منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المهجورة والغير مكتملة (https://www.liilas.com/vb3/f837/)
-   -   رواية لأنني أحبك (https://www.liilas.com/vb3/t195618.html)

مسلوب الإرادة 28-06-14 07:18 PM

رواية لأنني أحبك
 
نبذة عن الرواية ؛
ليلى ، طفلة في الخامسة ، تختفي في مركز تجاري في لوس أنجلوس ، و الوالدان المكسوران تنتهي علاقتهما بالانفصال ، خمس سنوات بعد ذلك ، تم العثور على ليلى في المكان عينه الذي اختفت فيه عن الأنظار ، إنها حية لكنها غارقة في حالة غريبة من الخرس .
بعد فرحة اللقاء ، تتوالى الأسئلة : أين كانت ليلى كل تلك السنوات ؟ مع من ؟ وبالأخص ، لماذا عادت ؟

مسلوب الإرادة 28-06-14 08:22 PM

رد: رواية لأنني أحبك
 
سأكمل إذا سمحت لي الفرصة

مسلوب الإرادة 01-07-14 10:27 PM

رد: رواية لأنني أحبك
 
1
الليلة عندما بدأ كل شيء


" ينبغي أن نتعود على ذلك : على أكثر تقاطعات طرق حياتنا أهمية ، إذ ما من إشارات على الطريق " .
إرنست همنغواي

كانون الأول / ديسمبر 2006
مساء عيد الميلاد ، في قلب مانهاتن …
كان الثلج يتساقط بلا توقف منذ الصباح ، و كانت (( المدينة التي لا تنام أبداً )) مخدرة بالبرد وتدور ببطء ، رغم المغالاة في الأنوار .
بالنسبة إلى مساء عيد الميلاد ، كانت حركة المرور تجري بسلاسة مدهشة ، إذ كان من شأن طبقة الذرور المنتشرة في الأجواء و الاحتفالات الكثيفة أن تجعل من الصعوبة بمكان القيام بأدنى تنقل .
مع ذلك ، عند تقاطع شارع ماديسون في شارع ستة وثلاثين ، كانت عربات الليموزين تمر تباعاً وفي إيقاع منتظم ، تصب ركابها في باحة مبنى مصمم على النمط المعماري لعصر النهضة ، إنه مقر مكتبة مورغان ، إحدى أكثر مؤسسات نيويورك الثقافية روعة ، وكانت تحي اليوم ذكراها المئوية الأولى .
على السلم الوسيع ، زوبعة من أدخنة التبغ و الأثواب الباذخة و أثواب الفرو والحلي ، يتداخل الجميع وهو في طريقه نحو المقصورة المشيدة من الزجاج و الفولاذ والتي تطيل البناية بحيث ترسخها على نحو هارموني في القرن الواحد و العشرين .
في الدور الأخير ، ثمة رواق يقود إلى حجرة فسيحة حيث ، خلف واجهات زجاجية ، تعرض المؤسسة بعض كنوزها : إنجيل غيتنبورغ ، مخطوطات مزخرفة من القرون الوسطى ، رسومات لرامبرانت ، لليوناردو دافنشي ، لفان غوخ ، رسائل لفولتير ، لأينشتاين ، وحتى رقعة من مقوى ورقي كان بوب ديلان كتب عليه كلمات " ذهب مع الريح " .
شيئاً فشيئاً يخيم الصمت ، ويلتحق المتأخرون عن الموعد بمقاعدهم ، هذا المساء ، أعيد ترتيب جزء من صالة المطالعة بعناية خاصة بحيث يسمح لبضعة محظوظين الاستماع لعازفة الكمان نيكول هاثواي إذ تعزف سوناتات لموزارت وبرامز .
تصعد الموسيقية إلى الخشبة تحت دوي التصفيقات . كانت امرأة شابة في الثلاثينات من عمرها وبمظهر أنيق ورزين ، وكانت جديلتها الملتفة في كعكة على مؤخرة الرأس على طريقة غراس كيلي ، تمنحها سيماء بطلة هيتشكوكية ، وكان سبق لها أن استقبلت على خشبة المسارح العالمية و عزفت بصحبة فرق الأوركسترا الأبرز شهرة ، ومنذ أن سجلت ألبومها الأول ، وكانت آنذاك في الحادية عشرة ، تلقت تكريمات لا تحصى ، قبل ذلك بخمس سنوات نزلت عليها مصيبة دمرت حياتها ، وقد عملت الصحافة و التلفزيون منها ضجة عظيمة ، ومنذ ذلك الوقت ، تجاوزت شهرتها دائرة المولعين المحدودين .
حيت نيكول جمهورها ونصبت آلتها ، كان جمالها الكلاسيكي ينسجم كليا مع المقر الأنيق و النبيل ، إذ بدت وكأنها تحتل على نحو تلقائي مكانها بين النقوش القديمة و مخطوطات عصر النهضة .
باستهلال صادق و عميق ، نسج قوسها حالاً حواراً مع الأوتار وأدامه على مدار مدة الأداء .
في الخارج ، استمر سقوط الثلج في الليل البارد .
أما هنا ، فكان كل شيء مريحاً و مرفهاً بإفراط .
****************************************
على مسافة تقل عن الخمسمائة متر من هنا ، بعيد عن محطة مترو غراند سنترال ، ارتفع غطاء بالوعة ببطء مفسحاً المجال لبروز رأس أشعث ذي نظرة خاوية ووجه أتلفته الكدمات …
بعد أن خلص ( اللابرادور ) - : وهو كلب صيد ، سمي بذلك نسبة إلى الفصيلة التي ينحدر منها - ذا الزغب الأسود و حمله بين ذراعيه ، انتصب رجل بمشقة على الرصيف المتثلج ، اجتاز الشارع وراح يتقدم متعرجاً على قارعة الطريق ، متلهفاً إلى تحطيم نفسه وسط جوقة نفير العربات ،
هذا الرجل هو ال إس . دي . إف - اختصار يقصد به متشرد ، و الكاتب يستخدمه أحيانا اسماً و أحيانا صفة - وكان نحيلا ً وواهناً ويرتدي معطفاً رثاً ومتسخاً ، وعندما يلتقي عابرين ، كان هؤلاء يحثون الخطى ويبتعدون عنه غريزيا .
ذلك أمر طبيعي ، فقد كان يدرك أنه يثير الخوف ، بما يفوح منه من قذارة و بول و عرق .
لم يكن إلا في الخامسة و الثلاثين ، مع أن مظهره يوحي أنه في الخمسين .
في ما مضى ، كان لديه عمل و امرأة و طفل ومنزل — كان ذلك منذ زمن طويل — أما اليوم فلم يعد سوى طيف تائه ، شبح مغلف بالخرق البالية يتمتم بكلمات غير مترابطة .
يقف بصعوبة ، يسحب نفسه أكثر مما يمشي ، و يترنح .
في أي يوم نحن ؟ في أي ساعة ؟ في أي شهر ؟
لم يعد يعرف ، ففي رأسه تختلط الأشياء كلها و تتراقص أمام عينيه أضواء المدينة ، وكانت الندف الثلجية التي تحملها الريح تلسع وجهه مثل الأمواس ، و كانت أقدامه متجمدة ، و معدته تتلوى ، و عظامه قابله للانقصاف .
منذ عامين ، غادر مجتمع البشر كي يفترش أحشاء المدينة ، و مثل آلاف آخرين ، وجد إس . دي . إف ملاذا داخل مصران المترو و المجاري و نظام سكك الحديد ، ربما طمأن المواطنون الصالحون و السواح أنفسهم : أن سياسة التسامح صفر التي تلقى التبجيل من المجلس البلدي آتت أٌكلَها ، منظفة على نحو مدروس سطح مانهاتن .
لكن تحت ناطحات السحاب البراقة ترتعش مدينة موازية : نيويورك الفضلات الآدمية التي تروي شبكة واسعة من الأنفاق ، من الكوى و الفجوات ، آلاف من البشر الخٌلديين -نسبة إلى حيوان الخلد الذي يعيش في كوى تحت الأرض - الملفوظين إلى الأعماق السحيقة ، بدواعي الهرب من صلف البوليس ، يجدون أنفسهم محصورين داخل الأنفاق القذرة وسط الجرذان والغائط .
هكذا هو الحال ، ينبش المرء في جيبه ، فيعثر على قنينة من الكحول الرديء .
يتجرعها بالطبع ، هل ثمة خيار آخر ؟
كأس زعاف ، يليه آخر أيضاً .
كي ينسى البرد و الخوف والوساخة ، كي ينسى حياته الماضية .
*****************************
آخر نقرة قوس نيكول هاثواي ، الزمن بإيقاعين هو صمت متأمل يحلق فوق الحضور ، هذا الصمت الشهير الذي يعقب موزارت ، و الذي يفترض أنه يصدر من موازرات أيضا ، طردته في الحال تصفيقات حادة ، أحنت عازفة الكمان رأسها ، تلقت باقة ورد ، ثم اجتازت الحجرة كي تتلقى تهاني لا تنتهي ، كان المدعوون متحمسين ، مع أن نيكول كانت تعرف جيداً أن أداءها لم يكن رائعا ، فهي عزفت هذه السوناتات بمهارة عالية ، بنقاء ليزري ، وبكثير من الحيوية ، لكن ليس من أعماقها .
بشرود ، على نحو آلي ، أخذت تصافح بضعة أيادٍ مبللة شفتيها في كأس من الشمبانيا ، وها هي تسعى الآن لأن تتوارى .
_ هل تودين أن نغادر ، عزيزتي ؟
استدارت بتؤدة باتجاه هذا الصوت المطمئن ، كان صوت إيريك ، مرافقها ، وكان يقف في تلك اللحظة أمامها وبيده كأس من المارتيني ، وكان محامي القضايا الخاصة هذا يشاطرها الحياة ، بهذا القدر أو ذاك ، منذ بضعة أشهر ، وكان مستعداً لتقديم خدماته على الدوام ، فقد عرف كيف يكون هنا لأجلها في اللحظة ذاتها ، حيث تكون بحاجة إليه .
_ نعم ، أشعر بدوار في الرأس ، عد بي إلى البيت .
قبل أن تكمل إجابتها ، هرع إلى خزانة الملابس و ناولها معطفها المصنوع من الفلانيل ذي اللون الرمادي الذي ارتدته قبل أن تلقي بذراعها على عنقه .
ودعا مضيفهم على نحو مقتضب ، وبينما كانا ينحدران عبر السلم المرمري المهيب ، كان العيد في الدور الأرضي يبلغ بالكاد أوج حيويته .
_ سأطلب لك تاكسي ، اقترح إيريك عندما وصل إلى بهو المدخل ، فيما أذهب أنا إلى المكتب لإحضار سيارتي .
_ سأرافقك ، سيستغرق الأمر خمس دقائق بالكاد .
_ تمزحين ! الجو رديء
_ إني بحاجة إلى المشي وتنسم قليل من هواء منعش .
_ لكن ذلك قد يكون خطراً .
_ منذ متى كان خطراً قطع ثلاثمائة متر على الأقدام ؟ ومن ثم ، أنت معي .
_ كما تشائين .
خرجا إلى الرصيف من دون أن يتبادلا كلمة ، وبلغا شارع الخمسين بخطى حثيثة في البرد القارص ، كانت حركة السير لا تزال خفيفة كما كانت في السابق ، فيما استمر الثلج في التساقط على المدينة ندفاً ثقيلة صامتة .
في الوقت الراهن ، لم يعد يفصلهما عن السيارة سوى مائة متر ، وكانت واقفة خلف بريينت بارك بالضبط ، في الأيام المشمسة ، يقدم هذا المكان بساطاً من الخضرة الرائعة و المثالية لوقفة في الشمس ، يتناول المرء خلالها وجبة طعام أو يلعب دور شطرنج بالقرب من النافورة ، لكن كان المكان في هذا المساء مخيف و غارق في الظلمة ومقفر …
_ نقودك !
أطلقت نيكول صرخة مقتضبة .
كان قد انبثق أمام عينها نصل براق مثل شعاع .
_ نقودك ، أمرك !
أمر الشخص ذو السكين .
كان رجلاً بلا عٌمر ، كل ما فيه فظ وجلف ، وكانت جمجمته الحليقة تبرز من سترة طويلة تصل إلى ركبتيه ، وكان وجهه مثقوباً بعينين ضيقتين يهيجهما بريق مجنون ، و تشقه طولياً ندبة مقعرة .
_ بسرعة !
_ موافق ، موافق !
خضعَ إيريك مٌخرجاً محفظته ، من تلقاء نفسه ، ناول الرجل ساعته وهاتفه المحمول ، استولى الرجل عليهما ، ثم اقترب من نيكول كي ينتزع منها حقيبتها اليدوية و علبة الكمان ، حاولت الموسيقية أن تخفي قلقها ، غير أنها أخفقت في مواجهة نظرة المعتدي و لم تفعل شيئاً سوى إغماض عينيها ، وفيما تنتزع يدٌ عقدها اللؤلؤي منها ، راحت تتلو الأبجدية بالمقلوب وبسرعة ، كما اعتادت أن تفعل في طفولتها ، كي تسيطر على مخاوفها .
ي و ه ن م ل …
وكان هذا كل ما وجدته لتلهي نفسها ، منتظرة الوقت حيث لا تعد هذه اللحظة سوى ذكرى سيئة .
ق ف غ ع ظ ط …
سيغادر عما قريب بعد أن حاز ما يريد : بعض النقود ، وتلفون محمول ، وبعض المصوغات .
ض ص ش س ز ر …
سيغادر ، قتلٌنا لن يفيده في شيء …
ح ج ث ت ب ا …
لكنها ، حين فتحت عينيها ، كان الرجل لا يزال هنا ، و ذراعه متأهبة كي تسدد لها طعنة سكين .
رأى إيريك الطعنة تنطلق ، لكن سمّره الخوف ، ولم يأتِ بأدنى حركة لحمايتها ، لماذا لم يدهشها سلوكه ؟ ، في أي حال هيا لم يعد لديها الوقت لتتحرك ، مشلولة ومنومة مغناطيسياً ، شاهدت النصل الذي سيشق حلقها ، إذاً ، هل هذه حياتها ؟ بداية واعدة ، وسط متألق ، يليه انحدار إلى جهنم ثم نهاية قذرة أقبلت بلا تحذير ، بصحبة هذا الإحساس الأليم بأنها بطلة قصة غير مكتملة …
أمر غريب ، يقال أحياناً إننا في لحظات الموت ، على نحو متسارع ، نرى مجدداً اللحظات المهمة من وجودنا ، نيكول ، هي الأخرى ، لم تر سوى مشهد وحيد : شاطئ يمتد على مد البصر ، مقفر ، إلا من اثنين يلوحان ناحيتها بفرح ، ترى على نحو غريزي وجهيهما ، الأول وجه الرجل الذي أحبته منذ الأزل ولم تدر كيف تحتفظ به ، والثاني وجه ابنتها التي لم تحسن حمايتها .
************************
أنا ميتة .
لا ليس بعد ، لماذا ؟
شخص ظهر للتو من مكان ما .
متشرد ما .
في البدء ظنت نيكول أن الأمر يتعلق بهجوم جديد قبل أن تفهم أن القادم الجديد يحاول إنقاذها ، وبالفعل ، كان هو من تلقى الطعنة على كتفه في اللحظة الأخيرة ، رغم الجرح ، نهض برشاقة و ارتمى بشراسة على المعتدي ، تسنى له أن يجرده من السلاح و يسترد الغنيمة منه ، جسده الضئيل لم يعقه عن التفوق ، بمساعدة اللابرادور ذي اللون الداكن ، تمكن أخيراً من إجبار خصمه على الفرار .
ةلكن نصره لم يكن بلا ثمن ، إذ انهار على الثلج خائر القوى ، و التصق وجهه بالرصيف الذي يغطيه الجليد ، الآن جاء دور نيكول كي ترتمي ناحيته ، فاقدة في الأثناء إحدى خفيها المبهرجين ، هاهي هنا ، تجثو على برودة الثلج كي تعتني بالرجل الذي أنقذ حياتها ، لاحظت آثار دم في الثلج ، لماذا عرض هذا ال إس . دي . إف نفسه للمخاطر لأجلها ؟
_ سنعطيه عشرين دولاراً لقاء ما قام به ، اقترح إيريك على نحو أخرق وهو يلتقط محفظته و الهاتف المحمول من الأرض المعفرة ، الآن وقد زال الخطر استعاد المحامي كبرياءه .
أشاحت نيكول وجهها الذي علته ملامح الاحتقار .
_ ألا ترى أنه جريح ؟
_ في هذه الحالة سأبلغ البوليس .
_ ليس البوليس من ينبغي تبليغه ، بل الإسعاف !
بصعوبة يدها على كتفه الذي ينزف بغزارة وراحت تحدق في وجهه الذي تلتهمه لحية كثيفة .
في البدء لم تتعرف إليه ، إلى أن رأت عينيه المحمومتين تنظران إليها بثبات ، حينئذٍ ، تحطم شيء ما في داخلها ، موجة من الحرارة غمرت كينونتها ، لا تعرف ما إذا كان ألماً أم راحة ، اكتواء أم أمل ، هذا الذي تجلى لها في عمق الليل ، انحنت باتجاهه ، أدنت وجهه من نهدها كأنها تريد أن تحميه من زوبعة الثلج التي تغلفهما .
_ ماذا تفعلين ؟ أصاب إيريك القلق .
_ أغلق هاتفك و اذهب فتش عن سيارتك ، خاطبته بنبرة آمرة فيما كانت تنهض .
_ لماذا ؟
_ هذا الرجل ….. .… أنا أعرفه .
_ تعرفينه ، كيف ذلك ؟
_ ساعدني على حمله إلى منزلي ، طلبت منه من دون أن تجيب عن سؤاله .
أومأ إيريك برأسه ، ثم في زفير :
_ اللعنة ، لكن من هذا الرجل ؟
وقد اتخذت نظرتها مظهراً غامضاً ، تركت نيكول لحظة طويلة قبل أن تهمهم :
_ إنه مارك ، زوجي

مسلوب الإرادة 08-07-14 07:44 PM

رد: رواية لأنني أحبك
 
2
المختفية
" إننا لا نشعر ، في أي يوم من أيام حياتنا ، بأننا غير محصنين ضد الألم إلى هذا الحد إلا عندما نحب " .
فرويد
بروكلين ، في الضفة الأخرى من النهر ، في الرفاهية الناعمة لمنزل صغير من العصر الفيكتوري ، مزخرف بأبراج صغيرة و ميازيب …


نار مظطرمة تطقطق داخل المدفأة ، كان مارك هاثواي ممدداً على كنبة الصالون ، يلف غطاءاً سميكاً حول ساقيه ، كان لا يزال في غيبوبة ، وكانت الدكتورة سوزان كينغستون تنحني فوق كتفه موشكة على الانتهاء من تقطيب جرحه .
_ جرح سطحي ، أوضحت لنيكول وهي تنتزع قفازيها ، إن ما يقلقني هو صحة مارك العامة على الأرجح ، لديه التهاب حاد في الشعب الهوائية ، و جسده مغطى بالأورام الدموية و التشققات .
حينما تلقت سوزان مكالمة من جارتها نيكول هاثواي ترجو منها المجيء للاعتناء بزوجها الجريح ، كانت تتذوق بودنغ عيد الميلاد وسط أفراد عائلتها ، ولم يكن قد مضى وقت طويل منذ بداية الأمسية العائلية .
على الرغم من دهشتها ، لم تتردد ثانية واحدة في تلبية النداء ، فقد كانا ، زوجها وهي ، يعرفان حق المعرفة مارك ونيكول ، كانت العائلتان على وئام قبل وقوع الحادث المأساوي قبل خمس سنوات ، و غالباً ما كانتا تخرجان معاً لتجربان المطاعم الإيطالية لحي بارك سلوب ، واحداً تلو الآخر ، هازئتين من تجار الأثريات في بروكلين هايت ، وفي نهاية الأسبوع تركضان على مروج بروسبكت بارك الفسيحة .
ذلك الزمن يبدو بعيداً اليوم ، غير واقعي تقريباً .
وبينما تثبت عينيها على مارك ، لم تستطع سوزان أن تقي نفسها الشعور الرهيب بالتورط .
_ هل كنت تعرفين أنه يعيش في الشارع ؟
أومأت نيكول برأسها ، عاجزة عن الكلام .
ذات صباح ، منذ عامين ، أخبرها زوجها أنه سيغادر ، لأنه لم يعد قادراً على العيش (( هكذا )) ، ولأنه لم تعد لديه الطاقة لذلك ، حتى ذلك الوقت ، كانت قد فعلت كل شيء من أجل الاحتفاظ به ، لكن أحياناً ما يكون كل شيء غير كافٍ ، ومنذ ذلك الحين لم تعد تصلها أي أخبارٍ عنه .
_ أعطيته جرعة من المهدئات و كذلك مضادات حيوية ، أوضحت سوسن وهي تحزم أغراضها .
رافقتها نيكول إلى الباب .
_ سأمر غدا صباحاً ، وعدت سوسن ، لكن …
توقفت في وسط الجملة ، مستحية و مرعوبة في الآن ذاته مما كانت ستتفوه به :
_ …… لا تدعيه يغادر في هذه الحالة ، أتمت كلامها ، وإلا … سيموت فيها .
*************************
_ إذاً ؟
_إذا ماذا ؟
_ ماذا سنفعل بزوجك ؟ سأل إيريك .
كان المحامي يذرع المطبخ جيئة وذهابا وكأس من الويسكي في يده .
نظرت نيكول إليه بمزيج من الإجهاد والنفور ، ماذا كانت تعمل مع هذا الرجل منذ ما يقارب العام ؟ كيف حدث أن تركته يدخل حياتها ؟ و لماذا تعلقت به ؟
_ إذا سمحت ، غادر ، تمتمت .
هز إيريك رأسه .
_ لا يخطر ببالي أن أتخلى عنك في لحظة كهذه .
_ عندما كانت السكين في حلقي ، لم يعقك ذلك عن التخلي عني !
جمد في مكانه و أعوزته بضع ثوان قبل أن يحاول التبرير :
_ لكن لم يكن لدي الوقت ل… لم يتسن له إتمام جملته
_ اذهب كررت ببساطة .
_ لو كان هذا بالفعل ما تريدنه … لكنني سأتصل بك غداً ، أضاف قبل أن يغرب عن وجهها .
وقد تخلصت منه انتاب نيكول شعور بالارتياح ، فعادت إلى داخل الصالون ، أطفأت كل الأضواء ، ومن دون أن تثير أدنى ضجة ، دنت من إحدى الكنبات كي تكون قريبة من مارك .
كانت الحجرة التي لم يعد يضيئها سوى الوميض البرتقالي لجمر المدفأة تسبح في جو هاديء الآن .
منهكة وتائهة ، وضعت يدها على يد زوجها و أغمضت عينيها ، لطالما عرفا أوقاتاً سعيدة في هذا المنزل ! ابتهجا إلى حد الجنون في اليوم الذي عثرا عليه ، كان واحدا من تلك المنازل التي شيدت في نهاية القرن التاسع عشر ، بواجهته من الأحجار السمراء و الحديقة الرئعة ، ولقد مرت عشر سنوات منذ شرائهما إياه ، بالتحديد قبل ميلاد طفلتهما التي أرادا لها أن تنشأ بعيداً عن جنون مانهاتن ، على رفوف المكتبة ، كانت بضعة صور مؤطرة تذكر بالأيام سعيدة ، في البدء ، بنظرات متواطئة و حركات ولهى ، رجل و امرأة واليد في اليد ، إجازات رومانسية في هاواي و اجتياز جسور ، بالدراجة النارية ، لجراند كانيون ، ثم صورة إيكوغرافية لطفل في الرحم ، وبعد بضعة أشهر ، صورة لوليد ذي وجه دائري ، يحتفل بأول عيد رأس سنة ، على النسخ الأخيرة ، الوليد و قد صار فتاة صغيرة خسرت أسنانها الأولى ، وهاهي ذي تضع الطعام أمام زرافات حديقة برونكس ، و تعيد ضبط قبعتها تحت سحب مونتانا وتعرض على عدسة الكاميرا سمكتيها - المهرجتين ، إرنيستو و كابوتشينو ، كانت الروائح العطرة للأيام السعيدة قد اختفت للأبد …
عطس مارك في نومه ، فسرت في جسد نيكول قشعريرة ، لم يعد الرجل الذي ينام على الكنبة يمت بصلة إلى ذلك الذي تزوجته ، وحدها الشهادات الجامعية و التكريمات التي تغطي الجدار مثل الغنائم تشهد أن مارك كان ذات يوم عالم نفس شاب و شهير ، فقد جرت العادة أن تقوم الوكالة الفيدرالية للملاحة الجوية ووكالة الأمن القومي باستدعائه عند وقوع كوارث جوية أو اختطاف رهـائن وذلك باعتباره متخصصاً في ردود الفعل الارتكاسية ، وعقب 11 أيلول / سبتمبر، شارك في وحدة علم النفس التي أنشئت بهدف متابعة عائلات الضحايا وموظفي برج التجارة العالمي ممن نجوا من الكارثة ، وذلك أن المرء لا يخرج متعافيا من مأساة كهذه ، بل يظل جزء منه على الدوام حبيس الصرخات و النيران و الدم ، وربما تكون أنت قد نجوت من الموت ، بيد أنك تستم في الشعور بأنك تلوثت ، يتآكلك الشعور بالإثم ، و يلتهمك الضيق الأصم ، و يجتازك السؤال الهائل الذي لن يعرف إجابة أبداً : لماذا نجوت أنت وليس الآخرون ؟ أنت وليس ابنك ، زوجتك ، أبواك …
قبل ذلك ، بالتوازي مع عمله كعالم نفس ، نشر مارك تجاربه في مجلات علمية تصدر بطبعات كبيرة ، و ألزم نفسه في هذه المقالات بأن يقوم بالتعريف بطرائق العلاج الجديدة - أدى الدور ، التنويم المغناطيسي …- التي كان يشتغل عليها رائداً مع شريكه و صديق طفولته كونور ماك كوي ، وشيئاً فشيئاً صار مارك عالم نفس رائج يشاهد على شاشات التلفزة ، ولقد دفعت هذه الشهرة المفاجئة بهما ، هو ونيكول ، إلى صدارة المشهد الإعلامي ، ففي عددها للثنائيات الأكثر شعبية في نيويورك ، كرس لهما اللامع فانيتي فاير مقالة من أربع صفحات مع صور رائعة لتأييد ما ذهب إليه ، وذلك نوع من التبجيل .
لكن حكايةالجنيات هذه على الورق الصقيل تطايرت في شظايا من اليوم إلى الغد ، ففي عصر أحد أيام آذار / مارس، اختفت ابنتهما الصغيرة ليلى ، ذات السنوات الخمس داخل مركز أورونج كاونتي التجاري في جنوب لوس أجلوس ، وكانت آخر مرة شوهدت فيها بينما تحدق في الألعاب أمام واجهة ديزني ستور ، وكانت حاضنتها الشابة ، أسترالية مقيمة ، قد تركتها بمفردها لبضع دقائق ، بما يكفي بالضبط كي تجرب بنطال جينز مدفوع الثمن في محل دييزل المجاور …
كم مر من الوقت قبل أن تلحظ اختفاءها ؟ « ليس أكثر من خمس دقائق » هكذا أكدت الحاضنة للمحققين ، وهذا وقت طويل ، فكثير من الأشياء يمكن أن تحصل في خمس دقائق ، إن الساعات الأولى التي تلي اختفاء طفل هي ساعات حاسمة ، ذلك ما نعرفه من التجربة ، فخلالها يكون هنالك حظ أكبر في العثور عليه حياً ، لكن هذه الاحتمالات تنخفض على نحو خطير بعد مضي ثمانية و أربعين ساعة .
كانت تمطر بغزارة خلال 23آذار / مارس ذاك ، وفي حين حدث الاختفاء في وضح النهار وفي مكان يغص بالناس ، وجد المحققون صعوبة في قطف شهادات موثوقة ، ولم تفض الاستفادة من ذلك إفادات الحاضنة ، المتهمة بالتقصير في المراقبة ، لكن ليس باختطاف طفلة .
في الأثناء ، تتالت الأيام …
خلال أسابيع ، مشط أكثر من مائة رجل بوليس ، تساندهم الكلاب المدربة و المروحيات ، المنطقة بالتفصيل ، لكن لم يتم العثور على أي أثر ملموس يتيح تحديد مكان وجود الصبية .
… ثم الأشهر …
ضلل غياب الأدلة البوليس ، كما لم يتصل أحداً طالباً الفدية ، ولم يبن أي سبيل موثوق ، لا شيء …
… والسنوات …
كانت صور ليلى لا تزال منذ خمس سنوات معلقة في المحطات و المطارات و مكاتب التوظيف ، إلى جوار صور أطفال آخرين اختفوا .
لكن ليلى لم تظهر .
تبخرت .
بالنسبة إلى مارك ، توقفت الحياة 23آذار / مارس 2002
باختفاء ابنته غرق في ضيق مطلق ، وتحت تأثير الزلزال الداخلي من الألم و الذنب انقطع عن مهنته وزوجته وصديقه .
خلال الأشهر الأولى ، جند أفضل المخبرين السريين ليقوموا بالبحث مجدداً في أدق التفاصيل ، لكن دونما نتيجة ، والحال كذلك ، ارتمى هو نفسه في استقصاءات عبثية ، استمر البحث المنذور للفشل ثلاث سنوات ، بعدها اختفى مارك بدوره ، من دون أن يترك أي خبر ، لا لزوجته ، ولا لصديقه كونور ، لم تعرف نيكول انحرافاً مماثلاً ، في البدء ، ضاعف من قنوطها شعور خاص بالذنب : كانت هي من ألحت على ليلى كي ترافقها إلى لوس أنجلوس ، حيث كانت تقدم سلسلة من الحفلات الفنية ، كما كانت هي أيضاً من جند الحاضنة التي تسبب تقصيرها في حدوث المأساة ، ولمواجهة الأسوأ ، لم تجد استعراضاً آخر غير مضاعفة النشاط ، فراحت تنظم الحفلات الموسيقية و التسجيلات ، موافقة حتى على استدعاء مأساتها على الصحف أو في التلفزيون ، كضحية راضية بالفرجة غير السوية ، مع ذلك لم تمر بضعة أيام حتى صار الألم لا يحتمل ، وحينما لم تعد نيكول قادرةً على مقاتلةً أفكارها المرضية ، استأجرت غرفة في فندق ولزمت مرقدها تحت الأغطية كما لو كانت في حالة سبات شتوي ، على المرء أن يبقى على قيد الحياة بقدر ما يستطيع …
*****************************
فجأة ، فرقعت حطبة داخل المدفأة ، فبدرت عن مارك حركة مفاجئة فتح معها عينيه ، هب جذعه منتصباً بعنف ولثوانٍ راح يتسأل عن المكان الذي يوجد فيه و عما حصل له ، بينما ينظر في وجه نيكول ، عاد وعيه إليه ببطء
_ هل جرحتِ ؟ سأل امرأته .
_ لا ، بفضلك .
للحظة ، بدا كما لو أنه عاود السقوط في وهنه قبل أن ينهض بوثبة واحدة .
_ ابقَ مضطجعاً أرجوك ، أنت بحاجة إلى الراحة !
كما لو لم يكن يسمعها ، تقدم بضع خطوات نحو الواجهة الزجاجية ، خلف الحاجز الزجاجي ، كان الشارع يتلألأ ناصعاً وساكناً
_ أين ملابسي ؟
_ رميتها ، كانت متسخة يا مارك .
_ وكلبي ؟
_ أتيتٌ به هنا معك ، لكن … هرب .
_ سأغادر ، صرخ وهو يتقدم مترنحاً باتجاه الباب .
اعترضت طريقه بهدف إعاقته عن التقدم .
_ اسمع ، الوقت ليل و أنت مجروح ومنهك … لم نر بعضنا منذ عامين ، ينبغي أن نتحدث ،
مدت ذراعيها ناحيته ، لكنه دفعها ، تشبثت به ، فراح يتخبط مصطدماً في طريقه بالأرفف ، سقط إطار على الأرض مصدراً ضوضاء زجاج يتحطم ، التقطه مارك وأعاده مكانه ، انزلقت نظرته على صورة ابنته ، بعينين خضراوين ضاحكتين وبابتسامة على الشفتين ، كانت تلهم السعادة و بهجة الحياة .
حينئذٍ ، تحطم شيء ما في أعماقه و انخرط في النشيج بينما يسند ظهره إلى الحائط ، بدورها تكورت نيكول على صدره ليبقيا هكذا وقتاً طويلاً ، خائرين في أحضان بعضهما ، يكابد كل منهما الضيق نفسه ، بشرة رقيقة إزاء بشرة خشنة ، الرائحة النفاذة لعطر جيرلين تختلط بنتانة أولئك الذين يحيون في الشارع .
************************************************************ ****************
أمسكت نيكول يد زوجها وقادته باتجاه صالة الحمام وفتحت له رشاش الدش قبل أن تتوارى ، ثمل بالرائحة المسكرة للشامبو ، بقي مارك ما يقارب النصف ساعة تحت وابل المنزلي الكاوي والمجدد للنشاط ، كان الماء لا يزال يقطر من جسده حينما تدثر بمنشفة كبيرة و خرج إلى الرواق مخلفاً وراءه مع ذلك غدراناً صغيرة من الماء على الأرضية الملمعة ، فتح خزانة ملابسه فتأكد له أن أثوابه لا تزال في مكانها ، لم يلق أي نظرة على بدلاته القديمة التي تحمل ماركة أرماني و بوس و زيجنا ، بقايا حياة لم تعد حياته … مكتفياً فقط بارتداء كالسون و بنطال جينز من كتان سميك وقميص بأكمام طويلة و كنزة واسعة .
نزل السلم كي يلتحق بنيكول في المطبخ ؛ الذي هو مزيج من الخشب و الزجاج و المعدن ، بحيث يبدو شفافاً ، وكان سطح أفقي فسيح بخطوط انسيابية يمتد على طول الجدار ، بينما جزيرة مركزية جيدة التجهيز تدعو إلى الشروع في الطهي ، قبل ذلك بسنوات ، كانت هذه الحجرة تردد أصداء البيئة المرحة لوجبات الإفطار العائلية ، لتصبيرات الفطائر ، ولوجبات العشاء الغرامية ، لكن منذ وقت طويل لم يٌعِد أحد وجباته هنا بالفعل .
_ أعددت لأجلك عجة البيض و شرائح من الخبز المحمص ، صرحت نيكول فيما تصب القهوة في قدح ، القهوة يتصاعد منها البخار .
ما إن جلس مارك أمام طبقه حتى نهض في الحال تقريباً و قد بدأت يداه في الارتعاش ، كان يجب عليه أن يشرب بعض الكحول قبل أن يلمس طعامه .
تحت نظرات نيكول المندهشة ، فتح بتهيج أول قنينة نبيذ وقعت في يده وأفرغ نصفها في جرعتين طويلتين ، وقد هدأ مؤقتاً … تناول وجبته ملتزماً الصمت إلى أن تجرأت نيكول فسألته أخيراً :
_ أين كنت يا مارك ؟
_ في صالة الحمام ، أجابها من دون أن ينظر إليها .
_ لا ، أين كنت خلال هذين العامين ؟
_ في الأسفل .
_ في الأسفل ؟
_ داخل أنفلق المترو ، في البالوعات ، في أنابيب القنوات ، مع المشردين .
والدموع في مآقيها ، هزت زوجته رأسها لعدم الفهم .
_ لكن لماذا ؟
_ أنت تعرفين لماذا ؟ ، قال رافعاً صوته .
اقتربت نيكول منه كي تمسك بيده .
_ لكن لديك زوجة يا مارك ، مهنة و أصدقاء ……
سحب يده ناهضاً عن الطاولة .
_ دعيني بسلام !
_ وضح لي أمراً ، صرخت كي تستبقيه ، ما الذي حملك على العيش متشرداً ؟
نظر إليها بحدة .
_ أحياناً هكذا لأنني لا أستطيع أن أحيا بطريقة أخرى ، أنت تستطيعين ، أما أنا فلا ...
_ لا تحاول أن تشعرني بالذنب يا مارك .
_ أنا لا ألومك على شيء ، أعيدي بناء حياتك ، إذا كان هذا يلائمك ، أما أنا ، فإن الألم هو ما لا أستطيع أن أتجاوزه .
_ أنت عالم نفس يا مارك ، ساعدت الناس على تجاوز كل نوع من أنواع المصائب .
_ هذا الألم ، لا أريد أن أتجاوزه ، بما أنه الشيء الوحيد الذي يبقيني على قيد الحياة ، إنه كل ما بقي لي منها ، هل تفهمين ؟ لا تمر دقيقة واحدة من دون أن أفكر بها ، من دون أن أسأل نفسي حول ما يمكن أن يكون قد فعله خاطفها بها ، هذا من دون أن أسأل نفسي أين يمكنها أن تكون بالضبط في هذه اللحظة .
_ لقد ماتت يا مارك ، تخلت عن نيكول ببرود .
كان ذلك يفوق طاقة مارك على التحمل ، فرفع يده باتجاهها ، وأمسك بعنقها كما لو كان سيخنقها.
_ كيف يتسنى لك أن تتلفظي بشيء كهذا ؟
_ مضت خمس سنوات يا مارك ! صرخت وهي تخلص نفسها .
خمس سنوات من دون أدنى دليل ، خمس سنوات من دون أي طلب لفدية !
_ يظل هناك حظ دائماً …
_ كلا ، يا مارك ، هذا الأمر انتهى ، لم يعد هنالك أي أمل للتشبث به ، لن تعاود الظهور بين ظهيرة وضحاها ، هذا لا يحصل أبداً ، أتفهم ، أبداً !
_ اخرسي !
_ إذا تم العثور على شيء فسيكون جثمانها ، لا شيء أكثر .
_ لا !
_ بلى ! ولا تعتقد أنك الوحيد الذي سيتألم لذلك ، ماذا يجب علي أن أقول ، أنا التي ، علاوة على البنت ، فقدت زوجاً أيضاً ؟
من دون أن يجيب ، خرج مارك من المطبخ مهرولاً ، لحقت به نيكول وقد قررت تهاجمه داخل معقله الأخير :
_ ألم تفكر قط أن بوسعنا امتلاك أطفال آخرين ؟ ألم تقل لنفسك قط أن الحياة يمكنها أن تتخلق من جديد داخل هذا المنزل ؟
_ قبل أن يكون لدينا أطفال آخرون ، أريد أن أستعيد ابنتي .
_ دعني أتصل بكونور ، منذ عامين و هو يبحث عنك في كل مكان ، بمقدوره مساعدتك على الكف عن الاستسلام للانحدار .
_ لا أريد أن أكف عن الانحدار ، ابنتي تتألم و أريد أن أتألم معها .
_ إذا كنت ستثابر على الحياة في العراء ، ستموت ! هل هذا ما تريده ؟ إذاً ، اذهب ! أطلق على نفسك رصاصة في الرأس .
_ لا أريد أن أموت ، لأنني أريد أن أكون هنا في اليوم الذي سيجدونها فيه .
كانت نيكول بحاجة للمساعدة ، أخذت هاتفها النقال و أدخلت رقم كونور .
ارفع السماعة يا كونور ، ارفع السماعة !
في مكان ما من الليل ، ترددت بضع رنات في الفراغ ، أدركت نيكول أن كونور لن يرد و أنها خسرت المعركة ، إذ بمفردها لم يكن بوسعها أن تتوصل إلى استعادة زوجها .
في الصالون، اضطجع مارك على الكنبة و نام بضع ساعات إضافية .
نهض مع بزوغ النهار ، والتقط حقيبة رياضية من داخل خزانة الملابس كي يضع داخلها غطاء و سترة و علب بسكويت ، وبضع قنان من الكحول .
توجت نيكول هذه العدة بهاتف محمول و بطارية و شاحن .
_ إما أن تقرر إجراء مكالمة مع كونور أو أسعى أنا للإنضمام إليك …
عندما دفع مارك باب المنزل كان الثلج قد توقف و كانت أضواء النهار الاولى تلون المدينة بانعكاسات زرقاء .
بمجرد أن وضع قدمه على المعطف الثلجي ، كما لو بفعل السحر ، ظهر اللابرادور الأسود من وراء صندوق قمامة تاركاً نباحاً يفلت منه ، فرك له مارك رأسه علامة على العرفان ، نفخ داخل يديه ليمنحهما بعض الدفء قبل أن يضع حقيبته على كتفه و يسير باتجاه بروكلين بريدج .
من على عتبة الباب نظرت نيكول إلى رجل حياتها وهو يبتعد في الصباح ، حينئذٍ ، تسمرت وسط الشارع ورفعت صوتها بالصراخ :
_ إنني بحاجة إليك !
مثل ملاكم مترنح استدار مارك على مسافة عشرات الأمتار أمامها ، بحركة عريضة ، باعدما بين يديه كما لو ليعرب لها عن أسفه .
ثم اختفى في ركن الشارع .


الساعة الآن 02:13 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية