبث . لقد رفعت الغطاء لأتفقَّد الشريط . . .
وهزت كتفيها بارتباك : "الأفضل أن أتصل بشركة الهاتف لإرسال مهنيّ لإصلاحه" .
فقال الرقيب: " هذه فكرة حسنة . هل تسكنين هنا بشكل دائم , يا آنسة "كاڤاناغ"؟ " .
- ليس تماماً . أتيتُ إلى هنا لبضعة أيّام فقط . إنَّ لندن ترهق الأعصاب نوعاً ما , فأعطتني "بوبي" المفاتيح قبل أن تذهب إلى الولايات المتحدة , لآتي إلى هنا إذا شئت الاستجمام .
كانت أختها قد أحضرت لها المفاتيح , قائلة :
- لم لا تمضين في الكوخ أسبوعاً أو اثنين أثناء وجودنا أنا و"ريتشارد" في أميركا ؟ لا أحد سيعرف مكانك هناك , ستجدين وقتاً كافياً للتفكير في ما ستفعلينه في المستقبل بهدوء تام . هل أخبرتك أن "فيرغس" سيأتي إلى لندن ليعيدك إلى " ماركورت" , لكي تبقي تحت نظره ؟ إنه دائم القلق عليك .
- دائم القلق عليّ! إن ما يحتاجه شقيقنا هو زوجه تثير قلقه حقاً .
ونظرت "دورا" إلى رجلي الشرطة وهي تتذكر كلمة أختها(هدوء تام).
- حسناً لن أؤخركما طويلاً , أيها السادة . أظنكما حريصين على القيام بأعمال أكثر أهمية.
لكنهما لم يتحركا : "هل بإمكانك أن تثبتي أنك شقيقة السيدة "ماريوت"؟ " .
حدقت بالرقيب قائلة :"هذا صحيح , إن كان ذلك ضرورياً " .
.
لم يجب , فشهقت قائلة : "لا أعتقد أنك ما زلت تظن أنني أخفي ذلك الرجل ؟".
فقال "بيت": لا . . .لا. . ." .
لكن الرقيب لم يبد بمثل هذه الثقة .
- إنهم لم يتحدثوا عنه كثيرا في الصحيفة .هل هو رجل خطير حقاً؟
تظاهرت بالخوف.ولم يكن ذلك صعباً, لأن خوفها كان شبه حقيقيّ.
- نحن لا نعلم هُويَّته ,يا آنسة"كاڤاناغ" . لكنّه قد يكون لصاً .
أخذ الأكياس البراقة من على الأريكة وألقى نظرة على محتوياتها :
- كنت مشغولة , كما أرى .يبدو أنك اشتريت المتجر بأكمله .من هو الطفل المحظوظ ذاك ؟
فقالت أول شيء خطر في ذهنها :"ابنة أختي" .
- ابنة أختك ؟ لم أكن أعرف أن للسيد والسيدة "ماريوت" أولاداً .
- هذا صحيح إنها ليست ابنة أختي تماماً ,بل ابنة أخت زوجها "لوري" . وهي تعيش في الجانب الآخر من القرية .أمها هي "سارة شيلتون" ,وزوجها يملك عدداً من الشركات . . .
فقال الشرطي "مارتن" بحماسة :
- أنا أعرف من تكونين . أنتِ تلك المرأة التي كتبت عنها جميع الصحف . سيدة المجتمع التي كانت تساعد اللاجئين .
وفجأة , ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه الرقيب :
- طبعاً لقد شعرت بأنني رأيتك في مكان ما .
بدا الكدر على وجهها :
.
- لا تقل إنَّك ظننتَ نفسك قد رأيت صورتي من بين صور المطلوبين من العدالة . لا عجب في شكوكك .
ضحك الرقيب , لكن , كما لو أنَّها لم تبعد عن الحقيقة , وقال :
- بكت زوجتي حين رأتك على شاشة التلفزيون . لا أدري إن كنتُ أستطيع أن أحصل لها على توقيعك .
- يسرني ذلك .
نظرت حولها تبحث عن شيء مناسب , وهي متلهفة إلى رحيل الرجلين . عادت بعد لحظات وناولت الرقيب ورقة من دفتر ملاحظات أختها, وقد وقعت عليها اسمها . ثم أدركت أن "مارتن"
يحدق إلى شيء ما , فخارت قواها . ماذا تراه رأى؟ كان القاموس الذي اشترته . ووضعته مع الثياب في الكيس , فانزلق منه عندما ألقى به الشرطي على الأريكة .
قال برهبة :"حتى إنك تتعلمين اللغة ؟" .
تمكَّنت من افتعال الضحك . نعم, تمكَّنت من ذلك حقاً :
- ليس تحديداً . لكنّي ظننت أنّ ذلك قد يفيدني أثناء رحلتي القادمة .
.
* * *
أغلقت "دورا" الباب الخلفي خلف رجلي الشرطة , ثم استندت إليه بضعف. لقد ظنَّت أنهما لن يخرجا أبداً . كان جهاز"مارتن" اللاسلكيّ هو الذي قطع حديثهم في النهاية . فقال وهو يتجه نحو الباب :
- إنهم يطلبون منا العودة إلى المخفر , يا حضرة الرقيب .
- سأخرج حالاً .أنتِ بحاجة لمن يصلح لك الباب يا آنسة "كاڤاناغ".
- لا تقلق .لديّ من أستدعيه لذلك .
- نعم . حسناً ,إذا شاءت أختك أن تقدم شكوى , يمكنها أن تملأ ورقة رسمية لهذا الغرض في المخفر .
- لا أظن ذلك . كنتما تؤديان الواجب لا غير .
- الحقيقة أننا كنا مهتمين بسلامتك . ظننا أنه سرق سيارتك , وأنك قد تكونين مصابة , أو أسوأ من ذلك ربما .
- حسناً , إنني , كما ترى, في أحسن حال .
لكن ,أين"غانون" و"صوفي"؟
- إذا اشتبهت في أي أمر , اتصلي بنا , يا آنسة "كاڤاناغ".
- بكل تأكيد .لا بد أن رجلكم المطلوب قد ابتعد أميالاً الآن .
- هذا ممكن. لكنَّ المجازفة ليست من الحكمة في شيء .
- لن أجازف .إذا رأيت شيئاً سأتصل برقم 999 دون تأخير .
.
- إذا حدثت حالة طارئة , لا تترددي .وهذا هو رقم مخفر الشرطة المحلية .
أخرج بطاقة كتب عليها اسمه ورقم المخفر, وقال :"ثم استدعي شركة الهاتف وأصلحي جهازك , أو أستدعيهم أنا إذا شئت .
وأشار إلى الهاتف الخلويّ الموضوع على الأريكة :"هذه الأشياء تخذلك عند الحاجة الماسة اسأليني أنا عن ذلك . .".
أخذت منه الهاتف وفتحته , قائلة:
- هذا جيّد . سأقوم بذلك على الفور.
- حسناً, إن ساورتك أيّ شكوك , اتصلي بي في المخفر فآتي حالاً.
ثم ناولها البطاقة .
- هذا لطف منك .
ودعتهما حتى السيارة, وكانت قطرات ثقيلة من المطر قد بدأت تتساقط. لكنَّها وقفت تنظر إلى "مارتن" وهو يعود بسيارته إلى الخلف ثم يستدير حول سيارتها "الميني" بعناية ملحوظة .وظلَّت تراقبهما إلى أن ابتعدت السيارة ودخلت الطريق العام مسرعة باتجاه القرية .عند ذلك فقط عادت إلى الكوخ ,تشعر بساقيها تهتزان , وهي تغلق الباب خلفها. ثم استجمعت قواها أخيراً, وصاحت:
- "غانون" لقد ذهبوا. (تردد صدى صوتها في المنزل الخالي. فصعدت السلالم "غانون" (وفتحت الأبواب لا أدري أين تختبئ, لكن بإمكانك أن تظهر الآن.
ساد الصمتُ . . ولا شيء آخر.
.
دخلت الغرف التي فتّشها رجلا الشرطة. لكنها كانت واثقة, بشكل ما, من أنه سيبرز من تحت السرير :"غانون"! .
دخلت الحمام الذي استعملته سابقاً , ورأت الموسى على الرف. لم يكن هذا عملاً حذراً, لكنها لم تكن تتوقع أن تفتش الشرطة البيت.
نظرت إلى الهاتف الخلويّ الذي لا تزال تحمله بيدها. لقد أخذته من يد رجل الشرطة دون تفكير. وكان هو قد التقطه من على الأريكة وناولها إياه, وأدركت فجأة ما يعني هذا.
لم يجب"غانون" لأنه ليس في الكوخ. لقد عثر على الهاتف, فظنّ أنها غدرت به. لا عجب أن الشرطة لم تقبض عليه.صرخت قانطة:
- آه . ."جون"! .
وعندما ازداد هطول المطر بغزارة على النوافذ, أسرعت تهبط السلالم. عليها أن تجده, أن تجد"صوفي" الصغيرة. إنَّ"غانون" قادر, دون شك, على العناية بنفسه, لكن يجب أن لا تكون "صوفي"خارج البيت في مثل هذا الطقس الممطر وهي مصابة بالسعال. ستصابُ بالتهاب رئويّ. وقد تموت أيضاً, وسيكون هذا ذنبها هي. واختطفت معطف"بوبي" المعلق خلف الباب وخرجت تحت المطر. في أي طريق تراهما ذهبا؟
إن كان قد علم مسبقاً بقدوم الشرطة, فإنَّه سيتوارى بعيداً عن الطريق, وعن الكوخ. دارت حول المخزن وأخذت تنظر حولها. كانت الأجمة أول مخبأ ممكن بعد الحقل, ومن ثم ممر قديم يؤدي إلى القرية.
من المحتمل أن يسلك هذا الطريق إذا أراد بلوغ شبكة المواصلات.
وبالنسبة إلى رجل بإمكانه القيام بسرقة طائرة, فإنَّ الاستيلاء على سيارة ليس بالأمر الصعب. لكن لديه الآن ما يكفي من المتاعب. لا يعني هذا أنها تهتم بما قد يحدث له, بل كان اهتمامها منصباً على"صوفي" .
.
عادت إلى الكوخ, وأخذت حقيبتها وأكياس الملابس التي اشترتها ل"صوفي", ثم ألقت بها على مقعد سيارتها الخلفي وخرجت بها إلى الطريق.
* * *
كان"غانون" رافعاً ياقة سترته للاحتماء من العاصفة المفاجئة, وقد خبَّأ"صوفي" تحتها وهو يسير ببطء, بعد أن تعب من الركض في الحقل .
لم يصدق مدى حماقته. كان عليه أن يستولي على سيارته ونقودها في الليلة الماضية ويولّي هارباً .وقف للحظاتٍ يتّكئ إلى جذع شجرة كي يستعيد أنفاسه بعد أن أثقله حمل"صوفي" . من تراه يخدع؟ لم يكن في الليلة الماضية, قادراً السير ميلاً واحداً دون أن ينام خلف المقود. لذلك, لم يكن أمامه خيار آخر سوى البقاء في الكوخ. قالت الطفلة باكية:
- "دورا" . أريد "دورا".
أخذ يلامس رأسها بعطف. منذ فترة كان هو نفسه يريدها, لكن الرجل الحكيم يتعلق بحلم واحد مستحيل في كل مرة.
* * *
سارت "دورا" بسيارتها على الطريق ببطء, تحدق بصعوبة عبر زجاج السيارة الذي راحت مياه المطر تنهمر عليه بقوّة. حاولت أن تتذكر اتّجاه ذلك الممر المؤدي إلى الطريق العام فرأت إشارة صغيرة خضراء وبيضاء تشير نحو أجمة نباتاتها مفرطة في النمو.اتّجهت نحوها وأوقفت السيارة .
.
من المحتمل أنَّها لم تره. فهي لا تعلم منذ متى ترك الكوخ, لكن الممرّ يلتف متعرجاً في الغابة. كانت قد سارت فيه في يوم من أيّام فصل الشتاء الماضي, عندما جاءت لتناول الغداء مع"بوبي". وإذا كان"غانون" لا يعرفه جيداً, فمن الجنون أن يسير فيه. كانت تعلم أنَّه إذا رأى سيارتها, سيظن أنَّها تنصب له فخّاً, وسيدخل فيه متوارياً عن الأنظار فيضل طريقه.
أبعدت سيَارتها وأوقفتها تحت شجرة عتيقة .لكن هذا الحلّ أيضاً لن ينفع. لأنه إن كان يظنها قد خدعته, فلن يقترب منها .
خرجت من السيارة, وأقفلتها, ثم جذبت المعطف فوق أذنيها وعادت راكضة نحو الممر الضيق. لم يكن له أيّ أثر. حسناً, لا أحد يسير في مثل هذه الطريق الضيِّقة الموحلة سوى رجل أحمق وهارب. لكن, إذا لم يأت هو إليها, عليها هي أن تذهب إليه.
كانت قد توغَّلت داخل الغابة مئة ياردة أو نحوها حين أخذت تناديه برقة : "غانون" . أنا "دورا".
بدا الصمت المسيطر في الغابة غير عادي. سارت في طريق صغير, ونادت :
- غانون . لقد ذهبت الشرطة. أنا لم أستدعهم. لم أستدع أيّ إنسان.
أريد أن أساعدك .
شعرت بالتوتر يتملكها. كانت واثقة من أن هناك من يراقبها. ظنت في البدء أنه "غانون",وأنه يتوخى الحذر. إن بإمكانها أن تفهم ذلك.
لكن, خطر لها فجأة أنه قد لا يكون "غانون". ربما لم يكن هو الذي سرق الطائرة. ربما هناك رجل آخر قانط حقاً, مختبئ من الشرطة وبمقدوره أن يفعل أي شيء لكي يتمكّن من الهرب. ثم شعرت بوجود أحد خلفها .
.
استدارت وهي تطلق صرخة رعب صغيرة فرأت شخصاً واقفاً في الممر الضيق .لم يكن "غانون" : "صوفي"! .
كانت "صوفي" , بجسمها الصغير ملتفّة بسترة رجل, وقد غطى الوحل قدميها العاريتين. لكن, عندما تقدمت إلى الأمام لتحمل الطفلة, وتأخذها إلى مكان دافئ آمن, شعرت بأحد يقبض عليها من الخلف. وامتدَّت يد رجل فوق فمها, وأخرى حولها ممسكة بذراعيها كي لا تتحرك. تمتم غانون :
- لا تحدثي صوتاً يا "دورا" .
ولم تكن لتستطيع ذلك لو أنها حاولت. كان بإمكانها أن تقاتله لكي تستعيد حريتها, لكنها لم تفعل. لقد تفهمت حذره. كان ممسكاً بها بحزم, لكنه لم يؤذها ولم تكن هي تريد أن تؤذيه, أو أن تخيف "صوفي". وهكذا بقيت جامدة تماماً. وظلّا على هذه الحال للحظات بدت بلا نهاية .
ثم أخذ يبعد يده عن فمها تدريجياً, وسألها :
- ماذا تريدين؟
أجابت بحذر
- لا شيء . كل ما أريده هو أن تكون "صوفي" آمنة. ركنتُ سيارتي في الطريق . ووضعتُ فيها ملابس لها وخمسمائة جنيه في جيبي, مع المفاتيح .
لم يقل شيئاً فتابعت تقول :"أنا أعرف أنك وجدت الهاتف الخلويّ, "غانون". وأنا لا ألومك لظنك أنني استدعيت الشرطة . لكنني لم أفعل. لم أستدع أحداً".
- لم لا؟
كانت نبرته مشكِّكةً, لكنّ قبضته عليها تراخت, فاستدارت تواجهه وقد مالت قليلاً إلى الخلف لترفع بصرها إلى وجهه. كان مبللاً بأكمله, وقد التصق قميصه وبنطاله بجسده. بدا متجهماً من شدّة الألم. عليه أن يكون الآن في الفراش, بدل أن يهيم وفي عهدته فتاة صغيرة .
.
أجابته قائلة :
- لأنني مجنونة . تحتلُّ أخبارك الصفحة الأولى في الجريدة المحلية. .لقد افترضتُ على الأقلِّ أنّها أخبارك. الطائرة المسروقة؟
قال عابساً :
- ليست مسروقة. بل استعرتها من صديق .
- بدون إذن منه , كما كنت تريد أن تستعير الكوخ.
- سأصلحها وأعيدها له, بحق الله, حالما أنتهي من تسوية أموري لكي تبقى "صوفي" هنا. سيتفهم "هنري" الأمر.
- مثل "ريتشارد"؟ لديك كثير من الأصدقاء المتفهمين, يا "غانون".
- كنت سأفعل الشيء نفسه لأجلهم, وهم يعلمون ذلك.
- ليس من داخل السجن. . .
.
والتفتت قليلاً إلى الوراء وهي تسمع صلصلة طوق كلب, لكنها توقفت وهي تراه ينحني يحمل"صوفي". لكن, عندما حبس أنفاسه من الألم, حملتها هي بدلاً منه. ثم رأت الكلب.
كانت كلبة صغيرة بيضاء وحمراء تقفز أمام سيدتها. وكانت الكلبة هي "بوني"وسيدتها هي مدبرة منزل "بوبي".
- إنها السيدة"فولر". يجب أن لا تراني, يا"غانون".لأنها ستعرفني.
حملت"صوفي" واستدارت لتركض, لكن"غانون" أمسك بخصرها وأدارها نحوه. وعندما ركضت الكلبة نحوهما, قافزة على قدمي "دورا", أمسك بوجهها بين يديه وعانقها.
أطلقت شهقة صغيرة, وحاولت الانفلات منه, لكن ذراعيه اشتدتا حولها وهو يضمُّها بخشونة.
حين أمسك"غانون" بها وعانقها, لم يكن يشغل ذهنه سوى فكرة واحدة, هي أن يخفي وجهها ويحميها من الخطر الذي جرّها إليه بغفلته . لكن, في الوقت الذي نادت فيه السيّدة"فولر" كلبتها بتوتُّر, تأمرها مسرعة بالسير خلفها, كان قد نسي كل شيء عن السبب المنطقي الذي دفعه لمعانقة "دورا". وضاع في بهجة شعوره بذراعيه تضمَّانها إليه ورائحة بشرتها الزكيّة والدفء الذي سرى في عروقه متحدياً برودة المياه المنهمرة عليهما.
.
تململت"صوفي" ففصلتهما أخيراً عن بعضهما البعض. وعندما تراجعت"دورا" إلى الخلف وقد احمر وجهها من الخجل, همست الطفلة ل"غانون" بكلمات لم تسمعها, فأسكتها محذراً.
- لا تسألي.
فرفعت"دورا" رأسها :
- لماذا؟ ماذا قالت؟
تجنب النظر في عينيها, ورأت الإحمرار يسري على وجنتيه هو أيضاً .
إذن, فالأمر يتعلق بعناقهما . ضحكت, لكنها لم تُلحّ :
- هيا بنا نذهب من تحت المطر .
أخذ "غانون" يحدق بوجهها. لم تكن غاضبة بل فرحة. لم يفته أن يلاحظ أنها بعد برهة, بادلته عناقه بحنان دافئ .
أشاح بوجهه. إنَّ استعارته كوخ صديق له أو طائرته كان أمراً معقولاً, لكن أن يستعير زوجته أمر آخر. ما من صديق متفهِّم إلى هذا الحد, حتى وإن كانت الزوجة شريكة في ذلك .قال :
- قد تعود الشرطة.
- ربما, لكن ليس قبل فترة. لقد شعروا بنوعٍ من الحرج لتحطيمهم الباب. أنا لم أستدعهما, يا"غانون" .
- لماذا أتى منهم إذن عدد كبير هذا الصباح؟
- عدداً كبيراً؟ منذ متى يُعدُّ اثنان عدداً كبيراً؟
- كان في السيارة اثنان ربما, لكن كان هناك عدد كبير في الشاحنة الصغيرة التي تبعتهما. وقد تمكّنت من الهروب في الوقت المناسب. لقد حاصروا المكان قبل أن يحطموا الباب ويدخلوا .سمعت ذلك من الأجمة.
- لم يذكر الاثنان اللذان كانا في انتظاري شيئاً عن هذا الأمر.
- هل أزعجوك ؟
.
- في الواقع, لا . ليس عندما عرَّفتهم بنفسي . لكن الخوف تملكني عندما أصرّا على الدخول إلى الكوخ .ظننتك موجوداً هناك.
- أي عذر قدّماه ؟
- قالا إنهما يتحريان حول جرس إنذار انطلق في الليلة الماضية.و....
- وماذا ؟
- يبدو أنهما ظنا أنني متواطئة معك.
كادت تذكر الالتباس الذي حصل حول هويّتها. كانت تعلم أن عليها
الاعتراف له بذلك , فهي لا تستطيع أن تدعه يظنّ أنّ زوجة صديقه تسمح لأيّ غريب بمعانقتها . لكنّ الوقت الآن ليس مناسباً .
لم تكن بعد مستعدة لذلك. وربّما يظن أنها تشجعه لمعاودة الكرّة مرّة أخرى .
نظر إليها, ثم قال :
- ربّما يعلمون أنني صديق لـ" ريتشارد". وفي هذه الحال , سيكون
الكوخ أول مكان يفكّرون في تفتيشه.
- وهل يعرفون من تكون ؟ لقد نفت ذلك الجريدة .
- قد لا يعرف الصحافيّون كل التفاصيل . ولكنّ الشرطة ربّما لديها فكرة, وقد يعودون . أنا آسف, يا "دورا". لقد تسببَّتُ لك بالكثير من الإزعاج.
- يمكنك أن تضيفني إلى قائمة أصدقائك ولن تقلق بعد ذلك بسبب هذا. وما من داع أيضاً لأن تقلق بالنسبة إلى الشرطة , فنحن لن نمكث في الكوخ . أنا عائدةٌ فقط لأحكم إقفال الكوخ , ثم نذهب إلى شقتي في لندن .
شقتها؟ لماذا لم تقل ( شقتنا )؟
وصلوا إلى السيارة ,وانتظر إلى أن فتحتها ثم أجلست "صوفي" في المقعد الخلفي بعد أن دفعت الأكياس على الأرض. وقالت له :
- يوجد دمية في أحد الأكياس . لم لا تعطيها إيّاها ؟
.
عثر على الدمية ووضعها في يد "صوفي" التي نظرت إلى "دورا" وابتسمت بخجل وهي تتمتم ببضعة كلمات. حثت ذاكرتها فوجدت نفسها تقول باللغة الغرازنية أهلاً وسهلاً).
سألها "غانون" والشك يكسو ملامحه:
- من أين تعلمت هذا ؟
هزت كتفيها:
- سبق أن ذهبت إلى غرازنيا. أنا أفهم ما تحاول القيام به وأنا متعاطفة معك. صدقني, ليس عليك أن تكذب علي, أدخل بحق الله قبل أن تنهار .
اتجه نحو باب السائق, لكنها قالت بحزم :
- أنا من سيقود .
نظر إليها مفكراً ولم يجادلها. بل صعد إلى المقعد بجانبها حيث جلس متكوِّراً على نفسه بحيث تكاد ركبتاه تلمسان ذقنه . قالت له:
- يمكنك أن تحني الكرسّي إلى الخلف قليلاً .
فأحناها إنشاً أو اثنين .
انطلقت على الطريق لتقف بعد دقائق أمام الكوخ .
- يمكنك أن تجفف جسمك وتغير ملابسك ريثما أحاول إغلاق الباب .
لم يضيّع الوقت . وحين عاد وجدها تحمل الهاتف الخلويّ وتحاول أن تطلب رقماً. حدّق بها لكنها تجاهلته وتابعت عملها .
.
- "سارة"؟ أنا "دورا". كيف حال "لوري"؟
اعتادت "سارة" إطالة الحديث عن ابنتها وذكائها وجمالها, لكنّ "دورا" كانت على عجلة من أمرها:
- هذا رائع. قبليها عني. " سارة ", عزيزتي .لا أدري إن كان بإمكانك أن تقومي بخدمة لي. تحطّم الباب الأمامي للكوخ بسبب حادث بسيط , وهو بحاجة إلى نجار وشخص لإصلاح القفل بسرعة . كما أن الهاتف معطل هو أيضاً .
وابتسمت لـ " غانون" وهي تضيف :" فليباركك الله يا حبيبتي. أرسلي إليَّ قائمة بالحساب".
أنهت المكالمة ثم نظرت إلى "غانون"في تأمُّل :
- أتعرف "سارة" ؟
- أخت "ريتشارد"؟ رأيتها مرة واحدة .
- إنها ماهرة في إصلاح كل شيء. كان عليك أن تزورها هي .
- لم أكن أنوي زيارة أي شخص يا "دورا".
- كل شخص يعاني من مثل ما تعانيه أنت هو بحاجة إلى تلقي كل عون يستطيع الحصول عليه . هل نذهب؟
.
- كان مرافقاً فظيعاً , يجفل كلما أسرعت في السير . وكانت هي سائقة مغامرة فراح يصرخ أحياناً وهي تدور عند المنعطفات بسرعة بالغة. خاصة عندما
أخذت تسابق سيارة سوداء على منعطف خطر, وفازت .
- لا بأس , يا "غانون" . يمكنك الآن أن تطلَّ برأسك بأمان.
تمتم حمداً لله .
- هل تقودين دائما بهذا الشكل ؟
- أي شكل؟
كانت ملامحها تعكس براءة خالصة لكنها لم تخدع "غانون" لحظة واحدة. وعادت تعذبه ذكرى عناقهما الدافئ.
- هيا , يا حبيبتي.
وأمالت مقعدها إلى الأمام وأخذت تلاطف " صوفي " لتخرج من السيارة. لكن المشكلة أن "صوفي" كانت طوال الرحلة تعبث بالأكياس وترتدي كل ما استطاعت إخراجه , ولم تتمكّن من ارتداء أيّ من الثياب بشكل صحيح . قال "غانون":
- الأفضل أن أحملها.
- هذا هراء , إنها بخير.
وأجلست الطفلة على الرصيف :"حسناُ, قد لا تكون بخير ولكنها استطاعت ارتداء المعطف" .
ثم حملتها "دورا" وعانقتها : "إنها تبدو رائعة . سآخذها أنا إذا استطعت أن تحضر الأكياس" .
قال الناطور : " مساء الخير, يا آنسة "كاڤاناغ" " .
دخلوا إلى الردهة المبنى كاللاجئين القادمين من سوق خيرية.
- هل أستطيع تقديم المساعدة ؟
.
- لا . نحن بخير ,يا "براين". لكنّي سأكون شاكرة إن أحضرت لي علبة حليب.
- نعم , سأحضرها لكِ مع بريدك طالما أنَّ يديك مشغولتان .
- شكراً لك. آه, براين , إذا سأل عني أحد فأنا غير موجودة في البيت وأنت لا تعلم مكاني .
- كان السيد"فيرغس كاڤاناغ" يسأل عنك يا آنسة . لقد اتصل بك عدة مرات . أظنه يعتقد أنك في بيتك يا آنسة ولكنك لا تجيبين على الرسائل التي يتركها لك على المجيب الصوتي.
- سأستمع إليها عندما أدخل. لكن , حين أقول إنني لست في البيت,
فأنا أعني هذا تماماً .خصوصا بالنسبة إلى أخي.
تجنب"براين" النظر إلى "غانون" عن كثب .
- نعم يا آنسة. لن يزعجك أحد.
تبعها "غانون" إلى المصعد متجهماً بعض الشيء .
- سيظن أنَّك تقيمين علاقة غرامية .
- ربما . لكنه لن يخبر أحداً.
- يبدو أنك واثقة من ذلك بناء على تجارب سابقة. أليس كذلك ؟
التفتت إليه :
- يا إلهي ! كم أنت فظ يا "غانون" ! لا تنس أنّي شريكتك في كل جرائمك . يمكنك على الأقل أن تظهر قليلاً من التهذيب.
- إنه مكان جيِّد .
كان يحاول أن يلاطفها , لكنها نظرت إليه وهي لا ترى ذلك كافياً.
السبب ربّما أنَّ رأسه يكاد ينفجر بالأسئلة .أسئلة كانت تبعد مشاكله عن تفكيره.أضاف "غانون" :
- في المرَّة الأخيرة التي رأيت فيها " ريتشارد " كان يسعى جاهداً للخروج من مشكل مالية عديدة. وكان هذا سبب ترك " إليزابيث" له.
.
- لقد تركته لأنها تزوجته لأجل لقبه, واكتشفت, بعد فوات الأوان, أنه لا يملك مالاً يتناسب مع اللقب .. كان عليها أن تصبر, لأن الأمور تحسنت بعد أن فضلت عليه صاحب المصرف .
- يمكنني أن أفهم ذلك .
خرجوا من المصعد إلى الطابق العلويّ. وضع الأكياس في الردهة ثم نظر من الباب المفتوح إلى نافذة جميلة تطل على النهر.
خطر له أنّ " ريتشارد ماريوت" في الواقع ناجح جدا هذه الأيام بلا شك, لأنّ الاحتفاظ بزوجة مثل "دورا" يُعد ترفاً يكلفه غالياً .
لكنَّ هذا لا يعني أنّ تحسن وضعه المالي قد نجح في جعل عروسه سعيدة, إذا أخذنا في الاعتبار الطريقة التي تجاوبت بها مع عناقه.
.

mymemory 26-02-17 11:01 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
7-
خاطئ أو قديس !



- ماذا كنت تعملين في غرازنيا تحديداً , يا "دورا" ؟
كانا في المطبخ, وقد جلس"غانون" على مقعد عالٍ يشرب فنجاناً من القهوة لاستعادة توازن أعصابه بعد قيادة "دورا" للسيارة. أما "دورا" التي كانت ثلاجتها خالية من كل ما يؤكل, فقد أخذت تبحث في خزائنها عن علبة حساء كانت واثقة من وجودها في مكان ما.
وكانت"صوفي" في غرفة الجلوس تقيس كل قطعة من الملابس وهي تنظر إلى التلفزيون بفرح عارم .
- تحديداً ؟
.
ولم تلتفت. لقد حان وقت قول الحقيقة. لكنَّها لم تكن متلهفة إلى الاعتراف بأنها كانت تكذب على "غانون" . . .حسناً, لم يكن ذلك كذباً حقيقياً . .
لقد تركته يظن ما يريد في ما يتعلّق بها و ب"ريتشارد" . كانت غاضبةً منه عندما وصلوا إلى الشقة فلم تشأ الكلام. إلّا أنها علمت بضرورة فتح الموضوع الآن .
- أو بالدقة, إذا شئتِ .
- كنت في قافلة تنقل المساعدات .
عثرت على الحساء وحصرت اهتمامها في قراءة قائمة مكوِّناته. وعندما لم تسمع جواباً منه, التفتت إليه مضيفة :"ثلاث شاحنات, في الواقع ".
كان ينظر إليها بذهول بالغ :
- هل قدت شاحنة إلى غرازنيا ؟
.
- ليس طوال الطريق . كانت القيادة مناوَبةً بيننا. لكن, لا بأس في ذلك يا"غانون". فأنا لم أتّبع أسلوب السير الذي أتّبعه في لندن .
قالت ذلك لظنها أن طريقة قيادتها السيارة هي ما كان يهمه . إلّا أنّ ما كان يعنيه هو شيء آخر .
- وتركك "ريتشارد" تذهبين؟ ألا يتابع الأخبار؟ رباه , "دورا". هل لديه أيّ فكرة عن الخطر الداهم هناك؟
آه ,إنها الفكرة القديمة نفسها .لماذا تشغل الفتاة الحلوة نفسها بالقيام بأعمال كريهة خطرة , في حين أنّها تستطيع أن تكون أكثر نفعاً إن هي اهتمّت بتجميل وجهها ؟ يا للرجعية .
فكّرت أن "جون غانون" وشقيقها يمكن أن يشكِّلا ثنائياً , أو ربما ثلاثياً إذا اعتبرنا أنّ رأي صهرها "ريتشارد" ليس بأفضل من رأيهما .
- لم يعلّق "ريتشارد" كثيراً على هذا الموضوع .
ذلك لأن "بوبي" ذكّرته بحزم أن ما تفعله أختها ليس من شأنه . كما أن بإمكانه ترك الاهتمام بكلّ شيء مزعج ل"فيرغس" .ذلك أنّ تربيته لأختيه الأصغر سناً, بعد وفاة والديهم, منحه بمرور السنين سلطة كافية عليهما .
.
لكنها كانت في هذه المناسبة دون جدوى .
- أتظن"صوفي" ستحب هذا؟
أرته علبة الحساء, مرجئة الاعتراف بالحقيقة قليلاً.
- ليست "صوفي" صعبة . إنها تأكل أي شيء .
- سأفتحها إذن. لا بد أن هناك بعض الخبز في الثلاجة .
ما الذي حدث لها؟ إنه لا ينفك يمنحها الفرصة للكلام. فلماذا لا تستطيع التلفظ بالحقيقة التي تقول :
لست في الواقع زوجة "ريتشارد", ولست متزوجة على الإطلاق! ما هي الصعوبة في ذلك؟ ربّما لأنَّ زوال ذلك الحاجز سيمكّنه من معرفة السبب الحقيقي الذي جعلها تعانقه بتلك الطريقة, وستصبح مضطرة لمواجهة ذلك , فهو لم يتراجع عنها إلّا لأنّها زوجة صديقه الحميم "ريتشارد ماريوت". لقد خطر لها سابقاَ أنّ "غانون" قد يشعر ببعض السرور إذا علم أنّها ليست زوجة "ريتشارد". . .
سخرت من خداعها لنفسها وهي تفتح باب الثلاجة لتخرج منها رغيف خبز. وأحسَّت بجسدها يرتجف حين استعادت ذاكرتها الدفء الذي غمرها في حضنه بالرغم من برودة الطقس والمطر.
هل هذا هو السبب الذي يمنعها من إطلاعه على الحقيقة ؟ لأن استسلامهما للمشاعر سيصبح أكثر سهولة؟ كانت واثقة من معرفته لهذه الحقيقة التي سيستغلها لمصلحتها إذا ما سمحت له بذلك. ولم تكن تخادع نفسها. . . إنّ رجلاً يختطف طفلاً, ويسرق طائرة ويقتحم منزل صديق له ثم يحتجز زوجته, لن يتردد في إغوائها إذا ظن أن في ذلك فائدة له .
.
لقد توقف عن الجدال بعد عناقه لها مباشرة. ووافقها على ما تريد.
واثقاً من أنها أصبحت عوناً له, وأنا لن تغدر به بعد أن أصبحت كالعجينة بين يديه .
ربما كان على حقّ. فهي ستبقى كالعجينة. . .لكن غضبها جعلها تصحو من أحلامها, وتعود إلى الأرض.
ما خلا معرفته بصهرها. كان في الواقع غامضاً تماماً بالنسبة إليها. فهي لا تعرف من هو وما هي مشكلته. وأي مشكلة تلك التي أصبحت تواجهها الآن. . . لأنها حالت دون اعتقال رجال الشرطة له, وكذبت عليهم لأجله. . .وهاهو ذا الآن في شقتها بدعوة منها, وقد سمعها تطلب من "براين" أن يبعد عنها كل الناس بمن فيهم شقيقها. وكان ذلك خطأً منها, لأن "فيرغس" هو الرجل الوحيد الذي تحتاج إليه حالياً. . .لأنه يعلم تحديداً ما يتوجَّب عليها فعله. لكنَّ الخطر الوحيد هو أن يستدعي الشرطة, وهذه الخطوة هي ما ينبغي القيام به. وسيكون على حق في ذلك.
إنَّ المساعدة في إيصال مواد الإغاثة إلى شرق أوروبا كان عملاً معقولاً بالمقارنة مع ما تفعله الآن. ففي اللحظة التي اجتاز فيها هذا الغريب عتبة الكوخ, فقدت, كما يبدو, ما منحها إياه الله من عقل.
تابع "غانون" :
.
- هل حدث بينكما جدال حول هذا الأمر؟ بالنسبة إلى قيادتك لشاحنة الإغاثة؟ وهل هذا هو سبب نومكما في غرفتين منفصلتين؟
جمدت"دورا" مكانها. بينما سارع يقول على الفور:
- آسف. هذا ليس من شأني. لا تكترثي بسؤالي هذا.
ابتلعت ريقها, شاعرة بالذنب. . .الآن. . .أخبريه الآن. . .
- أنا و"ريتشارد". . ."ريتشارد" ليس. . .
- لم أستطع إلَّا أن ألاحظ أنكما لا تنامان في سريركما الزوجي.
قررت أن تقوم بالعمل الصائب وتعترف بغلطتها . هل هذا ما حرَّك فضوله إلى هذا الحد؟ هل ظنَ أنَّها استجابت لعناقه, لأن سرير الزواج كان مهجوراً, وكانت هي تتصرف بحرية في كلِّ
الأمور؟
لكنها, أيضاً, لم تتصرف كأنها عروس مغرمة بعريسها حين عانقها . . .
كانت استجابتها لعناقه غلطة سيئة فات أوان إصلاحها, لكنها ستلتزم بعدم تكرارها. صفقت باب الثلاجة بعنف واستدارت إليه :
- أنتَ على حقّ, يا"غانون" .فهذا ليس من شأنك. أنت من عليه أن يقدِّم تفسيراً منطقياً لكلّ شيء.
وضعت رغيف الخبز على المنضدة وأخذت تقطعه إلى شرائح : "لم لا تحاول القيام بشيئين في نفس الوقت؟ فبينما تقصّ عليّ ما جرى لك, يمكنك أن تكون نافعاً بفتح تلك العلبة" .
قد تبقي هذه المهمّة يديه مشغولتين, على الأقل. قال متجاهلاً أسئلتها :
- كما أنك مازلت تستعملين اسم عائلتك أنت.
انحدرت عيناه إلى يدها اليسرى الخالية من خاتم الزواج: "أنا أعرف أن هذا الأمر ليس إلزامياً. لكن, لا تبدين أنك من المطالبات بمساواة الرجل بالمرأة" .
لسوء الحظّ , لم تستطع أن تشغل فمه عن هذا الموضوع بالسهولة التي شغلت بها يديه.
- حقاً؟ كيف أبدو إذن؟
شعرت بخطاها فهي تتصرف الآن بشكل ينفعه هو ويضرّها. لكنها من البشر وتريد أن تتعلم.
- لم أحدّد بعد .
.
لم يكن قد أجاب بعد , بشكل مباشر, عن أبسط الأسئلة.
- حسناً , أعلمني حين تحدِّد موقفك . ويسرني أن أخبرك بمدى بعدك عن الصواب .
تقابلت عيناهما لحظة في معركة بين إرادتين. ثم نزل"غانون" عن المقعد المرتفع, وتناول العلبة يفتحها وهو ينظر إلى "دورا".
كانت نظرته متأملة, تحتوي على مغزى استقر في أعماقها, وجعلها تدرك أنها على حق في عدم إخباره بالحقيقة . لا بأس. لقد ساوره الشكّ إذن في أن يكون "زواجها" يواجه بعض المشاكل . لكنه , على الأقل, ما زال يظنها متزوجة , ومن رجل يدعي أنه صديقه. وهكذا سيمتنع عن القيام بعمل أحمق. إلا إذا شجعته هي . وهي لن تفعل ذلك .
لو أنها فقط تعلم المزيد عنه , ولماذا يحتاج إلى عونها. لقد سمحت حتى الآن لغريزتها بأن تقودها, فأخبرتها, رغم كل البراهين المعاكسة, بأنه يشبه الملائكة. لكن النساء ما زلن يخدعن أنفسهن دائماً منذ حواء. ولعلها تخدع نفسها الآن .
لم يكن واثقاً بها تماماً. وقد أجاب عن أسئلتها بأسئلته, ليتحاشاها, محتفظاً بأسراره .
رباه, هذا هو الدور التقليدي الذي تلعبه المرأة في كل مسرحية مثيرة .
لو كانت تشاهد هذه القصّة في أحد الأفلام السينمائية, لألّحت على المرأة الغبية بأن تخبر الشرطة, وتخرج من هناك, تهرب . .
لا يمكنها أن تقول إنها لم تتلقَّ تحذيراً سابقاً. فمنذ يومها الأوّل في الحضانة, علموهم شيئاً واحداً. . .أن لا يتحدثوا قطّ قطّ . . .إلى
الغرباء .
لا بأس ,"غانون" لم يقدم لها الحلوى. . لكن هل هذا صحيح؟ كان طعم عناقه لوزاً بالسكر وشوكولا وجيلي. .كل ذلك في حبة واحدة.
ندمت على تعليماتها ل"براين" بأن لا يخبر شقيقها بوجودها في البيت. قد يبقى "فيرغس" إلى الأبد يذكرها بعملها الغبيّ هذا, ويراقب كل حركة تقوم بها طوال السنوات العشر التالية بسبب جنونها. لكنه يفعل ذلك لأنه يحبها ويريد أن يحميها . . .
.
حسناً, ربما لم يفت الأوان بعد للاتصال به. لقد أصبحت ثقة "غانون" بها كافية إلى حد يسمح لها بالخروج لشراء ملابس ل"صوفي" , ومن المؤكد أنه لن يعترض على ذهابها إلى البقالة لتملأ ثلاجتها. عليهم أن يأكلوا. قالت له :
- عليَّ أن أخرج لشراء طعام .
- لكن الثلاجة مليئة كما تبدو لي .
قالت بحدة: " إننا بحاجة إلى بيض وحليب وجبن, وعصير برتقال لأجل صوفي. إنَّ جريدة مسائية كذلك ليست فكرة سيئة. وربما عليها أن تتناول بعض الڤيتامين أيضاً. لا أريد أن أنتظر إلى أن يذوب الثلج عن الطعام لكي نأكله . فقد مضى وقت طويل على تناولنا الفطور, ولابد أنك جائع" .
- عرفت أحوالاً أكثر سوءاً .
- في غرازنيا؟
- هناك, وفي أمكنة أخرى. كنت إلى وقت قريب مراسلاً صحفياً في وكالة أخبار, أخبار الحروب على الأخص . هذا إن كنت تريدين أن تعلمي .
- وماذا تعمل الآن ؟
- إنني مراسل حرّ. على الأقل حيث الأخطار موجودة.
- ابق هنا إذن وأطعم "صوفي" ريثما أخرج أنا للتسوّق .
- في الواقع, لا أظنّها فكرة جيِّدة يا "دورا".
- لن أتأخر .
حاولت أن تخفي ارتجاف أطرافها وصوتها. لم تفكر من قبل في احتمال أن يحتجزها في شقتها. ألم تفعل ما فيه الكفاية لكي تقنعه بأنها تسانده في مشكلته ؟ مهما تكن تلك المشكلة.
- كم ستتأخرين؟ في المرّة الأخيرة التي ذهبت فيها للتسوّق جاءت قوات الشرطة.
فتملكها الغضب :
- قلت لك إنّ ذلك لم يكن خطأي. . .ثم إنّك لست الوحيد المتورّط يا "غانون", فقد كذبت أنا أيضاً عليهم.
.
- وها أنت غيرت رأيك الآن. أنا لا ألومك يا "دورا", لكنك تتفهمين تحفظي بالنسبة إلى تركك تغيبين عن نظري مرة أخرى. إن كنت تريدين أن تتبضَّعي فأنا واثق من أن ناطورك الودود سيسره أن يساعدك ويمكنك أن تطلبي منه إحضار جريدة مسائية أيضاً, فلربما أحتلُّ الصفحة الأولى .
قالت بفزع :
- هل هذا محتمل؟ إن كان هذا صحيحاً سيعرفك الناطور. وسيكون هو الذي يستدعي الشرطة .
كان من المفترض أن تسرّها هذه الفكرة, لكنّ أيّاً من هذا لم يحدث. قال بابتسامة شبه ساخرة :
- لا أظن ذلك. . . أنا لا أبدو بمظهر حسن تماماً.
حاولت أن تهز كتفيها لا مبالية :
- على كل حال, سأنزل وأطلب منه ما أريد.
لم يكن خداعه سهلاً.
- لم لا توفرين طاقتك وتستعملين الهاتف الداخلي؟
رفع السماعة يقدمها لها. بدا لها مصمماً على عدم تركها تغيب عن نظره مرة أخرى . ابتلعت ريقها بتوتر :
- هل فصلت الهاتف الخارجي ؟
لقد كان قبل قليل يطوف أرجاء الشقة يتفحص تجهيزاتها.
- لا, لأنني سأحتاج للهاتف.
- لتتصل بالمزيد من أصدقائك المتفهمين؟
حمّلت صوتها كل ما أوتيت به من ازدراء وترفُّع: "يحتاج الرجل إلى كل الأشخاص الذين يمكنه الحصول عليهم. وتستطيع ربّما الاتصال ب"ريتشارد" أيضاً. فقط إن كان يتساءل عن مكانك. أم أن الأمور بينكما ساءت إلى حدّ القطيعة؟" .
رفع يديه كأنّه يدافع عن نفسه حين حملقت إليه وقال:
- لا بأس. أعرف أن هذا لا يعنيني لكنه كان صديقاً جيداً عندما احتجت إلى مساعدته. لكنَّ زواجاً فاشلاً يتسبَّب بما يكفي من المشاكل بالنسبة إلى أيّ شخص .
- هل تتحدث الآن عن خبرة شخصية؟
- لا, فهذه واحدة من الأخطاء القليلة التي لم أقترفها بعد. لكنني رأيت ما فعله هذا ب"ريتشارد".

mymemory 26-02-17 11:02 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
- لا داعي لأن تقلق لأجله, يا "غانون". إن "ريتشارد" سعيد مثل غيره من الرجال الذين يستحقّون السعادة .
- هل يمكنك أن تضمني ذلك؟
- اسأله. لا أظنه يخالفني الرأي. أحب أن أتصل به وأجعله يخبرك بذلك بنفسه. لكنني لا أستطيع فهو مسافر طوال الوقت . ويغيّر مكانه بين يوم وآخر .
- ألا يتصل هو بك؟
- ربما يحاول أن يتّصل بي في الكوخ .
قالت ذلك دون وخز من ضمير, وقد تلاشت كل نية لديها في إخباره بالحقيقة . لقد قامت بما يكفي من الحماقات في الساعات الماضية, فلا داعي لأن تزيد الأمور سوءاً. وأضافت :
- لا يستطيع طبعاً الاتصال .
لم يفكر "غانون" لحظة بالاعتذار, فسألها:
- وماذا عن الهاتف الخلويّ؟
هذه هي المشكلة. ما إن تبدأ الأمور بالتحسن, حتى تفلت من يدها.
فقالت أول شيء خطر في ذهنها :
- هذا الهاتف جديد و"ريتشارد" لا يعرف رقمه. قد يتصل ب"سارة" فتخبره بأنني هنا .
- لكنك لم تخبري "سارة" بأنك قادمة إلى هنا .
- حقاً؟ حسناً, ستتكهن بذلك أو هو الذي سيتكهن .
أجابها بهدوء وقد بدا واضحاً أنه لم يصدّق كلمة مما قالت. وكان لا يزال ممسكاً بسماعة الهاتف .
- هل ستعطين تعليماتك إلى "براين" ؟
- وهل أملك الخيار ؟
- لا, مع الأسف .
لم تُرد أن تواجه عينيه القاتمتين المتفحصتين لحظة أخرى, فاختطفت السماعة من يده ثم أدارت له ظهرها وهي تتّصل بالناطور الذي أجاب فوراً .
.
- "براين", "دورا كاڤاناغ" تتكلّم . هل لك أن تطلب من البقال عند الزاوية أن يرسل لي بعض الخضار, من فضلك؟ سأعطيك قائمة بذلك.
أخذ "غانون" يراقبها وهي تعدّد للرجل مطالبها. كانت ترتجف متوترة. حسناً, ليس هذا مستغرباً. فقد عانت كثيراً خلال الساعات الماضية. لقد سبب لها ذلك الكثير من الإرهاق. لم تكن حتى الآن قد طرف لها جفن, لكنها, فجأة, أصبحت متوترة.
فضَّل أن يتظاهر بجهله السبب في ذلك. لكنه أمضى سنوات عديدة في دراسة الأشخاص الذين يحاولون إخفاء مشاعرهم. لقد تغيرت منذ اللحظة التي عانقها فيها في تلك الطريق الموحلة وبادلته هي عناقه. وتساءل إن كان ما أزعجها هو خيانتها لزوجها في لحظة جنون .
كانت هادئة أثناء قيادة السيارة وسط لندن. لكنَّ الوقت لم يكن مناسباً للقلق حينذاك. فقد كان جُل همِّه أن يصلوا إلى مقصدهم سالمين. . . وأن يعدّ الوقت الذي سيمضي قبل أن يزداد الألم سوءاً إلى حد يمنعه من التنقل . لكن منذ أن أُغلق باب شقتها خلفهم , بدأ توترها يزداد .
كانت مستعدة للهرب في أول فرصة, وهو ما لن يسمح لها به. إن "صوفي" بحاجة إليها. وهو بحاجة إليها أيضاً. . . وحاول أن يتجاهل هذا الصوت الملح في داخله, لكن الصوت رفض الانصياع. . . إنه يريدها. . .نعم. . .إنه يريدها أكثر مما أراد أي امرأة أخرى في حياته. هاهو يشعر الآن وهو ينظر إليها مركزة اهتمامها على ما قد تحتاجه ليوم أو يومين, بنوع من الانجذاب الشديد الذي اعتقد أنه تخلَّص منه .
.
"ريتشارد" صديقه, و"دورا" زوجة صديقه . ولن تغني الملائكة له أغاني الحب السعيد. عليه فقط انتظار اللحظة الكئيبة التي ينتهي فيها من تسوية أموره والخروج من ورطته هذه, ولا يتبقّى سوى القيام بما هو صائب والرحيل. لكن أوان رحيله لم يحن بعد وأضلعه تريه نار جهنم من الألم, كما أن الشك يحيط بمستقبل "صوفي" .
ألقت السماعة والتفتت إليه بتمرد:
- لابد أن كل شيء أصبح على ما يرام الآن.
- بالتأكيد. لقد طلبت ما يكفي لخمسة آلاف شخص .
هزت كتفيها :
- حسناً , لا نعلم متى يزورنا أولئك الخمسة آلاف, وقد يكونون جميعاً مرتدين ملابس رجال الشرطة وخوذاتهم. والآن, بما أن هذا الحساء لن يسخّن نفسه , سأسخنه أنا. وأثناء عنايتي ب"صوفي" يمكنك أن تقوم باتصالاتك الهاتفية .
- هل أنت حريصة إلى هذا الحد على التخلص مني؟ حسناً, لا أستطيع لومك . أعدك بأن لا أبقى ثانية واحدة أكثر مما تتطلبه الضرورة .
- ليس لي أي خيار آخر, أليس كذلك ؟
لم يكن هذا يعني أنها تريده أن يرحل . برغم كل شكوكها , لم تكن تحب أن تخادع نفسها . ما كانت تريده حقاً هو أن تعانقه, وتساعده في تحسين أموره . لم يتملكها مثل هذا الشعور نحو أحد من قبل طوال حياتها . هذا ما جعلها تشعر بالضعف وهي رازحة تحت رحمة مشاعر لا تفهمها. أو ربما فهمتها جيداً لكنّها لا تريد أن تعترف بها. وأضافت :
- لكنني لا أريد أن أكون خارجة على القانون , يا"غانون". أريد تسوية الأمور. وذلك لأجل "صوفي" وأجلي .
- إذن فلدينا الهدف نفسه .
- هذا جيّد. لا أظنك إذن ستمانع إن استدعيت طبيبي وجعلته يفحصها بشكل شامل .
التفتت تنظر إليه, وقد اعتصر قلبها رغم غضبها. كان جلده مغبرّاً, ومرارة الألم ظاهرة حول فمه. . ذلك الألم الذي يرفض الاعتراف به. عليه أن يرى الطبيب, هو أيضاً. لكنها لن تقول شيئاً الآن بل تركت مناقشة ذلك حتى يأتي الطبيب ويساندها .
.
- قي الواقع , ليست فكرة سيئة .
كادت تنهار من الصدمة. وقد بدا ذلك على وجهها فابتسم وقال: "أريد أن نقوم باختبار للدم . وكلما أسرعنا في ذلك, كان أفضل".
- اختبار للدم؟
- لا داعي لقلقك الزائد هذا. كل ما أريده هو أن أثبت أن "صوفي" ابنتي, ممّا يعني أن لها الحق في أن تكون هنا.
ابنته!
- ابنتك؟ لكنني ظننت. . .
- ظننت أنها مجرد لاجئة اختطفتها من بلدها دون أوراق رسمية؟
تمتمت تقول: "شيء كهذا. . ".
- هل لأن الشيء نفسه خطر في ذهنك عندما كنت هناك؟
أشاحت بنظراتها عنه. خطر لها ذلك بالفعل, فهي تشعر بالخزي من كونها جزء من عالم يترك الأطفال يتألمون بهذا الشكل.
وتابع قائلاً :
- أنا أعلم مدى صعوبة ترك الأطفال, صدقيني. لكن هذا أفضل. لأن بلادهم ستكون بحاجة إليهم. إلى كل واحد منهم. . .
رفعت رأسها تقاطعه :
- هذا إن بقوا أحياء. . .
- سيعيشون .
ومدّ يده ملامساً خدّها بأنامله, فأجفلت من لمسته. كوّر أصابعه في قبضةٍ متراخية كأنها الطريقة الوحيدة للسيطرة عليها, قبل أن تسقط يده إلى جانبه, متابعاً :"طالما أنَّ أشخاصاً مثلك يقفون إلى جانبهم" .
فقالت متحدية :" إن كان هذا رأيك, لماذا لم تترك "صوفي" مع أمها؟".
- لم يكن هذا ممكناً .
- لماذا؟
فقال بضيق:
- دعكِ من هذا, يا"دورا". إنها قصة طويلة . ألم يجهز ذلك الحساء بعد؟
بقيت تحدق فيه لحظة, ثم عادت تلتفت إلى القدر لتطفئ النار تحته.
- يكاد يجهز. هل يمكنك وضع شريحتي خبز في المحمصة ريثما أحضر "صوفي"؟
كانت "صوفي" قد ارتدت قميصاً مقفلاً داكن الزرقة وبنطالاً طويلاً. ورغم الجو المكفهِّر الملبد بالغيوم, وضعت على رأسها قبعة للشمس . وكانت جالسة على الأرض أمام جهاز التلفزيون تقلّبه من محطة لأخرى بواسطة جهاز التحكّم عن بُعد .
.
أخذت "دورا" جهاز التحكّم من يدها, تاركة فيلم الكرتون على الشاشة, ثم انحنت لتنزع بنطال الطفلة قبل أن تعثر على جورب قصير لها وحذاء خفيف في كومة الملابس . بذلت جهداً كبيراً لحملها على ارتدائهما والطفلة تترنّح من ناحية لأخرى كيلا تفوتها ثانية من الفيلم الكرتوني, ممّا ساعدها على التخلص من تلك الأسئلة المتسابقة في رأسها إلى ما لا نهاية . وعندما انتهت حاولت أن تأخذ "صوفي" لتغسل لها يديها, لكنّها عجزت عن إقناعها فاضطّرت "دورا" إلى حملها .
رأت "دورا" أن الطفلة قد تحسنت عشرة أضعاف عما كانت عليه الليلة الماضية . إنَّ تأمين الطعام والدفء والدواء لها, ساهم في تقديم العون لها. لكنها لا تزال عازمة على عرضها على الطبيب .
لا تزال تريد بعض الأجوبة, خاصة عن والدة "صوفي".أرادت أن تعلم ما جرى لها, سواء كانت القصة طويلة أم لا, فهي لا تريده أن يخفي عنها ذلك إلى الأبد. ما إن وصلت إلى المطبخ, حتى أخذ الهاتف في الرنين. وقفت تنظر إلى "غانون" مترددة . فسألها :
- ألن تجيبي ؟
- إن المجيب الصوتي يعمل. وسيحفظ لي المكالمة .
رباه لا تدعهم يقولون أي شيء يكشف حقيقتي !
رفعت "صوفي" تضعها في مقعد عالً, وناولتها ملعقة وهي تسعى جاهدة لأن لا تستمع بينما كان صوتها يطلب من المتكلم ترك رسالة .
وجاءت المكالمة :
- "دورا" أنا "ريتشارد". لقد تكلمت لتوّي مع "سارة" فقالت إن بعض المشاكل طرأت في الكوخ, ممّا جعلك تتركينه بسرعة. . .
وقبل أن تلتفت, كان "غانون" قد اجتاز الردهة وأمسك بالهاتف :
- "ريتشارد" . . .أنا "جون". . ."جون غانون" . . .
- "جون" ؟
.
ساد الصمت بينما كان "ريتشارد" يستوعب ما سمعه .
- ما الذي تفعله في شقة "دورا" ؟
- آسف, لكنني أنا المشكلة. كنت قد اقتحمت كوخك الليلة الماضية لأنني كنت بحاجة إلى مكان هادئ أمكث فيه عدة أيام . ولم يكن لديّ فكرة عن وجود أحد فيه . . .
- يا إلهي! لابد أنك جعلت "دورا" المسكينة تموت خوفاً!
- ليس بنصف مقدار ما أخافتني هي . علمت أنّ من واجبي تقديم التهنئة. لم أكن أعلم أنك تزوجت مرة أخرى .
- ماذا؟ آه, نعم. يوم عيد الميلاد. كنت سأجعلك شاهد زواجي لو كنت أعلم مكانك. سأجعلك تشعر بالملل عندما أحدثك عن مدى سعادتي بعدما أعود من الولايات المتحدة.إن كنت لا تزال موجوداً.
- لقد ولَّت أيام تجوالي, يا"ريتشارد". إنني أنتظر رؤيتك بشوق.
كان يحاول التغلب على الغصة في صوته وفي حنجرته, ولم يكد يُفلح . فأرغم نفسه على تكرار الكلمات بثبات : " أنتظر رؤيتك بشوق ".
- هذا عظيم . أخبرني يا "جون". لماذا اقتحمت الكوخ ؟ هل المشكلة امرأة ؟
- إنه أمر كهذا. فلنقل فقط إن مكاني غير محدّد إلى أن أسوي أمراً أو اثنين . وقد تلطفت "دورا" باستضافتي مع ابنتي عدة أيام. . . أرجو أنّك لا تمانع .
.
- ولماذا أمانع إن لم تمانع "دورا"؟ ماذا . . .(وقبل أن يفكر "غانون" بجواب ما, وضع ريتشارد يده على السماعة لحظة, وابتعد صوته متحدثاً بشكل غير مفهوم مع شخص) اسمع . عليّ أن أذهب يا "جون". سنتحدث عن كل شيء عندما أعود. يبدو أن لديك الكثير لتقوله . هل قلت "ابنة"؟
- نعم .
- حسناً, مهما كانت الورطة التي وقعت فيها, فإن "دورا" لها. إنها شجاعة وحازمة, وهي تعرف الكثير من الناس . إلى اللقاء عندما أعود. يا "جون" .
- ألا تريد أن تتحدث إلى . . .
لكنه أقفل الخطّ. أعاد السماعة إلى مكانها بعناية بالغة. كان "ريتشارد ماريوت" رجلاً أمضى جون حياته يتطلع إليه بإعجاب . لقد رآه ينهار عندما فشل زواجه فوضع اللوم على "أليزابيت" دون تردّد. لكنه أخذ يتساءل الآن إن كان على صواب. إن أي رجل يعامل زوجته بمثل هذه اللامبالاة , لا يستحق حبها ووفاءها.
.
كانت "دورا" تنتظر مترقبة بهدوء, وقد بان في عينيها نوع من التوجس .
- "ريتشارد" أرسل إليك تحياته مع حبه .
حاول أن يعكس صوته ما أمكنه من مشاعر .

- حقاً؟
تملكها الشك في ذلك. فهو لم يقل سوى ما ظنها تريد أن تسمعه, كيلا تشعر بخيبة أمل. وتأثّرت بذلك بشكل غريب. تابع "غانون" :
- لقد استدعوه حين كان على الهاتف .
قبض يديه بشدّة كيلا يتقدم نحوها ويأخذها بين ذراعيه, ويعانقها ويحبها كما ينبغي أن تُحب بدلاً من اختلاق أعذار لزوجها. إن أي اجتماع لا يمكن أن يمنع "ريتشارد" من الكلام مع زوجته .
- يبدو أنه لا يمانع في مكوثي هنا .
- لمَ يمانع ؟ أنت صديقه .
كادت لا تصدِّق أن كذبها لم ينكشف .
- هذا ما قاله. يبدو أنه يثق بك. . .وبي. . .
- ليس لديه ما يمنعه من ذلك .
تقابلت نظراتهما لحظة فشعرت "دورا" بقلبها يخفق وهما يتذكران تلك اللحظة في الغابة حين لم يفكر أي منهما في"ريتشارد". بالنسبة إليها, كان ذلك مفهوماً. . .أما بالنسبة إليه. . حسناً, يبدو أن "غانون" يعيش حالة من الارتباك والتوتّر محاولاً أن يختار بين أن يكون خاطئاً أم قديساً .
.
رن جرس الباب , فتوجَّه نحوه , ليريحها من عنف نظراته المتفحصة التي جعلت أنفاسها تتدافع وساقيها لا تقويان على حملها.
- يريد الرجل في الباب بعض النقود مقابل إحضاره الطعام .
- إنها في حقيبة يدي . يمكنك أن تأخذ ما تريد .
كان صوتها يرتجف قليلاً . مرة أخرى, التقت عيناهما للحظات قصيرة فوق رأس "صوفي" :
- لا أظنها فكرة جيِّدة, يا "دورا". أنتِ لا تعرفين إلى ما قد تؤدي إليه دعوة كهذه .
ناولها الحقيبة وقد بدا التوتُّر في صوته .
.

.



mymemory 26-02-17 11:03 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
8- الحب من النظرة الأولى !



- إلى أين تذهبين، يا "دورا" ؟
كانت "دورا" قد حملت "صوفي" على كتفها:
- كادت "صوفي" تقع نائمة على حسائها، ففكرت في أن أتركها تنام قليلاً. هل من اعتراض؟ أعتقد أنها لم تنم جيداً الليلة الماضية .
كان "غانون" يسدّ باب المطبخ وهو يحمل بين ذراعيه صندوق الأطعمة .
أجاب وهو يكبح تثاؤبه :
- أظن أن أحداً منّا لم ينم جيداً.
- الغرفة الاحتياطية إلى اليمين . إفعل ما ...
.
وقطعت "دورا" كلامها وما يمكن أن يحمله من معانٍ أخرى. وأدرك هو غلطتها، فارتسمت على شفتيه إحدى ابتساماته الخفيفة التي تنير شيئاً في وجهه وتضيء الأنوار في داخلها . قالت بتهذيب حذر :
- يمكنك استعمالها بكل ترحيب .
أجاب ساخراً :
- شكراً. لكن، لديّ بعض الأعمال لأنجزها قبل أن آخذ قسطاً من النوم.
تنحّى جانباً، فشعرت "دورا" به، دون أن تراه وهو يمسك أنفاسه عندما احتكت أضلعه المصدوعة ببعضها البعض. فارتجفت كأن جسدها هي قد تملَّكه صدى ذلك الألم
- هناك حبوب مسكِّنة للألم في الدرج. قد تنفعك . أو من الأفضل ربّما أن تنتظر الطبيب ليصف لك دواءً أقوى.
أجاب والعرق يرشح من جبينه :
- لست بحاجة إلى شيء. فقط أن تبتعدي عن طريقي لكي أضع هذا الصندوق من يدي.
كان عليها أن تأخذه منه، لكن حملها ل"صوفي" النائمة على كتفها، لم يسمح لها سوى بالابتعاد عن طريقه، ناظرة إلى الخلف وهو يدخل المطبخ .
لم يكن "غانون" منتبهاً إليها تحدِّق به ، فسقط فجأة منكبّاً على مائدة المطبخ وأنفاسه تتسارع محاولاً السيطرة على الألم . كانت إصابته أكبر بكثير مما ظنَّت، شعرت برغبة عارمة في الاقتراب منه لتأخذه بين ذراعيها وتحتضنه إلى أن يُشفى.
قبل أن تتمكن من القيام بشيء، استقام واقفاً، وقد شدَّ على أسنانه ليخفف من حدَّة الألم، فتوارت بعيداً عن نظره قبل أن يلتفت فيراها تحدق به. تعلم أنه يكره أن تراه في لحظات ضعفه، ولو للحظة. لكنها عندما وصلت إلى الردهة، ازداد تصميمها على استدعاء الطبيب ليراه .
.
مدَّدت الطفلة الناعسة على الفراش، ونزعت حذائها وجوربها والبنطال قبل أن تبعد شعرها عن عينيها وتُحكم الغطاء حولها . وتمهّلت إلى أن تهدأ خفقات قلبها، وتذكّر نفسها بكل الأسباب التي تمنعها من فتح قلبها له. وكان هذا الأمر يزداد صعوبة في كل مرة. عادت إلى المطبخ تقول :
- سأستدعي الطبيب .
التفت "غانون" إليها، وإذا بكل ما كافحت لاستجماعه من تصميم على أن تبتعد عنه، قد تبخر. كان لون جلده قد ازداد دكنة، وعلى وجهه ملامح رجل يكاد يفقد طاقته. تمتمت بارتباك : "جون" ؟
بقي جامداً لبرهة. ثم اندفع من جانبها خارجاً، لتسمعه بعد لحظة يحاول التقيؤ بشكل مؤلم . ترددت، تلهفت للذهاب إليه، لكي تمسك برأسه وتعانقه . لكنّها كانت واثقة من أنه يفضل أن لا يرى ضعفه أحد، فتسمّرت في مكانها.
ساد الصمت للحظات طوال، وفجأة، خافت من أن يكون قد أغمي عليه. فركضت، ثم سمعت صوت تدفق المياه عندما فتح الصنبور، فوقفت ويدها على الباب. إنه ليس بحاجة إليها هذه المرة. لكن، يمكنها أن تتصل بالطبيب وتخبره بأن لديها في المنزل مريضين و أن عليه الحضور بأسرع ما يمكن.
ما إن وضعت السماعة حتى أدركت أنه يقف في عتبة الباب ، فاستدارت نحوه . وقالت متوترة :
- من الأفضل أن تجلس قبل أن تسقط "غانون" .
ظنَّت أنه سيجادلها، لكنه رسم بيده علامة الاستسلام، وقال وهو يتقدم إلى أقرب كرسي ليجلس عليه بحذر:
- ربما تكونين على حق. ذكريني بأن لا أسمح لك بقيادة السيارة بي إلى أي مكان مرة أخرى.
- آه، فهمت. كان ذلك غثيان سفر، أليس كذلك؟
كانت تغيظه مازحة بتهكم أذهلها:
- وماذا غير ذلك؟
ثم ضغط يده على صدره كيلا يؤلمه وهو يسعل .
.
نعم، ماذا غير ذلك في الواقع؟ إنه نوع من غثيان السفر الذي يحدث عندما تنتهي الرحلة بشكل مفاجئ في أحد الحقول. نوع من غثيان السفر الذي يحدث عند تجاهل الأضلع المصدعة والركض بطفلة على الذراعين. نوع من غثيان السفر الذي تحدث له مضاعفات كثيرة إذا لم يتدخل الطب.
قالت :
- سأنتظر تشخيص الطبيب، إن لم يكن لديك مانع.
- هل استدعيته ؟
- طبعاً استدعيته. لديّ من المشاكل ما يكفيني لكي لا أضطر لاختلاق أعذار تبرِّر وجود جثة رجل غريب في شقتي.
- أنا لا أحتضر، يا "دورا". كل ما أحتاجه هو الراحة لبعض الوقت.
- أهذا كل شيء؟ عليك أن تعذرني إن لم أثق بما تقول. لكنني أنا التي أراك بوضوح هنا وأظنك بحاجة إلى أكثر من غفوة لتصبح على ما يرام .
أغمض عينيه وهو يعتصرهما، قارصاً جسر أنفه بأصابعه النحيلة.
- قد تكونين على حق. لكن، قبل أن أفكر بالقيام برحلة إلى قسم الطوارئ لإجراء صورة أشعة، عليّ أن أجري بعض الاتصالات.
- موافقة. ويجب أن يكون المحامي في رأس قائمتك. يمكنني أن أعطيك اسم محامٍ ماهر إذا شئت .
- شكراً، لدي محاميّ الخاص. لكن، هل لديك صديق في وزارة الداخلية؟ قال "ريتشارد" إنك تعرفين كثيراً من الناس.
قطبت حاجبيها: "هل قال ذلك؟" .
إذا كان "ريتشارد" قال ذلك فعلاً، فمن الواضح أنه يفترض أنها تساعد "غانون" للخروج من مأزقه. ويبدو أنه لا يرى خطأً في ذلك.
- هذا صحيح. في الحقيقة، لقد قابلت الوزير نفسه مرة، في حفلة عشاء. . .
رفع "غانون" حاجبيه ، باسماً :
- حقاً؟ حسناً، لا داعي لإزعاج الرئيس الآن. الأفضل أن تبقيه للجوء إليه عند الحاجة الماسّة. حالياً، يسعدني جداً أن أكون مع شخص بمستوى السكرتير، ما دام ودوداً.
- هل تنفع سكرتيرة أنثى؟
.
عاد يرفع حاجبيه، فتابعت قولها: " ليس كل أصدقائي ذكوراً، ولا كل الموظفين الحكوميين كذلك".
- أنا لست متحيزاً للرجال، يا "دورا". ما دام هي، هو، أو حتى هو لغير العاقل، متعاطفاً معي.
- ربما يعتمد هذا على عدد القوانين التي خرقتها.
- لم أكن أعدها.
- والأهم من ذلك، نوعها.
فهز كتفيه:
- دعينا نعدّها. هناك نقل طفلة من مخيم اللاجئين دون رخصة. . .لست واثقاً أي قانون يخرقه هذا العمل، لكنّ هذا يُعد واحداً.
- بل أظنه أكثر من ذلك.
- ثم هناك تفاصيل تهريبها عبر أكثر من حدود دولية واحدة، ولا أستطيع تذكرها حالياً.
- واستعارة طائرة دون رخصة من صاحبها.
منحها ابتسامة عريضة:
- شكراً يا "دورا". لقد نسيت هذه. لكن هنري لن يلح على إقامة دعوى عندما أشرح له ظروفي. ثمَّ، هبوط الطائرة دون تصريح رسمي. دخول البلاد دون إعلام دائرة الهجرة أو ضريبة الجمرك. وإدخال فتاة أجنبية إلى البلاد بشكل غير قانوني. قد تكون تلك المشكلة أصعب قليلاً. . .
- أتصوّر ذلك.(انتظرت. وعندما لم يذكر مزيداً من الجنح، سألته): هل هذا كل شيء؟
- كل ما أستطيع تذكره. عدا عن اقتحام الكوخ، طبعاً. لكنك سبق وعلمت بذلك. هل سترفعين دعوى، يا "دورا" ؟
- لا تتغابى أمامي، فأنا ساعدتك في ذلك. إنما عنيت المخدرات، النهب، امتلاك أسلحة غير مرخصة. . .وأشياء خطيرة.إذا كنت سأطلب خدمات من أصدقاء، فيجب أن أعرف أنك لست. . .
محتالاً. . .تستعمل"صوفي" ستاراً، وتستغلني.
كان ينظر إليها بشكل حيادي نوعاً ما، كأنه كان يعلم تحديداً ما ستقوله. هزت كتفيها:
- حسناً أنا أجهل الكثير عنك.
كانت لهجتها هادئة نوعاً ما.
.
- كل ما أريده هو أن أصل بابنتي إلى برّ الأمان، يا "دورا". إن كان لديك أيّ شك بهذا، أنصحك بأن ترفعي سماعة الهاتف مرة أخرى، وتستدعي الشرطة حالاً.
تملكتها الحيرة:
- لكن، إن كانت ابنتك، يا"غانون"، لماذا لم تسلك الطرق القانونية؟
- أتظنين أنني لم أحاول ذلك في البداية؟ هل لديك أيّ فكرة كم كانت القضية ستطول؟ أكثر الناس في الملجأ ظنوا أنني أعجبت بالطفلة فقط، وأردت أن أمنحها فرصة للحياة. بعضهم ظن أنني سآخذها للتبني إلى زوجين متلهفين للحصول على طفل، لم يصدق أحد في الواقع أنني أقول الحقيقة. ولم تكن هي في مكان نستطيع أن نجري فيه اختبار الدم لإثبات الأبوة.
- هذا صحيح. لكنّ اختطافها كان . . .
- تصرفاً يائساً؟ كنت يائساً فعلاً. كان الأمر إما أن أقوم بهذا وإما أن أتركها هناك حيث الإجراءات الروتينية البطيئة للغاية. لو كنت مكاني لما تركتها هناك ، أليس كذلك يا "دورا"؟
شعرت بأنه يدفعها إلى الاعتراف بأنها كانت ستقوم بالشيء نفسه، وبأنهما متماثلان. قد يكون على حقّ. ربما لو كانت مكانه لفعلت مثله تماماً. لكن، في هذه الظروف، كان من الجنون الاعتراف بذلك .
- سيعلمون بأنك أخذتها، أليس كذلك؟
- طبعاً سيعلمون. وهذا هو السبب في استعارتي طائرة هنري. ما كنت لأستطيع قط أن أمرّ عبر مكتب الهجرة وهي معي. ولم أستطع أن اطلب منه خرق القانون بأن يأخذنا في طائرته، بنفسه.
- لكنك لم تهتم بتوريطي معك .
- هذا غير صحيح ، يا "دورا". أنت التي ورّطت نفسك. لقد سنحت لك عدّة فرص للهرب فلم تنتهزيها. تذكري عندما نبّهك الشرطي .
حملقت إليه :
- نبهني ؟ وبماذا سيتهمونني؟
- ليس لديّ فكرة. لكنني واثق من أنهم سيفكرون بشيء ما. إلا إذا سوّينا كل شيء أولاً. تلك الفتاة التي تعرفينها في وزارة الداخلية، هل هي ودودة؟
- كانت ودودة للغاية في حفلة العشاء. كذلك في المبرّة الخيرية التي نذهب إليها نحن الاثنتين، لكن هذه الحالة هي الأولى من نوعها، وأنا لا أضمن أنها لن تذهب مباشرة إلى دائرة الهجرة إن أنا اتصلت بها. عليها أن تفكر في وظيفتها أولاً. لا أظن أنَّ الاتصال بها يُعتبر فكرة نيّرة .
- قد تكونين على حقّ. لكن عليّ أن أتحدث إلى شخص ما، وبسرعة.
- أظن أنَّ عليك أن تتحدث أولاً إلى محاميك. فقد يتقدم بطلب بعض الأوراق المؤقتة إلى أن تتمكن من إثبات حق "صوفي" في البقاء هنا. يمكنك طبعاً أن تستغل علاقاتك الصحافية. وعندما تستحيل الصحف الشعبية إلى جانبك، ستجعل البلاد بأكملها تبكي أثناء تناول الإفطار.
- شكراً، لكنني لا أريد هذا النوع من الدعاية.
.
حتى وإن كان ذلك يضمن سلامة "صوفي"، أم لديه ما يخفيه؟
- إنني أوافقك على ذلك نوعاً ما. لكنه قد يساعدك إذا قُبض عليك.
- أتظنينهم سيسجنونني ويلقون بالمفتاح بعيداً؟
- من الصعب معرفة ما قد يفعلونه تحديداً. . .فقد اخترقت قوانين دولية. ومن المحتمل جداً أن يطالب شعب غرازنيا بعودة "صوفي" إلى أمها. . .
- أمها ميتة ، يا "دورا" .
ميتة! كانت هذه الكلمة جوفاء للغاية، فارغة. . .نظرت "دورا" حولها كأنها تفتش عن كلمات لها أي معنى أو تقدم بعض التعزية. كل ما تمكنت من قوله بعض التعازي المكررة المتعارف عليها. سألته:
- أيمكنك إثبات ذلك؟
تملك "غانون" الارتياح . إنها لم تسأله كيف، أو لماذا. تلك الأسئلة التي ليس لها جواب. كما أنه لم تسأله عما إذا كان أحب المرأة التي حملت بابنته أو حتى ما إذا كانت زوجته. لكنها ستفعل، عاجلاً أم آجلاً. لن تستطيع منع نفسها من ذلك. وعندما يخبرها بكل القصة. .هل سيسرّها أن تساعده حينذاك؟
- ليس لديّ شهادة موت، إذا كان هذا ما تعنين. حتى أنني لا أعرف أين دُفنت. كل ما لدي هو ورقة خطية من شخص كان معها حين ماتت. إنها امرأة أرسلت إليّ الرسالة التي كتبتها أمها تتوسل إليّ أن أعتني ب "صوفي".
كانت الفكرة التي خطرت في ذهنها هائلة. وترددت "دورا" في النطق بها. لكنها كانت قد رأت وعرفت ما جعلها تفهم أنَّ كل شيء يمكن أن يحدث أثناء الحرب.
- هل أنت واثق من أن "صوفي" ابنتك، يا "غانون"؟
لقد طرح على نفسه هذا السؤال مئات المرات أثناء بحثه عن "صوفي". وإن كان هذا لا يهمه، فإن تضّرع امرأة تحتضر كان كافياً. كل ما كان يعرفه هو أن الطفلة كانت في مخيم اللاجئين. لقد أخبرته بذلك تلك المرأة التي أرسلت إليه الرسالة. لكن وصول الرسالة إليه استغرق أشهراً، وكان كل شيء قد انتقل من مكانه. . .تغير. . .ثم أثناء دخوله ذات يوم إلى أحد المخيَّمات، رأى طفلته الضئيلة الحجم السوداء الشعر فعرفها. لكن، من يصدّق ذلك؟
- لديّ صورة لأمي في الثانية من عمرها. و"صوفي" صورة عنها.
أومأت "دورا" برأسها:
- هذا سيفيدك.
- سيأتي اختبار الدم إيجابياً كذلك. متى سيأتي الطبيب؟
- إنه يقوم بعملية جراحية حالياً، وسيستغرق ذلك ساعة أو نحوها. هل أحضر لك شيئاً تأكله؟
هز رأسه:
- لا أظنني سأستطيع المجازفة بذلك قبل فترة، سأتصل بالمحامي الآن ثم أستلقي ساعة.
لم تلحّ عليه. لكنها تركته ليقوم بالاتصال الهاتفي بينما قامت هي بتسوية السرير الاحتياطي. إنه بحاجة إلى النوم أكثر من الطعام. وعندما ينام، ربما تتمكن من اختيار من تتحدث إليه .
قد يكون الاتصال بمحاميها فكرة جيّدة، وإن يكن لإنذاره فقط باحتمال أن يخرجها بكفالة بسرعة، ثم تأمين "صوفي" عند شقيقها "فيرغس" ومديرة منزله. قد لا يعجب ذلك أخاها لكنه لن يخذلها عند الأزمة.
كانت تُعدُّ له الغطاء حين تنبَّهت إلى أن ضيفها يراقبها. منذ متى هو واقف هناك، وعيناه المليئتان بالأسرار، مصبوبتان عليها تخترقان أعماقها؟
سألته بمرح:
- هل كل شيء على ما يرام؟
.
- نعم. سينهي مسألة الوضع القانوني بالنسبة إلى "صوفي"، مسألة بقائها هنا ريثما أثبت أنا حقها في البقاء. ثم يتصل ب"هنري" ويسوّي أمر إصلاح الطائرة. وعندما ينتهي كل ذلك، سنذهب إلى مخفر الشرطة معاً وأدلي بتصريح شامل.يبدو أنني سأكون متهماً، وعند ذلك يكون أمري بين يدي قاضي المحكمة الذي سيقرر مصيري. ما رأيك بذلك؟
- أنت لم تؤذي أحداً!
- هذا صحيح. لكنني خالفتُ القانون في نواحٍ كثيرة. ويقول المحامي إنهم سيجعلونني عبرة لغيري. وإلا، فكل شخص سيظن أنه قادر على الإفلات من العقاب مثلي.
- في هذه الحالة، الأفضل أن تمضي وقتاً طويلاً على هذا الفراش الوثير. ليست زنزانات الشرطة بالأمكنة المريحة .
قال وقد عادت إلى شفتيه شبه الابتسامة تلك:
- لابد أنك تعلمين الكثير عن هذه الأمور.
هزت كتفيها :
- أنت تعرف كيف هي.
- لا. أخبريني.
- فكرت مرة في أن أكون ممثلة. واستطعت الحصول على دور صغير في عرض على التلفزيون. أمضيت الوقت كله في "الزنزانات"، ما جعلني أمحو من ذهني كل فكرة عن التمثيل في التلفزيون.
- ماذا كان عملك الذي تعتاشين منه قبل الزواج؟ لقد قلت إنك تعرفت إلى "ريتشارد" أثناء العمل.
- كلا . قلت إن أختي عرفتني عليه. هي التي تعرفت إليه أثناء العمل. إنها عارضة أزياء وممثلة في الإعلانات. لا بد أنك سمعت باسمها، "بوبي كا?اناغ".
- أنا لا أمضي وقتاً كثيراً في قراءة مجلات الأزياء.(ثم قطب حاجبيه): هل تشبهينها؟
- قليلاً. إنها أطول مني، وأكثر تألقاً بكثير بالطبع. . .
- ربما سبق أن رأيت صورتها في مكان ما.
وحاول أن يهز كتفيه لكن أضلعه راحت تؤلمه فغير رأيه: " كنت واثقاً من أن وجهك مألوف لديّ. . ."
فقاطعته: "لابد أن هذا هو السبب".
ذلك أن الصحف نشرت صورها كثيراً أثناء الأشهر الستّة الماضية. لكن سرّها أن يظن أنه رأى صورة أختها: كانوا يأخذون لها صوراً للإعلان على ضفاف النهر قرب ذلك الجسر عند الكوخ. . .عندما هبت عليهم جميعاً عاصفة رعدية. كان "ريتشارد" هناك يعمل في الكوخ، فدعاهم جميعاً للدخول للاحتماء من العاصفة.
- ثم عرفتك إليه؟
- نعم.
.
كانت و"بوبي" تشتركان في الشقة حينذاك. لكنَّ "بوبي" انتقلت للعيش مع "ريتشارد"في نفس اليوم الذي تعرفت إليه فيه. قد يكون الحب من النظرة الأولى هو ميزة في الأسرة. أشاحت "دورا" بوجهها عن "غانون"، واثقة من أنه سيرى نفس النظرة القانطة واللهفة الطائشة التي كانت رأتها في عيني "بوبي" عندما كانت تلقي بثيابها في حقائبها، وهي تفكر في الوقت الذي ستكون فيه مع "ريتشارد".
ألقت بالغطاء على الفراش بمرح لم تكن تشعر به. ووضعت الوسائد في أكياسها بعنف كشف عن مشاعرها.
- انتهيت. . .هل أنت واثق من أنك لن تحتاج إلى ما يخفف ألمك؟
ما كانت تريده حقاً هو الاستلقاء بجانبه،لكي تخفف عنه ألمه وتضم رأسه إلى صدرها إلى أن ينام.
- لا أظن أنَّ أي شيء يمكن شراؤه من الصيدلية سيكون مفيداً يا "دورا".
شعرت بشيء ما في صوته يعني أنه لا يتحدث عن دواء مسكِّن للألم. لكن، مهما يكن ما سمعته في صوته، فهو لم يظهر في وجهه.أو ربما فقط سمعت ما كانت متشوّقة إلى سماعه، لكنه ممنوع عليه قوله.
- حسناً، أنا واثقة من أن الطبيب سيصف لك شيئاً إذا طلبت منه ذلك. حاول الآن أن تنام. لا داعي لأن تقلق بشأن "صوفي"، فأنا سأهتم بها.
بقي متردداً عند الباب، وقد لمع في عينيه شيء من الثقة.
- ثق بي يا "غانون". لن أخرج إلى أي مكان. إن هذه المشكلة تخصني الآن بقدر ما تخصك.
ثم أخذ يفك أزرار قميصه. تعلقت عيناها به وهو يكشف عن عنقه وصدره. وعندما رآها ساكنةً، توقف:
- أنا أقدر لك اهتمامك حقاً، يا"دورا". لكنني أظن أنه من الأفضل أن تتركيني أقوم بهذا العمل كله وحدي.
توهج وجهها، وهربت.
***
استيقظت "صوفي" بعد فترة، وسألت عن أبيها. احتضنتها "دورا"، ثم أخذتها إلى المطبخ لتعطيها شيئاً من الحليب والبسكويت، وهي تبحث عن طريقة تسلي بها الطفلة. كانت قد قررت لتوِّها أن تجعلها تساعدها في صنع كعكات صغيرة لأجل الشاي حين رنّ "براين" الناطور على الهاتف ليخبرها بأن الدكتور "كروفت" قد وصل، وهو يصر على أنها استدعته.
- آه، آسفة يا "براين". كان عليّ أن أخبرك بأنني أنتظره. أرسله إليّ من فضلك.
كشف الطبيب على "صوفي"، ونظر إلى الدواء الذي تتناوله، ثم نظر إلى "دورا" يسألها:
- من اين حصلت على هذا؟
- هل ثمة خطأ في هذا الدواء؟
لا. لكنه لا يوزّع عندنا.
ونقر بإصبعه على البطاقة، الملصقة على العلبة والمطبوع عليها شعار الأمم المتحدة.
- من هي؟ إحدى لاجئاتك؟
- وهل لهذا أهمية؟
- ليس بالنسبة إليّ.
نظر إلى "صوفي" ثم ابتسم لها.
- من الواضح أن الطفلة كانت مصابة بالتهاب في الصدر. لكنّها شفيت الآن. إنها هزيلة الجسم، لكنها، عدا ذلك، بصحة جيدة.
ثم نظر إلى "دورا" مفكراً: "نظراً إلى الظروف المعيشية التي كانت فيها، من الأفضل أن تحضريها إلى العيادة بعد يوم أو يومين لإجراء بعض اختبارات الدم لها، من باب الاحتياط".
- شكراً. أريد في الواقع أن أسألك بالنسبة إلى اختبارات الدم. الاختبارات المتعلقة بالوراثة. يريد والدها أن يثبت أبوّته.
.
- آه، أفهم من هذا أنه مريضي الثاني. أين هو؟
- إنه يرتاح . لديه أضلاع مصدعة تسبب له كثيراً من الألم. وكان يتقيأ، وقد بدأ الآن بالسعال.
- دعيني أراه.
قادته إلى الغرفة الاحتياطية وقرعت الباب ثم فتحته. كان "غانون" نائماً. كان متمدداً خارج السرير، كتفاه العاريتان تملأهما الرضوض، وأهدابه الكثيفة الداكنة مسدلة على عينيه النائمتين.
- هممم. . .إنه لا يبدو مشرقاً جداً، أليس كذلك؟ لا، لا توقظيه. تعلمين أن النوم يفيده أكثر من أي شيء قد أعطيه له.
- هل أنت واثق من هذا؟
- سأترك لك اسم مضاد حيوي وحبوب مسكِّنة للألم، وسآتي لزيارته في الصباح. لكن إن شعرت بالقلق، اتصلي بي في أي وقت وسآتي حالاً.
- ماذا عن اختبار الدم الوراثي؟
- هل هو على عجلة من أمره؟
- نعم . . نوعاً ما.
- حسناً، سأعود إليكم حالما أرتب موعداً في العيادة.
- شكراً يا دكتور.
وقف عند العتبة قائلاً:
- أظنك تعلمين ما تفعلين، يا"دورا" ؟
أجابت باسمة:
- ما الذي أعطاك هذه الفكرة؟
بادلها الابتسام :
- لا، حسناً، اتخذي الاحتياطات فقط.هل أعطي ناطورك "الوصفة" ليحضر الدواء لك؟ إنه يوفر عليك مشقة الخروج.
- شكراً.
أغلقت الباب خلفه، واستدارت إلى"صوفي".
- والآن، حبيبتي، فلنعد إلى ذاك الكعك
***
.
استيقظ "جون غانون" وقد بدا بوضوح كأنَّ دبابة دهسته. أو على الأقل سيارة مصفحة.
كان الوقت يدنو من الغروب، ونور الشفق الذهبي يتدفق من النوافذ، وهو مستلق في فراش مريح إلى درجة لا يمكن لأحد معه أن يزحزحه منه.
تحرك بحذر. وعندما وخزه الألم، تذكر. ومع عودة الذاكرة عادت إليه الأفكار المرة التي كانت تمتلكه حين ألقى رأسه على الوسادة. ألقى نظرة على ساعته، ثم أطلق الشتائم. كانت الساعة الثامنة. ماذا حدث للطبيب؟
أطلق الشتائم مرة أخرى عندما تحرك بسرعة. انحنى يجذب بنطاله المستعار، ففاجئته موجة من الدوار.
دخل الحمام، وغسل وجهه المتوهج بالماء الساخن. تمسك بالحوض حين كان الغثيان يخنقه مرة أخرى، لكنه رفض الإذعان لرغبة معدته في التقيؤ. وأخيراً مرت المحنة.
اجتاز الردهة ليرى "صوفي" التي عادت إلى سرير "دورا" واستغرقت في نوم عميق. بدأت نتيجة العناية تبدو عليها، كما رأى. لقد علا وجنتها تورد الصحة وبدا شعرها الأسود نظيفاً لامعاً. أزاح خصلة عن وجهها فتحركت وفتحت عينيها وابتسمت له. انحنى وقبّل رأسها محكماً الغطاء حولها. كانت رائعة الجمال وكان يحبها أكثر من الحياة نفسها.
- "غانون"؟
استدار. وكانت "دورا" واقفة في العتبة: "كيف حالك؟".
- ممتاز!
تملكته نوبة من السعال فابتعد عن سرير "صوفي" خارجاً إلى الردهة، مراجعاً كلامه إزاء نظرتها المشكِّكة: "لا بأس".
لم تناقشه، إذ لم يكن ثمة فائدة من ذلك. فقد كان يبدو فظيعاً وربما كان شعوره أسوأ. أخرجت من جيبها زجاجتي حبوب وناولته إياهما.
- ترك لك الطبيب بعض الحبوب المسكِّنة للألم ومضاداً حيوياً .
فقال وهو يدس الزجاجة في جيبه:
- لست بحاجة إلى مضاد حيوي، لكنّي بحاجة إلى اختبار دم. لماذا لم توقظيني؟
- لقد منعني من ذلك. وقد رتب لك موعداً في العيادة بعد يوم غد. وهو أقرب موعد استطاع ترتيبه.
- أما كان بإمكانه أن يجريه بنفسه؟
تأثرت لعدم صبره.
.
- يجب إجراء الاختبار ضمن شروط خاصة. هل أنت جائع؟
كان الغثيان لا يزال يهدده، فقال:
- ليس تماماً.
سألته وهي ترى وجهه الشاحب:
- ماذا عن حساء "بو?ريل" وبعض البسكويت؟
ضحك، ثم قبض على جنبه.
- تباً لذلك! تتكلمين كجدتي.
- حسناً، الجدات يعرفن بعض الأشياء. وماذا في ذلك ما دمت لا أبدو مثلها؟
كانت نبرتها لاذعة لإخفاء كل هذه المشاعر التي قد تكون مقروءة على وجهها.
ربما يجب أن تكون اللذعة في لهجتها أقوى لأنه مد يده يلامس خدها، مرسلاً رجفة خفيفة في جسمها جعلتها لا تتمنّى إلاّ أن يضمّها ويحبها.
انزلقت أصابع "غانون" تحت شعرها كأن لأصابعه هذه إرادة منفصلة. كانت بشرتها كالحرير، دافئة الملمس، حساسة. وامتلأت مشاعره بها فجأة، مخرساً صوت العقل الذي كان يقول: "لن تستطيع أن تحصل عليها، لأنها لشخص آخر".
عندما ملأ عطرها أنفه، فقد عقله. وتمنى أن يضمّها إلى صدره ويشعر بدفء أنفاسها. استطاع أن يرى هذا كله وهو ينظر إليها، تفيض عيناه بمشاعر لم يعهدها من قبل .
ماذا تراه سيختار؟ النجاة أم الانتحار؟

.

mymemory 26-02-17 11:04 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
9- محكمة

ارتدت يدا "غانون"عن "دورا" كأنه لمس جمراً ، ثم تراجع إلى الخلف مبتعداً عنها ما دام يملك القوة لذلك.
كانت ساحرة. لابد أنها كذلك. إن "دورا كاماناغ" تسلب قلوب الرجال بنظرة واحدة منها ليصبحوا أسراها، ثم يشكرونها على ذلك. يظن "ريتشارد" أنه أسعد الرجال، و"جون" يعرف لماذا. قد لا تكون "باندورا" هذه سبب كل المتاعب في العالم، لكنها نوع من المتاعب على كل رجل عاقل أن يهرب منه.
شتم "غانون" أضلاعه المتصدعة، والأعراض الأخرى التي أضعفت جسمه حتى أعجزته عن الهرب ، والإنهاك الذي أضعف عزيمته إلى حد جعله لا يريد ذلك.
التقط الحبوب التي تركها له الطبيب، بينما استدارت "دورا" لتملأ له كوباً من الماء. كان من المفترض أن يشعر بالتعزية لرؤية يديها ترتجفان كيديه، لكنّه لم يشعر بالتعزية. وعندما ابتلع حبتين من الدواء، لم يكن واثقاً، من أنّه سيساعده كثيراً. كانت ألامه الجسدية مجرد عارض جانبيّ، مقارنة مع الألم الدائم في قلبه.
- "جون"...
كان يكره أن يسمعها تلفظ اسمه بهذا الشكل المتردد، البالغ الرقة. يكرهه ويتلهف إليه. واللهفة كانت الأسوأ.
- لا تقولي شيئاً، يا "دورا".
- أرجوك يا "جون".عليّ أن أخبرك بشيء.
لم يشأ أن يسمعها مهما يكن ما ستقوله.
- لا.
وأشاح بوجهه عنها فتمايل واهتز المطبخ حوله، فأخذ يدعو الله بصمت. . أرجوك، يا إلهي. ساعدني! وكأنما استجاب الله دعاءه، فقد أخذ جرس الباب يرن دون توقف. جمدا مكانهما لحظة، لا يأتيان حراكاً، ثم عاد الجرس إلى الرنين. فراحت "دورا" تسير عبر المطبخ. عندما مرت به، أمسك بمعصمها.
- عديني بشيء، يا "دورا".
همست بصوت أجش:
- لك ما تشاء.
.
- عديني بأنه مهما حدث لي، سترعين "صوفي"، وتحرصين على عدم إعادتها. .
أطلقت "دورا" شهقة صغيرة. ليس هذا بالرجل الذي يطلب المساعدة بسهولة. لكن، هاهو ذا يطلبها منها. . . يتوسل إليها.
- أعدك .
لكنّ عينيه الذهبيتين المتألقتين في وجهه المنهك طلبتا أكثر من ذلك.
- أعدك بأن أرعاها، يا "جون". سأبقيها سالمة لأجلك. وأقسم على ذلك.
- "دورا". . .
بقي لحظة طويلة يرتوي من جمالها الرقيق. كان يعلم أن عليه أن لا يلمسها. . . وأنه لو لمس وجهها ولو بطرف إصبعه سيؤدي به ذلك إلى ارتكاب حماقة، خيانة للصداقة. لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه.
كان يرتجف شوقاً إليها، ولهفة إلى وضع ذراعيه حولها وإلقاء رأسه على كتفها، ونسيان نفسه في حلاوة دفئها. لكنه دعا الله طلباً للعون وها قد استُجيب دعاؤه. فإن هو أمسك بها الآن ستحلٌّ عليه اللعنة إلى الأبد.
رأت "دورا" المعركة المحتدمة في داخله. رأت عينيه تغيمان بالحرارة التي تفيض منهما فأدركت أنها كلها انعكاس لمشاعرها هي. لماذا ؟ إن "جون غانون" رجل غريب، رجل مليء بالأسرار. ومع ذلك، في اللحظة التي أضاءت فيها النور في مطبخ الكوخ وسمعته يشتم مجفلاً، شعرت بذلك الخفقان غير العادي في قلبها. لقد سمعت ذلك الصوت الداخلي، الهادئ كأنفاس الطفل، متواصلاً كقطرات المطر، (هذا هو. . .إنه هو. . .هذا هو رجل منتصف الليل الذي يأتي في أحلامك الخفية. الرجل الذي ستتذكرينه حتى الموت ولو عشت مئة عام). أي شيء لم تجازف بعمله لأجله؟
كانت حرة تماماً ولديها البرهان على سرقته للطائرة، لكنها لم تغدر به. فقد عادت إلى الكوخ و واجهت رجال الشرطة الذين كانوا في انتظارها. ثم ذهبت تبحث عنه لكي تساعده وتساعد "صوفي".
رفعت يديها تحيط بهما وجهه. كان وجهه شاحباً. ولم تكن واثقة من منهما كان يرتجف أكثر. كل ما كانت تعرفه هو أنها ستحرك السموات والأرض لكي تسوّي أموره.
- "جـون". . .استمع إليّ. علي أن أخبرك شيء. إنه يتعلق بي و بـ "ريتشارد". إن ما عرفته عن هذا الأمر كلّه خطأ...
عاد الجرس إلى الرنين، وهذه المرة كان مرفقاً بدقات حازمة، فقال وهو يدفعها عنه:
- إنها الشرطة، يا "دورا". اذهبي قبل أن يحطموا الباب.
- الآنسة كاماناغ؟
.
لم يكن ثمة حاجة للبطاقة التي مدّ الرجل بها إليها. أدركت بالرغم من بذلته الأنيقة وربطة عنقه الحريرية، أنه كان "مفتش التحري رينولدز". ولم يكن وحده بل معه "الشرطية جونسون".
- هل يمكننا الدخول؟
والتفت إلى المرأة الشرطية يعرفهما ببعضهما البعض.
- هل لديك رخصة بالتفتيش ؟
كانت جامدة في مكانها محاولة أن تفكر.
- لم أتصور أنني سأحتاج إلى واحدة، يا آنسة "كاماناغ".
أريد فقط أن أتحدث إليك. إلا إذا كنت تفضلين الذهاب إلى المخفر. . .
- هذا ليس ضرورياً، يا حضرة المفتش. أظنني سبب وجودك هنا.
- السيد "غانون"؟ السيد "جون غانون"؟
كان "غانون" متمسكاً بباب المطبخ، فأومأ بالإيجاب. فأخذ المفتش يتلو عليه، بشكل رسمي، المخالفات القانونية المتهم بها، مع كلمات التحذير الرسمية المعتادة. منهياً بقوله:
- هلا تفضلت بالمجيء معي، يا سيدي. . .
فقالت "دورا" ساخطة:
- لا يمكنك أبداً أن تأخذه. ألا تراه مريضاً؟
- دعكِ من هذا، يا "دورا". لا تورطي نفسك.
وشهق ضاغطاً بيده على صدره وقد انتابه نوبة من السعال المؤلم.
- تباً لك، يا "غانون". فأنا متورطة فعلاً! (وعادت تواجه المفتش) لا يمكنك أن تأخذه وتلقي به في زنزانة. لن أسمح بذلك.
.
التفتت المرأة الشرطية إلى "غانون" تنظر إليه بإمعان، ثم قالت:
- إنه لا يبدو بصحة جيدة، حقاً، هل أصبت أثناء هبوطك بالطائرة، يا سيد "غانون"؟
كان جوابه أن ترنح "غانون" ثم تهاوى على الأرض ممدداً على السجادة.
انحنت "دورا" فوقه قبل أن تلتفت إليهما قائلة:
- أريتما؟ ماذا قلت لكما؟ هيا، استعملا ذلك اللاسلكي الذي تحملان واطلبا الإسعاف، الآن حالاً!
نظرت الشرطية إلى المفتش، لكنها لم تناقشها، وأخرجت جهاز اللاسلكي بينما كانت "دورا" تضع رأس "غانون" في حجرها إلى أن وصلت سيارة الإسعاف وأزاحها الممرضون بلطف ليتمكنوا من قياس النبض والتنفس ثم يضعونه على المحفة.
- أي شيطان. . .
رفعت "دورا" بصرها لترى شقيقها واقفاً على عتبة الباب المفتوح:
- "فيرغس"! ما الذي تفعله هنا؟
- تلقيت مكالمة من مفوض الشرطة يقول فيها إنك تجتازين مشكلة، فجئت لأرى أي نوع من الهراء أقحمت نفسك فيه الآن.
اندفعت تعانقه وهي تبكي وتضحك في وقت واحد:
- آه يا "فيرغس". لقد جئت في وقتك. (والتفتت إلى رجال سيارة الإسعاف) إلى أين تأخذونه؟
فأخبروها باسم أقرب مستشفى:
- هل تريدين المجيء معه ، يا آنسة ؟
.
طبعاً تريد. أنها لا تريد أن تدعه يغيب عن نظرها. لكنها لا تستطيع أن تترك "صوفي" حتى ولو جلس معها "فيرغس". إذا استيقظت الطفلة وأدركت أن والدها ليس موجوداً، ستكون بحاجة إلى شخص تعرفه، شخص تثق به.
- لا أستطيع ترك الشقة حالياً، لكنني سآتي حالما أستطيع. أخبروه بذلك حين يستيقظ، من فضلكم.
عند ذلك سألها "فيرغس":
- من هو هذا، وماذا جرى له؟
فقال أحد الممرضين:
- يبدو كأن لديه التهاباً رئوياً، يا سيدي. لكنه سرعان ما سيشفى.
قال المفتش بهزة من رأسه يخاطب الشرطية:
- اذهبي معه، يا "جونسون". ليس السيد "غانون" من نوع الرجال الذين يدعون الالتهاب الرئوي يعيقهم مدة طويلة.
فسألته "دورا" غاضبة:
- لماذا تقيد يديه إلى الحمّالة؟
- "دورا".
اقترب منها فيرغس بلطف وهو يضع ذراعيه حولها، ويقودها باتجاه غرفة الجلوس.
- لم لا تخبرينني عما كان يجري هنا؟ فلربما نستطيع القيام بشيء في هذا السبيل.
- عفواً يا سيدي. لكن، إن لم يكن لديك مانع، علّي أن أوجه إلى السيدة الشابة عدة أسئلة. أولاً هل الفتاة الصغيرة هنا، يا آنسة "كاماناغ"؟
لكن "فيرغس" تدخل قائلاً: "ومن أنت؟".
عندما أخبره المفتش، عاد يقول:
.
- حسناً، يا حضرة المفتش. إن شقيقتي في حالة صدمة. ولن تجيب عن أيّ سؤال قبل وصول محاميها. فإذا شئت أن تنتظر في صالة الانتظار في الأسفل، فأنا واثق من أن الناطور سيحضر لك كوب من شاي.
- آسف يا سيدي، لكن عليّ أن أعلم. هل الطفلة هنا، يا آنسة "كاماناغ"؟
- إنها نائمة، يا حضرة المفتش وأرجوك أن لا تزعجها.
- عليّ أن أبلغ مؤسسة الخدمات الاجتماعية. . .
وضعت "دورا" يدها على فمها:
- لا! لا يمكنك أن تأخذها من هنا. لقد وعدت "جون" بأن أرعاها.
- آسف يا آنسة، ولكن. . .
أدركت "دورا" أن المشاعر لن تفيد، فقالت:
- طلب مني والد "صوفي" بأن أهتم بابنته إلى أن يتمكن من القيام بذلك بنفسه. . .
- والد؟ المعذرة يا آنسة، لكن ذلك يتطلب إثباتاً. . .
كررت "دورا" قولها بصبر:
- لقد أخذوا والد "صوفي" إلى المستشفى للتو. وأنا الشخص الآخر الوحيد في هذه البلاد الذي تعرفه. وإن أنت أخذتها مني ستخاف وتشعر بالوحدة. وقد وعدت "جون غانون" بأنني سأرعاها، وسأفعل.
فقال "فيرغس" متدخلاً:
- في الواقع، يا حضرة المفتش، إن أفضل شيء لأختي وللطفلة هو أن يعودا معي إلى "مارلكورت".
وأخرج "فيرغس" بطاقته :
- أظن أنَّ بإمكانك أن تأخذ كلمتي وعداً بأن تقدم أختي نفسها إلى مخفر الشرطة مع محاميها صباح غد.
نظر مفتش الشرطة إلى بطاقة "فيرغس". ثم قال بضيق:
- صدقني، لست من يقرّر، يا سيدي.
- ليس عليك ذلك.
رفع سماعة الهاتف وقدمها إلى الرجل:
- اتصل بمفوض الشرطة وأنا واثق من أنه سيكلفني.
كادت "دورا" تشعر بالرثاء للرجل. فالتعامل مع شابة مضطربة هو شيء، والتعامل مع "فيرغس كاماناغ" ذي الطبيعة المستبدة، هو شيء أخر. قد تتخطى أختاه حدود اللياقة معه، وقد تغيظانه عندما ينشغل بهما ويقلق لأجلهما. لكنه بالنسبة إلى الغرباء هو رئيس "مؤسسة كاماناغ الصناعية"، وستحل الكارثة عليهم إن هم نسوا ذلك. . .
- هل تريد أن ترى "صوفي" لتطمئن إلى أنها بخير؟
فبدا على الرجل الارتياح:
- هذا سوف. . .(وأبدى إشارة تعني أنه قال كل شيء. كانت صوفي تنام بسلام وقد تأبطت دميتها). شكراً، يا آنسة. عليّ أن أبلغ "مؤسسة الخدمات الاجتماعية" بمكانها، طبعاً. وسأتركهم يوجهون أي اعتراض قد يكون لديهم، إلى السيد "كاماناغ".
.
سألت المفتش وهي ترافقه إلى الباب:
- كيف علمتم أن "جون" هنا؟
- آه، أنها الثياب. لقد اشتريت للطفلة بعض الملابس وقد أخبرت الشرطي الذي حقق معك أنها لابنة أختك. . .
- ابنة أخت زوج شقيقتي.
- نعم، وعندما وضع تقريره، عرف رئيس المخفر أنك كاذبة لأن زوجته كانت تذهب إلى عيادة الحوامل مع السيدة شيلتون، وهذا يعني أن ابنة أخت زوج شقيقتك عمرها فقط ستة أشهر. أما الثياب التي اشتريتها أنت فهي لطفلة أكبر بكثير من هذه السن.
ضحكت "دورا" ساخرة:
- لا أظنني سأكون مجرمة ناجحة، أليس كذلك ؟
- لا أرجو لك ذلك، يا آنسة!
***
في الصباح التالي، طلب "فيرغس" من سائقه أن يمرّ بهم إلى المستشفى عند عودتهم إلى "مارلكورت"، وذلك لكي تزور "دورا" و"صوفي" "غانون". وقد اتصلت بهم قبل ذلك فقيل لها أنه أمضى ليلة مريحة. . لكن لا شيء أكثر من هذا. أشاروا لها إلى الجناح الذي يرقد فيه، لكنها لم تستطع أن تراه، فسألت الممرضة المشرفة على القسم:
- إنني أبحث عن جون غانون. كانوا قد أحضروه في الليلة الماضية.
انحنت ثم حملت صوفي التي كانت تتململ عند ركبتها.
- ومن أنت ؟
- "دورا كاماناغ". وهذه ابنته "صوفي".
- آسفة يا آنسة "كاماناغ". لكن السيد "غانون" قال إنه لا يريد زائرين.
حدقت"دورا" إلى الفتاة لحظة، ثم قطبت جبينها: "المعذرة؟".
- إنه لا يريد زائرين.
- لكن. . .لا أفهم، فهذه ابنته. . . لا بد أنه يرغب في رؤيتها.
لكن الممرضة لم تتزحزح عن موقعها.
- أنا آسفة.
.
لم تستطع "دورا" أن تستوعب ما كانت تقوله الممرضة، وأخذت تنظر حولها كأن "غانون" قد يبرز فجأة بشكل ما، فينظر إليها بتلك الابتسامة الكسولة. لكن هذا لم يحدث.
لم تفهم شيئاً. ثم عادت لتدرك أنها ربما فهمت. لابد أنه ظنهَّا قد غدرت به، وأنها اتصلت بالشرطة أثناء نومه. قد يجعله هذا غاضباً منها، أما أن يرفض رؤية "صوفي"!
راحت "صوفي" تبكي، فاحتضنتها "دورا" تواسيها. ربما ظن أنها ستخاف من المستشفى. وقد يكون على حق في ذلك، سألت بعجز :
- كيف حاله ؟
- لقد أمضى ليلة مريحة . سيراه الطبيب مرة أخرى في ما بعد.
أرادت "صوفي" أن تتمسك بمئزرها وتهزها وتقول لها إن عليها أن تراه لأنها تحبه. . . وإن عليها أن تخبره. . . لكن المرأة لم تكن تفعل إلا ما أمرها به "غانون".
- هل يمكنني أن أكتب له رسالة؟ أم أنه منع ذلك أيضاً؟
قالت الممرضة بشبه ابتسامة:
- ليس كما أعرف. أتريدين أن تكتبي شيئاً الآن؟
- نعم. (ثم عادت فقالت): لا! (كانت بحاجة إلى أن تجلس وتشرح كل شيء كما يجب. لا أن تخط بضع كلمات على ورقة. . .أو. . . ربما هذا. . .هذا سيصلح) في الواقع. . .
دفعت الممرضة إليها قلماً وقطعة ورق، وقبل أن تتوقف لتفكر، كتبت ببساطة (صوفي سالمة.أحبك، "دورا") ثم أضافت رقم هاتف "فيرغس" وقبل أن تطوي الورقة وتناولها للممرضة قالت هذه الأخيرة:
- سأهتم بإيصالها إليه.
- شكراً.
ألقت "دورا" آخر نظرة حولها، متلهفة إلى رؤيته من خلال باب مفتوح حتى ولو لم يكن يراها هو. لكنَّها اعترفت بالهزيمة وتركت المستشفى.
استطاعت أن تكبح انعدام صبرها بصعوبة إلى أن وصلت "مارلكورت"، مسقط رأسها، إلى المنزل الذي يعيش فيه "فيرغس" هذه الأيام وحيداً، دون رفيق سوى خدمه. . وكانت واثقة من أن "جون" قد اتصل بها ليقول إنه فهم، ويطلب منها أن تعود لأنه بحاجة إليها. لكنه لم يفعل.
تلقى "فيرغس" اتصالاً من محامي "غانون"، يرتب أمر "صوفي" لكي تبقى تحت وصايته إلى أن تصدر نتيجة اختبار الدم. قالت "دورا" له بغيرة:
- ولماذا أنت؟ إنه لا يعرفك ولم يقابلك قط.
- إنه يحميك، يا"دورا" فهو مدرك جيداً أنه ورّطك في كل أنواع المشاكل. لا أظنك تدركين تماماً معنى ذلك.
كان عليها أن ترضى. وكان عليها أن تكتب رسالة طويلة توضح له فيها كل شيء. تخبره عن "ريتشارد"، وعن زواجه من أختها. تشرح له لماذا لم تخبره بالحقيقة. ثم كيف اقتفى رجال الشرطة أثره، وعرفوا مكانها.
لكن، بعد ثلاثة أيام مرّت كأنّها الدهر كلّه، عادت إليها الرسالة دون أن تُفتح. فاندفعت بتهوُّر عائدة إلى لندن، مصممة على محاصرة المستشفى إلى أن يسمحوا لها برؤيته، لكن دون جدوى.
كان قد خرج من المستشفى على مسؤوليته ولم يعد لديها أدنى فكرة عن مكانه. لكنَّ محاميه لم تدهشه رؤيتها، كما يبدو. لكنه هو أيضاً كان مقيَّداً بالأوامر، فلم يستطع مساعدتها.
.
كانت "دورا" تقف خارج مكتبه، تجهد ذهنها رافضة الاعتراف بالهزيمة. ظهرت موظفة الاستقبال التي قدمت لها فنجان قهوة عندما كانت تنتظر الدخول إلى مكتب المحامي. كانت امرأة شابة قرأت عن "دورا" في الصحف وأظهرت اهتماماً كبيرا بمرافقتها لقوافل الإغاثة. واقتربت منها تسألها:
- هل سبق أن ذهبت قط إلى المحكمة المحلية، آنسة كاماناغ؟
عقدت دورا حاجبيها:
- المحكمة المحلية؟
- أنا واثقة من أنك ستجدينها ممتعة. يوم الجمعة القادم، مثلاً. عند الساعة العاشرة تقريباً.
***
أمضت "دورا" الأسبوع التالي في تسلية "صوفي" متحدثة إليها طوال الوقت إلى أن أصبحت قدرة الطفلة على فهم اللغة الإنكليزية لا تُصدّق.
أخذتها معها للتسوّق، وحين أصبح الجوّ دافئاً، كعادته في شهر آب، أخذتها تعلمها السباحة في بركة سباحة "فيرغس".
لكنّها لم تتوقف عن التفكير قطّ في يوم الجمعة، آملة أن ترى"جون"، رغم خوفها من أن يكون غير راغب في رؤيتها مرة أخرى. لكنها ستجعله يصغي إليها. فهي تحبه.
- أسبح، "دورا"! "صوفي" أسبح.
كانت "صوفي" راكضة نحوها وفي يدها (نفاخات) السباحة لكي تنفخهما لها. فحملتها ووضعتها على ركبتيها تدغدغها حتى أخذت الطفلة تصرخ ضاحكة. كانت تصدر عنهما جلبة صاخبة جعلتهما لا يسمعان وقع الأقدام خلفهما.
- ما هذا كله؟
-"بوبي"، "ريتشارد"!
حملت "دورا" "صوفي" بيد واحدة، ثم عانقت أختها وصهرها بالذراع الأخرى.
- ما أجمل أن أراكما. متى عدتما؟
- الليلة الماضية. مرحباً يا حلوة.
قالت بوبي للطفلة برقة وهي تدعك وجنتها بلطف: "سمعت أن أحداثاً هامة تمرّ بكم"
قلبت "دورا" شفتها:
- لقد تحدثتما مع "فيرغس"؟
- نعم. هل يمكننا القيام بشيء؟
- هل تأخذاني إلى لندن غداً؟ ليس لديّ سيارة هنا ولديّ موعد في المحكمة المحلية.
- ماذا بالنسبة إلى "فيرغس"؟ ظننته قد تولّى زمام كل شيء؟
ما كان أخوها ليتأخر لو كان الأمر يتعلق به. لكنه كان مصمماً على أن تبقى بعيدة عن هذا الأمر.
- هذا صحيح. لكن هل تعلمين يا "بوبي" أنه نسي، بشكل ما، أن يذكر أن محاكمة "جون" ستكون غداً؟ ما هو السبب في رأيك؟
- هل سألته؟
.
- لا. ولم أخبره بأنني أعرف ذلك. ولو أخبرته لحرّك السماء والأرض لكي يمنعني من الذهاب.
- إنه فقط يريد أن يحميك، يا "دورا" أنتِ تعرفين الصحافة. . .لقد ذهبت إلى الكوخ هاربة منها. . .
- لا تهمني الصحافة. إنني ذاهبة سواء جئت معي أم لا.
- أنا لم أقل إنني لا أريد. لكن ... حسناَ، إنني، في الواقع، لا أستطيع. لدي اجتماع لا يمكنني أن ألغيه. . . وهو سبب عودتنا من الولايات المتحدة مبكرين. لكننا سنأخذك إلى المدينة، فأنزل أنا هنا وتذهبين أنت مع "ريتشارد" إلى المحكمة، أليس كذلك يا حبيبي؟
فقال:
- ما من مشكلة. لكن، ماذا بالنسبة إلى هذه الحلوة الصغيرة؟
- السيدة "هاريس" سترعاها. إنهما صديقتان حميمتان.
فضحكت بوبي:
- أراهن على ذلك. فالسيدة هاريس محبطة الأمومة، وانشغالها بهذه الصغيرة هو مكانها الطبيعي. أتظنينها ستحبني؟
- امنحيها فترة تعتاد فيها عليك. كنا نهمُّ بالنزول إلى البركة للسباحة. .لم لا تنضمين إلينا؟
ألقت "بوبي" على الماء نظرة شك فقالت "دورا":
- لا بأس بذلك. فقد فتح "فيرغس" الماء الساخن لأجل "صوفي".
- آه لابد أنه وقع في حبها، هو أيضاً. سأذهب لتغير ملابسي.
ثم ذهبت باتجاه غرفة تغيير الملابس، ترفل ثوب رائع من الحرير بلون القشدة والمشمش.
سألها"ريتشارد":
- كيف حال "جون"؟
- خرج من المستشفى، وعدا ذلك لا أعرف شيئاً عنه. إنه...
لم تستطع أن تكمل. . .لم تستطع أن تقول: إنه لا يريد أن يراني. فضّل البقاء بعيداً، لأجل قضية المحكمة.
أحس ريتشارد بترددها، فقال:
- لكنه ترك ابنته معك.
- مع "فيرغس"، في الواقع.
.
رفع "ريتشارد" حاجبيه، فابتسمت: "مؤسسة الخدمات الاجتماعية" أرادت أن تأخذها وتضعها في دار للعناية إلى أن تنتهي إجراءات إثبات الأبوة. لكنك تعرف "جون" اتصل ببعض الأصدقاء. ومن ثم أصبح حاله أفضل مما كان متوقعاً.
- ولديه جلسة في المحكمة غداً؟
- نعم. وأنا خائفة جداً يا "ريتشارد". قال إنهم يريدون أن يجعلوا منه عبرة لغيره منعاً من أن يتشبه به الآخرون.
وأخذت ترتجف فجأة بشدة جعلتها تضع "صوفي" على الأرض: " هل من الممكن أن يرسلوه إلى السجن؟".
- ستتغلبان على الصعاب. إنكما قويان بما يكفي لمواجهة ذلك. هيا، لا تدعي الطفلة تراك تبكين. ما اسمها؟
- "صوفي".
- إنها تشبه" جون" بشكل محيّر، كما ترين.
- حقاً؟
ضحكت وهي تذرف الدموع.
- عندما كان طفلاً، كان هزيلا ورزيناً. ماذا حدث لأمها. هل تعلمين؟
- أعلم أنها ماتت، فقط.
كان في صوتها كل الشكوك. فهي لم تستطع التخلص منها تماماً.
- لا بأس به، يا" دورا" إنّه رجل جيد.
- حقاً؟
كيف أمكنها أن ترتاب بأمره؟ لقد جازف بكل شيء لأجل "صوفي". لو أنها فقط استطاعت أن تثق به كلياً، لكان هنا معها الآن. . . معها ومع "صوفي".
أومأ "ريتشارد"، كان سؤالها مجرد كلمة تلقى دون انتظار جواب. ثم جلس القرفصاء ومدّ يده.
- كيف حالك يا "صوفي"؟ أنا " ريتشارد". أنا أعرف "بابا".
حدقت "صوفي" إليه لحظة، ثم ناولته ( النفاخات ) لينفخها. ضحك "ريتشارد" وأطاع على الفور هذا الأمر الصامت.
***
.
كانت المحكمة المحلية مزدحمة. محامون ببذلات قائمة، وكلاء قضاء، شهود ينتظرون الإدلاء بشهاداتهم. وكان "ريتشارد" و"دورا" منحشرين في الشرفة المزدحمة وعندما ازداد توترها أمسك بيدها:
- هل ستكونين على ما يرام، يا "دورا"؟
- ماذا ؟ آه، نعم.
وإذا بها تراه هناك، في قفص الاتهام. همست : " أواه، يا جون!".
وتشبثت بيد "ريتشارد" : " أواه، يا حبيبي المسكين!".
كان يبدو نحيلاً مرهقاً، إلى حدّ أسوأ مما توقعت. كان اللون الوحيد في بشرته ناجم عن تبدّد سمرته الناتجة عن التعرض للشمس ما منحه لوناً أصفر يوحي بالمرض. وكان ثمة ظلال قائمة حول عينيه وتحت وجنتيه. حتى إنَّ الشق الذي في ذقنه بدا أعمق، وأكثر وضوحاً.
قالت وهي تنهض قليلاً:
- كم يبدو مريضاً!
لفتت حركتها انتباه "غانون" فرفع بصره. .حدق إليها لحظة، ثم حوّل نظراته عنها متعمداً، ناظراً أمامه عندما بدأ القاضي كلامه:
- "جون غانون". لقد اعترفت أنك مذنب بالنسبة إلى التهم الموّجهة ضدك. .
سألت "دورا" بدهشة:
- متى؟ متى فعل ذلك؟
نظر "ريتشارد" إليها:
- الأسبوع الماضي بكل تأكيد. . .
رفع القاضي بصره إلى الشرفة بفروغ صبر، منتظراً الصمت. وعندما ساد السكوت، تابع يقول:
- لقد تلقيت عدداً مؤثراً من التقارير تشيد بصفاتك الحميدة، والظروف المخففة في هذه القضية. لكن، عليّ أن أقول، يا سيد "غانون"، إنك في لهفتك لتخليص ابنتك من مخيم اللاجئين، قد أظهرت عدم اكتراث متهوِّر وطائش بالقانون. . ( تابع الرجل قراءة القائمة بصوت منخفض رتيب، بدت معه لـ "دورا" التعسة أنها تحتوي على كل جنحة أو عمل بسيط قد يكون "جون غانون" ارتكبه منذ أن ترك المهد). و استناداً إلى هذا كله، ليس أمامي من خيار سوى الحكم عليك مدة ستة أشهر. . .
- كلا!
.
صرخت "دورا" وهي تقفز واقفة قبل أن يتمكن"ريتشارد" من منعها: " كلا!".
اندفع هذا الصوت من الشرفة الصغيرة المزدحمة إلى قاعة المحكمة حيث التفت الجميع ينظرون إليها.
- ستة أشهر.
كرر القاضي قوله، محملقاً في "دورا"، يتحداها أن تقول كلمة أخرى.
لكنها كانت أضعف من أن تقول شيئاً وهي تنهار على صهرها لا تعي شيئاً.
بقيت للحظة لا تدري أين هي، ولا ماذا حدث. ثم اندفع هول ما حدث إلى ذهنها دفعة واحدة، فحاولت أن تجلس.
- يجب أن أراه.
حملقت إلى الرجل الغريب الذي كانت يده القوية تمنعها من الحركة.
عادت تقول بسرعة :
- "جون غانون" يجب أن أراه، الآن.
- لا يمكنك ذلك، مع الأسف، يا آنسة. فقد ذهب .

mymemory 26-02-17 11:05 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
10- سجين مدى الحياة


حدقت "دورا" في الرجل، أحد حجّاب المحكمة، ورأسها ما زال يسبح.
- ذهب؟
سألت بغباء، وهي تحاول الجلوس فتجد أطرافها كالماء ممّا جعلها تستسلم، وتعود إلى الاستلقاء على الأريكة. بدت هذه القطعة من الأثاث غير عادية في مكتب حاجب المحكمة. لكن، ربما لأنهم يواجهون كثيراً من هذه الحالات. وعندما عادت إلى السقوط، قال لها:
- إبقي مستلقية يا آنسة. ستشعرين بتحسن بعد لحظة.
بدت نبرته ناتجة عن خبرة. لكنّها شكت في ذلك.
كيف يمكنها أن تشعر بتحسن قبل أن ترى "جون" وتجعله يصغي إليها؟ كانت واثقة من أن الفرصة ستسنح لها هذا النهار لتواجهه، وتجعله يستمع إليها. ولكن، بدلاً من ذلك، انتهى كل شيء بشكل رهيب. فقد أغمي عليها. أغمي عليها! من ذا الذي سمع بشيء محزن بهذا الشكل. . .؟
أغمضت عينيها إزاء أشعة الشمس الحارة التي كانت تتسلَّل من النوافذ، وحاولت أن تركز أفكارها على الصداع الذي كانت تشعر به. لقد ذهب"جون". هذا ما قاله الرجل. إلى أين؟ هل وضعوا القيود في يديه، ثم أخذوه في إحدى السيارات التي تراها في نشرات الأخبار على شاشة التلفزيون، وذلك ليقضي مدة سجنه؟ كررت تقول:
- ذهب؟ هل قلت إنه. . .
.
- هذا صحيح، يا آنسة. والآن إبقي فقط حيث أنت إلى أن يعود صديقك بسيارته.
- أبهذه السرعة. . .؟
- إنهم لا يتسكعون بعد أن يسمعوا الحكم في القضية. والآن، هل ستحاولين الجلوس مرة أخرى؟ ببطء. . .حذار.
وفجأة، بدا كأن ليس ثمة داعٍ للعجلة. . .لكن "دورا" سمحت له بأن يساعدها على الجلوس.
- اشربي قليلاً من هذا فقط، ثم اجلسي هادئة. وسرعان ما تصبحين على ما يرام.
شربت "دورا" شيئاً من الماء المقدم لها ثم تذكرت ما عليها قوله:
- شكراً آسفة لإزعاجك.
التفتت عندما فُتح الباب ودخل "ريتشارد":
- لقد ذهب، يا "ريتشارد". . .
- أعلم هذا. لقد حاولت التحدث إليه لكن الوقت كان قد فات. هل بإمكانك الحركة؟ السيارة في الخارج. . .
- طبعاً يمكنني الحركة.
وقفت، فأمسكها بذراعها وهو يراها تترنح ويدها على رأسها. قال الحاجب محذراً:
- إنها بحاجة إلى التمهل، إلى أن تتحسن تماماً.
- عليّ أن أتحدث إليه. إنَّ ذلك ضروري للغاية. . .إنه يظنني أبلغت الشرطة عنه، وهذا غير صحيح. . . عليك أن تراه. . وتخبره.
- يمكنك أن تخبريه ذلك بنفسك، يا "دورا".
.
- لكنني لا أستطيع. . .ألا ترى؟ إنه سيرفض التحدث إليّ.
حدّق "ريتشارد" بها.
- لكنني كنت أظن. . آه، يا إلهي، إنك تحركت بسرعة. . .
رأى وجهها يعود إلى الشحوب، فحملها ثم خرج بها واضعاً إياها في المقعد الخلفي من سيارته حيث جلست مترنحة، وشدّ حولها حزام المقعد.
- هل ستكونان على ما يرام يا سيدي؟
إنني ذاهب لأحضر زوجتي، أختها. وهي سترعى "دورا". شكراً لمعونتك لنا هنا.
مضت بهما الرحلة تعيسة. لم تكد "دورا" تشعر بدخول "بوبي" إلى السيارة وجلوسها على المقعد الخلفي معها واضعة ذراعها حولها. لكنها لم تتقبل التعزية. كانت تظن أنه ما إن يراها "جون" حتى يصبح كل شيء على ما يرام.
كم كانت حمقاء! لقد حدق بها كأنها غير موجودة. وستمضي ستة أشهر قبل أن تتمكن من رؤيته، لأنه لن يسمح لها بزيارته في سجنه. وهي ليست بحاجة إلى سؤاله، فقد كان ذلك ظاهراً في وجهه.
لكنه حتماً يريد أن يعرف أخبار "صوفي"، وكيف حالها، وماذا تفعل. . ويرى صوراً لها. . .لكن رجاءها تلاشى بالسرعة نفسها التي انتعش فيها. إن "فيرغس" هو الذي سيهتم بهذا الأمر. وهذا هو سبب تسليم مسؤولية "صوفي" إليه. ليس بسبب نفوذه،أو لأن أحداً لن يجرؤ على تحدي سلطته. لقد طلب "جون غانون" من "فيرغس" أن يساعده لأنه لم يعد يحتمل التعامل مع امرأة غدرت به. وقد وافق "فيرغس" على ذلك،بأمل إبقائهما متباعدين. لم يكن ثمة فائدة من طلب العون من أخيها لأنه لم يكن راضياً عن "جون". إنه لم يقل هذا. لكن، كان واضحاً تماماً أنه لا يعتقد بأن "جون غانون" هو أهل لأخته الصغيرة الغالية.
نعم، لقد فعل كل شيء لأجل "صوفي"، وأنجز لها جميع الأوراق الرسمية منذ أثبت اختبار الدم أبوّة جون لها. لكنه لم يتوقف قط عن تذكيرها بأن "غانون" كان على وشك توريطها معه في قضيته، وكان يمكن بسهولة أن تقف معه في قفص الاتهام. كأنها كانت ستكترث بهذا الأمر.
إن مشكلة "فيرغس" هي أنه لم يعرف الغرام في حياته. لذلك، لم تكن تتوقع منه التفهم.
قالت "بوبي" عند وصولهم إلى البيت:
.
- لماذا لا تصعدين إلى غرفتك وترتاحين قليلاً؟ أنتِ ما زلت ترتجفين.
- لا. عليّ أن أرى "صوفي"، أين "صوفي"؟ (كانت الطفلة صلتها الوحيدة ب"جون". وتملكها خوف مفاجئ من أن يبعدها "فيرغس" إلى مكان ما). يجب أن أرى "صوفي".
- إهدأي حبيبتي. ستجدينها في المطبخ مع مديرة المنزل، كما أظن. هيا بنا، سأذهب وأحضرها.
لكن"دورا" كانت سبقتها بأمتار.
كانت "صوفي" جالسة على كرسي عند المنضدة ملتفة بمئزر كبير وعيناها مسمّرتان على صينية كعك. وحالما رأت "دورا" انزلقت عن الكرسي وهرعت إليها، تحيط ركبتيها بذراعيها. انحنت "دورا" تحتضنها. احتضنتها بشدة أكثر مما ينبغي.عليها أن لا تتعلق بالطفلة، لأنها ستكون لها حياة أخرى.. في مكان ما مع"جون". أرخت يديها من حولها وأخذت تنظر إليها. لقد تغيرت قليلاً بعد أيام قليلة فقط من تغذيتها بطعام السيدة "هاريس". قالت لها وقد اختنقت بالدموع وهي تساعدها للعودة إلى كرسيها:
- ستحتفظين لي بواحدة من هذه الكعكات. أليس كذلك يا حبيبتي؟
أمسكت "بوبي" بذراعها:
- تعالي الآن يا "دورا" واستلقي قليلاً. أنا والسيدة "هاريس" سنهتم ب"صوفي"، وربما تسبحين قليلاً بعد ذلك.
لم تكن تريد أن تخسر دقيقة واحدة تمضيها مع "صوفي". لكن الصداع كاد يقتلها.
- قد تكونين على حق. سأستلقي لمدة نصف ساعة فقط. . .
- إبقي حتى ترتاحي. ستكون معنا بأحسن حال، اذهبي وسنراك عند الغداء.
التفكير في الطعام جعل "دورا" تشعر بالإغماء. طوال الأسبوع، كان التفكير بالطعام يشعرها بذلك. قد يكون هذا سبب إغمائها، في النهاية، وهذا لن يفيد. ستكون بحاجة إلى كل قوّتها إذا شاءت أن تجتاز كل هذه المعاناة.
- أنا بحاجة إلى ساعة فقط.
- خذي كل ما تحتاجينه من وقت.
.
***
وصل "فيرغس" إلى البيت بعد الساعة الرابعة تماماً. سأل وهو يتوجه إلى بركة السباحة:
- أين "دورا"؟
استدارت "بوبي" عند سماع صوت أخيها، وكانت واقفة بجانب البحيرة في ثوب سباحة أبيض، بانتظار أن يغيّر "ريتشارد" ثيابه ويلتحق بها.
- إنها مستلقية في فراشها، وهي مرهقة الأعصاب.
فقال بحدة: "لماذا؟ ما بها؟".
لكنَّها تذكرت أنَّه لا يجب أن يعرف شيئاً عن رحلة أختها إلى لندن، لكنها قالت:
- لا شيء. لا بدّ أنها حرارة الجو فقط.
- "غانون" في السيارة. جاء ليأخذ ابنته.
ونظر حوله: "أين "صوفي"؟".
- في المطبخ مع السيدة "هاريس". لقد بدأت بتناول الشاي لتوها. من الأفضل أن تدعو السيد"غانون" لتناول كأس شراب أثناء انتظاره.
- هل أنت واثقة من أن "دورا" ترتاح؟
- كانت مستغرقة في النوم حين صعدت لأراها منذ عشر دقائق. لماذا يا "فيرغس"؟ هل تحاول أن تبقيهما منفصلين؟
فقال عابساً:
- أنا أكثر حكمة من أن أحاول منع "دورا" من فعل شيء تريده، يا "بوبي". "غانون" هو الذي لا يريد أن يراها. إنه يريد فقط أن يأخذ ابنته ويرحل.
- هذه دناءة بالغة منه بالنسبة إلى ما فعلت "دورا" لأجله.
- ربما هذا صحيح. ولا أنكر أنني سأفتقد "صوفي" هنا. لكنه عنيد.
آه، يا "فيرغس".
- لا تقولي(آه، يا"فيرغس"). إنه قراره هو.
- لكن، ألم تفعل شيئاً يجعله يغير رأيه؟
.
- أنا رأيته، لكنك لم تريه أنت. لقد صمم الرجل على ما يريد. لكن، ما دامت "دورا" ليست موجودة الآن، سأطلب منه الدخول وانتظار "صوفي". يمكنك أن تقدمي إليه شراباً إذا شئت. هذا سيمنحك فرصة تخبريه فيها برأيك، ريثما أذهب أنا إلى المطبخ لأرى "صوفي".
استدار بسرعة واتجه نحو باب المنزل الأمامي.
سمعت صوت "ريتشارد" يقول:
- هل سمعت صوت أخيك؟
وكان متّجهاً من غرفة تغير الملابس نحو بركة السباحة.
- إنه هو.
- هذا مؤسف. ظننت أننا سنحجز البركة لنا، أنا وأنت، لبعض الوقت.
- لا أحد هنا الآن.
ابتسمت له بإغراء، ثم أطلقت صرخة سرور وهو يمسك بها ويرفعها عن الأرض، فأخذت تعانقه.
توقَّف "جون غانون" فجأة، وهو يستدير حول زاوية المنزل. كان "فيرغس كاماناغ" قد أخبره بأنّ "دورا" نائمة، وإلا لما كان خرج من السيارة. ليس معنى هذا أن "فيرغس" كان بحاجة إلى اقتناع أكبر بأن من الحكمة أن لا يتقابلا. كان واضحاً أنه لا يحب يشجع رجلاً كان على وشك أن يورط شقيقته في مشكلة خطيرة مع القانون، وفي مشكلة خطيرة بالنسبة إلى زواجها. . سواء كان يعلم أم أنه مجرد تكهن. . .لكنَّ "غانون"، لا يستطيع لومه لرغبته بأن يدخل إلى المنزل ويخرج منه بأقصى سرعة. إنها جراحة مؤلمة، لكنها ضرورية.
وكانت مؤلمة حقاً، أشبه باستئصال قلبه، أن يستلقي على سريره في المستشفى، سامعاً توسلها إلى الممرضة. أن يمسك برسالتها بيده دون أن يفتحها. أن يخبر محاميه أن لا يعطيها عنوانه مهما كانت الظروف. لكن هذا كان عملاً صائباً، وكان يعرف ذلك.
ومع ذلك، في أعماق روحه، كان الأمل ما زال يمتلكه. حتى اليوم، عندما التفت ورآها مع "ريتشارد". لقد صرخت حينذاك، لكنه كان يعلم أنه لا يستطيع مواجهة "ريتشارد"، لأن كل مشاعره كانت ستظهر بوضوح على وجهه. لن يتمكّن من إخفاء ألمه، أو شعوره بالذنب .
.
والآن، ها هو ذا يرى أسوأ كوابيسه أمامه. فهي هنا، مطوّقة بذراعي أقدم أصدقائه، وهو زوجها. الرجل الذي يحبها. يمكنه أن يتفهم ذلك، لأنه هو نفسه يحبّها. إنه يحبها حتى الجنون. إنه يعرف ذلك الآن تماماً مهما كانت شكوكه من قبل. كما يعرف أنه كان عليه أن يمتثل لوحي غريزته ويبقى في السيارة.
انحبست أنفاسه وارتفعت يداه تحلان ربطة عنقه بعد أن كادت تخنقه الغيرة، مستديراً ليهرب قبل أن يرياه.
- جون.
لقد فات الأوان. وقف، ثم استدار ببطء بينما كان "ريتشارد" يتوجه نحوه ماداً يده وعلى شفتيه ابتسامة عريضة:
- تباً لك. ما أحسن أن أراك. كما أن "دورا" كانت شديدة الانفعال والقلق لأجلك.
والتفت ماداً يده إلى المرأة التي خلفه:
- ها هو ذا "جون" هنا أخيراً، يا حبيبتي.
أرغم "جون" نفسه على الوقوف ليصافح "ريتشارد" كيلا يدع شيئاً من مشاعره تبدو وهو يستدير إليها قائلاً وهو يبتسم:
- "ريتشارد". . .
ثم سكت حائراً. لم تكن المرأة التي وراء "ريتشارد" هي "دورا". . . المرأة التي كان يعانقها "ريتشارد" لم تكن "دورا".
ثم قال "ريتشارد":
- أخبرتك بأنني أسعد رجل في العالم. ويمكنك أن ترى الآن السبب. .
والتفت نحو زوجته:
- "بوبي"، حبيبتي. هذا "جون غانون". هل تذكرين؟ كنت أريده أن يكون وصيفي في العرس لكنه كان مسافراً إلى بلاد أجنبية. أين كنت في عيد الميلاد، يا "جون"؟
- في رواندا، كما أظن.
كانت، ظاهرياً، تشبه "دورا". لهما الشعر الأشقر الطويل نفسه، والقوام الرشيق نفسه، لكنها كانت أطول وأكبر سناً، ومتألقة بشكل يناسب عالم الأزياء والجمال.
- بوبي؟
كرر الاسم كالمسحور. فقالت:
- أخت "دورا" الكبرى.
لكنه لم يستوعب الأمر. وأخطأت هي في تفسير ذلك فقالت:
- "باندورا" و"بوباي"، إنهما اسمان أسطوريان. وكانت أمنا تعشق الأساطير.
ابتلع ريقه، محاولاً أن يستوعب هذا.
- و. . كيف نجا "فيرغس" من اسم أسطوري؟
ضحكت:
- تقول حكايات الأسرة إنّ أمنا أرادت أن تسميه "بيرسو"، وهو اسم إله إغريقي كما تعلم، لكن والدنا أصرّ على رفض ذلك.
.
كان لا يزال ينقل نظراته بينهما.
- وأنت متزوجة من "ريتشارد"؟
فقالت ضاحكة:
- إن كان أخبرك بخلاف ذلك، فهو كاذب. وعليه أن يدفع غرامة.
وأخذت تدفع بزوجها إلى الخلف نحو بركة السباحة. فقال بسرعة جعلتها تتوقف عند حافة المياه:
- أين "دورا"؟ يجب أن أراها.
- لكنني ظننت. . . إن "دورا" في الطابق العلويّ، يا "جون". مستلقية على سريرها، لقد أغمي عليها في المحكمة. كان الأمر يفوق قدرتها على الاحتمال. . الحرارة وغير ذلك. لكنك تعرف ذلك، فقد كنت هناك .
- أين يمكنني العثور عليها؟ يجب أن أراها الآن.
كان يتكلم بإصرار، فابتسمت "بوبي":
- في الطابق العلويّ، الباب الثالث إلى اليمين.
أنهت كلامها ثم غاب الاثنان تحت الماء.
* * *
صعد "غانون" السلم الواسع المصنوع من خشب السنديان، ببطء. "دورا" ليست متزوجة من "ريتشارد"! بقي يردد هذه الجملة في ذهنه مرة بعد مرة. وما زال عاجزاً عن تصديق ذلك تماماً وفهم كيف حدث هذا الالتباس. افترض الشرطي أنها "بوبي" وناداها بالسيدة "ماريوت". وقد قبل هو ذلك دون سؤال. لكن، لماذا تركته يظن ذلك؟
الباب الثالث إلى اليمين. طرق الباب بخفة لكنه لم يسمع جواباً. وفي السكوت سمع انفجار ضحكة طفلة من المطبخ. "صوفي". لقد وجد "صوفي". لقد أحضرها إلى الوطن سالمة واجتاز بها كل المخاطر. ولن يمنعه الآن شيء تافه كالباب. أدار المقبض وفتحه. . وبعد ذلك لم يعد شيء مهماً. فقط أنه يحبها.
كانت نائمة وشعرها منتثر على الوسادة الذهبية الأطراف ومغطاة بملاءة. "الأميرة النائمة"! تشوّق إلى إيقاظها بقبلة. لكن هذه ليست قصة من القصص الخرافية، وهو ليس أميراً.
بدلاً من ذلك، ركع بجانب السرير مسنداً ذقنه على يديه. كان كل جزء منه يتلهف إلى أن تستيقظ لكي يأخذها بين ذراعيه. ومع ذلك كره أن يخسر لحظة الأمل الرائعة هذه. ما كان له أبداً أن يفقد "الأمل".
ثم لاحظ شيئاً غير عادي. كانت وجنتها مبللة. مدّ يده يلمس وجنتها بطرف إصبعه، ناقلاً طعم دموعها المالح إلى شفتيه. كانت تبكي في نومها.
.
قال يناديها برقة:
- "دورا". ."دورا"، يا فتاتي الحبيبة.
تحركت "دورا"، وفتحت عينيها. ظنت أنها سمعت"جون" يهتف باسمها. ومضت لحظة لم تستطع أن تقرر فيها ما إذا كانت نائمة أم مستيقظة. ثم، عندما استقرت عيناها على وجهه، أدركت أنها لا بد تحلم، لأن "جون" في السجن. ومن غير الممكن رؤيته. . .ومع ذلك هل يمكن للحلم أن يبدو واقعياً بهذا الشكل؟
لم تجرؤ على مدِّ يدها للمسه، خوفها من أن تتلاشى صورته الحبيبة. بدلاً من ذلك، همست: "جون"؟
- نعم، يا حبيبتي.
لقد ناداها بحبيبته. شعرت بأنفاسه على وجنتها وهو يقول هذه الكلمة ومع ذلك لم تجرؤ على التصديق. مدت يدها تلمس يده التي كانت على الملاءة بجانب يدها. . ثم عادت ترفعها بسرعة مليئة بالرعب من أن يكون ذلك مجرد تجسيد لشوقها البائس. خافت إن هي حاولت إمساكه أن تستيقظ ولا يبقى لها سوى الفراغ. سألها:
- لماذا تظاهرت بغير حقيقتك، يا "دورا"؟
إنه يتكلم مرة أخرى. هل يمكنها أن تجيب؟
- لأنني كنت خائفة.
- مني؟
- لا.
.
ومدت يدها تمسك بيده متلهفة إلى إقناعه:
- من نفسي. من مشاعري. . .أنا لست أحلم، أليس كذلك؟
هزّ رأسه وهو يأخذ يدها يضغطها على وجنته، مقبلاً أصابعها.
- لكنني لا أفهم. سمعت القاضي يحكم عليك. . .(جلست فجأة بعد ما استيقظت الآن تماماً): آه، يا إلهي. لقد هربت. .
وضع إصبعه على شفتيها يسكتها:
- لا! لا يا حبيبتي.
ثم نهض يجلس على حافة السرير ملامساً وجهها، وشعرها، قبل أن يجذبها إلى صدره يحتضنها: "لن أهرب أبداً. . .ألا تعرفين ذلك؟ فالأشهر الستة التي حكم القاضي بها عليّ هي مع وقف التنفيذ، لكنني ما زلت سجيناً. سجينك أنت، طوال الحياة".
وأخرج من جيب قميصه ورقة قدمها إليها. كانت تلك الورقة التي كتبتها له في المستشفى:
- هل كنت تعنين ما تقولين حقاً؟
رفعت رأسها ونظرت في عينيه:
- أنت تعلم أنني أعنيها. لماذا رفضت رؤيتي، يا "جون"؟ ولماذا أعدت إليّ رسالتي دون أن تفتحها؟
- أنت تعرفين السبب. كنت أظنك متزوجة ب"ريتشارد"، يا "دورا".
- لكن، لا بد أن "فيرغس"، أو غيره، قد أخبرك بالحقيقة.
وأطلقت شهقة قصيرة: "لكن، لم يفعلون ذلك؟ لا أحد غيرنا يعلم هذا. آه، يا "جون". يا ليتني كنت من الشجاعة بحيث أثق بك كلياً".
.
جاء دوره في الشعور بالحيرة:
إن لديك من الشجاعة ما يكفي عشرة أشخاص. لكنني لا أفهم. إذا كنتِ لا تظنين أن "ريتشارد" هو الذي كان يبقينا متباعدين، فلماذا، في رأيك، فضلت الابتعاد عنك؟
احمر وجهها: "كنت معتوهة. . ." .
لقد بدت شكوكها الآن تافهة وسخيفة للغاية.
- هيا، تكلمي. من غير الممكن أنني سيء إلى هذا الحد.
- لكن الأمر. ظننت. . .
لم يكن من السهل حقاً أن تعترف:
- ظننت أنك لا تريد رؤيتي بسبب الشرطة.
- الشرطة؟ وما دخل الشرطة في هذا الأمر؟
- كنت نائماً. وكان بإمكاني الاتصال بهم. فظننت أنت أنني ربما قمت بذلك. كان هذا السبب في منعك لي من الخروج إلى البقال.
- آه، نعم. فهمت .
- كنت على حقّ، في الواقع. ولو إنني لم أكن سأتصل بالشرطة، بل ب"فيرغس" فقط. ظننت أن بإمكانه أن يساعدك.
- لكنك لم تفعلي ذلك، حتى عندما كنت نائماً .
- هل أنت واثق من ذلك؟
- لقد أوضح رجال الشرطة كيف عثروا عليّ، بالنسبة إلى الملابس.
- أنا آسفة جداً.
لا تكرّري هذا القول. ليس هناك ما يجعلك آسفة. أنا من عليه أن يقدم كل الاعتذارات، وكل الأجوبة.
ركعت "دورا" على السرير ووضعت ذراعيها حول عنقه.
- لا يا "جون". ليس لديّ شكوك ولا أسئلة. إنك هنا الآن. وما خلا ذلك، لا أهمية له.
- حتى والدة "صوفي"؟ إنك لم تسأليني عنها.
- ستخبرني إذا شئت أنت ذلك. لكن هذا ليس واجباً عليك....
- لكِ الحق في أن تعلمي.
.
رفع ذراعيها من حول رقبته وأمسك يديها لحظة. ثم تركهما ووقف، وسار إلى النافذة ينظر إلى المناظر الريفية في آخر أيام الصيف. لم تحتج على ذلك. إن لديه شيئاً يريد أن يخرجه من صدره، وكم يسعدها أن تسمعه إن كان هذا سيجعله يشعر بتحسن. إنها تعلم الآن أن الشرف هو أمر طبيعي جداً لديه، ممّا يمنعه من إلحاق الأذى بأحدٍ عمداً. حتى وإن كان في ذلك ألم له.
نزلت من السرير ووضعت عليها معطفاً منزلياً وتكورت على الأريكة بجانب النافذة وذراعاها حول ركبتيها، منتظرة بصبر. قال أخيراً:
- كنا في قبو. . أنا و"إيلينا" فقط. كان ذلك مصادفة، فنحن لم نتعارف من قبل، لكننا ركضنا، نحن الإثنين، إلى الملجأ نفسه حين بدأ قناص بإطلاق النار. لم يكن من المفترض أن أكون هناك، لكن سيارتي تعطلت وكنت أبحث عمن يصلحها. .لم يكن من عادة أيّ قناص أن يبقى في المكان مدة طويلة، إذ من السهل تحديد مكانه. ظننت أننا سنبقى هناك ساعة أو اثنتين على الأكثر. لكن، عندما هبط الليل، راحت المدفعية تقصف، فوقعنا في الشرك. كان الجوّ بارداً للغاية، ولم يكن هناك ما نشعله للتدفئة. لكننا اشتركنا بما كان عندنا من طعام قليل، كان لدي بعض قطع الشوكولا، والماء. وكان لديها بعض الخبز. فقد كانت تشتريه حينها من الفرن. . .
- تعال اجلس، يا "جون".
ربتت على الأريكة بجانبها. فالتفت إليها. وابتسمت له .
- لا.
جلس بجانبها يغطي فمها بيده: " لا تبتسمي لي . ليس قبل أن تسمعي كل شيء".
ولم يرفع يده إلا بعد أن اطمأن إلى أنها أطاعته. قالت تشجعه:
- أخبرني إذاً عن "إيلينا". ماذا حدث؟
سألته فقط لأنه كان بحاجة إلى أن يخبرها، وليس لأنها كانت تريد أن تعلم. كان كل شيء واضحاً تماماً. شخصان محتجزان بمفردهما في قبو ببرودة الثلج، خائفان من أن تسقط فوقهما قنبلة في أي لحظة فيموتان. لذلك، جمعهما المودّة والخوف المشترك، وحاول كل منهما أن يخفِّف عن الآخر. ولا بدّ أنهما شعرا بارتباط مصيرهما برباطٍ وثيق. لكنَّ الحرب فرّقتهما قبل أن تلد "صوفي".
روى لها قصَّته، فكانت كما توقعت تماماً
أرادت "دورا" أن تعلم ما إذا كانت "إيلينا" شابة، جميلة. لكنها قاومت وخزة صغيرة من الغيرة. كانت تعلم أن هذا ليس هاماً. فما حدث لم يكن بدافع الحب. . بل كان بدافع الحاجة. .
- ثم انتهى القصف وكنا لا نزال حيين. وكان عليّ أن أكتب "تقريراً"، كما كان عليها هي أن تعثر على أسرتها، في مكان ما، وترى ما إذا كانوا أحياء. كان كل منا على عجلة للذهاب إلى مكان مختلف، لذلك افترقنا ليذهب كلٌ منا في اتجاه. كان ذلك من الأمور التي تحدث في الحرب. لكنني كتبت لها عنواني على قطعة من الورق وأعطيته لها. كان لدي شعور حينذاك بأنها قد تحتاجه.
- هل أحببتها، يا "جون"؟
.
- كنت أحبّ الاعتناء بها. أنا أحبّك أنتِ وسأتزوجك أنت.
- حقاً؟
كان لهذه الكلمات وقع جميل في أذنيها.
- لكن متى؟ ما زال هناك أمور كثيرة عليّ أن أقوم بها، وأناس كثر عليّ أن أساعدهم.
فقال بسرعة:
- لا قوافل إغاثة أخرى، يا "دورا". لا يمكنك العودة.
- لأجل "صوفي".
- لأجل "صوفي"، نعم. كذلك، لأنني أحبك، يا "دورا". لأنني لا أستطيع العيش من دونك.
ومرَّ بيده على خدها.
- لكن هناك أولاداً كثيرين مثل "صوفي". لا أستطيع أن أخذلهم. إنهم بحاجة إليّ .
نظرت إليه تريده أن يفهم أن ليس بإمكانها أن تترك ذلك ببساطة.
- إنهم سيحصلون علينا، نحن الإثنين. لقد طلبوا مني وضع كتاب بهذا الشأن، وربما أفلام تلفزيونية وثائقية.
- هذا رائع ، يا "جون".
- يسرني رضاؤك. لكن هذا سيستغرق وقتاً، ويمكننا معاً أن نكسب الكثير من المال.
- معاً؟
- أنا وأنت و "صوفي".
فقالت: "يمكننا أن نقيم مؤسسة إغاثة لمساعدة نساء أمثال "إيلينا" وأطفالهن. وربما نطلق عليها اسمها".
- أو اسم "صوفي".
أجابت موافقة: " أو"صوفي" ".
.
- والآن، يا "دورا"، هل عليّ أن أركع على ركبتيّ لكي تعطيني الجواب؟
- لا، حبيبي. ونعم، أرغب في الزواج بك.
- أكاد لا أصدِّق ما يجري. أنا لستُ أحلم، أليس كذلك؟
- لا، حبيبي. لستَ تحلم .
نظرت إليه بابتسامة خفيفة:
- لكنَّ ما ستراه بعد الزواج سيكون أقرب إلى الحلم.
- لا أستطيع الانتظار.
ورأت في عينيه الذهبيتين بريقاً من السعادة والأمل. . .والحب.
مالت برأسها إلى الوراء تنظر إليه من خلال أهدابها المسدلة بطريقة لم يطق معها صبراً، فأخذها بين ذراعيه، يضمُّها إلى صدره بقوّة ولهفة. عانقها طويلاً، شاعراً بالحرية، في أن يجعلها تعلم مقدار حبِّه لها. وقال:
- إنني أحبك، وأظنني أحببتك منذ اللحظة التي رأيتك فيها واقفة و"صوفي" بين ذراعيك، ساخطة من الجرأة التي اقتحمتُ فيها البيت.
اتسعت عيناها:
- لم يكن الأمر كذلك. كنت ساخطة لأنك أحضرت طفلة معك أثناء اقتحام البيت. . .لكن، رغم ذلك، أدركت أنك مختلف. وأنك رجل أحلامي. . حبيبي آتياً إليّ في سكون الليل. أنت على حق يا "جون". أكاد لا أصدِّق ما يجري. أهو الحبّ من النظرة الأولى؟ (وتابعت) أحببني وعدني بأنك لن تتوقف أبداً عن حبّي.
وعدها "جون غانون"، ووعدها، ووعدها.
* * *
- "بابا"!
رأت "صوفي" أبيها يعبر الشرفة، فانزلقت مبتعدة عن "ريتشارد"، وأخذت تسبح بنشاط إلى السلم. وكان أبوها قد وصل إليه ورفعها إلى أعلى يضمها إلى صدره غير مكترث بالمياه التي تقطر منها. وقالت له:
- أنا أجيد السباحة.
فقال ضاحكاً:
- هذا ما أراه.
أخذ المنشفة التي ناولته "بوبي" إياها، ثم لفّها بها، مجففاً وجهها.
- من علمك كل هذا؟
- "بوبي" و"غاسّي".
.
- "غاسّي"؟
- أظنها تعنيني أنا.
اقترب "فيرغس" وهو يحمل صينية عليها كؤوس.
- لقد تعلمت هذا الاسم من الفتاتين، كما أظن. وهما تظناني لا أعلم.
- أين "دورا"؟
- ستكون هنا بعد دقيقة.
رأى "جون غانون" التحدي في عيني "فيرغس كاماناغ" فقابله بمثله قبل أن يومئ نحو الشراب.
- هل أنت فقط مسرور لأنني سأبقى على العشاء، أم أن شراب الورد هو للاحتفال بشيء خاص؟
- إن الوقت الطويل الذي أمضيته في الطابق العلويّ، من الأفضل أن يعبِّر عن شيء خاص. ألا تظن هذا؟
فأجابه "جون":
- هل يصلح العرس لأن يكون شيئاً خاصاً؟
توقف "فيرغس" لينظر إليه بهدوء:
- عرس؟ أليس هذا أمراً مفاجئاً نوعاً ما؟ ألا يمكننا أن نبدأ بخطبة؟ خطبة طويلة جداً؟
- بصراحة، يا "فيرغس"، كان هذا أطول أسبوع في حياتي. لكن، عليك أن تسوّي هذه المسألة مع "دورا"، إذ يبدو أنها مستعجلة نوعاً ما.
- "فيرغس"!
استدار الاثنان عندما خرجت "دورا" إلى الشرفة خلفهما. توجهت إلى أخيها ووضعت ذراعيها حوله وقبلته:
- يا لك من أخ حبيب، شكراً لإحضارك "جون" إلى هنا سالماً. كنت واثقاً من أنك لم تكُن راضياً عنه، لكن، كيف يمكنني قط أن أشك في حبك؟
تنحنح "فيرغس"، وقال:
- "صوفي"هنا، وأنت هنا.فإلى أين كان سيذهب؟
.
لكنه، للحظة قصيرة هادئة، ألقى على "جون غانون" نظرة أنذرته بألا يقوم أبداً بأيّ شيء قد يؤذي أخته. ولا بد أن الجواب الذي رآه في وجه الرجل قد طمأنه، لأنه فجأة، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وأخذ يسكب شراب الورد في الكؤوس.
- هيا بنا، جميعاً. لقد سمعتم الرجل. هذا احتفال.
فسألته "صوفي":
- ما معنى إي. . إي إحتفال، يا "غاسّي"؟
لم تستطع "بوبي" و"دورا" أن تنظر الواحدة منهما إلى الأخرى. بينما سعل "ريتشارد". لم يحدث قط أن دعا أحد "فيرغس كاماناغ" بلقب "غاسّي" في وجهه.
- احتفال، يا حلوة، احتفال. إننا نحتفل عندما يحدث شيء خاص. ( وأخذ الطفلة من "جون") الكبار ذلك مع شرب شيء اسمه (ش ر ا ب ا ل و ر د) ويمكن للصغار الحلوين أمثالك أن يشربوه معنا أيضاً. . .أو يشربوا الحليب. . .ما رأيك؟
فتمتمت "بوبي":
- هذا إفساد للبهجة.
بينما تابع "فيرغس" منمّقاً:
- حليب بالفريز أو ربما بالموز. مع بسكويت بالشوكولا. هيا بنا نذهب ونسأل السيدة "هاريس" إن كان لديها بعضاً منه لأجلك.
- أتعلمين؟ أظن أن الوقت قد حان لكي يتزوج "غاسّي". (قالت "دورا" ذلك عندما توارى "فيرغس" داخل البيت، وألقت على أختها نظرة طويلة وقد ضاقت عيناها) قبل أن يستقر به الأمر في إحدى دور المسنّين.
- أو أسوأ من ذلك. كأن يبدأ بتربية القطط بدلاً من الأطفال ليتسلّى.
وضعت "بوبي" يديها حول خصرها كأنها تحميه. أجابت "دورا" مفكرة:
- لا أظن أنَّ القطط ستمنعه من الزواج. كما أنِّها تسبب له حساسية. وهكذا، لا بد من الزواج. لا أدري لماذا لم يفكر في ذلك من قبل.
فتمتم "جون":
- من المؤكد أنه قادر على أن يفكر بنفسه بذلك.
.
تأبطت "دورا" ذراعه:
- كان المسكين "فيرغس" مشغولاً برعايتنا طوال حياته، محاولاً جهده إبعاد المشاكل عنا، ممّا جعله غير قادر على البحث عن زوجة مناسبة. إنه ليس من النوع الذي يعثر على واحدة في يوم عاصف. فهو أكثر تنظيماً من أن يتصرف بهذا الشكل. . .ثم أي نوع من الفتيات يبلغ بها الطيش حد اقتحام "مارلكورت"؟
فقال "ريتشارد " متدخلاً:
- ربما عليكما، أنتما الاثنتين، أن تبحثا له عن زوجة. وعلى كل حال، عندما تجدان المرأة المناسبة، لن يستغرق الأمر وقتاً على الإطلاق.
فسأله "جون": "لم لا"؟
ضحك "ريتشارد": " ألم تخبرك "دورا"؟ إن الحبّ من النظرة الأولى هو ميزة آل "كاماناغ". ما إن تعجبهن، حتى لا تجد لك من مهرب. ثم هل تعرف ما خطر لي الآن عدا ذلك؟".
فسألته "بوبي": "حسناً ماذا؟".
- لا شيء مهم، سوى أنّهم يقولون، الثالث هو الثابت. ولا أدري لماذا لا ينطبق هذا القول على الأعراس؟
ورفع كأسه: "نخب من نشرب الآن؟".
قالت "بوبي": "الأعراس عموماً".
قال "جون": "عرسنا بشكل خاص".
فقالت "دورا" باسمة للرجل الذي تحب: " نخب كل عرس. والأسرع هو الأفضل".

.

:liilas:

mymemory 26-02-17 11:07 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
تمت بحمد الله
قراءة ممتعة لكم يا قمرات
:8_4_134:

ريما وليد 04-03-17 08:03 PM

رد: أغنية كي يرحل
 
merciiiiiiiiiiiii

Rehana 19-03-17 07:25 PM

رد: 201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة )
 
شكرا لنقل وانتمنى تكون روايتك القادمة من اناملك
ملاحظة اختي , اتمنى عدم استخدام لون الاصفر في المشاركة لأن هذا يصعب عملية القراءة للعضو

نجلاء عبد الوهاب 02-06-17 11:11 PM

رد: 201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة )
 
:liilas::liilas::liilas::dancingmonkeyff8::dancingmonkeyff8: :liilas::liilas:
:0041::0041::0041::0041::0041::0041:
:f63::f63::f63::f63::f63::f63::f63::f63::f63::f63::f63::f63:

قصور من رمال 03-07-17 05:56 PM

رد: 201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة )
 
رواية رووووعة شكرا لمجهودك

حنان محمد ابراهيم 14-07-17 09:14 AM

رد: 201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة )
 
روووووووعة جدا ااااااا تسلم ايدك

paatee 10-06-18 06:39 PM

رد: 201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة )
 
يعطيك العافيه

هتونا 25-02-22 10:49 AM

رد: 201 - أغنية .. كي يرحل! - ليز فيلدنغ ( كاملة )
 
رهييييييبة احلا شكر واحلا تحية للمنتدى ولجميع من ساهم في كتابة الرويات


الساعة الآن 08:46 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية