منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   الروايات المغلقة (https://www.liilas.com/vb3/f836/)
-   -   قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر (https://www.liilas.com/vb3/t195238.html)

bluemay 26-05-16 07:00 AM

فصل راااائع

جبتي الغنائم وانا اشهد ...

بس اكيد في كوارث جاية من ورا روحة شاهين لسند..


ادهم هدي اللعب اومااال
بس عن جد اعجبتني سيطرته على غضبه من كلام الين
وتحمله ومراعاته الها..



جيهان بصمتةعلى عقد الفراق بينهم
كان موقف مؤثر كتير

ابدعتي هنودة بكل الفصل

وما عندي تعليق يوفيك حقك

تقبلي مني خالص الود



«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

fadi azar 27-05-16 01:48 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

أبها 29-05-16 05:24 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
جزء حلو وممتع ..

أدهم .. يا صبر أيوب .. تعجبني محاولتك في تحسين صورتك
عند الين رغم استفزازها لك .،

جيهان .. لأول مرة تكسر خاطري .

شاهين ..
الميت ما يرجع ..حقيقة رب العالمين كتبها على الخلق ،
الحمدلله إنه إلى الآن ما استخف وفقد عقله .


كل الشكر مبدعتنا كيد ..
بانتظارك .
🍃🌸🍃

كَيــدْ 30-05-16 09:51 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف خير وسعادة


حابة أنوّه على شغلة، الرواية عمل بشري قابـل للخطأ ومستحيل تكون كاملة، لذلك أي خطأ يُصدر فيها لا تخلونه مجال لفرد العضلات، مجرد توجيه يكفي وأكون شاكرة. + الأفكـار كلها خيالية قاعدة أترجمها بطابع واقعي سواءً الافكار الاجتماعية، الأحداث الماضية والحاضرة واللي بيصير مستقبلًا، مافيه قصة اقتبستها من واقع سمعت عنه بس كلها ممكن تصير بواقعنا، الأحداث البوليسية الطفيفة والعسكرية أيضًا أترجمها حسب تصوّري فلا يجي أحد ويقول واحد من أقاربك يشتغل في الاستخبارات لوووول :P أملك معلومات قليلة أعتقد تكفيني عشان أقدر أكتب.

والرواية بتستمر برمضان بس ماراح أقدر أنزل كل اربعة أيام مثلًا! قدروا إنّي أحتاج وقت بعد للعبـادة، برمضان فراغ الوقت عندي " للكتابة " وليس وقتي للكتابة وفراغه للعبادات! أكيد لا . .

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام :$$


بسم الله نبدأ ،
قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

المدخل اقتباس الجميلة طعون/رماد الشوق لحـال متعب

يآخوي
ترجف هالمحآني من سنين
وآنآ كذآ يآخوي عمري أعده ..


فيني طفل
موجووع..خآيف ومسكين..
يضحك رغم أن الحكآيآت ضده


يآقلب آنآ
ويآك نضحك على مين؟
يآقلب لون الحزن مانيب قده


للحشرجه
بآوتآر صوتي سكآكين
والدمع لو يقفي لجفني مرده


تدري بأني
قلب ضمن المسآجين؟
يعني ينآم وخوف نبضه يهده ..

يعني يخآف
الورد من نكهة التين
يعني وصل بي حزن جوفي لحده

كآن البكآ
مآهو لنا وصرت هالحين
آلمح موآري دمعته فوق خده


أحيآن اقول
احنا غلطنا ومخطين
واضم بعضي وابكي..شلون اصده

واصيح بك
صرخة سكآرى مجآنين
فرقى مآهي بيدي ولاهي بيده


اخيط جرحك
انت...من وين لي وين
وذراع جرررحي ابتره مآ أمده..


فمآن جرحي
يالرياض ش توصين
يمكن يجفف دمعتي بحر جده


يآخوي
انا اقفيت لكن على وين
والله مآدري درب مانيب قده


* أسـاور حلم

(74)*1



لم يجِد في جعبةِ حنجرتهِ سوى الصمت، تكوّنت على أطرف لسانهِ كلماتٌ لم يستطِع قولها، انقطعَ القولُ وملامحهُ تفرغُ من الوجُود . . هُنـاك أحاديث، نتمنّاهـا كثيرًا، هُنـاك أمنيات، لا تعلُو عن الحقيقَة، نتمّى كثيرًا أن يعُود أشخاصٌ غادروا الحيـاة، ونقُول سنطيرُ فرحًا، لكنّنا حينَ نسمعُ تحقيق معجزةٍ نُصدم بدرجةٍ تجعلنا لا نفكّر بالفرحِ أبدًا! ننسى الأمنيـات في معمعةِ الصدمة!
راقبـه ببهوت، ردّة فعلهِ الآن اختلفَت عن ردّة فعلهِ قبل أشهرٍ طويلة، تلك المرّة غضبْ، لأنّه ظنّه يتلاعب في موضوعٍ كهذا، لكن الآن! لا يملك الحقّ في غير الصمت ، لأنّ صوتَ متعب اقترنَ مع هذا القول، لا يملك سوى الصمتِ الذي تمنّى أن يفتديه بكلمـاتٍ مـا . . أن ينطُق بشيءٍ يُثبت أنّه يحيا!! لا يوجد! لا يوجدُ سوى هذه النظرات الميّتة ، الشحوب الذي انتشـر على جلدهِ وهو يسمعُ صوت نبضاتِ قلبهِ بعلوٍّ صارِخ.
التوَت ابتسامةُ سنَد بتشفّي وهو يعضُّ زاويـة فمهِ مردفًا بصوتٍ أشبـه بفحيح الأفعـى الماكرة : وشلون دريت يا سند؟! التقيت بالدكتور اللي كـان له دور بتزوير تحاليل الـ DNA بمستشفى الهدى * اسم وهمي * ، قفطته وهو يتكلم مع شخص أعتقد له مكانته بين الضُبّاط عن هالموضوع .. والعجيب إن اسمه كان يتطابق مع اسم أخوك وعائلتك! متعب !! قدرت أسحب منه الكلام بعدين بالغصب وعرفت إنّ هالشغلات كانت سريّة ولها دخـل بأمن وخرابيط كثيرة . . . * أردفَ بتساؤلٍ ساخـر * عندك علم وش دخّل متعب بهالمواضيع يا عزيزي؟
ارتعشَت يدُ شاهين المُمسكةِ بقميصه . . عقدَ حاجبيهِ بضياعٍ وهو يتنفّس بقوّةٍ ويختنق! يُخفض رأسه بتعبيرٍ عن الانهيـارِ وهو يشدُّ بقبضتهِ على قميصِ سند دون شعورٍ وكأنّه بذلك ينقذُ نفسه من السقوطِ على الأرض، من الضعفِ الذي هاجمَ أطرافهُ في رجفَة.
لم يُضِف سنَد شيئًا وهو يتابعهُ بنظراتٍ متسلّية، يُتابع انهيـاره الهادئ، يُتابع رجفَة شفاهِه وسقوطَ أجفانه ببطءِ السقُوط داخلـه، تهوي مشاعرهُ ليشعر أخيرًا أنّه في فـراغ، أنّ لا شيءَ يتسلّل بين أضلعِ صدرهِ وفقراتِ ظهرهِ سوى الهواء! الهواء الذي يحتكّ ببعضهِ وبعظامهِ فيصدرَ أنينًا كأنين الحيتانِ في عُمقِ المحيط!
ابتلعَ ريقه بصعوبة، لم يستطِع رفع رأسهِ وهو يغفر فمهُ بعذاب ، يهمسُ بصوتٍ خافتٍ لا يكـاد يُسمَع : وش . . اسمه ... هالدكتور؟!!
سند بابتسامةٍ باردة : ممممم .. أعتقد اسمه اسامة أو شيء زي كذا! ماني متذكر .. بس عمومًا ماراح تلاقيه لأنّه بعد كم يوم سافـر وقرّر يستقرّ برى السعودية.
ثقلتْ يداهُ على صدرِ سند، ارتفعَ صوتُ أنفاسِه أكثر وهو ينظُر للأرضِ بعينين تتّسعان رويدًا رويدًا ، أكثر وأكثَر، بعينين لا تصدّقان ما يحدث ، أيّ جنون هذا؟ أيّ جنوووون!!!! ... إن كان في الأمسِ استرجعَ حالتـه في عزاءِ متعب ، فالآن هو يعيشُها! يعشُها بشكلٍ أعنف ، يعُود للشعورِ بالاختنـاق وكأنّه فقد رئتيه التي يتنفس بها، يتشنّج فمهُ ولا يستطيعُ تحريك فكيْه كي يُنصف الموقف بقول " جنوووون "، الآن أصبـحت للمعجزاتِ اصبعُ حقيقةٍ توجّهها نحوَ الموت! كيف ذلك؟ قاربنا أن نُكمل ثلاث سنينَ وأنت لنا ميّت! من فعل ذلك بنـا؟ ولمَ؟ من فعلَ بنـا هذا الحُزن واقترفهُ في حقّنا؟ . . في هذهِ اللحظـة لم يملكْ سوى الموتِ حيًّا وهو يقفُ في مكانهِ يُحاولُ أن يستوعب أمورًا كثيرة، عقله البـاطن لا يصدّق، يخبره من جديدٍ أنّها لعبةٌ من سند أيضًا، ربّما سند وأدهم شريكين! ربّما .. ربّمـا !! لكنّ الصوتْ ... يجيءُ من سطحِ الذاكرةِ ويثقُب كلّ انكـار ، الصوتُ الذي ناداه باسمهِ البارحـة .. والذي هتف بهِ اليــ . . .
شحبَت ملامحه أكثـر ، وأذنـاه استرجعتا تلقائيًا كلمـاته، ذاك الصوتُ كان صوت متعب! ذاك الصوت كـان صوته!!!! يا الله !! قـال ، قــال " الحضن الحرام " !!!!
شهقَ وهو يتركُ قميصَ سند ويتراجع بأنفاسٍ مُهلكـة ، وضعَ كفّه على صدرهِ الذي يرتفعُ وينخفض بقوّة، شعر أنّ قلبه سيخترقُ قفصه الصدري ويخرج، نظر للأرضِ دون حيـاةٍ وهو يهزّ رأسه بالنفي وصوتهُ يهمسُ بعذاب : أ .. أسـ ـيل !!! .. شلون ! وش .. هالجنوووون !!! شلون !! .. ما أحلم أنـا ! ما أسمعك بحلم! مـا كنت ميّت ! أنت حقيقة؟ أنت مبعوث! أنت . . أنت . . . آه . .
تأوّه بقوّةٍ وهو يحرّك ذراعيه ليحيطَ جسده المرتعش ومحاجره تكاد تقذف عيُونه، ضمّ جسده أكثـر . . يرتعشُ وهو يهمهمُ بكلماتٍ لم يفهمها سند ومعظم ما سمعه " أنت حقيقة " ليغرق في كلماتٍ أخرى لا يفهمها وكأنّه يحاكِي روحه بلغةٍ خاصّةٍ بينهما .. يتأوّه وعيناه جافّتـانِ بشكلٍ مُهلك، لم يبكِي في هذه اللحظـة بالرغمِ من أنّ صدرهُ بكَى، فقد التوازن في ردّات الفعل ، فقد ردّات الفعل المنطقيّة كلّها !! حالتـه الآن كانت أعنفَ من تلك الليلـة التي بُعثَ فيها الموتُ في الحيـاة ، والآن حينَ بُعثَت الحيـاةُ في الموتِ لا يدري أين أصبـح، أين صار جسده؟ روحه؟ لا يدري! لم يعُد يشعُر بشيء، لم يعُد يشعرُ سوى بغصّةٍ تنتحبُ في حنجرتهِ وكلماتٍ مبحوحةٍ متألّمةٍ يخاطبُ فيها متعب .. حتى أسيل التي تذكرها في غمرةِ " لفظ " نسيها لوهلةٍ وهو يفكّر بالأمرِ الأكبـر والمعجزةِ التـي فقدت هيبتها ، فقدَت هذهِ الكلمـة هيبتها في عدمِ الحدوث!
يحدثُ كثيرًا أن نفـرح في لحظةٍ وفي نفس الوقتِ لا نشعُر بفرحتنا هذهِ من حجمِها اللا معقول، لأنّ هذهِ الفرحـة كانت مُحالةً منذ الأزل، وحين تتحقّق ، لا نشعُر بها، وتختلطُ بالألـم .. كان يواجه ذلك الآن، لم يشعُر بأنّ شاهين الذي قال البارحة " أبيع كل شيء لجل أشوفه " كان في عُمقه الغائبِ يفرح! كان يتألّم أكثـر، من سنواتٍ غابَها فيها، من سنواتٍ كـان يظنّه فيها ميّتٌ في لَحد! يتصدّق عنه ، يعتمرُ عنه، يدعُو لهُ كثيرًا .. والآن حي!!!
لم يفكّر في هذهِ اللحظـة بالكثير ، بمعنى الكلمات التي قالها متعب لهُ قبل دقائقَ طويلة، لم يفكّر بمعضلةِ أسيل لوهلة .. لم يفكّر! وبقيَ يحاول أن يستوعب تلك الفكرة التي أرادها كثيرًا ، بقي يحاول أن يقتنع بأنّه في الواقعِ ولا يحلـم ، بقيَ يحاول بأشياء كثيرةً مُفردها " حياة متعب "، وجسدهُ يتفاعلُ مع مكوّناتِ السقُوط في هوانٍ وانحبـاس ثاني أكسيد الكربُون في رئته، جسدهُ يرتعش، وذراعيه تشدّان حولهُ دون شعورٍ في الواقع حتى يُطفئ رعشتـه.
بقيَ سند يراقبه ببرودٍ وهو يبتسم، وأخيرًا هاهو يشعُر بانتصـارٍ خبيثٍ وضميرهُ اندثـر خلفَ رغبته في إيلامِ شاهين ، لم يُبـالي بتوابع تلك الحقيقة التي أخفاها وهو يُدرك أنّ شاهين تزوّج بأنثـى لم يمُت زوجها كما يظن! لم يُبالي بشيءٍ وصمتَ وهو يتابعُ هذهِ المهزلة بمتعة.
تحرّكت أقدامهُ بجمودٍ نحوَه، وقفَ أمامهُ مباشرةً وكفوفُه ترتّب العبثَ الذي قام على قميصه، مدّ يدهُ أخيرًا نحوَ شاهين الذي لم يشعُر بهِ حتّى، وضعها على كتفهِ بابتسامةٍ عابثة وهو يلفظ : لا تفكر بشيء بهالوقت .. فكر بس بزوجتك ... وزوجته!
قالـها بسخريةٍ وانتصـار ومكرُ الثعالبِ يُضيء في عينيه، فترَت مشاعرُ شاهين في هذهِ اللحظـة، نظرَ لهُ بعينينِ ميّتتين وهو يفغرُ فمهُ ويُرخي من ذراعيهِ حوله، ذهبَ التشوّش الذي هاجمَ عقله رويدًا رويدًا، والتمعَت عينـاه أخيرًا بذهولٍ وهو يهمس بصدمـةٍ وقد استوعبَ كلّ شيءٍ أخيرًا، استوعب وغادرته صدمـة ما قيل ، لفظَ الشيء الوحيد الذي يشرح ما يحدثُ في هذهِ اللحظـات : مستحييييييييييييييييييييييييييييييييييل !!!
سند يُخفض كفه عن كتفِه وهو يلفظُ بسخرية : وش اللي مستحيل؟ انه عايش!! من يوم فتحت هالموضوع قبل شهور وأنا أدري بمصداقيته .. لو إنّك وقتها صدقتني أو أقل شيء نبشت بالموضوع ما صار اللي صار وتزوّجت وحدة مسمّاها أرملـة وهي غير كِذا ، بس ما أقـدر أنكر إنّي مبسووووط باللي وصلت له . . مبسوط يا شاهين!
شاهين ببهوت، يشحُب وجههُ أكثر وهو لا يريد أنْ يصدّقه، لا يريد أن يصدّق ما يُقـال ، لا يريد! لأنّه بحجمِ ما يتمناه قاتل! يخاف حقيقته كما يخاف كذبَه، أن يُصدم بأنّ كل ذلك ألاعيب ، ويعُود ليعيشَ أيـام وفاتِه من جديد، أن يكُون كلّ ذلك صدقًا، ويتألـم لثلاثِ سنين ، قضاها فيهِ الابن الوحيد لعُلا .. والبكرُ مات! في حريق . . كيف تأتِي الخياراتُ كلّها موجِعة؟ كيف عساها الدنيا تكون ناشزًا عن الراحـة في خياراتها بهذا الشكل!!
هتفَ بخفوتِ صوتِه وشحوبِ ملامحه : كذب .. كذب!! مستحيل هالشيء المجنون ... كذب!!!
سند بلا مبالاة : لا تصدّق .. براحتك، روح لزوجتك الحين و . .
صرخَ شاهين بغضبٍ وهو يقبضُ على عنقهِ ويدفعهُ للخلفِ حتى ارتطمَ ظهرهُ بالجدار بقوّةٍ حتى كادت فقراتُ ظهرهِ بها تتحطّم ، بغضبٍ جارِف : لا تتلاعب معي .. ابلع لسانك القذر ولا تتلاعب معي بموضوع مثل ذا!! أحـذرك يا سند .. كل شيء الا متعب .. تبي تنتقم مني بشيء ابتعد عن متعب ... كل شيء الا متعب !!!
ابتسمَ سند ابتسامةً ضيّقة وظهرهُ يئنّ لذاك الصدام كما أنّ وجههُ يقتربُ من الحمرةِ من قبضتي شاهين التي تكادُ تسحقهُ وهو لا يشعر بنفسه : ما جبت شيء من نفسي .. مو أنا اللي سويت فيه هالأمُور عشان تحطها براسي ... روح دوّره بتلاقيه ممكن بنفس المدينة اللي احترق فيها غيره.
شاهين بغضبٍ يحمرُّ وجههُ وهو يضغطُ على حنجرتهِ يكاد أن يحطّمها : أنت مجنووون؟ مجنون؟ هذي ماهي لعبة يا سند .. أرواح الناس ماهي لعبة! الموت ماهو لعبة!! العالم ماهي لعبة بيدينك! امي يوم وصلها وفاته كانت بتموووت عليْ، قلبي للحين يعيش بعزاه، ريحة السدر والكافور من غسيله للحين ما راحت! أنت مجنون؟ حقير لهالدرجة عشان تفكّر تنتقم مني بالموت والحياة؟
سعلَ سند وماتت كلماتهُ تناغمًا مع جحوظِ عينيه وهو يحاول بكفيه أن يدفعَ يدي شاهين من معصمِه، لكنّ شاهين كان يضغطُ على عنقهِ دون شعور، يشدُّ على أسنانه يريد عقلهُ الباطـن قتلهُ لأنّه استهـان برحلـة الموتِ وذهابها الذي ما كـان فيها إيـاب، سينتقم لاسم متعب الذي لُطّخ بـ " هوَ حي " من بابِ الحقد والانتقـام ، هذا الانتقام! هل للبشـر قلوبٌ تدفعهم لهذا الخطِّ من اللا انسانية؟ آه يا متعِب .. تلاعبُوا باسمك لمآربهِم المريضة ، تلاعبوا باسمك!
زمجرَ بغضبٍ وهو يرخي قبضتيهِ بعد أن استوعبَ ملامح سند التي تتلوّن أمامه وسعالهُ المتواصل باختنـاق، تركه وتراجع وهو يشتعلُ غضبًا، نظـر لهُ بحقدٍ ولم يستطِع منع نفسه من البصقِ عليه باحتقـار، أدار ظهرهُ نحوه ، وتحرّك خطواتٍ ضعيفةٍ مبتعدًا وجسدهُ دون شعورٍ منه ... لازال يرتعشُ من هولِ تلك الكلمات! - متعب حي -! ، متعب ، زُوّرَت أوراق تحاليل الجثّة التي دُفنت مكانه .. متعب ... في ميونخ!! يا للجنون ، بعُمق ثلاث سنين، كيف يظنّ أنه سيُصدّقهم؟ كيف يظنّ؟
لم يتحرّك سوى خطواتٍ قليلة ، قبل أن يأتيه صوتُ سند الخافتِ باختناقٍ بعد ارتطامهِ بالأرضِ بضعف ، صوتُ ضحكةٍ صغيـرة ، تبعتها كلماتٌ ساخـرةٌ منه : رووووح ... رووووووووح لها ... وصدقني .. لمّا يرجع متعب، بيكون حاقد عليك ... بس لأنّك أخذتها منه ... هه! أخُوه ، ياخذ زوجته .. وهو حيّ!
أغمضَ عينيه بعذاب ، رفعَ رأسهُ للسمـاءِ الزرقـاء، فغـر فمهُ باتّسـاع موجـاتِ الصرخـة التي اعتلَت في صدرِه ولم تكُن كافيةً لتخرجَ للعالـم كلّه سوى في آهةٍ صغيرة ... آهةٍ صغيرة .. آهةٍ لا تشرحُ الموتَ الحيّ الذي اعتلّ بأعضائِه . . سقطَت أقدامه، جلس على ركبتيهِ ويديه متدلّيتان جانبًا وهو يفتحُ عيناهُ وينظُر للسمـاء دونَ تصديق .. احتكّت أحشاءهُ ببعضها جعلها تشتعل ، هذهِ الشمسُ أمامـه .. ضحكَت عليْه، هذا القمرُ المتخفِي خلف ستـار النهار ، يشمتُ بصمتِه وعدمِ تواجـده، النجومُ الغائبـة، السُحبُ الباردة، الزفِير الذي يأتيهِ من لفحَة الصيفِ الخريفيّ بجفافٍ أخـرس .. هل تذكُر هديّتنـا الأولى لامّي ذات يوم؟ حين كنّا صغارًا وكان والدنـا لا يزالُ بيننا ، هديّتنا الأولى .. التي ادّخرنـا لأجلها جزءً من مصروفِنا، حتى اشترينـاها لها، عقدًا من الذهب ، هل تذكُره يا متعب؟ هذا العقدُ يا متعب، لازال يقبعُ في أحد أدراجها، لم تبهُت ذهبيّته ولم يتّسخ، لأنّها كانت تضمّه إلى قلبِها، وليسَ على نحرها .. هذا العقد، يشبهُ الخريفَ في ذهبيّته ، هل تذكُره؟ تذكُر فرحتها بِه، وضحكةَ والدنـا مازحًا بأنّه - يغار - ويُريد منّا هديّةً أيضًا .. وعدنـاه بأنّها ستأتيه قريبًا ... لكنّها لم تأتِه، مات ، قبل أن تصلَ إليه!! .. هل تذكُر كلّ ذلك يا متعب؟ هل تذكُر تلك الفرحـة؟ أتدري أنّها كـانت حُزنًا يومَ متّ؟ هل تدري أنها ضمّته إلى صدرِها بعد أيـامٍ من عزائِك، نسيت أنّه مني أيضًا ، واعتبرتهُ فقط منك حتى تحتفظَ بالذكرى الأولى منك ... لمَ فعلت بنَا هذا؟ لمَ تلاشيتَ من سمائِنا؟ لمَ جعلت فرحتها بـ - هديّتك - الأولى حزنًا؟ لمَ غبت؟ بأيّ ذنبٍ وأدتَ البسمة؟ لمَ غبت؟ ما الدافـع لهذا التلاشِي ، لهذا البُكـاء، لهذا الحُزن ، لهذهِ المتاهـة التي دخلنـا بِها ، ما الدافـع لتترك أسيل؟ ما الدافـع لكلّ هذا؟ . .
ابتلعَ ريقهُ بصعوبـة ، سقطَت دمعةٌ وحيدةٌ من عينِه اليُسرى ، سقطَت ببطء ، كبطء استيعابِه لهذه الحقيقة أخيـرًا ، كبطء السنين والأيـام، كثقلِ الأيـام من بعدِه ، شقّت خدّه القاسِي . . وهو يستوعبُ أخيرًا . . أنّ متعب حي!


،


يستغرقُ في قراءةِ أوراقٍ ودراستها وسطحُ مكتبهِ يعجّ بأوراقٍ رغمَ كثرتها مرتّبة، لطالمـا كانت حياتهُ داخل إطـار بيتهِ تعيشُ في رتابةٍ يحبّها ولا ينحلّ عنها.
رنّ هاتفهُ المكتبيّ فجـأة، مدّ يدهُ دون أن يرفعَ عينيه عن الأوراقِ أمامـه، رفعَ السماعةَ ليضعها على أذنهِ ويلفظ بنبرةٍ هادئة : أنا ماقلت لا تزعجوني بهالوقت؟
من الطرفِ الآخر : عذرًا طـال عمرك .. بس الاستاذ سلطان يبي يشوفك.
اتّسعت عيناه بصدمةٍ وانخفَضت يدهُ الأخرى بالأوراقِ التي يحملها حتى جعلها تستقرّ على المكتبِ وهو يلفظُ بصدمة : سلطان هنا؟
الآخر : أيه ، منتظرك بالمجلس من ربع ساعة ، معليش كان مُصر يقابلك.
سلمان بحدة : وليه ما علمتني من وقت ما جاء؟
ارتبكَ الآخر ما إن احتدّ صوتُ سلمان في اللحظـة ذاتِها التي عقد فيها حاجبيهِ باستغرابٍ من غضبه الذي لا يأتِي كثيرًا لأيّ أمـر، وبصوتٍ مُرتبك : بس أنت قايل ما يزعجك أحد قبل الظُهر.
سلمان : سُلطان استثناء! * زفـر بحنق * استغفر الله .. خلاص الحين بشوفه.
أغلق دون أن ينتظـر ردّه، نظـر للبـاب بجمودٍ وهو ينهضُ وعقدةٌ نبتت بين حاجبيهِ من بذرةِ الاستغراب ، بالتأكيد لم يجيء سوى لتلك الرسـالة التي أرسلها له البارحـة، فبغيـر فهد لا يوجد ما يدفعهُ لألـم لقائه.
تحرّك ملتفًا حول طاولة المكتب ومن ثمّ خـرج ليتّجه مباشـرةً نحو المجلِس، يولّد النظـرة الجافـة في عينيه والجامـدة ببرودها، فتحَ البـاب بهدوء، ليصتدمَ مبـاشرةً برؤيتِه جالسًا وهاتفهُ في يدهِ ناظرًا إليه بملامحَ جامـدةٍ بقسوة، يشدُّ على الهاتف بقوّةٍ يكـادُ يحطّمه بِها في طريقةٍ لتفريغ أعصـابه، كـان يهزُّ ساقهُ اليُمنى، وما إن فُتـح الباب حتى أوقفَ هزّها ورفعَ وجههُ إليه مباشـرةً وهو يُرخي ضغطهُ على هاتفِه، التحمَت نظراتهما بصمت، جمُودٌ فقط ، عينيهما الشبيهتين ببعضِها تحمُل في تلك اللحـظة النظرة ذاتَها، المشـاعر المُتلاشيَة وراء ستـار الجمودِ والبرود.
تحرّك سلمان بعد وقوفهِ للحظتين فقط، أغلق الباب ومن ثمّ اتّجه للأريكة التي أمامهُ مباشـرة، جلسَ ليضعَ ساقًا على أخـرى وهو يرسُم على ملامحهِ السُخرية المرّة : ماراح أقُول غريبة جـاي لأنّي عارف السبب . . بس . . * رمقهُ من أعلاه لأسفله وهو يرى النظرة الحاقدة في عينيه، ليُردف * مو كأنّ حالتـك قاعدة تصير أسوء يوم عن يوم؟
سلطان بجمودٍ وهو يرفعُ حاجبه الأيسر : حالتـي؟
سلمان يبتسم : ما عهدتك بهالاعصاب النافـرة ، كنت عصامي مو زي الحين ... شوي وتنفجر من أعصابك.
سلطان بسخرية : ماشاء الله تقدر للحين تقرأني حتى بعد ما انكشف زيفك!
سلمان : زيفي ما يعني إنّي ما أفهمك .. أنت تربية يديني.
سلطان بحدة : تربّيت لسن الـ 12 بس ، لا تنسى هالنقطـة.
سلمان بتحدي : كل العلوم الاجتماعية والنفسية تثبت إن مرحلـة المُراهقة هي الحساسة بشخصية الانسان واللي تقوّم بقيّة حيـاته ... مين كان معك بهالمرحلة؟ طيف فهد؟ صوت فهد؟ صوَر فهد؟ والا سلمان بشحمه ولحمه؟!
سلطان بحقد : كان معي شخص زائف!
سلمان : المهم كنت معك .. ما تهم هويّتي.
سلطان : أقـدر أفهم ليه ودّك تكرّر نفس الموضوع اللي قبل أكثر من ثلاث شهور؟
سلمان ببساطة : لأنّه صـار تقليد في السنـة أربع مرّات . . عيب عليك بنخلص السنة وهو ما صـار الا مرة بس!
سلطان بغضبٍ يتقدّم بجسدهِ للأمـام وعيني سلمان تقرأهُ بوضوح : من متى يهمّك الشخص اللي ذبحته؟
سلمان : من قبل لا يموت . .
سلطان باحتقار : منافق.
ضحكَ بمتعة : للمرة الثالثة يمكن . . بتندم على قلة أدبك كلها معي.
سلطان بحدة : الغي كل شيء .. ما أقدر أمثل على حسـاب نفسي.
سلمان يرفعُ حاجبه الأيسر ويكتّف ذراعيه إلى صدرِه : كم مرة بكررها لك يا بو فهد؟ كم مرة بقولك صرت ضعيف يوم عن يوم! أعصابك ما تقدر تمسكها ، مُثير للشفقة وطلعت بشخصيتك الحقيقية اللي ما شفتها الا من قريب ، أكبـر ثغرة فيك تسمح لك تفقد نفسك هي إنّك موقّف حياتك على أشخـاص معينين ، لو خسرتهم أو خذلوك بتنتهي وراهم كذا ببساطة!
كلماتهُ استفزّت سلطان الذي نظـر لهُ باشتعـالٍ ليهتف بغضب : على أي أسـاس مستنتج إن حياتي وقفت عليك؟ هـذا أنـا ، ماني ضعيف ولا شيء .. الحقد يضعف؟ بالعكس يقويني .. مشاعر الحُب والامتنان ذي هي اللي تضعف، المشـاعر التافهة اللي مالها مكـان .. لأنّ مافيه شخص .. يستاهلها ، مافيه شخص!
سلمان يبتسمُ ببرود : عنـاد ، امك ، غيداء ، زوجتك ، كل هالناس ما يستاهلونها؟ بسببي أنا عمّمت نظرتك على كل اللي تعرفهم؟ شايف شلون وقفت حياتك علي؟ شلون صرت مُثير للشفقة لدرجة إن كل شيء انتهـى بحياتك عندي! واضـح كانت تربيتي لك بدون قصد مني أساسها أنـا! محورها سلمـان ، وحتى لو ما كنت حقدت علي وشفتني بعين ثانية .. لو متّ ، كانت حياتك بتتغير!
سلطان : لو مت .. كانت بتظل ذكرى حلوة وبس، وما بذكرك الا بالخيـر . . ما كنت بنصدم بأن حيـاتي كلها كانت زيف!
سلمان بابتسامة : لو مت .. كنت بتلاقي موتي حجّة عشـان تشوف إنّ الدنيا فارغة! وش كثـر أنت ضعيف يا سلطـان ، وش كثر أنت ضعييييف!!! . . . وبعدين يا يبه كم مرة قلت لك لو تفتح عمل الشيطان؟
سلطان بحنق : لا تقول يا يبه! ولا تنسى إنك أول من بدا يقول " لو "!!
سلمان بضحكةٍ قصيرةٍ باردةٍ بشكلٍ مُستفز : أيه صح نسيت ... يـا ولد!
عضّ شفتهُ بغضب، وقف وهو يشدّ على قبضتيْه وأسنـانه يكادُ يحطّمها ببعضها البعض من فرطِ الاستفزازِ الذي مارسهُ عليه وأتقنـه، لفظَ بقهرٍ بينما سلمان يُتابعهُ بعينٍ باردةٍ وابتسامةٍ مستفزة : تقــدر تسوي . . .
قاطعهُ صوتُ حطامٍ اعتلا فجأةً من خلفه، حطـام النافذة التي وراءه وقد اخترقتهـا رصاصةٌ اندفعَت مباشرةً لتجاورَ كتفَ سلطان ولا تُصيبه، اتّسعت عينـاه بصدمةٍ ولم يستوعب في تلك اللحظـة شيئًا بسـرعة .. اختلطَت الأصواتُ فجأة ، زجاجٌ تناثـر وأصابَت شظايا منهُ عنقهُ من الخلف، صرخةٌ اندفعَت بـاسمه، ومن ثمّ شعرَ بكفٍّ أمسكتهُ بعنفٍ لتدفعهُ على الأرضِ بقوّةٍ ومن ثمّ ينبطِح بجوارهِ وهو يصرخُ بانفعالٍ ويُحـاول دفعه ليزحف مقتربًا من الأريكة : قرّب من الكنب ، لا تكون بنطـاق النافذة .. قرّب من الكنب يا سلطـان . .
كانت عينـاه متّسعتـان بصدمةٍ ممّا يجري، ينظُر لملامحِ سلمان بجانبهِ والتي كانت تصرخ بانفعالٍ حتى تصاعدَ صوتهُ أكثر كي يُفيقه مما هو فيه : سلطــــــاااااااااااااااان
استوعبَ أخيرًا ، وتحرّك يزحفُ للخلفِ وكف سلمان على كتفهِ تدفعهُ كي يبتعد عن نطاق النافذة ورصاصاتٌ كانت تندفعُ بهجومٍ ضاري لتخترقَ قماشَ الأرائك التي لحقَت بها، التحقا بنقطةٍ آمنةٍ لا تصلهما فيه الرصاصاتُ من النافذة، تنفّس سلطان بقوّةٍ وهو يُعيد كفّه للخلفِ وقد هدأ هجومُ الرصـاصِ وصمت، وضعها على مؤخـرةِ عُنقهِ وهو يشدُّ على أسنانهِ بألم، سحبَ الشظيّة التي اخترقت جلدهِ بعمقٍ سطحي، رماهَا ومن ثمّ ضغطَ على جرحهِ كي يوقفَ نزيفه، وعينيه كانتا تنظُران لسلمان الذي سحبَ هاتفهُ من جيبِه وطلبَ رقمًا مـا ، أنفـاسه لم تهدأ، ينظُر لهُ دون تصديقٍ لمـا حدث، لمَ أنقذه؟ ما الذي يحدث أصلًا؟ من أين جاءت هذهِ الرصـاصاتُ ولمَ؟
انتبـه لسلمان الذي كان يُحادث بصوتٍ منفعل : أيه . . لا ماني متطمّن من الحركـة الحين يمكن للحين بمكانهم ينتظرون يشوفون أحد يتحرّك . . طيب ، لا تتأخـرون.
بقيَ ينظُر لهُ بصمتٍ مُريعٍ حتى أغلقَ هاتفه ونظـر لهُ بحدة، داهمهُ سلطان بنبرةٍ حـادةٍ قبل أن يقُول شيئًا : وش قاعد يصير هنا؟ وليه أنقذتني؟!!!
سلمان ببرودٍ مُستفز : ما أبيك تموت الحـين ، وبعدين لا تنسى ، سبق وقلت لك أهدافي مالها شغل فيك لذلك ماراح أنسى السنوات اللي ربيتك فيها مثل ولدي .. ما اعتبرك ولد فهد ، لذلك ما ودي أقتلك بهالوقت!
سلطان بغضب : بهالوقت؟
دفعهُ وقد فقدَ أعصابهُ باستفزازهِ له، صرخ وهو ينهضُ جالسًا بتهور : ودك تختار وقت موتي بعد؟ على أســاس بـ . .
سلمان بعصبيةٍ صرخ في وجههِ وهو يُمسك كتفهُ بحدةٍ ويُعيده للخلفِ قسرًا : اهجد يا حمــاااار
شدّ سلطان على أسنانه من ألمِ ظهرهُ وعنقهِ المجرُوح، وبنبرةٍ مختنقةٍ بقهر : ابعد يدك.
سلمان بحدةٍ وهو يُرخي ضغطَ كفه على كتفه : جرّب تعانـد ، وقتها ما بتحس حالك الا وأنت في السرير ومن يدي أنا ماهو من الرصاص! مبزرة !!
أشـاح وجههُ عنه بعصبيةٍ بينما بقيَ سلطان يرمقهُ بعينينِ حانقتين، لوهلـةٍ استرجـع الكلمات الكثيرة التي سمعها منه ذاتَ يومٍ وانقلبَت من بعدِها حيـاته، قبل أشهرٍ طويـلة، كـان يُحادثُ فيها أحمـد، وانسابت الكلماتُ على أذنه كرصاصٍ ذائبٍ لازال يحرقهُ حتى هذهِ اللحظـة ( سعيد إنّ اغتيـال فهد قبل سنين كان ناجح )
أغمضَ عينيه بقوّةٍ وألـم، غابَ الحقد خلفَ أجفانِه، وصوتُه يأتيه من جديدٍ بنبرةٍ مستخفّةٍ ساخـرة ( أتخيّل لو عايـش لهالوقت! )
( الحمدلله تخلّصت منه ، كـان غصّة ببلعومي )
تلك الكلمـات صنعَت على ملامحه البهوت، جعلتـه يموت ذاك اليوم، جعلتهُ يشعر أنّه فراغ، أنّه لم يكبر، ولم يحيا، ومـات مع أبيه . . كان يتحدّث كثيرًا ، يُفصح عن حقدِه وكرههِ لأخيـه، عن فرحتِه بموتِه، عن راحتـه من بعده، بينما كان كتفهُ يكاد ينغرسُ في الجدارِ من وراءِ البـاب الذي لم يكُن مُغلقًا كفايةً حتى يُخفي كلماتِ الحقيقة، يكاد الجدارُ يبتلعه، وفي عينيه غابَت الحيـاة وهو ينظُر لعالمـه ببهوت ، عالمه الذي تحطّم، تـلاشى، من بعدِ صوتِه.
لم ينتبه حين انطفأ صوتُ سلمـان، كـان يغرقُ في ضحيج أفكـاره التي فقدت القدرة على التصديق، يظنُّ بأنه يحيا كابوسًا، كلّ شيءٍ لم يكُن حقيقة، كـان يحيا كابوسًا.
خرجَ سلمان وملامحه يطغى عليها الجمود، تلاشـى الجمودُ فجأة، وحلّت على ملامحه الصدمـة وهو ينظُر لسلطان الواقف دون تصديق، ينظُر لهُ بعينينِ ترفُض فكرة أن يكُون سمعـه : سلطااااااان!!!!
نظـر لهُ سلطـان، واستطاع سلمان في تلك اللحظـة أن يلمحَ حُمرة عينيه التي تستعدُّ لبُكـاءٍ نادرٍ لم يرهُ منه سوى في أيـام المراهقـة ولأجـل فهد، دمُوعٌ لم تكُن تسقُط، لم تكُن تعرفُ الوجود . . . في تلك اللحظـة، حدثَ أن تحسّر سلطـان بكلمـات، هاجمهُ دون تصديق، حتى انتهى ذاك الهجومُ ببرودٍ ساخرٍ من سلمان .. اعترف فيه، أنّه بالفعلِ من قتله! .. في تلك اللحظة .. انتهت قصّة سلمان وسلطان، انتَهت قصّة الأبِ والابن.
أفـاق من ذكريـاته الموجعـة على صوت سلمان وكفّه التي استراحَت خلف عنقهِ لافظًا بحدة : ياقة ثوبك مليـانة دم .. من وين جاء؟
نظـر لهُ بعينين حاقدتين بقوّة، هذهِ النظـرة فاجئت سلمان لعلوّ الظـلام في زواياها، لتضاعفِ النـارِ فيها أكثر دونَ انطفـاء. رفعَ كفّه ليُمسك بكفّ سلمان ويرميها بحدّةٍ بعيدًا عنـه، وبحدةٍ حاقـدة : لا تلمسني .. حسّك ترجع تلمسنـي !!
ابتسمَ سلمان ببرودٍ مُستفزّ، رفـع يدهُ من جديدٍ ليضعها على جرحِه دونَ مبالاةٍ بنظرة الحقدِ والغضب، تشنّج جسدُ سلطان ليجلسَ مباشرةً بحدةٍ وهو يهتف بغضبٍ ناري : ابعد يدّك الزفت . . .
لكنّ كلمـاته أُخرسَت فجأة، انسدلَت أجفانُه وتأوّه من يدِ سلمان التي ضغطَت بمهارةٍ خلف عنقه، تراجـع ظهرهُ للخلفِ حتى استلقَى ببطءٍ على الأرضِ وهو يُغمض عينيه في حالـة إغماءٍ بطيئة.
مرّر سلمان لسانه على شفتيه وهو يلفظُ بصوتٍ وصل إليه مشوّشًا : قلتلك اترك العنـاد والمبزرة هذي والا ما بتحس على عمرك إلا وأنت بالسرير . . نــام يا سلطان .. نـام يا ولد !
غابَ عنهُ الوعي وهو يحاول أن يقاوم هذا الاغمـاء لكنّه لم يستطِع، وآخر ما شعـر بهِ هو كفّي سلمان التي حرّكت أحدهما رأسه جانبًا حتى يظهر لهُ عنقه، والآخرى مسحَت بأناملها الدمَ الذي أغـاب بحُمرتهِ لون بشرتـه . . . بحنان !!

يُتبــع . .

كَيــدْ 30-05-16 09:59 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


لم يستطِع البقـاء بين هذهِ الجدران، يشعُر أنّه سيختنق، لا يحتمل أن يُسجن بعد أن وصـل لوطنـه أخيرًا . . رفعَ هاتفه يكاد أن ينفجـر من وضعِه القاتِل هذا، أرسـل لرقم عبدالله الذي جعله يحفظه عنده : ( ودي أطـلع .. مالكم حق تسجنوني كذا! ).
وصله الرد بعد لحظـاتٍ قليلة : ( تقدر تطلع ).
تنفّس براحـة، وبعد دقائق قليلةٍ كـان قد خـرج، رفعَ هاتفه كي يتّصل بأدهم وهو يدرك أنّه مراقبٌ لكنّه سيكُون حذرًا في محادثتـه،

في تلك الأثنـاء ، كــان أدهم يجلسُ على كرسيّ طاولـة الطعام وهي على الكرسي المقابـل له، تابعها بصمتٍ وهي تقطّع التوست وتحاربهُ بملعقتها ولم تذُق سوى لقمتين منذُ جلسا، لفظَ بضجر : وش مآكلة أمس؟
رفعَت إلين رأسها وكأنّ تيارًا كهربائيًا سرى في جسدها، وبربكة : هاه !
أدهم يعقدُ حاجبيه : يارب لا أكون تزوّجت مفهّية من أمس وأنتِ تكررين لي " هاه " هذي!
فغَرت فمها للحظـة، وسرعـان ما اشتعلت عيناه باستفزازِه لها لتلفظَ بحنق : المفهي وجهك المفقع ذا . . وش تبي مني الحين؟!
أدهم بابتسامةٍ مستفزة : كلي.
إلين بحنق : ماهو بالغصب بعد!
أدهم : أكلتِ شيء أمس؟
إلين تلوي فمها : أيه تعشيت عند أهلي.
اتّسعت ابتسامته وهو يردّ ببساطة : ما يهم كلي بس .. البطن يجوع كل أربع ساعات شوفي متى كان وقت العشاء!
إلين باستنكار : وتسألني عن وقتي أكلي ليه طيب؟
أدهم : عشان أذني مشتاقة صوتك.
زفـرت برجفةٍ وهي تُشتت عينيها، بينما ابتسمَ وهو يحملُ كوب العصير ويرتشفُ منه، عينيه تراقبُها بصمت، تراقبُ توتّرها وهي تمدّ يدها تلقائيًا لتحمل كوب عصيرها برجفةِ يدِها حتى تُطفئ حرارة الربكة عن حُنجرتها، لكنّها ما إن قرّبت الكوب من فمها ولرعشـة كفّها فقد الكوب توازنهُ وكاد يسقُط من يدها قبل أن تمسكه بقوّةٍ وهي تشهقُ لقطراتٍ كثيرةٍ تناثـرت على صدرها، تلطّخت بلوزتها البيضـاء الواسعة بلونِ العصير البُرتقـالي الشاحب، فغرَت فمها بصدمة، بينما انخرطَ أدهم في ضحكةٍ صاخبـةٍ وهو يضعُ كوبه على الطاولـة وكفّه على بطنِه.
وقفَت بقهرٍ وهي تُمسك ببلوزتها التي التصقَت بصدرِها بشفافيّتها، سحبتها للأمامِ وهي تنظُر لهُ بحقد، بينما بدأ هو بالسُعـال لضحكهِ في اللحظـة التي كان فيها يشرب.
رمقتهُ باحتقارٍ وهي تبتسمُ بتشفي، ومن ثمّ تحركت مبتعدةً عنه حتى تغيّر ملابسها المتسخة، تنـاول كوب العصير وشرب منهُ بسرعةٍ حتى يتوقّف سعالـه، نظـر ناحية الباب وهو يمسحُ على فمهِ ويلفظَ ببحّةٍ متذمرة : لازم أخرّبها يعني؟ الحين بتجلس جوعانة!!
وقفَ بحنق، ومن ثمّ تحرّك حتى يلحق بها ، تردّد قبل الدخُول، لذا طرق الباب يخشى أن تكون في هذهِ اللحظـة ترتدي ملابسها في الغرفـة، لكنّها لم تردّ عليه، حينها فتحَ البـاب ليجدَ الغرفـة فارغـةً من وجودِها، زفـر وهو يستعدُّ للخروجِ من الغرفـة حتى يتركها بحرّيتها، لكنّه ما إن تحرّك حتى سمعَ صوتَ هاتفه الذي تركه على السرير بعد أن نهض، تحرّك بتلقائيةٍ إليـه، حملهُ لينظُر للمتصـل الذي مـا كان إلا متعب.

خرجَت بعد وقتٍ قصير، شعرها الجافُّ مرفوعٌ للأعلـى بينما قد ارتدَت لباسًا بيتيًّا ناعمًا وفي ذات الوقتِ يستر كل أجـزاءِ جسدها، خرجَت من الغرفـة ووجهها عابـسٌ بضيقٍ من حياتِها خلال اليومين السابقين، لا تظنّ أنها ستتأقلـم ، ورغمًا عنها يجبُ أن تتأقلـم حتى وإن لم تُرِد ذلك! . . زفـرت وهي تتحرّك جهة طاولـة الطعام، غبـاءٌ منها أن تذهب إليه، لكنّها لوهلةٍ شعرت بالرغبـة في الصراخ في وجهه من شدّة الضغط الذي تشعُر أنّه يسحقها !!
إلين تهتف بقهرٍ ما إن اقتربَت منه : عجبــ . . .
لكنّها صمتت فجأةً وهي تجدُ كرسيّه فارغًا ، عقدَت حاجبيها باستنكـار، أين هو؟ .. كـادت تتحرّك حتى تتأكّد من مكان تواجده، ليس اهتمامًا بحجمِ ما توجّست من فكرةِ أن يكون خرَج وتركها وحيدةً هُنا .. وحين تحرّكت خطوةً لتذهب، لمحَت هاتفها على الطاولـة من جهةِ جلوسها قبل أن تنهض، عقدَت حاجبيها باستغراب ، هي لم تجلبهُ معها حين جلست لتفطر!! .. أمالت فمها باستغراب، واتّجهت إليه لتتناولـه من على الطاولـة، وحين فتحتهُ بتلقائيّةٍ وجدَت أمامها رسالةً نصيّة وصلت إليها من أدهم ... لمَ قد يُرسل إليها وهو هنا؟؟!
فتحتَها ، حينها تراءت أمامها الكلمات التي استفزّتها وكوّنت تجاعيد الحنق في وجهها : ( حركة الكتابة على الورق تافهة عشان كذا قلت أرسل لك وأحط جوالك في مكان ممكن ما يخليك تطنشينه لوقت طويل . . مضطر أطلـع، ماراح أتأخـر وبكون موجود عالظهـر ، أيه لا تاكلين شيء ، أصلًا صرت فاهمك تواجدي مأثّر عليك لدرجة إنك ما تبين تاكلين شيء . . فمان الله )
شدّت على أسنانها بغيظ، كان يحبُ في هذهِ اللحظة أن تغضب لأنّه تركها لوحدها هُنا، لكنّ غضبها من كلماتِه كانت أكبر ، من يظنّ نفسه؟!!!
لفظَت بعنف : صدّق نفسه!! صدّق نفسه هالخايس !! أنا أوريــك.
جلسَت على كرسيّها بغضب، تناولَت قطعـة التوست والجبنة التي أمامـها ، كانت منفعلةً وهي تأكـل ، ولم تشعر بنفسها وهي تلتهم شريحتين وثلاثًا كي تُثبت لنفسها أنّها ستأكـل أكثر من ذلك وفي تواجده ... الأحمق من يظنّ نفسه !!!


،


أوقفَ سيّارتهُ في المكان الذي اتّفقـا على أن يلتقيا بِه، كـان متعب قد سبقه ، ابتسمَ وهو يوقفُ سيّارتهُ ويترجّل منها، نفس المكـان الذي التقيـا بهِ أوّل مرةٍ بعد أن عـاد للرياض وحين تشاجرا ودخـلا في صراعٍ بالجسـد، على قارعةِ الطريق، وأسفـل السماءِ المُتّقدة. لفظَ بمزاحٍ ما إن نزل : توني متزوج من يومين .. ما خليتوني أتهنى وش ذا؟!
ابتسمَ متعب بأسـى ، ابتسامةً كانت ميّتةً مهتزّةً جعلت ابتسامة أدهم تتلاشى وهو يقتربُ منهُ بتوجسٍ ويلفظُ بربكة : آسف .. ترى ما أقصد أضايقك لا تصير نفسية!
ضحك متعب رغمًا عنه ليلفظَ بصوتٍ باهت : ماهو لايق عليك الاعتذار!
أدهم يبتسمُ من جديد : لأنّك ما تستاهله.
متعب بمرحٍ كـاذب : زوجتك الله يعينها عليك .. تحبها بس حبّك مصيبة ... لو تدري عن حقارتك مع بنت الميتم أظن بتكرهك وبتتركك بعد.
بهتَ وجه أدهم بصدمة : هاه ! للحين تذكرها؟!!
متعب بمكر : أيييييه .. اسمها أيش! لحظة خلني أتذكرها . . ايييه صح إلين.
أدهم بحنقٍ وهو يشعر بالندم لأنّه حكَى عن قصّته الزائفة تلك في يومٍ من الأيـام أمامه : لا تقُول اسمها!
متعب بنبرةٍ مُستفزّة : أذكـر آخر مستجدّاتك إنّها صارت اختك .. هههههههههههههههههههههه قدرت تنفي هالفكرة من راسها؟
أدهم بتوترٍ مسح على جبينه، كـان يذكُر في أيـام ما قصّته مع ابنة الميتم بعد أن ظهـرت لهُ إلين بعد سنينَ طويلـة في هيئة " أخت " وطالبت بحقّها في عائلة! فقدَ زمـام لسانهِ مرّة ، وقـال لهُ عن قصّته معها وأنّه " تحرّش بها " في يومٍ ما دون أن يذكر أنّها هي نفسُها حبيبته الصغيرة!
شتت عينيهِ بربكةٍ وخزيٍ وهو يهتف : قفّل الموضوع.
متعب يرفعُ حاجبه الأيسـر : وين راحت الأيـام اللي كنت أقولك فيها عيب تحكي عن بنت بهالطريقة وتقول عنها مصخرة!!
أدهم ووجههُ يحمرّ دون أن يستوعب أنّه في يومٍ ما كان بهذهِ الحقارة : قفّل الموضوع يا ماجد !!!
تنهّد متعب بصمتٍ وقرّر أن يصمت بعد أن لحظَ انزعاجه، وبنبرةٍ متضايقة : لا تقول ماجد .. هالاسم كان حصر على باريس بس.
ابتسمَ أدهـم : نفس كلامك بباريس ، لما كنت أناديك بمتعب تهاوش !
متعب بحنق : اسمي أسمى من إنّه ينذكر بباريس المعفنة.
أدهم بتهكم : خف علينا يا الأسمـى أنت !!
فتحَ متعب فمهُ كي يردّ بسخريةٍ على حديثه، لكنّ رنين هاتفِ أدهـم قاطع حديثهما، أمـال فمهُ وهو يُخرج هاتفـه من جيبِه، نظر لشاشتِه بملل، لكنّه صُعق واتّسعت عيناه وهو ينظُر لاسم المتّصل ، رفـع وجههُ الباهت لمتعب مباشـرةً وهو يلفظُ بحدة : أخوك !
أجفلَت ملامحُ متعب، أفرجَ شفتيه قليلًا وانطفأ صوتُه دونَ أن يستطِيع لفظ شيء، بينما لم ينتظِر منه أدهم حديثًا، بل أجـاب على شاهين الذي هتف مباشرةً بعد أن وصل إليهِ صوتُ أدهم بـ " ألو " : وين متعب ؟!!


،


تنظُر عبـر النافذةِ بعينٍ مُهترئةٍ بالحُزن، أهدابُها تكادُ تكسرُها نظرةُ اليأس، كانت تسمعُ أصواتَهُم خارجًا وهي معتكفةٌ أمـام النافذةِ تنظُر للنـاسِ بألـم ، ملّت المكوثَ خلفَ حاجزِ النافـذة، تريد في هذهِ اللحظـة أن يُلامسها نسيمُ الصّبـاح علّ دفئه يُطفئ برودةَ جسدها الميّت.
أشـاحت وجهها تبحثُ بعينيها عن حجابٍ ظاهرٍ أمامها حتى تلفّه على رأسها وتخرج للـ " البلكونة " وتستنشقَ هواءً يُجدّد رونَق هذا اليومِ الكئيب، الصبـاح الذي يبتدِئ بذكـرى ليلٌ مُضيء وحسب، وضوءه مُخادِع.
الذكـريات ، مهما بلغَت حلاوتها إلّا أنها تترك فينا ترسّبـاتِ ألـم. قضَت ليلتها تتذكّر كل قبلةٍ وعنـاق، كل ابتسامةٍ منـه وكل لمسةٍ من أناملهِ الحنونـة، قضَت تتذكّر لحظـاتِ جنونٍ بينهما، تتذكّر فستـانها الأبيض الذي ارتدته لهُ على مضضٍ وانشـطرت تلك الليلـة لتنهض بعد أيـامٍ وقد ماتَت فرحتـه بحادثِ سير ، لم يكُن مكتوبًا لنـا أن نبقى معًا ، للأسفِ يا فواز فذلك قدرنـا ، وكان يجبُ أن أدرك ذلك وتُدرك أنت منذُ اعترضَت طريقنـا " سيّارة "، يا للخيبة! كان يجبُ أن أدرك، قبل أن أُرسِل إليكَ رسالتـي في ليلةِ ما بعد العيد وتشطرنِي بردّك، كـان يجبُ عليّ أن أدرك ذلك قبل أن اصتدمَ معك في الحديث البارحـة وأُضاعف ألمـي وبؤس ابتسامتِك ، كان يجبُ عليّ أن أدرك ذلك قبل أن يتحشرجَ صوتِي وأنا أرى ضحكتك مع ليـان وكأنّ الأيـام والأشهُر اقتلعتني من صدركَ بتلك السرعـة القاتلة! لم تكُن سعيدًا، كلماتُك فيما بعد أثبتت أنّني أخطأت الحِسابَ في عدّ تجاعيدِ الضحكةِ حولَ فمكْ، لم يكُن عددها كافيًا حدّ الصـدق، لم يكُن كافيًا أبدًا ، كُنت تتذكّرني كما أتذكّرك، لازلت تُحبّني! وأسأل الله أن لا يقتلـع منك هذا الحُب، ألّا تعيشَ من بعدِي.
توقّفت نظراتها الباحثـة فجأةً وهي ترى يُوسف الذي دخـل للغـرفة بوجههِ الصامِت دونَ تعبير، أجفلَت نظرتها وهي توجّهها إليـه بحرارةِ الألـم والحنين من جديد، الحنين الأقسـى من سابِقه، كـانت هي التي تجافيه سابقًا وقطّعها الحنين، فكيف إن أتى حبـلُ الجفاءِ منه وقيّد بِها بسمتها؟!
ارتعشَت شفاهُها في ابتسامةٍ هشّةٍ ظهرت بها أسنانُها بزيفِها، وبنبرةٍ مُختنقةٍ في سؤال يُبدي مدى الخسران والضياع الذي وصلت إليه : شفيك يبه؟
تنهّد يُوسف بصمت، ومن ثمّ استدار ليُغلق باب الغرفة، ابتلعت ريقها بتوتّرٍ وهي تراهُ ينظُر إليها من جديدٍ نظراتٍ جامـدة، تحرّك ليقترب من أقرب كرسيّ أمامه، سحبه ومن ثمّ جلـس يتّكِئ بمرفقيه على الطاولـة، وبجمود : تعالي ودي أحكي معك.
فغـرت فمها قليلًا، وبتلقائيةٍ شتّت عينيها إلى الباب وهي تفكّر، هل يعقل أن تكون أرجوان أخبرته بما حدث البارحة بينها وبين فواز؟ لا من المستحيل أن تفعلها بها! إذن ماذا يُريد وهو الذي لم يُسامحها حتى الآن!
تحرّكت بخطواتٍ مُستسلمةٍ إليه، سحبَت الكرسيّ الذي أمامه كي تجلس، لكنّه نهرها بصوتِه الهادئ وهو يلفُظ : تعالي اجلسي جنبي ماهو قدامي.
التمعَت عيناها، وابتسمَت دون شعورٍ وهي تنظُر لهُ بقليلٍ من الحيـاةِ وتهتفُ بنبرةٍ صافية : من عيوني ، خاطري اللي يتمنى أكون جنبك والله.
لم يعلّق ولم يبتسم حتى، اقتربَت منه لتجلسَ في الكرسيّ الذي بجوارِه، لفظَت بخفوتٍ مبتسم : سم . .
يوسف بهدوء يدخُل في موضوعهِ مباشرة : طُول هالشهور اللي مرّت ما كنت مركّز على هالموضُوع وتاركك عشان تطلعِين من عدّتك بالأول . .
عقدَت حاجبيها بتوجّس، لكنّها لم تستطِع أبدًا ، أن تنظُر لهُ بذاتِ البسمةِ والنظـرة، لم تستطِع إلا أن يطغى عليها حُزنها الأزلـي، حُزنها الذي لم تدري من أين ابتدَأ، لم تعُد تدري متى وأين وكيف! في يومٍ مـا من العـامِ وقفَت غيمةُ هذا الحُزن فوق رأسي وظلّت تسيرُ معي حتى تُظلّلني أبدًا، في يومٍ مـا يا والدي، ولازالت حتى الآنَ لا تريد أن تنقشعَ عنّي، لا تريد ، هوَتنِي واهتوَت احتضـانَ رأسِي في قطراتها ، وأنا التي ما عادت تحتملُ حزنًا أكبـر، ما عادت بحجمِ هذه السلبيات فيها ، أدركُ أنّني مُشبعةً بالسلبيات، لكنّ هذا لا يُهدي الحقّ للحُزن حتى يضطهدنِي بهذهِ الطريقةِ المُميتة، لا يُخوّل لهُ هذا الاحتضـان الجـائِر لأحداقي في لمعةِ ملحٍ ذائب.
همَست بغصّةٍ لا تستطِيع أن تكتُم حُزنها أكثر أمامه، تُريد أن تنطلقَ بالتشكّي وتتطلبَ منهُ المواسـاة : صرت مطلّقة يا يبه!
عقدَ حاجبيهِ بضيق، زفـرَ وهو يُشيح نظراتهُ عنها، وبنبرةٍ مُتأسّية : كنت بشوف المواساة واجبـة علي ، بقولك محد يستاهل هالحزن من عيُونك، محد له الحق يوجع بنتي . . بس كل ما تذكّرت إنك السبب باللي صار أعجز! أحس بالخذلان من تربيتي لك!!
فغَرت فمها بعذَاب، لا تريد سمـاع هذهِ الكلمات، لا تريد أن ترى هذه الخيبةَ في عينيه منها، أن يُفصحَ بخذلانها إيّاه ! . . مدّت يدها بانفعالٍ مُرتعشٍ لتضعها على كفّه التي استراحت في حُجرِه، شدّت عليها بقوّةٍ وهي تهمسُ بغصّة : لا توجعني زود بهالحكِي!
يوسف : أوجعتيني قبل بحكيك له !
جيهان بأسى تهزّ رأسها بالنفي : ماهو منك ، العيب مني .. تربيتك مافيها قصور ، القصور منّي أنـا .. لا تحس بخذلان بسببي! يوجعني كثير أكون سبب وجعك.
يوسف يبتسم : كنتِ سببه شهور.
اهتزّ فكّها وهي تقوّس شفتيها وعقلها يُدرك أنّه يعني شهُور جفائِها، أخفضَت رأسها قليلًا لتقبّل كتفهُ برقّةٍ ودمعةٌ تسقُط من عينِها مُبلّلةً هدبَها المُتراخي، أخفضَت رأسها أكثر، حتى وضعتهُ أخيرًا على كفّها الموضوعةِ فوقَ كفّه ، وبهمسٍ معذّب : آسفة على خيبتك مني.
رفعَ كفّه الأخـرى بصمت، وضعها على شعرها وهو ينظُر لها بعينين صامتتين كشفاهِه، بينما تابعت هي بأسـى : آسفـة على عقوقي بقلبي .. قبل لا يكُون عقوق فيك! آسفة على هالعقوق! اللي عجز يقُول القول الكريم لقلبـي ، يا كثر ما قال " اف " من هالوجع اللي أسبّبه لنفسي ولا برّيت فيه! يا كِثر ما نمت وهو متوجّع ولا رضيت أراضيه .. عارفة وش يبي ، بس أنا مكابرة بشكل مُزعج! كم مرة تمنيت أتّصل فيك وأطلب تسامحني! أقول أمّي ماتت .. مهما كان السبب خلاص هو أبُوي اللي أحتاجه! بس عجزت .. عجزت أرضي قلبي اللي أنت جزء من حياتـه . . . سامحني يبه ، سامحني.
لم ينطُق بشيء، ولم تتلاشى تلك البسمةُ المتأسّية عن شفاهِه، مسحَ شعرها بصمت، بينما ابتسمَت هي بأسى وصوتُها ينبعثُ من عُمق الرجـاء : كنت أحس باليتم .. اليتم الحقيقي اللي معناه فقدان أب ! . . * رفعَت رأسها لتنظُر لعينيه * سامحني ، تكفى سامحني! عارفـة إنّي غلطانة وعارفـة إنّي سوّدت وجهك قدامه بس لا تصير أنت وهو والزمن ضدي! لا تصيرون كلكم ضدي!!
تنهّد بضيق، سحبَ يدهُ التي تُمسك بها، وضعها على كتفِها ويدهُ الأخرى ارتفعَت لتُمسك بالكتفِ الآخر ، رفعها أخيرًا عنه، نظـر لعينيها بنظرةٍ لم تبقَى بجمودِها ذاتهُ بل لانت قليلًا وهو يهمس : مسامحك . . بس بشرط !
لم تستطِع سوى أن ترسُم ابتسامةً أظهرت صفّ أسنانها البيضاء وهي تهمسُ بنبرةٍ مُتلهفة : لو تطلب عيُوني عطيتك . .
يوسف بهدوء : ترضين تقابلين الدكتورة.
بهتت ملامحها وانطفأت بسمتها تدريجيًا وهي تنظُر لوجههِ دون استيعاب، استطـاع قراءة الرفضِ في ملامحها بسهولة، قراءةَ النفورِ من تلك الفكرة التي كانت تتهرّب منها منذ أشهرٍ وهو لا يفكّر أبدًا في طرحها عدا في وقتها المُنـاسب.
طـال الصمتُ بينهما، الصمتُ الذي ما عنَي الرضا بل الرفضِ منها، أخفضَت رأسها أخيرًا لتنسابَ خُصلات شعرها حول ملامحها البيضـاء دون أن تمتلك القدرة على الرد، زفـر بهدوء، ومن ثمّ هتف بنبرةٍ حنونةٍ لطالمـا انتظرتها : حبيبتي جوج !
رمشَت مرّاتٍ وهي تُقاومُ دموعًا تُريد أن تتنبّأ بما سيحدثُ بعد لحظاتٍ من انهيـارٍ عاطفيٍّ ساحق، ابتلعَت ريقها وهي تُخفض رأسها أكثر حتى غابت ملامحها عن عينيه وهي تهمسُ باختناق : ماني مجنونة!
يوسف باعتراض : منتِ مجنونة .. مين قال هالكلام؟ مو كل شخص يحتاج طبيب نفسي معناته مجنون ! قلبك متضايق وأبيه يرتـاح .. قلبك اللي مرِض بسببي وأبيـه يتشافى ويقنَع بالحياة بدون لا يعرف عن شيء !
رفعَت وجهها الشاحبَ إليهِ وشفتيها ترتعشَان بعذاب، ظهرت الدموع المُتلألِئة في عينيها كبلّوراتٍ التمعَت في قاعِ البحـار، كالتمـاع المُحيطِ بملحِه، وبتحشرج : أعرف أيش؟
يوسف بأسى : إنّ النـاس ممكن تأذيك بدون ما تقصد ، تذنب ، وما تدري إنّ اللي حولها ممكن يتعاقبون بذنبها !
لم تفهم، لم تستطِع في هذهِ اللحظـة أن تفهم المعنى المُستتِر خلفَ كلمـاته ، اقتربَت منهُ ومحجرها لم يستِطع الصمودَ أمامَ حُمرة الألـم، أحاطَت عُنقه بضياع، اتّكـأ رأسها على صدرِه تبحثُ عن موطنِها الأوّل قبـل فوّاز، موطنـها الذي لا يلفظها أبدًا ، الوحيد الذي تبقى جذورها فيه ولا تقتلها عوامـل تعريةٍ كالزمـن ، تبقَى تمتصُّ منهُ الرغبـة في الحياة والأمل ، تبقَى تحيـا .. لأنّها تقطُن في وطَن.
همسَت باختناقٍ مُعذّبٍ ودموعها تتساقطُ رويدًا رويدًا دون أن تستطِيع سُقيا ألمها، وحدهُ يوسف من يستطِيع ، وحدهُ يوسف : موافقـة ، موافقـة على اللي تبيه ، موافقـة لأنّي أبي رضاك علي بس.


يُتبــع . .


كَيــدْ 30-05-16 10:04 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


نزلت للأسفلِ وهي تفركُ عينيها الناعستين، لا تدري متى نهضَ سُلطان وخرج، هل نام من جديدٍ أصلًا بعد حالتهِ في الليل؟ . . تعجّن جلدُها بين حاجبيها وهي تتذكّر أنّهُ بقيَ في تلك الغرفـة وحين خشيَت أن يُدرك مراقبتها لهُ عادت لغرفتهما بصمت، نامَت دونَ شعورٍ منها بعد أفكـارها العقيمة التي أبحرَت ما بين عمّه ووالدها وأخيرًا هيَ وخداعها له! لم تنهض إلا قبل نصفِ ساعةٍ رُبّما ، حتى صلاة الفجر لم يوقظها لها ككلّ يوم! بالتأكيد خرج قبل ذلك وإلا لمـا تركها.
زفـرت بضيقٍ وهي تتّجه للمطبقِ بعد الضجيج الذي سمعتهُ فيه، لفظَت بهدوءٍ ما إن رأت سالي : سويلي شيء آكله.
سالِي تنظُر لها بهدوءٍ لتبتسم : اوكي . .
ابتسمَت لها بهدوء، غيّرها في كلّ شيءٍ عدا طمعها بِه، حتى سالي لم تعُد تعاملها بذات العلوّ والغرور السابِق . . كـادت تخرجُ من المطبـخ قبل أن تندفعَ صرخةٌ مُفاجئةٌ من حُنجرةِ سالي المذعورة، استدارَت بسرعةٍ لتجدها ترفعُ إحدى ساقيها وقطّتها التي لا تدري متى دخلت دون أن تشعُر بها ومتى نزلَت من الأعلـى كانت أسفلها . . لفظَت غزل وهي تقتربُ منها : وش فيك لا تكونين تكرهينها مثل سلطان بعد !!
سالِي بحقد : بُوووور !!
شهقَت غزل بصدمةٍ بعد أن ارتفعَ جسدها المُنحني وهي تحمِل القطة، اتّسعت عيناها بشرٍ وهي تلفظُ بصوتٍ هادئٍ امتلأ بالوعيد : وش قلتِ تو؟!
لوَت سالي فمها بقهرٍ وهي تنحني لتمسحَ على ساقِها الذي خدشته، وبحقد : فيه جُرح أنا !!
غزل بقهر : أكيد مسوية فيه شيء ليه ما عضّني ولا مخشني من جابه سلطان !!!
سالي التي كانت قد داست على ذيلهِ دون قصد، لم تقُل ذاك خشيةَ أن تضربَها ربّما كما فعلَت سابقًا ، هتفت بوجوم تُكرّر الكلمة التي لفظتها : بُووور . .
غزل بصدمة : وتكررينها؟ تكررينها يا الحيوانة؟!!
نظرَت لها سالِي بوجومٍ دون رد، بينما ضمّت غزل القطة لصدرها وهي تهتفُ بوعيد : طيب ، بوريك الخنزير ذا وش بيسوي فيك . . * مدّته إليها بعناد * روشيه لي.
اتّسعت عينـا سالي بصدمةٍ وفغرَت فمها : وات؟!
غزل بلؤمٍ تبتسم : روشيه لي ، والا ما تعرفين؟
سالي باعتراض : يمكن موت.
غزل باستنكار : تموتين أنتِ؟
سالي تهزّ رأسها بالنفي : لا هو .. أنا مافيه اعرف.
غزل من بين أسنانها : أذبحك لو غلطتِ ... تعالي معاي أنا بوريك شلون.
أمسكَت معصمها ومن ثمّ سحبتها معها وهي تهتفُ بعناد : وحدة من معارف امّي كان عندها قطو ويا كثر ما تهايط فيه قدامنا وأنا المسكينة أبوي رافض يدخله بيتنا ، من حسن حظي وفي غمرة هياطها حكت عن نفسها وهي تروشه .. وأنا بحكي لك وأنتِ طبّقي ويا ويلك تغلطين طيّب؟
سالِي بصدمةٍ لا تستوعبُ هذهِ الكلماتِ المُستفزّة منها : أنا مافيه اعرف بعدين مووووت !!
غزل تمطُّ فمها : بغرقك وراه سامعة ؟!
سالي تتذمّر متمتمةً بلغتها التي لم تستطِع غزل فهم شيءٍ منها ولا تستبعد أن تكون شتيمةً أخرى وربّما لها هي وليست للقطة : وش تخربطين أنتِ؟ بنت أبوك تكلمي بشيء مفهوم ووقتها بوريك الشغل السنع.
سالي بقهر : إذا بابا سُلطان يرجع أنا فيه قول حق هو إنك ضربتي أنا ..
شهقَت غزل بصدمةٍ وهي تتركُ معصمها وتضعُ كفّها على فمها : يا كذّابة !!
سالي بقهر : أنا ما يبغى غسّل هذا بوووور !
غزل بحنق : والله الخنزير أنتِ يا معفنة ... انقلعي بس روحي سوي لي فطور أوريك بعدين ودّك تتبلين علي أجل !!
نظرت لها سالي بابتسامةِ نصر وكأنّها تقول لها بعينيها أنّ لها سوابقَ تجعلهُ يصدّقها، شدّت غزل على أسنانها بغيظٍ بينما ابتعدَت سالي وهي تُدندن باستفزاز تاركةً لها تشتعل وهي تهمسُ بصدمة لقطّتها التي تستريحُ في حُضنها : هالحيوانة قاعدة تستفزني؟ تتقوّى علي بسلطان الكلبة !!!
تحرّكت بغيظٍ نحوَ غرفةِ الجلوسِ وهي تشتُم ، جلسَت أمام التلفـازِ لتبدأ بالتقليبِ بين القنوات، استقرّت على قنـاةٍ للغنـاء، وضعَت جهازَ التحكّم جانبًا، لكنّها لوهلةٍ عقدَت حاجبيها ، شعرَت بالضيقِ قليلًا ، سُلطان لا يُحب الأغانـي والموسيقى، وعدتهُ خلال تلك الأشهرِ وفي يومٍ مـا أن تحاول تركها بعد أن وجدَها نائمةً مرّةً والسماعاتُ في أذنيها بينما صوتُ المُوسيقى يعتلي، كـانت عادتها أن تنـام بسماعِها لها، لكنّها بعد أن أصبحَت زوجةَ سُلطان تناقصَت مُمارستها لهذهِ العـادة . . كمـا أنّ . . . كما أنّها ، يوم اقتحَم عليها ذلك الرجُل الغرفة كانت تستمعُ للأغانـي، كانت نهايتها قد تكُون في تلك الحالـة، تتعذّب في قبرها لأنّها لا تُصلّي! ولكَم تمنّت في تلك اللحظـات الخانقةِ لو أنّها تراجَعت عن كلّ ذنُوبها ، تمنّت لو أنّها حين احتضنَت سجّادتها فرشتها على الأرضِ وصلّت .. كانت تدعُو الله في تلك اللحظات، أن يكون كلّ شيءٍ كـابوسًا ، أن يمدّها بالعُمر قليلًا ، حتى تسلك طريقَ النجـاة.
من بعدِ ذلك اليومِ تغيّرت حياتها وكرهت الأغاني رويدًا رويدًا، لم تتركها، لكنّها لم تعد تهتمّ بها كثيرًا ، وستحاول تركها للأبد.
رفعَت جهاز التحكّم ، غيّرت القنـاة وهي تزفُر بضيق، تتذكّر في لحظةٍ أنّها كـادت تمُوت كافرةً ورحمها اللهُ بسلطان قبل الخلاص من ذلك الامتهان الذي وإن لم يعُد يؤذيها ذكراه كثيرًا بل يؤذي سُلطان.
رفعَت عينيها لتنظُر لسـاعة الحائِط ، الساعة تكادُ تقتربُ من العاشـرة ، أين هو؟ ولمَ لم يعُد حتّى الآن!
زفْرت من جديد ، ضمّت الوسادة لحُضنها ومعها قطّتها وهي تنظُر للبرنامج الذي أمامها بعينٍ فارغـة، لم تشعُر بمرورِ الوقتِ حتى جاءت سالِي وهي تحمِل صحنًا وضعت فيهِ بضعَ ساندويتشاتٍ وعصير ، وضعتهُ على الطاولة أمامها لتفيقَ من شرودِها على صوتِه ، نظرَت للصحنِ لتعقدَ حاجبيها تلقائيًا، وبصوتٍ باهِت : وش تظنين بطني أنتِ؟ الحين أنا بآكل كل ذا مثلًا؟
تراجعَت سالِي دون أن تردّ بشيء ، حينها ابتسمَت غزل وهي تنظُر لها بلؤم : تدرين إنّك طلعتِ شيطانة وأنا ما أدري؟ لازم أكسبك بصراحة ... تعالي بس كلي معاي ، وشغلك بخليه باللين أجل مستغلّة سالفة الضرب القديم يا معفنة؟
سالي بوجوم : أنا شبعان . .
غزل باعتراض : أقول تعالي لا أهفك بهالصحن .. تعالي بسولف معك طفشانة.
جلسَت سالي بالأريكةِ الأخرى على مضض، تناولت غزل إحدى الساندويتشات وهي تهتفُ بابتسامةٍ ماكـرة : عجيب والله صار لك كم شهر وما عرفت عنك شيء .. كم عمرك؟
سالي : 21
غزل : اووووه أصغر مني بعد ، تدرين إنّك حلوة؟ متزوجة والا لا؟
سالي بمللٍ بالرغمِ من إطرائِها الذي اعتادتهُ في بلدِها : لا ..
غزل تلوِي فمها وهي تُعيد الساندويتش للصحن : ايييي يا خوفي تحطين عينك على سلطان تسوينها دامك من شوي تهددين تتبلين علي.
سالي بصدمةٍ وسّعت عينيها : لااااا آنا عندي بوي فريند.
غزل : هههههههههههههههههههههههه يا خطيييييييير والله عندك عشيق !! أي من وين جاية بالضبط؟
سالي بشقاوةٍ تبتسم : أنا يجي من بغداد.
غزل ترفعُ حاجبها الأيسر : تعرفين تستضرفين ما شاء الله ! والله منتِ هينة من وين تعرفين بغداد؟
سالي : ماي قراند فاذر من بغداد.
غزل بصدمة : لا والله جد منتِ هينة لا أنتِ ولا جدتك .. وأنا أقول ليه حلوة كذا أثاري لك عرق شامي ..
سالي بتذمّر : كل بلد أنا حلو.
غزل تضحك بمتعة : على بالي بس السعوديين اللي مخفّة عند الأجانب ... قوليلي بس شلون تزوج جدّك بجدتك؟
سالي تبتسمُ وهي تلفظُ بحالمية : كان في بلد أنا .. شاف ماي قراند ماذر وراح يقول كلام عيب وماي قراند ماذر فيه يضرب بعدين صار يُحب هي.
انفجرت غزل ضاحكةً وهي تضعُ كفّها على بطنِها دون أن تستطِيع السيطرةَ على علوّ ضحكاتها ، وبصوتٍ يختنق بين ضحكاتها : غازلها؟ غازل جدتك!! ههههههههههههههه وش هالجد الزاحف
خفتت ضحكاتها رغمًا عنها ما إن سمعَت صوتَ الهاتف المنزليّ يرنّ، وقفَت بعد أن وضعت قطّتها التي كانت تموء جانبًا وهي تمسحُ دموعها وتضغطُ على بطنها الذي آلمها من فرطِ الضحك، حملتهُ وهي تتنحنح، ومن ثمّ وضعَته على أذنها لتلفظَ بنبرةٍ غير متّزنة : نعم؟
الجانب الآخر : السلام عليكم؟
عقدَت غزل حاجبيها باستغرابٍ وهي تهتف : وعليكم السلام .. عفوًا مين معي؟
الآخر بصوتٍ متّزن : اخو سلطان عنـاد ..
توتّرت قليلًا وهي تهمسُ بحرج : يا هلا فيك .. بغيت شيء؟
عناد : أي ما عليك أمر سلطان عندك؟
غزل تُميل رأسها باستغراب : لا ماهو عندي .. ليه وش صار؟
عناد يتنحنح، وبهدوء : لا ما صار شيء شكل جواله ماهو حوله أتّصل وما يرد، متى طلع؟
غزل وبعضُ القلقِ واتاها : صحيت وما لقيته .. شكله طالع من قبل الفجر لأنّه كان متضايق.
عناد : متضايق؟ من أيش؟!
غزل بتوتّرٍ يرتجف صوتها : م ما أدري . . * ابتلعت ريقها قبل أن تهتفُ باختناق * لا يكون فيه شيء وما ودّك تقولي؟!
فغر عناد فمهُ قليلًا، لكن سرعـان ما تداركَ نفسه وهو يهتفُ بصوتٍ هادئٍ مُبتسم : لا تطمّني هو أساسًا جاي عندي بعد شوي وأنا مستعجله عشان وراي شغل.
غزل وعينيها تُشارفان على البكاءِ من خوفِها : ما تكذب؟
عناد بهدوء وقد أدرك أنّه أخطأ حين اتّصل بها : ما أكذب .. وش بيصير له مثلًا؟
التوى حلقها ولم تردّ بينما قلبها يمُوج فيه أمواجُ القلق، أردف عناد بصوتٍ متّزن : يلا أستأذنك هذا هو شكله وصل .. ومعليش على الاتصال بهالوقت.
أغلق ، لكنّها لم تطمئنّ لآخرِ كلماتهِ وشعرت بأنّه يكذبُ عليها كي لا تخـاف، ارتعشَت شفاهُها الواهنـة وهي تضعُ السماعـة ببطءٍ وأنفاسُها تعلو .. آلمها قلبها قليلًا ، لم يحدث لهُ شيءٌ سيء ، سُلطان بخيرٍ بالتأكيد وهو لدى عناد !!


،


تابعَ ملامحَ أدهـم بصمْتٍ وهو يراهُ يرفعُ حاجبًا بسخريةٍ واضحـة، يبتسم، ومن ثمّ يردّ بتهكمٍ خافت : أخيرًا قررت تلعب بالمكشوف؟!
عقدَ متعب حاجبيه وهو يشير إليه عمّا يحدث، لكنّ أدهم تجاهلهُ وهو يستمعُ لردّ شاهين الذي كان يجلسُ في سيّارتهِ واضعًا رأسهُ على المقود، عينـاهُ مرهقتـان، يشعُر أنّه لا يزال في حلمٍ سينهضُ منه في أيّ لحظـة، حلمٌ بحجمِ جمالِه قاتـل ، يُحشرج نبضاتِ القلبِ ويأسر الأكسجين عن دمِه، لفظَ بنبرةٍ مُختنقة وعقلهُ لم يعُد يُدرك المزيد من الحديث، لم يستطِع حتى أن يتّصل بالهاتف الذي حادثهُ منه متعب لذا لم يجد سوى أدهم : هو عندك الحين؟
أدهـم بسخريةٍ لاذعة : أييييه عندي.
شاهين بغصّة : بالرياض؟
هُنـا ، قريبٌ منـه ، لا يُعقل! كيف يكُون قريبًا ، ولا يشعُر به! كيفَ يكُونُ قريبًا منهُ ولم يلتقِي بهِ في صدامِ الطُرقـات، لمَ لم يعُد؟ ما الذي يحدث! كيف يكُون هُنـا ولا يعُود، ما الذي طرأ على سنواتِ غيـابِه حتى يبقى محتضنًا الغُربة !!
أغمضَ عينيه بضعف ، وردّ أدهـم يصلهُ بنبرةٍ لازالت بذاتِ سُخريتها : من يومين تقريبًا.
يومين !! أين كـان قبلًا؟ كان بالفعلِ في غُربته ، كـان بالفعلِ بعيدًا ، لا ، لا ، هو يحلم .. حتى الآن لازال يحلُم، حتى الآن كلّ ذلك غير حقيقي .. غير منطقيّ، كيف يُغادرهم ثلاثَ سنين؟ كيفَ يبتعدُ عنهم كميّتٍ ويتركهم يصلّون على قبـره ، قبره ! كم مرّةً زارَهُ وحادثهُ بنبرةِ الفقد، كم مرّةً زارهُ وحادثـهُ بنبرةِ الشوق .. كان يُحادثُ سواه!! كيف؟ كيف يحدثُ ذلك يا متعب، قلّي أنني لا أحلـم، سلّمني صوتكَ مرّةً ثالثةً حتى أصدّق ، تحدّث معـي ، حتّى أُصدّق !!
هتفَ بنبرةٍ مُرتعشـة : كنت .. أنت ، كنت معـاه ! شلون؟
لم يفهمهُ أدهـم جيدًا، لكنّه حلّل كلماته بأنّه من كان يُسانده! لذا لفظَ بتحدي : أيه .. كنت معه لسنين ، وما أخاف من هالحقيقة وتقدر تسوي اللي يعجبك.
هزّ رأسـه بالنفيِ وهو يعضُّ شفتهُ السُفلـى ، كـان أدهم أمامهُ طويلًا وهو يظنّ أنّه عدو، كـان أمامهُ وهو يعتبرهُ المجرم الذي آذى أخيه ، بينما كـان العكس من ذلك وكـان الحلقة التي لو أنّه لم يكُن ساذجًا بهذه الطريقة لوصلَ لهُ مُبكّرًا عوضًا عن أكثر من سنةٍ يبحث فيها عن المُجرم ، عن أدهم ! والذي لم يكُن مجرمًا أبدًا ..
فغرَ فمهُ يُريد أن يلفظَ بشيء ، ربّما اعتذار ، ربّما رجـاءٌ بأن يتحدّث مع متعب ، ربّما شيء! يُخبرهم أنّه اشتاق وأنّ هذه الحقيقةُ أفرغَت الثباتَ من جسدهِ وصوتِه ، لكنّ صوتَ متعب الحـاد جـاء فجأة، صوتُ متعب الذي اقتلعَ الهاتفَ من كفِّ أدهم ولفظَ بحدةٍ ساخـرةٍ بها الكثيرُ من الألـم : ما كـان العشم فيك هالغدر !
تنفّس بتحشرج، وارتفعَت كفّه ليضعها على رأسهِ وهو يغمضُ عينيه بهوانٍ وإعيـاء، يثقُل رأسهُ وهو يشعُر بأحشائِه تحترق، هل هذا صوتُ الميّت فعلًا ! هل هذا صوتُ متعب الذي تلاشى عنهُ سوى في ذكـرى لازالت أذنـاه تحتفظُ برنِينها؟
أخفضَ كفّه لقلبهِ النابضِ بعنف، مرّر لسانه على شفتيه التي انسحبَ منها المـاءُ وشحبَت، وبخفوتٍ واهـن : وين كنت؟ وش صار هالسنين!! ... لحظة أنت متعب؟ أنت حقيقة؟!! ما يلعبُون علي صح؟ ما ودهم يذبحوني بالأموات .. ما يقدرون يستنسخون صوتك!! أنت حقيقة؟!
متعب بضيقٍ يُديرُ ظهرهُ لأدهم وصدرهُ يتحشرجُ بنفسٍ ساخن، وبقهرٍ يُغمض عينيه : كفاية يا شاهين كفاية !!
شاهين بصوتٍ يختنق : يا الله .. يا الله ما أبـي شيء من زيف .. يا الله لو كان كل هالشيء كذب لا تكتب لي حياة بهالوجع! ما أبـي شيء من حياة لئيمة، لا تكتب لي ذكـرى بهالسادية تتجسّد لي بهالطريقة وتنحرني!
متعب بأسـى : ساديّة؟ كفاية تنكيل بالميت ، كفاية ... يا خوي!
نطقها بحسرةٍ جعلت شاهين يعقدُ حاحبيه، أعادَ ظهرهُ للخلفِ وهو يعُود للشعُور بجسدهِ يهوي، يصبحُ ثقيلًا يُريد السقُوط، يزورُ الشحوب جلده وتحمرُّ عينـاه بألمٍ من ملوحةِ الدموع التي عادت تريد البُكـاء على عزاءِ السنين التي ارتحـل فيها، على سماءٍ شهدَت بُكـاءً وألـم، على أرضٍ امتصّت الدموع، على جدرانٍ استمعَت لكلمـاتِ عزاءٍ ونحيب ، على مدينةٍ فقدَت روحًا ، كان حيًّا ، لم تذهب هذهِ الروح للسمـاء، بل كانت هنا على الأرض، تفصلهُ عنهُ بلدانٌ جـائرة.
همسَ بصوتٍ يتلاشى خلفَ غمـائمِ الحُزن : وينك؟ أبي أشوفك .. أبي أصدّق إنك حقيقة .. أبي أضمّك .. أبي أستوعب إنّ هالحيـاة خدعتني .. أبي أشوفك يا متعب عن ثلاث سنين ، عن شهور وعن دهـر ، عن دمُوع أمّي ، عن حُزنها وحُزني ، عن بيتنا اللي صـار كئيب أيـام وشهور ، عن هالأرض اللي ما ابتلعتك بس ما كان بيدها حيلة وما تقدر تعترف ببطش غيرها ! . . .
متعب بألمٍ يضغطُ بأصابعهِ على أجفانه : بطّل هالأسلوب .. خلاص بطّل هالتمثيل !!!
شاهين لم يعُد يستوعب شيئًا غير أنّه يسمعه، غير أنّه حقيقة، غير أنّه بالفعل حيٌّ حتى غابت معانـي كلماته بل لم يُدرك أحرفها من ضجيجِ صدرِه الباكِي، أردف بخفوت : وين كنت؟ ليه غبت؟ ليه بكيناك ومتنا أحيـاء؟ ليه غصّينا باسمك وعجزنا نقوله لليوم؟ عشان امي، عشان حُزنها ، كنت أحاول أنسى أقُولك بس ما أحاول أنساك! .. ليه صار هالشيء؟ ليه صار فينا كل هالوجع؟
رفع متعب رأسهُ يُحاول أن يُغرق دموعهُ في أحداقهِ ولا تظهر، ابتلعَ ريقهُ بصعوبةٍ وهو يعجزُ عن استيعاب هذهِ الكلمـات، كيف يستطِيعُها؟ كيف يقوى على قولِ هذه الكلمات ولا يغصُّ بكذِبه؟
شاهين بإرهـاقٍ حـاد : قولي وينك .. قولّي يا متعب وينك!! خلاص مافيه شيء له الحق يمنعني أشوفك .. ما أدري ليه سوّيت فينا كل هالشيء وغبت عنّا بس خلاص! لهنا وبس ، كافي تهرب من موطن اسمك وكافي تغيب عن عيون هالسمـا، * صرخ بغضب * ودك تذبح امي أنت؟ ودك تذبحها بهالغياب؟ ودّك تذبحها بهالسنين اللي كانت عصـا تجلدها وتحوّلها لخنجر ينحرها؟
هزّ متعب رأسهُ بالنفيِ وهو يُغمض عينيه دون تصديق، دون استيعابٍ لهذهِ الكلمات المُتحسّرة وهو الذي أضـاع ثلاث سنينَ من عُمره، بغيظ : أنت آخر شخص له الحق يسأل هالأسئلة .. آخر شخص . .
فتح عينيه ليصرخَ بقهرٍ لم يستطِع أن يُخفي كلماتهُ من ورائِه : أخذتها؟ مثل ما نعمت بشوفة أمي هالسنين نعمت بحضن زوجتي بعد !! وش باقي بعد هالقهر؟ وش بقى يا شاهين ما سويته فيني !! وش باقي ما انحرمت منه .. سنين وأم وحبيبة .. عُمر وهويّة وفُرات ، ما لقيت شيء يطفي هالعطـش، ما لقيت غير الجفاف!
شتّت عينيه بضياعٍ وهو يشعُر بصدرِه يؤلمُه حين ذكَر أسيل في غُمرة قهر، حتى الآن كان عقلهُ يتغافـل عن هذهِ المُعضلة، لكنّه الآن لا يستطيع الهرب منها ، لفظَ بغصّةٍ ويأس : اسمع .. للحين أحسني ضايع ومو مستوعب شيء .. موضوع أسيل ينحل .. تكفى متعب لا تشيلها بقلبك والله بينحل، كل شيء ينحلّ عشانك كل شيء بينحل . .
متعب بجنون : ما شاء الله وعندك قدرة للحين تحكي؟ كل شيء عشاني ينحل هاه! تقدر تحلّ هالسنين وهالغُربة وهالضياع؟
شاهين وهو يتذكّر كلمات سند بأنّ متعب في عودتِه سيكُون حاقدًا لأنّه أخذ أسيل منه : بالأول فهمني وش صار لك وش اللي حدّك على هالغربة بعدها أوعدك ما يصير غير اللي تبيه بس لا تسوي فينا كِذا عشان أسيل!! تكفى متعب مافيه شيء يسوى تبعدنا عن بعض أكثر !! أنا آسف بس لا تسويها فينا لا تزيد هالسنوات عدد.
متعب يهزّ رأسه بتشويشٍ لا يستوعب البساطة التي يتحدّث بها، صرخَ بنفاد أعصاب : يكفـــــي خلاااااص يكفي .. أنا عارف كل شيء وقّف هالتمثيلية البايخة !!
شاهين بيأس : متعب تكفى لا تصعبها علينا أكثر! لا تذبح قلبي اللي ودّه يوقف الحين من اللي يصير ماهو مستوعب شيء والله ماني مستوعب إنّك حي!!
ابتلعَ متعب غصّةً في حلقـه وهو يُبعد الهاتف عن أذنهِ ويُنهي هذه المُحادثـة العقيمة، يُنهِي هذا الضيـاع الذي استكَن بين أضلعهِ أكثـر، يُنهي الوجع الذي يتخلّف فيه أكثر من كلمـات شاهين . . ما الذي فعلتهُ بنا يا شاهين؟ ما الداعي لتغرسَ كل هذا الوجع؟ ما الداعي لذلك ؟!!

بينما نظر شاهين للهاتفِ بيأسٍ بعد أن أغلق، هزّ رأسه بالرفض، لا يمكنه أن يفعل ذلك، لا يمكنه أن يختـار الجفـاءَ لأمرٍ لم يكُن بيدهِ كاملًا، لم يتعمّد ذلك، لم يكُن يدري! ليته تركها حين كانت ترفضهُ في بادئ ارتباطهما ، ليتهُ تركها ... آه يا متعب لا تفعلها بنا ، لا تفعلها بعد أن عدْت وكدت تقتلني بعودتِك . . . أعاد الاتصـال برقمِ أدهم لكنّه كان يتجاهل اتّصاله في كلّ مرةٍ يتّصل بها، اتّصل بهِ عشر مرّاتٍ ربّما وملامحهُ تشحبُ أكثر، شدّ على الهاتفِ وهو يذهبُ تلقائيًا للرقم الدي حادثه منه متعب قبل ساعاتٍ طويلة، يجب أن يحادثه، يجب أن يلتقي بِه ، لا يُمكن أن يولد هذا الهُجران بعد معجـزة، بعد عودةِ ميّت .. اتّصل به، لكنّه وجدهُ مغلق . . . مستحييييييل ، مستحييييل .. لا تفعل ذلك يا متعب ، أرجوك لا تفعل ذلك بنـا . . تنفّس بقوّةٍ وهو يقطفُ بأناملهِ دمعةً وهميّةً ظنّها سكنَت على خدّه، تجفُّ حنجرتهُ ليشعر باحتكاكٍ حارقٍ بينها وبين كلمات الرجـاء النابعةِ من ألمـه : تكفى متعب .. أبي أشوفك .. أبي أشوفك عشان أتأكّد إن كل هالشيء صدق ، أبي هالصدق ، أبيك تكون حقيقة ، كل شيء ما يهمني .. ما عاد يهمني ، ما عاد يهمني غير أشوفك قبل لا أمُوت بهاللحظـة . . . يا الله متعب حي ! متعب حي ؟!!!! وش اللي قاعد يصير! وليه؟ لييييييه صار؟!
غطّى عينيه بكفّهِ وعض شفتهُ الشاحبة وهو يتنفّس بقوة ، لمَ حدثَ ذلك لنـا؟ لم اقترفت تلك الليلة البكـاء في عينِي؟، لمَ مت؟ ما الداعـي لهذا الزيفِ في الممات؟ ما الداعـي لحُزننا؟ كان يجبُ أن ينصبّ في الغيـاب، لا في الممات . . الموتُ قاسٍ يا متعب ، الموتُ قاسي، واندثَرت قسوتهُ حين تراءى لنا زيفه ، الزيفُ يقتل أكثـر، الزيفُ الذي جعلنـا نحزنُ سنين . . لمَ فعل الموتُ بِنا هذا؟


،


عبـر الشوارعَ بقلقٍ وهو يعود ليتّصل بِرقم سُلطان ولا يرد عليه، عضّ باطِن خدّه، يرفعُ هاتفهُ من جديدٍ ليتّصل برقمهِ ولا يحدُ ردًّا مرةً أخـرى ، ما الذي حدث حتى لا يردّ عليه بعدد هذهِ الاتصالات التي أغرق هاتفهُ بها؟!!
زفـر بحدةٍ وأعصابهُ تكادُ تنفجر، وبغيظ : رد يا سلطان رد !!
اتّصل من جديد، لينتهي الرنين بالصمت، تأفأف بغضبٍ وعـاد ليتّصل ، وحين كـاد الرنينُ أن ينتهي وصل إليه صوتُه ، لا لم يكُن صوته! كان صوتُ . . سلمان !!! : ألو . .
عناد دون استيعابٍ يهتف : عمي؟ * زمّ شفتيهِ قبل أن يُضيف بقلق * لحظة .. لا يكون صار شيء لسلطان؟
سلمان بهدوءٍ وهو يبتعدُ عن سُلطان الذي تركهُ ينامُ في غرفة الضيوف : ما عليك هو بخير .. حاليًا نايم.
عناد باستنكارٍ لا يكادُ يستوعب شيئًا : نائم؟ وش قاعد يصيييير؟
سلمان يبتسم : كان شقي شوي وضربته لين طاح.
عناد بصدمة : لا طبعًا !!!
سلمان : ههههههههههههههههه بخير تطمّن مافيه شيء ، بس عطيته جرعة تأديبية.
عناد بحنق : أنت وش قاعد تسوّي بالضبط؟ ودّك تقتله والا شلون؟!!!
سلمان ببرودٍ مُستفز : يمكن.
عناد : أنتوا ببيتك صح؟ ماني متطمّن للي يصير وراك بلوة بتقتل سلطان بيوم من الأيـام .. وش وصّله لبيتك أصلًا؟
سلمان : والله عاد هو اللي جاني محترق ووده يهاوش.
عناد : اخخخ يا ربي بتقتله بيوم والله العظيم بتقتله!!! ... أنا جاي سامع؟ ولو آذيته بشيء وقتها أظن بنفجر أنا هالمرة.



،


وقفَت أمـام المرآةِ وهي ترفعُ شعرها وتتأمّل ملامحها الهادئة، سمعَت صوت البابِ فجأة ، حينها ابتسمَت تلقائيًا وهي تنظُر لشاهين عبـر المرآة، استدارَت لتهتفَ برقّة : اليوم ماشاء الله نشيط أمداك تطلع وترجع وأنا تو من شوي أصحى.
لم ينظُر شاهين إليها ، بل كـان يتحاشاها منذ دخـل وسقطَت أنظارهُ تلقائيًا عليها وهي ترتدي روبَ الحمـام ، هذهِ الأنثى ليسَت من حقّه ، ليس لديه الحقُّ في التفكير قبل القرار ، هذهِ الأنثـى ، كانت لاخيه ، وهو اختطفها !! لا يُهم الحُب ، لم يعُد يهمُّ في معمعةِ الحقيقة.
غابَ بريق الحياة عن عينيه، لم ينظُر نحوها، وهو يهتف بصوتٍ ميّت : جهزي شنطتك والبسي عبايتك ..
اتّسعت عيناها بصدمةٍ قبل أن تخفتا قليلًا وهي تعقدُ حاجبيها باستنكار : أجهز شنطتي؟ ليه؟!!
شاهين ببرودٍ وعيناه حتى الآن لم تسقُط عليها : لأنّك . . .

.

.

.

انــتــهــى . .


موعدنا القادم يوم الخميس بما أنّي اضطريت أبتر كم موقف من بارت اليوم وأقصره شوي لسبب في نفس يعقوب :(


ودمتم بخير / كَيــدْ !

أبها 31-05-16 05:41 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
ما شاءالله تبارك الله

سلمت يمناك كيد ..روعة
الحمدلله إن شاهين إلى الآن ما صابته جلطة
بكل موقف في وصف للأزمة اللي يمر فيها
أقول الحين بيوقف قلبه .. 😊

ما اعتقد إن الكلمة اللي القاها شاهين لأسيل
انت طالق .. شاهين أعقل من ان الحلول اللي يختارها
تكون بدون تفكير ..
يمكن يقولها قعدي عند أهلك كم يوم ، على ما تترتب
أفكاره ويقدر يلتقي بمتعب ويعرف الموضوع منه ..

جيهان .. أخيرا اقتنعت إنها بحاجة لعلاج نفسي
ورب ضارة نافعة .. طلاقها كان سبب في عودتها
لحضن أبوها اللي ما راح تلقى أحد احن عليها منه .

كل الشكر والتقدير كيد
بانتظارك ..🌸

fadi azar 31-05-16 01:56 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فرحت انه اخيرا اقتنعت جيهان ان تشوف دكتورة نفسي لكب تخلص من جميع جروحات النفسة وبعد زالك ستكون قادرة على مواجهة احياة حتى من دون وجود فواز
شاهين تسرع في تطليق اسيل فهي الوحيدة اللتي تاخز قرارها في ابقاء معه او لا عند معرفتها الحقيقة

bluemay 02-06-16 10:51 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
راااائع الفصل ودسم كتير ..

يسلمو ايديك

وسامحيني عالمرور السريع ...


لك ودي



«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

كَيــدْ 02-06-16 08:12 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


-
-

السلام عليكم والرحمة ، مسـاء الخير :$

موعدنا راح يكون الفجر، حاولت أكون مخلصته بهالوقت بس طلعت لي أشغـال منعتني ، لذلك بيكون البارت عندكم خلال السـاعة السادسة صباحًا أو بعدها بنص ساعة.

+ بعد هالبارت بيكون فيه بارت ثاني الاثنين أو بليل الأحد ، خلاص قرّرت أصدمكم بالمواعيد القريبة :P



كَيــدْ 03-06-16 05:34 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكـم طاعة ورضـا من الرحمَن
إن شاء الله تكونون بألف صحّة وعافيـة

البارت اليوم اتوقّع مليء بتوضيحات كثيرة وهالمرة تجاوزت - ما بين السطور -، يا كثر ما أرمي لكم شيء وما تلقطونه عاد اليوم أمُور كثيرة شبه واضحـة لكم فركّزوا . . :$

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام :$$

بسم الله نبدأ
قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

* المدخل اقتبـاس من الجميلة shid|||

وينك؟
رحت ولا شبعت منك
رحت ولا طمنتي عنك!
رحت ناسي من وراك..
شخص يموت ولا يبعد
عن عينك..
وينك؟
اهلكني فراقك و ذكراك
اغراني الشجن لمسعاك!
مالي سند ، كني يتيم ..
موتك كسرني يالعضيد!
امانه طمني بس!!
انت على قيد الحياه؟
او اني على قيد المودع؟.



(74)*2



دخـل المنزل، هذا الذي أرادَ أن يبتعدَ عنهُ سنينَ ابتعـاد متعب، إن كانت هذهِ الساعاتُ الماضية لم تستطِع مداوَاةِ خذلان السنين فلن تستطيع سوى سنينٍ أُخَر، أن يغيب، ويغيبَ حتى يذُوق في الغيـابِ مرارته، يذوقهُ ويعرفَ نفوذَ سمومه ، هل تنشر أورامهُ في كلّ العرُوق؟ أمْ لا تُصيبُ بأيّ آفة؟! لا تؤثّر! فمتعب حتى بعد أن عـاد وجدَ للجفـاءِ عذرًا لن يقُول عنه سخيف ، لكنّه موجعٌ أن يخوّله لذلك! موجعٌ لأنّه فقط .. واللهِ لم يكُن يقصد!!
أقدامُه تتحرّك دونَ هُدى ، لم يكُن ينتبه أنّ خطواتهِ قد ارتحَلت لغرفـة والدتِه، وقفَ أمـام بابِها، وانعقدَ حاجباهُ وهو يبتلعُ ريقهُ بصعوبة بعد أن استوعبَ وقوفهُ هُنـا ، لم يشعُر بقلبهِ وهو يُناجيها، لم يشعُر بلسانهِ وهو يتحرّكُ دون صوت : يمّه سمعت صوته!
لم يشعُر برأسهِ الذي مـال قليلًا في زوايةِ خيبـةٍ بالفـرح، لم يستطِع الفـرح، لازالت الدُنيا ضدّه خلال هذهِ السنين، لم يستطِع أن يضحك، لم يستطِع أن يراه ، يضمّه، يقبّل رأسه كما السابق ويبتسمُ وهو يهمسُ لهُ بكلماتٍ رسميّةٍ لا تليقُ بهِ فيضربهُ متعب على بطنهِ وهو يبتسمُ لافظًا " ما يليق عليك هالاحترام "، أين رحَلت هذهِ الأيـام التي عاد يستذكرها بعد سنين؟ لا يُمكن أن ننتهي قبل أن نبدأ .. هل رأيتِ ذلك يا امي! هل علمتِ ما فعَل؟ ما قـال لي؟ هل علمتِ أنّ ابنكِ البكـر حيّ، واختـار الجفـاء لأجلِ أسيـل، لأجلـها اختـار أن ننتهي حتى قبل أن ألقـاه وأقتنع أخيرًا بأنّه حي، لازلت أريد دليلًا ملموسًا فصوتُه لا يكفي ، صوتهُ الذي أخـاف أن يكون خدعـة، أريد أن أراهُ وأضعَ كفّي على كتفهِ كي أتأكّد أنه ليسَ طيفًا، أريد أن ألقـاه يا أمّي .. أريد ذلك بشدّةٍ وأحتـاجه.
تراجـع بصمتٍ وحلقهُ يلتوي بجفافهِ الذي شعر بهِ أنّه يتصدّع، اتّجـه للدرج، هذهِ الحيـاة التي تختارُ التحدّي ، وسيقبله، هذهِ الحياة التي تختارُ التحدي .. سيفُوز عليها . . آسفٌ لحبّه ، آسفٌ لأنّه يتألـم ، آسفٌ يا أسيل لأنّي حين اخترتِ الفراقَ رفضت، آسفٌ لأنّي أحببتك! آسف، لكنّ ذلك ليس طوعَ يدي ، آسفٌ لنفسي " العشقانة "، آسفٌ لأنّي تشوّشت كفايـةً ولا أريد التفكير بشيء ، لا أريد شيئًا سوى أن نعُود سنين وأنْ لا أحبّك هذا الحُب الذي لا يريدُ الجمع بيننا ، عـارٌ علي، عـارٌ عليّ ما حدث، عارٌ عليّ أنِ التقينـا وأعتذرُ لهذا الزواج الذي تهادى بزيف، أعتـذر لك يا متعب ولكِ يا أسيـل ، اعتذر لأنّني الانسان المُخطئ والذي أحبّ اثنين عشقـا بعضهما . . .
توقّف بمرارةٍ عند نهاية الدرجِ وهو يشدُّ على " الدرابزين " بلوعـة، لا يُمكن للحيـاة أن تكُون قاسيةً بهذا الشكل! لا يُمكن لها فعل ذلكِ بنـا ، أن تُدخلنا في حلقةٍ ثُلاثيّةٍ ترفضُ أن تنفكّ في إحدى الزوايا وتُخرجنا ! . . رفعَ رأسهُ للأعلى بحركةٍ لا إراديّةٍ وهو يبتلعُ ريقه . . ستُخرج منّا اثنين .. اثنينِ فقط ، قد أكون أنا وهو ، وقد يكون أنا وأنتِ ، أو أنتِ وهو !! يا للقسـوة! يا للقســوة!!! من أين للحيـاةِ هذهِ السيكوباتية حتى تُمارسها علينا، كيف انسلخَ منها الضمير، كيفَ انسلخت من الحيـاة قناعةُ العطـاء وبقيَ فيها الأخذ الذي مركـزته على علاقاتٍ قويّةٍ كهـذه . . تحرّك مترنّحًا وهو ينظُر أمامه بفراغٍ لا يملكُ في جعبةِ نفسِه سوى اللوعـة والخسران، اتّجه لجناحِهما، فتح البابَ بآليةِ الضعف، اتّجه مبـاشرةً لغرفتيهما، وقعت عيناه عليها ما إن دخـل، كانت ترتدي روب حمامٍ أبيضَ كقلبها الذي بالتأكيد لازال يعشقُ متعب، أشـاح نظراتهُ عنها تلقائيًا وهو يبتسمُ ومعدتـه يشعر أنّها تحترق، اختـار التضحية بقلبه ، لأجـله ، لأجـل أخوّةٍ دامَت سنينَ ولا يُمكن أن تنتهي ببساطة، لا يُمكن أن تنتهي بعد أن بُعث متعب من الموتِ بمعجزةٍ مـا . .
لم يرها حين استدارت ونظرت إليه مبتسمةً برقّة، لتلفظَ بصوتٍ مُداعب : اليوم ماشاء الله نشيط أمداك تطلع وترجع وأنا تو من شوي أصحى.
أغمضَ عينيه بقوّةٍ وهو يتنفّس بتحشرج، لفظَ بصوتٍ ميّتٍ لا يملكُ فيه أيّ تعاليـمٍ للشعور : جهّزي شنطتِك والبسي عبايتك
هُنـا ننتهي، الأشهُـر، الأسابـيع، الأيـام ، لفظتها حياتنا الثلاثية! ، هُنـا ننتهي ، لأنّ البدايـة لم تُكتب لنا متّزنـة، لأنّ البدايـة كانت هشّة، لأنّ الله ربطكِ بأحدِهم، بأغـلى من أحب، هُنا ننتهي يا أسِيل ولا أريـدُ لقلبي أن يهتزّ لأنكِ لم تكوني لي قط .. في هذهِ اللحظـة لا أشعُر بالألـم بحجمِ ما ينحرنِي الحرجُ منه، لا أشعُر بالألـم بحجمِ ما أريد للأيام أن تعُود ولا أقترف هذا الارتبـاط وأؤذيه، أن لا أحبّك، أن لا أقـع في هوى عينيك .. قاسٍ واللهِ هذا الهوى لم يربُط على قلوبنا بالاتّزان ، نحنُ نبكي لوعةً حينما نُحب، نبكِي بتقويس شفاهِنا، بشحوبِ جلدنا الذي احترقَ بشمسِ الشرقِ الذي تطبّع بسمارِ رملِه على قلوبنا، نحنُ الشرقيُّون أشقيـاء ، لا أقُول ذلك رثـاء، بل أقوله حسرةً على قدرٍ جمعنـا في لحظةٍ مـا بهذا الشكلِ المُخزي.
وصل إليهِ صوتُها المُستنكر : أجهز شنطتي؟ ليه ؟!!
شاهين يشعُر أنّه يغص، ينظُر للسريرِ المُبعثرِ أمامه وهو يبتلعُ ريقهُ ويهمسُ داخلـه بمناجاة " ياربّ القوّة "، لفظَ بأسـى : لأنّك .. لأنّك .. لأنك لازم تروحين من هِنا .. لأنّك انتهيتِ وانتهيت أنا من هالحيـاة اللي جمعتنا.
أجفلَت، بقيَت تنظُر لهُ بنظراتٍ غيرِ مستوعبةٍ وهي تعقدُ حاجبيها، هنـاك خطأٌ ما في كلماته، هل يعني الفراق؟ هل يعنِي الفُراق؟ . . ارتعشَ فكّها وهي تُشيح برأسها جانبًا وتهزّه برفضٍ دون تصديقٍ لما يجري، ليسَ بخيرٍ منذُ أيـامٍ والبارحـة تضاعفَ الوبـاءُ فيه، ما الذي يحدثُ له؟
ابتلعَت ريقها بتوترٍ وهي تعُود للنظرِ إليه لتهمس ببهوت : ليش؟
أغمضَ عينيه وهو يرفعُ كفّه ليضغطَ بسبّابته وإبهامه أعلى أنفهِ، وبنبرةٍ ميّتة : لأنّ كل شيء كـان غلط ، كل شيء يا أسيل أنا آسف عليه.
أسيل دون تصديق : آسف على أيش؟
فتحَ عينيه، لم يستطِع منع أحداقهِ من الارتحـال إليها والنظر لملامحها لخمسِ ثوانٍ فقط قبل أن يبتلع ريقهُ بصعوبةٍ ويشيح بنظراته، لفظَ بخسران : على " أنا أحبّك " بعدد هالنجوم، لأنّي غلطت! النجُوم عُمرها ما كانت دايمة ، النجوم تختفي بالنهـار . . جانا النهار يا أسيل جـاء! .. أنا آسف لأنّك كنايتي عن هالحيـاة.
رفعَت كفّها لتضعهُ على رأسها وهي تُغمض عينيها وتُتمتم دون تصديق : يارب إنّي أحلم ! وش اللي قاعد يقوله !!!!
ابتسم : المنطـق ، للأسف!
فتحت عينيها لتنظر لهُ بحدةٍ وتصرخ بجنون : المنطق يقول لازم يكون فيه سبب! ليه تبينا نفترق؟!!
شاهين بابتسامتهِ المُتأسّيـة تراجع ، كلّ شيءٍ بات فوقَ طاقتِه، لا يعلـم كيف مازال حتى الآن صامدًا ولم يسقُط بثقلِ ما حدَث لهُ منذُ الصبـاح.
استدارَ حتى يخرج، توقّف لثانيتين فقط، قبل أن يشدّ قبضتيه ويلفظَ بنبرةٍ لا جدال فيها : جهزي نفسك خلال نص ساعة .. برجع ألاقيك لابسة عبايتك.
تحرّك ليخرج، لكنّ خطواتها اقتربَت منه باندفـاعٍ حتى أمسكَت ساعدهُ بقوّةٍ وهي تلفظُ بحدّة : فسّر لي كل شيء بالأول . . ماراح . . .
قاطعها شاهين حين سحبَ يدهُ بحدةٍ وصرخ وهو يدفعها للخلفِ قليلًا : لا تلمسيني!
صرخَت بغضبٍ هي الأخـرى بعد أن توازنت قبل أن تسقط : ماراح أطلع من بيتي سامع! معصب من شيء فرّغ عصبيتك بعيد عني .. مالك حق باللي تسويه لأنّي ماغلطت بشيء!
استدارَ لينظُر لها بعينين تشتعلانَ غضبًا، وألمًا! . . لفظَ بحرارةٍ وعصبية : ماهو بيتك! للأسف ما كـان بيتك ... اطلعي يا أسيل .. اطلعي مالك رجعـة لهالبيت إلا وأنتِ لغيـري . . * ابتسم بحسرة * هذا إذا مشَت الأمور بسهولة ، السهل ماله وجود للأسف! واحد منّا بيختفي من هالبيت ، بيتركه، وماراح أرضى يكون هو.
بهتت ملامحها وهي تنظُر لهُ دون استيعابٍ للكلمات الذي ينطقها، من الذي يقصدُ بـ " غيري "، الضمير المستتر في " هو "!! . . ابتلعَت ريقها وهي تلفظُ بصوتٍ شاحب : وش قاعد تخربط أنت !!!!
شاهين يمسحُ على جبينهِ بانفعالٍ وهو يزفُر أنفاسًا ساخنـة ، وبحدةٍ استدارَ نحو الباب، لم يشعُر بنفسهِ وهو يقبضُ كفّه اليُمني بقوّة، اندفعَت قبضتهُ فجأةً ليضربَ بها زاويـة الإطار ولا يُبالي بالألـم الذي نفَر بأعصابِه الحسيّة، ضربه مرّةً أخـرى، لم يكُن يضربُ الجدار بل كان يضربُ نفسه، كـان يعاقبُ نفسه ، يؤلـم جسدهُ الذي تطـاول على ملكِ أخيـه، قلبهُ الذي نقـش اسمها وهي لسواه ، لأنّه أحبّها! بأيّ حقٍ أحبّها قلبـه ، بأيّ حقٍ وهـي لسواه.
تأوّه بقهرٍ وغضبٍ وهو يرفعُ قبضتهُ الأخـرى بعد أن تخدّرت مفاصل يدهِ اليُمنى ولم يشعر بالألـم مع الضربـات، عاد يضربُ بيدهِ الأخرى بينما كانت أسيل تضعُ كفّيها على فمها وعيناها تتّسعان دون تصديقٍ لمـا يجري، لم تستطِع الاندفـاع أليهِ وإيقـافه من جنونه، بقيَت باهتةً تنظُر لهُ وقلبها يصرخُ بين أضلعها بانفعال الأدرينالين في دمها، صرخَ شاهين بغضبٍ يشتمُ نفسهُ بقهر : أنــا حيوااااان .. شلون دخلت بخاطـري وهي كانت لأخوي! شلون تجرّأت؟! شلووووون حبيتها شلووون؟!!!!!
هزّت رأسها بالنفيِ أخيرًا وهي تُدرك أخيرًا أن متعب أحد أسبـابِ حالته الآن، لم تفكّر كثيرًا، لم تبـالي كثيرًا وهي تصرخُ بانهيـارٍ وتُمسك ذراعَ يدهِ التي لازال يضربُ بها نتوء زاوية الإطـار : يكــــفـــــي خلاااااااص .. كسرت يدك يكفففففففففي . .
أمسك يدها التي تُمسك بيدهِ بقسوةٍ ومن ثمّ رماها بعيدًا ليوجّه وجههُ المُحمرّ إليها وهو يلفظُ بنبرةٍ حادةٍ رُغـم إعيائِها : لا عاد تلمسيني! قلتها لك وما أبـي أكرّرها .. لا عاد تلمسيني !!!
تراجعَت للخلفِ وصدرها يرتفعُ بأنفاسٍ مذعُورة، رفعَت يدها المُرتعشة لتضعها على صدرِها وهي تنظُر لهُ بعينٍ دامـعة، وبصوتٍ مُختنق : إذا طلعتي من هالبيت بتريّحك وتخليك توقّف هالجنون .. لك اللي تبيه.
أسدل أجفانهُ قليلًا وهو يتنفّس بانفعال، يدهُ التي تخدّرت بعد جنونِه، لم يملك ما يقُول، أُخرست الكلمـات وتبخّرت على شفتيه، نظـر للأرضِ بإرهـاقٍ صامت، ببؤس، بينما ابتعدَت أسيل للخزانةِ حتى ترتدي ملابسها ومن ثمّ تستعدُّ لتخرج كمـا يريد، ولم تستطِيع أن تصمت عن كلماتِ الحسرة والخذلان التي وجّهتها إليه بعتب : بس لا تنسـى ، ماراح أسامحك على كل ذا ، ماراح أسامحك على طردك لي من حيـاتك بدون ما ترضي عقلي ولو بنص تفسير !!


،


شدّ على أجفانِه بقوّةٍ وهو ما بين الوعيِ وفُقدانِه، حرّك يدهُ دونَ شعورٍ ليضعها على رأسهِ الثقيل، وأصواتٌ بعيدةٌ تأتيهِ من الخـارجِ مُختنقةً بترسّباتِ المنـام، أصواتُ عنـاد وسلمان التي اختلطَت ببعضها فلم يُميّزها عقله.
عقدَ حاجبيه، وارتخَى شدّهُ على أجفانِه، فتحَ عينيه ببطءٍ لينظر للسقفِ المشوّش أمامهِ دون أن يميّز حتى الألـوان! مكث لثوانٍ قبـل أن تستوعبَ عينـاه الصورة أمامه ويراها بصفائِها، همس داخلـه باستنكارٍ ثقيلٍ كجسده : ويني أنا؟!
جلسَ وهو يُحـاول استيعاب المكـان الذي هو فيه، أن يتذكّر ما حدث قبل أن ينام .. متى نام؟ وكيف نام هُنا !!!
مرّر أنامله بين خصلاتِ شعره المُبعثرة وهو يُمرّر لسانه على شفتيه الجافتين، يجعّد ملامحه حتى يتذكّر ما حدثَ وكأنّه بذلك يعصرُ ذاكرتهُ لتنزفَ بما قبل ساعات. لم يستغرق كثيرًا حتى تبدّلت ملامحهُ فجأةً وعقلهُ الذي " صحصح " تذكّر ما حدَث، حرّك رأسـه بانفعالٍ ينظُر للغرفـة التي هو فيها، شدّ على رأسـه بغضبٍ وهو يكـاد يشتمُ الحال الذي هو فيه، كيف يتجرّأ؟ كيف تجرّأ على إفقادهِ الوعي!!
سمعَ الأصواتَ تنبعثُ من جديدٍ خارجًا، عقد حاجبيه بضيقٍ وهو ينظُر للبـاب وقد كان صوتُهما لا يكفي حتى تصلهُ الكلمات، جلسَ على طرفِ السريرِ بحدّةٍ وهو يزفُر بغضب، انحنى ليتناول حذاءه بجانب السرير ويرتديه على عجلٍ ومن ثمّ نهضَ وهو يلمحُ شماغه المفروش على الأريكةِ البيضـاء المُمتدّةَ كسـرابِ ماءٍ شابـهُ سمّ أفعـى ماكرة، ابتسم بسخريةٍ وهو يتّجه إليه وقد كان سقط منهُ في الوقت الذي دفعهُ فيهِ سلمان في المجلس، وضعهُ على كتفهِ بفوضويّةٍ وبقي مُمسكًا " بعقاله " ومن ثمّ اتجه للبـاب حتى يفتحه، ما إن خـرج حتى وجد سلمان يجلسُ في الصـالة الصغيرة التابعةِ لغرفـة الضيوف، يتّكئ بمرفقهِ على ذراعِ الأريكـة بينما ذقنهُ الخشنِ على كفّه، عقدَ حاجبيه بحدةٍ وهو يرى الواقفَ أمام النـافذة، عنـاد !!!
سلطان باستنكار : عنــاااد !!!
استدار عنـاد بسرعةٍ إليه في ذاتِ اللحظـة التي نظـر فيها سلمان إليه بنظراتِه الجامدة، ابتسم عنـاد وهو يتّجه إليه : شلون تحس نفسك الحين؟
سلطان بجفـاء : ماصار لي شيء أصلًا * وجّه نظراته الحاقدة لسلمان قبل أن يردفَ بانفجـارٍ مُفاجئ * أقرفتني بعيشتي ! وشو له تحاول تنقذني أصلًا؟ مين قالك تهتم! تبيني أعيش أكثـر عشان توجعني يعني؟!! * بقهر * حسبي الله عليك .. حسبي الله عليك.
تقدّم سلمان بجسدهِ للأمـامِ قليلًا وهو يسندُ مرفقيه هذهِ المرّةَ على ركبتيه ويترك لذراعيه أن تتدلّى في الهواء، وبابتسامةٍ باردةٍ مُستفزة : هدّي أعصابك شوي يا يبه ترى ما يسوى ..
تنهّد عنـاد وأغمض عينيه بيأسٍ وهو يلتزم الصمتَ دون أن يتدخّل بالحديثِ بينهما، بينما هتف سلطان بحدة : قلتلك لا تقول يبه!
سلمان بجمود : طيب قد قلت لك أنا إنك بزر؟
سلطان بعنـادٍ ساذج : أيه قلت .. أنا بزر وعصبي وأتنرفز بسرعة وحاب هالشيء عندك اعتراض لا سمح الله؟!
ابتسمَ سلمان رغمًا عنهُ بينما وضعَ عناد كفّه على جبينهِ وهو يتنهّد مرّةً أخـرى، أعـاد سلطان كفّه لخلفِ عنقهِ وقد شعر بلصقةِ الجروحِ منذ البداية، نزعها بحدةٍ ومن ثمّ رماها على الأرض وهو يهتفُ بغضب : الله لا يسلم يدينك النجسـة هذي .... ممكن أنسـى وجودك بحياتي؟
سلمان باستفزازٍ وهو يبتسم : ممكن طيب تهدى؟
سلطان : لا تحاول تستفزني!
سلمان : ما أحاول لأنّك أصلًا مُستَفز حتى قبل لا أقول كلمـة .. وش مقوّم شياطينك أنت؟
سلطان بحقد : الشيطان الوحيد اللي كـان يحياتي كلها هو أنت .. للأسف!
اقتربَ عنـاد في تلك اللحظـة منه ومن ثمّ وضـع كفّه على كتفهِ وهو يلفظ بهدوء : يكفي سلطان .. امشى خلنا نطلع.
صفع سلطان يدهُ بانفعالٍ لينظُر لهُ بشررٍ وهو يهتف : وأنت وش جابك لهنا وليه واقف معاه وتسولف وياه بعد !!
عناد بهدوءٍ يحاول بهِ أن يمتصّ غضب سلطان، يفهم هذهِ العدوانيّة جيدًا والتي قد تجعله يؤوّل تواجده بالخيانةِ ربّما! : كنت أتّصل على جوالك ورد هو وعرفت منه اللي صـار فجيتك . .
سلطان يعقدُ حاجبيه : مين قالك تجي؟
عناد : السؤال لك .. ليه جيت عشان تتعّب نفسيتك بس؟
سلطان برفض : أتعّب نفسيتي؟ عشانه؟!!! أنصحك تراجع أفكارك.
عناد يومئ برأسه : صح ممكن أكون غلطان.
سلطان بغضبٍ يدفعهُ من كتفِه : وش قصدك؟ تعاملني مثل البزر؟ والا قاعد تشوفني مجنون بس!!
عناد يُمسك معصمَ يدهِ التي دفعته وهو يلفظُ باتّزان : تعوّذ من ابليس وخلنا نمشي.
سلطان يُمسك معصمهُ بيده الأخرى بعنف، دفعَ يدهُ عنهُ بحدةٍ ومن ثمّ هتف بعدائية : اتركني .. ما أحتاج توجيهاتك . .
تحرّك بغضبٍ ينوي الخروج، لكنّ صوتَ سلمان جاءَ ساخرًا منعهُ من إكمـال خروجِه : غبـــي !!!
توقّف لثانيتين فقط، ومن ثمّ ابتسم بغيظٍ وهو يـكمل خطواته.
سلمان ببرود : عقلك متلحف بكومـات الغضب لين ما صرت كتلة غبـاء تمشي .. شايف قد أيش العصبية والانفعـال يأثّرون في الشخص؟ المرجلة ماهي بالعصبية والانفعالات يا سلطان!
شدّ على شفتهِ السُفلى بأسنانِه وهو يبتعدُ ولا يُبـالي بكلماتِه، نصيحته التي قالها لهُ أوّل مرةٍ قبل سنين طوال وفي مكتبةِ والده . . خـرج دون أن يُبـالي بتفسيراتِ ذلك الهجوم، دون أن يخـاف من فكرةِ أن يُقتـل الآن ما إن يخرج.
بينما نظـر عناد لـِسلمان عاقدًا حاجبيه وهو يلفُظ بحدة : وقّفه ! لو صـار له شيء أنت السبب!!
تراجعَ سلمان بظهرهِ للخلفِ وهو يُغمضُ عينيه ويتنهّد ببرود، وبنبرةٍ هادئـة : ماراح يصير له شيء .. الهجوم كان قاصدني أنا ، وشكلهم أول ما شافوا ظلّه من ورى النافذة خلطوا بينه وبيني ... ماراح يصير له شيء.
عنـاد يعقدُ حاجبيه : الرازن؟!
فتحَ سلمان عينيه لينظُر لهُ بحدة، وبتحذير : عناد انقلع من وجهـي وبطّل تدخّـل نفسك بأشياء ما تخصّك!!
ابتسم عناد باستفزاز : المرجلة ماهي بالعصبية والانفعالات يا عمي.
سلمان بنظرةٍ جـامدة مدّ يدهُ بهاتف سلطان إليه : سلّمه له ، وتقدر تتفضّل الحين.
ضحكَ رغمًا عنـه وهو يتناول الهاتف ومن ثمّ يتحرّك حتى يخرج، بينما دلّك سلمان رأسه بإجهـادٍ وهو يرمي شماغهُ جانبًا.


،


عـاد للفنـدق بعد صـلاة الظهـر بدقائِق، كـان يحملُ معهُ الغـداء، معدتـهُ ملتاعـة، لا يشعُر بالرغبة في الأكـل لكن لأجلها سيولّف هذه اللا رغبـة بعيدًا.
دخـل وهو يزفُر، مُلتـاعٌ لأجلِه ، لأجلِ الحُرقة التي يراها في عينيه ويُكابـر محاولًا إطفاءها، لا يدري كيف لعائلـةٍ أن تنبذَ أحدها في ظرفِ حقد أو لا يدري ماهيّة الدافـع الذي يجعلهُ يفعلها!!
هزّ رأسه قليلًا وهو يُتمتمُ بضيق : ناس حقيرة !
مرّر عينيه في الصـالة ليجدها خاليـةً منها، مرّر لسانه على شفتيه ومن ثمّ تحرّك لأقـرب طاولةٍ ليضعَ الغداءَ على سطحِه ومن ثمّ اتّجـه لغرفـة النومِ وخطواتهُ الهادئـة لم تجعلها تنتبه له، وقفَ أمـام البابِ المفتوح، وابتسمَ تلقائيًا، هذه الابتسامة التي تلاشَى معها ضيقه، تلاشَت غيُوم المشاعر السلبيّة وانقشعَت . . كـانت منبطحةٌ على بطنِها وأمامها أوراقٌ تدرسُ منها، شعرها القصيرُ يُصدر فوضويّةً حول ملامحها الجميلـة، ترتدي قميصًا بيتيًّا طويلًا ارتفعَ إلى ركبتيها، صوتُها يُصدر من حنجرتها متذمّرًا وهي تحرّك قلم الرصاصِ على الورقِ لتنثر شخابيطَ مُستاءة : أنــا .. الين .. آخر عمري أحمل! أرسب يا ربييييييي .. حسبي الله على ابليس وعلى عقلي وعلى درامتي اللي مال أمّها داعي.
ضمّت فمها بضيقٍ وهي تُتمتم بصوتٍ لم يسمعه : كله منّه هو .. من دخـل حياتي وأنا من مأساة للثانية.
رمَت قلم الرصـاص جانبًا وهي تتأفأفُ بينما اتّسعت ابتسامتهُ هو بمكرٍ وأقدامه تتحرّك ببطءِ الأسدِ المـاكرِ إليها، صرخَت بذعرٍ ما إن شعرت بظلٍّ يعتليها ، نظرت نحوهُ لتشهقَ بقوّةٍ وتجلسَ مباشرةً وهي تُخفض قميصها المُرتفعَ وتضعُ كفِها على صدرها . .
أدهم بخيبة : ما ضبطت.
احمرّ وجهها بشدّةٍ وهي تشتّت عينيها يمينًا ويسارًا وشفتيها فاغرتينِ تجتذبُ من بينهما الهواءَ البارد، وبصوتٍ مُرتجِف : م ما ضبط أيش ! وش كنت ناوي تسوّي؟
أدهم يُميل رأسهُ وهو يبتسمُ بمكر، يرفعُ حاجبهُ الأيمن ويلفظ : كنت ناوي أخوّفك بطريقة أرقى من كِذا.
نظَرت لهُ بصدمةٍ حادة : ناوي تخوّفني!!!
أدهم ببساطة : أيه.
أرادت في هذهِ اللحظة أن تتحرّك وتصرخ بغضبٍ في وجههِ من تفكيرهِ السـاذج، لكنّه لم يسمح لها وهو يندفعُ إليها بسؤالٍ فاجئها : رسبتي؟
اتّسعت عيناها وانفرجَت شفاهُها أكثر ليقرأ على ملامحها الرفضَ الواضـح لكونِه علم، اتّسعت ابتسامتهُ وهو يجلسُ على طرفِ السرير لتنتفضَ وتتراجع للخلفِ بذعر، بينما لفظَ هو بهدوءٍ متجاهلًا حركتها : عادي ليه تناظريني بهالشكل؟ آخرتها كنت بدرِي.
صدّت وجهها عنهُ بحرجٍ وهي تزفُر بحرارة، بينما ضحكَ بخفّةٍ وهو يُردف : كسلانة !
إلين تنظُر بحدةٍ نحوه : بركاتك.
ارتفعَ حاجبيه باستغرابٍ واختفَت بسمتهُ وهو يهتف بتساؤل : بركاتي!! أنا شسويت؟
إلين بكره : طلعت لي بوقت غلط! قلبت حياتِي وأهملت كل شيء كنت أحبّه قبـل .. كرهت كل شيء أصلًا!!
تنهّد بجزعٍ وهو يُغمضُ عينيه ويصمتُ لبعض الوقتِ وأنفاسهُ اعتلت فجأةً بانفعـال، لم يلفظ بشيءٍ وترك الردّ حتى لا يجعلها تنفعلُ أكثر، بينمـا تحرّكت هي بقهرٍ وكفوفها تمتدُّ للكتاب كي تحملهُ وتبتعد، لامست الأرضيّة الباردة بقدميها الحافيتين، وابتسمَت بتحدي وهي تستديرُ نحوه، وبنبرةٍ حاقـدة : ولعلمك .. ترى مالك تأثير على مزاجِي هالكثر ، لا تظن إنّي أحـرم نفسي من الأكل عشانك .. هه! هذا اللي ناقص بعد.
استدارَت لتغيبَ عيناها عن ابتسامتِه التي توافقَت مع الوقتِ الذي فتحَ فيها عيناهُ ونظر لظهرهَا، كـان في الصبـاح يُريد استفزازها فقط حتـى تأكُل ، ويبدو أنّه قد نجح.
هتفَ بهدوءٍ وهو يراها تضعُ محاضراتِها على الطاولـة : أجل جبت ويّاي الغداء .. حضّريه لين ما أتروش . .
نظرت نحوهُ وهي ترفعُ أحد حاجبيها : وكأنّك شايل همي أكلت أو لا!
أدهم يبتسمُ بحُب : فوق ما تتصوّرين.
إلين باستفزاز : جزاك الله خير.
أدهم : جزاك الله حبـي.
بهتت ملامحهـا لتلتمعَ عيناه بمراقبتها ، شتّت أحداقها وهي تبتلعُ ريقها وتُشيح بوجهها جانبًا، تابعها باستمتـاعٍ لذيذ، تضعُ بربكتها كفّها على عُنقهَا الطويل، تعقدُ حاجبيها وتفتحُ فمها حتى تردّ لكنها تعُود لتغلقهُ وكأنّ الكلماتَ صعدَت لما بين حاجبيها وتعجّنت بين طبقاتِ الجلدِ التي استاءَت من حرجِ الصمتِ وتعانقَ سطحُها ، أرادت في هذهِ اللحظـة أن تنطُق بحدّة كلمـاتِها بـ " تحلم "، أن تجزم باستحالـة ما يريد، لكنّها صمتت، لم تستطِع أن تنطُق بشيءٍ بينما وقفَ أدهـم بابتسامةٍ وهو يهتف : جوعـان .. استعجلي علينا شوي.

يُتبــع . .

كَيــدْ 03-06-16 05:50 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





،


ماكثةٌ في غرفتِها القديمـة، الغرفـة التي قضتْ آخر أيامِها فيها تبكِي، الغرفـة التي كثيرًا ما استخارت فيها ، ذاتُ الموضوع ، مرّتين! الزواج مرّتين دونًا عن بقيّة قراراتِ حياتِها.
تجلسُ على السريرِ ببؤسٍ وأمّها تقفُ أمامها تهتفُ بصوتٍ حادٍّ ينبعثُ إليها بغضب : وش صار بينك وبين زوجك؟ ريّحي راسي وعلّميني.
أسيل تنظُر لها برجـاء : تكفين يمّه قافلة معي والله.
امها بغضب : الغلط منّك .. أحلف إنّ الغلـط منّك .. * بانفعال * لا يكُون للحين عايشة على ذكرى متعب ونكّدتي على الرجـال لين ما تركك!!! يا ويلك من ربّك يا أسيييييل يا وييييييلك!!!
عقدَت حاجبيها بضيقٍ وهي تحشرُ كفيها بين فخذيها تُطفئُ رعشـة الربكةِ في مفاصِلها، هي التي كانت تكتمُ وتصمت، تأقلمَت، بدأت تحيـا هذا الزواج بضحكةٍ وإن لم تكُن قد أحبّته .. لا يجوزُ أن يكون اللومُ عليها وهي التي لم تفعل شيئًا! لم تفعل شيئًا وإن كان الموضوع متعلقٌ بـ - متعب - فعلًا كما نطقَ في حالةِ جنونِه.
هتفَت بأسـى : ما غلطت! فجـأة كذا رجع البيت متغيّر وقالّي أطـلع .. مالي شغل باللي صار ويا كثر ما كنت أكتم بخاطري وأحاول عشان نعيش!
امها بصدمةٍ تضعُ كفّها على رأسها وهي تلفُظ بقهر : تكتمين بخاطرك!!! طيّرتي الرجـال .. عوّفتيه منّك أكيد لاحظك ومافيه أي رجّال يرضى إن مرته تفكّر بغيره!
أسيل تبتسمُ ابتسامةً ميّتـة : كـان مختلف ، قال ما يهمّه الماضي وقـال يفتخر في زوجته اللي ما تنسى شخص دخـل بحياتها بسهولة ... قالي ما أنساه بس أتناساه وأحبّه! قـاعدة أحاول .. بس صار اللي صار اليوم قبل لا نوصـل للمحطة اللي بغاها.
امها بحسرة : حسبي الله على ابليسك حسبي الله على ابليسك !!
تحرّكت مبتعدةً بجزعٍ بينما لفظَت أسيل بيأس : يمه !! والله العظيم مـا سو . . .
تجاهلتها وهي تُغلق الباب بعنف، لتزفـر أسيل بخيبةٍ وهي تُغمضُ عينيها، تسترجع الكلمـات التي لم تفهمها منه لكنّها أدركَت فقط " متعب "، ما دخـلُ اسمه فيما حدث؟ ما الذي حدثَ لهُ منذ أيّامٍ حتى ينقلبَ بهذا الشكل؟


،


مستلقيةٌ على الأريكةِ الطوبيّة في الصالـة وهي تُغمض عينيها بقلقٍ وتُتمتم بأدعيـةٍ عديدةٍ على لسانِها المتشنّج والذي تعرقلَت فوقه الأحـرف، اتّصلت عليه مراتٍ كثيرةٍ ولم يرد، منذ أن استيقظت لم ترَه! منذ الصبـاحِ لم يعُد !! يا الله لا تجعل مكروهًا أصابـه، يا الله احمهِ لـي فأنا لا وطـن لي سواه، لا مـلاذَ لتشرّدي إلا هـو .. يا الله احفظه لي ولا تنزل عليه مكروها .. احفظه لي.
نظقتها بصوتٍ مختنقٍ وهي تشدُّ على أجفانِها بقوّة، القطّة تلهُو بـ " بلوفرها " القطنيّ المرميّ على الأرضِ وتخلعُ بمخالبِها لونهُ الزيتونِيّ، لو تُخلَع الآفـاتُ من حياتِها! لم أعُد أريد من الدنيـا يا ربّاه إلا هـو وحنان عينيه، لم أعُد أريد أبًا ، أمًا .. فهو قد كفانِي! لم أعُد أريد وطنًا فهو وطنـي . . تُريد أن تعرّي نفسها من الألـوانِ المِعتمة، تُريد ألوانًا تعكِس الحيـاة بجمالها ، أليسَت من اقتنعت أنّ الحياة قبيحةٌ لم يجمّلها سوى سُلطان؟ إذن تُريد ألوانًا تعكـسهُ - هو -.
التقطَت أذناها المُرهفتان صوتَ البابِ الداخليّ يُفتح ، انتفضَت جالسةً وهي تتنفّس بقوّة ، لم تشعُر بنفسها وهي تقِف لتتحّرك بخطواتٍ مهرولـةٍ نحوَ البـاب، خرجَت من الصـالةِ وخلاياها كلّها ترتعش .. توقّفت فجأةً وهي تراهُ يدخُل بحالٍ فوضويّةٍ بائسة، " عقـاله " لا يدري أين رمـاه، شماغه يُمسكهُ بيدهِ بينما شعرُه أشعث . . شهقَت وهي تضعُ كفّيها على فمِها، لم يُخطئ خوفها، لقد حدثَ له شيء وكان عنـاد يكذب . . آه !!!!
تأوّهت بألـمٍ ودموعها تسقُط دون مقدّمات، انتبـه سلطان لوقوفها قريبًا تنظُر لهُ نظراتٍ غريبة، تضع كفّها على فمِها، الدمُوع في عينيها !! يا الله ليس في مزاجٍ يسمحُ لهُ بالعطاء الآن !!!
أشـاح نظراتهُ عنها ببرودٍ وتحرّك ينوِي الاتجاه للدرجِ والصعود، لكنّها لم تسمح لهُ حين خطَت إليهِ فجأة، شعر بها سلطان فنظـر إليها بحدةٍ لافظًا بتحذير : تراها واصلة معي للمريخ .. لا تقــ ــ ر . . .
تقطّعت كلمـاته، بهتت أخيرًا ليصمتَ وهو يشعُر بجسدها الذي التصقَ بِه وذراعيها اللتينِ لفّتهما حول عنقهِ لتنفجـر باكيةً بشكلٍ صعقـه .. اتّسعت عينـاه بصدمة، رفـع كفيه ليضعهما على ظهرها وهو يُرغمُ نفسهُ على الهدوء، على طردِ غضبهِ وانفعالاتِه ، على الرّقـةِ وحنانِه . . همسَ بنبرةٍ مُستفهمة : غـزل شفيك وش اللي مبكيك الحين؟
غـزل بصوتٍ يختنق، تدفُن وجهها في عُنقهِ ليبتلّ جلدهُ بدمعِها المالح والذي يتخثّر بكلماتِها المُعاتبة : أتّصل عليك وما ترد .. الصُبـح أصحى وما يكون أول شيء أشوفه بيومي عيونك .. لهالساعة ما شفتك على غير العادة ، خوّفت قلبي عليك !!
أغمضَ عينيهِ وهو يتنهّدُ بأسى ويشدّها إليه بحنـان، وبعتب : ما تستاهل كل هالدراما ، شوفيني أنا بخيـر وبس خوّفتي نفسك على غير سنع!
غزل تُرجع رأسها للخلفِ حتى تنظُر لهُ بعينيها الباكيتين، وجهُها المُلطّخِ ببللٍ يعصَى جفافهُ إن لم تسمحهُ كفوفه، همست بحدة : دراما؟ أنت تدري إنك أبوي وأخوي وأمي وكل شيء بهالحيـاة!! أنت قبلـة حياتِي البائسة يا سلطان ، لو يصير لك شيء أرتد عنها وتذبحني !
سلطان يبتسمُ بمداعبـة : يصير لي شيء مثل أيش؟
غزل بـألمٍ يتقوّس بهِ فمُها : تروح وما عـاد تشرق شمس صباحي من عيونك.
سلطان برقّةٍ وهو يمسحُ بأطرافِ أنامِله مُحيطَ عينيها : صبـاحك شمسك.
شدّت على عنقهِ حتى ينحني تلقائيًا وتقفَ هي على أصابعها كي تصلَ لطوله، قبّلت عينهُ اليُمنى ومن ثمّ اليُسرى وهي تهمسُ ببحّة : مسائي وأنت الصادق خلاص راح الصُبح.
ضحك : مسائك شمسك.
غزل : جعلها ما تغيب.
ابتعدَت عنهُ وهي تمسحُ بقيّة الدموع المترسّبة على وجهها، تُمرّر ظاهرَ كفّها على أرنبـة أنفها وتردف بصوتٍ ملكومٍ بنبرة البُكـاء : وش صار لك؟ شكلك ماهو طبيعي !!
أمال فمهُ قليلًا وهو يزفُر بضجرٍ من الانفعـال الذي طرأ على صدرهِ فجأةً وهو يتركُ لصورة سلمان أن تأتيه، وبصوتٍ بلا تعبير : ما صـار شيء .. ممكن تلبين لي خدمة وما تسأليني هالسؤال؟
غزل على مضصٍ تمطُّ فمها : طيّب.
ابتسمَ رغمًا عنه : وممكن تلبّين لي خدمة ثانية؟
غزل تعقد حاجبيها : وش هي؟
سلطان : بالليل كنتِ شوي وتهاوشيني عشان تهتمين فيني مثل ما أهـتم فيك . . عرضك قائم للحين والا؟
تجمّدت ملامحهـا للحظـات ، لكنّها سـرعان ما ابتسمَت وملأت بسمتها كلّ وجهِها ، لفظَت بدلال : من عيوووووني .. أنت تامر بس ..
سلطان بابتسامة : خمس نجوم ما نرضى بأقل.
غزل : هههههههههههههه لو فيه عشر بعد ما يغلى عليك . .
أمال رأسـه : مممم أول شيء عصير ليمون على وجه السرعـة .. ثانيًا ، * اتّسعت ابتسامته قبل أن يُردف * تذكرين آخر مرّة فزعتي لراسي؟
إن كـان هو ابتسم بمشاكسـة، فهي تغضّنت ملامحها بانزعـاجٍ من إحدى الذكريات وهي تبتسمُ بأسى هاتفة : لمّا تعامـلت معي وكأنّي مُمكن سبيّة، أو جـارية !! ما يهم !!!
تلاشَت ابتسامته رويدًا رويدًا، عقدَ حاجبيه بانزعـاجٍ ممّا نظقَت ، وقبل أن يفكّر بالرد كانت هي قد اندفعْت مبتسمةً تصحّح الغبـاء الذي وقعَت بهِ وأفسدت بسببهِ لحظتهما : بس في النهايـة ما تنـلام .. أستاهل كل معاملة سيئة منك كانت بهذاك الوقت.
زفـر بقنوط : قفّلي عالموضوع.
أمسكَت معصمهُ وهي تبتسمُ بمُشاكسـة ، سحبتهُ معها وهي تلفظُ بصوتٍ عالـي : سالي انتبهي لقوزالتي لين ما أنزل . . * أخفضت صوتها الذي وجّهته إليه برقّةٍ لتُردف * نبدأ الخدمات؟
سلطان : ترى ما أرضـى بالقليل !
غرل تدفعهُ من ظهره : خلاص درينا أنت بس اطلع وبروح أجهّز لك كوب ليمون.
سلطان يؤكد عليها : خمس نجوم .. لو يجيني طعمه أقل من المطلوب تكونين خسرتِ.
غزل بغيظ : أيييه تقصد إنّ طبخي معفن ! أدري فيك بس هالمرة بيطلع من يديني حلو.
ضحكَ بصخبٍ وهو يصعدُ بينما صوتهُ يأتيها مُستفزًا : مين يطبخ عصير؟ بالأوّل ميزي المصطلحات وبعدين تفلسفي.
غزل بحرج : يا شينك لا دقّقت على كل شيء.


،


هرولَ الليـل بعبثٍ وغطّى السمـاءَ بلحافِ السوادِ ليطبـع فيها الهلالَ اللامـع تمويهًا عن بؤس سوادِه، كـان يمشي بينَ المارّةِ الموشّحِين بالبسمة، نصفُها ربّما يكون زائفًا إن لم يكُن مُعضمها. يُمسك بيدها البيضاء وهي تحاول أن تنسلّ كل دقيقةٍ من كفّه فيضغطُ عليها بعنـاد دون أن ينظُر لها.
تأفأفت بينما ابتسمَ وهو يلفظ لمن يُحادثهُ على الهاتف : أي حبيبتي بس مو كأنّه صوتك متغير؟
وجّهت جنـان أنظـارها البـاردة إليه، في حينِ عقد فوّاز حاجبيه فجـأة، وتوقّفت خطواتُه لتتوقّف رغمًا عنها معه . . لفظَ بنبرةٍ مستنكرة : أسييييل !!! . . . لحظة ، فهميني وش صار؟
امّه من الجهةِ الأخـرى بيأس : ما أدري .. فجأة كذا جات بأغراضها .. أسألها وش صار بينك وبينه تقول ولا شيء فجأة رجع معصب وقال إنّنا انتهينا !
فواز دون تصديق : مبزرة هيّ ؟!!
ام فواز بتنهيدةِ يأس : حلفت لي إنّها صادقة.
فواز بحدة : ماهو صاحي شاهين !! خلاص أنا بكلمه وأشوف وش الوضع.
أنهـى مُكـالمتهُ معها، بحثَ عن رقمِ شاهين بينما جنان تراقبه باستغرابٍ وصمت، اتّصل بهِ وقد تركَ يدها، دسّتها في جيبِ معطفها وكأنّ الخـلاص أُمطِرَ عليها أخيرًا ،
كان فوّاز قد اتّصـل بهِ دون أن يجدِ ردًّا، أعاد الاتصـال مرّتين وثلاثًا ولم يأتِه صوتُه وكأنه في تلك اللحظـة كان يتجاهـل كل مربطٍ بالواقـع ويعيشُ لحظـاتِ المعجزات، الاستحالةِ وعودة الأمـوات .. لم يكُن يريد أنْ يتّصل بحيٍ في هذا الوقت، لا يريد سوى أن تأتيـه بُشـارةُ العـودة لما قبـل أعوامٍ وكأنّ الشرخ لم يحدُث، وكأنّه لم يُحبّها ولم يتزوّجها هذا الـزواج.
غضبَ فواز لتجاهلِه، ضغطَ على الهاتفِ وهو يشتُمه بنبرةِ غضبٍ لتجفـل جنـان من شتيمته وغضبِه الذي لم ترَه من قبل.
وضعَ هاتفهُ في جيبهِ وهو يزفُر بحنق، وظلّت هي تتلحّف بالصمتِ وتُدثّر بهِ حُنجرتها، نظـر لها فوّاز عاقدًا حاجبيه، وكأنّه فجأةً تذكّر في هذهِ اللحظـة بالذات : منتِ لابسة خاتمك صح؟
جنان ترفعُ حاجبها الأيسر باستغرابٍ من سؤاله المُفاجئ، وبحـذر : أيه . .
كانت تُدرك في هذهِ اللحظـة أنّ أيّ ردٍ عنيفٍ منها قد يجعلهُ يصبُّ غضبهُ في خصامٍ معها، لم تعرفهُ جيدًا، لكنّ الحـذر واجب!
زفـر بضيقٍ وهو يُغمضُ عينيه بقوّة، مدّ يدهُ في إشارةٍ صامتـةٍ كي تُمسك بيده، كـانت تريد أن تتجاهله، لكنّ صوتهُ جاءَ بتحذيرٍ هادئٍ ظاهريًا : جنـــان عن العنـاد !!
تأفأفت بضيقٍ وهي تُخرج يدها من جيبها وتُمدّها لهُ ليعتقلها في قيدِ أصابعه، جذبها لتلتصقَ بهِ في خضمِ الزحـام حتى لا يلتحم جسدها بالمارةِ دونَ قصد، ارتعشَت بخفةٍ وهي تشعُر بيدهِ تتركُ يدها ليتخلخل أصابعها بالأخـرى البعيدةِ عنها، بينما ارتفعْت تلك ليُحيط بذراعها كتفها ويجذبها إليهِ في اقترابٍ أكبـر ، جعـل صوتَ نبضاتِه المُنتظمةِ بعكسها مسموعةً لها، أنفاسه صهَرت جبينها البـارد والذي قابلته الحرارةُ فجأةً ليتفكّك ويتصدّع بربكتِه . . تجمّد جسدها ولم تستطِع أن تقاومَ هذا الاقتراب وتبتعدَ قسرًا، كـان يُمسك بِها بشدّةٍ كي يمنعَ هربها، وملامحهُ تنظُر للأمـام بصمتٍ جامد، همسَت بضعف : فــواز !!
فواز بخفوت : أحـاول ننجح .. ساعديني !
جنان بغصّة : صعب .. صعب كثير أرضـى بحياتي معك وأنا اللي سرقتها من غيري.
فواز بحدةٍ يشدُّ على كتفِها : ممكن تنسين هالسالفة!! كم مرة أقولك حياتي قبـل مالها علاقة فينا الحين !!
جنان بحدةٍ مماثلـة : نضحك على بعض يعني! شلون مالها علاقة وأنت تبيني أنسيك إيّـاها؟ شلون مالها علاقـة وأنت تحبّها للحين بدليل إنّك تحاول ! تحـاول وماقد نسيت !!!
رفعَت وجهها لملامحهِ الجامـدة ببؤس، وبـألم : مالنا حياة مع بعض .. طلّقني ورجعها لعصمتك يا فواز، أنت تحبها وبتندم بيوم على مكابرتك هذي الحين لأنّي مستحيل أساعدك بشيء أشوفه غلـط .. أنتوا مالكم ذنب في وحدة تعيسة مثلي عشان تنتهي حياتكم بسببها !!
فواز ببرود : طلعَت من عدّتهـا .. وحتى لو ما طلعت مستحيل أرجّعها .. اللي بيننا مالك شغل فيه، اللي بيننا أكبـر من مُكابـرة.
جنان : غلطت بشيء!
صمتَ ولم يُجب، حينها تنهّدت بوجـعٍ وهي تهمس : سامِح ، أو عاقب ... بس لا تنهِي كل شيء بهالطريقة !! اعطوا نفسكم فرصة.
فواز يبتسمُ بسخريـة : طبّقـي نصايحك على نفسِك وحاولي تعطينا فرصـة . .
عضّت شفتها بغيظٍ لتضعَ كفّها المُحرّرة من يدهِ على صدره كي تُحاول دفعه، وبقهر : إذا تركتها وأنت تحبها مالك حق تجبرني عليك وأنت أصلًا ما تحبني !! ماني محطّة عبُور عشان تبدأ منها من جديد.
تركَ يدها تلك لترفعها مباشرةً وتحاول دفعهُ بها أيضًا، لكنّه كان يشدُّ بذراعه حولها فظهرت قوّتها الأنثوية منعدمةً أمـام سطوتِه الرجُولية، شعرت باليـأس وكأنّ مصيرها معه يعتمد على هذهِ اللحظة، إن استطاعت الابتعادَ فستتحرّر وإلا ستبقـى مقيّدةً بهِ للأبد، ستنحشر أصابعها بين أضلعه ليكبس عليها ولا تهربَ أبدًا !!
لم تشعُر سوى بيدهِ تلك تُلامسُ وجنتها، شهقَت بضعفٍ ما إن أدركت بحركةِ أنامله أنّه يمسحُ دموعًا نفذت من عينيها، متى بكَت !!!
انحنى رأسه قليلًا نحوها، لامس جبينها بشفتيهِ ليقبّلها برقّة، بينما أغمضَت جنان عينيها لتنسابَ دموعٌ أكثر رافضـةً هذا الاقتراب، همسَ بهدوءٍ وأنامله لازالت تمسحُ دموعها : إذا أنتِ محطـة عبور لي ، أنا بعد محطّة عبُور لك.
بهتَ وجهها قليلًا وهي تشعُر بهِ يضمّها لصدرهِ ويمشي لتخطُو أقدامها رغمًا عنها معـه ، همسَت ببحّةٍ وهي تشعُر بجسدها يضعفُ منصهرًا بحرارةِ جسده : أيش تقصد بأنّك محطّة عبور لـي !!
فواز بهدوء : ما يهم . ،
جنان بحدة : لا تقصد شيء .. قول وش تبي بالضبط من كلامك؟
صمتَ ولم يردّ عليها ، وكـان صمتهُ إشـارةً كافيةً ليُرغمها على الصمت ، على عدمِ الحديثِ عن محطّاتِ العبُورِ هذه !!


يُتبــع . .


كَيــدْ 03-06-16 06:07 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


تشعُر أنّها لم تأكُل منذُ عقود، غِذاؤها كان سيئًا في الأيـام السابقة خاصةً في رمضـان، ضحكَت أرجوان وهي تراها تنحنِي إلى أُذن والدها الذي بجانبها وتهمسُ لهُ بصوتٍ مسموعٍ قليلًا : ما شبعت ... اطلب لي من هالصحن زيادة.
ضحكَ يوسف وهو يُحيط كتفها ويقبّل رأسها بحنان، وبحُب : بالعافية عليك يا يبه ..
أشـار للنادل ليقترب منه، بينما بقيَت جيهان تتوسّد صدرَه وهي تبتسم، ذراعهُ تُحيطها بدلالٍ وهو يتحدّث مع النـادل ، ممتنّةٌ لهذهِ الصحـوة التي جعلتـها ترضـى بما تهرّبت منه كثيرًا، لازالت لا تريدُ الالتجـاء لطبيبة، لكنّ كل شيءٍ يندثِرُ أمام هذا الذي تحيـاه الآن من راحـةٍ تجعلها تطردُ التفكير بفوّاز ولو لبعض الوقت.
ابتعد النـادل عنهم، في حين لفظَت أرجوان وهي تسندُ مرفقيها على الطاولـة : ليان بتغار منك اليوم .. متعودة تكون هي بحضن البابا بكل يوم.
جيهان بمشاكسةٍ تنظُر لليان الجالسة بجانبِ أرجوان والتي تنظُر لهما بوجومٍ وغيـرةِ طفلةٍ على أبيها، مدّت لسانها باستفزازٍ وهي تلفظ : البابا بح .. خلاص صار لي . .
ارتعشَت شفاهُ ليان بعبـرة، وبحقد : بابا زوجي أنا مو لك.
انفجروا ضاحكين على تعبيرها البريء، قبّلت جيهان خدّ يوسف لتغيظها وهي تهتف بغنَج : باباتي حبيبي . .
يوسف يكتم ضحكته : جيهان عن حركات البزارين!! * نظر لليان التي تكادُ تبكي ليهتف بحنان * تعالي حبيبتي واجلسي بحضني ما عليك من اختك.
تشدّقت ليـان وهي تقفزُ بسرعـةٍ وتنطلقُ إليه، جلست في حُجره وبخفةٍ مدّت يدها لتقرص جيهان في بطنها كانتقامٍ من استفزازها وأظافرها تُشارك أصابعها الانتقام، تأوّهت جيهان بألمٍ وهي تبتعدُ وتمسحُ على بطنِها بينما ضحكَ يوسف وهو يضمُّ ليان بقوّةٍ مدركًا أن جيهان ستنتقم منها بطريقةٍ ما الآن : لو تلمسينها ياويلك.
جيهان بشراسة : هذي متوحشة حشى ماهي آدمية وش هالأظافر !!
أرجوان : ههههههههههههههههههه حاولت أقصّها لها بس عيت.
جيهان بوعيدٍ ترفعُ اصبعها في وجهها : خلي بس البابا ينام وأنا أشتغلك عدل . .
ليان باستفزاز : بنام معاه.
جيهان : أسحبك من شعرك وأطلعك لوَكري.
ليان تُميل فمها : أيش لوكري؟
ضحكَت جيهان باستمتاع : يعني قبر .. بدخلك فيه وأدفنك.
نظرت ليان ليُوسف بقهر : بابا شوفها !!
يوسف ينظُر لجيهان وهو يبتسمُ ويتصنّع الحدة : كلمة ثانية وأشوف شغلي معك خليها براحتها لا تغثينها.
مدّت ليان لسانها وهي تحرّك حاجبيها باستفزازٍ لها، بينما كتمَت جيهان ضحكتها وهي تتنـاول كوب العصير في اللحظة التي بدأ فيها يُوسف يُطعم ليان بيدِه.
مرّت اللحظـاتُ الجميلة بينهم، تضحـك وصدرها يتغافـل عن كلّ مسبباتِ الأرقِ التي لازمتها ليـالٍ طوال لم يستطِع فيها القمرُ أن يصلَ بنورِه إلى عينيها المُغيّمتين بدمعِها، يا الله كيف كانت في لحظـاتٍ ما تصدُّ عن هذه الأجـواء التي افتقدتها ولطالمـا كانت تُعيدها سنواتٍ طفلـة . . رحمكِ الله يا امّي ، وسامحَ أبـي على ما كان بينكما قبل موتِك، لا أريد أن أتعلّم حرمـانًا آخر، يكفيني أنّي من عينيكِ حُرمت، يكفيني أنّي منهُ حُرمت ولم يتبقّى لي سوى والدي وأختـاي، لم يتبقّى لـي سوى هذا الضوءُ الذي إن خفتَ أو انقشـع سأمُوت !!!
تصاعـد رنينُ هاتفِ يوسف فجأة، حملهُ من على الطـاولة وهو مُتشـاغلٌ بليـان التي اتّسخَت بالصلصةِ الحـارة التي انسكبَت عليها من فوقِ يوسف وأصابت قطراتٌ منها ملابسه، ردّ بآليةٍ وهو يضع الهاتف على أذنـه : ألو . .
بدر من الجهةِ الأخـرى : آسف .. آسف على غبائِي وطيشي . .
عقدَ يوسف حاجبيهِ باستنكارٍ وأجفـل صوتهُ في حينِ كان بدر يُردف ببطءٍ وحذر : اطلـع من المكـان اللي أنت وبناتك فيه . .
يوسف بنبرةٍ مُستنكرة : بدر !!! وش فيه صوتك كذا ووش تقصد؟
بدر يزفُر بذنبٍ وهو يُمرّر أناملـه بين خصلاتِ شعره : المكان خطِر عليك ... اطلع منه !


،


راقبَت نومهُ الهادئ بمتعةِ عينين عاشقتين ، حدثَ مرةً أن فتح عينيه ليجدَ أنظارها تتأمّله بصمت ، تذكُر أنّه انـزعج، وقـال لها أنّه لا يحب مراقبـةً كهذهِ وهو في نومِه . . ابتسمَت وهي تُريح رأسها جانب وجههِ وملامحهُ أمامها مباشـرة، تشعُر بأنفاسِه المُنتظمة تصتدمُ ببشرتِها، حرارةُ جسدهِ تُعانقها، كـان قد نام في غُمرةِ اهتمامِها به، لم ينهض سوى للصواتِ وعادَ كي ينـام . . هذهِ النشوةُ كيف عساها تشرحُها ! أن تشعُر في يومٍ مـا أنّها أهدتهُ اهتمامًا مـا ولم يكُن الاهتمام حُكرًا عليه.
اقتربَت شفاهُها الناعمـة لتقبّل عينهُ اليُمنى، نهضَت لتتّجـه للحمـامِ حتى تتوضّأ، غسيـلُ هذا المـاءِ يُزيل أوسـاخ ذنوبِها ، هذا الوضوء، يسلخُ منها بعض الآثـامِ ولكم تتمنّى أن يكُون منها إثمها تجاهه . . إلهـي ولّف كلّ ذلك الكذِب واجعلهُ يُمرَّغُ في وحـل الأيـامِ والزمن، أن أنسـاهُ ويُنسـى، أن يكُون نسيًا منسيًّا ولا يؤذي حياتِي معـه . . جـاءتني رحمتـك يا الله في صورةِ هذا السُلطـانِ الذي سبَى قلبِي ولا أظنُّ يومًا أنّه سيُحرّره ، أذكـر قسوتهُ تلك، لازلت أذكـر مراحلها وسطوتِها، أذكُر دموعي التي كانت تسقُط كلّما التقَت كلماتُه بقلبي وأحرقَته بلوعتـه ، لم أكرههُ يومذاك بالرغم من كونِي كُنتُ مجبرة ، فكيف إن عـلمَ بما اقترفتهُ دون تدخّل أحدٍ وقسى أكثر! . . ابتلعَت ريقها وهي تدعُو الله ألّا يعلـم شيئًا، كيف سيعلمُ أصلًا؟ لا أحـد يُدرك ما حدثَ سواها حتى ذلك الرجُل لن يتجرّأ يومًا على العودةِ باعتـراف.
خـرجت من الحمامِ وهي تُجفّف وجهها وساعِدها، وجّهت نظراتها تلقائيًا نحوهُ من جديدٍ وابتسمت .. مُمتنّةٌ لهذهِ الحيـاةِ ولأوّل مرّةٍ امتنـانًا صادقًا ، مُمتنّةٌ لأنّـك ولِدتَ فيها، لأنّك خُلقت من نورٍ وليـس طين .. أنت ملاك! ملاكٌ يا سلطان !!
استغفرَت وهي تضحكُ ضحكةً لا تدري من أين نبعَت، لكنّها تذكّرت في لحظةٍ ما أنّها قالت لهُ في شهر رمضـان : أنت ملاك !
فزجـرها رافضًا تلك الصفـة لنعومتِها المُستفزّة وقبلًا لأنّها صفةٌ لا تليقُ بالبشر! . . حينذاك لفّت ذراعيها على عنقهِ بدلالٍ وهي تهمسُ بغنـج : بتكون سبب ردّتي بيوم!
ردّ عليها بنبرةٍ جدّيةٍ أغرقتـها في ضحكاتٍ طويلة : انتبهي لا تعبديني بعد.
حبيبي يا سلطـان ! أخشـى فعلًا أنّ وقوعي بعينيكَ سيودي بكارثةٍ مـا في حياتي .. بل أنّها أودت! وكانت كارثتي أن كذبتُ لأحضـى بِك.
اقتربَت من السرير، هذهِ المرّة من خلفِه، انحنَت لتعدّل اللحـاف من فوقِه وهي تُدرك من ساعاتِ نومهِ أنّ هنـاك ما أرهقهُ اليوم، وقعَت عيناها على جُرحِ عنقه الذي انتبهَت لهُ منذ كانت أصابعها تداعبُ فروةَ رأسه، عقدَت حاجبيها بضيقٍ ومن ثمّ انحنَت برقّةِ شفتيها لتقبّله.
ابتعَدت، وتنـاولت المصحفَ الموضوعَ على الطاولـة الدائريّةِ بلونِ الخشب، جلست على الكرسيّ وبدأت تُكمِل حفظها الذي بدأت به يومَ العِيد، تُقاربُ أن تنهِي جزءَ عمّ لقصرِ سورِهِ ومن شدّةِ لهفتها وحماستها، هذا الذي تفعلـه في هذهِ اللحظـة لم تُخبِر به سُلطان، تُريدها مفاجئةً لهُ بعد سنتين أو ثلاثٍ ربّمـا ، أن تأتيه في يومٍ ما ، وتقُولُ له بكلّ الفـرح الذي يُعانق صدرها : ختمته حفظ !
أصبحَت متلهّفةً لردّة فعله ، في تلك اللحظـة ربّما يكون حالهم قد تطوّر كثيرًا .. أحبّها ، ولهما ابنًا أو ابنةً على الأقل !!
احتضنَت المصحفَ لصدرها وملامحها تحمرُّ بلهفةٍ خجولة ، تدعُو الله في هذهِ اللحظـة أن يسير كلّ شيءٍ كمـا تهتوي . .


،


أوراقٌ عديدةٌ تناثـرت على الأرضِ أمـامه بعد شجـارٍ دار بينهما قبل لحظـات ، لأنّه فقط كان مزاجه سيئًا، لم يستطِع أن يأخذها اليومَ لعائلتها لذا افتعلَت الصراخ والغضب وأنّها " طقّت من وجهه "!! لترمي محاضراتها التي كانت تدرسها على وجههِ بوقـاحةٍ لم تكُن يومًا تمتلكها! يشتعلُ غضبًا، لا يستطِيع أن ينكر ذلك أو يتصنّع عكسـه، ربّما تمادت ، بل تمادت فعلًا بدرجةٍ مُستفزّة وأكثـر ما يضاعفُ نار استفزازهِ أنّه يكتمُ ويصمُت.
تحرّك في غرفةِ النومِ وهو يضعُ كفيه على خصرِه ويطوفَ الغرفـة ذهابًا وإيـابًا، يزفُر بغضبٍ يُرعشُ أنفاسَه، ما الذي يستطيع أن يفعلهُ بِها!! لمَ لا تختارُ الجفـاء بصمت! لكن تمتنع عن هذا الاستفزازِ الذي يهلكنـي إن صمتُّ عنـه، تبتعدُ عن الصـراخ في وجهي والذي لطالمـا كنتُ أحطّم أوجُه رجـالٍ لأجله !!
لم يستطِع في هذهِ اللحظـات أن يصمُت، شيءٌ ما داخـله أمرهُ أن يخرج إليها ويضع حدودًا ، إن أردتِ الابتعادَ عن نطاقي لكِ ذلك، لكنّ الوقـاحة لا !!! . . تحرّك بخطواتٍ غاضبـةٍ ليخرج للصالـة التي كانت تجلسُ فيها، تُطـالع التلفاز أمامها بأعصابٍ نافـرةٍ قرأ نفُورها من أنفاسِها المُنفعلة . . لفظَ بصوتٍ حادٍ وملامحهُ تتصلّب بدرجةٍ مُخيفة : نجــلاء !!!
نظـرت إليـه بحدّةٍ وفرائِسها مستعدّةٌ لأيّ خطأ منه، وبانفعال : الله ياخذك أنت وهالاسم ... اسمي إلين يا . . .
قاطعها بتحذير : لو شتمتي صدقيني بترك هالحِلم اللي ما أدري من وين نازل علي من صرتِ قدامي !!
إلين بقهرٍ من تهديده : والله طالت صاير تهدّد ! أيه اطلع بوجهك الحقيقي لا تتصنّع إنك الرجّال الصـالح اللي صابِر على زوجته .. لحظة مين الرجّال!! اوووه سوري خربطت بين المصطلحات اللهم لا تؤاخذني!!!
اشتعـلت أحداقـه بنـارٍ سودَاء ، هذا الاشتعـال الآن في محاجرِه لم ترهُ من قبـل سوى يوم اختطفـها في سنّ الخامسـة عشر ، اسودادُ الغضبِ الذي يفقدُ بها نفسهُ وشعوره.
تحرّك نحوها ببطء، لا تنكـر أنّها شعرت بقليلٍ من الخوف، لكنّها وقفت بشموخِ الأنثـى المطعونةِ في خاصِـرة التوازنِ الحياتيّ، نظرت لهُ باحتقـارٍ بينما لفظَ أدهم بنبرةٍ خافتـةٍ رغم حدّتها التي تُنبئ بأمواجِ غضبٍ جارفـة : وش المطلوب يا نجلاء * شدّد على اسمها * عشان نثبت رجولتنا لحضـرة سموّك؟!
رفعْت ذقنها باحتقـارٍ وهي تردُّ بقوّة : الأمـور تُثبَت في حال تواجدها . .
أدهم بسخريةٍ وهو يقفُ أمامها على بعدِ خطوتين : وش اللي يرضيك؟
إلين بثبات : تآخذني لأهلي وكثّر الله خيرك.
قطَع الخطوتين الأخيـرة الممتدّة بينهما بخفةِ فهدٍ شـرس، لم تستطِع منع شهقةِ الذعـر حين شعرَت بكفيه تقبضانِ على عضديها بحدّة، اعتلاها بوجههِ المُظلـم، لا تُنكر أنّ الخوفَ تمكّن منها في هذهِ اللحظـة، لكنّها لم تجعلهُ يضعفها كي تتوسّل لهُ أن يغفر ما قالته، بل لفظَت بصوتٍ قويٍّ رُغم رعشتِه : أنجـز مهمّتك اللي كانت قبل سنين .. اغتصبني وأوعدك ما أهرب ! يمكن وقتها تثبت لنفسك رجولتك .. بس صدّقني ماراح تكُون بنظري غير حيوان.
ابتسمَ ابتسامةً احتدّت زوايـاها بغيابِ ضوءٍ خافـت ، الضوءُ يرتحِل عبـر قافلةِ النجوم، هذهِ الأضواءُ التي تصلُنا من النجومِ عبـر سنينَ ضوئيّةٍ عديدةٍ للأسفِ يهزمُها - ستائرُ وجدار -! لا مكـان للنجوم، لا مكـان لها حين تُحاصرهما الجدران، لو أنّ للنجُوم القدرة على النفـاذ عبر الجدران! ربّما وقتها لن تكُون ملامحهُ بهذا الظـلام، ربّمـا ابتسمَ بحنانِه .. حتى مع تكدّس غضبِه منها.
انحنَى بوجههِ إليها، حينها أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تشدُّ على شفتيها المُرتعشتين، أدركَت في هذهِ اللحظـة أنّه سيفعلها، هذا الانسـان الذي تحكمهُ غرائزهُ فوق كلّ شيء، غضبه ، لا يُبـالي برغباتِ الآخرين ، لا يُبالـي بالقبُول ، لا يُبالـي سوى بذاتِه .. أدركت في هذهِ اللحظـة أن محاولتها بالقبُول ماتت في هذهِ اللحظـةِ حتى قبل أن تمارسها كمـا يجِب.
لامست حرارةُ أنفاسِه بشرتها، جسدها بدأ يرتعشُ بين يديه بالرفضِ مهما اقتنعت أنّها ستصمُد وتجعلهُ يشعُر بحقارتِه ، ليأخذها كمـا يُريد ، لكنّه سيُوصم عليها بكرههِ للأبـد ولن يفنَى هذا الكُره مهما حـاول . . بأيّ حقٍّ يتلبّس الحُب؟ بأيّ حقٍ يتصاعدُ بأمنيـاتِه نحو سمـاءِ حبّها له؟ كيف له الجرأةُ أن يمتهنَ صفةً ساميةً كالحُب وهذهِ المشـاعر التي لن ترتقي سوى لمن يستحق . .
شدّ على عضديها، وشدّت بذلك على أجفانها أكثر بينما لامسَت شفاهُه أذنها وهو يهمسُ بسخريةٍ تجاوزَت مسامعها كحدّةِ السهام : هالأساليب الرخيصـة تركناها يا عُمري! مُشكلتك لما تظنّين إن الحيـاة ما تختلف، إنّ السنين تظلّ مثل ماهي ، إنّ النـاس نسخة وحدة ما تتجدّد ولا تتبدّل !! مشكلتـك يا حلوتي هالتفكيـر البدائي والسخيف لجامعيـة مثلك . .
لم تستوعب في بادئ الأمـر، فتحَت عيناها بصدمةٍ وهي تنظُر لمـا وراء كتفِه ببهُوت، تراجعَ قليلًا وهو لا يزالُ يُمسك عضديها، وبتملّكٍ حـادٍ بينما ملامحهُ المُظلمة لا تنير ولا تبتسمُ بمشاعـر رقيقةٍ أبدًا : ردّي الأهم عليك حاليًا .. مالك أهـل غيري ، أنا أهلك وأنا بلدك وأنـا حياتك اللي مستحيل تكون لك غيـرها .. أنتِ أنـا يا نجـلاء .. إلين! أو ما يهم .. الأسمـاء ما تهم لأنّك في النهايـة وحدة .. حبيبة أدهم وملكه !!!
تركَ عضدها ببطءٍ وصوتُ هاتفهِ يعُود للرنينِ بالرقـم الذي يُزعجـه منذُ النهارِ وجعلَ مزاجـه السيء يرفضُ أخذها إليهم، تراجعَ للخلفِ وهو يبتسمُ بأسـى، يصدُّ عنها بعد لحظـات، ومن ثمّ يتّجـه للغرفة حتى يأخذ هاتفه.
نظـرت لظهرهِ برعشـةٍ وهي تضمُّ عضدها المُحترق بكفّه الحـارةِ بيدها اليُمنى، وبصوتٍ باهِت : تظنّ إنّك ممكن تكبـر بعيني بهالحركـات !!
توقّف أمامَ الباب، تنهّد وهو يُميل فمهُ بسخرية، وبنبرةٍ قاطعـة : ظنونك تعدّت السـوء بمراحـل ، لا تدخلين بالنوايا يا عزيزتي .. بهالوقت تحديدًا صدّقيني ما يهمني أثبت لك قدْرِي أو رجولتي .. ما يهمني أصلًا وش مسمّى الرجولة عندك !!
دخـل ليُطبق الباب بقوّةٍ جعلتها تنتفضُ وتشدُّ على أسنانِها بقهر .. كـاذب! كـاذب !! يُريد أن يتصنّع التغيير فقط .. لازال كما هوَ، مغتصبَ المراهقـة والرجُل المخـادع الذي آذاها.


كَيــدْ 03-06-16 06:20 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




في الداخِل . . أخذ هاتفهُ الذي عـاد يرنُّ بعد صمتِه قبل أن يصلَ له، وكمـا توقّع كان المُتّصل بهِ شاهين . . زفـر بغيظٍ وهو يتحوقل، لا مهربَ من الردّ عليه وإن كان صوته سيُشعره بالغثيـان !!!
وضعَ الهاتف على أذنـه ليلفظ بنبرةٍ حـادةٍ وقد اختـار شاهين كي يفرّغ بهِ غضبه : نعم؟ شتبي بعد إن شاء الله؟ عسى بس ما أرضـاك كل اللي صار له وتبي موته !!
شاهين يُغمض عينيه من الجهةِ الأخـرى، أرهـاقُ اليومِ ظهـر على ملامحهِ الشاحبة، لم يأكُل شيئًا منذُ الصبـاح، الهالاتُ أدركَت ملجأها حولَ عينيه، أسئلةُ امّه المستنكرةِ والقلقَة عن حالهِ وعن أسيل تُضاعفُ من إرهاقه . .لفظَ بنبرةٍ ميّتـة : أبـي أشُوفه بأيّ طريقـة ، ماراح أصدّق إنّه عايِش إلّا لو شافته عيني.
أدهم بسخريةٍ مرّة : خلاص يا قلبي بصوّره لك وأرسل الصورة كذا يكفيك؟
شاهين بنفـاد أعصاب : ترى بتجـاهل مين تكُون وبتجاهل إنّك الشخص الوحيد اللي يدري عن حياته كلّها خلال الثلاث سنين !!
أدهم : اووووه المفروض أخاف؟!
شاهين بحدّة : أدهـم اخلص علي أبـي أشوفَه بأي طريقة.
أدهم باستفزاز : ما يبي يشوفك.
شاهين بجزع : لازم يشوفني لازم!!! مستحيل يآخذ زواجي حجّة عشان يسوي كل هالشيء!!
أدهم وكلمات شاهين كانت عامـل استفزازٍ كافٍ ليصـرخ : بلاش عبَط على راسي .. أصلًا الشرهة ماهي عليك، الشرهة على متعب الكلب اللي للحين ما يرضى عليك وليتك تستاهل هالشيء.
وضعَ كفّه على رأسِه وهو يبتسمُ ببهوت، ربّمـا ذلك سيكُون المفتـاح لحلّ ما بينهما، أنّه لم يكرهه حتّى الآن .. لا أظنّ أنه سيكرهني مهما حدث! علاقتنا أقـوى ، أقوى بكثير من أن تنكسـر فيها مشاعرنا بسبب امرأة!!
هتف بحدة : يا ليت ما تكُون وسيط شر بيننا .. يا تكون خير يا تذلف لا تكبّرها بيننا !!
أدهم بحنق : الله لا يخلي فيك عظم صاحي وجججججججع وش قواة العين هذي !!! * أردف بحدة * أقول اقلب وجهك الحين تراها واصلة معي فدحدر يلا.
أغلقَ في وجههِ بغضبٍ وهو يشتمهُ بأقـذع الألفـاظ التي يعرفها في قامـوس كلماته.


،


وضـع يوسِف ليـان جانبًا، وقفَ وملامحهُ تبهتُ تدريجيًا دونَ فهمٍ لمـا يقُوله بدر. لفظَ بصوتٍ هادئٍ ظاهريًا : بدر !! شفيك وش هالكـلام الحين؟
بدر بنبرةٍ متأسّفة : اطـلع من المكـان الحين وبشرح لك كل شيء بعدين .. أنا آسف والله آسف !!!
لم يفهمه، لكنّه اكتفـى بالصدقِ في حديثِه، نظـر لفتياتِه بصمت، جيهان تحادثُ أرجُوان وتضحك، ليان تشدّه من ساقهِ بقهرٍ لأنّه أنزلها من حضنهِ إلى الأرض . . خطر!!! كيف يتركهُ ليطُول أميراته!! لم يُبـالي بتفسيرٍ الآن بحجمِ ما كـان خائفًا عليهنَّ ممّا يقصدهُ بدر، لفظَ بخفوتٍ قلق : لك اللي تبيـه.. بس لا تنسى إنّك مفروض عليك التفسير لا تتهرّب بعدين مثل كل مرة!!
أغمضَ بدر عينيهِ وهو يقفُ قريبًا منهم، في إحدى الزوايـا، وعقله أدركَ أنّه يقصِدُ ذلك اليوم المشؤوم الذي تهجّم عليـه بعد أن فُقدَت حقيبةُ غـادة واكتشفَ أنّها لـدى ابنةِ يُوسِف، لفظَ بخفوت : تامر ، تامر أمر لك مني كلمة أفسِّر لك كل شيء.
أغلقَ وهو يراهُ ينحني لابنتهِ الصُغرى ويحملُها، تحدّث مع الباقيتين ليرى وجومَ ملامحهما بوضوحٍ من ذهابِهم في هذهِ اللحظـات . . زفـر بأسـى، بخيبَة ، ما الذي فعلهُ بِهم؟ استطـاع بوضوحٍ أن ينتبه للتحرّكـات الغريبةِ حولَ يُوسف، استطـاع أن يُدرك أنّه أدخـله في دائِـرة شكّ أعدائِهم من أن يكُون قريبًا منهم بأيّ شكلٍ من الأشكـال.
خرجَ يوسف ومعه فتياتِه بعد أن دفـع ما عليه ووضعهُ على الطاولـة، تبِعهم بدر دون أن ينتبهوا حتى مع تلفّتاتِ يوسف الذي أدركَ منها قلقهُ وحذرهُ ممّا كـان يعنيه ، يُريد أن يعتـذر عن بؤسه ، عن بصمتِه السيئةِ التي وضعها على هذهِ العائِلة ، حذّرهُ عبدالله من طيشِه في التعامـل ، حذّرهُ ولم يـبـالي كثيرًا بتحذيرِه!
عبروا الشـارعَ بعد أن أضـاءت الاشـارة الخضراءُ للمُارةِ وتوقٌفت السيّـاراتُ عن العبُور، تباطأت خطواتُ أرجُوان وهي تبحثُ في حقيبتها عن هاتفها، توقّفت أقدامها فجاة، هاتفها ليسَ في الحقيبة ، سوارتهـا الذهبيّة التي أهدتها لها امّها قبـل سنتين، محفظتها أيضًا . . شهقَت بقوّةٍ وهي تُدرك أنّها سُرقَت في المطعم على الأرجـح .. وصـل يوسف وجيهان للجانِب الآخر من الرصيف ومعهما ليان التي يُمسك بيدها، بينما بقيَت أرجوان في منتصفِ طريقِ العبُور الخـالي من سواها ولازال الضوءُ الأخضـر يسطَع .. رفعَت رأسها نحوَهم وهي تُريد أن تُخبر يُوسف بأنّها سُرقت ، سوارة أمّها من بين كل ما تحبّه سُرقت !! تريد أن تعُود للمطعم فهنـاك احتمالُ أن يكون من سرقها لا يزال هُنـاك، ربّما من كـان يجلسُ خلفها !!!
توقّف يوسف حين انتبه لعدم تواجدها معهم، نظـر لمكـان وقوفها ليعقد حاجبيه باستنكارٍ في الوقتِ الذي تحرّكت فيه نحوهُ بخطواتٍ واسعـةٍ حتى تُخبرهُ بما حدثَ ويعودوا، لكنّ عينيّ يوسف اتّسعَت فجأة ، ماتَت أطرافهُ وهو يبهتُ للصوتِ الحُادِّ الذي صُدر من السيّارةِ التي اقتربَت منها بسرعـةٍ مجنونة، أسقَط كفّ ليـان وهو يشعُر بمفاصلِه تيبّست وقلبهُ هوَى في معدتِه ، كانت السيـارة قد استهلكَت حرارة المكابِح محاولةً الوقوف، لكنّ الوقوف نظرًا لتأخّر السائق في الاستيعاب لن يكون قبل الاصتدامِ بجسدها الذي تيبّس بدرجةٍ فقدَت فيها الشعُور وهي تنظُر لها مُقتربةً منها، الاصتدام الذي لن يكون مُميتًا ربّما لكنّه سيكون كافيًا ليوصلها المشفـى . .
لم تشعُر سوى بيدينِ أمسكتا بِها ، كتفينِ عريضينِ مالا نحوها ، تحرّك بِها كي يُبعدها عن نطاق السيّارةِ لكنّ سرعتهُ لم تكُن كافيةً فاصتدمَت خاصرتهُ بطرفِ السيّارةِ التي دفعتهُ قليلًا للأمـام فترك أرجوان تلقائيًا وتوقّفت السيارة بعد الصدام، تأوّه وهو يضعُ كفّه على خصرِه وينحني للأمـام وألمٌ انتشـر في خاصرتهِ جعلهُ يُغمض عينيهِ ويشدُّ على أسنانِه بقوّة.
ارتعشَت أرجوان وهي تتراجعُ للخلفِ بعينينِ دامعتين وأطرافٍ مرتعشـة، حقيبتها سقطَت في مكـانِ وقوفها، نسيتها في هذهِ اللحظـة ونسيت معهُ ما سُرِق من هولِ ذعرها . . في حين اجتمعَ عددٌ من الأشخـاص ونزل السائق من سيّارتهِ ليتّجه بسرعةٍ للرجلِ الذي أنقذها وجلسَ على إحدى ركبتيه بينما يسندُ قدمه الأُخرى على الأرضِ وكفّه تُمسك خصرهُ بألـم، وقفَ الرجُل أمامه يعتذُر بلغةٍ هولنديّةٍ عن تهوّره وعدم انتباههِ ليسرد بكلّ تشتتٍ أنّه كـان يُحادث في هاتفهِ ولم ينتبه أنّ تلك الفتاة واقفةً إلا بعد فوات الأوان.
بينما كان الجالسُ يهزُّ رأسهُ بالإيجاب ومن الواضحِ أنّه يكادُ يضربهُ ممّا سببهُ فيه من ألـم، رأته بتشوّشٍ وهو يبعدُ أيدي من يريدون مساعدته في النهوضِ وملامحهُ تتجعّد ... بتقزّز !!!
شعَرت بكفٍّ أمسكَت كتفها، انتفضَت واستدارَت بسرعةٍ لتجدَ يوسِف أمامها بملامِحه التي تكادُ تنهار، احتضنها دونَ مقدّماتٍ لتسقُط دمُوعها من فرطِ الذُّعر الذي كـاد يفتك بقلبِها قبل أن تدهسها تلك السيارة، مكثَ لثوانٍ طويلةٍ وهو يحتضنها ويذكر اسمَ اللهِ عليها، ولم يتركها إلا حين انتبه لذلك الشـاب وهو يحاول النهوضَ حتى يبتعد، تحرّك بسرعةٍ نحـوه، وقفَ أمامهُ لينحني دون أن ينتبه له الشـاب ويُمسكه كي يساعدهُ على الوقوفْ، انتفضَ الشابُ ما إن شعـر بالذي أمسكه، نظـر لهُ بغضبٍ ليلفظَ بكلمةٍ حادّةٍ لم يفهمها ولم يُدرك في تلك اللحظـة أنها شتيمةٌ شوارعيّة لأنّه لمسه.
رمشَ قليلًا ومن ثمّ ابتسمَ وهو يلفظُ بالفرنسية ويدعُو الله أن يكون الذي أمامه يتحدّثها : شكرًا ، شكرًا لك لانّك أنقذت ابنتي.
أجفـل الشاب ذو الملامحِ الأوربيّة الصاخبـة بالبيـاض قليلًا قبل أن يرمـش ويستوعب ملامحه .. ابتسمَ على مضضٍ ليومئ برأسه ويلفظ بلغةٍ مماثلة : لا بأس.
يوسف بقلق : دعني أوصلك للمشفى.
امتنعَ الشاب وهو يتراجعُ ويهزّ رأسه بالنفي : لا تهتم أنا بخير وإن شعرت بشيءٍ فسيارتي قريبة من هُنا.
شكرهُ يوسف مرّةً أخـرى ومن ثمّ ابتعـد إلى أرجوان التي انضمّت إليها جيهان بملامحها المذعُورةِ ومعها ليـان.
كـانت هنـاك عيُون تُراقبُ بصدمةٍ ما يجرِي ، في اللحظـة التي استوعبَ فيها ما كاد يحدثُ لابنةِ يوسف لم يجد الوقتَ ليتدخّل ووجدَ ذاك القريبَ يمنعُ عنها ما لم يكُن جسدها الضعيفُ ليتحمّلهُ بعكس الجسدِ الرجُولي .. لا يكـاد يستوعبُ ما يرى!!
اتّجهَت نظراتُ الشابِ إليه ، أجفـل بدر فجأةً وهو يرى ابتسامتهُ المـاكرةَ وكأنّه يُدرك مكانهُ من بين جموعِ النـاس، لم يتحرّك من مكانِه من شدّةِ مُفاجئته ، بينما خطَى الشـاب إليه خطواتٍ لم تكُن متّزنةً كفايةً من ألـم خاصِرته ، وقفَ أمامه وابتسامتهُ تلك لم تتلاشى ، أمال رأسهُ بسخريةٍ ليهمسَ أخيرًا بخفوت : المُفتـرض تكُون حـاضِر ومُنقِذ لهالعيلة المسكينة .. بس واضح منت كفو!


،


فـي نهاياتِ اليوم، دخـل المنـزل وهو يشتُم بصوتٍ خافِت، الظـلام ينتشِر بامتدادِ الليـل في المنـزل، حقائبُ سفرِه عند البابِ بعد أن جعل السائق يُنزلها لهُ ولم يستطِع لألـم جسدِه . . تحرّك نحوَ الدرجِ وهو يهزُّ رأسهُ بغيظٍ ويهمسُ بخفوت : لابوكم لابو هالمدينة المعفنة .. الله ياخذك يا جدي أخذ عزيزٍ مقتدر.
لم يستطِع منع نفسهِ من الدُعـاء، توقّف فجأةً حين وصله الصوت الحـاد الساخِر الذي سمعَ دعاءه : هذا العِشم فيك.
استدارَ فجأةً بعد أن كان قد وقفَ على أولـى عتباتِ الدرج، نظـر إليهِ ببرودٍ ومن ثمّ ابتسـم بوداعةٍ وهو يلفظ : الحمدلله على سلامتي.
سعُود بحنق : الله لا يسلم فيك عظم!!
تميم : افا !!!
سعود بحدة : تعال يا ولد خالد ونورة عسـاك اللي ماني بقايل .. تعــال يا ****
تحرّك تميم بتذمّرٍ إليه وهو يلفُظ : ألفاظ سوقيّة ما ألومك من التربية المعفنة اللي تربيتها وأنا ويّاك طبعًا.
سعود بصرخةِ غضب : احتـرم نفسك يا ولد!!!
تميم يقفُ أمامهُ وهو يمطُّ فمه بضجـر : عادي ماهي بيننا الرسميات يا سعود .. قولي آمر شتبي تالي الليل؟
سحبَ يدهُ التي يُمسك بها خصرهُ فجأةً بقوّةٍ جعلتهُ يتقدّم للأمـام بشدّةٍ أثّرت على إصابته، شدّ على أسنانِه بألمٍ وهو يغمضُ عينيهِ ويلفظُ بغضب : وجع يوجع العدو.
سعود بابتسامةٍ ساخـرة : هذي جـزاة اللي يسوي فيها شهم وهو من جنبها.
نظـر تميم لملامحهِ بسخرية : تراقبني؟!
سعود ببرود : بلاش غباء كنت حول بدر وهذيك العايلة ال ****
عقدَ تميم حاجبيه باستغراب : هذيك العايلة!! شدخلها؟!
سعود : الله أعلـم . .
رفعَ أحد حاجبيهِ دون فهم، لكنّه لم يَطلب تفسيرًا وترك التحليلاتِ لعقلـه الذي ربطَ بين التفسِيراتِ بسهولة، بدر يعرفُ ذلك الرجل - والد الفتـاة -، وأكبـر جريمةٍ فعلها أن تعرّف عليه! لا تحتـاجُ ذكاءً ، بالتأكِيد أدخلهُ في معمعةِ حياتِه.
هتفَ سعُود ببرود : شلون كانت سفرتك؟
تميم يُدلّك خصرهُ وهو يبتسمُ ابتسامةً بسيطة : كويّسة ما عليها ، اللي محليها طبعًا إن خشتك ماهي موجودة ناقصني قُبح أنا؟!
سعود بضجر : ما تتغيّر قليل أدب.


،


في بداياتِ الصبـاح ، الغُرفـة القديمـة والغاليـة يتسلّل من نافذتِها ضوءُ الشمسِ الشاحِب، يجلسُ على سريرِ متعب ، لم يستطِع النومَ إطلاقًا ولم يستطِع أن يذُوق شيئًا منذ البارحـة، الإعيـاءُ بادٍ على ملامحهِ الحـادة، تقيّأ لوعـة بطنِه كثيرًا في الليـل، عصـارة معدتِه الفارغـة، لم يملك ما يُشغر بهِ معدته فلا تتألّم الآن بهذا الشكـل.
سمِع رنينَ هاتفهُ فجأة ، نظـر نحوهُ بلهفةٍ وهو يمنّي نفسه بأنّه رقـم متعب الذي اتّصل منه البارحـة وكلّما عاد يتّصل بهِ منه يجدهُ مُغلقًا !!
اندفـع بكفّه لينتاولهُ من على طاولة الكومدينة، نظـر للمُتّصل ليتنفّس بقوّةٍ وهو يرى أنّه رقـم أدهـم ، ليس هناك اختلاف، نفس اللهفـة ونفسُ المشـاعر، أدهم يعرفهُ ورفيقه !!
ردّ عليه وأنفاسهُ الحـادةُ تصلُ لأذن أدهم جيدًا، لم يُسعفه بالنطـق بشيءٍ حتى سبقه أدهم ببرود : احفـظ العنوان عندك وتعـال الحين . . . متعب ينتظرك


،


قبـل ساعةٍ ونصف . .
وصلَت الرسـالة الموجَزةُ لهاتفه، قرأها وابتسمَ ابتسامةً باهتـةٍ وهو يفهمُ معنـاها : ( نلتقي؟ ).
هذهِ الكلمـة أدركها ببساطـة .. نلتقي لأمرٍ لا يجُوز قوله على الهاتف ، والالتقـاء يكون في ذاتِ المكـان الذي تعاركـا فيه والتقيا بهِ البارحـة أيضًا.
وقفَ كي يتجهّز لخروجِه، يرتدِي الثوب الذي لم يقوى على إرتـداء سواه ونفسُه " عافت " كلّ الملابس دونه.

بعد رُبع ساعـة ، وقفَ أمام أدهـم وهو يبتسم الابتسـامة التي تعنِي الكثـير من الأسـى، أمال أدهم رأسه قليلًا وهو ينظُر لهُ بصمتٍ واجِم.
لفظَ متعب بمزاج : وش هالنظـرات البايخة على هالصبح .. ترى ما أخذت حلالك.
لم يشعُر سوى بلكمـةٍ شبهِ قويّةٍ أصابَت فمَه، اتّسعَت عينـاه بصدمةٍ وهو يتراجعُ للخلفِ ويضعُ كفّه على شفتِه التي نزفَت ، لم يستغرق الكثيرَ حتى تجعّدت ملامحهُ وهو يهتفُ بنبرةٍ حـادة : يا حمااااااااار . .
أدهم يبتسمُ بشرٍّ وهو يُمسك يده التي أرادَت ضربهُ قبل أن تُصيبه، وباحتقـار : شكلك يثير الشفقة ، ابتسم يا حبيبي ابتسم وش هالابتسامـة الميّتة؟!!!
متعب بغضب : حيوان أنت !! شكلك هاوي للمضاربة.. أصلًا أنا أعرفك من غير من أقول - شكلك - ذي يا مُتخللللف!!
أدهـم يُفجّر القُنبلـة في وجهِه : بتقـابل أخوك اليوم !!

.

.

.


: أكيد ما غفلتْ عن هالموضوع .. عشـان كذا لبست هالجاكيت مع حرّ الريـاض الكئيبة ذي . . بنروح الحين أي مطعم وبتدخل الحمـام وتلبس الجاكيت على أساس إنّك أنـا وغطّى راسك لا تخليه مكشوف ... وبكذا نتغاضـى موضوع المُراقبة وإنهم يشوفونك وأنت مع شاهين . .


انــتــهــى


موعدنا صباح الاثنين ()

ودمتم بخير / كَيــدْ !


أبها 03-06-16 10:19 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
سلمت يمناك اختي كيد ..

وابتدا الأكشن ..😄

عائلة يوسف .. هل كانت المراقبة فعلا موجهة إليهم
أم لبدر لأنه متواجد في نفس المكان ؟؟؟

جيهان .. جميل هذا التغيير في روحك ونفسيتك
الله يتمم لك على خير ..

تميم ... والله فاقدته من زمان بس زين طلع اليوم .😊
أشك أن تميم لا يوافق جده في أعماله الإجرامية .
وأنه بطريقة أو بأخرى يحاول أن يساعد ضحايا جده
قد تكون الرسائل التي أرسلها إلى سلطان من قبل
رموز لفك لغز مقتل أياه ..
واليوم محاولته لانقاذ أرجوان .. وطريقة استفزازه
لجده تدل على أنه كاره لعمله ..( وراك علوم يا تميم ) !!

شاهين ...
ألا تعتقد أنك تسرعت بنبذك لأسيل ؟
لن يكون الوضع بهذه البساطة تتخلى عنها لتكون من
نصيب أخيك !! بالطبع لن يتقبلها متعب ومن الصعب أن
تكون زوجة لأحدكما ..
اليوم ستلتقي أخاك !!! الله يعينك .
صوته قد فعل بك الأفاعيل فما بالك باللقاء ..!

شكرا من القلب كيد
بانتظارك .
🍃🌸🍃

بيسو محمد 03-06-16 02:09 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
من اجمل الروايات اللي قريتها ، استمري:flowers2:

ضَّيْم 04-06-16 04:36 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

شاهين ومتعب.
حقيقة يوم عشت الشعور شوي أدركت فعلاً إنّ كل واحد من هالأثنين موقفه صعب جدًا مو مثل قبل كنت واقفه بصف شاهين فقط.
متعب حاس بخيانة أغلى شخصين على قلبه وهذا أصعب شعور ممكن يواجهه أي أحد.
وشاهين مشتاق لشوفة أخوه وماله دخل بالمعمعة اللي صايره من وراه
أسيل مدري كيف أتوقع شعورها لو درت برجعة متعب! ممكن تفرح ترا ما أستبعد عليها "/

المهم إن شاء الله اللي بينهم يتّضح بعد لقاء متعب بشاهين، ولو جزء بسيط المهم يعرف متعب إنّ أخوه ماله دخل.


غزل، للحين ما اتضح ماضيها بالتفصيل، طوّلتِ كيد متى الوقت المناسب؟ :$
عمومًا اللي عرفته إنّها مشت برجلها لطريق الحرام وللأسف واضح من كلامها إنّها فقدت عذريتها
لذلك رقّعته بموقف الرجال اللي جاء من الله.
يعني إذا كانت فعلاً غلطانة بماضيها والحين ربّي ستر عليها بذاك الموقف فأتمنى تسير حياتها على هالنحو بدون علم سلطان.
بس المشكلة أذكر فيه وحده سألتك هل غزل فاقده عذريتها بماضيها؟ قلتِ مع الأحداث تعرفين
مدري حسيت إنّ فيه جزء بماضيها مبهم "/ بس أنا متأكده إنّها فاقدتها لأنّ أبوها وأمها كلهم عارفين هالشي وواضح متأكّدين
خصوصًا ابوها استغرب يوم قالت له في يوم العيد إنّ الأمور بينهم تمام! وبغى يتكلم لولا تدخل سلطان.

ياليت توضحين كيد هالأمر عشان نوقف تحليل من هالناحية "(

أدهم والله إنّي حابته من قبل ياخي قلبه طيب رغم إنّه قاهرني بموقفه مع شاهين بس ماينلام هو بعد فاهم السالفه غلط "/
وإلين رافعه ضغطي الله يهديها "/ طيب عارفه مغصوبه بهالزواج بس خليك صارمه معه بدون اللسان الطويل.
بيجي يوم وتندم على ماسويت :biggrin:

جيهان...
قلبي رق لها، الأهم إنّها عرفت غلطتها واعتذرت وندمت.
أتمنى لها حياة سعيدة وذكريات أجمل تنسيها فواز وأبوه...
كذا حسيت إنّ تميم بيصير له دخل مدري ليه :/
وبدر مع اختها، جمعت الشمل أنا :e412:

أمّا جنان، قلبي معها والله مايستاهلها فواز أبدًا، يلعب بمشاعرها بدون قصد وهو قلبه هناك.
يا إنّه يحاول يبدأ بكل جهده مو يمسكها ويقول قاعد أحاول! لا المفروض يبني ذكريات معها
يروحون لأماكن يخّزنون ذكريات تساعدهم في نسيان الماضي نوعًا ما.
بالنسبة لكلمته إنّه محط عبور لها فهنا علامة استفهام....

* حبّيت أفضفض
إن شاء الله شملت كل أبطال هالبارت الجميل :tongue:.
بالمناسبة فقدت سيف بهالجزء، من عقب ماقالها تجهّزي بنروح لمكان واختفوا :biggrin:
لاحظي ماقلت فقدت ديما لأنّها والله زوّدتها خلاص يختي الرجال شوي ويحبي خلاص، اللي فيك وبيتعالج والرجال اعتذر من زمان!
يا تبدأ تتلحلح ولا جيبي سيف لحاله بكره بدون مايجيب طاريها "/


كَيــدْ 06-06-16 07:41 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


*
*

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، صبـاح الخير والسعادة على قلوبكم 💗
كل عام وأنتم بخير والله يجعلكم من صوام هالشهر الفضيل وقوّامه . .
حبّة حبّة واقرأوا كلامي كويس -> تكتب وهي خايفة منكم :)
البارت كنت بقدّمه لليـل عشان اللي طلبُوا، بس فجأة كـذا انشغلْت من حيثُ لا أحتسب فقلت خلاص بنزله لكم بوقت النهار وأكّدت عليكم بالآسك.
الأحداث تقريبًا كنت مقفلة عليها خلاص وعطيت كلمة لإحدى متابعاتي تنزله عني بوقت النهار عشان مشاكل بالشبكة، بس فيه أحداث اكتشفت إنها لازم تنكتب ضمن هالبـارت، ما يصير أبترها وأحداث دسمـة جدًا هالبـارت فيه كمية حقائق بتنكشف وأحداث بتصير عشان كذا كنت بطلب منكم تزيدوني يومين بما أن رمضان بيشغلني ، بعدين تراجعت وقلت ما أبي أمصخها وأخليها بكرا بالليل ، هاه عادي؟ - ترى جد أقولها وأنا مترددة عشان ردّة فعلكم - :(
والله عارفة أول ما ينزل هالتعليق بتجيني تعليقات شكثرها بالآسك كلها لوم وبعضها بيكون فيها تجاوز لشخصي بس معليش أقدر أطلبها منكم هالمرة؟ تعطوني وقت بدون لوم أو عتب؟ خصوصًا للنـاس اللي تقول البارتز ما عاد ترضيها مرة ... يوم زيادة بس وأوعدكم بتقرأون أحداث تليق بِكم ،
أعتقد الآسك أكثر أبلكيشن يمكّنكم من تفريغ أعصابكم وانفعالكم عليْ :P مع كـذا أحبه ولا ودي أحذفه أو حتى ألغي خاصية المجهول فيه عشان تآخذ العالم راحتها، + أكثر متابعاتي ألاقي تعليقاتهم فيه، عشان كذا ما ودي أفرط فيه بحجة راحـة البال أإنّ جماله بالنسبة لي أكبر . . فياليت هالمرة بس ما أشوف ناس معترضة لأنّ البـارت بيكون أكبر إعتذار.


شكرًا لكم مقدمًا -> أقصد اللي بيتراجعون عن أي هجوم بعد ما يقرون كلامي :P


fadi azar 06-06-16 06:00 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 07-06-16 11:02 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعـة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحّة وعافية


بسم الله

قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !



لا تلهيكم عن العبادات . .



( إلى الذين يعرّون الأخوة من جلدها ، ويتركونها مرتجفةً في صقيع الزيف )

أتُنشدُ؟ أين أغاني الأخوّه؟
قصائدك السود بركان حقد
ومرجل نار، وسخط وقسوه
فأين السلام.. وأين الوئام
أتجني من الحقد والنار نشوة
و صوتُك هذا الأجشّ الجريح
صئمنا صداه الكئيبَ وشَجْوَه
فهلاّ طرحت رداء الجداد
وغنيت للحبّ أعذبَ غنوه
أيا سائلي! خلّ عنك العتاب
تلوم جريحاً إذا ما تأوّه
أخوك أنا! هل فككتَ القيود التي
حَفرتَ فوق زنديَّ فجوه
أخوك أنا! من ترى زجّ بي
بقلب الظلام.. بلا بعض كوّه؟
أخوك أنا ؟ من ترى ذادني
عن البيت والكرْم والحقل.. عنوه
تُحمّلني من صنوف العذاب
بما لا أطيق وتغشاك زهره


* سميح القاسم



(74)*3




تشعُر أنّ الصبـاح يخترقُ ببرودتهِ النافـذة الموصدة، نافـذة الحمّامِ الصغيرةِ التي تهمسُ برذاذِ المطرِ كلماتِ مواسـاةٍ من الطبيعـة، المطرُ يشاغبُ العيـان، يأتِي كثيرًا في لحظاتِ الحُزن ليُرغمك عن التستّر عن أعينِ النـاس حتى يبقى حُزنك حبيسك فقط، المطـر يسقُط ليستر عوراتِ عيوننا الباكيـة فلا يفقهُ العالمُونَ أنّنا نبكِي، نمُوت بحُزننا . . تمضمضَت بعد أن فرّشت أسنانها وأذنُها تستمعُ بعزفِ السمـاء بعنفٍ يجعل النافـذة تصرخ رغم أنّ الضاربَ لها " قطرات ".
مسحَت وجهها ومن ثمّ مـدّت يدها للمنشفـة الصغيرة، خـرجت وهي تُجفّف يدها لتصتدمَ عينـاها بأرجوان التي كانت تجلسُ على الأريكةِ وكفيها على فمها تنظُر للأمـام بُحزن.
تنهّدت ومن ثمّ اقتربَت منها وهي تلفُظ بهدوء : خلاص راحت عليك لا عاد تفكّرين بالموضوع.
نظـرت لها أرجوانْ بعينين تكادُ دموعها أن تسقـط، وباختناق : أنا ما همّيت جوالي كثير ولا اهتميت ببوكّي! انقهرت على الاسوارة غالي علي حيييييل.
جيهان تجلسُ بجانبها : طيب وبإيش تفيدك الحسرة الحين؟
أرجوان بغصّة : هدية امي!!
جيهان : أنتِ الغلطانة تحطينه بشنطتك ليه؟
أرجوان : بالله فكيني جيهان الحين أنا وش يدريني إنه بيصير وينسرق؟!!
جيهان بمواساة : خلاص عساها خيرة وعندك مليون ذكرى لأمي.
أرجوان بقهرٍ وهي تضعُ كفيها على خديها : هذا الأغلى على قلبي!
جيهان بحدة : أرجوان خلاص !!! احمدي ربك أصـلًا إنه ما صار لك شيء وأنتِ واقفة مثل الصنم بنص الطريق.
أعمضت عينيها وهي تعتدلُ لتسندَ ظهرها للخلفِ وتتنهّد، وبخفوت : الحمدلله بس . . * نظرت نحوها لتُردِف بوجوم * بعدين هو الغلطان الاشارة كانت خضراء!
وكزتها في كتفِها بمكرٍ وهي تغمزُ لها، وبنبرةٍ مُتلاعبـة : مين قدّك كم مرّة تطيحين بمشكلة ويساعدونك رجال وسيمين.
فغـرت أرجوان فمها بصدمةٍ وهي تبهُت، لكن سُرعان ما احمرّت ملامحها وهي تسمعُ جيهان تُكمل بحالمية : بالأول الأوربي هذاك اللي ساعدك لا تغرقين ، وأمس الأبيض الوسييييييم.
أرجوان بغيظٍ وهي تدفعها عنها ووجهها مُحمرٌّ بشدة : قليلة أدب وغبية انقلعي من وجهي.
ضحكَت جيهان وهي تسندُ كفّها على الأريكةِ كي لا تسقُط، وبمشاكسة : وما أنسـى بعد أخو البنت هذيك مملوح يعني يؤدي الغرض.
أرجوان بشهقة : يؤدي الغرض !!! أنتِ بأيش تفكرين يا وصخة؟
جيهان : هههههههههههههههههههه تفكيرك الوصخ أقصد بس يمديك تتذكّرين هالوجيه الحلوة وتنفتح نفسك.
أمالت أرجوان فمها لتلفظَ بنبرةٍ مستهزئة : وين تنفتح نفسي واللي يعافيك؟ الحين هذول الأجانب تشوفينهم حلوين؟ عاد اللي أمس مرررررة لاااا ملامحه حيييل ناعمة.
جيهان بنبرةٍ ضاحكة : هذا جزاته يساعدك؟! طيب اخو البنت؟
أرجوان : ملامحه أجمل وش زين الملامح العربية والخليجية، مافيه مجال للمقارنـة لا تحاولين.
جيهان باعتراض : بس معليش والله اللي أمس حلو وبعدين وين ناعمة شفتي العوارض الشقراء شلون مخليته جذّاب يمه قلبي . . .
وضعَت كفّها على قلبها بتمثيلٍ وهي تترنّح كالسكـارى، لم تستطِع أرجوان أن تمنع نفسها من الضحكِ وهي تلفظُ بتهكم : الله يخلف على عقلك.
تصنّعت جيهان أنها تفقدُ وعيها وسقطَت للخلفِ لتسندَ ظهرها على ذراعِ الأريكـة، بينما ضربتها أرجوان على معدتها بخفةٍ وهي تدعُو الله بأن يمدّها بكمـال العقل.
فتحت جيهان إحدى عينيها وهي تضعُ كفّها على بطنها بألـم وتلفظُ بامتعاض : شفيك على بطني أنتِ والفصعونة ذيك؟
تجاهلتها أرجوان وهي تتّجه للمطبـخ، بينما زفـرت جيهان بقنوط، علاماتُ البسمـة تلاشت، نظراتها الملتمعـة انطفأ لمعانُها، توارَت الضحكـاتُ خلفَ الحُزن الرماديِّ الذي يحاولُ أن يتلاشـى بسوادِ اللا وجود، بمحـاولة إقنـاع ذاتها بضعفٍ أنّها ليسَت متأثّرةً بِه، ليست متأثّرةً بغيابِه، بعلاقتهما التي انتهت، ليسَت متأثّرةً أبدًا . .


،


مازَال الليلُ يسكُن عينيها النائمتين، نعومةٌ نقشَت أحرفها أسفلها، صـارت ما بينَ الصحوةِ والمنـام، تشعُر أنّها تتوسّدُ قماشًا ناعمـًا/دافئًا، لحظـة! أليست هي من كانت على الأريكة الثخينةِ قبل أن تنـام؟! . . عقدَت حاجبيها قليلًا، تجعّد الجلدُ بين حاجبيها وانطـوى على سطحِ الإدراكِ وهو ينظُر عبر المرآةِ بصمتٍ كئيبٍ لملامحها التي بدأت تصحُو، تابعهـا بخشُـوعِ عينيه التابعتينِ لعينيها وهي ترفعُ أجفانها بثقل، الستـائِرُ الثخينة تحجُب جزيئاتٍ عديدةً من الضوءِ فلم يصلهُم سوى القليل من ضوءِ الشمـسْ، يشعُر في هذهِ اللحظـة أن الغُرفة أشـرقت فيها شمسٌ أرقّ، ضوؤها أشدّ سطوعًا، هذهِ الشمسُ لا تكون بدفئها المُنعشِ هذا إلا حين تشرقُ من عينيها، هذهِ الشمسُ مصدرها المحاجرُ التي تكبّرت وتجبّرت عليـه . . أشـاح نظراتهُ عنها ببرودٍ حين سقطَت أحداقها عليه، نظـرت لهُ ببهوتٍ للحظـة، قبل أن تُشتّتَ عينيها فجأةً وتنظُر للغـرفة بضياع، لازال النعاسُ متكدّسٌ في عقلها، لذا لم تستوعب أنٌها في غرفة النوم سريعًا، أنّها نامَت على السرِيرِ بجانبـِه . . . شهقَت فجأةً وهي تجلسُ وعينيها الناعستـان اتّسعتا، نظـرت لنفسها ومن ثمّ رفعَت اللحـاف لصدرها بربكـة.
ابتلعَت ريقها، وارتفعَت أحداقها رويدًا رويدًا لتصتـدمَ بعينيه أخيرًا عبر المرآة، رأت الاحتقـار الساخـر في نظرتهِ بوضوح، حينها انعقدَ حاجبيها بانزعاجٍ من تلك النظـرةِ وهي تُخفضُ رأسها قليلًا، بأيّ حقٍ نقلها من الصـالة لهُنا؟ بأيّ حقٍ حملها ومدّدها بجانِبه !!! بالتأكيد هو فعلها، فهي لن تقتنعَ بلعبة البارحـة مرةً أخرى.
تحرّك أدهـم دون أن يلفُظ بكلمةٍ نحوَ البـابِ حتى يخرج، لكنّ صوتها المبحُوح إثـر النومِ جاءهُ حادًا، هذهِ الحدّة الناعسـة، الخمُول البـاذخُ بـ - فتنة -، يُرغمهُ على قبضِ كفيه، إغمـاض عينيه، : بأي حق شلتني ونقلتني لهِنا !!!
رفعَ حاجبيهِ قليلًا وهو يعضُّ زوايـة شفتِه ويفتحَ عينيه، استدارَ إليها ببطء، نظـر لها نظراتٍ صامتـةً لا تعبيـر فيها، نظـراتٍ لم تجِد فيها نفس المشـاعرِ التي تراها كلّ الوقت منذ أصبحَت قَريبةً منـه. لفظَ ببرود : توقّعتك أذكـى من إنّك تسألين مثل هالأسئلة !
إلين تنظُر لعينيه الباردتيْن ببرودٍ أشد، مالَت بفمها قليلًا لتلفظَ بنبرةٍ مُحتقرة : ما يحتاج ذكـاء .. ما أبيك تلمسني بعيد عن حقيقة إنّي زوجتك.
أدهم ببرودٍ مستفزّ يكتّف ذراعيه إلى صدره : قلتيها .. زوجتَك! وما أحتـاج إذن.
استطـاع استفزازها بهذهِ الحقيقةِ التي لفظَها ببرودٍ وكأنّها لا جدال فيها، أدارها ظهره وتحرّك حتى يخرج دون أن يُضيف شيئًا، لكنّها لفظَت بصوتٍ مقهورٍ حادٍ منعتهُ بهِ من اكمـال ارتحاله : وطالع ! أي هذا اللي فالح فيه طالع وتاركني بروحي هنا!!
تنهّد أدهم بصبر، وبهدوءٍ دون أن ينظُر نحوها : يا بنت الناس توها الساعة ترى 7 الصبح وين ودّك تطلعين الحين؟
إلين بحنق : ما يهم بس ما تتركني بروحي كذا !!
أدهم بحِلم : مضطر أطلـع . .
إلين بكرهٍ وهي تُبعد المفرش عن جسدها وتمدّ ساقيها لتستقرّ أقدامها على الأرض : وعساها بدون رجعـة بعَد . . هه ينقال عني بشهر عسل !!!
كـاد يضحكُ في هذهِ اللحظـة، لكنّه كتَم ضحكتهُ وهو يهتفُ بسُخرية : الحين مصطلح شهر العسل يشملنا!!
ارتفعَت زاويـة فمها بسخريةٍ مماثلة : بطريقةٍ مـا .. أيه.
أدَار رأسـهُ إليها وابتسامتهُ تحوّرت بمكـرٍ جعل نظراتها ترتبك، برزَ عرق رقبتها وهي تسندُ كفيها على السريرِ وتُرجع ظهرها بتوتر، لا تدري لما شعرت أنّ ساقيها لا تستطِيعان جعلها تركضُ ما إن رأت نظرتهُ الماكـرة، بقِيَت تنظُر لهُ بعينينِ مهتزّتين ربكـةً بينما استدارَ إليها ببطءٍ طـال خطواتُه التي تحرّكت نحوها بخُبث، ابتسامتهُ اختلفَت جذريًا، فقد السخريـة والبرود والتمـع العبثُ القائم على زوايـا عينيه، توارَى الصمت، وانقشـع ضبـابُ البرود، وتفجّر صوتُه من العيُون/حنجرته الجافّة ليُغرقها بالذعـر : أبـي إثبـات ملمُوس يثبت إنّنا بشهـر عسل ... أبي أذوق هالعسل !!
شهقَت ليضيقَ صدرها بالأكسجين وهي تستقيمُ كي تهربَ من نظراتِه العابثـةِ وتلك الابتسامةِ الماكـرة، لكنّهُ كـان أسـرع، باعـد بين خطواتهِ حتى اصتدمَ جسدها بجسدِه حين حاولَت الهرب، سقطَت جالسةً على السريرِ وهي تتنفّس بقوّةٍ وقلبها يكـاد يسقُط في معدتِها من فرطِ الذعـر.
مـال إليها بخفّةٍ لتنتفضَ وتتراجع بقوّةٍ اسقطَت ظهرها على السرير، أمسكَ معصميها ليثبّتهما وينحني بوجههِ إلـى وجهها، وبابتسامةٍ مُتسليةٍ وهو يشعُر بمقاومتها الواهيـة في جعلهِ يتركُ معصمها ويتزحزحَ عنها : لا تحكين شيء منتِ قدّه .. أي عسَل واللي يعافيك؟
إلين بصوتٍ يرتعشُ وجسدها يفرغُ من المقاومـة : ابــعــِد !!
أدهم يمِيلُ بوجهه أكثر، وبرقّةٍ باسِمة : الاكتشـاف الجديد اللي اكتشفته اليوم .. أنتِ غبيّة ، غبيّة وساذجة وطفلة!! وأحب هالشيء .. يغريني أخوض هالتحـدي . .
إلين بمحاولـةٍ ساذجةٍ وهي تحاول رفع ساقيها المتدلّيتـين حتى ترفسهُ ويبتعد، لكنّه لم يغِب عن ذلك فكان يحدّهما عن الارتفـاع من ساقيه الواقفتين والملتصقتين بها بشدّة وهو ينحني بجسدهِ من الأعلى نحوها ويُقيّدها، لفظَت بقهرٍ تكـاد تبكِي من ضعفها : الغبـي أنت .. الساذج أنت .. الطفل أنت يا وررررررع.
ضحكَ بخفوتٍ مُتسلّي استفزّها أكثر، راقَب عينيها المُلتمعتين قهرًا وبالرغم من ذلك كـانت شديدة البـأس، كـانت جميلة! جمييييلةٌ والله! جميلةٌ تأسُر عينيه بأغـلالٍ خفيّةٍ استحوذَت على تعقّلِ عقلِه، هذهِ الطفلـة الفاتنة، كيف عساهَا الفتنة أن تجتمعَ في أنثـى نضجَت ولم تنضج، لازالت طفلتهُ الصغِيرة، لازالت سفينـةَ البُذخِ التي تاهَت عن مينـاء الوصول، لم تتُه! بل تمرّدت بتميّزها عن مينائِها الذي لم يرتقِي لجمالها، عينـاكِ شمسُ مغيبٍ لا تغيب، كم أرهقَت العيون بجمالِها وتحسّروا على الغرُوب، عيناكِ سحرُ بُستـان، امتدَّ للا نهايـة واللا ذبُول . .
رغِبَ في هذهِ اللحظـة لو يقبّل عينيها، لكنّهُ ابتسمَ لهما فقط، اقتربَ وجههُ حتى صارَ لا يفصلُ بينهما سوى الأنفـاس المنفعلةُ انفعالاتٍ اختلفَت، هي رفضٌ لما يحدُث، وهو " موتُ قلب "، همسَ بصوتٍ خافتٍ يَمدُّ الغرفـة بفحيحِ أوراقِ الشجـر، بخريرِ نهرٍ جـرف معهُ السِحر : عيُونك غاويـة! عيونك لؤلؤ، صدفها عنيد ، وأنا بحـر عجزت ألمسه.
أدارَت وجهها جانبًا وهي تزفُر بأنفاسٍ مُتحشرجَة، وبنبرةٍ مُختنقةٍ بأسـى : ما أخذت من البحر غير ملوحته!
ابتسمَ بتحدي، وانخفضَت وتيرةُ نبرتهِ أكثُر حتى لفظَ بكلماتٍ مُنتقمـة : اللؤلؤ ياخذ مذاق الملح ، لو ذقته ماراح أحصل حلاوة .. هو منظـر بس.
نظرت لهُ بعينينِ مُشتعلتينِ غيظًا، حاولت دفعهُ بشراسةٍ وهي تهتفُ بغضب : وخر عني .. وخر عن اللي مذاقها مالح وش تبي طيب مقرب مني كذا؟!!!!
ضحكَ بتسليةٍ وهو ينحني بصورةٍ مُفاجئةٍ حتى لامس بشفتيهِ نحرها، شهقَت بصدمةٍ وتصلّب جسدها فجأةً ومقاومتها، بينما كانت رائحـة عطرها الخفيفةُ تعبُر عبر أنفهِ إلى رئتيه، تخترقهُ ببطءٍ كقبلته، تفترشُ صدرهُ فينبسطُ حجابهُ الحاجز بزفيـرٍ مُسترخِي بعد أن اكتفـى بعطرِها عن الشهيق، اكتفـى عن الأكسجين واتّكأت رائحتـها على جهازهِ التنفّسي . . هاهيَ تتحكّم بِبيولوجيّةِ جسدهِ كمـا لا تدري وبعفويّةِ فتنتها، هاهيَ تعتكفُ على نبرةِ صوتِه فتمكّن الضيـاع فيها، يهمسُ بصوتِه بعد أن ابتعدَ قليلًا وشهقَ بالأكسجين عوضًا عن عطرِها، بصوتٍ خافتٍ عابث : اللي ما تكون راضيـة بوضع معيّن بحياتِها ما توصفه بوصف حلو .. فالغبـاء إنك تقولين عن حياتنا بهالوقت عسل! لا تلوميني لو حبيت أتذوّق هالعسـل جد!
كان جسدها يرتعشُ كمن عبرهُ تيّارٌ كهربائي، الغصّةُ غـزت حُنجرتها، النبرةُ في صوتِها ضعفَت لكنّها كانت حاقدةً بسببِ قُبلتهِ تلك : وقح !!!
ضحكَ بخفوتٍ وهو يُحرّر معصميها ويستقيمُ واقفًا، بينما جلسَت هي بخفةٍ وكفّها ترتفعُ لنحرها، تلامسهُ بأصابعَ ترتعشُ ربكـةً . . تراجعَ للخلفِ وهو يعضُّ شفتهُ يكتمُ بسمتهُ وقد رحمها من الاقترابِ القهري، بالتأكيد أنثـى مثلها لن تظلّ بقوّتها حين تشعُر بسطوةِ رجلٍ عليها، لذا شعر بالعطفِ عليها وهو يراها لا تريد إظهـار ضعفها أمامه، لذا استدارَ عنها وهو يلفُظ بصوتٍ هادئ : أشرقت الشمس وغربت وأنتِ ما صليتِ فجر ترى ... الفطُور بالصالة ، مضطر أطلع اليوم بعد وإن شاء ما اتأخر مع إني مو متأكد.
لم تستطِع أن تنبس بشيءٍ ولم ينتظِر هو منـها ردًّا بل ابتعدَ كي يخـرج، ولم تمرّ ثوانٍ قليلة حتى سمعَت صوتَ البابِ الخارجيّ يُغلـق معلنًا خروجه.
تنهّدت بضيق، تهدّلت أجفانُها لتُغمض عينيها أخيرًا وهي تبتلعُ ريقها بصعوبة، وأناملها دون شعورٍ تضغطُ على نحرها بشعورٍ خـانقٍ بالضيق.


،


كـان الليلُ طويلًا، مُشبعًا بأحـاديثِ الغـزل، الأحـاديثُ التي كانت تتلُوها شفاهُه، أتخمَ أنوثتـها، لكنّه لم يستطِع أن يمسّ الجزءَ البـاردَ في مشاعِرها ويُذيبـه .. طـال النهـار أخيرًا مرقدها لتُشرق عيُونها الناعسـة، أطلّ بينَ الستـائر المستندةِ على النافـذةِ بهوَى للظـلام . . استدارَت على جانبِها الأيسـر لتصـتدم بحرارةِ جسدِه، عقدَت حاجبيها تلقائيًا وهي تدفُن وجهها في صدرِه وتعُود لتُكمـل نومها، مرّت الثـواني رويدًا رويدًا ، حتـى شمـل الانبسـاطُ حاجبيها وارتحـلت التجعيدةُ التي بينهما ، ابتعـد عنها بهدوءٍ بعد أن نهـض في اللحظـة التي لامسَت فيها بشرةُ وجهها صدره، نظـر لملامحها النائمَة وابتسـم ، أزَاح شعرها المُبعثـر عنه، ومن ثمّ انحنـى ليقبّل جبينها برقّةٍ وينهضَ مبتعدًا عن السرير . . تمنّى لو أنّ البارحـة كانت استثنائيةً أكثـر ، بالرغم من كونِه قضـاها معها خارجًا إلا أنـها لم تكُن كمـا تمنّى ، لكن يكفِيه أنّها بادرته بالقليلِ من الأحـاديث.
ذهبَ للحمـام ليمسحَ وجههُ ويغتسـل سريعًا، وحين خـرج تفاجئ بالسـرير والغرفـة خاوية، زفـر وهو يجفّف شعـره، الغريبُ أنّه لم يكُن هنـاك مصدرُ حركةٍ حتـى خارجًا!!!
تحرّك باستنكـارٍ لهذا الهدوءِ الغريب، نظـر لصالةِ الجنـاح فوجدهُ فارغًا منها، الحمـام الآخر شبـه مفتوح، أخبـره أنّها ليست داخلـه ، هل يعقل أن تكون نزلت بهذهِ السـرعة؟
لم يكَد يستغـرق في تفكيرهِ حتى اجتـذبه صوتُ صرخـةٍ أنثـويةٍ دوَت في مسامعهِ وجعلته يركـض دون شعورٍ أو تفكـيرٍ خـارجًا من الجنـاح حتى يتّجـه لمصدرِها الذي لم يكُن سوى المطبـخ ، وجـد امّه واقفـةً عند البـاب وديما تتشبّث بها وتبكِي بذعرٍ وهي تلفظُ بصوتٍ متقطّعٍ بشهقاتـها : لمسنـي !! اه يمممممممه لمس رجـولي والله العظيم لمسني!!!
اقتـرب سيف وهو يعقدُ حاجبيه وقلبـه يضخُّ دماءه بقوّةٍ ويكـاد أن ينفجِر في أيّ لحظـة ، لفظَ بانفعالٍ ما إن وقفَ خلفهما : شفيكم وش اللي صايـر؟
نظـرتا إليه ليـرى وجـه ديما الملطّخِ بالدمـع والذعـر الذي صبّ في قلبِه المزيـد من الخوفِ حتى صرخ بغضب : شفيكـم ليش كنتِ من تو تصارخين؟
لم تردّ عليه وأصابعها تُمسِك بذراعِ ام سيف بقوّةٍ وخـوف، تدارَكت امه نفسَها لتهتف بنبرةٍ باهتـة : كان فيه حيّة بالمطـبخ شكلها دخلت من البـاب المفتوح ، طلعت عشان أقولك ولقيت ديما صاحية وأنت بالحمـام فنزلت هي معي لوقت ما تطلع.
عقـد حاجبيهِ بعنف، وضعَ كفهُ على كتفِ ديما ليُبعدها عن امِه ويدخُل من بينهما بعد أن كـانتا تُوصدان الباب بجسدِهما، نظـر لأرضيّة المطبـخ بنظراتٍ سريعة، لكنّ صوتَ ديما جاءهُ بخفوتِه المتقطِع بين شهقاتِها المُختنقة : طلـع قبل لا تجِي مباشـرة.
سيف بحدة : متأكـدة؟!
ديما : أيـ ـه .. كنت أراقبه وما رفعت عيني من عليـه . .
سيف يزفُر : لا حول ولا قوة الا بالله أكيد الحين بيكون بالحديقة .. من وين جاء؟ وبعدين ليه تفتحُون باب المطبخ بهالوقت؟ لو صـار ولدغـ . . * قاطـع كلماتهُ بأخرى حادةٍ مُنفعلة وهو ينظُر لقدمِ ديما * لحظـة سمعتك تقولين لمسك؟!!
ديما تمسحُ دمُوعها وهي لا تشعُر بقدميها من رعشتِهما، وبقرف : لمِسنِي بذيله بس . .
سيف بضيقٍ مسـح على شعرِه، لم يشعُر بنفسهِ أنّه قد نـزل راكضًا ببنطـاله القطنيِّ وحسْب، انتبـه لتوّه فاتّجَهت أحداقه لامّه وهو يلفظُ بحرج : معليش مع صرخة ديما ما حسيت بعُمري،
ام سيف بغضبٍ حـاد : بالله هذا كلام نعنبو ابليسك تراني كنت أرضعك وأروشك وأنظفك لا تنسـى والا بس لأنّك صرت كبير ومتزوّج تكبّرت على امّك!!!
سيف بابتسامةٍ مُحرجَةٍ حكّ رأسه : طيب يمه خلاص دريت إنّك مسوية لي كل ذا . .
ابتسمَت ديمـا رغمًا عنها وأنامِلها لازالت تمسحُ الدمُوع التي لم تتوقّف، اقتـرب منها سيف لتبتعِد امه تلقائيًا وتخرج وهي تلفظُ بحدّة : انتبهوا تراه ما أبعد كثير.
سيف يُجيبها بهدوءٍ وهو ينظُر لملامح ديما : لا تحاتين بتأكّد الحين وينه وأضمن إنه ما يظـل.
لم يصِله جواب امّه لأنّها ابتعـدت ولم تسمعَه، نظـرت لهُ ديما بوجهها المحمرِّ في اللحظـة التي ارتفعَت فيها كفّه ولامسَ مُحيط عينِها اليُمنى ليمسـح بلله، ابتسـم وهو يهمس : جبانة!!
عقدَت حاجبيها بضيقٍ وهي تمسحُ على فمها الصغيـر المحمر، وبصوتٍ مُختنـق : تخيّل يلمسك عادي!!
سيف بسخريةٍ طفيفة : تحسبيني مثلك ببكِي وأخاف؟ لا طـال عمرك سبق وذبحْت في مسيرة حياتِي حول السبع حيّات ويمكن أكثر.
ديما باستغراب : وماقد عضّك أي واحد منهم؟
سيف : امي تقول انه بصغري عضني واحد عاد أنا ما أذكـر.
ديما بصدمة : لحظة من متى كنت تذبحهم؟
سيف يهزّ رأسه بالنفْيِ وهو يبتسم : ما أذكـر . .
وضعَت كفّها على رأسها وهي تهمسُ ببهوت : يارب! وأنا اللي أحس روحي تطلع بس لأنه لمسنـي بذيله!!!
تأوّهت بقوّةٍ حين تذكّرت قدمـها، وبتقزّز : اخخخ رجـلي بروح أغسلـها بكل المنظـفات الله يقرفـها.
ضحكَ وهو يراها تبتعدُ بعرجٍ وكأنّ قدمها أُصيبت وليست مجرّد لمسـة! حسنـًا ربّما عليه أن يشكُر تلك الحيّة لأنّها جعلَت نبرتها تتغنّج على مسامعه، سمحَت لهُ برؤيتها بالقليلِ من الحيـاة.
ابتعَد وهو يضحكُ باتّجـاه بابِ المطبـخ حتى يبحثَ عن تلك الحيّة التي جاءت إليهم رحمـةً ربّمـا !

يُتبــع . .


كَيــدْ 07-06-16 11:04 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


النهُوضُ باكرًا عـلامةٌ كافيـةٌ للإرهـاق رُبّما! النهوضُ قبل الفجـر لساعات، فقط لأنّه نـام في غيرِ وقتِه، كلّ ذلك يقُول لهُ بالحرفِ الصامت " أهلكتك الدنيا يا سلطان ".
هذهِ المرّة كـان يراقبها هوَ، بعينٍ تطلُّ على شرفةِ أحداقها المُوصدة، على غيمها " الأهداب "، هذا الغيمُ الكثيف الذي كـان كثيرًا ما ينسدلُ على مطرٍ فيُخفِيه ، من ذا الذي يـقـاوم الطبيعةَ في تكوينها؟ لطالما كان الغيمُ هوَ - رحم المطـر -، وليسَ مظلّةً لـه .. شهرُ رمضـان والشهرينِ قبلـه، كلّمـا تذكّر فيها ساعاتِ البـكاء واللومِ الظـالم لنفسها و " سامحني " يشعُر أنّ هذا الغيمَ يضغطُ عليه بكثافةٍ عاليـة ويحطّم أضلعـه، يحترقُ كثيًرًا لما آلَ لهُ الحـال ..
في زمنٍ مـا نـام في بداياتِ مراهقتهِ باكيًا بعد موتِ أبيهِ وأطلّ سلمـان بعينيه يراقبهُ حتى فتح عينيهِ وصدّ عنـه، وأيـامًا كثيرةً راقبـها هو، وهـاهو الآن يعُود ليُراقبها دون أن يرى الـدمع ، لربّما ارتاحت ولو قليلًا الآن! يا رب!
رفـع يدهُ ببطء، لامسَ جبينها المتلحّف بخصلاتٍ من شعرها الفوضويّ في منامها، أزاحـه قليلًا في اللحظـة التي فُتحَت فيها الشرفـة التي كان موصدة، ارتفعَ الغيمُ الكثيفُ لتظهر نصف أحداقها لأجفانه المُثقلة بالنعـاس.
ابتسمَت ، عقلها حتى في تكدّس النـعاس عليه يُدركه وإن غشـاه اللا إدراكُ أيضًا . . ردّ الابتسامـة بتلقائيّة، أمالَت رأسها قليلًا وهي تعُود لتُغمض عينيها بعد أن شعَرت بأنّ الشمـس صخبَت بضوئِها من عينيه.
اعتدل في جلستِه قليلًا وهو يلفظُ بهدوء : كم مرة أقولك لمي شعرك قبل النوم؟
اتّسعت ابتسامتها وهي مُغمضَةُ العينين، وببحّةٍ وحنجرتها الجافـة لا تُسعفها بالكثيرِ من الحديث : مزعجك؟
سلطان : تقدرين تقولين كذا.
فتحت عينيها وأدارَت جسدها حتى تمدّدت على جانبها الأيسـر ليظهرَ لها وهو جالسٌ على طرفِ السرير، وبرقّة : أبشـر من اليوم بأفكك منه.
سلطان عقدَ حاجبيه قليلًا : لهجتك وراها معنى .. وش تقصدين من تفكيني منه؟
ارتفعَ جسدها قليلًا لتتّكئ على مرفقها وينسـاب شعرُها ساقطًا بطولِه على السرير، وببساطة : أفكـر أقصه.
تجعّدت ملامحه تلقائيًا ليلفظَ بعفويّةٍ تامـة باعتراض : لا منتِ قاصته .. كِذا عاجبني.
ظهـرت الصدمـة على ملامحها وهي تفغـر فمها، انهمـر الصمتُ في يمّ الخجـل الذي تألّق في محاجِرها، أجفانِها الناعسـة التي انتفخَت واعتَلت بكلماتِه العفويّة الناعمـة " في غزل "، هذا ما رأتـه ، ما استشعرته، ما فضـى إلى قلبها المُتيّم، هذه التميمةُ التي تنفُث على صدرها طمأنينةً بِسحرٍ مـا ، سحرٌ أباحَه الشـرعُ وأسماه الحُب ... أوّل علامـات الإعجاب التي أفصحَ بها ، شعرِي الطوِيل الذي استفزّ صمتَه وحكَى بعفويّةِ غزلٍ نـاعم ، أوّل علاماتِ الأنوثـة التي دغدغَت اعجابه خُصـلاتٍ سوداءَ تشابكَت مع كلماتِه وسحبتهُ إلى مسامِعها ، نفضَت الغُبـار عن صمتِه ، وحكَى . . أخيرًا!
أخفضَت رأسها قليلًا وأسبلت أجفانها بابتسامةٍ خجولةٍ وهي تهمس : يحرم علي من اليوم أقصّه.
سلطـان الذي لم ينتبـه للأعاصِير التي خلّفها فيها : يكون أحسن.
خلخَلت بأصابِعها سوادهُ وهي تريدهُ أن يتحدّث أكثـر ويُثير قلبها أكثـر، تريد المديحَ من بين شفتيه والتي تراهُ غزلًا ناعمًا كوجنتها التي تحمرُّ بعشقها له : طيب بغيّر لونه!
ابتسَمَ وهو يرفعُ حاجبيهِ وكأنّه أدركَها من حُمرة وجنتيها، مدّ يده، وهذهِ المرّة كـان هو من تخلخلَ خصلاتِ شعرها السوداءَ بأصابعهِ وهو يهتف بهدوء : فيه أجمل من الأسود؟
ارتفعَ صدرها بتحشرجِ ربكةٍ اعتلَت سطح صدرها، تصلّب جسدها دون صدرها الذي ثارَ فيه الأكسجين، لم تشعُر بنفسها وهي توجّه عينيها لذراعِ يدهِ التي تتخلخلُ شعرَها، شعرَت بأنّ الزمـن توقّف وبدأت عيُونها تحصُر عدد العروقِ البارزةِ في معصمِهِ وهي تشعُر أنّ بشرةَ كفّه الملامسَةِ لفروةِ رأسها استرخـاءٌ كافِي لكلِّ أعضاءِ جسدها المُتخمَة بالانقباضاتِ المتشنّجة.
حرّكت أحداقها بعد أن طـال الوقتُ بالنسبةِ لها، الثوانِي تمتدُّ لساعاتٍ من شدّةِ الانتظـار للحظاتٍ كهذهِ معـه وإن كانت عفويّةً لا يقصِدُ بها شيء . . نظـرت لهُ بصمت، كـان صامتًا تمامًا وكأنّه شردَ بعيدًا، رفعَت كفّها لتضعها على كفّه فوقَ رأسها، وبخفوت : أقـدر أسألك سؤال؟
أيقظتهُ من حالـة شرودهِ فنظـر لها وهو يعقدُ حاجبيه ويصمتَ علامـة أن تُتـابع، أردفت بتردد : بس ما أبغاك تعصب.
سحبَ يدهُ ببطءٍ ليرتفعَ صدرها بقوّةٍ وكأنّه سحبَ معهُ روحها، لفظَ بهدوء : على حسب السؤال.
ابتلعَت ريقها بتوترٍ ومن ثمّ شتت عينيها وهي تتحرّك حتى تهرب من أمامه : أجل بتعصب خلاص ما عندي شيء أقوله.
ابتعدَت تريد أن تنزل من الجهةِ الأخرى عن السرير، لكنّه كـان أسرع منها، أمسك كتفيها وثبّتها، وبحزمٍ وهو ينظُر لعينيها بنظراتٍ لا تراجـع فيها : احكِي .. ماراح تمشين قبل لا تقولين وش السؤال ذا.
أدارَت رأسها عنهُ وهي تفغرُ شفتيها وذرّاتُ الأكسجِين تعبُر من بينهما باردةً وجزءٌ منها كـان يحملُ معها عطره الهادئ، هتفَت بتردد : يعني .. كان ودي أقُول بـس ... * رفعَت عينيها بتوترٍ إليه لتُكمِل * منت متقرف منِي؟ .. لأنّي .. لأنِّي . . .
لم تستطِع المُتابعـة، صمتتْ وأخفضَت رأسها بضعفٍ وكفوفها ترتعش لتضمّهما ببعضِهما، لم يكُن يحتـاج لأن تُكمـل حتى يفهم، فالجُمل للمبتورةَ كثيرًا ما تأتِي واضحـةً ومُكتملةً بالنبرةِ ذاتها والصوتِ المُرتعِش، خفَت شدُّ كفيه على كتفيْها، أظلمَت ملامحهُ قليلًا وهو يُخفضُ كفّيه حتى شعَرت بالهواءِ البـارد يخترقُ مساماتِها بعد أن ابتعَد دفءُ جسدِه، رفعَت رأسها بشهقةٍ خافتـةٍ وهي تشعُر بهِ ينهضُ ويبتعدُ بانفعـالٍ واضِح، تشنّجت أصابعها وهي تراهُ يُريد أن يخرج، حينها لفظَت بانفعالٍ ورجـاء : سلطااااااااان.
سلطـان بصرخةٍ مفاجئةٍ غاضبـة وهو يستدِيرُ إليها : يعني مصرّة تستفزّيني بهالموضوع؟ مصرٌة تضايقيني لما تذكرينه والا تنتقمين مني عشـان معاملتي لك قبل!! وش اللي تبينه بالضبط يا غـزل؟ كل اللي تمنيتيه عطيتك، تركتك على ذمتِي، أبعدتك عن أهلك، أحـاول أنسّيك بس أنتِ مقررة ما تنسين ومقررة تنتقمين بذكرْ هالموضوع وكأنّي تعمدته!!
أفرجَت شفتيها بصدمةٍ وهي تهزُّ رأسها بالنفِي ببطء، بصدمةٍ وهي لا تستوعبُ أين ذهبَت تفسيراتُه، كيف عسـاه يظنُّ لوهلَة أن تفكّر بأن تنتقمَ منه لأمـرٍ لا ترى أنّ لهُ سببٌ فيه؟! كيف قد تتجرّأ أصلًا بأن تضرّه؟ . . ابتلعَت ريقها وهي توقفُ هزّ رأسها وتعترفُ بأنّها قد ضرّته فعلًا حين كذبت عليه مرات، لكنّها ، لكنّها لن تتجرّأ بأن تحـاول استثـارة آلآمه مما حدثَ لها !!!
هتفَت بصوتٍ مختنق : لا والله ما أقصد أنتقم ولا أضايقك ، أنت أصلًا ما ضريتني عشان أنتقم لنفسي !!
اقتربَ منها بغضبٍ حتى وقفَ أمامها بينما كانت جالسًة على السرير، أمسكَ كتفيها بحدّةٍ ورفعها لتجلسَ على ركبتيها وهي تنظُر لوجههِ الغاضِب ببهوت، وبعصبية : طيب أيش اللي تبينه بالضبط؟ ليه ما تنسين وتخلينا نرتاح؟ قوليلي وش اللي ينسيك يا غـزل !! وش اللي يخليك ما تتحسّسين من هالموضوع وتكمّلين حياتك ولا كأنّه صار !!
أغمضَت عينيها ودمعةٌ أسيرةٌ سقطَت، هذا الغضبَ وهذا الضيق وهذهِ الشراراتُ التي خلّفتها في عينيه، يُؤلمها أن تكُون مفتـاح هذهِ العواصِف التي تُؤتـى منه، أن تستفزّه دون قصد! لم تكُن تقصد الاستفزاز ولا أن تضايقه بكل هذا!!
فتحَت عينيها لتنظُر لملامحهِ بعـذاب، بينما لفظَ سلطان وقد خفت صوتهُ فجأة : تبين دكتورة تساعدك! ترى هالمواضيع مافيها حساسية يا غـزل وإذا كنتِ شايلة هم إن النـاس ممكن تدرِي بنطلع من السعودية وبآخذك لدكتُورة محد يعرفها بس أهم شيء لا يظل هالموضوع مأثّر على نفسيتك! قولي وش تبين يا غزل ؟!
ارتعشَت شفاهُها، جفّت حُنجرتها من الكـلام لوقتٍ ومـالت حبـالُ الكلماتِ حتى كـاد يقطَعُها الصمت الحـادُ ويجرحُ معهُ حُنجرتها، غصّت مقلتها بملوحةِ الدمع، عقدَت حاجبيها بينما ثبَتت حبالُ الكلمـات وصمتت وغـادرها الجفاف حتى لفظَت بصوتٍ خافتٍ مُعذَّب : أنت !! . . ما أحتـاج غيرك .. ما أبِي أحد ، ما يهمُوني هالعـالم لأنّك أنت علاجي ودواي . .
شعرَت بكفوفِه ترتخِي قليلًا، ملامحهُ تلين، عينيه تلتمعـان بشيءٍ مـا لم تفهمهُ وكـان في أشرعةِ بابِه الكثير من الألـم الذي يئن، حمّلت الجفـاف الذهبيّ على أهدابِه وذبِلت وهي تراهُ يزفُر ويغمضُ عينيه دونَ ردٍّ يُشفي غليـل لهفتها. غزل تُردف بغصّة : عشـان كذا أسألك متقرف مني! لو كـانت الإجابـة الصادقة لا بتعالجـني كثير ، من الماضي ومن الآلآمْ ذي كلها ومن هالغصّة اللي لهاليُوم مازالت بصدري.
تركَ كتفَها لتسقطَ مستندةً على كفوفِها، كـاد السريرُ أن يهتزّ بسقُوط جسدها كلّه لولا أن ثبتت كفوفها أخيرًا وأسندتها، أردفت بألمٍ وهي تراهُ ينوِي الابتعاد : أبـي الصدق بردّك، لو رحت الحين يعنِي أيه .. يعني إنّك تتقرف مني!! يهمّك أكون كاملـة ، مثل أي رجّال وما ألُومـك .. بس قُولها، لا تسكت، قولها عشان أعرف خلاص إنّ هذا الحد بيننا.
بقيَ ينظُر لها بصمت، نظراتهُ تنتقلُ منها للأسفـل/الفراغ وتعُود لها بصمتٍ كئيبٍ وكأنّه يرفضُ هذه اللحظـات وكلماتِها، ابتَسمَت بأسى وهي تُشيح بنظراتها عنه ودمُوعها تسقُط أكثـر .. زفـرَ بيأسٍ وضجرٍ وهو يمرّر يدهُ على رأسه، وبحدّة : يا كثر ما تحبين تستفزّيني !!! تبين الإجابة؟
اقتربَ حتى التصقَت ساقاه بالسرير، تراجعَت للخلفِ حتى اقتربَ ظهرها من سطحِ المفرشِ ببهوتٍ وهو ينظـر لها بحدةٍ ليردف بصوتٍ قاسِي : أكبـر استفزاز لأي رجّال إنه ينسأل هالسؤال من مرتـه ، اللي مالها ذنب ولا خطَت لهالمصِير بإرادتها!! تعرفين وش يعني القهر بعينه؟ هذا بس اللي يحرقنـي .. مالك دخـل، ماني متقرف منك كثر ماني مقهوووور وبس! وصلت الإجابة؟
عقدَت حاجبيها بضيق، " مالها ذنب ولا خطَت لهالمصير بإرادتها "! كيفَ تتجاهلُ هذهِ الفقـرة من حديثه، كيفَ لا تستفزُّ حُزنها وتُغيظُ آلآمِها، مُنشرخةٌ هذهِ الثقـة في عينيك يا سلطـان بحادثةٍ لم تحدُث! تظنُّ بأنّ كل شيءٍ كـان رغمًا عني ولا تدري أنّني من خطَت نحوَ هذهِ القـذارةَ بأقدامِي، موجعةٌ هذهِ الكلمـاتُ من فمِك، نقيٌّ أنتَ وأنا الملوّثـة والمُمرّغةُ في الوحـل .. آه لو أنّ الأشهُر تعود! لو أنّ الأيـام تتراجـع وتسحبها حِبـالُ الحسـرة والأسـى .. من كُنت؟ من تلك يا غـزل التي وضعَت حاضري ومستقبلي على هذهِ المقصلةِ التي تكاذُ تذبحُني في أيّ لحظـة .. تذبحنِي نظرتك هذهِ المُشبعةِ بالثقـة - بِي -!!!
لم تدري في تلك اللحظـة أنها قد استلقَت على ظهرها وبدأتْ تبكِي، أنّ ذراعها انفردَت على عينيها تُغطّى الدمُوع التي لطّخَت بشفافيتِها مُحيطهما، تجمّد وهو ينظُر لها ببؤس، يشعُر بالضِيق كلّما بكَت هذهِ الأنثـى بنعومـة نحيبها ولا يجدُ حتّى الآن ما يضمّد بهِ مُقلتيها عن حدّة الدمُوع التي تجرحُ وتُضاعفَ التهـاب العيُون بمـلحِها . . انحـنى بجسدهِ الصلبِ نحوها، أمسكَ بذراعها وهو يتنهّد، وبهدوء : غــزل !!
زمّت شفتيها وهي تُكمل نحيبها باختنـاقٍ جارحٍ لأضلِعها، حاول سحب ذراعها بهدوءٍ عن عينيها لكنّها كانت تشدّ رافضـةً أن يرى الجُرح الشفّاف الذي غطّاهُمـا، لا تريد أن تُزعجه أكثـر، لكنها لا تستطِيع، لا تستطِيع سوى أن تبكِي بعد أن علّمـها وأحسن تعليمها.
سلطان بحدة : غزل يكفي بطلي هالحركـات الحين.
غزل بقهرٍ مبحوحٍ وهي تشدُّ على ذراعها بمقاومةٍ ساذجـة : اتركني أنا وحركاتي لا تضايق خلقك على تفاهاتي!!!
سحب ذراعها بحدةٍ وهو ينظُر لعينيها بنظراتٍ حـازمة، وكأنّها في هذهِ اللحظـة لم تهوى سوى العنـاد، رفعَت ذراعها الأخرى تُريد أن تغطي عينيها بها عوضًا عن تلك، لكنّ يدهُ الأخرى منعتها حين أمسكَت معصمَها وهو يلفظُ بصوتٍ خافتٍ حـاد : بس ! كفاية حركات البزارين هذي !!!
ارتعشَت شفاهها وهي تقوّسها، تهـدلَ فمها واهترأَت ملامحها التي تجعّدت واحمـرت بإثـارة البُكاءِ لها، رأت نظـراته الصامتة لعينيها المُحمرّتين والدمُوع تجد طريقها إلى خديها، تشعُر أنّ الجـدران تضيقُ على صدرِها ولا تجدُ لصوتِها منفذًا، هذا الأنين خافتٌ بالنسـبة لضجيجِ صدرها الباكـي بترفِ حُزنِها، وجَعها الذي ينقُش بحناءِ السوادِ لهبًا على شفتيها فتخرج كلماتها حارّةً إليـه : اشتاقك .. حتى وأنت جنبي وقدامي أشتـاقك ، متـى تمطر علي هالدنيـا برضا الحُب في عيُونك؟ متى؟!! بقد ما أسعدتني وخليتني أولد من جديد بقد ما ضرّيتني! إذا لهالدرجـة ما ودّه قلبك يحب ليه خليتني أحبك؟ ليه خليتني أشوف الدنيـا أحلى؟!!
مرّر لسانـه على شفتيهِ وهو يضوّق عينيه، لوهلـةٍ تذكّر الحوار الذي دارَ بينه وبين سلمـان البارحة، حين قالَ لهُ " أنّه يكره هذه المشـاعر ولا أحد يستحقها "، كرِه المشـاعر لأنّهـا - خُذلان - وهو لا يريد خذلانًا آخـر يُضعفه، كلمـات سلمان في مسيرةِ تربيتهِ كاذبة ، حين كان يعلّمه بأن المشـاعر لا تضعف، المشـاعر سمةٌ في قلب الإنسـان، لا تُضعف بحجمِ ما تقوّي حينَ نُريد، لكن هل عسـاها تخذلُ مشاعـر حبٍّ لامـرأة! غزل بضعفِها وطفولتها ، كيف قد تخذل؟ لمَ لا يُهديها الحقّ بالثقـة في أنّ للحيـاةِ فُرصًا للسعـادة! لمَ يبخـل عليها القليـل من الأمـل؟!
أردفَت غزل وهي تقبضُ كفيها المقيّدتين بيدَيه، بابتسامةِ أسـى : خـاف الله فيني! لا تخلّي هالقلب يتحسّب على قلبك بدون ما يحـس .. ليه ما تعطينا فرصة دامك ما تقرف مني ودامك ما تحس إنّ . . .
أُخرسَت كلماتها واتّسعَت عينـاها ببهوتٍ حين أنهَت شفاهُه سلسـلة اللومِ من شفتيها، ارتخَت يديها المنقبضتين، غـادرها انفعالها وشعرت بدمائِها الثائرةِ تهدأ، أجفانها ارتخَت وشفاهُها تحاول في هذهِ اللحظـة أنّ تصدّق بأنّه يقبّلها! القبلـة الأولـى بالنسبةِ لهُ وحتى لهـا، هذهِ القُبلة التي لم يكُن يحرّكها الحقـد والغضب، لمْ يكُن في حالـةِ اللا شعُور التـام وهو يهبها لشفتيها ويتنفّس زفِيـرها وهي تتنفّس عطـره ،
الحُلـم ، رُبما لم يكُن سوى في مشكـاة .. والآن بدأ يُضيء .. هذهِ القُبلـة تعنِي الكثير، تعني أن حِمم الانتظـار أحرقَت جموده، تعنِي أنّه لم يعُد " والدها " وأنّه زوجـها فعلًا وسلطـانها . . حرّر معصمها الذي نبضَ فيه وريدُها بانفعـال، ارتفعَت كفّها تلقائيًا ما إن حرّرها لتُحيطَ عنقهُ ومواضـع النبضِ انفعـلت مع معصمِها، أحاط وجهها بكفيه بينما أغمضَت عينيها أمام أجفانِه المُنسدلـة وهي تعيشُ قبلتـه بخشوعِ صدرها الذي ارتفعَ بشدّةٍ لتُلامس صدرهُ النابِض .. يجيئها من شُرفـةٍ بعيدةٍ بهواءٍ قاطَع صدرها ، هذهِ القبلة الآن شعرت أنّه يُحييها بها ويبعثُ أوردتها الميّتةَ والمُنتظـرة لدمٍ يحمِل هواءه، لطالمـا انتظرتُ منكَ مباردةً تُثبت أنّي لا أنتظـر سرابَ مـاء، مبـادرةً لا تبقى تعلّقنـي في حبلِ الانتظـارِ دهرًا وأهترِئ كقماشٍ لم يُسعفهُ مـاءٌ وتجعّد . . تكويني اللهفـة المعلّقة على شفاهِي يا سلطان، تكويني وضاعفَ الآن لهبَها . . ابتعدَ عنها وهو يفتحُ عينيه ويمسحُ على شعرِها، ابتسمَ محاولًا تهدئة أنفاسِه وهو يراها لازالت تُغمض عينيها وكأنّها تعيشُ في حلمٍ ومنـام ، همسَ بصوتٍ خافِت : غــزل . . .
قاطعـته حين انقلبَت على جانِبها الأيمـن ووجهها ملتهبٌ بحمرتِه، تزمُّ شفتيها وترفعُ كفّها لتضعها على عينيها وهي لا تترك لكلمـةٍ أن تلجَ الهواء المُحيط بهما إلى مسامِعه.
ابتعدَ أكثر ليستقيم واقفًا وهو يضحكَ بخفوت، فتـح شفتيه يُريد أن ينطُق بشيء ، لكنّ صوت البـابِ أنهـى لحظاتِهما الأولـى حين اعتلى بطرقاتِه، استدارَ نحوَ البابِ بينما أبعدت غزل كفها عن عينيها لتنظُر للبابِ وأنفاسها المُتعرقلة لم تستقِم بعد، عقدَ حاجبيه ومن ثمّ اتـجه لهُ وهو يلفُظ : نعم ؟!
سالي من خلفِ الباب : بابا عنـاد وِيت يو . .
تصلّبت ملامحهُ فجأة، أظلمَت أحداقهُ وانخفَضت نبرةُ صوتِه بجمودٍ وهو يلفظ : جــاي . .
راقبتـه غزل عاقدةً حاجبيها باستنكارٍ بعد أن سمِعت تغيّر صوتِه المفاجئ، فتحَ الباب دون أن ينظُر إليها وخـرج، حينها جلسَت وهي تضعُ أطرافَ أناملها على شفتيها الملتهبتين وتنسـى لوهلةٍ صوته الآن وتعُود للشعُور بقبلتهِ الناعمـة لشفتيها من جديد، ذلك يعني الكثيـر لها ، يعني الكثيرَ وجدًّا! هل تستطِيع الآن أن تقُول بأنّ أحـلامها بدأت تتحقّق وأن الطمُوح المتلخّص في سلطان وصلت إليه؟

في الأسفَل
دخـل المجـلس الذي كـان يجلسُ فيهِ عنـاد، ألقـى السلام بصوتٍ بـاردٍ ليردّ عليـه عنـاد بهدوءٍ ومن ثمّ يُردف : صوتك قاعد يقولي إنك زعـلان مني.
جلسَ سُلطـان قريبًا منهُ ليضعَ ساقًا على أخرى، وبرفعـة حاجب : ليه بزعـل؟
عناد يبتسم : حتى ما سلّمت علي.
سلطان بجمود : عادي شفتك أمس ما يبيلها.
عنـاد بحدة : سلطان وبعدين معاك؟ مالها داعي هالحركـات أنت تدري ليه كنت هناك.
سلطان بحدةٍ مُمـاثلة : ماني بزر عشـان تمشي وراي! أقدر أتصرّف بنفسي.
عنـاد : بدليل إنك كنت بتموت!!
سلطان بجمود : بموت متـى ما كتب ربي محد يموت قبل يومه.
عناد يزفُر بيأسٍ منـه، حمـل الهاتِف الذي وضعهُ بجانبه ومن ثمّ مدّه لـه وهو يلفظُ بصوتٍ هادئ : نسيته أمس عنده .. كنت أتصل عليك من رقمك الثاني من أمس وما ترد.
استلّه سلطـان ومن ثمّ وضعه بجانبـه وهو يهتف ببساطة : كنت أشوفك تتّصل ومطنّش.
رفعَ عناد حاجبيه بتعجب : لا والله وتقول منت بزر!!
سلطان بضيق : معليش أنا بزر عندك وعنده.
ابتسمَ رغمًا عنه : الله يهديك.
وقفَ يريد أن يذهب، لكنّ سلطـان تنهّد بضجرٍ وهو يُمسك بكفّه : اجلـس لا تصير حسّاس يا تافه.
ضحكَ عنـاد وهو يجتذبُ يدهُ من كفّه : لا تطمّن ماني حساس مثلك بس مضطر أرجَع البيت . . على فكرة غدانا اليوم عندكم، مشتهين سمك لا تقصّر.
ابتسمَ سلطان وهو يتذكّر تلقائيًا كُره غـزل للسمَك وتقرّفها من رائحتـه : أبد أبشر بعزّك.


،


" اليُوم بتقابِل أخوك "
وكأنّ كلمـاته الآن كـانت كمطرقةٍ وقعَت على رأسِه وقسمتهُ لنصفين، يدهُ المستقرّة على شفتِه النازفـة تجمّدت، عينـاه اتّسعتـا دون تصدِيقٍ وهو ينظُر للجديّة المرتسمـة على ملامحِ أدهـم، ما الذي قاله للتو؟ يريد منه أن يقابِل شاهين !!! من أيّ قائمـة الجنُون أحـال ذلك للواقع!!
لفظَ متعب ببهوت : تبيني أقـابل شاهين ! أنت من جدّك؟
أدهم يتكتّف بهدوءٍ وهو يتّكئ بظهرهِ على السيارة، وبجمود : أيه .. يمكن هذي الطريقـة الوحيدة عشان تقتنع بكرهه ..
متعب بحدة : مين قالّك إني ما كرهته؟ إذا باقي بقلبي شيء له فهو مجرّد الرباط القهري اللي انولدنا وكبرنا عليه .. إنّه أخوي بس.
أدهم بجديّة : طيب الكره بقلبك يكفيك عشـان تفضحـه وتعترف بأن له دور بكل اللي صـار لك؟ راضِي يتحاكم كخائن ويتعفّن بالسجـن؟
صمتَ متعب لبعضِ الوقتِ وهو ينظُر لهُ بنظراتٍ شبـه جامدة، كـان الجزء المنسـاب فيها يغتسـل بالخيبةِ والأسـى ، لا يستمدُّ من هذا النظـر سوى الحقد، القهـر ولا شيء سواهُما ، لفظَ أخيرًا بصوتٍ ميّت : أيـه ... راضِي ، راضِي عن أي شيء ممكن يصير له.
ابتسمَ أدهم : أتمنّى تكون صـادق.
متعب بجمُود : ما عـاد فيه شيء يشفع لهالعلاقـة بيننا ، من دريت إنّه تزوج زوجتي وهو داري إنّي عايِش عرفت إنّه انتهـى ... هذا ماهو شاهين اللي تربّيت معاه ، شاهين مات وهذا شخص ثاني .. كل اللي يضر قلبي الحين هي امي! ما أقـدر أتخيّل وش بيصير فيها إذا شافتني ، أخاف تموت علي من الصدمة! هذا غير حقيقة ولدها الثانـي ... كل شيء فوق طاقتها يا أدهـم ، خايف عليها وماني خايف على مصير شاهين ، حتى لو بقى له بقلبي شيء خلاص! بقتله اليوم ... وأشوفه.
أدهم بتنهيدة : كِذا أفضـل لك ... بس المشكلة بشغلة وحدة بس ... محنا ضامنينه!
نظـر متعب جانبـًا للبعيدِ وهو يعقدُ حاجبيهِ بضيق ويصمُت دون إجابـة، ابتعدَ أدهم عن السيارةِ قليلًا وأخفض ذراعيه وهو يلفظ بجديّة : لحظة ... تثق فيني؟
نظـر لهُ متعب بجبينٍ مُقطّب، وباستنكار : وش هالسؤال الدرامي؟
أدهـم يبتسم : بتقابلـه وأنت متطمّن .. حتى لو فكـر يغدر من جديد بكون حريص ما يصير لك شيء ... لي معارف قدامى ولهم سوابق إجرامية عاد ما يهمّهم شيء بهالحيـاة غير الهواش والمضاربة وبيساعدوني ... بخليهم قريبين منك.
متعب بامتعـاض : وأنت طيب؟
أدهم باستغراب : شفيني أنا؟
متعب : مالك سوابق؟ أشوف معارفك من النوع الخطير ماراح تعرفهم لله أكيد تشاركتوا الخبز والملح بأحد السجون.
رفعَ أدهم حاجبهُ الأيسـر بتهكّم : وتشاركنـا نفس الأشخاص اللي كانـوا بيموتون على يديننا بعد.
متعب بسخرية : ما أستبعـد ولا بستغرب هالشـيء ... واحـد غبي!
أدهم بشر : عقلي بيديني ما أفكـر إلا بالعنـف تبي تجرب؟
متعب : قلتها غبـي ما تعرف تفكّر وتبي تورّطنـي معك بناس نفس شاكلتك التعبانة.
أدهم بسخرية : شاكلتي التعبانـة بدونها بتموت ترى.
متعب يشير بسبابتهِ للسمـاء : الله فوق وحماني سنين ماراح توقف حياتي على مجموعة أغبيـاء يمشون على كلامك.
أدهم يرفعُ حاجبه الأيسر بتحدِي وهو يقتربُ منه : تعـال يا صغيري شكل ناوي تجرّب امكانيات عقلي.
ضحكَ متعب رغمًا عنه : والله العظيم برد ضربتك ذي اللي من تو.
أدهم بامتعاض : لا واللي يعافيك خلّ وجهي يزين شوي لا تورطني مع أهل زوجتي ماني ناقص.
متعب : هههههههههههههههههههههه الله لا يغضب علينا بس.
أدهم يرفعُ هاتفهُ وهو يلفظ بجدّية : خلاص الحين خلنا نركـز على الزفت أخُوك ... هاه موافق؟
تنهّد متعبْ وصمتَ لثوانِي وهو ينظُر للأرضِ بصمت، رفـع رأسـه بعد ثوانٍ طالَت ليلفظَ بنبرةٍ جـادة : إذا تقدِر تحل مشكلة الحماية ذي تبقى لنـا مشكلة ثانية وهي مسألـة كوني مُراقب ... ماني متأكّد منها.
أدهم يبتسـم : ما عليك محلولة ذي .. حطيتها ببالـي.
متعب باستنكـار : شلون؟
أدهـم يُمسك الجاكيت الأسود الثخين الذي يرتديه بسخرية : منت شايف هالغثـى مع الحر؟
متعب ولم يفهم قصده : شلون؟
أدهم : أكيد ما غفلتْ عن هالموضوع .. عشـان كذا لبست هالجاكيت مع حرّ الريـاض الكئيبة ذي . . بنروح الحين أي مطعم وبتدخل الحمـام وتلبس الجاكيت على أساس إنّك أنـا وغطّى راسك لا تخليه مكشوف ... وبكذا نتغاضـى موضوع المُراقبة وإنهم يشوفونك وأنت مع شاهين . .
اتّسعت عينـا متعب دون تصديق : أنت من جدّك تبينا نمشي على احتمـال بهالضعف؟ واللي يعافيك ابعد عنك أفكـار الأفلام ذي.
أدهم بجدية : بتنفع والله .. عادي الحين بنروح أي مكان وبحرص أغطي راسي من بدري عشان ما يشكّون لما تلبسـه أنت .. المكان اللي بتقابل فيه شاهين بيكون شوي بعيد عن المطعـم عشان محد ينتبه . .
متعب دون اقتنـاع : احتمالات خطّتك ضعيفة !!! وش الغباء اللي يخليهم يقتنعون بشخص يلبس جاكيت شتوي بهالحر؟!
أدهم : أدري ... بس ممكنة ما عليها.
وضعَ متعب كفّه على جبينه وهو يلفُظ بصبر ودون تصديق : يا الله ارحمنـي من هالبساطة اللي عنده !!!
أدهم بابتسامة : ما تثق فيني؟
متعب بحدةٍ يدفعهُ من كتفِه : أقول امش قدامي وأنت ساكت والله يستر من خُططك.


،


توقّف المطـر الناعمُ والحـاد في آن، رفـع نظراتهُ لعينيه بصمْت، لم يستطِع أن يقرأ ردًا واضحـًا أو حتـى " يُبشّر بخير "! زمّ شفتيهِ وهو يراهُ يقفُ بصمت، تنفّس بقوّةٍ ونهضَ واقفًا، وبهدوء : عم يوسف معليش اسمــ . .
تجاهلهُ يُوسف وتحرّك حتى يذهب وملامحهُ الجامـدة لم تخلِّف إجابةً واضحـةً على ملامِحه، أغمضَ عينيه بقوّةٍ وهو يضغطُ بأصابعهِ على صدغِه، لم يملك ما يقُوله حتى يجعل الموضوع أبسـط من ذلك، أبسط!!! أيّ بساطـةٍ هُنـا وهو الذي أقحمـه في دهاليـزِ خطرٍ حـارق.
فتحَ عينيه بأسـى وهو يستمـع لكلماتِ يوسف الحادة التي بزغَت فجأةً من الجمُود : وبكل بساطـة تعلّمنـي ... تقولّي إنني سبّبت لك خطـر ودخّلتك بمواضيع مالك دخـل فيها . . * هزّ رأسه بالنفـي بغضب ، ليُردفَ بضيق * لو الموضوع يخصني أنا بس ما كنت بهتم .. بس بناتي!!! بناتي يا بدر!!! شلون تبيني أرتـاح وهالموضُوع يشملهم؟!! شلون تقولّي تطمن ماراح أترككم وماراح يصير لكم شيء ؟!!!
بدر بأسـى : أنا آسف.
يوسف بحدة : أسفك ما ينفعني للأسف.
رمـى نقود قهوتِه على الطاولـة ومضـى ، كان من المفتـرض أن يدفع بدر اليوم نظرًا لكونِه من وصـل أوّلًا ومن دعـاه لشُرب القهوة ، تجري العادةُ أنّ من يحضرُ أولًا هو من يتكفّل بقهوةِ الآخر .. لكنّ يوسف بحركتهِ هذهِ أخبـره بوضوحٍ أنّه غاضبٌ كفايةً ولا يريد أن يغفر!!
أخفضَ رأسهُ وهو يعبثُ بشعرهِ بقهر، يشتمُ نفسه على التسـاهل في هذا الموضوع حتى وصـل بهم الحـال هُنا .. ليته استمع لكلام عبدالله وتحذيراته منذ البداية ، ليته استمع!!!
زفـر بيأسٍ وهو يُغمض عينيهِ بقوّة، تذكّر البارحـة وتميم ، كلّما استذكـر تواجده البارحـة في المكـان ذاته الذي كان فيه هو وعائلـة يوسف يقتنع أكثـر أن الموضوع لم يكُن صدفـةً أبدًا ، تواجدهُ لسبب ، ولطالما كان يجدهُ قربه !!!

،


دخـل الشقّةَ وملامحهُ تكادُ تتميّز من الغيظ، لا يصدّق أن بدر تسبّب لهُ بكل هذا الخطـر ، أميراته!! لا يُمكِن أن يسمـح لشيءٍ بأن يُصيبهن ، لا يمكن أن يسمـح لهذهِ المهـزلةِ بأن تكتمـل.
زفـر بضيقٍ وهو يتحرّك، صوتُ ضحكـات جيهان تصلـهُ مختلطةً بضحكاتِ أرجوان وصراخِ ليـان الغاضِب، ابتسـم بأسـى وهو يُدرك في قرارةِ نفسه أنّها تُشاكسها الآن كالبارحـة، دخـل للغرفـة التي يجلسُون فيها، الطـاولة أمامهم مشبعةٌ بأنـواعٍ عديدةٍ من الشوكلاة، الشبساتِ والعصائر والعديد من المأكولات التي جعلته يُدرك أنّهن خرجن، عقدَ حاجبيه بغضب، بينما ارتفـع صوتُ أرجـوان بفرحـةٍ ما إن رأتـه : يا هلا بالزين ...
وقفَت واقتربَت منه حتى وقفَت أمامه وأمسكَت كفه : زين إنّك جيت يا وسيمنا * شدّدت على كلمة وسيمنا لتضحكَ جيهان وقد فمهتها *
أرجوان تُردف بـغنج : تعـال أبيك تنصحني بالجامعة اللي بدرس فيها دامنا بنستقـر ببروكسيل بما أنك خبير فيها وامي درست هنا قبـل سنين . . أبـ . .
قاطعها يُوسف ببرود : ماراح تدرسين،
تجمّدت أرجوان دون استيعابٍ بينما تلاشت ابتسامـة جيهان وهي تعقد حاجبيها وقد ظنّت كمـا أرجوان أنها لم تسمعه جيدًا.
أرجوان بشك : أيش؟
يوسف بتشديد : قلت ماراح تدرسين . .
أرجوان بصدمة : يبه مو من جدك أبي أكمـل دراستــ . .
قاطعها يوسف بقسوةٍ حـادة : وأنا قلت لا ! لا يكون ودك تعارضيني بعد؟
أرجوان بصوتٍ مرتعشٍ بربكـة : لا محشوم بس ليه؟ دامنا بنستقر هنا وش يضر أكمل؟ ما كنت معارض قبل!!
يوسف بنبرةٍ حادةٍ لا يسمعنَها منهُ كثيرًا : وغيّرت رأيي الحين .. ماراح تدرسين لا أنتِ ولا هي.
تحرّك بعد كلماتِه القاطعـة تلك تاركًا لها واقفةً بصدمةٍ في مكانها لا تستوعبُ ما قالـه، توقّف أمام بابِ غرفته، ومن ثمّ استدار ناظرًا لهما ليُردف بصوتٍ مُحذّر : ومرة ثانية ما تطلعُون بدون ما تعلموني وبروحكم .. ماراح يصير خير لو تسوونها مرة ثانية.
دخـل لغرفتِه، ليتركهنّ متجمّداتٍ لا يستطعن استيعابَ غضبه المُفاجئ حتى ليـان التي بقَيت تنظُر للباب بجبينٍ مقطّبٍ من غضبِ والدها، نظـرت أرجوان لجيهانٍ بصمتٍ كئيبٍ وكأنّها غيـر مصدّقةٍ لمـا حدث، حينها فغرَت جيهان فمها تحاول أن تبعثَ بعض الهدوءِ بعد هذا الضجيج وهي بذاتها مُرتبكة : تلاقينه معصب بس وأول ما يحس على حاله بيغيّر كلمته.
أرجوان بكآبةٍ رفعَت كفّها اليُمنـى لتعانق بها عضدها الأيسـر ، وبضيق : والله ما أدري حسيت إنه من جد ما يبيني أدرس .. غريبة وش صار له طلع وهو مروّق وما كان معارض قبل؟!!



يُتبــع . .


كَيــدْ 07-06-16 11:08 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


يدندنُ بهدوءٍ وهو يقُود السيارة بعد أن اتّصل بمعارفـه ووجدهم كالعـادة فارغين ومرحّبين بأيّ عملٍ لا طائل منه، متعب بجانبهِ يُغمض عينيه بربكةٍ رغمًا عنه، أن يلتقي بهِ أخيرًا بعد سنين هذا فوقَ طاقتِه! بالتأكيد لن يستطِيع أن يحمِّل اللقـاء فوقَ البساطـة، الأمـر ليس بسيطًا! الأمـر يفوق العُسر بأميـالٍ أُلـوف! . . نظـر لأدهـم بضيقٍ وهو يستـمع لإزعـاجِه الذي يُخبره بكلّ وضوحٍ انّه غير متوترٍ مثله ، ولمَ قد يتوتّر وشاهين ليس أخوه هو! ليس مكانـه ليُدرك هذهِ الأمواجَ التي تقترفُ في حقّه الغـرقَ وتجعلـه يختنق . . هل أجـرم في حقِّ نفسِه حين وافق؟ أم أنّه فقط يتلهّف للقـاءٍ يسأله فيه " لمَ فعلت بِي ذلك؟ " لقـاءٌ يُكتَب فيه الأسبـاب على أوراقِ عقله البيضـاء والتي اهترأت أسطُرها وانكسَرت، لقـاءٌ يُمطر فيه أسئلةً عديدةً على مسامِعه ( هل أسيل وحدها هي السبب؟ أردتها؟ طمعت بزوجـة أخيك ولم تُبـالي بأن تأخـذها وأنت تُدرك أنّني حي؟ هـل كـان ضوءُ علاقتنا كاذبًا كالقمِر يا شاهين ولم يُضيء بل عكـس مفهوم الأخوّة فقط! هـل كانت حياتُنا زائفة؟ ألـم تحمِل من والديّنا الجينـات التي تُثبت أنّ بيننا علاقـةً أقـوى من أيّ عـلاقةٍ مـا! ألم يُقنعك الشبـه بيننا أن تعدُل عن غدرِك؟ كيف استطعْت كلّ ذلك يا شاهين؟ ما الدافـع المُقنع وراء ذلك؟ )
تنهّد بأسى وهو يسندُ رأسه للخلف، صمتَ أدهـم وهو يُدرك ما يختلـج في صدرِه الآن، بقيَ ينظُر للطريقِ أمامـه بهدوءٍ حتى وصـلا لوجهتهما المُحدّدة، أوقف السيّـارة أمام المطعمِ ومن ثمّ غطّى رأسـه وهو يلفظُ بجمود : عارف وش اللي تحس فيه الحين .. بس تذكّر إنّك بتعرف كل شيء اليُوم وتحمّل.
فتحَ البـاب وترجّل عن السيـارة ليتبعهُ متعب بصمتٍ كئِيب، دخـلا المطـعم وأدهـم يحاول تلطيف الجو بصوتِه المتهكّم : تدري يا روحي إنّي اضطريت ارجع بيتي بعد ما طلعت من الفندق وأنا لابس جينز عشان أبدّل بس بهالثوب؟ عارف إنّك مشفُوح ما صدّقت ترجع للسعودية عشان تلبسـه ... ماش أحسني لابس فستـان.
متعب يعقدُ حاجبيه بضيق : فستان؟ يعني يوم زواجك كنت لابس فوق الفستـان كارديغان طويل؟ * يقصد البشت * وش هالملحجة بالله؟
ضحكَ أدهم وهو يقعُد وأمامه جلسَ متعب، نظـر بجدّيةٍ لـمتعب الذي زفـر وهو يضعُ كفّه على عينيه : يا صبر أيوب مرة جدّي ومرة العكـس ، والله ماني متطمّن لمزاجك ذا ولا لتفكيرك.
أدهم بجدية : خلّك واثـق فيني .. الحين بتّصل فيه وبعلّمه على المكـان اللي بتقابله فيه، وبنجلس بس شوي وبعدين تروح الحمام تلبس هالغثـى وتمشي بسيارتي.
متعب بهدوء : ولو كان فيه أحد يراقبني بالمطعم؟
أدهم : يا شيـخ ما صارت يدخلون لهنا منت مجرم بالنسبة لهم!!! لا تطمّن ما أظـن.
زفـر متعب دون اقتنـاع : الله يستر بس.

مرّت خمسَ عشرَ دقيقةً قبل أن يتّصل أدهم بشاهِين، راقبـه متعب بتمعّنٍ وهو يمرّر لسانه على شفتيه، لفظَ قبل أن يصل إليه صوته : احفـظ العنوان عندك وتعـال الحين . . . متعب ينتظرك . .
تنفّس متعب بصعوبـة، وهو يراقبُ أدهـم يعقدُ حاجبيه بضجرٍ بينما صوتُ شاهين لا يصلـه سوى متداخلٍ ولم يدرك في هذه اللحظة أنّه يلفظُ كلماتٍ غير مصدّقةٍ لمـا قالـه أدهـم من شدّة لهفته.
لفظَ أدهم بنفاد صبر : بتكتب العنوان والا يتراجع؟
شاهين من الجهةِ الأخـرى وبلهفةٍ واضحـة : لا لا لحـظة بكتبه الحين.
أدهـم : سجّل عندك . . . .
أغلق بعد أن أعطـاه العنوان المطلوب، نظـر لمتعب بنظراتٍ جادةٍ وهو يلفظ : قوم البـسه . .
وقفَ دون اقتنـاعٍ بما يحدثُ ونهضَ معه أدهم حتى يعطيه الجاكيت . .


،


كـان يقُود سيّارتـه بسرعةٍ هوجـاء وعقلـه في هذه اللحظـاتِ مُغيّبٌ عن التفكـير بسوى أن يلتقي بمتعب، كانت الشوارع شبه فارغةٍ على غيرِ العـادة وكأنّها تتّسع لأجلـه وتمهّد لهُ طريقَ الالتقـاء بمتعب، لا يستطِيع تصديق ذلك! يكـاد قلبه يتوقّفُ لتلك الفكـرة ، أن يلتقِي بأخيـه الذي مـات ، من أيّ جنُون ذلك!!! .. هزَّ رأسه بالنفيِ وهو يبتلعُ ريقه .. كل معجـزةٍ قامَتْ، لم تعُد هنـاك معجزاتٍ وباتَت عودةُ الأمـواتِ غيـر مستحيلة ... قادمٌ إليك! قـادمٌ إليك وأرجُوك لا تحمّل لقـاءنا بعتبِ أسيل ، لا تحمّلني مالا علـم لهُ عندي !! أدركُ أنّني أذنَبت، أدركت أنّني أقمتُ على العلاقاتِ العـزاء، لكنّني لم أكُن أقصدُ هذه الكوارث ... لمَ غبت؟ أذنبتَ في حقّنـا جميعًا وكنت إحدى الأطرافِ المُسببة لما حدث ، تسبّبت بالكثير أيضًا .. لست أنا وحدي! فلا تجعل العتبَ يقوم بيننا الآن!
وصـل للمكـان المعنيِّ بعد وقتٍ قصِير ، كـان حيًّا شبه مهجورٍ إن لم يكُن فعلًا كذلك، مُهترِئ . . لا يدري لمَ اختـار متعب هذا المكـان، لكنّه حيث ما كـان سيأتِيه ولن يتردّد في ذلك، لو أراد أن يلتقِي بهِ في أقصـى الكرةِ الأرضيـة سيلبّي قائمًا غير متردد.
ترجّل عن سيارتِه وأحداقهُ تتحرّك بلهفةٍ في المكـان، وصـل للنقطـة المطلوبـة، أين هو؟ لمَ لم يظهـر لهُ حتى الآن؟! أيـن الشبيهُ بِه؟ أخـوه الذي حمـل نظرة عينيه والقليل من ملامِحه ، اختلفـا كثيرًا في الكثير! كـان متعب يُحبّ الشعـر والقـراءة بعكسِه، يرسُم في بعض المرّات بعكس أصابعه التي تُحبّ العبثَ وتكره التنظيـم ، هادئٌ بعض الشيء بعكسِه ، مُسـامحٌ كثيرًا بعكسِه ، لـذا سيسامحني ، سيسامحنـي متعب لأنّه اعتـاد أن يسامحني لأخطائـي ، سيسامحنـي بالتأكيد ، لن يجعـل ذلك كفيلًا باغتـرابِنا ، لن يسمحَ لأسيل بأن تفرّق بيننا سنواتٍ أُخـرى ، تكفي الأشهُر يا متعب، تكفي السنُون والآلآم فيها .. تكفي!!
تحرّكت أقدامُه بثقلِها فوق الأرضِ المُتّسخة بأوراقٍ جافـة، يدُوسها فتتكسّر كصوتِ خطواتِ متعب التي كـانت على مقربةٍ منهُ من الخلف ، صوتُ خطواتِه المبعثـرة والتي جمعتها مسامِعه وترجمتها سريعًا ليستدِير ، بأنفـاسٍ تلاشَت ، والزمـن يحشرُ نفسهُ في الوقوفِ الصامِت دون شهقةٍ بزغَت من صدرِ شاهين وهو يراهُ قد اتّكئ على مقدّمـة سيارتِه بصمتٍ كئيب ، ينظُر لهُ بنظراتٍ لائمـة، لم تكُن السنين كفيلةً بالشوقِ لديه كمـا اللوم ، بعكسِ شاهين ، الذي رمشَ وهو لا يريد ذلك، لا يريد لجزءٍ من الثانية أن ترتحـل دون أن يراه ، يـراه أمامه بملامحهِ نفسها عـدا أنّه أصبحَ نحيلًا قليلًا ، يـراه أمامـه الآن كغيثٍ من السمـاءِ أُمطِر عليهِ صيّبًا ، وابلًا ، كلّ شيءٍ من العنفِ الذي يُصيب جفافـه . . إنّه متعب ! وعينـاه التي تشبهه، متعب الذي ينظُر لهُ الآن ببرودٍ يحمـل في زوايا عينيه نظـرة حقد، نظـرة كره، نظـرة لوم ، ألـم، قهـر .. وكلُّ شيءٍ من الـسنينِ التي ولّدت فيه الكثيرَ من الغُربـة ، إنّه متعب الذي لمـس يومًا جثّتـه محترقةً أصابتهُ بلوعةٍ لم تـغادرهُ حتى الآن، إنّه متعب الذي حمـل نعشـه يوم عزائِه ، إنّه متعب الذي دفنـه بيديه ولامـس تُربـة قبـره الذي وخزهُ يومها حتى جُرحَ جلدُه ، متعب الذي غطّى لحـدهُ بأهدابِه، صلّـى عليهِ بدمُوعِه، دعـا لهُ بموتِ نبرتِه ، متعب الذي رفـع كفوفهُ يومذاك سبعًا ، قرأ عليـه فاتحـةً ودعـا لهُ طويلًا وهو يُصبّر قلبـه بأنّه سيلتقي بهِ بالجنـة ... متعب الذي خشيَ كثيرًا ، أن لا يلتقيا فعلًا في الجنـان! لـذا كان يتصدّق عنه ولنفسِه كثيرًا ، يتفقّد كـل النـاس الذين يعرفونه ويسألهم إن كـان تديّن منهم في حياتِه بالرغم من كونِه يدرك أنّ الإجابـة لا فهو لم يحتج يومًا أن يتديّن . . إنّه متعب فعـلًا ، الذي ظهـر بأنّ ذلك النعـش لم يكُن له، والقبـر، والصـلاة، والصدقات كانت لهُ وهو حيّ!!
أمـال رأسهُ دون أن يُغمضَ عينيه، يريد فقط أن ينظُر لأخيه الذي اشتـاق له، ابتسـم بحنينٍ لأيـامٍ كثيرة ، احتـرقت أحشاؤهُ دون تصديقٍ للطيفِ الحيّ أمـامه ، لفظَ صوتُه بعبـرة، باختنـاق، يريد أن يبكِي ولا مـانع لعينيه أمـام أخيـه، لا مـانع أمام السنين ، لا مـانع أمام الحنين، لا مـانع أمام الافتـراق ، لا مـانع من بكائي يا متعب، لا مـانع من أن ينسكِب شوقي وحنيني أمامـك ، وصـل صوتهُ المُختنق لمتعب ، بهدوءٍ مُقرٍّ أخيـرًا ، بأنّه أمامـه : أنت من جد ... عايِش !! ، وقدام عيُوني!


،


يجلسُ أمام الطاولـة بتوتّر، مهما تصنّع الهدُوء يبقـى كاذبًا، ثباته أمام متعب فقط كي يمدّه بالقـوة، ولو كـان الأمـر طوعَ يدهِ لنَسفَ شاهين من الوجود ومعهُ كلّ من يشكّلُون على متعب خطرًا.
رفـع هاتفـه الصامت لينظُر لشاشتِه بصمتٍ كئيب، عضّ زاويـة شفته، وحين أخفـض الهاتف كي يضعـه اعتلا برنينٍ حـادٍ جعل كفّه ترتبك فوق الطاولـة وتتسبّب بسكب القليل من قهوتِه المُمتلئة أمامه على سطحِها .. زفـر بحنقٍ من ربكتِه هذِه ومن ثمّ رفـعه وهو يطردُ من عقله أن يكون متعب، لم يخرج سوى من دقائق ويستحيل أن يكُون هو . . نظـر للشـاشة، وسرعـان ما ابتسمَت شفاهُه وانقـشع عنه الكثير من التوتّر وهو يـرى اسم سُهى يعتلـي بضوئِه الشاشة المُعتمة، ردّ عليها بشوقٍ ومن ثمّ وضـع الهاتف على أذنه وهو يلفظ بمرح : ارحببببي ارحبي يا الشيخة هلا والله بالغـالية ..
سُهى بصوتٍ ساخِر : غريبة وش صار بهالدنيا قاعد ترحّب فيني وتقولي غالية بعد!! لا يكُون ملخبط بيني وبين نجلاء !!!
أدهم بضحكة : لا افا عليك بس ما يصير نلخبط بين العسـل والبـصل مافيه وجه شبـه.
سُهى بحدة : أدهم يا حيواااااااااااااان !!!
أدهم : ههههههههههههههههههههه والله أمـزح فديتك الله يهديك ما تعرفين مزحي؟
سُهى : الله ياخذك أنت ومزحك ... أيه خلني أقولك ليش اتّصلت ،
أدهم بابتسامة : حبيبتي والله عارفك ما تزعلين.
سُهى : أي الحمدلله صدري وسيع .. بس بقولك يعني تراني ألغيت الحجز ، وألغيت هديتي لك يا بعد عُمري أنت . .
فغـر فمهُ بصدمةٍ وتلاشت ابتسامته : لحظة ! أنتِ من جدك زعلتي من المرة اللي فاتت؟!
سُهى بصوتٍ حانـق : لا شـدعوى حبيبي من يزعل من عريسنا؟ بس شفتك ما تبيها قلت ماله داعي أحرج نفسي عندك .. خلاص الشرقية ما تبيك اشبـع بعروستك.
أغلقَت الهاتـف ليلفظَ دون استيعاب : هييي سهى .. عمتـي ... يا نفسيييييية
أبعد الهاتف وهو يكشّر بوجههِ دون تصديق ، وبقهر : مو من جدّها !! يووووه شكلي مصختها عاد ماهو ناقصني الحين زعلها.
وضع الهاتف على الطاولـة بعنفٍ وهو يلوِي فمهُ بغيظ، يريد أن يعود ويتّصل بها لكنّه يدرك أنّها ستتجـاهله، لذا قضـى دقائق ما بعد اتّصالِها وهو يطرقُ بأصابِعه على الطاولـة ينتظِرُ اتّصـال متعب بِه . . مضَت عشرُ دقائق وهو يفكّر ما بين سُهى ، ومن ثمّ يرتـحل للتفكير بإلين ويعُود أخيرًا لـمتعب ليغرق في قلقِه عليه.
تصـاعدت نغمةُ هاتِفه من جديد فجأة، نظـر لهُ وهو يزفُر بربكـة، حمـله متوقعًا أن يكون هـو، لكنّ الشاشـة خذلته بالجمـال حين رأى أنّها لم تكُن إلا هـي! لا يصدّق أنها اتّصـلت بِه ، نجلاء!! ما الذي تريدهُ منه وما الذي قد يجعله تتنـازل عن بعضِ كبريائِها وتتّصل!
ابتَسم رغمًا عنهُ وهو يردّ عليها، وضعهُ على أذنها وهو يهمِس بخفوت : يا هـلا بالوريد . . غريبة متّصلة علي وش صار للدنيا؟
صمتت إليـن قليلًا، صوتُ نغمةٍ غريبـةٍ وصَلت لأذنِه من إحدى المُسجّلات، فـراغٌ يدرك ماهيّتـه ، جعـله يعقدُ حاجبيه، أخطأ أذنـه وكذّب ما أدركـه، لكنّ صوتها جـاء بخفوتِه جعلـه يُدرك أنّ ما استنتجـه كان صحيحًا : اتّصلت عشان أقولك إنّي طلعت .. رايحة لبيت أهلي.
اتّسعت عينـاه بصدمةٍ وهو يقفُ دون تصديق، احتدّت نظـراتهُ فجأة، وخفتَ صوتُه قليلًا وهو يلفظُ بنبرةٍ خطيرةٍ لأذنيها : طالعـة بحجّة أيش؟ ومع مين ؟!!!
إلين بهدوء : بزورهم تطمّن ما نويت أهرب منك .. أمّا مع مين فواضحة، ركبت تاكسي استحيت أتّصل بياسِر يجيني.
أدهم دون تصديق : استحيتي تتّصلين بياسِر!! ياسِر !!!!! * أردف بصوتٍ حادٍ يكادُ يعلُو ويحذب أعين النـاس من حوله * وأنا وييييييين؟ الحمـار اللي متزوجته وينه؟ ما فكرتِ حتى تستأذنين مني وراكبـة مع تاكسي !!!!
إلين ببساطة : قلت قبل لا تطـلع إنك مشغُول وبتتأخر ، ما حبيت أشغلك فيني !
أدهم بسخرية : لا والله!! عذر أقبـح من ذنب!! بس ما عليه يا نجـلاء حسابك عندي.
إلين تصحّح لهُ وتتجاهـل خطأها : إليــ . . .
صرخَ بنفاد صبرٍ يقاطعها : الين أو تببببببببببن !!! ما يهم ... حسابك عندي يا الزوجة المحترمة ... حسابك عندي بعدين !!!
أغلـق بغضبٍ وهو يشتعِل ، عينـاه متّسعتـان بنارٍ لم تستطِع أن تُرمِدَ بأجفانِه ، تمنّى في هذهِ اللحظـة لو يسحب المفرش الذي كان يستقرّ أسفـل كوبِ القهوةِ ويحرق الطاولـة الخشبيّة الجامـدة بنارِ غضبـه، لكنّ عقلـه في لحظـةٍ خاطفـةٍ استوعب أين هو ، ارتفعَت أحداقه لينظُر للنـاس الذين نظروا لهُ في لحظـة صراخه الغاضب، جـلس ببطءٍ وصمت ، لا يستوعب أنّها وصلَت لهذهِ النقطـة ، أن تخـرج في هذا الوقتِ من الصبـاح ومع سيّارةٍ عابـرة ، ألهـذهِ الدرجة تحتقره وتكرههُ حتى تفضّل الخروج مع غريبٍ على زوجها؟!!
تأفأف بغضب ، لن أمرّرها لك ، لن أمرّرها لكِ أبدًا يـا " إلين " !!


،


مسـح وجههُ الشاحِب بإرهـاقٍ بعد أن تقيّأ معدتـه التي فرغَت منذ نهض، يشعُر بها تتقطّع ، لا يكـاد يولجُ فيها شيئًا حتى يتقيّأه . . خرجَ من الحمّامِ وهو يضغظُ على معدتِه بضيق، ارتمـى على المقعد الخشبيّ أمامَ النافذَة وأعـاد رأسه للخلفِ وهو يشتمُ معدته التي ثارت عليهِ منذُ نهض . . نظـر عبر النافـذة بصمت ، بينهُ وبينها الآن طابِق ، فاصـلٌ صغير ، جـدران ، ويكـاد يشعُر بأنفاسِها ويشتمُّ عطرَها ، تكـاد عينيها الجميلتين أن تختـرق صدرهُ وتجزَّ منهُ أعشـابَ الخُضرة ويشيخ! هـذا ما يشعُر به ، رغمًا عن مكابـرته لكلّ مشاعِره ، رغمًا عن تودّد جسدهِ لسواها ، لازالت تتخلخلُ مساماتِه كنبيذٍ أدمنـه ولا يستطِع الفكـاك من إدمانِه.
عضّ فواز شفتهُ السُفلى وهو يشعُر بأحشائِه تحترق، وقفَ وهو يضغطُ معدته ويلفظُ بحدة : حسبي الله على ابليــس . .
نظـر للنـاس المـارّة في الحيِّ وهو يضغطُ على شفتِه ، ارتخـى ضغطُ أسنانِه فجأةً وهو يـرى يوسف يقفُ في الأسفـل مع شخصٍ مـا لم يتبيّن ملامحهُ جيدًا ، لكنّه استطـاع تبيّن بياضه وشعرهُ البنيّ الفاتِح ... عقدَ حاجبيه وهو يركّز بأنظـارهِ عليه . . . بينما في الأسفَل كـان يوسف يبتسمُ ابتسامةً ميّتـةً للرجُل الذي التقـى بهِ البارحـة وشعر أنّه ممتنٌّ لـه ، بحجمِ الضيقِ في صدره والذي جعله يبتعد عن فتياتِه كونِه غاضب شعر أنّه حدّد مزاجه قليلًا حين التقـى بهِ من جديد . . . ابتَسم تميم ابتسامةً بها الكثيرُ من المكـر ، وردَّ بهدوءٍ وبلكنةٍ فرنسيّةٍ بحتةٍ على سؤَال يوسف لهُ قبل ثوانٍ عن اسمـه : اسمـي هو .... جوزيف.


،


الأرضُ تنطوي من أسفلِهمـا ، السمـاءُ تلفظُ الغيـمَ لتبقـى صافيةً حتـى ترى كلّ هذهِ الخيبـات وتقيسها على حجمـها فلا تسعها، بوادِر الحنينِ تأسِرُ العيُون ببعضِها ، ينظُر لهُ وهو يسألـه بعينيه إن كـان حقيقةً فعـلًا ، لو لم تكُن كذلك لا تذبحنـي بتجلّيكَ أمـام أحداقي، لو لم تكُن كذلك لا تعقدَ الأمـل على قلبِي الفقيدُ معـك ، لو لم تكُن كذلك لا تقتلنِي بطيفِك !!! يسألـهُ بعينيهِ هل يراهُ أيضًا أم نحنُ طيفانِ تـاها بعيدًا عن السمـاء ، أم نحنُ نغمـةٌ وسمفونيّاتٍ سافـرت عن مفاتيح البيانُو النائِم على عرشِ الحيـاة ، لا تقيّدنِي بأمـل ، وتبترني مع القيدِ أخيرًا ، لا تُسعفنـي بصورة ، فأنكسـر أنا وهي بعد نشوتِها، لا تُمـارس تتابـع الأمواجِ على شاطئِي لتحفرنِي أخيرًا وأبقـى جافًا رغمَ كلّ مائِك الزائف!!!
تحرّكت أقدامهُ والغصّةُ تقسمُ حنجرته لنصفين فلا يحكي سوى بعينيه ، أراد أن يذهب إليه ويعانـقه حتى يتأكّد بصورةٍ أخيرةٍ أنّه ليسَ بِسراب . . خطـى ثلاث خطواتٍ مُرتعشـة ، توقّفت بتلقائيةٍ حين تكلّم متعب بصوتٍ بـاردٍ جـاف : لا تقرّب !!
تجمّدت أقدامـه ، ابتلـع ريقهُ وحلقهُ الجافُ يُجرَحُ وكأنّه يتلقّى كلماتِه بفمهِ وليسَ بِأذنيه ، أغمـض عينيه بأسـى ، وابتسمَ بضياعٍ وهو يلفُظ : ما يحق لك اللي تسويه فينا !! ما يحق لك !!!
ابتسمَ متعب بسخريةٍ وهو يقرأ ملامحهُ الكاذبـة، يشعُر بسكاكِين تُغرسُ في قلبِه، بِسهامٍ مسمومةٍ تقتُل جسده، تنتشر مع دمائِه وتُنهيه . . لفظَ بخذلان : كل شيء ما يحق لك سوّيته ... لا تبخـل علي بعد يا أخُوي . . .
شاهين بألـم : تركتها .. أول ما دريت إنّك عايِش تركتها .. بطّل تحاسبني على شيء ما قصدته!!! أرجُوك متعب لا تصير بهالأنانيـة بعد ما رجعت لنـا!!
ضحكَ متعب بصدمةٍ وهو يهزُّ رأسهُ بالنفي، أغمضَ عينيه وهو يضعُ كفهُ على رأسه، وبسخريـةٍ مريرةٍ من حالِه قبل كلّ شيء : يقُول غسان كنفاني " يسرقُون رغيفك ، ثمّ يعطونك منه كِسرة ، ثمّ يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم ... يا لوقاحتهم !! " .. للأسف بطريقة معيّنـة انطبقت عليك هالكلمـات . .
أغمـض شاهين عينيهِ بقوّة ، قبـض كفيه ، يا للأسـى يا متعب! طننتُ البارحـة أنّنا حُبسنا في نـطاقٍ ثلاثيّ سيُخرِجُ اثنينِ منّا فقط .. يا لغبـائي! يا لغبـائي!!! لن يخرجَ أحـد ، لن يخرجَ منّا أحـدٌ ولن تسيرَ الدنيـا كما نُريد ، انتهَت هذهِ العلاقاتُ الثـلاث للأبـد ، انتهَت وماتت عوضًا عنك! ماتت يا متعِب ، لن يُصلـح ما حطّمته الدنيـا شيئًا ، لن يُصلـح هذا الدمـارُ الذي سبى منّا التعايشَ اعتـذار ، كيف انتهينا؟ كيف ارتمينـا في هذهِ الغياهِب النائيـة؟ كيف نأى عنّا الغُفران ولم يشملنـا؟ ما الذي فعلتهُ الدنيا بكَ حتى تختفي؟ ما الذي فعلتهُ الدنيُا بي حتى تزوّجتها؟ ما الذي فعلتهُ الدنيـا بها حتى وافقَتني في لحظةٍ ما ... ما الذي فعلتهُ بِنا الدُنيـا؟ يا الله ما هذهِ القسـوة؟ كيف انتهـينا بهذا الشكل!!!

.

.

.

انــتــهــى . .

موعدنا على الأرجح راح يصير أسبوعي في رمضان ، يعني الثلاثاء القادم إن شاء الله ()

ودمتم بخيـر / كَيــدْ !


fadi azar 09-06-16 10:46 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 14-06-16 10:39 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
-

-

مساء الخير ، لحظات ويكون الجزء عندكم ، :$

كونوا في القرب ()

كَيــدْ 14-06-16 10:55 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرجمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للرواية اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حُسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام :$$
وعسى تكون الرواية شاهدة لي لا عليْ . . ()

بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(75)*1




" اسمي هو جوزيف "
أمـال رأسـه وهو يلفُظها ببسمـةٍ خافتـةٍ لكنّ وراءها تجلّى الكثيـر من المكر ، عقَد يُوسف حاجبيه حين سمـع الاسم الذي نطقـه، وسُرعـان ما ابتسـم حتى ظهرتصف أسنانه، وباستحسـانٍ لـه : ياللعجب وأنا اسمـي يوسف .. الذي يعني جوزيف في الأصـل.
تميم : آه ياللصدفـة .. أنت عربي؟
يوسف يهزُّ رأسه بالإيجاب، ليردّ عليه تميم بنبرةٍ باسِمة : أدركتُ ذلك ... عينـاي لا تُخطآن تمييز الملامح.
يوسف : كيف حالك اليوم؟ هل تأذّيت كثيرًا؟
تميم : لا أنا بخير.
يُوسف الذي لم يُرِد أن يطُول بحديثِه معه، رغمًا عنهُ يشعر بالضيق هذا الصبـاح، يشعُر أنّ العيُون كلّها تتّجه إليه وإلى فتياتِه، يريد أن يصعد إليهنّ فقط ويحميهن، حقد رغمًا عنه على بدر، كيف أمكنه أن يفعل بِه ذلك! لفظَ بهدوء : أشكركَ مرةً أخـرى على ما فعلت لأجـل ابنتي .. لا أدري كيف أشرح لك مدى امتنـاني.
تميم : لا داعي للشكر .. من كان في مكاني سيفعلها، الاختلاف أنّني كنت الأقـرب فقط.
يوسف : حسنًا أراك فيما بعد.
ابتسَم تميم ولم يُضِف شيئًا، بينما ابتعـد يُوسف ببطء، وعينـاه تراقبانِه بلمعـانٍ شفافٍ وببطءٍ مُمـاثل، يزرعُ كفيْهِ في تُربـة جيوبِ معطفِه البُنيّ، يتبعهُ بأحداقِه وهو يبتعدُ حتى تلاشى عن عينيه في دهالـيز ما بين جدرانِ المبنـى الذي يسكُنه.
تنهّد بخفوتٍ دون أن يفقد ابتسامتـه، استدارَ وغيُوم السمـاء البيضـاء دافئـةٌ ناورها البرودةُ وابتعـد، هذهِ الغيُوم العذراءُ التي حملتْ في رحمِها جنينًا أسعف الدنيـا بصياحِ المطـر هذا الصبـاح، وفي المقابـل أنبتت الأرضُ خشيةً وطردت السكينـة في قلبِ الأب.
ابتعـد وعينـاهُ لا تُطيقان النظـر للنـاسِ من حولِه، يشعُر أن الدنيـا لا تحمِل سوى السُفهـاء، جُبل تفكيره على أنّ البشـر أغبياء، العربُ حمقـى، يتقاتلُون لكسرةِ خُبزٍ وهم شِبـاع، بينما الجيـاعُ يراقبُون بصمتْ، باهتزازِ القدرةِ على أفواهِهم وأيديهم.
ضجيجُ يتداخـل، الأرضُ تحتضنُ صفائـح شفافةً من بقايـا المطر . . شعـر فجأةً بكفٍّ اشتدّت على كتفِه وأدارتـه في اللحظـة التي تبدّلت فيها ملامحهُ متفاجئًا من الهجُوم الفُجائِي، ظهـر بدر أمامه، يشدُّ على أسنانهِ بحنقٍ وهو يرفعُ كفّه الأخـرى ويُمسك كتفهُ الآخر بقوةٍ تكادُ تحطّمه، وباحتقـار : وش اللي قاعـد تخطط عليه أنت والزفت جدّك؟
رفـع تميم كفّه اليُمنـى وهو يدثّر ملامحه بالبرود، نفضَ كفّيه عن كتفيه وكأنّه ينفضُ حشرة، وببرودٍ وهو يدرك أنّه يعنِي رؤيتـه لهُ مع يوسف : اللي هوّ .. بس طبعًا حاول ما تتدخّل عشان ما تتعب زود منت تعبـان.
بدر بحدةٍ من بين أسنانِه وهو يكادُ أن يضربه في أيّ لحظـة : وش تبي فيه؟ ماله دخـل فيني .. عرفني من قريب وماله علاقـة مباشرة فيني.
تميم بجمود : وأنـا أبي أتأكد من هالشيء أو عدمه، عشان كذا لا تعطلني.
بدر بغضب : يا حيواااااان.
تميم يبتسم باستفزاز : عفوًا محنا من نفس الجنـسْ .. لذلك أخاف ما تفهمني كويس من تلميحاتِي . . أنا ودّي أتأكد من علاقته فيك، عاد لو كنت صادق راح يبيّن فيه هالشيء بس لو كذّاب .. بقدر أميّزه حتى لو تصنّع العكـس ، فحـاول ما تتدخّل والا . . * أردف بلطف * بيموت مباشرة .. حاليًا ماني ناوي على شـر .. عشان كذا لا تخليني أنويه.
بدر باحتقار : ما تقدر على شيء !
تميم : لو حطيت براسي شيء بجيبه لعندي ..
مالَ قليلًا نحوهُ حتى همسَ لهُ قريبًا من كتفِه : على فكرة، هالمرّة جدي العزيز ناويها على كل شخص يضيّق خلقه .. ما كان يحب يقتل اللي ما يشكلون عليه خطر ، بس من باب يريح راسه من أي مشاكل مستقبلًا قرّرها تصفية مُبكّرة من فترة طويلة .. انتبه.
لفظَ كلمـته الأخيرة باستهزاء، ومن ثمّ تحرّك ليبتعدَ عنه بخطواتٍ بطيئةٍ مُستفزّة وهو يدسُّ كفيه في جيبيْ معطفِه . . وتركهُ خلفه، يشتعلُ كرهًا.


،


كـان بإمكـان الصبـاح أن يكون أكثـر حرارةً، لكنّهُ كـان باردًا في بوادِر صيفِه، للأسـف . . البرودةُ عانقَت صدرهُ بمعطفِ الرجفـة، عانقَت عينـاهُ بلحافِ الأسـى ، ورغمًا عن كلّ شيء ، عن خيبتِه وحقدِه، كُرهِه .. كان يشتـاق! لأنّ الكُره لم يتحلّى بالقُدرة الكافيـة حتى الآن على قتلِ الشوق.
ابتسمَ بعد كلماتِ غسّـان التي بكته، بعد أحرُفٍ اهتزّت بين أصـابعِ الخيـانةِ والغدر، الغُربـة جعلت منهُ انسانًا ضعيفًا، لا ! لم تكُن غربتـه، كـان حُزنه، بكلّ ما حدث ، بصدمتِه.
نظـر بعيدًا عن ملامحِه، هيئته .. تغيّر كثيرًا ، ليس كثيرًا جدًا، لازال يُشبهه، لكنّ ما اختلفَ فيه عنـه أنّ الحيـاةَ تسكُنه وإن كان بريقها مُتشتتًا الآن، جسدهُ اختلف، آخر مرةٍ رآهُ قبل سنين كان نحيلًا عن الآن وعن قوّةِ جسدهِ الفتي، بعكسِه هو، أحيـتهُ الدُنيا في بطنِ الموت، ولم يكُن يكبُر ويتقوّى أكثـر بحجمِ ما كـان يشيخُ فقط ، يشيـخ . . ما هذا الأسى! لم يتخيّل ولو لوهلـةٍ في سنين حياتِه كلّها أن يقفَ يومًا أمـام أخيه ويتذكّر الهيئات التي كانـا عليها قبـل سنين ، يا الله! كلّ ذلك كـان مكتوبًا لنـا قبل أن نولد، لم ندرِي أنّ المسافاتِ ستمتدُّ بيننا، أنّنـا سنغيب، سنغيب ، أو أغيبُ أنـا ، أن نختلف ، أن نقفَ في يومٍ مـا خصمين ، ويومَ القيامـة كذلك .. هو خصمِي .. للأسف! هوَ خصمـي ، للحُزن، للخيبة، للخُـذلان.
مرّر لسانهُ على شفتيهِ بسُخريةٍ وهو لا يُحاول ولو بضعفهِ أن يُعيد أحداقهُ إليه، لا يرى في ملامحه سوى الكذب .. فقط . . . لفظَ باستهزاء : للحين تكره الشعر يا شاهين؟
عقدَ شاهين حاجبيه، والأنفـاس يجتذبها لرئتيْه بصعوبـة، هذهِ اللوعـة التي تحرقُ معدتهُ وسعادتـه، تحرقُ كلّ شعورٍ بالفرحـة ، هذهِ اللوعـة التي لا يدري كيف يُخفيها ويبتسم، رغـم كلّ الحقدِ في عينيه وكلّ الصـد الذي يُخبره بوضوحٍ أنّهما اختلفـا، اختلفـا وباعـد بينهما دربٌ تشعّب ، مضى كلّ واحدٍ منهما في شُعب، ولا إيـاب! الحسرةُ ألّا إيـاب ، هل من العـدل أن يحدُث كلّ ذلك بيننا! هل من العـدل أن تُبتـر العلاقات بهذا الشكلِ الموجع؟
عضّ طرفَ شفتِه، لم يستطِع منع نفسهِ من اللفظِ بصوتٍ حـادٍ وهو يشدُّ على قبضتيْهِ بعُنف : ماهو ذا موضوعنا ! ما تهم هالأسئِلة التافهـة . . .
قاطعـه متعب وهو يوجّه أنظـارهُ إليه، بأحداقٍ حملَت بعض الرجـاء، بعض الرجـاء الذي شعر أنّه يكسر ظهره : تحب الشعر يا شاهين؟ والا مازلت تكرهه!!
ابتلعَ ريقه، لا يدري ما يُريد بسؤالٍ كهـذا، لكنّه سيرد، إن رأى في عينيه هذهِ النظـرة ، لن يصدّ كما يفعـل! . . ابتسمَ بحُزن : حبيته.
متعب بوجَع : كتبت شيء؟ حتى لو خرابيط .. قد جرّبت وترجّلت قصيد؟
شاهين بنبرةٍ تختنقُ وهو لا يدري أين سيصِل : أيه .. كتبت .. مجموعة خرابيط بس، ما تجي رُبع من كتاباتك.
ابتسمَ حتى بانَت أسنانه، أغمضَ عينيه ولم يستطِع أن يكتُم آهةَ حُرقةٍ أخـرجها بلهيبها الحـارقِ من صدرِه، لم يستطِع أن يحبـس هذهِ الحـرقة وهذا الوجـع، يشعُر بسكاكين ، تقطّع من جلدِه وتبتعد عن المنـاطق التي قد تقتلـه .. تريد بكلّ ساديّةٍ أن تعذّبـه فقط، تريد أن تجعلـه يتألّم .. يئن .. يئن ، ولا يتوقّف أنينه ، كيف ينثُر الملـح على جُروحِ الحـرب التي خلقَت مجزرةً في مشاعِره ، تنثُره يا شاهين على جراحِي الملتهبـة لأغصّ في ألمـها ولا أنساه.
لفظَ بحسـرةٍ وهو يضحكُ بسخريـةٍ مما وصـل إليه : حبيتها !!!
في يومٍ مـا ظنّ أنّه سيعُود ولن يكُون ألمـه سوى في الغـدر الذي أحلّه شاهين، ظنّ أن الألـم سيكُون عنيفًا، لكن ليسَ بهذا الشكلِ الذي يعتصـرُ قلبهُ بكفٍّ مُلتهبـة، ظنّ أنّه سيعُود ، وسيجدُ امّه وأسيـل تنتظرانه، هُمـا من ستسكنـان حُزنـه في لحدِ الممات . . كلّ تلك الظنُون ، خذلته ، كلّ تلك الخيـالات، غابَ شمسُها وتلاشَت ، كلّ الأمـل في نسيانِ الحُـزن اندثـر .. ماذا بقيَ له؟ ماذا بقـي له؟ استكثرتَ عليّ حيـاةً وامرأة، استكثـرتها عليّ يا شاهِين . . مُعـاذ الله يـا قلبِي .. لم أعِذك من حُزنك، ربّمـا قصّرت في حقِّك، وجـاء عقابي قاتلًا، جـاء عقابِي بانصهـار الحديدِ الذي صُبَّ في حُنجرتِي، أحترقُ واللهِ بكلّ هـذا، أحتـرق ولا أُجِيد الكـلام بعد الألـم، تؤذيني الكلمـات أكثر، لأنّها تخرج، بعد عبُورها بمحطّةِ الاحتـراق.
أجفـل شاهين بعد كلمـته تلك، فهمَ أخيرًا معانِي أسئلته ، لم يستطِع سوى أن يرفعَ كفّه ويفتح أوّل زرّين من ثوبه وهو يشعُر بالاختنـاق يتضاعف، يُشتت عينيه بخِزيٍ وألـم، يشعُر أنّ جسدهُ يتفتّت، يتبدّل تكوينـه ليتلاشى .. كيف يستطِيع رفـع أحداقه والنظـر لعينيه وكأنّ لا شـيء حدث؟ كيف يستطِيع؟ كلّ هذا الصمُود لأجلـه، لأجـل أن يعودا ، يريد أن يرجُوه بأن يعُودا ، وليحلّا المُعضلـة بعد ذلك، كلّ شيءٍ باجتمـاعهما سيكُون سهلًا ، يُريد أن يعُودا فقط ... فقط!!!
أردفَ متعب وهو يضعُ كفِه على جبينِه المُصـاب بحُمّى الخُذلان، بنبرةٍ مُهترئةٍ بسخريـتها : صرت شويعر عشانها .. يا الله! يا الله يا شاهين حبيتها!! حبيت زوجتي يا قوّ هالكلمـة على قلبي !! يا قوّ كـل شيء على اللا شيء اللي فيني ! أنـا فراغ ! للأسف فراغ !!!!
شاهين بغصّةٍ ورجـاء : الله أكبـر من هالفـراغ !
متعب بصوتٍ يحتدُّ قهرًا وهو يُطوّح بكفيه غضبًا : عشـان كذا غدرت فيني؟ كنت تحبها من قبل؟ كنت تخونني بحبها؟ قتلتنـي بغربتي .. قتلتني عشانها !!!!
شاهين بحدة : متعب الا هالكـلام! أدري إنك مقهور بس لا تفسّر كل شيء على كيف قهرك!
متعب يبتسمُ بسخريةٍ وهو يحترق، يكادُ أن يقتله الآن من شدّة غضبِه : تزوجتها وإنت تدري إنّي حي ! عاشـرتها بالحرام يا شاهين !! بالحـرام بس لأنّك تبيها؟ تبي زوجتي؟!!!
آآآه يا الله !!!
أدارَ وجههُ بقوّةٍ وهو يغطّي عينيه بإحدى كفوفِه، ابتسامتـهُ لازالت هُنـاك على شفتيه، ابتسامتـه الساخـرة التي صمدت بعد آهتهِ المستوجعَة ، التمـع الحُزنُ بقوّةٍ في أحداقِه وأخفى التماعها بكفِه ، لمَ يُخفي؟ أليـس من بكاهم كثيرًا، وبكـى نفسه، أليس من تحسّر كثيرًا بدمعـة ، أليسَ من سقطَت دموعه على ورقة!!! لمَ يُخفي حُزنه الآن ما إن تضاعف؟ بـات حمله صعبًا ، صعبًا جدًا!
نظـر إليهِ وهو يتركُ للهـواءِ تجفيف الحُزنِ من مقلتِه، لم تسقُط، لكنّها خُلقت ، وسيئِدُها قبل أن تسقُط ويراها، انزلقَت كفّه إلى حنجرتهِ ليضغطَ عليها بقوّة، يُخبـره بحركاتٍ لا يعيها أنّه يمُوووت، أنّه يختنقُ مثلـه، يُخبرهُ أنّه يهوِي في مُحيطاتٍ سوداءَ لا يرى فيها زعـانفَ ضوء، انطفأ كلّ شيءْ ، انطفأ النهــار !!
لم يكُن شاهين يستطِيع أن يُدافع عن نفسه، لا يملكُ شيئًا حتى الأساليبُ في الاقنـاع لم يعُد يدركها. متعب بصمتِ الهدوءِ في صوتِه : تدرِي .. ليتك جيتني قبل ثلاث سنين تقريبًا ... وقلت لي خاطرِي فيها .... لا لحظة لا تناظرني كذا ، طبعًا ماراح أقُولك بكل بساطة هي لك وتستاهلها ، هه! ماهي سلعـة ، هي حبيبتي! ولو إنّك جيتني بيوم وقلتها لي كـانت بتنتهي أشيـاء كثيرة بيننا ، مثل الحين ... بس تدري الفرق وين؟
عقدَ حاجبيهِ وهو يهزُّ رأسهُ لا يرضى بالكلمات والتفسيراتِ التي يلفظها من بابِ غضبِه، بينما أكمل متعب بسخرية : الفـرق بأنّك لو اتّبعت الطريقة الأولـى كان ممكن بهالوقت احنا واقفين ونضحك مع بعض، كنّا تجاوزنا كثير عن أخطـاء بعض كالعـادة، مهما كبِر شيء بيننا ومهما بقى بقلبنا، كنّا بنتجاهلـه، وكنت بتناساها وأقول معليـش ، غِلِط . .
أردفَ بعد أن شهقَ بكمٍّ كافٍ من الأكسجين يؤخّر اختنـاقه : بس الحين! للأسـف يا شاهين ، ذبـل هالدم اللي يجمعنا ... ذبحتني عشانها ! ذبحتنـي ثلاث سنين ، ذبحتنـي عُمر ، عشانها !!!
شاهين بخفوتٍ باهت : ذبحتك!
متعب بحقد : بأقـسى طريقة.
شاهين بأسـى : ذبحتْ تراب قبـرك من كثـر ما لامسته ورجيته يكون بارد عليك .. ذبحت سريرك من كثـر ما حاكيته ريحته لا تروح! ... ذبحت الهواء اللي بغرفتنـا، ما أفتح النوافذ، ما أترك الباب مفتوح .. عقلي الغبي يقول هالهواء هو نفسه اللي تنفسه متعب قبل سنين، لا تجدده! تنفسه معـاه .. بيبقى حيْ! . . . بحق ربك شلون تقوى تقولي أذبحك وأنا أنت .. عشان تبقى حي!
تنفّس بانفعـالٍ وهو يسندُ كفّه على السيارة التي لم تكُن سوى سيّارة شاهين، نظـر جانبًا لسوادِها، لالتمـاعها بصورتِه المِنعكسـة بفوضويّة الحُزن على ملامحِه، صدرهُ يرتفعُ لأقصـى درجات الانفعـال ولا يُجيد الهبُوط . . لم يشعر بكفّه التي ارتفعَت فجأة ، ليهوي بها بكلّ قوّةٍ على سطحِ السيارة ويضربَ هذا الانفعـال في جسدهِ وهو يصرخُ بملءِ حُنجرتهِ وصوتـه : كفااااااااااااااايـــة . . * نظر نحوهُ ليُردف بصوتٍ غاضبٍ وعروق عنقهِ تنفُر * كفايـة كذب .. كفايـة تمثييل خلاااااااص ... ندري عن بعض، ندري بكل شيء ، تكمل تمثيل ليه؟ ليييييه؟!!
بهتَت ملامحُ شاهين لانفجاره، تنفّس بقوّةٍ وهو يتحرّك بخطواتٍ مُنكسـرةٍ نحوه ويعقدُ حاجبيهِ قليلًا، وبخفوت : تمثيل أيش واللي يعافيك؟ ما أقدر ألومك بس بطّل هالدراما.
رفعَ متعب كفّه في وجههِ حتى يمنعهُ من متابعةِ خطواتِه نحوه، وبحدةٍ من بينِ أسنانه : لا تقرب .. صدقني ماراح اتردد بذبحك ، خلاص أنا طقيت منك .. بنسى إنّك أخوي مثل ما نسيتني وبذبحك!
شاهين بإصرارٍ أكمـل خطواتهِ وهو ينظُر بقوّةٍ لعيني متعب التي تشتعلُ أكثر وأكثر كلّما اقترب، يشدُّ على قبضتيه وكأنّه يستعدُّ فعلًا لتمزيقه .. وقف أمامه مباشـرة، لا يفصلُ بينهما سوى خطوة، بينما كانت عينا متعب تنظُر لهُ بحذر، لم يستبعد أن يُحـاول في هذهِ اللحظـة قتله، بل للأسفِ كان شبه واثـقٍ بذلك.
لفظَ بجمود : لا تحاول تسوي شيء ، صدقني ماراح تعدي على خير مثل كل مرة.
شاهين بغيظٍ من بينِ أسنانِه : تستهبل؟ غبببببي أنت؟؟! هالسنين غيّرتك والا زواجِي؟ شلون تفكّر بهالطريقة المريضة؟!
رفعَ شاهين يدهُ إليه، لم يستطِع منع كفيه من القبضِ على مقدّمةِ جاكيته وشدّهِ بغضب، عقدَ متعب حاحبيه وهو يُمسك معصمه بقوّةٍ كادَت تحطّم عظامه، بينما لفظَ شاهين بحرارةٍ وقهـر : أنا شاهييييين .. أخوك ، شلون بضرّك؟ بطّل هالتفكير المريض ، لا تحجّم الموضوع بهالشكل !! أنا شاهين اللي تمنّى كثير تكون ليلة عزاك كابُوس شفته بمنامي وبصحى ألاقيك نايم قريب .. بذبحك!! أذبحك وأنا ما أدري الحين أفرح والا أحزن لأنّك حي وكنت ميت سنين ؟!!!
متعب بسخرية وهو يضغطُ بقوّةٍ على معصمهِ وكأنّه يُريد تحطيم عظامه فعلًا، بتر صوتِه الكاذب، تفريغ قهرهِ بالقليلِ من إيـلامه : أخوي؟ هه . . ضرّيت هالمعنى كثير ... أنت مجرد حقيييير ، للأسف مجرد حقييييير ووصخ وما عرفت هالشيء الا متأخر!
اتّسعت عيناه دون تصديقٍ لكلمـاتهِ التي يقُولها، الحقد في عينيه ، لا يعقل أن يكون كلّ ذلك لموضوعٍ لم يقصده ! لا يعقـل أن يرى هذا الحقدِ فقط لأنّه تزوج بأسيل وهو لا يعلم أنّه حي !! أن يكُون فسّر كل شيءٍ كمـا يحلُو له، فسّر أنّه كـان يريدها منذُ زمـن . . ما هذا الجنون الذي يجعلهُ يحلّل كل ما يحدث كما يريد؟!!!
لم يُبالِي بكفّه التي تغيّر لونها من شدّ متعب على معصمِه، عظامهُ التي صخبَت بألمـها الذي لم يشعر بهِ فعليًا وهو يهمسُ ببهوت : ليه هالنظرة؟ هالكلام !! تتبرّأ مني عشان شيء ما قصدته ! لأنّي تزوجت بأسيل وقت غيابك؟!! ماهو ذنبي! لا تلومني على شيء هو خطأك أنت ! أنت غايب لهاليوم حتى رسالة ما أرسلت !! وتلومني أنا؟!!!
متعب بغيظٍ لم يشعُر إلا وكفّه الأخرى ارتفعَت بقبضتِه الغاضبـة، لكمـه بقوّةٍ فرّغ فيها صـرخةَ سنينَ وأشهـر، صرخـة غدر ، فرّغ معهـا حُزنه، فرّغ معها غُربتـه ، وسمـاءً اشتكـى لصفيحتها أيامًا، فرّغ معها رسوماتٍ خطّها على الورق، كلماتٍ رقصَت رقصـةَ باليه بطيئةٍ على الأسطـر، بانسيابيّةٍ لا تستقيم! فقد استقامـة أصابعهِ فوقها، فقد القدرة على الكتابـة بثباتٍ وكان في كلّ مرةٍ يخطُّ " فضفضةً " ترتعشُ أناملهُ فتتعرقلُ ساقطةً للسطرِ الذي وراءها .. حلفَت الأيـامُ ألّا تجعلـهُ يرتـاح، ألّا يشتكي، وألّا - يُفضفض -!
جـاءته اللكمـة قُرب أذنه، وكانت قويّةً بشكلٍ كافٍ حتى يشعُر بطنينٍ أخبرهُ بصدَى لا يتوقّف أنّ من أمـامه كان حاقدًا، حاقدًا بقوّةٍ لا تتّسع زواجـه فقط! حاقدٌ وهذا الحقدُ صقِل لسنين، وليسَ لفترةٍ بسيطةٍ فقط!
لم يسعهُ أن يستوعبَ تلك اللكمـة حتى جاءتهُ ركلةٌ من ركبتهِ على معدتِه، أغمضَ عينيه بألمٍ وهو ينحنِي وكفيهِ تسقُطانِ من على مقدّمةِ معطفِه . . أمسكَ متعب بيدهِ اليُمنى ليرفعهُ من انحنائِه ويقبضَ أصابعهُ بقوّةٍ يُريد تحطيمها بحقدِه الذي أثمـر أخيرًا بانفجـارِه.
لفظَ بنبرةِ احتقـارٍ وحقد : ألومك ليش ومافيه مُلام غير ثقتي فيك .. أي ثقة؟ مافيه مُلام غير هالدم! اللي خلّى الثقة شيء فطري بيننا، الحُب شيء فطري، كل شيء حلو كان فطرِي! شلون ملت عن الفطرة؟ شلون مِلت وغدرتني؟ ذبحتنـي ودفنت جثتي ليه! حسبي الله عليك .. حسبي الله علييييييك يا شاهين !


،


في جهةٍ مواريـة، يعصُر الغضبَ حتى يسيلَ ذائبًا من خرقةِ الوقتِ البـالي . . يسندُ مرفقيهِ على الطاولـة، ينظُر للأمـام، لظهرِ الرجُل الذي أمامه، والقهوةُ التي طلبها بردَت وانسكَب منها رذاذْ ، كان يحملُ في كلّ قطرةٍ منـه وجهها، وكلماتها، وتمرّدها!
زمّ شفتيه بانفعـال، ومن ثمّ مدّ كفّه ليرفع الكوبَ ويرتشف من برودتِه التي صنعَت من مرارتِه " لذعَة " ألهبَت لسانهُ بشتيمةٍ خافتـة : تبِـن !!!
وضعَ الكوبَ بقرف، لوَى فمهُ بحنق، لولا الأولويّة هنـا لترك المكان وذهبَ إليها ليُقيم الأرضَ ولا يُقعدها، لكنْ هُنـاك ماهو أهمٌّ الآن ويجب أن يصوّب تركيزهُ إليه.
هاتفهُ المغضوبُ عليهِ صـرخ، حملهُ بمزاجٍ سيء، لكنّه حين رأى المُتّصل ترك لملامحه الانبسـاط رغمًا عن انفعالاتِ الغضب، ردّ على أحد الذين هُم الآن قُرب متعب، وبلهفة : هاه وش صاير عندكم؟
الآخر : تطمن ، جاء لوحده وواضح ما بيده شيء عشان يأذيـه . . بس ..
أدهم يعقدُ حاجبيه بتوجس : بس إيش؟
الآخر : تضاربوا!
أدهم باستنكار : نعم!!!
الآخر : تطمن متعب اللي يضرب ، هو جامد ما رد عليه للحين !
اتّسعت ابتسـامةُ تشفّي على وجهه، استرخَت ملامحه وشعر أنّه الآن " رايق "، أعـاد ظهرهُ للخلفِ ليسندهُ على الكرسيّ ويهتف بصوتٍ مرتـاح : لا تتدخـلون ، أخوان خلهم يحلون مشاكلهم بين بعض ههههههههههههههههههه
ابتسم الآخر : لئيم!
أدهم بجدية : عاد مو تصدق ، إذا تجرّأ الحيوان ذاك عليه شوفوا شغلكم .. وطنشوا الغبي متعب لو منعكم ما عليييكم هو عاطفي بزيادة.
الآخر يقلّد نبرة صوتِه باستهزاء : أخوان خلهم يحلون مشاكلهم بين بعض . . . * ليُغلق *
ضحكَ أدهـم بشرٍّ وهو يُخفض هاتفه، وبخفوت : أيه يا حبيبي اضربه وطلّع حرّتك فيه .. بعد عيب يسوي كل ذا فيك وتسكت !!!


،


بينما بينهما اشتعلَت نيرانُ غضبِ متعب ولم تنطفئ، ولو أنّها كانت مرئيّةً حيّةً لأحرقت كلّ ما حولهما وهُما أيضًا.
الكلمـاتُ حطَب، كـانت تزيدُ النـار، نظـرات شاهين وقُود، تُلهِبها أكثر وتجعلها سوداءَ داكنـةً بتفاوتِ درجاتِ حقدِه.
سمعَا صوتَ فرقعةِ أصابعه، لكنّ كلًّا منهما لم يهتم، متعب بحقدهِ لم يُبالي إن كان سيحطّم عظامه، وشاهين بدورهِ كان ينظُر لملامحهِ بصدمة، يغفِل عن ألـم جسدهِ في هذهِ اللحظـة، يُفرج ما بينَ شفتيْه باستنكار، وتُخلقُ بين حاجبيه شبهُ تجعيدة . . وهو يهمس باستنكار : مِلت عن الفطرة! ذبحتك ودفنتك؟ .. أنت وش تقول بالضبط؟ دفنتك لأنّك أنت اللي ذبحت نفسك وبعّدت عن هالحيـاة! أجل تبيني أعلق جثتك بغرفتنا مثلًا؟!
استفزّه استهزاءه الذي لم يكُن استهزاءً بحجمِ ما كانَ استنكارًا، عضّ شفتهُ بحنقٍ ليتركَ يدهُ الموبوءةَ بغضبِه ويُمسك بعنقهِ بحدّةِ قهره، وبنبرةٍ تحتدُّ ببطشِ انفعالاتِه : طبعًا لا .. ما بغيت منك غير تسكت من قبل لا أمُوووت! ما تقُولهم ويني عايش فيه! ما تعلمهم بمكانِي بميونخ عشان يوصلون لي ... كل اللي بغيته تكون أخوي وتسندني بس! ما تغدر فيني ! ما تذبحني وتمشي بجنازتي وتصلّي علي صلاتك الكـاااذبة! طُول عمـري .. كنت حاط ببالي كلّ الناس تغدر ، بس أنت لا .. أنت تخلِص في كومـة غدرهم!!
مرّرت الصـدمةُ بحدّها المنقوعِ في سمٍّ رُعـافٍ نفسها على ملامحـه، انبسطَت عضلاتُ وجههِ وتجمّدت أحداقهُ وهو ينظُر لهُ بنظراتِ اللا فهمَ والإدراك ، بنظراتِ الاستنكـار لما يقُوله، الطلاسمُ التي نطقها بعضلةِ لسانِه الملتويةِ على انحناءاتِ الأسـى.
لم ينطق بغير البهوتِ على ملامحهِ وهو يترك لهُ المتابعـة بقهرٍ حارقٍ حتى يفهم ما معنـى طلاسمه : ولا فوق كل شيء كنت مبسووووط ، مبسوط بفيصل وأنا على مقصلته ، مبسوط وأنا أتعذّب ، مبسوط إنهم بيذبحوني . . فرحتـك هذي هي اللي خلتني خلاص أقتنـع بأن ثلاث سنين تقريبًا .. راحت عدَم ، والسبب أنت! فرحتك هي اللي خلتني أصدّق إنه أنت .. آخر موقف في بارِيس ، آخر هجوم وآخر محاولـة اغتيال .. هي اللي صفعتني وخلتني أصدّق إنك أنت اللي خذلتني وكنت معاهم عشان بس أمووووووت.
دفعـه بقوّةٍ بعد تلك الكلمات، تراجع للخلفِ بعنفِ دفعتهِ وسقطَ جالسًا من وهنِ جسدهِ الذي أصبـح فراغًا، أصبـح هشًّا، رخويًا، وكلّ التكويناتِ الواهنَة! أصبـح بتكوينٍ يكفيه ألّا يستقيم، أن يهتزَّ وينكعفَ على توازنِه .. بينما الكلمـات كانت تدخُل بعنفِ السهامِ المندفعـة إلى أذنيه، يترجمها عقلهُ ببطءٍ قاتـل، يفهمها حرفًا بعد حرف، تتداخـل فيها الأبجديات فيستغرق زمنًا حتى يستوعب ، أنّه غدره! وسـاعد في مقتله، أنّه كـان فرِحًا في غربته، أنّه كان السبب في تلك الغـربة، السبب في غيـاب متعب ، وهذهِ الحُرقة في عينيه، الحقد، الألـم ، كلّها زرعها فيه ... لانّه غدره!!! أهــذا ما ظنّه؟!!!
نظـر للفراغِ بصمتٍ كئيب، عينيه تُظلمان، قلبـه تخفتُ نبضانه، عروقهُ تلتهبُ وتتمزّق، جسدهُ كلّه يتمزّق، وصوتُه يتلاشـى في عدمِ الفراغ، تآكلَ الهواءُ من حولِه حتى فقد صوتـهُ قدرته على العبُور، على الوصُول إليـه، فقد الكـلام قدرته على الكـلام يا متعب! فقد القدرة بعد أن فقد الاستيعابُ محلّه.
يحرّك شفتيهِ بصمت ، دون صوتِه الذي دخـل في غيبوبةِ الصدمة، يقُول لهُ باختنـاقِ نبرةٍ تحتضر، بشفاهٍ ترتعش، بقلبٍ يهوي، وأضلعٍ تتحطّم : مجنووووون لو ظنيت فيني هالظن! مجنوووون يا خـــوووي ... مجنــــووووووون
لكن كيف تصلهُ الكلماتُ والصوتُ ماتَ في الحُنجرةِ ودُفنَ فيها؟ كيف تصله؟ بينما صوتُ متعب .. لازال يصله! بكلماتِه الحاقدة حقدًا شعر أنّه الآن يسلخُ جلده، هذا الحقدُ زرع بيننا! هذا الحقدُ منْ شفاهِكَ يُتلى! يا الله !!!!
متعب بنبرةِ خُبثٍ مُنتقم : إذا تبيني أمُوت ، ما متّ، إذا تبي أسيـل .. فماهي لك ... عفتها ، عفتها ولا عاد أبِيها ، بس بتظل لي ، لأنّك بس حبيتها! وأنا أبـي أقهرك بس !!! ما عاد أبيها بقلبي ، بس أبيها بحياتي ، والشـرع واقف بصفّي وبصف انتقامي . . . أسيل اللي ذبحتني عشانها ، زوجتي أنا . . عشان بس أحرقك مثل ما أحرقتني !


،


In your eyes
I see the sea
I see the blue of the water
In your eyes
I see the sheet
You write in it
Your tears

أغمضَت عينيها بقوّة ، لمحـةٌ من الحُزن عـادت بضعفين من حُزنها الذي كان قد بدأ يتناقـصُ تدريجيًا، لكنّه الآن عـاد، يوخزُ قلبها الذي عاد ينتمِي لعالـم الموتَى النابضين بشطرِ حياة . . كـانت أغنيةً قديمة، لا تدري لمَ تسمعها الآن، رُبّما لأنها تحكِي حالتها الآن، تبكِي بصمتٍ وقهرٍ من الفشـل، تكتبُ دموعها على صفحةِ عينيها من الأسـى، ليس حُبًا الآن بقدرِ ما كـان فشلًا، لا تدري ما الذي فعلتهُ بالضبط حتى يطردها من حياتِه بهذا الشكل!
حملَت هاتفها وأغلقَت الصوتَ المبحُوح المنبعث منه، لطالمـا كرهت الأغانـي التي تجعلها تحزنُ أكثـر، منذُ زمنٍ قاطعتها، تحديدًا بعد موتِ متعب، فهي كـانت حزينةً كفاية، ولا تريد مزيدًا من الحُزن، تكـادُ تموت، وهذا الحرامُ المنبعثُ من الحناجِر والآلآتِ سلاحٌ آخر يزيدُ في احتضارها.
جلسَت على السرير كجلُوسها المُعتاد بعد وفاة متعب حتى زواجها بشاهين، ترفعُ ركبتيها لصدرِها وتلفّ ذراعيها حولهما كنوعٍ من الحمايـة، رُبّما الحماية من الحُزن! يا لوهنِ درعها!
زفـرت بضيق، ومن ثمّ نظرت للمفرش السُكريّ الناعم أسفلِها وهي تهمسُ بغصّة : فشلت معاه يا متعب .. فشلت مع أخُوك ... كان من بين كلماته نطق اسمك! وش كان يقصد بكلامه؟ وش دخّلك بكل اللي صار وباللي سوّاه فيني! * أخفضَت رأسها لتحشُر ملامحها بين ركبتيها هامسة * سمع منّي شيء! قلت شيء مثلًا وأنا نايمة !!!
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تتأوّه، شدّت أكثر في احتضانِ نفسها وهي تشتمُ ذاتها، هل يُمكن أن يكون سمعها تقُول شيئًا ما في نومها؟ هي لا تتحدّث نائمة، لكنّ كلّ شيءٍ مُتوَقع، وشاهين لطالما كان حليمًا معها، حتى في ليلة زواجهما تغاضـى عن وقاحتها وعن كلّ شيءٍ بالرغم من كونِها توقّعت منه حدّةً في الرد، لكنّه كان حليمًا وسامحها! وفي المقابِل ... قال لن يُسامحها مستقبلًا وانتهَى مجـال الغُفران، فبالتأكيد فعلت ماهو خاطئٌ حتى تركها فجأة !!! . . عضّت شفتها السُفلى ودمعةٌ تلتمعُ سقطَت بعد دموعِها الأولى، همسَت بضيقٍ وهي تظنّ أنّهما انتهيا بسببها، لأنّها فعلت شيئًا لم تُدركه، وكان ما فعلته هو النهاية، فهو قال لن يغفر للمزيد! : يارب سامحني ، يارب سامحني وسامحه على اللي قاعد يسويه فيني بهالوقت ،
لأنّه أدخـلها في دوّامـة التفكيرِ هذه ... دون خروج!
أيقظها من حالـة الأسـى هذهِ صوتُ رنين هاتفها، رفعَت رأسها ببؤسٍ ونظرت إليه للحظـاتٍ قبل أن ينكسِر جمودها وتمدَّ كفها نحوَه، حملته ببطء، وتطلّعت بالرقمِ لتبتسم بشوقٍ رغم ضيقها، ردّت عليهِ لتلفظَ مباشرة : زعلانة منّك يا القاطِع.
ابتسمَ من الجهةِ الأخـرى ليلفظَ بإرهـاق : كل يوم أتّصل على امي .. وكم مرة أتّصل عليك وما تردين مين القاطع الحين !
أسيل : تتّصل بوقت غلط وما يكون الجوال حولي.
فواز يرفعُ حاجبه الأيسر : ما تعرفين ترجعين تتّصلين علي؟
أسيل باستفزاز : اللي يبيني يحاول يتصل مرتين وثلاث.
فواز يبتسم : يا شينك لا تغلّيتي.
أسيل بغنج : ما يحق لي؟
فواز بهدوء : لا تتصنّعين !
صمتت فجـأة، بينمـا زفـر فوّاز بضيقٍ وهو يسمعُ في صمتِها حُزنًا مريرًا، همسْ : وش صار بينكم؟
شتت عينيها بصمتٍ بائس، لا تسألني هذا السؤال الذي بحثت عن جوابِه لأُرهِق نفسي في النهاية ولا أعثُر سوى على الحُزن والمزيدِ من كلماتِ الفشل!
همسَت بضيق : ولا شيء.
فواز باستنكار : ولا شيء! كذا بس حب يتركك؟
أسيل التي سمِعت نبرة الغضبِ في صوته، لفظَت بدفـاع : يمكن أنا الغلطانة!
فواز بتعجب : يمكن !!! أسيل لا تحاولين تدافعين وبس .. هو حتى ما فكّر يرد على اتّصالاتي واضح قاعد يتهرّب لأنّه بس غلطان !!
أسيل بتشتت، رغم قهرها ممّا فعل إلا أنّها وضعت احتمـال أن تكون أخطأت ضمن تفكيرها، فهو لم يكُن ليطردها من حياتِه فجأةً بعد صبره، لم يكُن أبدًا، نطقَت بخفوت : ما كان بيننا مشاكـل ، يا كثر ما صبر عليْ وتغاضى فاللي صـار الحين ما يخليني أفكر غير إني غلطت بشيء! ويا خوفي لو كان لا !!
فواز بغيظ : لا تقللين من قدرك عشانه .. أنا بوريه شغله بس يرد علي بالأول.
ضحكَت رغمًا عنها وهي تمسحُ على خديها التي جف منهما الدمع، وبرقّة : لو أدري مشكلة بيني وبين شاهين بتخليك تتكلم معاي كذا كنت من زمان شِلت عفشي وطلعت من بيته.
فواز بحدة : لا والله !
أسيل : والله .. اشتقت لصوتك ذا .. صاير بارد من فترة طويلة ... متغيّر مرة من بعد ملكتك على جيهان قبل سنة ونص.
سمعَت بوضوحٍ تحشرج أنفاسِه وتعرقلها، صوتهُ الذي تغيّر فجأةً وأصبـح باردًا وهو يلفظ : اتّصلت عشانك ماهو عشان جيهان أو غيرها !!
أسيل وشفتيها تُظهران شبح ابتسامة : قبل سنة ونص هربت ، كنت متضايق بالرغم من فرحتك .. يا كثر ما تمنيتها وأمي ترفض تبي أرجوان ! ولمّا حصلت الفرصة تزوجتها .. بس بعدين سافرت، هربت وللحين هارب ، أدري تقدر بأي لحظة ترجّع شغلك لهنا بس أنت ما تبِي .. خصوصًا بعد ما طلّقتها، تبي تكون قريب منها هناك صح؟
فواز بحدةٍ غاضبة وهو يوسّع عينيه رافضًا لكل تحليلاتِها : ماشاء الله صحى هولمز اللي فيك وقمتي تحللين بمزاجك ، يا ماما تراني بس متزوج غيرها مو عن أبي أكون قريب منها !
أسيل بابتسامة : أدرِي .. علمتني امي بعد ما قلت لها بأيـام قليلة .. حتى ديما صارت تدري .. وكلنا زعلانين منك.
فواز بسخرية : لا حبيبتي لا تحاتين تلاقين امّي مبسوطة.
أسيل باعتراض : يا سلام أجل كانت ما تبي جيهان اللي نعرفها كلنا وبتوافق على بنت غريبة ماقد شافتها؟
فواز بهدوء : تراها حلوة وبتعجبها.
أسيل بضحكة : تكذب على نفسك؟ أدري ما بعد جيهان حلوة بعينك.
فواز : تراها أحلى من جيهان بعد.
أسيل بحدة : فواز خلاص أدري منت مقتنع بكلامك فلا تقعد تسوي هالمقارنات بس عشان تقنع نفسك . . أنت تحب جيهان وماراح تحب من بعدها، تشوفها الأجمل ومستحيييل تتجمل بعينك بنت غيرها . . فلا تحـاول تتأقلـم مع وضعك بأسلوب ما تعرف له ولا تؤمن فيه . . عمرها المقارنات ما كانت حل ولا طريقة لإقناع الذات.
تنهّد فواز وهو يُدرك أنّ كلامها صحيحٌ لا يستطيع الجدالَ فيه، لفظَ بنبرةٍ هادئـةٍ كانت تخفي خلفها الكثير من الأعاصيـر : مضطر أقفـل . . وبحاول أتّصل بشاهين وأكلمك بعدين.


،


دخـل لمكتبِه بهدوءٍ دون أن يطرقَ البـاب حتّى، رفـع الآخر عينيه إليهِ ليرفعَ أحدَ حاجبيه ويُخفض الآخر وهو يلفُظ بجمود : قفل الباب وراك وتعال .. بتغاضى عن قلّة أدبك المعتادة الحين.
ابتسـم رغمًا عنهُ ومن ثمّ أغلق البـاب واتّجه إليه، جلسَ أمام مكتبِه وهو يراهُ يغلقُ بعض الأوراقِ التي كان يقرأها ويوقّعها ومن ثمّ يضعها جانبًا : وش هالأوراق؟
سعود بجمود : مالك شغـل.
تميم بابتسامةٍ لئيمـة : ورني عاد ما يضرك . .
مدّ يدهُ يُريد أخذها، لكنّ سعود أمسكَ بكفّه بقوّةٍ ليلفظَ من بين أسنانهِ بحنق : جعلك الكسر اترك حركـات الحريم هذي ! تمرجــل !!!
تميم ببرود : حُب استطلاع ماهي منحصرة على حركات حريم .. زهقّتني من هالكلمـة.
سعودْ بتجهّم : حب استطلاع أجل؟ حتى هذي اتركها عنّك ما أحبها.
سحبَ تميم كفّه ليتكتّف ويلفظَ بملل : وأنا بجلس على نار اللي تحبه واللي ما تحبه يا شيخنا الكريم؟
سعود يحمل الملفّات بعد أن أشـاح نظراته عنه، سحب الدرج ومن ثمّ وضعها فيهِ وهو يهتف : تدري إنّي ماني بكريم.
تميم : أدري إنّك حاقد عليْ بسبب الكم يورو اللي تصدقتها عنك.
نظـر لهُ بعينين تشتعلانِ شررًا وذكر هذا الموضوعِ يستفزّه، وبغيظ : الكم يورو؟!! هذا ردّك؟
تميم يُعيد ظهرهُ للخلفِ وذراعيه خلفَ رأسه يضعها حائلًا بينهُ وبين الكرسيّ، وببرود : قاعد أحاتيك هذا بدل ما تشكِرني .. دام الفلوس اللي عندك كلها حرام ومافيه فايدة منها تصدّق بشوي يمكن تشفع لك عند ربّ العالمين.
سعود باستفزاز : يا شينك لما تصير صالح من حيثُ لا نحتسب.
تميم بابتسامةٍ مشاكسـة : المشكلة إنه - من حيث لا نحتسب - .. أنا نفسي ما عرفتني.
سعود : أفهم من مواعظك ما عاد تآخذ مني فِلس .. وبشوف ترجع لمين.
تميم يعتدلُ في جلستِه : افا وتبي تخليني على خطّ الفقر؟
سعود : هذا اللي تستاهله.
تميم : لا تقعد تتمنن علي ترى جزء من صفقاتك وتجارتك أنا أساسها.
سعُود يغيّر نطـاق الموضوعِ فجأة : خلنا من سوالفك التافهة .. أيش صار معك؟!
تنهّد وهو يفرشُ ذراعهُ الأيمن على طاولـة المكتبِ ذات اللونِ الخشبيّ، وبجمود : قابلتـه.
سعود : خلاص حفظت بيته وين بالضبط؟
تميم الذي لا يُريد أن يعلـم بكونِه يعرفـه منذ وقتٍ طويلٍ نظرًا لمراقبتهِ لِبدر حتى بات يُدرك من يعرفهم : أيه بعمارة بحـي *** بس ما بعد عرفت رقم الشقة.
أردف بجدّيـة : بس ما أظـن له علاقـة ممكن تضرك ببدر ، واضح مجرد شخص عـابِر ماله بوجع الراس.
سعود بجمود : مافيه شيء يثبت كلامك.
تميم يرفعُ حاجبيه : وعلى هالأسـاس ودك تذبحه؟ أجل تصرّف مع بناته بعد أما تقتل الأب اللي ما أظـن لهم غيره هنا! امسح العائلة كلها من الوجود مرة وحدة.
سعود بحدة : كأنّي أسمع نبرة اعتراض لا سمـح الله؟ صاير تتعاطف مع الناس ماشاء الله.
ابتسمَ تميم باستفزاز : لأنّي ما أشوفهم ضرّوك بشيء ... تأكّد بالأول، ترى أنت كِذا أو كذا بتآخذ إعدام يعني ما يحتاج تضاعف عدد ضحاياك يا جدي العزيز .. فلا تتعّب نفسك عشان توصل لطموحك التعبان ذا.
اتّسعت عينا سعود بغضب : تتمصخر حضرتك؟!
تميم : محشوم طـال عُمرك * وقفَ وهو يبتسم ابتسامةً مُستفزّةً لسعود * والحين اسمح لـي بطلع .. واترك هذاك الرجـال علي، أوعدك لو أكتشف له علاقة مباشـرة ببدر بمسحه من الوجود . . . خلّه عليْ بس.
سعود بغضبٍ مكبوت : اذلف عن وجهي.
تميم بهدوء : أفهم إنّك موافق؟
سعود بحدةٍ يعتلِي صوتُه : اطـلع ... خلاص تصرف إنت بس فكني من غثـاك.


،


وقفَ ما إن رآه يدخُل، الوقتُ طـال وتوتّر بعد أن اتّصـل بهِ من همْ معهُ وقالوا بأنه ابتعدَ ليفقدوا أثره فجاة، ومنذ ذلك الوقت وهو متوترٌ وغاضب . . اقتربَ منه متعب بملامح جامـدةٍ لا يُعرف اتّجـاهها ولم تكِن توضِح مشاعره في تلك اللحظة، أسند أدهم كفه على الطاولـة ليلفظَ بحدةٍ ما إن رآه : حسبي الله عليك أنت وين رحت؟ كذا فجأة تختفي وتخليني أحاتيك يـا . . .
قاطعه متعب ببرود : ماني أصغر عيالك عشان تخاف علي بهالطريقـة ..
وجلـس متجاهلًا أيّ كلمـةٍ أُخـرى، بينما اتّسعت عينـا أدهـم بحدةٍ و " تنرفز " ليجلس هو الآخر بعنفٍ وهو يهتف بغضب : تكلّم معاي بأدب لا أعدل خريطة وجهك الحين.
متعب ببرودٍ يتناول قائمة " المنيو " على الطاولة وهو يلفظ : جرّب وبوريك التعديل الصح.
أدهم من بين أسنانِه : ماجد تراك . .
ارتفعَت عيني متعب بحدّةٍ له وكل البرودِ غادره ، قاطعـه قبل أن يُكمل حديثه بنبرةٍ تُشيّد الحدّة في أوصالِها : متتتتتتتعععععععب ... لا عاد تذكر هذاك الاسم ... وهذي آخر مرة أقولها لك.
تراجع أدهم للخلفِ وهو يبتسمُ باستفزاز، وضعَ كفيه خلفَ عنقهِ ليُردف : اسم ماجد ترى أحلى من مِتعب .. يكفي الأوّل سترك من الموت والثاني هوَى ذبحك.
رمَى قائمة الطعام بانفعـالٍ ليضرب الطاولـة بكفّه وعينيه تحمرّانِ بغضبِ نبرتِه التي نفخَت عليهما من جورِها : تعايرني ؟
أدهم يُخفض يديه ليتقدّم للأمامِ حتى لامس ببطنِه حافة الطاولة : يمكن أعايرك.
متعب بحنق، ينتظـر القليل منه فقط لينفجـر وانفجاره على شاهين لم يُرِحه بحجمِ ما ضاعَف حقده : الله يرزقك على قد نيتك!
أدهم وشفاهه تبتسمُ ابتسامةً تعمَل باتقانٍ على استفزازِه : تبي لي بالمِثل؟ اووووه يا حبيبي طلعت حقود.
متعب : والله هذا يعتمِد على لؤمك وحقارتك . . * وقفَ ليخلع الجاكِيت ويرميه في وجههِ بغضب * كثّر الله خيرك يا صاحبي ... وابتسِم ترى خطتك جابت نتيجة ، خلاص كرهته نهائيًا هالمـرة .. وزادت ضيقتي.
نطق كلماتهُ ومن ثمّ ابتعـد حتى يخرج، زفـر أدهـم بضيقٍ وهو يضعُ الجاكيت جانبًا، لا يدري لمَ فرّغ غضبهُ من إلين بِه حين رآهُ ورأى مزاجه السيء.
رفـع هاتفهُ بهدوء، نظـر لرقمها مطوّلًا، لا يريد الاتصـال بها، فلو سمع صوتها الآن سيصرخ بغضبِه ويفرّغ ما بقيَ فيها. لـذا وجدَ نفسه يذهب لرقمِ ياسِر الذي أخذه يوم قابله، اتّصل بهِ على مضض، وانتظـر حتى جاءهُ صوته ليهتف بهدوء : السلام عليكم . . . كيفك؟ . . . الحمدلله طيب عساك دايم بخير ، معليش حبيت تبلغ إلين إنّي بمرها الحين . . .
ياسر بنبرةٍ متضايقة : أبشِر ومعليش أكِيد إننا ضايقناكم على هالصُبح وخوفناها.
عقدَ أدهم حاجبيهِ قليلًا، شعر أنّ لكلماتِه معانِي جعلتهُ يتوجّس، لفظَ بحذر : أبد ما عليك بس شلون الوضع الحين؟
ياسِر بنبرةٍ مُجهدةٍ بوضوح : إن شاء الله خِير . . طلع عنده ارتفـاع في الضغط بس .. * أردف بتكرارٍ قلق * إن شاء الله خير.
اتّسعت عينا أدهم قليلًا .. " عنده "!! من قد يعنِيه بصيغةِ المذكّرِ هذهِ وهاءِ الغائِب غيـر . . . وقفَ ببهوتٍ وهو يتنحنحُ ويلفظ بتلعثم : معليش ياسر كنت مشغول كثير من الصبح وما قدرت أمركم .. معليش قولي اي مستشفى نسيته!


،


غُرفتـها باردة ، باردةٌ جدًا ، غُرفتـها جليد/صقيع تجاوزت البرودةُ فيها مراحـل عديدة .. لمَ هي باردة؟ والتكييفُ مُنخفـِض! . . كان قد وصـل للمنزلِ منذُ دقائق قليلةٍ بعد أن تـاهَ هُناك وفي ذاتِ المكـان الذي تاهَت فيه أفكـارهُ وتركه متعب يغرقُ في صدمتِه، لفظَ كلماته تِلك .. ومن ثمّ ابتعد ليبقى هو وحدهُ هُنـاك ، يُحلّل معنى كلماتِه، ويغرقُ في الأسـى، واللا تصدِيق . .
عـاد قبل لحظات، لم يشعُر خلالها بنفسِه وهو يتّجه لغُرفة امّه، يفتحُ بابها بهدوءٍ جائِر، قهريّ، لم يكُن رغبةً منه بحجمِ ما افتعلتهُ فيه الصدمـة. الغُرفـة مُظلمة، أغلقَ بابَها بعد دخُولهِ واتّكأ بظهرِه عليه، مـالت ساقاهُ قليلًا وانعكفَت رُكبتاه في تعبيرٍ عن الانكسـار، فرشَ ذراعيهِ جانبًا، ولامسَ بباطِن كفيه سطحَ البـاب وهو ينظُر لجسدِ امّه النائِم ، وتلك البرودة ... لم يكتشف أنها .. لم تكُن إلا منه !
يكـادُ يمُوت، بوجههِ الشاحِب ، وامّه الآن تنـام، تغيّر معدّل نومها، على مشارفِ سنين طويلةٍ اعتـادت أن تصحُو منذُ الصبـاح الباكِر ، لا تنام أبدًا في هذا الوقت .. لكنّها أصبحَت تنـام ، بينما صوتهُ الميّت ، يُريد أن يشكُو لها بضعف ، أن يهمِس : لا تنامين يا يمّه .. لا تنامين .. أخـاف تحلمين فيه ويجيك فجأة مثلـي! أخـاف تموتين!! بالحيل عِشت، بالحيل عِشت!! . . لا تنامين يا يمّه ، هوّ حيّ، بس تكفيييين لا تشوفينه بمنامك ، يبتسم لك، ويقول اشتقت ! وأنا .. أنا كنت أشوفه ... يقولي نارك للحين تحرقني !! يناظرني بنظراتْ ماقد شافتها عيني منّه ... ما فهمتها ، بس الحين فهمت!!
أغمضَ عينيه بقوّة، رفـع رأسهُ للأعلـى وعينيه الشاحبيتينِ تُسقطُ دمعًا صدِئ، دمعًا - صديد - يتركُ لوعةً في مجرى حُنجرتهِ ويذُوقها بكامِل لذعتِها . . رأيتُه ، وكنتُ أراهُ ليـالي وتشكُو عيني لنفسي في المرآةِ عن رؤياي، رأيتُه، وانعكـف الفهمُ والإدراكُ في جماجِمَ من العـذاب، ظننتُ النـار في البرزخ، وظهـر أخيرًا في الدُنيـا، ومنّي أنا ، وليس لفحةً من جهنّم ، ظننتُها نـارَ السقَر ، ما بالها جاءتنا في الدنيا وزفـرت في وجوهِنا من حمِيمها! ظننتُها نـارًا أخـرى، ما ظننتُ أن تكون احتـراقًا داخليًّا من ذاتِي إليك . .
أنـا لم أخُنك وأغـدُر بك! أنا لم أفعلها ، لم أؤذِك! . . أنا .. أنـا . . . ابتلعَ ريقهُ بالعبراتِ التي تضخّمت في صدرِه ومنعت الحديثَ من الحديث ، حتى حديثُ النفسِ هذا يُمنـع ، لكنّهُ كان يُقـاوم كل عوامِل المنـع، ويُرثِي نفسه، بكلماتٍ صامتـة، لا صوت لها ، ولا نبـرة، ولا وجُود !
أنـا لم أخُنك .. أنا فقط شاهين ، وفقط أخوك، وفقط - السند - الذي تقول ما كُان فيّ . . أنا مُنقشعّ عن الـ - فقط -، أنا كلُّ شيءٍ وكـل ما تريد . . لم أخُنك !
فتـح عينيه برعشـةِ شفاهِه، نظـر للسقفِ المُتلاشية نقوشهُ بعض الشيءِ في عُمقِ الظـلام، والصديدُ يُكمل عبورهُ على خدّيْه، هنـاك اندثـارٌ حدث بيننا، لم أكُن سببًا فيه ولا أنت ، هُنـاك من آذاك وأنا معك ، لستَ وحدك ، هنـاك من جعلني أخذلك في خُذلانٍ صوريٍّ جرفنـا في سوءِ الفهم هذا . . هنـاك من شرخَ العلاقـة بيننا ، وجعل عينيك .. يا للأسف! تنبُض بحقدٍ تجاهِي!
زمّ شفتيه بأسـى، أخفضَ رأسـه ومن ثمّ تحرّكت خطواتهُ نحو أمّه، جـلس على ركبتيهِ بجانبِ السرير، لم يشعُر بنفسه يعُود صغيرًا في خيبتِه، لم يشعُر بنفسِه يحتاجها كمـا اليوم، يحتاجُ رائحتها، فهو اليوم ضعيف ، ضعيييييييفٌ جدًّا !
دسٌ رأسه بجانبِ رأسها على السريرِ الدافئ والذي لم يشعُر بدفئه، أغمضَ عينيهِ وهو يستمع لصوتِ أنفاسِها الهادئة، رائحتها التي تعرفها انفُه كحياةٍ له .. لا يُعقل أن يكون متعب حُرم منكِ هذهِ السنين ، متعب يا " يمّه " حي، متعب هنا على أرضِنـا ، أين كان ، ولمَ مـات .. كيفَ استمرّ حيًا ، وكيفَ مـات!! . . لا أدري! .. لا أدري يا أمّي ما أجوبةُ أسئلتي التي أدرك أنّها ستكُون موجعـة، ستكُون قاتلةً لـي . .
على تلك الأفكـار، تداخـل النوم الذي لم يذقهُ ليومينِ جيدًا في عينيه، لم يشعُر بنفسهِ وهو يغيبُ إلى عالـم الرؤيـا الحيّة ... إلى عالـمٍ أنبأهُ عن الأوجـاع ولم يفهم نبأه.


،


قُرب الظهيرة.
تجلسُ على كرسيّ المطبخ، مرفقيها مستندانِ على الطاولـة بينما عينيها تنظُران لسالِي وهي تغسلُ السمك وتنظفه بتقزّزٍ واضـح، قطتها تتحرّك فوق الطاولـة حول ذراعيها بدلالٍ بينما غزل تتجاهلها تمامًا والرائحة تكادُ تجعلها تتقيّأ . . دخـل سلطان وهو يرفعُ كميْ ثوبِه إلى مرفقيهِ وذراعيه مبلولتانِ بعد وضوئِه، نظـرت لهُ نظراتٍ خاطفـةٍ لم تطُل، فسرعانَ ما تمزّقت وهي تُشيحها بابتسامةٍ خجولةٍ جعلتهُ يبتسم.
سلطان يفتحُ الثلاجة ليتناولَ قنّينة الماءِ الباردة، وبهدوء : بعيونك حكِي .. قوليه.
عضّت طرف شفتِها بحرج، تنحنحَت ومن ثمّ رفعَت رأسها لتوجّه نظراتها لملامحهِ التي تعشَق، النظـرة الحنونة في عينيه، ابتسامتـه، لا تصدّق أنّ نهارًا جلبَ إليها قبلةً منْه، أنّه اليوم ليس والدها، بل زوجها !!!
شعرَت بقلبها يشتدُّ فيهِ الحربُ السجـال ما بين انقباضاتٍ وانبساطاتٍ عنيفة، ابتسمَت برقّة، ومن ثمّ مدّت يدها للقطّةِ بحركةٍ لا إراديّةٍ متوترة، داعبَت عنقها وهي تلفظُ بخفوت : المطبخ ريحته سمك .. صرنا بميناء محنا في بيت!
ضحكَ بخفوتٍ زلزلَ روحها المُصابةَ بِه، وبنبرةٍ ضاحكة : وجالسة في هالمينـاء ليه؟
غزل بجزعٍ خجول : بس كذا أبي أجلس.
أغلقَ باب الثلاجـة ومن ثمّ رفـع حاجبهُ بمكرٍ ليلفظَ بكلماتٍ قصدَ بها إحراجها : ترى فاهمك ، تبين تقنعيني بجلستك إنك سنعة وممكن تسوين شيء .. بس محد قالّك إن هالجلسة جلسة رفلات؟
غصّت بما لا تعلـم، سعلَت بقوّةٍ وهي تضعُ كفّها على مقدمةِ عنقها وتُوأدَ كلماتُها في مقبرةِ السُعال، عاد ليفتح الثلاجـة ويتناول المـاء بعفويةٍ ومن ثمّ يقتربُ منها وهو لا يستطِيع كتم ابتسامته، ناولها الماء وهو ينطق : بسم الله عليك خذي اشربي.
تناولَتهُ من كفّهِ لتشربَ مباشـرة، كـانت ذات القنينة التي شربَ منها، مُشبعةً برائحـة عطرهِ التي نثرها بكفّهِ على سطحِها ، رحـلت رائحة السمكِ وحلّ عطـرُ بَحرِه في مينائِها الفقير ، أخفضتهُ وهي ترفعُ كفّها الأخـرى وتمسحُ بسبّابتها بلل شفتيها ، لم تنظُر نحوهُ مباشرة، بل بقيت تنظُر للأمامِ وهي تُمسك بالقنّينةِ في كفّها . . وضعَ سلطان كفّه على الطاولـة يسندها، ومن ثمّ مال قليلًا وهو يلفظُ بابتسامة : معليـش.
ابتلعَت ريقها وحضورهُ وقربهُ ونبرةُ صوتِه الرجولية تُثير فيها زوبعةً من الربكـة، وجنتيها المُحمرّةُ جعلت من صورتها لطيفةً بلونِها البرونزيّ، شعرها الذي يطوفُ من حولِها كشلالٍ يحطُّ على وادٍ من السهـل الخصب.
همسَت بحرج : جـاملني ترى بقطِّع سلطة.
سلطان بابتسامةٍ ذاتِ مغزى : ما يضـر .. أهم شيء لا تقربين الطبخ.
نظرت لهُ بوجهٍ متجهّم : شتقصد؟ بفشّلك عندهم يعني؟
سلطان بشفافية : هذا الواقع للأسف.
غزل بحنق : طيب ... اليوم عشاك على يديني يا الواقع المؤسف.
سلطان بتسلية : افا ويهون عليك أنام جوعان؟!
غزل بقهرٍ فعليٍّ وقد استفزّها : بتاكل غصب عنك زين؟
ضحكَ بقوّةٍ ومن ثمّ مد كفهُ لوجهها ليمرّر سبابته ما بين حاجبيها، على التجعيدةِ المُثقلة بغضبِها النـاعم، وبخفوت : مو زين لوجهك ذا .. بعدين تطلع لك تجاعيد.
فغـرت شفتيها وقُربهُ منها سِحر، لا ينفكُّ ولا رقية لـه، نبرةُ صوتِه سحر، وعينيه سحر، لا تُجيرها أذكـار الصباح والمسـاء منـه، تراجعَت للخلفِ رغمًا عنها وكأنّها تهربُ من سحرِه ذا، والمطبـخ بات فارغًا، لم تنتبه لسالِي التي كانت قد خرجت منذُ وقتٍ طويلٍ بينما انتبـه هو لذلك فاستغرقَ بأريحيّةٍ في استفزازِها . . تراجعها كان عنيفًا على الكرسيّ كفايةً حتى يشهقَ بصريرِه وتشهق معه، كـادت تصرخ لولا كفّه التي وضعها خلف ظهرها ليُثبّتها عن السقُوطِ وهو يضحك : انتبهي يا وردة .. الفهاوة ماهي زينة بعد.
أغمضَت عينيها تُحاول أن تطردَ تأثير سحرِه لبعضِ الوقت، فتحتهما لتنظُر لهُ من قربِه العنيفِ هذا، والمؤلـم لقلبها الذي يضخُّ الدمـاء بانفعـالٍ لا يهدأ. وبخفوت : لا تسيء للإطراءات.
سلطان يعقدُ حاجبيه : نعم !
غزل تُميل برأسها وتبتسم : ماني وردة ... أنا بس غزال .. غزالة سلطان.


،


نظرتـا لهُ بتمعّن، يأكُل بصمتٍ كئيب، رُبما أكل لقمتين فقط منذ جلوسِه قبل رُبع ساعة، يلتهمهُ التفكِير بطريقةٍ جعلت عقلهُما يُدرك أنّ هنـاك ما حدثَ لهُ صباحًا حتى جاءهما بهذا التغيير، بمزاجِه العكِر وقلقهُ من شيءٍ ما!
لم تستطِع جيهان أن تصمت، لفظَت بنبرةٍ هادئةٍ متسائلة وهي تعقدُ حاجبيها : يبه شفيك ما تآكل؟
وكأنها اجتذبتهُ من عالمـه، نظـر لها بسرعةٍ وهو يقطّب جبينه، وبتيه : نعم؟
جيهان بتشديدٍ على كلماتِها : ليه ما تآكل؟
يُوسف بنبرةٍ هادئةٍ وهو ينظُر نحو الطبق وعقلهُ ليس معها : آكل ما عليك مني كملي غداك بس.
جيهان بضيق : طيب شفيك؟ منت طبيعي اليوم!
يوسف بحدةٍ مُفاجئة : جيهان كملي غداك وأنتِ ساكتة مالي خلق أحكي مع أحد الحين.
لوَت فمها بضيقٍ وقد نهضَ عنـادها ولم تستطِع منع نفسها من النهوضِ لتلتفّ حول الطاولـة حتى وصَلت إليه، تابعتها أرجوان باستنكارٍ وهي تعقدُ حاجبيها، بينما ليان تأكل بصمتٍ وهي تنظُر لها بفضول.
يوسف بحدةٍ مُستنكرةٍ ينظُر إليها : اجلسي على كرسيك وكملي أكلك.
جيهان تجلسُ على الكرسيّ الشاغـر بجانبِه وهي ترمقهُ بعناد : ما أبـي مكاني أبي هنا.
زفـر بصبر : يا صبر أيوب! جيهان بطلي حركات البزارين هذي !!!
مدّت يدها نحو طبقه وهي تبتسمُ ابتسامةَ عناد، حملت ملعقتهُ لتأخذ من الأرزّ وهي تنطُق ببطءٍ وتشديد : إذا تسميها حركات بزارين أجل يا حلوها من حركات .. * نظرت إليه لتُردف بجدّية * خذ هاللقمة منـي .. شكلك مشتاق ترجع لأيـام الأكل من يديني لما تعصّب وتبطّل تاكـل.
نظـر لها بنظراتٍ مذهولـة، لكن سُرعـان ما ابتسم ، رغمًا عنهُ وعن غضبِه الذي تلاشـى ليضحكَ أخيرًا وهي تقرّب الملعقـة من فمه، فتح فمه بتلقائيةٍ ليلتهمَ اللقمـة منها، بينما ابتسمَت أرجوان وهي تُكمِل طعامها بدورها، وجيهان في هذهِ اللحظـات تُمارِس دور الأمّ وتُطعمه رغمًا عنهُ لتجعـل قلقهُ ينقشـع لبعضِ الوقت.


،



" شوف هالوردة هناك .. كأنّها ذابلة! . . روح اسقِها مويا "
ابتسمَ وهو ينظُر لامّه، أمـال رأسه هاتفًا بخفوتٍ مُداعِب : بعد هالجدار مغطّي عنها نور الشمس .. ما تبيني أكسره؟
لتردّ بحنـان : إذا ما ساندت هالوردة مين يساندها؟
اقتـرب من تلك الوردة التي تكـاد تذبُل حتى يسقِيها ، وحين اقتـرب ، طـال شوكُها فجأةً ليُصيبه، اخترقَ جلدهُ ببضعِ سانتيمترات ، تأوّهَ ودمُه يسقُط في قطراتٍ صغيـرة ، نظـر للوردةِ التي تفتّحت وعينيهِ تتشوّشان متفاجئًا بما يراه ، تلك الوردةُ الذابـلة ، تفتّحت وأشرق لونُها الأحمـر بعد أن أصابته .. وكأنّ دواء ذبُولها كـان دمـه.

" شاهين ... شــــاهين .... شـــــــاهين "
وصـل اسمهُ إليه عن بعدٍ جعل الصوتَ خافتًا بمناداتِه، يسمعهُ يتكرّر، يعلُو أكثـر، وكفٌّ مـا تتخلخلُ بدفئِها شعره، نبـرةٌ قلقَة، ودفءٌ جـاءهُ بعد برود، الضيقُ يزيدُ من الكبـس على أضلاعِه، لكنّ الدفءَ يُحاربـه، ويبقيان متعادلان، لم يتدفّأ كما يجب، ولم يُرَحِّل الضيق كمـا ينبغي!
رفـع أجفانهُ ببطء، رأى مـلامح مشوّشة للحظـات، شفاهُها تتحرّك بصوتٍ تلاشى أخيرًا، ملامحها قلقَة، استطـاع رؤيتها أخيرًا بوضوحٍ ما إن استوعَب . . انتفضَ واقفًا، نظـر لها ببهوت، تجلسُ على السرير وتنظُر لهُ بصوتٍ يرتعِش قلقًا وخشية : شاهين يا بعد عين امّك .. وش صاير معك؟
تنفّس بعمقٍ وهو يمسحُ بكفّهِ على ملامحهِ وينظُر بتشتيتٍ يبحثُ عن ساعةٍ يرى بها الوقت، وبنبرةٍ واهنـة : كم الساعة؟ أذن ظهر؟
عُلا بوهنٍ هي الأخـرى، وهنٍ زرعـه في جسدها بعد أن ارتعبَت من تواجدهِ قريبًا منها وملامحه النائمـة كانت تلفُظ مأساة : أذن وأقـام وصلوا بعد ... الساعة 1 ونص.
شاهين بخفوت : استغفر الله ... * اعتلا صوتهُ بوضوح * معليش يمه بروح أصلي وأرجع أكلمِك.
استدار ينوي الذهاب، لكنّ صوتها الحـاد جاءهُ مرتفعًا غاضبًا : تعـال ... منت رايح لين ما تسمعني . .
شاهين بجزع : يمه واللي يعافيك . .
صرخت بغضب : ابلع لسانك .. والله طالت بعد ما تسمع كلمتي! ماراح آخذ منك وقت بسألك سؤال وانقلع.
تضـاعف ضيقُه، والدفء الذي تسلّل إليهِ ارتحـل، استـدار بملامِح بائسة، لم ينظُر نحوها، لا يريدها أن ترى الضيق وتغضب أكثـر منه كما لا يريد أن يستمـع! لا يشعر بأنّ له القدرة الآن على العطـاء، يريد فقط أن يختفي من أمـام عينيها حتى لا يفضح كلّ شيء! كان غبيًا حين عرض نفسه لكل هذا بضعفِه، غبيًا حين استسلم ونام قَريبًا منها.
اقتربَت عُلا منـه، عقدَت حاجبيها وهي تقفُ أمامه، رفعت كفّها لتُمسك ذقنه وترغمه على النظر إليها، وبحدة : شفيك؟ منت طبيعي من كم يوم .. في البداية أسيل والحين حالتك ذي !!!
شاهين بخفوت : اسمحيلي يمه أسيل خلي موضوعها بيننا.
عُلا بغضب : لو تبيني أغضب عليك اتركها عند أهلها يوم زيادة وقتها والله واللي خلقك وخلقني ما عاد أحكِي معك بكلمة.
أغمضَ عينيه بأسـى ، لا يحتمـل المزيد من هذهِ الضغوطاتِ النفسية التي تكادُ تسحقه، لا يحتـاج للمزيد حتى يفقد المتبقي من عقلـه، لا يحتاج للمزيد .. لذا توقّفي أرجوكِ عن ذلك !!
لفظَ بجزع : يمه واللي يعافيك ما . . .
قاطعتهُ بغضبٍ حاد : من الحين لين ترجع أسيل ما أبِي أسمـع صوتك فاهم !! اذلف من وجهي الحين.
زفـر بيأس، لو لهُ الطاقـة الآن لمكثَ يرجوها أن تتركَ موضوعه وأسيل بينهما ، لكنّه الآن لا يقوَى على الجدال .. لذا ابتعدَ دون كـلامٍ واتّجـه للبابِ كي يخرج.
صعَد للأعلـى، لم يفكّر إطـلاقًا بالاتجـاه لجناحِه وأسيل، كلّما رأى بابهُ شعر بالذنب، شعر بعضلاتِ وجههِ تتمزّقُ في تجعيدةِ أسـى، كلّما رآه تمنّى لو أنّه مـات قبل أن يفكّر بالزواجِ منها، ولو أنّه عارض رغبـة امّه !! يا للخـزي !!
لا يُنكـر أنّ حزنـه لا يقتصـر فقط على خطئِه، على متعب، بل هو أيضًا حزينٌ من أجِل نفسه، من أجلِ امرأةٍ دخـلت حياته ولم يُردها القدر لـه، لكنّ كل مشاعره - حرام - في شريعةِ هذهِ الدنيا التي أعـادت الأموات " المشتاق حيييييل لهم " ... حزين ، من أقصـى المغربِ إلى حبـائل المشرق.
حزين ، من شمـالِ الأرضِ لجنوبِها .. وبقيّة الجهاتِ الفرعية .. لم تقدر على بثّ القليل من الراحـة لقلبِه.
لا يدري هل يُنصف حزنهُ بمتعِب ، أم بأسيل . .
اتّجـه للمغـاسِل، توضّأ وابتعـد عن الغرفتين ، غرفته مع أسيل، وغرفتـه مع أخيه . . ابتعدَ عنهما ، وفضّل اللجـوء لأخرى ، كي يطرد طيفهما ولو لبعضِ الوقت .. يريد أن يرتاح قليلًا، ومن ثمّ سيفكّر بمعضلاتِهِ وأوّلها متعب، من أدخـل تلك الأفكـار لرأسه؟ من فعل بنا هذا؟ من قتلـه باسمي وغرّبه؟ من فعـل كلّ ذلك !!!
صلّى الظـهر وأطال بعد أن صلّى ركعتي السنة ومن ثمّ الأخريتين بعد الفريضة، أطـالَ في لجوئِه إلى الله، ضـاع ولن يستطِيع أن يجدَ نفسهُ إلا عند الله ، لا أحـد سيستطيع اللجوء لهُ سواه .. يدعُوه ، يسألـه أن يسانده، أن يُضيء له الطريق الصحيح فعقله البشريّ لا يستطِيع استيعـاب كلّ هذهِ الخيوط التي تشابكَت في عقلهِ في محض يومين فقط .. يومين أو ثلاث ... وربّما أكثر! لا يدري .. فحجمُ ما حدثَ جعلهُ يجهل الأيـام وتتابعها.


،


بعـد الغداء، لم تستطِع أن تحتمِل ، كانت قد اتّجهَت للمغـاسل وتقيّأت بلوعـةِ معدتها التي تمرّدت عليها غير محتملةٍ الرائـحة، كانت صامدةً طيلة وقت الغداء، لكنّها لم تحتمل وما إن نهضت حتى ركضَت لجهةِ المغاسِل.
تبعتِها ام عنـاد بقلقٍ بعد أن نظرت لغيداء وهتفت باهتمـامٍ بالِغ : نادي سلطان.
نهضَت غيداء بهدوءٍ عنيفٍ يغتالُهـا على غير عادتها، اتّجهت نحوَ المجلِس وما إن وقفَت أمام البابِ حتى طرقت ودخَلت لافظة بشكلٍ مُباشر : سلطان ترى مرتك تعبانة.
كـان سلطان وعناد قد انهيـا غدائهما منذُ وقتٍ سبقهن، وفي هذهِ اللحظـة يتناولانِ الشـاي، وضـع الكأس بشكلٍ تلقائيٍّ ونهـض بقلقٍ وهو يقتربُ منها : تعبانة؟ وش فيها!!
وقفَ أمامها وهو يعقدُ حاجبيه، لتردّ غيداء بهدوء : ما أدري فجأة صارت تستفرغ.
خـرج وأغلق البابَ وهو يلفظُ بحزم : يلا جاي.
تحرّكت أمامـه وتبعَها، اتّجـه للمغاسِل ليجدَ ام عناد تقفُ بجانبها بينما غزل تمسحُ وجهها الشاحِب، اقتربَ منهما، ووقفَ خلفها ليضعَ كفّه على كتِفها وهو يلفـظ بخفوت : سلامتك .. وش صار؟
ام عناد بلهفةٍ لم تستطِع اخفاءها : يمكن حامِل .. خذها للمستشفى عشان تحلل وتتأكدون.
بهتت ملامحُ غـزل وتيبّست كفوفها فوق وجهها، بينما تبدّلت ملامح سلطان فجأةً وغسـلها شلالٌ من جُمودٍ مُفاجئ، شعرَت بِه يضغطُ على كتفِها بانفعـال، لم تستطِع سوى أن تحرّك أناملها وتشملُ عينيها في الإخفـاء عنهم، كي لا ترى ملامحـه عبر المرآة أكثر .. وهي تتبدّل .. بشكلٍ أخافها رغمَ ثقتِها بِه!
ام عناد بنبرةِ أمـل : يا الله جعلني أفرح اليوم بهالخبـر اللي منتظرته من زمان ... من متى تستفرغين يا غزل؟ تحسين بشيء غير الاستفراغ؟ تشتهين أي شيء؟!
غزل وشفاهُها ترتعشُ بارتبـاك، أناملها تشنّجت، وصدرها شعرت بهِ يضيقُ فلم تستطِع الردّ عليها وهي تشعُر من كفّ سلطانْ وصدره الحـار الذي يُلامس كتفها الآخر أنّ تلك الفكـرة جعلته ينفعلُ بشكلٍ مُرعب.
لم يصِل ام عنـاد ردًا منها، عقدَت حاجبيها وفغرت فمها ، لكنّ سلطان قاطـع الكلمات التي كادت تخرج، بصوتٍ جافٍ بـارد، جامِد ... أثـار قشعريرةً حادةً في جسدِها وهي تشعُر بكفِّه ترتخي قسرًا ببطء : ماهي حامل . .
ام عناد تعقدُ حاجبيها ببعضِ الضيق : متأكد؟
سُلطان بجمودِ صوتِه الذي يتضاعف : أيـه . . * ابتسم بصعوبة * بعدين بدري شفيك مستعجلة علينا؟
ام عناد بإحباط : خاطري أشوف عيالك وعيال عناد .. عاد أخوك ما منه رجـا معيي يتزوج الحين.
تراجـع سلطان للخلفِ دون أن ينظُر لوجهِ غزل ولو للمحـة، وبهدوءٍ ظاهري : عاد ما يصير يستقوي عليك اخطبي له وحطيه في الأمـر الواقع.
ام عناد بوجوم : تبيني أجبره؟
سلطان يبتسمُ وكلماته التي لا يقتنع بها لكنّه أراد أن ينتقم بِها من عناد لأنّه شعر بالقهر منْه البارحـة، لفظها بهدوء : صدقيني عناد ينطبق عليه " اغصبني وأتغيصب " يعني لا تترددين يا الغاليـة . .
صمتتْ ام عناد دون اقتنـاع، بينما تجهّمت ملامح غيداء بصدمةٍ من حديثه، رفعَت حاجبيها وهي تنظُر لهُ بتوجّسٍ بينما نظر لها سلطان وهو يبتسم .. ليُشير أخيرًا بشفتيه بكلماتٍ لا صوت لها : لا تقوليله.
ابتسمَت ببهوتٍ ولم تعلّق، بينما بدأت امه تُمطر عليه بكلماتٍ مُتسائلةٍ عن سبب تقيؤ غزل إن لم تكُن حاملًا، واستطاعت غزل أخيرًا بصوتِها المرتعشِ أن تضـع عذرًا كاذبًا لها بأن معدتها منذُ الصباح غير مستقرة . .
ابتعدَت عنهما، وبقيَت هي معـه، تنظُر أمامها للمغسلة، تضعُ كفيها بتوترٍ على طرفِها، ترفعُ أحداقها للمرآةِ لتصتدمَ بجانبِ وجههِ فقط، عينـاهُ تنظُران حيثُ كانت تقف امّه بصمتٍ جعلها تتوتّر أكثـر.
ابتلعَت غصّةً حارقـة، شتت أحداقها وصدرها يرتفعُ بأنفاسٍ مُنفعلـة، عبـرت الكلمات عبُورًا لم يكُن سلسًا بسببِ تحشرجِ نبرتِها ، لفظَت بخفوتٍ مختنق : عصّبت؟
صمتَ لثوانٍ طويلةٍ كسرَتها، استدارَت ببطء، وخصرها يتّكئ على طرفِ المغسلةِ عوضًا عن كفيها، تنظُر لهُ بأسـى، بحزن، وملامحه القريبة والبعيدة تُضاعف كسرها بجمُودِها، : م ما أدرِي شلون فكّرت إنّ ... إنّنا . . .
قاطعها سلطان بخفوتٍ جاف : إنك حامِل . . طبيعي تفكّر بهالطريقة.
غزل برجاء : وأنا وش ذنبي.
استدارَ بكامِل جسدهِ إليها . . وابتسم : ما كان ذنبك .. مافيه أي ذنب كـان يرجع بكاف الملكية لِك، الذنب كله - ذنبه - ، ذنب الحيوان . . وذنب سلطان . .
ابتلعَت ريقها بصعوبة، أخفضَت رأسها لتتساقطَ خُصلات شعرها بكثافتها حولَ ملامحها السمـراء، نظرت للأرض، بينما اقتربَ بخطواتِه المُتّزنة منها لتدخل أقدامه في نطاقِ رؤيتِها، مدّ يدهُ ليضعها خلفَ رأسها، ومن ثمّ اجتذبها إليهِ بقوّة .. حتى انتهـى مقعدُ رأسِها في كتفِه العريض والدافئ، وتتضاعفُ معهُ العبـرات .. أشعُر بسؤالك يُلامس أطراف لسانِك ويسلخه، من هو؟ هل تذكرين ملامحه؟ هل تذكرينها؟! . . نعم أذكرُ ولو قليلًا ! لكنّني لا أريد البوح، في كلّ مرةٍ تسألنِي أصمتُ أو أقول لا أذكـر ، كانت ليلةً سوداء نسيتُ فيها الوجوه . . عداك!
أنسـى الوجوه كلّها يا سلطان ولا أنسـاك أنت، أنسـى كل ما أصابني وأذكرُ المُصابَ الذي ابتدأ مأسـاةً لي والآن أعيشهُ كأجمَلِ ما احتضنهُ قدرِي . . في لحظـةٍ مـا ... بكيتُ بين لحافِي وسريري، بعد أن أخبرني والدي بأنّ سلطان النامي تقدّم لخطبتي، ولن ترفضي!!
بكيتُ كثيرًا يومها .. واشتكيت ... بكيت لأجـل سواك، وكُنتُ غبيّةً حين أمضيتُ أيـامًا كثيرةٌ أرفضُ زواجي بكَ وبغيرك ... والآن ، أنا على مشارفِ الجنون، سينقطعُ الخيطُ أخيرًا، وأسقطُ في الجوَى نهِمَة.
همسَ بصوتِه الدافئ الذي جعل جسدها يقشعر : من أيش بطنك يعورك؟
أُكسجينها باتَ رائحتـه من كتفِه، مرّغت وجهها فيه ونبرتُها تعبُر عبور قاربٍ يهمسُ فوق البحرِ باستقراره : ما تحملت ريحة السمـك .. تفشلت منهم لو دروا.
سلطان يضحك بخفوت : الله يهديك ما حصلتِ غير تكرهين السمك ! اللي كلنا تفضله من بين كل اللحوم.
غزل بدلالٍ وهي تُمرّر أناملها خلفَ عُنقه : معليه بتنحرم منه.
سلطان : ولو حبيتيه؟
غزل تلوِي فمها : مُستحيل . .
سلطان بخُبث : بتغدا منه بكرا وبعد بكرا وطول هالأسبوع واللي وراه بعد لين ما تتعودين عليه وبعدين تحبينه.
تراجعَت للخلفِ وهي تجعّد ملامحها بتقرّف : لا واللي يعافيك لا تصير نذل كِذا !!
أمسك أرنبة أنفها بتحدي ليضغط عليها : الا ... وترى هذي نعمة لا تقعدين تقلبين وجهك كذا.
سحبت يدهُ عن أنفها بضيقٍ وهي تضوّق عينيها : يوووه لا تمسكني كِذا !!


،


جـلس في المجلِس بصمتٍ بعد عودتِه مع ياسِر من المشفـى، تنهّد وهو يفتحُ أوّل زرين من ثوبِه، نظـر لهُ بينما جلسَ ياسِر وهو يلفظُ بابتسامة : متغدي؟ يا ويلك لو تقول اي.
ابتسم أدهم : متى أمداني أتغدا يالذكي وأنا معك من قبل الظهر.
ضحكَ وهو يقِف : أقصد فطور متأخر عن غداء.
أدهم بهدوء : لا تطمّن غداي كان قهوة " وباردة بعد ".
همسَ بالكلمتين الأخيرتين دون أن يظهَر صوته، حينها لفظَ ياسر : أجل بقولهم يحطون الغداء لنا.
ارتفعَ صوت أدهم قليلًا وياسِر يُمسك بمقبضِ الباب : بس ماعليه قول لإلين تجيني بالأول أبي أكلمها.
ياسر يبتسم : أبشِر. * ليخرج *

تراجعَ للخلف، أسندَ ظهرهُ على ظهرِ الأريكةِ العربية، يكـادُ يُغرق جسدهُ فيها وهو يكتّف ذراعيه وملامحهُ تتجمّد وتنظُر للأمـام بشرودٍ يمرّر حدّته بين الهواءِ فيمزّقـه.
بينما كان ياسِر قد ذهب إليها، تجلسُ مع هالـة وهديل بتوترٍ أعمـى، اتّصل بِهم ياسر منذ ساعاتٍ طوال وأخبرهم أنّه بخير، ارتفـاع بسيطٍ في الضغط وهو الآن يُكمل فحوصاتِه في المشفى، لكنّهن بالرغمِ من ذلك لم يستطعنَ إلا القلـق، ملامحُ هديل تغرقُ في حُمرتها وتنتفخُ من البُكاء، بينما عيني هالـة تحكِي قلقًا وخشيةً وتشتتًا جعلَ ياسِر يعقدُ حاجبيه بعطفٍ ما إن دخـل ورآها، وبهدوء : وش جو الكآبة هذي مين قالكم أحد مات علينا؟
استدارت الرؤوس إليه بسرعة، قفزت هديل لتهرول إليه وهي تلفظُ بنبرةِ بكاءٍ وبحّة : ياسِر أبـــووووي . . .
وغرقَت في سيلٍ من بكاءٍ ناعمٍ لم تستطِع منهُ أن تُكمل جملتها، وقفَت إلين خلفها لتضعَ كفيها على كتفيها، وبصوتٍ مبحوح : خلاص هديل ذبحتي نفسك من البكا . . * نظرت لياسِر لتُردف برجاء * احلف إنّه بخير طيب؟
ياسر يبتسم : والله وبالله وتالله إنه بخير.
هديل دون تصديق : طيب ليه تركته بروحه في المستشفى؟
ياسر : تفشّلت من الرجال معي من الصبح .. عشان كذا رجعت أبيه يتغدا وبعدين برجع المستشفى.
عقدَت هديل حاجبيها : رجّال!!
ياسر بهدوءٍ وهو لا يدري أنّ كلماتِه خلقَت ضجيجًا صاخبًا في صدرِ إلين : زوج إلين ... * نظر لامّه ليبتسم * وشفيها ام ياسر ما تحكِي؟ طلعت غلاوة أبوي لما طاح يعني؟
نهضَت هالـة دون كلمَة، ملامحها المُتجهّمـة كانت ردًا كافيًا عمّا تشعُر بهِ حاليًا، تجاوزتهم ولم تقف، بينما وصـل إليهم صوتُها الجامـد بعد أن شلّت الصـدمة مشاعر صوتِها : بقول للخدامة تحط لكم الغداء .. هو جاهز بس محد كان وده فيه.
تابعها ياسِر بملامح متضايقةٍ من حالتها الآن حتى اختفَت من عينيه، وجّه نظراته لهديل ليهتف بنبرةٍ حازمة : خليك معها . . وأنتِ * يوجّه حديثه لإلين * روحي لزوجك يبيك بالمجلس.
سرَت الربكـة في مجرى عروقها حتى أصابَت جسدها كلّه وقلبَها، لم تُرِد أن تقابله، لكنّها بالتأكيد لم تكُن لتستطيع الاعتراض أمام ياسِر.
أومأت ببطء، وأقدامها بتلقائيةِ رفضها لا تتحرّك ، تحرّك ياسِر يُريد الذهاب بينما كانت هديل قد غادرت مهرولةً خلف امها، وقفَ فجأةً وهو يعقد حاجبيه باستنكار : إلين شفيك؟
إلين بصوتٍ مرتبكٍ وهي تشتّت نظراتها بصوتٍ مُختنق : يلا رايحة له.
تحرّكت بخطواتٍ واسِعةٍ إلى المجلِس، وجهها المُتضايق تضاعف ضيقه، حتى في كومةِ حُزنها يأتِي ليُضاعِف هذا الحُزن، يقسُو بعينيه العنيدتين فقط كي يُضايقها.
فتحَت باب المجلس، دخـلت ولسانها يُلقي السلام بتلقائية، لم تنظُر نحوهُ واستنسخ عقلها الجدران وزخارفِ ورقِ الحائط، لون الأرائِك الحمراء، والطـاولات الصغيرة الموزّعـة برتابةٍ مُملّة في المجلِس، بينما كان ينظُر لها بعينيه الحادتين، ردّ عليها السلام ببرود، ومن ثمّ نهضَ وهو يراها قد تركَت الباب مفتوحًا بمحاولةٍ طفوليّةٍ في الحمايـة وكأنّها تتغافـل عن حُرمة البيت ونسائِها، تحرّك بخطواتٍ بطيئةٍ جمّدتها في مكانها وغرست قدميها في الأرض، تسمعهُ يقترب، وينبضُ مع صوتِ خطواتِه قلبها بشدّة، تجـاوزها بجفاء، وحين وصل للبـاب أطبقه بهدوء، ولم يكُن ذاك الهدوءُ سوى صريرٍ مُزعِج، مرّ على أذنيها وخرقَ طبلتهما، ليتبعهُ نبرةُ صوتِه وتمرّ بحدّتِها مسامعها المجروحـة فتتألّم : كنتِ تقدرين تحكين لي اللي صار وتتركين غرورك ذا ولو شوي . . بس طبعًا لا ... ولا كأنّ وراك رجال . . .
أخفضَت وجهها لتنظُر أحداقها لموضِع قدميها، تحرّكت خطواتهُ من جديدٍ حتى وقفَ خلفها وهي تشعُر بقُربه الذي جعل جسدها يرتبك، أردف ببرود : وين كان الضرر لو اتّصلتِ علي وقلتيلي أبوي تعبان! خذني له؟
لم تُرِد أن تبرّر، ولم ترى أنّه يستحقّ تبريرًا، لـذا صمتت وتجاهلَت أسئلته تجاهلًا استفزّه، أمسك كتفيها ليُديرها إليـه بحدّةٍ طالت صوتهُ وهو يلفظُ بعينين تتّسعان غضبًا : نجــلاااااااء . . .
لكنّه أُخرِس فجأةً وهي يرى احمـرار وجهها الباكِي .. الباكـي!!! كانت تبكِي؟ أجفانُها منتفخة، احمرارُ عينيها أخفتهُ عنه بإخفاضِها لوجهها.
صمتَ لثوانٍ طـالت، كسـرها بكفيه اللتين ارتفعتا لتُحيط وجهها، رفـع ملامحها إليه ببطء، نظـر لعينيها المُحمرّتين . . وبنبرةٍ متسائلة : كنتِ تبكين؟


،


الاتّصـالات لم تكُن تتوقّف ، ذاتُ الرقمِ الذي يُخبـره بوضوحٍ أنّه علِم بما حدثَ لأخته وهو غاضِب، يُريد أن يستفسر عن السبب أو ربّما فقط يلعنهُ بكلمات !!
لم يكُن يُريد الردّ على أحـد، طردَ مكالمتـه وأحال هاتفه للصامِت وتجاهلَه اتّصـالاتِه المُتكرّرة .. طـال الوقت، وهو ينظُر للأمام، يحلسُ على إحدى أرائِك الصالةِ العلوية، كفيه على فمِه، عينيه للفـراغ ، يفكّر كثيرًا، من قد يفعل بِهم ذلك؟ من؟ سند؟ أم رُبّما أدهـم؟ من؟ ولـمَ؟! إن كان لفترةٍ طويلةٍ يظنُّ أنّ أدهـم السبب في الكثير ، فهل أصبـح الآن السبب في كلّ شيء؟ سبب ما حدث لأخيه من البداية للنهايـة، سبب انشطـار العلاقات !! هل يُعقل؟ ولمَ لا؟ لمَ لا وهو الأقـرب لذلك ورُبما فقط يتصنّع أنه صديقه !!
زفـر بتشتت، حرّك أحداقهُ لتسقُط على الشاشةِ المنيرة باسم فوّاز، شعر بالضجـر من اتصالاتِه الغاضبة التي لا تتوقّف، لـذا رفعه أخيرًا ، وردّ عليـه : نعم فواز؟
فواز بسخريةٍ من الجهةِ الأخرى : وأخيرًا تمرجلت وقرّرت ترد؟
شاهين بجمود : وش تبي بالضبط؟ إذا عن أسِيل فمالك شغـل ، اترك الموضوع بيننا.
فواز بذهول : أتركه بينكم؟ ماشاء الله وأنت مخلي فيها توضيح تقدر تفهم منه وش اللي السبب بالضبط عشان يكون بينكم؟
شاهين بيأسْ : أختك ماراح ترجع لـي . . أعتذر لهالشيء يا فواز !
فواز بصدمةٍ غاضبةٍ وهو يوسّع عينيه : نعـم!!! وليه إن شاء الله وش مسوية أختي وأنتوا حتـى ما كملتوا سنة!!!
شاهين بأسـى : ما سوّت شيء .. أنا اللي سويت .. أنا والزمن بس!!
فواز بتوجّس : شاهين ممكن تبعِد عن الكلام اللي ماهو واضح وتقولي وش اللي أنت مسويه بالضبط؟
شاهين بنبرةٍ واهنـة : بتدري عن كل شيء بعدين ... اسمح لي بقفّل . .
فواز يقاطعه بصرخةٍ غاضبـة : يا ويلك لو تقفّل .. يا ويييييلك . .
شاهين بقلّة صبر : لا تقعد تهدّد .. بقفل لأنّي ماني فاضي لك الحين .. عندي مواضيع لفوق راسي وتكفيني.
فواز يبتسمُ بغيظ، ومن بين أسنانه : إذا كنت رجّال تكلّم .. لا تقعد تتهرب بهالطريقة التافهة!!
شاهين : محاولة فاشلة عشان تستفزني.
فواز : وعشاني فاشل بالاستفزاز على قولتك تكلّم . . مافيه شيء يمنعك !
شاهين بتنهيدةٍ يُغمض عينيه لثوانِي، نبرتهُ استطـالت للخفوت، كلماتهُ المهترئةُ اهترأت أكثـر ، همسَ بفراغ : لأنّ متعب يا فـواز .... رجـع.


،

يجلسُ مستترًا في إحدى الأروقة، كتفهُ مضرّجةٌ بالدمـاء ، كان تحذيرًا مستترًا وتجاهلهُ فعليًا حتى جاءهُ الهجوم في غمضةِ انتبـاه . . شدّ على أسنانِه وهو يضغطُ جرحهً كي يوقفَ الدمـاء المُتدفقة، سمِعَ صوتَ خطواتٍ تقترب، الإرهـاق الذي نـال من جسدِ إثر نزيفه جعل أقدامهُ واهنَة لذا لم يستطِع أن يقفَ بسرعةٍ ويبتعد أو يصلبّ جسدهُ ويواجِه . . تراجع للخلفِ وهو يشتمُهم في داخِلهِ ليدسّ جسدهُ في زاويةٍ مظلمـةٍ وهو يًدرك أنّهم سيجدونه بكل سهولة، لكنّها فرصته الأخيرة وإن كانت نسبةً نجاحِها بسيطة . . .

.

.

.

انــتــهــى

قـراءة ممتعة للجميع، وموعدنا كما قُلنا، الثلاثاء إن شاء الله ()

ودمتم بخير / كَيــدْ !




أبها 16-06-16 08:49 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
كل الشكر والتقدير اختي كيد

جزء رائع فيه من الآلام والمخاوف ما فيه ،
متعب وشاهين والشعور بالخيانة والغدر ،
وتميم وعائلة يوسف الصغيرة .و الأخطار تحوم حولهم .
أدهم وإلين وعلاقة مبهمة يشوبها الألم .

بانتظارك ..
🍃🌸🍃

Someeah 17-06-16 03:48 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
رروايه اكثر من رائعه مسجله عشانك واستمريي وكثري مواقف بين سلطان وغزل😭😍💘
وبإنتظارك يالزين💛.

كَيــدْ 17-06-16 10:20 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 









السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، بجمع بعض الأسطر من تعليقاتكم اللي تحتاج تعقيب ، ورُبما يصير هذا نظامي في الردود - لو تراكمت -

*


ما اعتقد إن الكلمة اللي القاها شاهين لأسيل
انت طالق .. شاهين أعقل من ان الحلول اللي يختارها
تكون بدون تفكير ..
يمكن يقولها قعدي عند أهلك كم يوم ، على ما تترتب
أفكاره ويقدر يلتقي بمتعب ويعرف الموضوع منه ..

الموضوع يلغي كل مجـال للتفكير، كل شيء طـاح على راسه خلال يوم أو يومين، ما يمديه يستوعب ويفكر زين حتى لو فكّر ما راح يلاقي الحل غير في إنّه يتركها ، في كل الأحوال وحتى وإن كان يحبها ما راح يقدر يظل معاها! صعبـة عليه جدًا بعد ما اكتشف إنّ أخوه عايِش!



شاهين تسرع في تطليق اسيل فهي الوحيدة اللتي تاخز قرارها في ابقاء معه او لا عند معرفتها الحقيقة

طبعًا ما كان طلاق مثل ما شفتوا. :"
والمهم بهالسطر هو شغلة " إن أسيل اللي تختار " وهذا غلط، اللي يختار بقاءها له أو لا هو زوجها الأول - متعب -، رجوعه ممكن يلغي عقد الأول بما أنّ عقد زواجه لازال قائِم ، إلا لو قال ما يبيها فتظل لشاهين.



شاهين ...
ألا تعتقد أنك تسرعت بنبذك لأسيل ؟
لن يكون الوضع بهذه البساطة تتخلى عنها لتكون من
نصيب أخيك !! بالطبع لن يتقبلها متعب ومن الصعب أن
تكون زوجة لأحدكما ..

قلتيها : " من الصعب أن تكون زوجة لأحدكما " ، :( أكثر من خمس قارئات تقريبًا قالوا خلاص مستحيل تكون لوحدة منهم! صعبة !! ووحدة قالت الحل يموت متعب ! وأضيف " أو شاهين " - ودها تجلطكم - :p
+ حاليًا متعب اختـار ياخذ أسيل " كانتقام " بس هو أصلًا عايفها يعني ماهو عشان حب أو إنه قادر يتقبل !


حقيقة يوم عشت الشعور شوي أدركت فعلاً إنّ كل واحد من هالأثنين موقفه صعب جدًا مو مثل قبل كنت واقفه بصف شاهين فقط.
متعب حاس بخيانة أغلى شخصين على قلبه وهذا أصعب شعور ممكن يواجهه أي أحد.
وشاهين مشتاق لشوفة أخوه وماله دخل بالمعمعة اللي صايره من وراه
أسيل مدري كيف أتوقع شعورها لو درت برجعة متعب! ممكن تفرح ترا ما أستبعد عليها "/

المهم إن شاء الله اللي بينهم يتّضح بعد لقاء متعب بشاهين، ولو جزء بسيط المهم يعرف متعب إنّ أخوه ماله دخل.

أسيل ممكن تفرح وممكن بعَد يصير لها نفس اللي صار لشاهين " من شدّة الصدمة تنسى تفرح "
ومتعب طوال 3 سنين تقريبًا عايش على فكرة إن شاهين اللي سوّى فيه كِذا ، مجرّد تبريرات وحكِي ماراح يخليه يصدقه ، يحتاج دليل ملموس.



غزل، للحين ما اتضح ماضيها بالتفصيل، طوّلتِ كيد متى الوقت المناسب؟ :$
عمومًا اللي عرفته إنّها مشت برجلها لطريق الحرام وللأسف واضح من كلامها إنّها فقدت عذريتها
لذلك رقّعته بموقف الرجال اللي جاء من الله.
يعني إذا كانت فعلاً غلطانة بماضيها والحين ربّي ستر عليها بذاك الموقف فأتمنى تسير حياتها على هالنحو بدون علم سلطان.
بس المشكلة أذكر فيه وحده سألتك هل غزل فاقده عذريتها بماضيها؟ قلتِ مع الأحداث تعرفين
مدري حسيت إنّ فيه جزء بماضيها مبهم "/ بس أنا متأكده إنّها فاقدتها لأنّ أبوها وأمها كلهم عارفين هالشي وواضح متأكّدين
خصوصًا ابوها استغرب يوم قالت له في يوم العيد إنّ الأمور بينهم تمام! وبغى يتكلم لولا تدخل سلطان.

ياليت توضحين كيد هالأمر عشان نوقف تحليل من هالناحية "(

الوقت المناسب ما بعد يجي :$ :p مقررة أصدمكم بحقيقتها مرة وحدة مع مجموعة صدمات لوووول * نذلة *
في البداية كنت دايم أقول مع الأحداث تعرفون لين ما قالت لكم الأحداث : أيه.
غزل بنفسها معترفة بأحاديث نفس كثيرة عن ماضيها، يعني مافي مجال للشك. وفيه أجزاء كثيرة فعلًا مُبهمة بماضيها، ما بعد توضح شيء عشان نشك بهالنقطة، لذلك أمها وأبوها فعلًا يدرون، ومن كلامها لأحمد قالت فيما معناه " صدقتوه " ويرجع الهاء للشخص اللي " فضحها " يعني واحد متكلم وقايل لأبوها بكل شيء.



جيهان...
قلبي رق لها، الأهم إنّها عرفت غلطتها واعتذرت وندمت.
أتمنى لها حياة سعيدة وذكريات أجمل تنسيها فواز وأبوه...
كذا حسيت إنّ تميم بيصير له دخل مدري ليه :/
وبدر مع اختها، جمعت الشمل أنا

ههههههههههههههههههههههههه على قولة بنت قالت لي اليوم بالآسك " لا مُحبي تميم ولا مُحبي فواز يرضون بهالفكرة! " ، طبعًا محد بيرضى بس كل شيء جائز :/ ولو صار شيء بين جيهان وتميم فواز بينجلط وقتها لوووول.


أمّا جنان، قلبي معها والله مايستاهلها فواز أبدًا، يلعب بمشاعرها بدون قصد وهو قلبه هناك.
يا إنّه يحاول يبدأ بكل جهده مو يمسكها ويقول قاعد أحاول! لا المفروض يبني ذكريات معها
يروحون لأماكن يخّزنون ذكريات تساعدهم في نسيان الماضي نوعًا ما.
بالنسبة لكلمته إنّه محط عبور لها فهنا علامة استفهام....

محطة العبور هذي / لو كنتوا متذكرين شغلة تخص جنان وحاطينها بعين الاعتبار ممكن تقربون شوي من فهمه ، ماراح أوضح أكثر بتفهمون قصده قريب.
وهو فعلًا قاعد يحاول بس هذا حدّه ! يقنع نفسه إنه يقدر وهو في الأساس " ما يقدر "



* حبّيت أفضفض
إن شاء الله شملت كل أبطال هالبارت الجميل .
بالمناسبة فقدت سيف بهالجزء، من عقب ماقالها تجهّزي بنروح لمكان واختفوا
لاحظي ماقلت فقدت ديما لأنّها والله زوّدتها خلاص يختي الرجال شوي ويحبي خلاص، اللي فيك وبيتعالج والرجال اعتذر من زمان!
يا تبدأ تتلحلح ولا جيبي سيف لحاله بكره بدون مايجيب طاريها "/

ههههههههههههههههههههههه عشان أكُون صريحة أول ما شفت تعليقك بهالنقطة بالضبط قلت بخاطري " أبد أبشري بتشوفينهم بالبارت اللي وراه " ما حبيت أخليها بخاطرك ()
وجانا سيف معها و " التلحلح " ذا ننطره مع سيف ما يضر :D


* تعليق أقل ما يقال عنه " رائِع " ، لو ما أعقبت عليه بيكون عار علي والله ، :$ شكرًا لتواجك الفاتن :*




،


تعليقات الجُزء الأخير سأعقب عليها غدًا صباحًا إن شاء الله :* :"""





fadi azar 19-06-16 08:28 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

Queen to00ofy 20-06-16 12:33 PM

يا هلا ويا مرحبا.....بكدو


فديت الزين كلة.....الرواية تجننن😍
تجنننننننننن....احداثها تذبح ودي ما قريتها الا لما تخلص وتصير كاملة كنت اقرا بطريقة متقطعة الاحداث وبعدها ما خليتها الا لما وصلت لاخر بارت.....💗💗💗


جيهان تستاهل الي صار لها..
عناد ليش لما الحين ما تزوج يمكن في احد ببالة ..😉😏
غيداء يا قلبي عليها الله يستر من سارة ناوية عليها الله يكفيها شرها ..😢🙌🏻
وسلطان راح يندم ظلم عمة واضحة حيل انة مع الشرطة او المخابرات للقبض علي سعود الرزان وينتقم لخووة لانة قال راح ننتقم مع بعض واستغال احمد الي يوصل لسعود...
وليلى طلعت عندة 👀

عناد وفواز وتميم في رابط بينهم ولالا
الله يعين شاهين ومتعب واسيل لا درت ما تتحمل عذاب الضمير والتفكير بنها كانت تحس فية😔

تميم يمكن يكون ضد جدة ومتعاون مع الشرطة او المخابرات الان الصفقات الي تعامل معاها فشلت وحط العذر ببدر في سر تعلقة ببدر ويلاحقة ويراقبة ليش....
احس تميم الي انقذ حسام من الخطف بس شنو قال لة ؟؟؟؟
ووبس ترا كنت متابعة من ورا الكوليس وطلعنا لعيونك متي البارت الجاي 😋😋

Queen to00ofy 21-06-16 11:30 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
🌹🌹🌹ناااطرينك 💃🏻💃🏻

كَيــدْ 22-06-16 07:09 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضـا من الرحمـن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


أسرار كثييييرة بتنكشف اليوم ، بتنحل لكم مُعضلات أكيد كنتوا تنتظرونها كثير ... فما أطول عليكم . .

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$

+ اللهم اكتبنا من المغفورين لهم في شهركَ الكريم ، وارحمنا واعتق رقابنـا من النـار . . لا تنسوا قراءة القرآن والعبـادة ولا تنسونِي من دعواتكم الطيبة :* ()

بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبـادات في هذا الشهرِ الكريم


ما شِئْتَ مِنْ عِبْءِ الغَرامِ وحَمْلِهِ
دَعْ عَنْكَ وَبْلاً لا يَقُومُ بِطلِّهِ
يا مُسْعِدي في حَمْل أَثْقَالِ الهَوَى
مُتَجَمِّلاً تَبْغي مَعُونةَ حَمْلِهِ
هَوِّنْ عَلَيْكَ مِنَ التَّكَلُّفِ واسْتَرِحْ
لَيْسَ الفَقِيدُ كَمَنْ يَنُوحُ بجُعلِهِ
يَا مَنْ لَهُ سَوْق الجمالِ يُدلّه
في حُبّ مَعْشُوقِ الفؤادِ بدلِّهِ
مُتَحَكّمٌ أَعْطاهُ مُلْكَ جَوانِحِي
مَلِكُ الجمالِ أَقلّه وأجلّهِ
يا بَدرُ رقّ لِذي وِدَادٍ صَادقٍ
لَمْ تُبْلهِ الأَشْجَانُ لَوْ لَمْ تُبْلهِ
فَبماءِ حُسْنٍ قَدْ عَززْتَ بِصَوْنِهِ
وَبِماءِ دَمْعٍ قَدْ ذَلَلْتُ بِبَذْلِهِ
جُدْ لِي بِعَيْشٍ بالرِّضَا مِنْكَ انْقَضَى
وَإِذَا اسْتَحَالَ بِعَيْنِهِ فَبِمِثْلِهِ
قَدْ كُنْتُ أَشْكُو مِنْ صُدُودِكَ بَعْضَهُ
فَالآنَ كَيْفَ وَقَدْ بُلِيتُ بِكُلِّهِ

يا مَوْقِفَ البَيْنِ الَّذي قَدْ كَانَ لِي
عَلَماً بِثاراتِ الهَوَى مِنْ قَبْلِهِ
كَمْ لَيْلَةٍ قَضَّيْتُهَا بِشِكايةٍ
أَخَذتْ عَلى لَيْلي مَجَامِعَ سَبْلِهِ


* الشاب الظريف


(75)*2




بقيَ يمشي بين النـاس بعد ذلك اللقـاء الذي أشعلهُ بينه وبين تميم، يتعمّق في تفكيره ويجدُ أنّ الأفكـار تبتلعهُ وتمضغه، الآن هاهو قد حشَر غيره في كلِّ هذهِ المعمعة! ذنبٌ جديدْ، وصورةٌ أخـرى من " اقحـام "، امّه وزوجتُه .. ماتتا لأنّهما فقط ارتبطتا بِه وبوالده! والآن هو يُقحم عائلةً كامـلة ! ما الذي فعله!!
عضّ طرف شفتِه، أغمض عينيهِ لوهلة، ومن ثمّ فتحهما ما إن شعر بالتصاقِ كتفٍ بكتِفه، عقد حاجبيهِ بانزعاجٍ وهو ينظُر للرجل الوقحِ الذي يلتصق بِه ، ابتعدَ قليلًا، لتتّسع عيناه بتعجبٍ لأنّه عاد واقترب حتى التصق بهِ من جديد.
توقّفَ ليرفعَ حاجبهُ الأيسرَ وهو يهزُّ رأسه بتساؤلٍ حاد، ليبتسم الرجُل ومن ثمّ يلفظ بهدوءٍ وبفرنسيّةٍ جامدة : الرجُل ينتظرك.
عقد بدر حاجبيهِ دون فهم، وباستنكار : ماذا؟
هو : ذاك .. ممم يوسف ..
اتّسعت عيناه فجأة، انفعل قلبه وعينـاه تنظُران لملامحِه وابتسامتِه الخبيثةِ دون تصديق .. يوسف!! .. توتّرت نظراتهُ حتى أُحيلت للغضَب، عقد حاجبيهِ بحدةٍ ليلفظَ من بينِ أسنانِه وهو يقتربُ منه حتى أمسك بمقدّمةِ قميصِه : أنت .. أنت!! ما الذي فعلته بِه؟!!
هو ببرودٍ يبتسم : لا شيء حتى الآن .. قد يتغيّر حالـه إذا لم تأتِ معي في هذهِ اللحظة.
بدر بغضب : لا تتلاعب معي!!
مدّ يدهُ متغافلًا عن الناسِ حولهم ليُلامس سلاحهُ الذي يرتاحُ في خاصِرتِه أسفل معطفِه، اتّسعت ابتسامةُ الرجُل بعد أن أدرك ما ينوِي، وبهدوء : إن قُمت بخطوةٍ خاطئة سيموت .. لديّ من يسمعوننا الآن وهو معهم .. لذا كُن مطيعًا.
ترك قميصه تدريجيًا وهو يتنفّس بانفعـال، في هذهِ اللحظـة، يُدرك أنّ المراقبة عليهِ انتهت على الأرجح بعد أن ذهبَ أخوته إلى مكانٍ آمنٍ بعيدًا عنهم، لم يعُد هناك ما يخشونه، فهو ليسَ مثلهم، يستطيع الدفـاع عن نفسه ، أي أنّه الآن إذا لم يتصرّف على الوجْه الصحيح ويُنقذ يوسف فلن يُنقذهما أحد!!
لفظَ بانفعال : ماذا تريد بالضبط؟!
هو ببرود : تحرّك أمامي.
تحرّك بدر بتلقائيّةٍ وصدره يرتفعُ وينخفضُ بانفعال، بينما كان ذاك يخطو خلفه تمامًا، بقيَ يمشِي أمامهُ طوعًا لدقائق طويلةٍ حتى وصلًا لمكانٍ شبهِ مُنعزل، لفظ بدر بشك : أين هو؟
هو : سلّمني سلاحك أوّلًا.
استدارَ بدر بسرعةٍ وقد أدرك لعبتهم متأخرًا، لفظَ بغضبٍ وهو يسحب سلاحه : أين هو؟!!
تدارك ذاك الوضع سريعًا وفي لحظةٍ خاطفةٍ كـان جلدُ كتفِه الأيمـن قد شُقّ بجرحٍ غمير، تأوّه بألمٍ من الجرحِ الذي امتدّ من - ما بين عنقهِ وكتفِه بميلانٍ إلى آخرِ كتِفه، سقطَ سلاحهُ دون شعورٍ منه، بينما من خلفِه قبضَ آخرٌ على عنقهِ وهو يهتف بانتصـار : وصلنا إليه . .
جاءه صوتٌ ثالث : كان ذلك أسهلُ مما ظننت، واحدٌ منّا كـان يكفِي.
أدارَ بدر رأسـه ببطءٍ حتى نظـر للواقفِ خلفـه والذي كان يُمسك بمؤخـرةِ عُنقه، تصلّبت ملامحـه، وسترتهُ تتشبّع بالدمِ المُنبثقِ من جُرحِه، لفظَ بجمودٍ بينما كفّه تستقرُّ خانقةً الدمـاء : كـانَ أسهل!
الذي من خلفِه بأمرٍ حاد : تحرّك أمامي . .
تحرّك بدر بهدوءٍ وكفّه لا تزالُ على جرحِه، تفاصِيل الألـمِ رُسمت في عقدةِ حاجبيْه وشده على أسنـانِه، لمْ يسأل عن المكان الذي يريدون أن يتّجهوا بِه إليه، فهو لم يكن لينصـاع بالطبـع لهم.
وصلُوا لسيّارةٍ سوداء توقّفت في مكانٍ مُنعزلٍ عن أعيُنِ النـاس، راقبَ المكـان من حولِه بعينٍ جامـدة، دفعَه من يمشي خلفهُ من ظهرهِ وهو يهتف بنزق : لا تحـاول فعل شيءٍ وإلا قتلتك.
بدر يتمتمُ باحتقار : لابو ذا الوجه الأشهب.
وقفَ أمـام البـابِ الذي خلف مقعدِ السائِق مبـاشرة، فتحه أحدهم، ليركب الأول منهُم ويقفَ الآخر عند بابِ السائق منتظرًا ركوبَه والثالثُ يقفُ بجانِبه مباشرة . . شدَّ على أسنانِه بحنقٍ من هذا الوضع الذي هو فيه ولا يبدو أنّ شيئًا من حولِه سيُسـانده، لذا اختـار أخيرًا الحلّ الأصعب والأشدّ تهورًا، تحرّك فجأةً ليضربَ بمرفقِه الواقفَ بجانِبه في أضلعِ صدره، تراجّع ذاكَ وهو يشهقُ باختنـاقٍ مُفاجئ، حينها تحرّك السائق منهم وهو يصرخ بشتيمةٍ منفعلةٍ إليـه، استدارَ بدر إليهِ لترتفعَ يدُه اليُمنـى ذي الكتِف المُصـابة .. ضربهُ بقوّةٍ في بطنِه ومن ثمّ ركلـه في منطقـةٍ حساسةٍ ليتراجع إثر ذلك متأوهًا ولا يستطيع الحراك.
بينما عقله لم يتغافـل عن الأخيرِ الذي تحرّك وهو داخِل السيّارةِ باتّجاهِه، تراجَع بدر للخلفِ قليلًا حتى رآهُ يكادُ يخرج من بابِ السيارة، حينها ركل البابَ بكلّ قوّةٍ لتنطبقَ على جسدِهِ مباشرةً وترتدَّ مع آهةٍ متوجّعة.
هروّلت خطواتُه سريعًا، كتفهُ نزفَت أكثرَ إثر ضربِه لأحدهم بيدِه اليُمنى وضغطِه عليها، ابتعد عن نطاقِهم .. ليس كثيرًا .. فهم كانوا يستطيعون اللحـاق به .. بينما ألـم كتِفه يعرقل متابعته.


جلَس مندسًّا في إحدى الأروقة، أنفـاسهُ منفعلـة ، كتفهُ مضرّجةٌ بالدمـاء وجسدهُ يشعر أنّ الجرح ينتشر فيهِ بأكمـله ، كان تحذيرًا مستترًا/ساخرًا من تميم وتجاهلهُ فعليًا حتى جاءهُ الهجوم في غمضةِ انتبـاه . . شدّ على أسنانِه وهو يضغطُ جرحهُ كي يوقفَ الدمـاء المُتدفقة، سمِعَ صوتَ خطواتٍ تقترب، الإرهـاق الذي نـال من جسدهِ إثر نزيفه جعل أقدامهُ واهنَة لذا لم يستطِع أن يقفَ بسرعةٍ ويبتعد أو يصلبَ جسدهُ ويواجِه . . تراجع للخلفِ وهو يشتمُهم في داخِلهِ ليدسّ جسدهُ في زاويةٍ مظلمـةٍ وهو يًدرك أنّهم سيجدونه بكل سهولة، لكنّها فرصته الأخيرة وإن كانت نسبةُ نجاحِها بسيطة . . .
كان الوقت نهارًا، لكنّ الظـلام حـلّ بفعلِ ضيقِ المكـان الذي اختبأ جسدهُ فيه . . رفعَ ركبتيه إلى صدرِه وهو يشدّ على أسنانه ويقـاومُ التأوّهات الصامتـة المتألمة والتي تُريد أن تبـزغ من بينِ شفاهِه، كتفه يشعر بِها شُلّت ورغم شللها كان الألـم لا يرحم، يقاوم الشلل ويتجلّى كسيفِ قائِدٍ قـاطعٍ في معركةٍ اشتدّ وطيسُها.
عينـاه تتّجهـان نحو صوتِ الخطوات، أنفاسه المُتسـارعةُ يهذّبها ويُخفضها كي لا يسمعونها، وصَلَ إليهِ صوتُ أحدهم : وجدتموه؟
ليهتفَ صوتٌ آخر : لا . . لننظـر هناك.
ابتعدَت خطواتُهم عنه، زفـر براحـة، لكنّها سرعان من انقشعّت ما إن صاح أحدهم : لحظـة .. هنالك دماءٌ في الأرض!
الآخـر : إنه قريبٌ من هنا .. لنتتبع آثـار الدمـاء.
شعرّ بوجههِ يحتقنُ بالحُمرةِ من انفعـاله، أدركَ أنّه سينتهي بكلّ بساطـةٍ إن لم يتحرّك، وحتى إن دافـع فنسبةُ نجاته ضعيفةٌ نظرًا لإصابتِه، لكنه بالرغـم من ذلك فضّل الخيـار الثانـي، فبقاءهُ جامدًا يعني الموت لا محـالة وهو لا يحبّ أن يموت ضعيفًا مُستسلمًا.
مدّ يدهُ يبحثُ عن شيءٍ ما يُقاتِل بهِ بعد أن فقد سلاحه، أمسك بقضيبٍ حديديٍّ على الأرض، وقفَ بشكلٍ مفاجئٍ وهو يتجاهل كتفَه في هذهِ اللحظـة، خـرج من ظلامِ جُحره، صرخ بشتيمةٍ غاضبةٍ وهو يلوّح بالقضيبِ بينما اتّجه إليه الثلاثة ما إن ظهر لهم، اقتربّ منه أحدهم والذي كان قد ضربه في أضلع صدرهِ قبل دقائق ليضربه الآن في كتفِه بكلّ قوّةٍ امتلكها في هذهِ اللحظـات، شعر بكتفِه يكادُ يتمزق من عنفِ ضغطِه عليه وتجاهلَه، سقطَ ذاك متألمًا ليتراجع بدر للخلفِ قليلًا وهو يتنفّس بقوة ويوجّه القضيب الحديديّ نحوهم : لو ما جيتوني غدر! هذا أسلوبكم الرخيص !!
تراجـع الباقيانِ للخلفِ قليلًا، كـان يُدرك أنّه لن يستطِيع الخلاص منهم حتى وإن أسقطَ أحدهم، ليسَ تشاؤمًا أو يأسًا بحجمِ ما كـان إدراكًا لحالِه، مرّت دقائقُ وهو ينزفُ دون توقّف، عينيْه تضبّبت رؤيتهما، لكنّه بالرغمِ من ذلك قرّر المقاومـة وإن كانت مقاومـةً لا تنفعهُ بشيءٍ سوى تأجِيل نهايتهِ رُبّما!
لفظَ أحدهما : تُدرك أنّك ستنتهي!
بدر يبتسم ابتسامةً مُجهدة : نعـم . . أدرك ذلك.
: إذن استسلم وتعـال معنا .. أُمرنا بأن لا نقتلك، لكن بشرطِ أن تكونَ متعاونًا معنا.
بدر يرفعُ حاجبه الأيسـر بسخرية : أليس العرضُ مُغري بشكلٍ مُبالغٍ فيه؟
: رُبما نظرًا لحياتِك الثمينة.
تنفّس بغيظ، سيكُون غبيًا لو اعتقـد أنّه سينجُو، وفي المقابـل أن يذهبَ معهم ذلك قمّة الجُنون!! لفظَ بنبرةٍ حادّة : لم أُصبِح مجنونًا بعد.
وقفَ الذي سقطَ حين ضربه وهو يضغطُ المنطقة ما بينَ كتفهِ وعنقه، كانت قد احمرّت والتهبَ ألمها ، لفظَ بألمٍ حاقد : سأسحقك لهذا !
بدر يبتسمُ باستفزاز : أتلهّفُ لذلك . .
اقتربَ منهُ ذاك بقهر، في اللحظـة التي شعر فيها بدرْ بأنّ جسدهُ نفدت طاقتـه بالكامل، لو ظلّ ينزف بهذهِ الوتيرة سيمُوت بالتأكيد! التهبَت مفاصلهُ بالوهن، أسقط القضيبَ الحديديّ دونَ شعورٍ منه، شدّ على كتفِه وهو يُغمضُ عينهُ اليُسرى بوهنْ ويشتمُ في داخِله، شعرَ فجأةً بكفٍ على يدِه التي تُمسك جرحه، وجّه أحداقه بضعفٍ للرجُل الذي كـان قد ضربه، ضيّق عينيه ، وكاد يدفعهُ باليدُ الأخـرى، لكنّ صرخته اعتلَت فجأةً ما إن بدأ ذاك يضغطُ بقوّةٍ على يدهِ ليتوغّل الضغطُ لجرحِه، حاول أن يقتلعَ جسدهُ منهُ لكنّه لم يستطِع، سحبه آخر بعنفٍ وهو يلفظُ بعصبية : توقّف عن ذلك ! * وجّه نظراته لبدر ليردف بنبرةٍ واثقة * الآن ستأتِي معنا.
تنفّس بسرعةٍ وهو يعضُّ شفتهُ ونزيفهُ تضاعفَ بدرجةٍ كبيرة، لم يستطِع أن يقاوم ، خاصةً بعد أن أُستفزّ جرحهُ بهذا الشكل!


،


" كنتِ تبكين؟ "
سؤالٌ تحلّى بنبرةِ اهتمـام، بنبرةِ عطفٍ انجلت منها حدّةُ صوتِه الغاضِب منها والمُتشرّب برحيقِ عنادها وتمرّدها . . شعر بالهواءِ الباردِ يعتصِر قلبه، لا يدرِي كيف للهواء أن يعتصر القلوبَ ويملك القدرةَ على الإيذاء، لكنّه ذاك الشعور، الذي يكون فيه صدركَ يضيق، يضيقُ ولا يتّسع بنفَسٍ مُنتظم.
لم تردّ عليه، ملامحها القويّة هي نفسها، جامدةٌ تنظُر له بثقَة، هي التي وعدت بأن لا تبكِي، بأن لا تذرف دمعةً بعد ليـالي، بأن تهزِم الدنيا بثبات أحداقِها وجمودِ المُقَل، وعدت الدنيـا أن تكون الجافّة في أرضِها الخصبة ببللِ الدموعْ، أن تكون الفَرِحة في أرضِها المليئةِ بالأحزان. وعدت ، لكنّها حين كان البؤسُ يحومُ حول عائلتها، نقضت الوعد، لم تبكي ضعفًا وهزيمة، بحجمِ ما بكَتْ حبًا، لم تبكِي من أدهـم ومن الحيـاة كالعادة، بل بكَت لأجل عبدالله فقط، لأجلِ والدها.
تسلّلت زفـرةٌ من بينِ شفاهِه، بقيَ ينظُر لها ولعينيها اللتين تنظرانِ إليه وكأنّه هو من آذى عبدالله ومن أوصلهُ للمشفـى، ضيّق عينيه ببطء، هذا البطء، طـال حنجرتهُ ليستحوذ على نبرتِه وكلماتِه : أحد قايل لعيونك إنّي اللي ضريته؟
إلين بنبرةِ جمود : أنت ضريت الحيـاة بكبرها لمّا تواجدت فيها ، الحيـاة لئيمة، بس ما تستاهل إن عقابها يكون أنت!
ابتسـم، كلماتُها التي تُريد بها استفزازهُ كانت عامِـلًا ومُحفّزًا ليردّ هو بما يُخرسها، مرّر إبهاميه على وجنتيها، اقترب من وجهها وهو يلفظُ بابتسامةٍ وأريحيّة : أثـاريك بكل مرة كنتِ فيها توقفين قدامي على أساس إنّك القوية كنتِ تكذبين .. هذي أنتِ قدامِي .. وبدموعك! وما أستبعد إنك بكل مرة تواجهيني كنتِ تحبسينها.
عُنقها شعرَت بهِ يتشنّج، سرى تيَـارُ حقدٍ في أوصالِها، وربما لو أنّ للنظراتِ القدرةَ على القتلِ لقتلَت . . ابتسمَ بحنـانٍ لتلك النظرات، يُنـاقضُ نفسهُ وبالرغم من غضبِه الذي فرّغ جزءً منه في متعب بحقارةٍ لم يستطِع أخيرًا أن يؤذيها أكثر، كانت تبكِي وهي التي لم يرى دموعها منذ تزوَج بها، منذُ أصبحت في كنفِه بالمعنى الصحيح، كانت هذهِ الطفلةُ الوقحَةُ تبكي! . .
لفظَت بخفوتٍ وهي تتطلّع بملامحهِ الخشنةِ والقريبةِ منها، بسخريةٍ مريرة : لو بلحظة بس حسيت نفسي راح أبكي قدامك أفضّل أقلع عيوني ولا تشوف دمعها.
أدهم : عاد أنا أبي أشوف زينها! بنت أبوك جربِي.
إلين وكلماتُه الأخيرة استفزّتها : مانِي بنته.
ابتسم : دايم تسيئين الظن، قصدت عبدالله.
رفعت كفيها كي تمسكَ بمعصميه تريد أن تُخفض كفيه قسرًا عن ملامسةِ بشرتها الناعمـة والتي جفّت من دموعِ بكائها المالحـة، وبحدة : أنت ما تعرف تحترم أحد؟ ما تعرف تقدّر اللي أكبر منك؟ قول عمي لا تقول عبدالله كذا حاف!
أدهم يرفع حاجبه الأيسر وهو يضغط على وجنتها بعنادٍ لكفيها اللتين تحاولانِ جعله يتركها : والله أعتقد بإمكـاني أختار الطريقة اللي أنادي فيها أحد بكيفي.
إلين باحتقار : أيه اطلع على حقيقتك ، اترك المثاليـة الكاذبة عشان أرضى عليك.
سحبَ إحدى كفيْه ليضعها على جبينهِ وهو يهتف بضحكة : اووووه واضح إني كنت صبور كفاية عشان تشوفيني بهالنظـرة . . مين قالّك إن المثالية بعمي ومدري أيش! مفهومك خاطئ للأسف.
إلين بِصوتٍ كأنّها تلفظهُ من " أنفها " : علّمني المفهوم الصح للمثاليـة.
ابتسمَ وهو يُخفضُ كفيهِ جانبًا، وبنبرةٍ " رايقة " : ما يكون الإنسان غبِي ، ما يكون يتكلم من طرف خشمه مثل اللي أنتِ تسوينه الحين ، ما يكون كل وقته مسوّي إنّه الشخصية القوية اللي ما تبكِي وتتحدا وهي من جنبها.
اتّسعت عينـاها بغيظٍ واستفزازهُ جرَى في مَجرى كلماتِها لتلفظَ بصوتٍ عالٍ حانـق : تدري إنّك انســ . . .
وضعَ كفّه اليُسرى على فمها مباشرةً ليُخرس صوتها العالِي، همسَ بهدوءٍ وسكينةٍ مُستفزّة : شششش .. لا تفضحينا يا عُمري.
أرادَت عضّه في تلك اللحظَة، تَفتح فمها ملء ما تستطِيع حتى تستطِيع ذلك لكنّه كان يُكمّم فمها بطريقةٍ لم تسمح لها، ضحكَ بتسليةٍ ولؤمٍ وهو يرفعُ كفّه اليُمنى ليضعها على رأسها من الخلف، داعبَ شعرها البُنيّ باستمتـاع، قرّبها منه وهو يلفظُ بابتسامة : خاطرِي بشيء .. وهالمرة ماراح أرد نفسي.
اتّسعت عيناها أكثـر، وكأنّها فهمت ما يجول في " خاطرِه " ، همهمَت بغضبٍ وهي تُحاول نزعَ كفّه القوية عن فمها والمقاومـة، لكنّه شدّ رأسها أكثر إليـه .. حتى التصقَت شفاهُه في صورةٍ شاهقةٍ لا تنكسرُ بعينِها اليُمنـى، قبّل جفنَها المُنتفـخ من دمُوعٍ سابقة، وكفّه تضغطُ على فمها مانعةً اعتلاء شهقتها المُختنقة، يشعُر بكفّيها اللتين وضعتهما على كتفيه بمقاومةٍ واهنـة، تحاول دفعهُ باعتراض، تلتوي ولا يتركها بل يشدُّ على رأسها أكثـر . . من غيرِ المُنصف أن يُقاوم أكثـر، من غيرِ المُنصف أن يرى عينيها ويُشيح أحداقه بدافِع نزاهـةِ صداماتِه بها، لستُ نزيهًا، منذُ أوقعتُ نفسي في طفلةٍ غادرتنِي النزاهـة ولا أريدها أن تعود .. أريد لكلّ ذنوبِي أن تُغفر، مـا عداكِ أنتِ .. ذنبي الذي يُثقلُ موازين الحسنات! الذنبُ الذي يُذيقنا الجنان .. حُبّكِ وعينيك.
انتـزع نفسهُ منها، وكأنّه نزعَ بقبلته تلك رموشها، تراجعَت وهي تُغطّي عينها بكفّها تشعُر أنّ تيارًا سرى فيها، صدرها يرتفعُ بأنفاسٍ حادةٍ لا تنعكِفُ لينًا ولا تنـسابَ بمزاجيّةِ الرقّة.
عينُها الأخـرى - السليمة - كانت تنظُر لهُ شرزًا، زمّت شفتيها بكرهٍ وهي تمسحُ على عينِها وكأنّه لامسهَا ببصقةٍ وليس قبلة !! . . ابتسمَ باستفزاز، ومن ثمّ لفظَ بخفوتٍ رقيق : والحين مدام أدهم ممكن تعلميني ليه ما اتصلتِ عليْ وعلمتيني باللي صار؟ ليه ما قلتيلي أوصلك !
إلين بحقد : أول شيء لا تقول مدام أدهم!
أدهم : طيب حبيبتي نعتذر .. الحين ممكن تردّين على أسئلتي من بعد إذنك؟
زفـرت بغيظٍ من أسلوبِه المُستفز، لكنّها ردّت بصوتٍ مُتعالِي : كنت حضرة جنابك مشغول ، ما حبيت أشغلك.
أدهم يرفعُ حاجبه الأيسَر : عذر أقبـح من ذنب .. الحين كنتِ شايلة هم انشغالي لهالدرجة؟
إلين تحرّك أحداقها بضجر : أحلف إنك ما كنت بتجي لو اتّصلت عليك!
أدهم باستهزاء : يا الله صرتِ تعرفيني ما شاء الله .. يا بختي.
إلين باحتراقٍ تنظُر له : اي خلاص رحت مع تاكسي ، فيه مُشكلة لا سمح الله؟
أدهم ويشعُر أنّه يحادث طفلةً غاضبةً تُريد أن تُغيظه فقط بأسلوبٍ ضعيف : أتوقع فيه مشكلتين .. يمكن بعد ثلاث ماني متأكد.
إلين بغضب : لا تستفزّني !
أدهم : أحب أستفزك طيب! تصيرين أجمل.
إلين تتحرّك بخطواتِها حتى تخرج من المجلسِ وهي تهتفُ بغضب : لا حول ولا قوّة إلا بالله !!!
كتم ضحكتهُ وهو يستديرُ برأسه كي يُتابعها بأحداقه : مع السلامة .. وتراني جوعان قوليلهم يعجلون بالغداء.
إلين بخفوتٍ وهي تُطبق الباب : وجججججع!! يظن نفسه بمطعم هالوقح!


،


ألقـَى قنبلةً اكتفَت بتفجِير مرورِ الوقتِ للحظَة، حيرة، وعدمُ فهمٍ اكتنـز ، عقدةُ حاجبين، وفمٌ مـال قليلًا بينما صوتٌ خافتٌ انبعثَ إلى مسامِع شاهين بتعجّب : شلون؟!
شاهين يتنهّد بضيق، يُشتت عينيهِ حيثُ يجلس، بالجدران، بالصورِ - الوهميّةِ - على الزوايـا مُقتبسةً من تارِيخِ خيبة، ملحمةِ أسَى، وشفتاهُ تختارانِ الصفِير الصامِت الذي يعنِي الحُزن والفقد المريريْن . . في يومين .. فقد اثنين، والأدهى، أنّه فقدَ شخصًا مرّتين! هكَذا ببساطةٍ تتقلّب الصفحـاتُ في مسيرةِ الفقد التاريخيّة، في هذهِ الملحمَةِ الأوديسية التي مـا عاد فيها البطـل ، بل مـات ، واندثَر. تتقلّب الصفحـات، وكلّ ما يخشاه الآن أن تستقرّ الأخيرة منها على مأساة.
وضعَ كفّه على فمِه وهو يشعُر بأحشائِه تحترق، واللوعـة يكادُ يتقيّؤ منها، أردفَ فواز دون فهم : وش اللي تقصده يا شاهين؟ ما فهمت!؟
شاهينْ بصوتٍ يختنقُ منْ كفّه التِي صارت تضغطُ على فمِه وكأنّه بذلك يمنعُ آهاتِ الخيبةِ من صدرِه دون الكلمـات : متعب رجَع يا فواز .. متعب حي! ما كان ميّت وما دفنّاه !
صمتَ فواز للحظات، لا يفهمه! لا يستوعبُ ما يقُوله، يظنّ أنّه لا يسمـع سوى خيالاتٍ وأوهـام، ملامحهُ تغضّنت قليلًا، شدِّ على الهاتف وهو يعقدُ حاجبيه ويلفظَ بنبرةٍ هادئـة : شكلك مشتاق له!
شاهين بنبرةِ أسى وهو يُحرّر فمهُ الذي شعرَ بِه يؤلمه من شدّة ضغطِه عليه : كثيييير .. مشتاق له حتى بعد ما شفته .. اشتقت له أكثر !!
فواز يتنهّد وهو يحاول جعل أنفاسه تنتظم بعد أن انفعلَت، قلبه بدأ ينبضُ بقوّةٍ وهو يلفظُ بحدّة : شاهين تعبان؟ فيك شيء !!
شاهين بذاتِ النبرةِ وهو لا يدري هل ما حدثَ كان أمرًا يتلهّف لهُ أم لا! لا يدري هل عودةُ متعب من أحداثِ حياتِه الجميلة أم لا! : ليتني تعبان .. والحمدلله إنّي مو تعبان !!
فواز بحدةٍ اعتلا صوتهُ فجأة : شاهِيــــــــــن !!!!
شاهين بهدوءٍ غريبٍ يحتلُّ صوته : لو كنت تعبان والا مشتاق له، تتوقّع بوصل لمرحلـة إني أقرر هالقرار؟ أطلّع أسيل من حياتِي !!
مرّر أنامـله بينَ خصلاتِ شعره، عينـاهُ تتوسّعـان تدريجيًا، ملامحه التي أجفلَت حرّكها دونَ تصديق، بنفيْ، كـان يهزّ رأسه، لا يصدّق ما يسمـع ... وصدره، كان يختنق! يبدأ بالتنفِس بسرعـة ، تتوغّل الكلمـات في رأسـه ، ينهضُ من قعودِه دون شعور ، تتحرّك أقدامـه وعقلهُ لا يدرك أين سيتّجه بخطواتِه، وقد كانَ اختناقهُ يحرّكه تلقائيًا حتى وقفَ أمام النافذة، كفّه الأخرى ارتفعَت ليفتحها ، ومن ثمّ يتّجه لأزرارِ قميصهِ ليُحاربها بأنامِله ويُعطِي صدرهُ القليلَ من الراحـة .. كل ذلك فعله دون إدراك! فعلهُ وعيناه لا تزالانِ مُتّسعتـان، أصبحَ ينظُر للشـارع ولتضارِيس الحياة، البيوت، السمـاء، بينما الصمتُ حلّ بينهما، لا أحـد منهما تحدّث، كلٌّ منهما يحاول أن يستوعب المُعضلة، أحدهما استوعبَ الحياة، وبقيَ الخذلان لم يستوعب أسبابَه، بينما الآخر لم يستوعب بعد مسألـة البعث، للحيـاة الدنيا لا الآخرة! متعب الصديق منذ سنينَ طويلـة ، صديقه الذي توفّيَ محترقًا ، كيف يُمكن ذلك!!! كيف؟!!!
همس ببهوت : شاهين ... أنت مستوعب اللي قاعد تقوله؟
شاهين بثقة : أيه مستوعبه .. لا تظن إنّي انجنيت!
فواز بخفوت حاد : لا انجنيت! انجنييييت!!
شاهين يبتسمُ ابتسامةً خافتـة : حتى أنا للحظة ظنيت إنّي مجنون !
فواز بغضبٍ لم يستطِع أن يكبحـه : وش هالمصخرة وين احنا فيه؟ فيلم والا إيش؟ لا واضح إنك تعبان وإلا مجنون وصدّقت جنونك اللي طلّعتها بأسِيل !! صاحي أنت صاحي؟
صمتَ شاهين للحظـات، يبتسمُ بأسـى، لا يلُومه، فهو كان يسمعُ صوتهُ ولا يصدّق، يسمعُ اسمه بنبرتِه التي يعرفها ولا يصدّق، فكيف بفواز الذي لم يسمعهُ أبدًا؟ كيف قد يصدّق عودة ميّتٍ لثلاثِ سنين تقريبًا؟
لفظَ بعد لحظاتِ صمتِه الطويلة وهو يستمعُ لأنفاسِ فواز التي اعتلت : شايفه بعيني .. شايفه .. ومتأكّد إنّه هو ، إنّه حي!
أغمضَ عينيهِ بقوّة، أسندَ كفّه على حافّة النافـذةِ وهو يتنفّس بانفعـال، لم يستطِع أن يصدّق، لم يستطِع أن يستوعبَ ما يقُول، لذا لفظَ من بين أسنانه بغضب : عمى بعينك !! لا تجيب أعذار غبيّة لخطأك !! لا تصير بهالدناءة!
شاهين بهدوء : لو بترك أسيل بدون سبب ماراح أستخدم أعذار غبية على قولتك! الموضوع ماهو هيّن عشان أكذِب فيه .. ماهو هيّن لا تنسى إنّ فيه امي بعد !
فواز بصرخة : شلووووووون؟ ميت شلوووووووون تبيني أصدق إنّك شايفه وعشان كذا تركتها؟!!
شاهين بجزع : ماهو ميّت .. كان حيْ! دفنّا غيره وشلون صار كل هذا ما أدري ... لا تسألني كثير عن التفاصيل .. لا تسألني لأنّي شوي وأنجن من التفكير! شوي وأذبـح نفسي!! أنا نفسي ما أدري عن كل شيء .. ضايع وأبغى أحد يفهمني اللي قاعد يصير .. وليه صار!
صمتَ فواز، وأنفاسُه وحدها بقيّت تتحدّثُ بانفعال، يضغطُ على حافّة النافـذة، ولو كان يستطِيع لحطّم الجدار، النـاسُ من حوله صاروا سرابا، صاروا عدم! لم يعُد يرى شيئًا وهو يحاول أن يفهم ، أن يستوعب الذي قاله شاهين.
بينما أردف شاهين بخفوت، يُفسّر أكثر .. يُخبره عن مواضيع اختبأت بينه وبين متعب فقط قبل وفاتِه – المزعوم -، : ضرُّوه كثيييير . . بسببهم ما رضى يعيش مثل ما يبي! تذكر شلون كان يأخّر زواجه وكثيير تتضايقون؟ كان مريض . . بس ماهو بالسكر مثل ما تظنون .. تلاعبوا فيه ... يعطونه حقنات أنسولين وهي في الأصـل بَـلوة بلوه فيها . .
عقدَ فواز حاجبيْهِ قليلًا دون فهم، ارتخَت يدهُ قليلًا وظهرهُ يُصلب . . لفظَ دون فهم وبتوجّس : وضّح أكثـر . . ما فهمت! مين اللي ضرّوا مين؟
شاهين يبتسم بأسـى : ما أدري مين هم .. بس ضروا متعب . . واحد من الأطبـاء ، ما أدري أيش كان اسمه! لما بحثنا عن اسم الشخص اللي صرف العلاج له طلع ماله وجود بالمستشفى! قاله أنت مُصاب بسكر النمط الأول .. وعطاه أمبولات أنسولين .. وهي في الأساس أمفيتامينات!
فواز بصدمة : نعم!!!
شاهين : أيه .. وتدري وش اللي يقهر أكثر؟ * بقهر * إنّي مرَات كنت أحقنه بيديني!! بيديني يا فواز، كنت أحقنه في الوريد مباشرة وأمشي ورى نصائح الدكتور اللي اعتمد عليْ كوني دكتور وأعرف بهالأمور . .
صمتَ يبتلع ريقهُ بقهر، بينما أفرج فواز شفتيه وهو لا يستوعب كلّ ما سمِع منذُ بدايـة الإتصـال، ماهذا الجنون! ماهذا الجنوووون؟!!!
لفظَ ببهوت : لا تكون تجننت فجأة وتخيّلت إنه قدامك والحين كل هالأمور!
شاهين يعقدُ حاجبيهِ قليلًا، وبضيق : جنوني ما يوصله .. صدّقني طول ما أفكر فيه أنا صاحي . .
فواز : وليش ما علمتوني قبل؟
شاهين يبتسم بسخرية : وش تبينا نقول؟ والله متعب مُدمن معليش ما يقدر يكمل مع بنتكم حاليًا؟ . . أساسًا هو ما درى ولا انتبه إلا منّي . . لاحظت أعراض غريبة عليه، كان غريب! وكان يبي الأنسولين بكثرة بوريده مباشرة وهو ما يحس! غلطه إنه كان مُهمل كونه ما تعوّد على وضعه .. أقوله لازم الفحص اليومي لنسبة السُكر .. بس هو معيي ومو مهتم كثير .. وصار اللي يبونه!
فواز بانشداه : شلون تأكدت؟
شاهين : حاكيته .. في البداية ظنيت فيه سوء .. كنت أشوف فيه أعراض الإدمان ، وحاكيته بشكل مباشر. .
أردف بخفوت : في البداية عصّب مني .. كنت جدي لدرجة إنّي استفزيته فقرر يفحص بس عشان يوريني إنّي غلطـان .. وأنا عشاني كنت شبه متأكد كلّمت دكتور أعرفه شخصيًا عشان يكون الفحص سري . . وطلع فعلًا مثل ما توقعت.
مرّر أصابعه بين خصلاتِ شعرِه وهو يعقدُ حاجبيهِ بشدّة، جبينهُ تجعّد بخطوطِ الجنونِ الذي لُفظَ تباعًا دفعةً واحِدة، في البدايـةِ كونُه حيْ، والآن – مُدمن -!!
لفظَ شاهين يوضّح أكثر : ولأني شكيت بالأنسولين اللي يستخدمه من كثر ما يبيه من غير لا يحس خليته يسوي فحص سكر من جديد ، كنت من البدايـة غلطـان .. أعراض السكر ما كانت ظاهرة عليه! شلون ما خليته يفحص بمستشفى ثاني! شلون ما أفدته وأنا أدرى !! شكيت إنّ فيه غلط .. بس سكت! وش اللي خلانِي أسكت؟ سكر ونمط أول مرة وحدة؟ كنت غبي ... آآه!!!
لم يستطِع أن يُضيفَ شيئًا، عضّ شفتهُ السُفلــى بحسرة، هذه الحسرةُ لا تُفيد، عتـابُ الذات، الألـمُ الذي ينهشُ صدره، ما الذي يجعله الآن يتذكّر كلّ شيء! يتذكّر الخطيئة التي نسبها يومذاك لنفسِه، لامَ ذاتـه كثيرًا ، اعتذرَ منه كثيرًا، ولا يُضاعف سوى الألـم لمتعب الذي شعر أنّ الدنيـا أصبحت ضيّقةً جدًا، لا تُعـاش.
ما الذي يجعله يتذكّر؟ أنّ متعب يظنُّ بهِ السوء! يظنّه الذي ساندَ في مقتلِه؟ يسترجع أخطاءه وزلّاته ليعذره! لم يكُن السند الكافِي له ، لم يسانده، ولم يُصرّ عليه بأن يذهب معه في سفرِه خارجًا، في علاجٍ سريّ! لم يصرَّ عليه بعد أن رفضَ رفضًا قاطِعًا أن يذهب معه .. حاول كثيرًا، قـال أنّه سيحاول جعل أمّه تسافر معهما أيضًا، لن تدرك شيئًا .. لكنّني لا أريد البقـاء هنا وأنت ستذهب هناك وحدك! لا أريد!
شدّ على الهاتِف بأسـى، ضيّق عينـيه وهو ينظُر للجدارِ أمامه، للزوايـا، صوتُه رحَل ، لم يجِد ما يقُول أكثر، لذا همَس : بقفّل الحين .. وياليت تفكّر بأسيل! عجزان أفكر بنفسي بهالوقت .. كون معها.


،


" بغضّ النظـر ، فيه شخص دخِيل بيننا .. شلون عرفوا عن فيصل؟ فيه شخص يدري باللي نخطط له "
يقفُ خلفَ البابِ وهو يستمعُ لتلكَ الكلمـاتِ التي تنسابُ من بينِ شفتيْ سالِم بنبرةٍ حادةٍ قلِقَة .. عقدَ حاجبيهِ بفضولٍ ولم يتحرّك من مكانِه ينتظرُ ما يوضح لهُ خطَطه تلك.
بينما في الداخِل استمع سالِم لكلماتِ سعُود الباردة : إذا فيه هالشخص فهو راح يكون أنت أو أحمد .. محد يدري عن اللي نخطط له غيرنا!
ابتسمَ سالم باستفزاز : وليه ما يكُون من عندَك؟
سعود : أنا حتى تميم ما يدري عن كلّ تحرّكاتِي .. مين اللي بيقدر يعرف مني شيء أجل؟ * بحدةٍ غاضبة * راجع الوضع عندك .. والا بيكون لي تصرّف ثانِي معك أنت والغبي الثاني ، دايم مورطيني بأمور مالها معنى! بالأول هذاك متعب .. لو إنّك ذابحه يومتها ما كان أريح لراسنا الحين!
سالم ببرود : استفدت منّه في عمليّة ما كانت بتصير بسبب أوضاع رجالك الأغبياء وقتها .. محد كان قدها لأنّ هويّاتهم مكشوفة وما كان فيه جديد يغطّي . . متعب قدر وقتها يتجاوز الجمارك ويهرب لك الكميّة الكبيرة اللي ربحت منها كثير . . . شايف غبائي؟ أقل شيء منّه فايدة.
سعود بحدة : طيب .. خلنا من ذا .. الاثنين اللي عندك وين نصرفهم؟ * يقصد إبراهيم وسعد *
ابتسمَ سالِم دون مبالاة : خلّهم عليْ . . بصرفهم لك.
انتهَت المكالمـة ، والتي لم يفهم منها سعدْ شيئًا، من كان يقصدُ بـ " متعب "! والذين قصدهم بـ " بصرفهم لك "! يومًا بعد يومْ يُدرك أنّه حلّ في مجزرة! بدأها مباشرة، ويعلم جيدًا أنّه انتهـى، انتهـى ولا مفرّ من مصيرِه الذي يعني " الخيانـة "! فكونهم أيضًا دخلوا معمعة الجمارك وتهريب فهذا ما لن تستمرّ حياتهُ من بعده وهو دخَل بينهم.
خطى باحتراقٍ فوقَ الأرضِ التي يشعرُ بنتوءآتٍ توخزُ باطنَ قدمه بعد أن تجاوزت حذاءه، يتجاوز كلّ العقبـات التي تحول دونَ الألـم، هذا الألم الذي يتذكّر بهِ عائلته الصغيرة، أمّه وأخوتُه، ما الذي فعله بنفسه؟ وكيف عساه يخرج من كلّ ذلك؟ هل يُخبر سلطان؟ يبلّغ الشرطة، ما الذي يجب عليه أن يفعله ولا يعرّض فيهِ عائلته للخطر؟
دخـل الغرفـة التي يجلسُ فيها إبراهيم، ينبطِحُ على بطنِه ويلهو بهاتِفه بعد أن كـان في الأسفل يتدرّب مع سند، هذا التدريب الذي لا يدركون أنّه مجرّد تمويهٍ على كونِهم لازالوا يستعدّون للانضمـام إليهم بعمليّاتهم المُحرّمة وجرائمهم، بينما هم لم يعودوا كذلك، تواجدهم أصبح لا فائدةَ ترجى منه لدى سالِم.
صرخ بغضبٍ بعد دخُوله : وش تسوي أنت يا المصيبة اللي طاحت علي من ذنوبي! ربي ماهو راضي علي والله العظيم ما كان راضي عشان كذا جابك بطريقي.
نظر لهُ إبراهيم بابتسامةٍ باردَة ليلفظ باستفزاز : يمكن اختبار لك بس .. احتسب الأجر يا صاحبي .. والفلوس طبعًا.
سعد بحنق : حتى عبيد الدرهم والدينار ما سووها واختاروا يضحّون بحياتهم في سبيل الفلوس.
إبراهيم يعود للنظر لهاتِفه دون مبالاة : أنا حالة مستفحلة.
سعد يركلُ الطاولة التي بجانبِه : الله ياخذك يا دابّة الله في أرضه.
إبراهيم ببرودٍ وأصابعهُ تضغط على شاشة الهاتف : آمين بس بعد عمر طويل ألعب في بالفلوس.
لعنـه ولم يستطِع أن يُمسك زمام لسانِه من قهرهِ وهو يخرج ويطبق الباب من خلفِه ويهزّ رأسه بالنفي . . لا فائدة ، لا فائدة تُرجى من عقلِه.


،


انحصـر الجلوسُ في هدوءٍ صاخِب، تلك انعكفَت على هاتِفها، باتت غريبة! هذا ما تراه غزل، لازالت تضحك وتمزح لكنّ بها من الغرابةِ الكثير ولا تدري ما هو! أزاحت نظراتها عن والدةِ عنـاد وهي تبتسم وتلفظ : غيداء يا الماصخة اتركي جوّالك وتعالي.
غيداء بهدوءٍ وهي مُستلقيةٌ على ظهرها وهاتفها ترفعهُ فوق عينيها على بعدِ سانتيمتراتٍ قليلة : لحظتين بس.
غزل بامتعاض : بعد لحظتين؟ مين الفاضية اللي جالسة لك بهالوقت.
ام عناد : هذي صارت هوايتها بس عالجوال وهالخرابيط.
غيداء بضجرٍ تتأفف : يمه بالله لا تبدين موّالك مالي خلق.
تنهّدت أمها وهي تهزّ رأسها بيأس، نهضَت وهي تلفظُ بضيق : بروح أجلس مع العيال شوي، . . * لتخرج *
بينما كانت غزل تعقدُ حاجبيها، تنظُر لغيداء باستنكارٍ لا تفهم سبب هذا البرود و " التأفف " الذي لم تسمعها مرّةً تُطلقهُ لأمّها . . وآيةٌ قرأتها في القـرآن، مرّت عليها مرّاتٍ كثيرةٍ لعدد ما ختمت القرآن من شدّة لهفتها " ولا تقُل لهما أفٍّ . . " فما الذي حدث فجأةً لتقولها غيداء التي لطالما كانت علاقتها معها أكثر من ممتازةٍ حدّ أنها كانت تغـار في لحظاتٍ منها بسببها؟ العلاقاتُ التي رأتها في عائلتهم والتي كانت تُخبرها بأنّها شذّت عن قواعِد كثيرة.
اجتذبها من أفكارها صوتُ غيداء المتذمّر بغيظ : الحين تروح تعلم الأخ عنـاد . . أف
اتّسعت عينـاها بقُدسيّة الأخ التي تراها الآن تُحلُّ في ماءِ تذمّرها وسخطِها ، ما الذي يحدث؟ لم تكُن مخطئةً حين قالت أنّها تغيّرت وبها وبـاءٌ ما؟ . . لفظَت بصوتٍ باهت : غيداء حبيبتي شفيك معصبة؟ وضعك غريب اليوم!
غيداء دون مبالاةٍ وهي تجلسُ وتضع هاتِفها جانبًا : ولا شيء بس ضايق خلقي شوي.
مطّت ذراعيها بكسلٍ وهي تبتسم بطفوليّتها المُعتـادة وتهتف : وين قطوك؟ خلنا نشوفه زين ما حصلت فرصة مع الغداء والحوسة.
ابتسمت وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب : الحين أقول لسالي تجيبه ... وبعدين احترمي جنسها تراها قطوة ماهي قطو.
غيداء بتعجّب : من جد؟ أوووه الله يعينك بعد سلطان ما لقى يجيب لك إلا أنثى؟
غزل وهي تقف حتى تستدعي سالي : أحلى وأظرف.
غيداء بضحكة : لا وين أظرف بتبتليك بحمل وعيال . .
غزل وكأنها تنتبه لتلك النقطةِ لتوها : لا أعوذ بالله بعزلها عن أي قطاوي حولنا.
غيداء : ههههههههههههههههههههههه منتِ صاحية ..
غزل : أي ماهو ناقصني أربي جيش وراها.
غيداء بضحكة : قوليها لسلطان ما عرف يختار .. حلوة ذي تعزلينها.
غزل بتذمّرٍ وهي تتّجه للباب : وبعدين ما أبيها تتوصّخ وتجيها عدوى وفطريات من أي قطو وصخ .. يعني أكيد بنتبه.
غيداء : هههههههههههههههههههههه يا رب ارحمني.
خرجّت غزل لوقتٍ قصير لتعودَ وهي تحمل قطّتها معها، ابتسمّت غيداء بلهفةٍ ومن ثمّ نهضت بسرعةٍ لتحملها قبل أن تصل إليها غزل، وبافتتان : يمممممممممممه كيوووت تجنن.
داعبت شعرها الأبيض بينما كانت تشعر بعدائيّة القطة التي لم تُرِدها وكانت تُحاولُ أن تنسلّ من بين يديها ومواؤها يُظهر اعتراضها على هذهِ اليد.
ضحكت غزل بتعجب : شفيها شكلها ما تبيك.
غيداء تتمسّك بها بعناد : تنثبر والله ما أتركها ، عادي الحيوانات تصير عدائية بأول مرة.
غزل : أنا استحسنتني من البداية حتى سلطان وهو ما يحبها وسالي أول مرة بس كانت عدائية معها.
غيداء : أنا مثل سالي بتحبني بعدين وأكثر منّك بعد.
غزل بسخرية : ورينا شطارتك.
ابتعدت عنها غيداء لتتّجه لهاتفها وهي تهتف بحماس : بصوّرها وأوري سارونة .. بتموووت عليها.
غزل ترفع حاجبيها : سارة؟ أي صح شلونك معاها بعدك تكرهينها؟
غيداء : لا ويييييييين بالعكس صارت أقرب وحدة لي تجنن ..
أردفت بابتسامة : ياخي خرابيط الأهل بس! لو ما طلعتِ لي كنت ظليت نفسية طول عمري


،


حلّ الليل ، كان صفيرهُ الهادئُ جزءً من ضجيجٍ في نفسْ، السماء حالكـةٌ بعد أن ارتدَت فستان سهرتها الأسود، زيّنت ملامحها بغيومها المُتحرّكة برماديّةٍ شفافة، قمرُها يضيء ضوءً لا يُسعف ظلام اللّيل . . هذا هو القمر ، قد يغفل عن إنـارة أجزاءٍ عديدةٍ بعكسِ الشمس التي ما تُعـاق سوى لتخلق الظل.
كم باتت تكره القمر بأحشائِه الواهنِة - ضوئه - ، الليلُ الذي اجتمعّت فيه معه. مشّطت وجهه بعد أن ركبَت للسيّارة، نظـرت لملامِحه المُسترخيةِ وابتسامتهِ الهادئة، لا تستطِيع أن تمسك زمـام لسانها، غاضبـة، منذ أيّامٍ وأشهر، غاضبـة ، ولا تريد أن تهدأ أمامه وتُصبح " عاقلة "، تريد هذا الجنون الذي تخبرهُ بهِ أنّها تكرهه ولن تتقبّله في يومٍ ما.
لفظت بسخرية : أي مبسوط حضرتك .. ما خليتني أقلها أجلس عندهم اليوم، وش يضرّك لو نمت عندهم عشان أبوي تعبان يعني؟
أدهم ينظُر لها نظرةً خاطفـةً ومن ثمّ ينظُر للطريق : قلتيها .. تعبان، حتى نظرة الحقد ما شفتها منه بعد ما رجّع، ما يقوى على شيء حتى طبيعته، عشان تعرفين بس إنه تعبان.
إلين بحنق : أيش هالبرود اللي عندك؟
أدهم : رجعنا لتقييم الناس وأوضاعهم على كيفك؟
نفخَت فمها بغيظٍ وهي تكتّفُ يديها وكأنّه يعامِل طفلـة، للأبدِ ستبقى طفلة! لفظَت بضجر : ما أبي أرجع الفندق.
عقد حاجبيه : لا حول ولا قوّة إلا بالله .. ننام بالسيارة يعني؟
إلين : ليه أنت ما عندك بيت؟ مشرّد والا شلون؟
اتّسعت عيناه دون استيعابٍ في بادئ الأمـر، لكنّه سرعـان ما ابتسم وهو يهتفُ دون تصديقٍ وينظُر نحوها : تبين نكون ببيتنا يعني؟
إلين تتأفف ومن ثمّ تردف بنبرةٍ حادّةٍ بعض الشيء : أول شيء ناظر الطريق أبي حياتِي .. ثاني شيء لا تسميه بيتنا ولا تنسبه لي بهالوصف اللطيف ذا اللي ما يناسبه! اسمه سجن يا أخي.
أدهم بلا مبالاةٍ استفزّتها : طيب طيب سجن حفرة اللي يعجبك بس لا تضيقين خلقي الحين بأشياء سخيفة ومالها داعي ..
إلين تتقدّم بجسدها للأمام بانفعال : نعم؟!!
أدهم يرفع حاجبه الأيسر وهو ينظُر للأمام : ما قلت شيء غلط .. كالعادة تركزين على القشرة بس.
إلين تحرّك كفيها وكأنّها تشرح لطالبٍ لا يفهمها فنشر الانفعالَ في أوردتها : عند لبّ؟ عندك شيء يرتجى منك؟ ماهو أنت كلّك سطحيات وقشور؟ اااااخ يا ربي أجر أجر بس.
لم تتوقّع أن يكون ردّه .. ضحكة! ضحكةٌ متسلّيـة!! في غُمرةِ غضبها وحدّة صوتِها يضحك .. لا تُثير فيه سوى الضحك!! . . صرخت دون شعورٍ وعينيها تكادان تخرجانِ من محجرها من شدّة غيظِها : وش اللي يضحكك يا اللي بلا روح؟ بلا ضمير ولا معنى ... يا ســـطــــحـــــــــي!!!
أدهم يكتُم ضحكتهُ وهو يستمع لنبرتِها الغاضبةِ بنعومةِ صوتِها الفطريّة : أفا ! بعدين لا تقولين يا أخي ! قولي ياخِي مباشرة.
إلين بصدمة : بـــالله؟
أدهم : أيه كنت بقول أنا زوجك لا تقولين لي هالكلمة بس بعدين تذكّرت إني سطحي.
وضعَت كفيها على رأسها تكادُ تضرب نفسها وهي تهمس ببهوت : يا صبر أيوب .. يا صبر الأرض .. يا صبر البشر أجمعيييييييييييين!!!!
صمتَ ولم يُضِف شيئًا لتبقى هيَ تُتمتم بكلماتٍ لم يسمعها، حسرةٌ أو ما شابـه، لكنّه بقي يبتسم بينما اختارت هي عدم الجدالِ مع شخصٍ سيجلب لها الصداع بالتأكيد.
طـال وقت مكوثِهم في السيّارة، نظرت للطريقِ من نافذتها وصدرها يغلي، الأنوارُ تزيدُ في ظلام عينيها، لا تُضيء، أبدًا لا تضيء، وهذا القمر لم يعُد كفيلًا بانعكـاس ضوءِ شمسِه، يحفّزها على الغرَقِ في كآبتِها وضيقِها الدائِم، كلّما تذكّرت أن ليلةً هربّت فيها إليهِ تشعُر بالخزي، كلّما تذكّرت أن ليلةً جمعتهما تزدادُ في حقدِها على الليل.
عقدَت حاجبيها بعد استيعابها بأنّ الوقت طـال وهم لم يصلُوا بعد، نظرت نحوهُ وهي تهتفُ بوجوم : مو كأننا طوّلنا بالسيارة؟ وين رايح أنت مو للفندق؟!
أدهم بتعجبٍ وهو ينظُر لها نظرةً خاطفة : عندك زهايمر لا سمح الله؟ مو توّك قبل كم دقيقة قايلة تبين تروحين سجننا؟ أعتقد عارفة طريقه ما يحتاج أعلمك إنه بعيد شوي عن بيتكم.
كان يلمّح لكونها أتتهُ يومًا .. صدّت عنهُ وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، وبخفوتٍ بائس : كانت ليلة سوداء.
ابتسم : شفت فيها وجهك بعد سنين .. ماهي سوداء والله!
إلين بسخرية دون أن تنظر نحوه : اللي يسمعك يقول كنت متلهف لشوفتي .. مو كأنّك كنت شوي وتشوتني.
أدهم : أشوت قلبك لي بس عشان تحبيني.
إلين بامتعاض : غزل تعبـان ... غيره بالله وبعدين لا تفكر إنّي ممكن أحبك.
أدهم يرفع سبّابته : الله قادر.
إلين تتكتّف وهي تُكمل بضيق : يرمّلني قريب.
أمـال فمهُ ومزاجـه لا يدري لمَ هو مسترخٍ، لا يغضب ولا يشعر أن كلماتها تؤذيه : قاسيـة .. بس الله يطول عمري ونشوف عيالنا قريب .. أبِي درازن من الحين أعلمك.
لم تردّ عليه، كـانت قد انفجرّت بحمرةِ خجلها، أغضبتها كلماته، لكنّ خجلها أخرسـها بدلَ أن يمدّ غضبها بالصراخ الكافِي في وجههِ لتغضبه . . . متخلّف!!


،


دخـل بخطواتِه الهادئـة للغرفـة، ابتسمَ ما إن رآها قد أنهَت صلاتَها وكانت تطوي سجّادتها، تقدّم للسرير، وجلّس على حافّتِه وهو ينحنِي ليخلعَ حذاءه، بينما سوادُ الليلِ يطُوفُ على جسدِها، الفتنـة التي هتفَ بها مراتٍ كثيرة .. الأسودُ لم يُخلق إلّا لهـا ، لم يُخلق إلا لانحناءاتِ جسدها الأنثوي.
هتفَ بابتسامةٍ وهو يراها تتّجه للبـاب كي تخرج : تعـالي أبيك بكلمة راس.
نظـرت ديمـا نحوهُ وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب، مكثّت واقفـةً لثوانٍ قصيـرةٍ سُرعـان ما بُترَت بتحرّك أقدامها نحوهُ بانصيـاعٍ صامت.
سيف يضعُ كفّه على السريرِ بجانِبه قُرب الوسادات : اجلسي هِنـا.
أمالَت فمها دون رد، وتحرّكت حيثُ أشـار لتجلسَ وهي تنتظرُ ما يريدُ منها .. بالتأكيد لن يكون سوى حديثٍ مُملٍّ يُخبرها فيها بأنّه ينتظر عودتها، بأنّه يحبها وأنّه نـادِم !
هتفت بخفوتٍ بـارد : هذاني جلست وش تبي؟
سيفْ يبتسِمُ وهو ينحنِي حتى استقرّ رأسـه في حُجرها ، وبصوتٍ لا جدالَ فيه : العبي بشعري.
رفعَت حاجبيها بتعجبٍ واستنكـار، بينما أغمضَ هو عينيهِ منتظرًا ملامسَةَ يدِها لشعره التي جاءت بعد ثوانٍ قصيرة، تحرّكت أصابعها بين خصلاتِه الناعمة، وهي ترفعُ حاجبًا باستغرابٍ من تصرّفه الآن كطفلٍ يُريد عنايـةَ أمّه!
بينمـا هو .. لم يكُن يُريد من كلّ ذلك سوى قُربها .. قُربها فقط، يستحوذُ على كلّ فرصةٍ وأخـرى .. يريدُ الشعور بها بأيّ طريقـة ..
لم يكُن بينهما حديث .. فقط صمتٌ تداعـى فيهِ الكثير من " الصمتِ الداخلـي " .. لا أحـد منهما يقرأ ما يجول في عقلِ الآخـر .. والتناقضات .. كانت عديدةً بشكلٍ مؤلم!


،


قميصهُ مرميٌّ ببعثـرةِ الألـم على أجزاءِ جسدِه، عاري الصدر، وكفٌّ قاسيةٌ لازال يشعر أنّها تضغطُ على جرحِه بداعِي " إيقافِ النزيف " ، يدُ طبيبٍ لملمَت جُرحهُ وخاطته، طبيبٌ أحضرهُ الرأس الكبيرِ للرازِن ، حتى الطبيب كان كمن يعلم من هو ومن يكُون وكأنّه اعتـاد أن يأتِيه في حالاتٍ طارئةٍ وسريّةٍ كهذِه! . .
نظـر للضمادِ المُلتفِّ على جُرحِه، جعّد ملامحهُ بألـمٍ وهو يشتمُ في سرّه، حتى الآن لم يرى سعود ولم يرى أحدًا سوى ذاك الطبيب بعد أن أدخلـه أحد الرجـال الذين هاجموه، والغريبُ في كلّ الوجوهِ التي غابّت أنّه لم يرى " تميم "! غريبٌ كيفَ أضـاع على نفسِه متعة التشفي بِه ومشاهدتِه!
أعـاد رأسه للخلفِ ليسندهُ على ظهرِ الكُرسيّ، لم يكُن يرتدِي سوى بنطالِه الجينز وحتى قدمهُ كان قد خلـع حذائها أو أرغم على ذلك بالشكلِ الصحيح، خافُوا أن يكون ساعدهم في إمساكِه وكلّ ذلك فخ لذا تأكدوا من خلوّ أي أجهزةِ مراقبةٍ أو حتى آلآتٍ حادةٍ تساعده على الهرب.
سمعَ صوت بابِ هذهِ الغرفـة الكئيبة بألوانِها تُفتح، نظـر نحو البابِ ذُو اللون الخشبـي ، ومن ثمّ ابتسمَ بسخرية، هاهو جـاء، لتوّه كان يفكّر به وكيف أنه أضـاع على نفسِه فرصةً كهذِه ... يا للسخرية!
كان يبتسم بسخريةٍ من حالِه بينما تميم ينظُر لهُ بصدمةٍ وكأنّه لا يصدّق أنه هنا فعلًا بعد أن علِم من همساتِ الخدم بأنّ رجلًا جاءهم مُصابٌ وأُحضر له طبيبُ العائِلة ، دفعـه الفضول ليسألهم عن مكانِه وجاء إلي هنا ، لكنّه لم يتوقّع ولو لوهلةٍ أن يكون بدر! غير معقولٍ ما يراه!!
مالّت ابتسامـة بدر وهو يلفظُ باستهزاء : شفيك واقف وتناظرني كِذا! لا تضيّع على نفسك جزء من الثانية أنا قدامك ومنصاب بعد.
رفعَ تميم أحد حاجبيْه، أفرج شفتيه قليلًا، زفـر من بينهما هواءً حارًا وهو يُغمض عينيه بضجر، وبصوتٍ غيرِ مستوعب : طلعت أنت!!
بدر بسخرية : أنا وجرحي لا تتجاهله.
تميم وهو لا يزال يُغمض عينيه : ما كملت يوم حتى من بعد ما بلغتك إنك هدف له .. لا حول ولا قوّة إلا بالله .. أثاريك مُمل بشكل مُزعج! وتنكّت بعد بنكت سخيفة مثل وجهك.
بدر يضعُ ساقًا على أخرى ويدهُ اليُسرى تعبر بأنامله فوق ضماد كتفِه بينما ذراعهُ اليُمنى تتدلّى بغيبوبةِ حركتِها المؤقته، وبنبرةٍ باردة : وش كنت متوقع مني؟
تميم يفتح عينيه لينظُر نحوه بسخرية : ولا شيء بصراحـة .. بس تأمّلت شوي تسلية منك آخرتها يمسكونك بنفس اليوم اللي حذرتك فيه !!
بدر : هه! حذرتني؟ لهالدرجة مهتم؟
تميم يقتربُ منه بهدوءٍ وبرود : بغيتك تتمرجل شوي وتحرّك اللعبـة بشكل أفضل من هالبرود.
بدر بغيظ : لعبــة؟
تميم : شيء من هالقبيل.
اشتعلت عينـاهُ وهو يخفض كفّ يدِه السليمةِ عن ضمادِه، نظـر لهُ بحقد، لم يشعر بنفسهِ وهو يشدّ على أسنـانه بغضب، وفي اللحظةِ التي وقف فيها تميم مباشرةً أمامه ارتفعَت قدمُ بدر كي يركله حيثُ تصل لكنّ تميم كان منتبهًا فتلافاها بتراجعه للخلفِ وهو يضحك : عصّبت ليه؟ ما أظـن قلت شيء مُستفز للحين!!
بدر بنبرةِ غضبٍ تكادُ أن تكون صراخَ جحيمٍ يشتهي العظـام الصلبـة من أجساد البشر : لعبة؟ الوضع اللي ينذبح فيه أبوي وأمي وزوجتي لعبة !!! كل هالأمور عندك جمعتها بمصطلح لعبة؟؟
تميم : لا تصير أنانِي! ماهم أهلك بس اللي ماتوا .. ناس كثير ..
بدر باحتقارٍ وبرودهُ وهو يلفظها يُضاعفُ من اشتعالِه : ومازال اسمها لعبة؟
تميم يحشرُ كفيهِ في جيبي بنطالِه، وببرود : مالِي ومال الناس اللي ماتوا؟ قصدت لعبتي المنحصرة فيك وفي غيرك.
بدر بحقد : غيري أتوّقع يوسف وأهله!
تيم باستفزاز : يمكن !
أراد في تلك اللحظـة أن يبصق عليه، هذهِ النـار في صدرِه ما يُطفئها سوى أن يراهم موتَى، حتى القضبان لا ترضيه، أسرهم لا يرضيه ، محاكمتهم لا ترضيه! لا يرضيه سوى أن يرى النار التي في صدرِه تندلـعُ فيهِم ببأسٍ أشد، تعذّبهم حرقًا ولا تقتلهم .. لأبيه وأمّه ، وزوجتِه ، لكلّ الذين فُقدوا وللعوائلِ التي بكَت موتَ أحبّائها . . هذهِ الدنيـا ظالمـَة! البشـر ، الأفئدة ، لمَ جُبلَ البعضُ بهذا الإجرام حدّ أن لا يبالوا بمن سيقتلون، إن كان له طفْل، أبُ كهل، أمٌ عاجِزةِ لا أحد لها سوى – من سيموت -، لا يبالُون بالحرقـة التي يخلّدونها في قلوبِ المُسنّينَ " في أرواحِهم " من الفقد .. وكل ذلك ، لأهدافٍ تمرّغت بوحلِ الجشع ، لمـالٍ أو منصِب . . فقط!!
أمـال فمهُ بازدراء، أشـاح عينيهِ عنه وكأن رؤيتهُ لهُ ستلوّثه، ابتسم تميم . . وانحنى بجسدهِ للأمام قليلًا وهو لا يزال يضع كفيه في جيبيه، يفصله عنه بضع خطواتٍ لا تسمحُ لقدمِ بدر أن تصله وفي حالتهِ هذهِ لن يقوى على النهوضِ والمواجهة، فدونًا عن إصابتهِ كان وجههُ شاحبًا جدًا.
لفظَ ببرود : تدري وش بيصير فيك الحين بسبب غباءك؟
لم يردّ عليه وهو يبتسم بسخرية، بينما تابـع تميم بذاتِ النبرة : لو وصل مسيو سعود .. أتوقّع بيستجوبك دامك وصلت له حي .. يمكن فيه شيء بخاطره أو موضوع استجد ويبغى يعرف عنّه منّك . . . تدري شلون بيستجوبك؟
تحرّك بخطواتٍ قصيرةٍ إليه، كان بدر يتجاهلهُ وابتسامتهُ ما زالت تزيّن ثغـره، خطى حتى وقفَ خلف كرسيّ مباشرة، ابتسمَ تميم وهو يرفع كفّه ليُلامس كتفهُ المصابـة ولم يجِد من بدر سوى أن ارتفعت كفّه اليُسرى ليضعها على يدِ تميم بعنف.
ارتفعت يدُ تميم الأخـرى ، وفجأةً كان قد أمسك بتلك الكفّ التي قبضَت على يدهِ تلك، أزاحها وهو يضغطُ عليها بقوّةٍ حتى كاد أن يُحطّمها، لم يكُن مخطئًا حين قرأ الإجهاد على ملامحه فهو لم يقاوم سوى مقاومةٍ واهنـة، ويبدو أنّه قد فقد الكثير من الدمـاء ولم يسعفوهُ حتى بشيءٍ يأكله أو يشربهُ فيمدَّ جسده ببعضِ الطاقـة.
أردف بخفوت : تدري شلون بيستجوبك؟ . . أبســط أسلوب ، بيكون ذا . .
ضغطَ على جرحِه دون انتظـارٍ آخر، بينما كان بدر يتوقّع تلك الحركـة منه ، لكنّه وبالرغمِ من ذلك، لم يستطِع أن يُسيطِر على صرخةِ الألمِ التي انبعثَ معها الدمـاءُ من جرحِه من جديد، تحرّك بجسدٍ واهنٍ كان لا شيء أمام يدِ تميم التي بقيّت تضغطُ بقوّةٍ أكبر وهو يُتـابع بحدّة : وبيتسلّى وهو يسمع ألمّك ... بيتسلّى كثيييييير .. وكل هالشيء من غباءك!!
بدر بصوتٍ مُتألمٍ ورأسهُ يميل بألمٍ بينما أنفاسه تتصاعد : حقيييييييييييير .. طول عمرك بتظل حقيييير ..
تميم يبتسم بشرْ وكفه لا تتوانـى عن إيلامِهِ حتى تلطّخت بدمائه التي أغرقت بيـاض الضمـاد : ما عندي مشكلة مع الألقاب الدنيئة والشتائم . . طلّع حرّتك .. طلعها يا بيبي.
اشتدّت كفّه اليُسرى المقيّدةَ على مفاصِل تميم، كان يضغطُ دون شعورٍ من الألـم الذي كان أشدّ من سابِقه، يشدُّ على أسنانِه، حتى انطفأ شدّه فجأه، ارتخّت يده، وإغمـاءةٌ تسلّلت لعينيه بينما ساقيه تضعفانِ ولم يعد يشعر بهما، جسده تخدّر بعد لحظاتٍ من هجومِ تميم الوحشيّ على جرحِه الذي لتوّه قبل ساعات قليلةٍ أُخيط.
ارتفعَ وجه تميم فجأةً دون أن يخفّف ضغطهُ على كتِفه وهو يسمع صوتَ البابِ الذي فُتِح، كان سعود الذي بهت فجأةً حتى اتّسعت عيناه بصدمةٍ وهو يلفظ بحدة : تمييييييييييييم!!
تراجع تميم للخلف، وفي اللحظةِ التي ترك فيها كتفه كان جسدُ بدر يسقطُ على الأرض، صرخ سعود بغضب : وش اللي قاعد تسويه يا كلــــــــــــــــــــــــــب!!!
تميم يبتسمُ ببرودٍ وهو يمسحُ كفّه الملطخة بالدمـاء على قميصِه البُنيّ ليزداد قتامةً بالحُمرة : يحتـاج مستشفى.
غابَت مسامع بدر في تلك اللحظـات عن أصواتِهم والإغماءةُ تبتلعه، الألـم في كتفِه لم يُغادِر بعد، والنزيفُ كـان يزداد ... بينما صوتُ سعود الغاضب تناغمًا مع خطواتِه الحادةِ كان يخترق أذني تميم اللا مُبالي : يا حيواان وش سويت أنت؟ كان طيّب وصاحي وش سويت فيه؟!
تميم يكرّر ببرود : يحتاج مستشفى!
سعود بغضبٍ حارق : بجهنننننننننننننم أنت وياه خربت كل شيء علي!!
تميم يتصنّع المفاجأة : كنت تحتاجه أجل؟ وأنا أقول ليه جايبه حيْ! * أردف بضحكةٍ مستهزئة * خلاص أجل خذه للمستشفى وعالج جرحه وشوف وضع دمّه قبل لا يموت وبعدين أرجع وشوف شغلك معاه ... وفي النهاية وبعد ما تخلص عادي اقتله.
سعود يضع كفّه على جبينه وهو يكاد يقتل تميم من قهرهِ بينما كان بدر قد غاب كليًا عن الوعيِ في هذهِ اللحظات، لفظ بغضب : قلعـــته .. خلاص قلهم يرمونه ماني ملزوم فيه.
ضحك تميم بسخريةٍ بينما زمّ سعُود شفتيه بتشتتٍ وكأنّه لا يدري ما الخيـار الصحيح في هذهِ اللحظــة!! . . زفـر بيأسٍ لتتحرّك خطواتُه فجأةً مبتعدًا عن الغرفـة وهو يصرخ بإنجليزيةِ غاضبةٍ مُنفعلـة : فليجهز أحدٌ مــا السيارة لنقلِ مريضٍ هنـــــــا . . * أردف شتيمةً بذيئةً بعربيّةٍ حادة * .. *****


،


تنحدِرُ نظراتهُ للأسفل، يقضمُ طرفَ اصبعهِ بشرود، كـان واضحًا لعينيها الشرودُ الذي يحيـاه، القلقُ الذي يغتالـهُ بالمعنـى الصحيح، وكم من مرةٍ سألت نفسها والهواء المُحيطَ بهما، موجاتُ صوتِه الصامِت " شفيه؟ "، ما الذي يُضيّق الحال في عينيه بهذا الشكل ليقلق قلقًا لم تُكن تراه يدفعه لكلّ هذا التفكيرِ حين كان قبل أشهرٍ يعيشُ وضعًا سيئًا مع جيهان!
لم تستطِع أن تصمتَ أكثـر، في معمعةِ قلقهِ أيضًا وتقلّب مزاجِه رفضَ بشكلٍ قاطعٍ دراستها، وهو لطالما فصَل مزاجهُ عن قرارتِه التي تعنيهنّ، عنهنَّ مُجملًا ، لذا هي متأكدةٌ أنّ ما بِه الآن حجمهُ ضخمٌ كفايـةً ليؤذي راحتـه بهذا الشكل.
وقفَت من مقعدِها الذي كان قُربه، تجلس على أريكةٍ منفردةٍ وحدها، لكنها فضلت أن تكون أقرب منه، لذا وقفت واتّجهت لتجلس على نفسِ الأريكة التي يجلسُ بِها.
نظرَ لها مباشرةً وكأنّ قعودها بجانِبه اقتلعه من شروده، عقدَ حاجبيه وابتسم ببهوتٍ في اللحظةِ التي وضعت فيها كفها على كفّه التي تستقرُّ فوقَ فخذِه، همست بقلق : يبه . . .
قاطعها يوسف بهدوءٍ ظاهري : أدري باللي ودك تقولينه .. معليش حبيبتي ، بس خلاص قراري نهائي، ماراح تدرسين هنا.
أرجوان تعقدُ حاجبيها بصمتٍ قصير، تنظُر لعينيه الشاحبِ بياضها وكأنّ التفكير صدّع أركانِها وزواياها، تنهّدت بضيقٍ ومن ثم همست بتساؤل : هنا؟ أفهم إننا بنرجع والا شلون!!
يوسف يُشيح بنظراتِه عنها لينظُر للأرض أمامه : ما بعد قرّرت . .
أرجوان : لا قررت . . فيه شيء قلب أفكارك فوق تحت وما خلّى بعقلك حجّة للتفكير بقراراتَك وكأنّك واثِق إنها صح!
يوسف بصوتٍ باهِت : أتوقع إنّها صح.
أرجوان برجاء : يبه ! تكفى احكي قول وش فيك منت على بعضك من الصبح .. كأنّك خايِف أو شيء مثل كِذا! ما قررت عدم دراستي هنا من فراغ!
وقفَ لتنسلّ كفّها عن كفّهِ بانسيابيّة التلقائيّة التي حجّرت هذا الصمتَ وقوقعتهُ في أذى يلمسُ القلوبَ ويزعجها بلمساتِه " الخشنة "، الخشونَةِ التي غلّفت ملامحهُ التي لطالما كانت حنونةً حتى على تضارِيسها، التي غلّفت صوتهُ أيضًا وهو ينبعث إلى مسامعها بكلماتٍ مجازها " تقفل الموضوع " : وين خواتك ما أشوفهم!
مرّرت لسانها على شفتيها بيأسٍ وهي تزفُر هواءها الضّار من صدرِها، فقط الهواء وليس " مزاجه " الذي أصابّ صدرها بالضررِ أيضًا، وبخفوت : ليان داخِل تتسلى بالرسم ، وجيهان تتروّش.
أومأ بصمت، ومن ثمّ تحرّكت خطواتُه الصارخـةِ بصمتٍ تناقض مع عينيه التي تزاحمَت فيها كلماتٌ كثيرة، اتّجه لغرفتِه، فتحَ بابَها ليختفي من أمـام عينيها لتبقى جالسةً في مكانها تخطو على خطواتِه بأحداقِها القلقَةِ عليه.

وفي جهةٍ أُخرى ، أغلقّت المـاء المُتسرّب إلى مساماتِها التي توسّعت بنارِه، نارِ شوقِها إليه، ونارُ هذا الكبرياءِ الذي أسقطهُ وأسقطتهُ بنفسِها أيضًا ، حين عشقت! فقط حين عشِقت بعد أن كانت تتحلّى بجفائها نحوه ، تمسّك بها في تلك اللحظـات كثيرًا، تمسّك بِها، وكـان لا يربط الكبرياءَ بالحُب أبدًا، فكيف لم يختر هذا الارتباطَ إلا بعد أن وقعَت بِه؟ لم يختَر أن يُنجزَ هذا البُعدَ بسنونِه التي اُختزلَت في أشهرٍ في آنِ حُبها له . . ابتسمَت بأسى وهي تتناولُ منشفتها، هذا هو قدرها، أن تسقطَ في اللحظةِ العظمى للإرتفاع، فتكون النتيجة أن يتحطّم عظـام الثبات، أن يتمزّق جسدُ المضي .. من قال ذلك! أنّ المضيّ تمزّق! سأكذِب أكثر، سأخدعُ شوقي أكثر، حاجتي إليك .. وأقولُ بكلّ نبراتٍ مهترئة : لي حيـاةٌ من بعدِك، لن أنتهي لديك، فالحيـاة لا تنتهي عند رجلٍ وحُب!
ارتَدت روبَ حمامِها، خرجت وهي تجفّف شعرها وتبتسم ابتسامتها تِلك، الكاذبة كقناعاتِها التي لا تؤمنُ بها في هذهِ اللحظة! لا تؤمنُ بها بالرغمِ من كونِها تتصنّع ذلك!
رأت ليان تنبطِح على سريرها، أمالت فمها وهي تفتح خزانتها كي تخرج ملابسها، وبتهكّم : وش جابك لسريري أنتِ؟ قومي اذلفي من وجهي بلبس.
تجاهلتها ليـان وهي تتلاعبُ بساقيها وترسُم على كراسَتِها البيضاء، زفـرت جيهان بضجرٍ وهي تعودُ للحمـام، لكنّها تراجعت وهي تقرّر في هذهِ اللحظة أن تُعانِدها، اتّجهت إليها بعد أن رمَت ملابسها على أقرَبِ كرسيّ، جلست بجانبها بفوضويّةٍ وهي تلفظُ بحدة : وش تسوين؟
ليان تخطّ على كراستها بهدوء، وبتركيزٍ شديد : أرسم.
سحبت جيهان الكراسة وهي تهتفُ باستفزاز : وريني وش قاعدة تخربطين يا دافينشي زمانك.
تأففت ليان بضجرٍ وهي تعقدُ حاجبيها، بينما قطّبت جيهان جبينها وهي تحاول أن تفهم الصورة التي أمامها، وبتساؤل : مين ذي؟ لا تكون الموناليزا بصورة عربية؟
ليان بمللٍ وهي تجلس : هذي ماما.
ابتلّعت ريقها وابتسامتها الساخرة تتلاشـى، نظـرت للصورةِ الفوضويّة أمامـها بأنامِل طفلةٍ لا تجيدُ أكثر ممّا تطمحُ بنظرتِها الصغيرة، زمّت شفتيها وهي تتأمّل الملامح بحزن ، لو كنتِ هُنا، معِي، بالتأكيد كُنتِ لتختاري لي الأفضل، والذي أُدرك أنّه سيكون النسيـان أو التناسِي، أن أؤمن بأنّ الحيـاة لا تنتهي عندَ أحد! أنّ رجلًا لا يُمكنهُ أن يبتلع بسمتِي ويَخلق الخيبةَ فيّ، أنّ الحيـاة عدْوٌ لا يتوقف، لا ينتهي عند حاجِز .. لكنّني أضعف من ذلك يا أمّي! أضعف من أن أؤمن بكلّ ذلك، لست قويّة، للأسفِ لستُ كذلك، ولكم أتمنى أن أكون بقوّةٍ تكفيني أن أبدأ من جديدٍ مثله، أن أتزوج أيضًا ولا أبـالي .. لكنّي لا أقدر، لا أقدر على البدءِ من جديدٍ وأُقنعه أنّه انتهي برجلٍ آخر، لا أقدِر سوى أن أحـاول البدء لنفسي .. دون رجل، دون حياةٍ زوجيـة، وأؤمن أن ذلك واقـع ، الحياة لا تنتهي عند رجل، لكنّني عجزتُ أن أؤمن بِه " لنفسي ".
نظرت لليان وهي تبتسمُ بحزن، مدّت الكراسةَ لها وهي تهمس : ارسميها كويّس .. لا تخربين ملامحها.
ليان تمطُّ شفتيها بحنق : هذي هي رسمتها . . والحين برسم أبوي جنبها.
جيهان بنبرةٍ مازحـة وهي تطرد الأفكـار السوداء التي داهمتها : طيب .. بس انتبهي عليهم.
ليان وأصابعها بدأت تخطُّ على الورَقِ استعدادًا لرسمِه : بخليه يمسك يدها .. بابا زعلان مررررررة منها .. وأنا براضيهم.
جيهان بابتسامةٍ تجاري كلماتِها البريئة : ليه زعل منها؟
ليان براءة : قبل لا تجين كان يقول لأرجوان لا تعلمك .. ما يبيك تزعلين منها أنتِ بعد.
جيهان وابتسامتها تنكمشُ بينما حاجبيها ينعقدان باستغراب : أفا! لا ما نزعل من ماما شدعوى.
ليان تجلسُ بحماسٍ وهي تضعُ قلم الرصاص، وبنبرةٍ خافتةٍ وكأنها لا تريد لأحدٍ أن يسمع : بابا ما يبغانا نعرف .. خايف نزعل كان يكلمها ويحسب إني نايمة.
اختفت ابتسامتها فجأةً وهي تلفظُ دون فهم : مع أرجوان؟
ليان تهزُّ رأسها بالإيجاب لتُردف جيهان وعقدةُ حاجبيها تتضاعف : وش كانوا يقولون بالضبط؟ سمعتيهم؟
ليان بحماسٍ لازالت تهتفُ بصوتِها الهامِس ذاتِه : يقولون إنّك بتزعلييين مررررة ويمكن ماما تطيح من عيونك .. ما فهمتهم صح .. بس بابا كان يقول لأرجوان لا تعلمينها عن أمّك واللي سوتّه قبل لا تموت .. تجلس زعلانة مني بس مو من أمّها ... أيوا صح ماما ليه ماتت؟ فواز يقول ما ترجع! شلون كِذا؟ أبي أوريها رسمتي لها مع بابا . .
لم تسمع بقيّة الكلمـات، عينيها كانتا تنظُران لجهةٍ واحدة، للفـراغ! تنفرجُ شفاهُها والهواءُ البـاردُ يعبُر من بينهما ليُثلج حنجرتها، رئتيها، قلبها . . وتلك الطفلـةُ تابعت حديثها الذي تضخّم بهِ صوتُها في أذنها، تضخّم ، وتضخّم أكثر حتى باتَ صريرًا صدّع حُنجرتها المُثلجة والتي كانت تهتفُ بصوتٍ يرتدُّ إلى حبالِها الصوتيّةِ فيُقطّعه، " لا تعلمينها عن أمّك "، " تجلس زعلانة مني مو من أمّها " ،
لا تعلــــــميــــــــنها عــــن أمـــــــــــــــك!!!!
عن ماذا؟ عن أمّها؟ مابِها أمّها؟ ما الذي فعلته قبل موتِها! ما الذي قد يجعلها " تزعل " منها إن علِمت!!
نهضَت ببهوت، تحرّكت أقدامها بآليّةٍ وهي لا تفهم، لم تُسعفها كلماتُ ليان بالفهم، ما الذي بين أرجوان ووالدها ولا تعرفه هي؟ ما الذي يخفونهُ عنها والذي له علاقةٌ بأمّه و " زعلها " السابق من والدها!! . . . ابتلعّت ريقها، وكفّها المرتعشةِ تحمل ملابسها المرميّة على الكرسي، بينما عقلها البــاطن كان كمن أدرك أنّ لهُ علاقةٌ مباشرة بسببِ موتِها ، أنّ والدهـــا . . لم ، لم يكُن . . . !!
أخفضت رأسها وهي تتنفّس بقوةٍ وانفعـال، تشوّش تفكيرها وهي تتّجه للحمـام، أنفاسها تشتعلُ بعد ثلجيّتها لتُذيب كلّ شيءٍ في طريقها، فمها، حنجرتها، بلعومها، رئتيها ، تشتعلُ داخليًا وهي ترتدي ثيابَها في الحمام، ترتديها بآليّةٍ وهي تفكّر بعمقٍ عن الكلمـات.
انتهّت، لتخرج من الحمام وهي لا تزالُ باهتةً بملامِحها، تنظُر للأرضِ وتمشي بصمتِها الموبوء، اصطدمَت بأرجوان التي كانت تقفُ أمامها باستنكارٍ لشرودها، هنـاك والدها والآن هي هنا! . . تراجعت جيهان بعد اصتدامِها ذاكَ بها، نظرت لملامحها بشفتين منفرجتينِ بفتور، عقدت أرجوان حاجبيها وهي تقتربُ منها وتلفظ : بسم الله عليك شفيك؟ لا يكون تفكرين فيه من جديد!!
بلّلت شفتيها بلسانِها وهي تُشيح عينيها وتتنفّس بانفعالٍ والأسئلة تتفاقم وتتصارعُ في حنجرتها تُريد البزوغَ إليها، ابتسمت أرجوان بحُزنٍ عليها، وبخفوت : ما بقول ما يستاهل .. بس أنتِ اللي ما تستاهلين تفكيرك الدايم فيه .. حرام على نفسك.
رفعَت جيهان كفّها المرتعشةِ لتضعها على فمِها وهي تنظُر بأسـى لعينيْ أختها، تريد أن تفهم ما معنى ما قالته ليان، ما الذي يخفونهُ عنها! ما الذي يرتبِط بأمّها ولا يريدونها أن تدرِي عنه!!
ابتلعت ريقها بضعف، تمرّر بعض اللزوجةِ في فمها الذي جفّ وفي حنجرتها حتى تستطِيع أن تبعث الكلام بعدَ موته، أن تهمس بضعف : شفيها أمي؟ وش كانت مسوّية قبل لا تموت؟
أدركت أرجوان في نظراتِها وفي شفتيها اللتينِ تفرجهما حينًا وتُطبقهما حينًا آخر أنّها تريد أن تتحدّث وتقول شيئًا، اتّسعت ابتسامتُها لتضعَ كفّها على كتِفها وتلفظ بهدوء : شفيك؟ تبين تقولين شيء صح؟
ارتعشَت شفاهُها أكثر، لا تدري لمَ احتقنَت عيناها بدمعٍ استعدّ لموجةٍ صاخبةٍ من البُكــاء . . همسّت أخيرًا بضعفٍ بعد أن استطاعت دفع الكلماتِ بصعوبة : أمّـي .. وش كانت مسوّية .. قبل لا تموت؟



كَيــدْ 22-06-16 07:11 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


في الريـاض، وليلُها السرمديِّ في ظلامِه ينتشرُ في أحداقِه التي تلاشّت عن نطاقِ رؤيتِها بسببِ أجفانِه المُنسدلَة، أمـالت رأسها قليلًا، شعرها المُعتمُ يمِيل معها، عينيها الباردتينِ تتأمّل ملامحهُ التي نامَت على حُجرها، لا تدرِي ، هل هي تعاقبُه! هل تستلذُّ بعذابِ عينيه " الولهانتين "! هل تستلذُّ بساديّتِه التي انسابَت إليها بهذا الرجـاء الصارخ في عينيه أنْ " عودي "، عودي إلى أحضانِ بسمتِك، إلى أحضانِ العنـاد، إلى أحضـاني مُتلهفةً بحبي! وليس بفطرةٍ بيولوجيّةٍ لا ترضي قلبي!
مسحَت على جبينِه بهدوء، شعرها يُلامسُ جانبَ وجهِه وأذنـه، وجسدها يرتدِي الأسود وكأنها دون إدراكٍ فعليٍّ تحاول استفزازه بكلّ ما يُحبُّ فيها، عقلها البـاطن يحرّكها كيفما يريد .. هل هي فعلًا .. حاقدةٌ عليه؟ لمَـا خسِرت، ولمَــا فقدت حتى من روحها؟ حاقدةٌ لجنينٍ خسرتهُ بسببِ ماضي " اللا رغبة " منه بطفلٍ منها، اللا قبول، بزمنِ الجوارِي الذي أعـاد بطشهُ في حياتِهما ، أن لا تكون فقط ، سوى جسد! لا زوجـةً لها حقوقها.
مرّرت ظاهِر أصابِعها الباردةَ بجمودِها على خدِّه الخشن، لامَست زاويـة فمِه، ومن ثمّ ابتسمَت دونَ حياةٍ والجورُ الذي كان يمارسهُ عليها انتقـل إليها كملكةٍ ثارّت على شعبِها، ولطالما كان ثوران الملوكِ أشدُّ جورًا ، أشدّ فتكًا!!
حاولت سحب نفسها بهدوءٍ وهي تُمسك برأسه، تحاول وضعهُ بهدوءٍ على الوسادةِ كيْ لا يستيقظَ من نومِه. تحرّك رأسه يمينًا وشمالًا وكأنّه استفـاق، بل تأكّدت من ذلك ما إن فتحَ عينيه القاتمتين بهدوء، ارتفعت أجفانه لتصتدمَ بعينِها، ابتسمَ بتلقائيّة، ومن ثمّ ثبّت رأسه عليها وهو يهمس ببحّة : وين ودّك تهربين؟
نظرت لملامحهِ لثوانٍ صامتـة، قبل أن تهتف بخفوت : رجولي عورتني.
ارتفعَ جسدُ سيف تلقائيًا وهو يفركُ عينيهِ ويلفظ : شلون نمت؟ ما حسيت بعمري والله.
ديما بهدوءٍ وهي تمدُّ ساقيها المتصلبتين على السرير : ما كملت ساعة ترى.
سيف ينظُر لساعةِ الحائط : أذن عشاء؟
ديما : لا.
سيف يُخفض ساقيه لتتدلى من السرير، وبابتسامةٍ لفظَ بخفوت : ابتسمي.
لم تبتسم، بقيَت جامدةً تنظُر لوجههِ بجمودٍ حتى زفـر زفــرةً حارة، جعلت قلبها يرضى! بهذا الحـالِ وبِاللهفةِ التي انقلبَت " آيتُها "، بعينيهِ الشغوفتينِ بها كما كانت قبلًا، انعكسَت الأدوار .. وبات الآن دورها في التعذيب . في ممارسةِ الساديّةِ والاستمتاعِ بألمِه وشعورِه بالذنب، انقلبَت الدوار، وانقلبَ الجمود، وأصبحت هي .. المتحكّمةِ بالدفّة.
نهضَ سيف بيأسٍ من حالِها الذي أوصلها هو له، اتّجه للحمـام ليتوضّأ فلم يعد هناك وقتٌ طويلٌ على موعدِ الأذان، دخـل الحمّام ليستغرق وقتًا أقل من عشرِ دقائق قبل أن يخرج ويجدها تقف أمامَ المرآةِ وتلفُّ شعرها في " كعكة "، ابتسم بافتتانٍ بها، الثوبُ الأسود الضيّق والذي يرسم تفاصيلَ خصرها النحيل وجسدها الأسمر، تتعمّد أن تفتنه!! لو أنّها لازالت كما هي لأجزم أنها تتعمّد التلاعب بقلبِه الذي يهوى هذهِ الفتنةَ وهذهِ الملامح الناعمـة والتي تزدادُ جمالًا في عينيهِ كلّما ارتدت ستار السواد الذي يستفزّه للنظر لبياضِ عينيها، سماع صوتِها الصافي، تلمّس نبضاتِ قلبها من فوقِ صدرِها.
تحرّك بخطواتٍ هادئةٍ حتى وقفَ خلفها، وضع كفيه على خصرِها لتنظُر بصمتٍ إليهِ عبر المرآةِ وهو ينحني لوجهها ليقبّل وجنتها برقّة، وبهمس : سبحان من سوّى هالفتنة.


،


عينـاها تطوفانِ بصمتٍ في تضاريسِ المنـزل البسيط والجميلِ في آنٍ واحِد، حين جاءته يومذاك لم تدقّق في جماله، كـان عقلها متكدّسًا بالكثيرِ لتهتمّ بتضاريسِ مكانٍ أو زمـان ، أوليست من جاءت في منتصف الليل!
لوَت فمها، ولكم تُجيد إغاظـة نفسها بأخطائها، تُجيد هذا العقـاب الصامت لنفسِها بجلدِ الذات، النـدم الذي أحـاطها لغبائها يومذاك . . وقفَ خلفَها مباشـرة . . ابتسم وهو يرفعُ يدهُ ويضعها على ظهرها ليُثير قشعريرةً نصبَت جسدها الذي تجمّد في مكانِه، بينما انساب صوتُه الخشنِ إلى أذنيها بهدوء : من سلبيّات أبوي إنّه كــان بخيل .. جدًا بخيل .. بس ما كان يحب يعيش في مكان عادِي! عشان كذا اشتغل باللي يناسب بخله .. بساطة بدون تكليف وبنفس الوقت شيء حلو.
تقدّم جسدها للأمـامِ كي تبتعدَ عن نطاقِ مُلامستِه لها، ابتلعت ريقها، وكردّة فعلٍ على ربكتِها لفظت بحدة : اذكروا محاسِن موتاكم!
أدهم يبتسم : تراه أبوي في النهاية .. ماراح أفكر أذمّه ، مجرّد إني أوضح لك.
أمـالت فمها قليلًا، نقابُها تُمسكهُ بيدِها اليُمنـى، وطرحتها تنحسرِ عن شعرها قليلًا ليظهر بلونِه البُنيٍّ المُعتم والذي تربطُه للأسفل، سوداويّة الطرحة أحاطت عنقها الطويل، تحرّكت تمشِي للأمـام، بينما صوتُها ينبعثُ إليهِ بهدوئه الناعِم : وأغراضنا؟
أدهم يتحرّك بخطواتِه حتى سبقها وأصبح أمامها، مط يديهِ بكسلٍ وهو يلفُظ بعد أن تثاءبْ : بمرها بكرا .. نعسان على غير وقتِي . . بطلع أصلي عشاء وألحق على الإقامـة وبعدين بنـام
إلين تُتمتم بضيق : وألبس أيش يا فالح!!
لم يسمعها وهو يتّجه للمغـاسِل حتى يتوضأ، نفخَت فمها بحنقٍ وما إن اختفى عن عينيها حتى بدأت خطواتُها تبحثُ حولها، تدرُس تضاريسَ المكـانِ وملامِحه، الزوايـا، الديكور، الجدران، أهذا هو البيتُ نفسُه الذي رماها طفلة؟ أمْ أن الزمـن تلاعبَ بالمكـان وغيّره! .. هذا البيت ، سكنتهُ أمّها، وأدهم، ووالده الذي ظنّتهُ لوقتٍ طويلٍ أنّه والدها.
زمَت شفتيها قليلًا وهي لا تستطيع تحديد إذا ما كانت تكره هذا المكان فطريًا أم لا! ولطـالما ارتبطت الأمـاكن بعواطِفنا ، لذا هي تحاول الآن أن تتبيّن الكره في صدرِها من عدمِه!
خرج أدهم بعدَ وقتٍ قصيرٍ وهو يعدّل كميْ ثوبِه، تحرّك مستعجلًا نحو البـابِ ليلفظ : ماني متأخر .. بصلي وأرجع مباشرة سوّي اللي تبينه .. * توقّف ممسكًا بالبابِ ليردفَ وهو يبتسم لها * المطبخ على جهتك اليُسرى ، إذا تبين تسوين لك شيء الأساسيات متوفرة، شوفي الناقص ودوّنيه وأنا بجيبه بكرا . . الحمـام في . . . عمومًا ما يحتاج أشرح لك كثير أنتوا حريم وأدرى بنفوسكم وفضولكم .. فما يحتاج أتعب نفسي.
خرج مبـاشرةً بعد كلماتِه تلك، بينما كشّرت إلين دون تصديقٍ لهذهِ الوقاحةِ التي يملكها! تمتمت : يا حسوفتي عليك يا إلين !!


،


السـاعةُ التاسِعة.
تمدّد على السريرِ وهو يُغمضُ عينيه، يضعُ ذراعهُ على جبينِه بينما كفّه الأخـرى تستقرُّ على بطنِه، وتلك كانت تجلسُ على الأريكةِ وتهزُّ ساقها اليُسرى . . نظرت لهُ لتتجهّم ملامحها أكثر، وبضيق : بطنك يعورك صح؟
ابتسمَ بتلقائيّةٍ وهو يستمعُ لصوتِها الذي غصَّ بقهرِ فشلها، وبكلماتٍ صريحة : ماهو أكل ذا! الله يصلحك بس يعني لازم تفردين عضلاتك على بطوننا!
غزل بعبرة : طيب الواحد يجرّب! شلون تبيني أتعلم أجل؟ فجأة كذا أصحى وأنا شيف وأطبخ لك؟
جلسَ وإحدى ساقيهِ ممدودتانِ بينما الأخرى تستقيمُ على قدمِها لتنعكفَ ركبتها كأهدابِ غزل التي تنكسِر بحسرتِها، وبابتسامة : الشخص يتعلم ما قلنا شيء .. بس اتقي الله فينا .. عادي سوي شيء خفيف ماهو مرة وحدة عشاء كامل! طبق جانبي ما يضر.
رفعت حاجبها : جانبي؟ هذا اللي ربي قدرك عليه؟ أي أنا أستاهل اللي أحاول أتعلم وأصير سنعة عشانك .. أصلًا ما أحاول أتغيّر إلا عشانك بس تظل رجّال ما يملي عينك إلا التراب !!
سلطان يكتُم ضحكته : وشوله هالانفجـار الحين؟ صلّي عالنبي واهدي انتقاد بنّاء.
غزل بحنق : انتقـاد بناء!! ما شاء الله هذا أسلوب للإنتقاد بالله؟
سلطان باستفزاز : والله عاد بطنِي أهم من كورساتك.
وقفت وهي تشدُّ كفيها : أنا الحمارة أصلًا.
لوت فمها ومن ثمّ تحركت تنوِي الخروج من الغـرفةِ في اللحظـة التي انسلّت منه ضحكةٌ خافتـةٌ أغاظتها أكثر، استدارّت ما إن وصلت للباب لتهتف دون تصديق : سلطااااااااااان !!!
سلطان يعود ليستلقي على ظهرِه وبقايا ضحكتِه " ابتسامة " : روحي ترى ماراح أراضيك .. خلي عنّك الدلع أنا الغلطان أصلًا دلّعتك بزيادة.
نفخَت فمها بغيظ، وبتذمّر : ما تعرف تتعامـل من النساء أصلًا.
سلطان بنيّة إحراجها : في هذي أتّفق .. طول هالوقت عندي وما بستك إلا كم مرة، ظلمت جمالك والله.
تسلّل لون الدم الاحمر لوجهها، وابتسم ما إن حصَل على مُرادِه، شتت عينيها عنهُ بإحراج، مررت طرفَ لسانها على شفتيها، يُشعلها بكلماتٍ لم تعتدها منه، الغـزل الذي ينسكبُ من فمِه لهُ مذاقٌ جارف، يبتر صوتها لتُصيبه البحّة، هذا الغزل، الذي لم تعتده منه، الذي تغنّى بهِ شُعراءُ بقافيةٍ ووزنٍ يأتيها الآن نثرًا بشفافيّةِ صوتِه . . . وهل من بعدِ ذلك دلال؟ هل من بعدِ ذلك رضا أكبر من رضا أنوثتها التي دغدغها بكلماتِه البسيطة و " العظيمةِ " لقلبها؟
همسَت ببحةِ صوتِها الذي اقتلعهُ بكلماتِه وهي تداعب بأنامِلها زرّ بنطالِها الجينز ذو اللونِ الكُحلي : ما تعودت تكون جريء معي.
سلطان بابتسامةٍ وهو يراقبُ ملامحها الخجولة : لأني ما كنت أبى .. أقدر أتحكم بنفسي.
غزل تحرّك قدمها على الأرضِ دون أن تنظُر إليه : في هذي أغبطك .. أتوقع من دريت عن نفسي إنّي أحبك وأنا بثرة!
سلطان : عسل على قلبي.
لا تحتملُ ذلك! لا تحتملُ نبرته الجديدة وكلماتِه التي تُثير خجلها وحبّها والكثير من عواطِفها!! ... لم تشعر بنفسِها وهي تستدير بسرعةٍ وتخرج مهرولةً من الغـرفة بعد أن هُزمت من كلماتِه، ابتسم حتى ظهرت أسنانه وأثرها بقيَ في " عِطر " وبابٌ مفتوح . . هل من العدلِ أن يبخل بمدّها بالسعادةِ أكثر؟ ومن يدري، لربّما طالت إليه . . .
نظر للسقفِ وابتسامته تتلاشى ، هل كذبَ حين قال أنّه يستطيع السيطرة على نفسه؟ في كل شيءٍ يستطيع ، إلّا الحُزنُ الذي ينجرف إلى قلبِه منه، من سلمان!


،


يقلّب بين أوراقٍ عديدة، صورةٌ على مكتبِه كانت تحتضنُ ثلاثةَ أشخاصٍ منذ زمنٍ ما، صورةٌ قديمـة، ولطالما كان للصورِ القديمةِ قيمتها . . والآن تلك الصورة تراقبهُ بجمودِها وثلاثـة أزواجٍ من الأعين، يشعُر بحضورِهم، رغم الميّتِ فيها ورغم الآخر – البعيد -، رفـع رأسه عن أوراقِه لينظُر لها ويبتسم، وكأنّ تخاطرًا ما كان بينهما في هذهِ اللحظة، يشعُر بِه!!
مدّ يدهُ نحو الصورة، لمس سلطان " الصغير " الذي كان يضحك وهو يجلسُ فوق كتفِ فهد، كان حينذاكَ في التاسعةِ من عمرِه ربّما، علاماتُ القدَمِ كانت تظهر بوضوحٍ على ملامِح الصورةِ التي مازالت صامدةً بين الكثير منها، أو القليل .. بل بين ذلك والآخر .. لم تعد الصورُ كثيرة! معظمها احترق .. رحـل خلف رمـادِ تلك الغـرفة .. واليدُ التي أحرقتهُ تشتعلُ بغيظِها بعيدًا الآن . .
تصاعدَ رنينُ هاتفِه ، نظر للمتّصل، كان الاتصال لرقمِه الشخصي، والذي لا يعرفه سوى معارفِه المقربينَ منذ زمـن ، رفعَ حاجبه الأيسر ما إن رأى الرقم الدولي، حمله ببطء، ومن ثمّ ردّ ليضعهُ بجمودٍ على أذنِه ويلفظ بهدوء : نعم.
من الطرفِ الآخر، أحمد : تركت الرياض لك.
صمتَ لوهلـة ، وسرعـان ما ابتسم ليُردف : يعني؟
أحمد بهدوء : هربت!
اتّسعت ابتسامة سلمان تدريجيًا حتى ملأت ابتسامته ملامحه، وببرود : وزوجتك؟ لا تكون أخذتها وورطتها معك!
أحمد : وش اللي تعتقد سويته؟
سلمان : واضحة ، بتتركها .. محد مهم عندك كثر نفسك. * أردف باستهزاء * وخمرَك؟
أحمد يبتسم : بخاويه كثير وبراحـة بعد هِنا.
سلمان : ما تبي تسوي شيء واحد حسَن بحياتك وتقول لي وين سالِم؟
أحمد ببرود : اعرفه بنفسك .. حاول تكتشف اسم سالم الحقيقي عشان توصل له .. تراه بالرياض.
أعـاد سلمان ظهرهُ ببرودٍ للخلفِ ليسندهُ على ظهرِ الكرسي، وبجمود : اشرح لي ... كل اللي صـار قبل أكثر من 15 سنة.
أحمد : أنت أدرى! ماهو كنت مبسوط باللي صار لفهد؟ وكل شيء كان سيء يصير لسلطان تفرح فيه؟ احتراق المكتب .. وأمووووووور كثيييرة كنت تقولي فيها كُرهك لهم.
سلمان بجمود : أبِي أعرف التفاصيل؟
أحمد ببرود : أبد .. قابلته بعد العِشـاء .. كان بالصـالة، سلطان خذيتَه أنت معك وطلعت ويّاه ، قلتله بالهداوة عطني كل الأدلة اللي عندك ورفض! ماهو ذنبي إذا كان عنيد! اضطرّني أذبحَه ، هه ! ما راح أكذب عليك أنت أدرى إني كنت بذبحه في الحالتين . .
سلمان بابتسامتِه المُظلمة : وأخذت الأدلة؟
أحمد بحقد : كــــــــل اللي حصلته .. وغفلت عن واحِد .. ما حصلته بين الي كان بغرفته ، فراح بالي عن إنّه ممكن يكون مخبّى بمكان ثاني.
سلمان ويدرك جيدًا أيّ دليلٍ يقصد، لفظَ بهدوء : وراضِي؟
أحمد بلا مبالاةٍ يحرّك كفه : شافنِي .. مدري شلون كان وقتها بالبيت! نسيته .. حتى زوجته ما كانت موجودة هو شلون كان موجود؟ .. تصرّفت معه بالشكل اللي كان يناسبه .. تعرف كبيييير وله احترامه ما يصير! فكل اللي آذيته فيه " لسانه "! رسمت عليه تفاصيل التحذيرات اللي تخليه يقضب أرضه.
سلمان : وين كان مختفي !
أحمد : أتوقع عند سالِم .. مدري لا حصلته اسأله.
سلمان بهدوء : ما يحتـاج أسأل ..
عقدَ أحمد حاجبيه ، فهم مغزى جملتِه تلك، لكنّه ابتسمَ وهو ينظُر للتضاريسِ الأجنبيّةِ حوله لافظًا بسخرية : طلعت منت هيّن يا سلمان!
سلمان بابتسامة : ما تعرفني كويس .. توك صغير قدامي.
هزّ أحمد رأسهُ وهو يُنشئ من صوتِه الساخر " هه " صغيرةً سخر فيها من نفسِه، أغلق دون كلمةٍ أخرى، بينما مـال فمُ سلمان وهو يضع هاتفهُ على الطـاولة، ينظُر للصورةِ بجمود، حتى امتدّت يدهُ ليُطبقَ ملامحها على سطحِ المكتبِ بصمت.


،


في وقتٍ سابق ..
سؤال ، وهجمةٌ بالصوتِ جعلها ترتدّ بصدمةٍ للخلفْ، تتراجع خطوةً انتصفَت، بينما عينيها تتّسعان – بصعقة – من ذاك السؤال الذي انساب من شفتيها ببحّةِ أسـى، ونظرةٍ دامعـة، بضياعٍ وتيه! ، كلماتْ، واستفهـام، وذكرٌ ظنّت أنه مات واندثـر مع الزمن، ظنّت أنّهم سيكملُون حياتهم دون أن تبقى ذكرى سيئةً نحو أمّها، ظنّت أنّ الاستفساراتِ انتهت، وعادت جيهان، دون أيّ تفكيرٍ بتلك الليلة، بالدمـاء، بانتحـار أمّها ، واللومِ على والدِها . . فما الذي استجدّ الآن لتسأل هذا السؤال " القاتِل "؟!
فغرت فمها ببهوتٍ وهي تنظُر لملامِح جيهان البائسةِ دون أن تنبسَ بكلمَة، بينما خفت صوتُ جيهان المتوجّعِ وهي تُكرّر بضعف : وش كانت مسوّية؟
شتت أرجوان عينيها لتقعَ على ليـان التي نامت فوق سرير جيهان دون شعورٍ منها والكراسةٌ بجانبِ رأسها، قلم الرصـاص نام بين أصابعها المسترخيةِ ولم يُفلت حتى في المنـام .. بينما تلك الصورة لم تكتمل، أمّها، ونصفُ أبيها أو رُبعه!
جيهان بحدةٍ وهي تقطّب جبينها : ردّي .. وش اللي مخبينه عني وما تبوني أعرفه؟ وش اللي كانت مسوّيته وله علاقة بزعلي من أبُوي؟
ظلّت تنظُر بعيدًا بصمت، كفّها اليُمنى ارتفعَت لتعانِق عضدها الأيسر، تتجاهـل الإجابـة التي تجرح الحناجِر بحدّتها وبنصلِها المصقولِ بالسموم، لا تريد الإجابة، لا تريد أن تقُول شيئًا، لا تريد حتى أن تفهم كيف جـال هذا الخاطِر وهذا السؤال في عقلها .. كيف انفكّت الجراح ولمْ تندمِل؟ كيف عـادت سيرةُ الذاتِ التي ماتت، بذنبٍ واثنين! أوّلهما الخيـانة، وآخرهما الانتحـار! . . الذنب الثـاني ، الذي سيتكرّر بِها يوم الحسـاب . . لكم هو مؤلمٌ ذلك! أن يمُوت عزيزٌ وهو غارقٌ في ذنوبِه، أن تستطِيع جعـل الرحمةِ تنزلُ على قبرِه من أعمـال تعملها لأجله، لكن حين يأتِي الذنب في الانتحار فلا مفرَّ منه، لا شيء سيجعلها تهرب منه أبدًا . . فما الحل غير التحسّر منّا والبُكـاء؟
ارتفعت كفُّ جيهان لتمسك كفّها المُعانقةِ لعضدها، سحبتها بحدةٍ وعنفٍ وهي تهتفُ بصوتٍ حاد : احكِي .. لا تظلين ساكتة بهالشكل .. علميني وش اللي مخبينه عني؟!!
أرجوان بتيهٍ وهي تنظُر للبعيد .. للبعيييد الذي يغسِلها بالأسى : ما عندي شيء أقوله.
جيان بجنونٍ تضغطُ على يدِها : إلا عندك .. وماراح أتركك إلا لوقت ما تحكِين لي!
أرجوانْ تنظُر نحوها، تعقدُ حاجبيها بألـم، غصّ صوتُها أخيرًا في خيبةٍ وأخـرى .. خرج مختنقًا بتلك الغصّة التي تشطُر كلماتها لأنصافٍ تلاشت وتناثرت في فضاءِ اللا ثبات : ماراح أحكِي .. لا تحاولين معي .. تبين تعرفين شيء روحي لأبوي .. وعدته ما أقول لِك شيء!
تركتها مبـاشرة، وانصاعـت لقولِها وتحرّكت خطواتها بحدةٍ مارستها على الأرضِ بقدمِها الحافية، استدارتْ أرجوان تتابعها بعينينِ حزينتين، لا تتخيّل كيف أن المواجِع عادت لتتقلّب بين أعينِهم، كيف علِمت؟ كيفَ جاءها وحيُ هذا السؤالِ فجأة؟ ليس وحيًا، كلّ ما تدركُه أنّه ليس وحيًا . . كيفَ علِمت؟
تحرّكت بخيبةٍ خلفها، خرجت من الغـرفة لتُغلق البـاب ومن ثمّ تتّجه لبابِ غرفـةِ والدِها المفتوح، وقفَت تستندُ على إطــار الباب بكتِفها وهي تتابع عيني والدها الجالِس على السريرِ بصدمةٍ من سؤالٍ ألقتهُ بانفعـالٍ مُباشِرٍ دون انتظـار.
أمـال يوسف رأسه قليلًا بتوجسٍ من سؤالها ذاتِه الذي ألقته على أرجوان " وش كانت مسوّية أمي قبل لا تموت؟ " . . لفظَ بحذر : شقصدك؟ ما فهمت!
جيهان بصوتٍ مُنفعـل : فاهمني .. أدري إنّك فاهمني وتتصنّع العكـس! .. وش اللي سوّته أمي قبل لا تموت وما تبيني أعرفه؟ له علاقة فيك وفيني وبموتها!! * بوجهٍ اشتدّ بحمرتِه أردفت * له علاقة بسبب انتحارها صح!! ليييييييييه انتحرت؟ وليه كانت علاقتكم سيئة وكنت تعاملها بطريقة ما اعتدناها منّك!!
أفاقتها ليـان من غيبوبتِها ، من القناعاتِ التي نسيتها، والدها .. لم يكُن أبدًا ليفعل ذلك مع أمّها من فراغ! لم يكن ليعاملها بالسوء وهو لطالما كان حنونًا مع الغريب فكيف بزوجتهِ التي أحبّ؟ لمْ يكُن ليفعل كلّ هذا! لم يكُن أبدًا!! .. فلمَ حدث ذلك بينهما؟ لمَ حبسها في تلك الغرفـة، وتحطّم بينهما الكثيرُ حتى اختـارت أن تنتحر ، لمَ انتحرت وكأنّ الدنيـا أصبحت في عينيها سوادًا! لمَ حدث كلّ ذلك، لمَ؟!!
تجمّدت ملامح يُوسف، وكانت هي تُراقِبُها بعينينِ تهتزّان، صدمته الآن من سؤالها جعلها تتأكد ممّا قالته ليـان وأنّه ليس فراغًا من عقلها، تقوّس فمُها، بينما شتّت يُوسف عينيه لتقعا على أرجوان التي تساقطَ دمعُها وهي تنظًر لهما، عقد حاجبيهِ باستنكارٍ كمن يسأل كيفَ ذلك! كيف علمتْ؟ أمنكِ؟ أم كيف؟!
أدركت أرجوان نظراتِ التساؤل في عينيه، هزّت رأسها وكأنها تُجيبه بأن لا علاقـة لها، لم يكُن ليفهما في قوقعةِ هذهِ الغـرفةِ التي ضاقت، لكنّه لمْ يهتمّ كثيرًا بالإجابـة بحجمِ ما اهتمَّ لسؤالِ ابنتـه .. وجّه أنظـارهُ لجيهان .. هذهِ اللحظـة التي لم يكُن ينتظرها وظنّ أنها لن تأتِ، هذهِ اللحظـة التي كان يخشاها فتلافاها بحجمِ ما يقدرُ من عواطِفه الأبويّةِ التي احتملت الصدودَ أشهرًا.
لفظَ بهدوءٍ ظاهري : ما عندي جواب .. وما أبي أسمع هالسؤال منك مرة ثانية .. أمك ماتت الله يرحمها فذكرها بيننا بيكون بس عشان تدعين لها وعشان تكونين البنت الصالحة اللي بقَت لها بالدنيـا وتحاول تسوّي اللي تقدر عشانها بقبرها . . غير كذا ما أبي .. وهالأمور مالها داعِي الحين.
جيهان بغصّةٍ وهي تعقدُ حاجبيها : مالها داعِي؟ شلون يعني؟ كل هالوقت تخفون عني الأسباب وتقول مالها داعِي؟
يوسف يقفُ وهو يتنهّدُ ويمسحُ على رأسه : أيه .. مالها داعِي .. لا توجعين راسك وراسي بهالمواضيع مرة ثانية .. كافي اللي قبل.
تحرّك كي يخرج، لكنّها أمسكت يدهُ بإصرارٍ وهي تشدُّ عليها برجاءٍ وتلفظ : اللي قبل! كان بسببكم .. الحين دريت إنّه بسببكم كلكم!! كل هالوقت واللي صار فيه بسببكم! .. وش اللي سوّته وخلى الأمور توصل لهالمواصيل؟ خلاني أبعِد عنك وقت ماهو قصير .. خلاك تسكت وتسكت معك أرجوان!! .. وش اللي سوته؟ علموني عشان أجلد نفسي أكثر من الندم!!
وجّه أنظـارهُ إليها بأسى، قطّب جبينه، ومن ثمّ مدّ يدهُ الأخرى والتي لا تُمسكها، وضعها على رأسها بحنـان، انحدرتْ حتى وصَلت لمؤخّرةِ رأسها، ومن ثمّ جذبه إلى صدرِه كي تتلاشى تلك النظرةُ المُنكسِرةٍ بين أضلعه، كي يخفي وجهها المُحمرّ لانفعالاتِها واستعدادِها للبكـاء . . وكانت تلك الحركة وحدها كافية .. كي تبكي! . . انفجرّت ببكاءٍ صخبَ بأنينِها وهي تتركُ يدهُ وتتشبّثُ بكتفيْه، تمرّغَ الدمعُ في صدرِه، انسكَب بانسكابِ الندم حتى قبل أن تعلمَ خطيئةَ أمّها، انفجـر بانفجارِ العيُون الحـارةِ بملحِها، وأنينُ صوتِها جعل أرجوان تبتعدُ وتتركهما، عـادت لغرفتها، في حين همسَ يوسف بحنانٍ وهو يمسحُ على ظهرها : عشان كذا ما أبِي أقول .. ما أبيك تحترقين بندم .. وما أبي يكون بقلبك شيء ضدّها .. أبي صورتها تظلْ مثل ماهِي .. خلاص .. هي ماتت وأنا السبب! .. لا تبكين يا عين أبُوك!!
الأمرُ كذلك ، هي عينُه، فكيفَ يرضى لعينِه الملحَ في محضِ حُزنٍ وأسـى؟ هل يخلقُ الحزن فيها أكثـر؟ أما يكفِي خلقـه لهُ بين جنباتِ وجهها أشهرًا بسببِه! والآن حين تعلم عن أمّها وعن الأسبـابِ سيكون الحُزن أعمق، وسيذوبُ الملح أكثر، سينصهِر .. باشتعـالِ نيرانِ هذا الحُزن.
استكَنَ بُكاؤها قليلًا بعد لحظاتٍ طالت، بقيّ وجهها يستندُ على وساداتِ صدرِه الدافئ، بقيّ في البُكاءِ آثاره، دموعٌ مترسّبة، وشهقاتٌ مريرة، ونظرةٌ منكسِرة وهذا القلبُ الذي يهوِي، اشتعلّت أحداقُها بحُمرةِ خيبَة . . تمرُّ الأشهـر العديدةُ وتتجاهـل فكرة أن يكون هناك سبب! لا لمْ تكُن تتجاهل .. كانت تؤمن أن لا سبب سيكون كافي! لا عُذر له!! لا مغفرَة، لا كفّارةَ لهذا الجُرم .. تتجاهلُ فكرة أن يكون الخطأ من أمّها . . " ما الذي فعلته؟ " هذا السؤال الذي وأدته، وبقيّت فقط تسأل " بأيّ حقٍ فعلها " وأجابَت على نفسِها : لا حقْ!
في هذهِ اللحظـة انعكسَ إيمانُها .. الصمتُ منهُ ومن أرجوان، خوفهما من أن تسقُط أمها من عينيها ، كلّ ذلك يُثبت .. أن جُرمها قاتِل !! أخبرونِي! أخبرونِي واقتلوني من شدّة الندم .. كيفَ مرّت الأشهر يا أبِي وأنا " عاق "! كيف مرّت؟ كيفَ مرّت وأنـا أصدُّ عن حنانِك وعن صدرِك ورائحتك؟ كيف مرّت؟ ذنبي أم ذنبكما إذ صمتَ الحديثُ عن فمكما، ذنبي أم ذنبكما أن سترتما أمرًا ما . . كان ليُنهي صدودي وعقوقي .. ويعذّبني أكثر!
همَست بألـمٍ وهي تُرجعُ رأسها للخلفِ لتنظُر لعينيه بأسى : علّمنِي .. أنا أبي أندم .. وأبي أعرف إنّي غلطت! ليه بتطيح من عيني؟ ليه بتتشوّه صورتها قدامي؟ أيش سوّت؟
يوسف يمسحُ على رأسها بحنانٍ لينحني ويقبّل جبينها يُحاول أن يبعد السلبيّات التي تكوّنت في صدرِها، وبخفوت : لو لي قدر عندك لا تسألين ، خلاص اعتبري كلّ اللي صـار بسببي وسامحتيني .. وش اللي اختلف الحين؟
جيهان ببحّة : اختلف إنّ طلبك لي الحين صعب! صعب ما أسـأل .. إذا تبيني أظل متضايقة بسكت . .
يوسف بهدوءٍ يبتسم : لأنّي أعرف إن الكلام بيضايقك أكثر أفضّل السكوت.
جيهان بحزن : لهالدرجة اللي سوّته كبير؟
يوسف بخفوت : ما سوت شيء .. أمّك ما سوّت شيء.
عادت لتبكي من جديد، بقوّةٍ أكبـر، تدفُن نفسها بين أضلعِه ، تُغيّب هذهِ الدموعَ في قماشِ قميصهِ ولا تغيب .. تُشرق من جديدٍ من مقلتيها ، وتعودُ لتغيب .. وتتجدّد . . همسّت بحُزنٍ يجرحُ عينيها القاتمتينِ وبشرتها لتلتهب، يجرح حنجرتها بالجفاف، وتعتذر! : آسفـة . . آسفة على كل شيء يا يبه ... آسفة!!


،


قُرب منتصفِ الليل ، استلقَت على جانِبها الأيسـر بجانِبه، كان قد نـام منذُ ساعةٍ تقريبًا بينما جلَسَت هي وحدها في غرفةٍ مجاورَة تحفظُ جزءها اليوميَّ من القرآن.
جذَبت القطّةَ إليها لتحتضنها وهي تهمسُ لها بابتسامةٍ وخفوت : اصصص لا تفضحين عمرك .. ويا ويلك تتحركين وتروحين جهته أتوقع بيشوتك للباب.
تمرّغت القطّة في المفرشِ الناعمِ مستعدّةً للنومِ، بينما ظلّت غزل تبتسمُ وهي تمسحُ على ظهرها حتى نامّت . . .
تحرّكت بهدوءٍ وغيّرت موضِعها حتى واجهَت جسده، ينــام على جانِبه الأيسـر وعادته دائمًا أن ينام على جانِبه الأيمن إلا قليلًا ولا يكون إلا دون شعورٍ منه في نومِه الهادئ، تأمّلت ملاحـه المُسترخيَة، أجفانه الواسعـة والتي تنطبقُ على أحداقِه، فمه، أنفه، وخصلات شعرهِ الكثيفـة . . أصبحَت هوايتها أن تراقبـه وهو نائم، قبل أن تنـام أو قبـل أن يستيقِظ، وكأنّ رؤيـة ملامحهِ قبل نومِها تعنِي أن الصبـاح سيكون جميلًا، ورؤيتها لها بعد استيقاظها تعنِي أنّ اليوم بأكملِه سيكون أجمل!
رفعَت يدها الناعمـة ببطءٍ حتى استقرّت بنعومةِ أطرافِها على جفنِه الأيمن، همسّت بخفوتٍ رقيق : أُعيذكَ بالله من الحُزن والضيق .. ومن تقلّباتِ الزمـان ، أُعيذك بالله من كل شيء سيء يعكّر عليك حياتك.
رفعت يدها لتقتربَ هذهِ المرة بشفتيها، قبّلت جفنه، ومن ثمّ وضعت رأسها قريبًا من رأسهِ على الوسـادة، وانسدلَت أجفـانها بهدوءٍ واسترخـاء .. لم تمكث كثيرًا قبل أن تنـام ورائحته تبعث لها بالراحـة.

الفجـر، وصوتُ الأذانِ يتسلّل عبـر النافذةِ إلى مسامِعهم النائمة، مسامعها هي فقط، بينما أذنـاه كانتا قد التقطتا صوت الأذانِ كونه اعتـاد غالبًا أن ينهض قبل الفجـر . . استيقظَ وثقلٌ مـا على صدرِه، كان قد تقلّب في نومِه حتى استلقى على ظهرِه، عقدَ حاجبيهِ تدريجيًا من هذا الثقلِ الذي يشعُرُ بِه حتى ارتفعَت أجفانُه رويدًا رويدًا، نظـر لصدرِه بنعـاس، وسرعانَ ما انتفضَ جالسًا بقرفٍ لتنتفض القطّةُ من نومِها وتصرخ بمواءٍ حادٍ أيقظَ غزل معها ومع صوتِ سلطان الغاضِب : وجع للعدو هذي وش جابها عندي؟
غزل بفزعٍ تنظُر للقطةِ التي التجأت إلى حُجرها بسرعةٍ بذعرٍ هي الأخـرى، لم تكُن قد استوعبّت من النعاسِ الجاثِم على عقلها : بسم الله شفيك وش صاير؟
سلطان يمسح على قميصِ بجامتهِ وكأنّ شيئًا نجسًا لامسه، وبحدة : أنتِ اللي جايبتها وإلا هي اللي جات؟
عقدَت حاجبيها لثوانٍ دون فهم، لكنّها سُرعـان ما فغرَت فمها بصدمةٍ وهي تلفظُ بلعثمة : يوووه لا لا أنـا .. أستغفر الله أنتِ ليه رحتِ جهته؟
رفعَ سلطان حاجبهُ الأيسر وهو يراها قد نظرت للقطّةِ توبّخها وكأنها تفهم، زفـر وهو يُبعد اللحافَ عن ساقيْه ليقف على الأرضِ وهو يلفظ بنبرةٍ ملولة : هذا اللي ناقص شكلها جننتك معها.
غزل بابتسامةٍ ساذجة : ترى ماهي مجنونة والله بس شقيّة شوي.
سلطان ينظُر ناحيتها وهو يبتسمُ رغمًا عنه بينما حاجبيه يتمايلانِ في عقدةٍ خافتـة : وين أصرفها ذي؟ وبعدين لا عاد تخلينها تنام معنا .. ترى بتفرعن عليها أخرتها وأقلعها من البيت.
غزل بدلالٍ وهي تشدّها لصدرِها : وأهون عليك.
ضحكَ بخفوت : أسويها فاتّقي شرّي قدامها .. هذا اللي ناقص أصحى وأحصلها نايمة على صدرِي.
اتّجه للحمـام بينما ابتسمَت هي برقّة، حتى هذهِ القطـة شعَرت بدفء صدرِك ولستُ أنـا فقط يا سلطان!
مرّت دقائقُ قصيرةٌ قبل أن يخرج من الحمـام وقد توضّأ ، تمتمَ بضيقٍ وهو يتَجه للخزانـة حتى يأخذ ملابسه : مو بالعادة أتأخر بنومي كذا ..
غزل المستلقيَة على ظهرها وهذهِ المرّة القطة كانت بجانِبها، لفظَت بمداعبـة : حنـان قطوتِي خلاك تحب وضع النوم أكثر.
ابتسم دون تعليقٍ وهو يأخذ ثوبه المعلّق ويعود ليتّجه للحمـام، خـرج خلال دقيقتينْ ليجدها قد أغمضَت عينيها حتى تعودَ للنوم، وقفَ بجانِب السرير لينحنِي فجأةً ويُفاجِئ وجنتها بقبلةٍ ناعمـة مُستعجلة، وبخفوت : لا تنامين عن الصـلاة.
ليخرجَ بعد أن أحـال العواصِف في صدرِها ، وكأنّها أوّل قبلة، أول شعور، أول لمسة، كأن ملمِسَ شفتيه جديدٌ على بشرتها ، لازالت تثورُ بنارِ شفتيه، لازالت تغرقُ في نشوةِ قبلةٍ وكأنّها الأولـى التي مزّقت حبالَ صوتِ الاتّزان.
أغمضَت عينيها لبعضِ الوقتِ حتى تُغادرها نشوةُ هذهِ القبلة، تشدُّ على المفرشِ دون شعورٍ وهي تهمسُ بكلماتٍ لم تعِيها، كلماتٍ اختلطَت ما بين الحمدِ والعتـاب لذاتِها!

،


يندلعُ الغضبُ بحدّتهِ في عينيهِ وهو يلفُظ بحدةٍ للواقفَيْن أمامه : شلون؟ قلتلكم كونوا حريصين إنّه ما يقدر يسافِر؟ شلون طلع برى السعوديّة بهالبساطة؟
نظـر للوجوهِ بحدّةٍ والصبـاح الحارقُ بشمسِه يُضاعِف نارَ غضبِه، لفظَ صقر بجانِبه باتّزان : عصبيّتك هذي ماراح تخليك تركّز . . خلني أشوف الموضوع بنفسِي.
زفـر عبدالله بغضبٍ وهو يبتعِدُ عنهم منفعلًا، يكـادُ يقتلهم أمـامهُ من شدّةِ غيظِه لذا انصـاع لما قاله صقر. بينما نظر ذاك للواقفينِ أمامه وهو يهتف بهدوءٍ ورغم الهدوءِ صوتُه الحـازم يُجيدُ العزفَ على أوتـار اضطرابِهم : وين سطّام؟
أحدهما باضطراب : ما داوم اليوم.
رفع حاجبه الأيسر : يعنِي؟!
الآخـر : ما خلانا الأستـاذ عبدالله نحكي كلمـة ويسمع منّا.
صقر بجمود : يسمع أيش؟
بتوترٍ يعقدُ حاجبيه : كان المفروض نتصرف بالموضوع احنـا ونبلّغ المطـارات بأنّ أحمد الأمير ممنوع من السفر بس سطـام قال أنّك حوّلت الموضوع له و . .
صمت بتوترٍ بعد ما قـال ولم يُكمل، حينها زفـر صقر بحدةٍ وقد أدرك أنّهم وقعوا بسببِ عدمِ انتباههم ومن أحد الأفرادِ هُنـا! . . زم شفتيه قبل أن يلفظَ بجمود : تقدرون تروحون . . بس راح تتعاقبون لإهمالكم.


،


في الليلـةِ الماضيـة ، وحِينَ كانت العقـاربُ تُدغدغُ السـاعةَ الحاديـة عشرة . . جسدهُ مسجّى على السرير ، محلول المغذي ينسكبُ إلى وريدِه مبـاشرة، عينيهِ مُغمضتـان ، الدمَ الذي فقدهُ أضعفَ جسدهُ كفايـة كما أنّه لم يكُن قد تغذّى منذُ الصبـاح.
يقفُ ذاك بجانبِه، أسمـر البشرةِ ضخمُ الجثّة تقريبًا كـ " حارسٍ " بالرغمِ من وضعِه الضعيفِ هذا، لكنّ سعُود لم يكُن مطمئنًا، ولم يكُن ليتركهُ دون حراسـة.
تسلّلَ صوتُ البـابِ الذي فُتح إلى مسامِعِ ذاكَ الضخـم، كانت المُمرّضـة التي دخـلت بحذر، نظـرت لهُ بتوجسٍ بينما لفظَ ذاكَ بصوتِه الخشنِ وبإنجليزيّةٍ جافة : ألم ينتهي بعد؟
ردّت عليه بخوفٍ وتردّد : بلا انتهينـا .. لكنّه قد ينهضُ في أيّ وقت .. والرجـل الآخر في الخـارج أوصانِي أن لا أسمـح بنهوضِه.
الضخم : إذن؟
المُمرضة تقتربُ من السريرِ الذي يستلقِي عليهِ بدر وهي تلفظ : جسدهُ لن يكون بقوّته ، لكن من باب الحذر سأحقنه بالمخدِّر كي لا نسمح بمجـال نهوضه ومن ثمّ تستطيعون نقله على كرسيٍ متنقلٍ أو سريرٍ إلى السيارة.
الآخر : حسنًا استعجلي قليلًا.
وقفَت من الجهةِ الأخـرى والتي لا يقفُ فيها ذاك، كـانت ربكتُها واضحـةٌ من كفّها التي كانت ترتعشُ وهي تجهّزُ إبرة الحقن، اقتربَت من ذراعِ بدر المجروحِ كتفُها بينما جرحه قد تلقّى العنايـة الجيّدة هُنا. وضَعت كفَها اليُسرى على ذراعِه، والأخـرى اقتربَت بالحنقةِ منه. بينما ذاكَ ينظُر للبـاب بالرغمِ من كونِ آخر يراقبُ الوضع خارجًا.
امتدّت يدُ بدر السليمةِ فجأة، أمسك يدها قبل أن تحقنهُ لتشهق بذعر، استدارَ الضخمُ بسرعةٍ في اللحظـةِ التي ركـل فيها بدر فخذ الممرضةِ وهو يأخذ من يدِها الحقنة لتتراجع للخلفِ بقوّةٍ وتسقط على الأرض، وما إن هجمَ عليهِ الضخم حتى وجّه له الإبرة بسرعةٍ خاطفـةٍ لتستقرّ في ذراعِه السمـراء . . عضّ شفته من اختراقِها المُفاجئ لجلدِه، قبضَ على عنقِ بدر بانفعـال، لكنَه لم يمكث لحظاتٍ حتى استرخت وشدّه على أسنانِه يخفُت .. ليسقطَ أخيرًا نائمًا.
تنفّس بدر بانفعـالٍ وهو يمدُّ يدهُ للمغذي وينزعه من كفّه، تأوه وهو يشعر بتصلّب مفاصِله . . لامَس الأرض بقدميهِ الحافيتينِ بينما كانت المُمرضة المُرغمـة على كلّ ذلك قد دسّت نفسها في الزاويـة وبدأت بالبُكـاء بخوف . .
في تلك الحظـة ، كانت خطوات مُنفعلةٌ تقتربُ للبـاب بعد الضوضاءِ التي صُدرت من الغـرفة . . .

.

.

.

انــتــهــى

وموعدنا كالمعتاد ، الثلاثاء إن شاء الله ..
-اليوم اللي تقول البارت قصير أو ما فيه أحداث بذبحها ترى :( "" -

ودمتم بخير : كَيــدْ !



كَيــدْ 22-06-16 07:15 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


-
-


صباح الخير، أعتذر لتأخير النزول بليلاس.
من 12 ونص تقريبًا وأنا أحاول ويقولي فيه خطأ، طلبت من إحدى متابعاتي تنزله عني وكان يطلع لها نفس الشيء ، ظنيته عطل بالمنتدى بس كنت أشوف الناس تعلّق عادِي ما عداي.
عاد طلعت العلة مني :P "" ما فكرت إنه ممكن يكون من الكم الكبير للمشاركة مع إنّي اعتدت أحطها بمشاركة وحدة من قبل وعادي! فقلت بجرب يمكن يمشي!
المهم إنّه وصـل، والناس اللي كانت تنتظرني هنا من الليل أرجو المعذرة منكم :$ وقراءة ممتعة أتمنى يحوز على رضاءكم ()

أبها 22-06-16 11:51 AM

شكرا كيد ما قصرتي
الجزء طويل ومشبع ..

تميم كما توقعت سابقاً ضد أعمال جده
ويحاول جاهداً أن يساعد بدر .
اتضح في جزءية اليوم كيف احتال على جده
كي ينقل بدر إلى المستشفى لتلقي العلاج ..
ويؤخر من عملية اغتياله .
لعل عبدالله يفقده !
هل يستطيع بدر أن ينجو ؟

القفلة مربكة لأعصابنا .😖

أحمد هو من باشر بقتل فهد
وليس سلمان كما كنا نظن ..
هل يعني هذا أن ليس له يد في التخطيط
لقتله ؟ هل هو فعلا كما توقع البعض ممن
يتعاون مع الأمن للايقاع بالعصابة ؟

سالم من يكون إذا كان اسمه مزورا ؟
هل هو ممن يظهر بين شخصيات القصة
باسم آخر ؟

غيداء ... ما زالت مخاوفنا في محلها
من أثر مصاحبتها لساره .. وهذا يظهر جليّا
في سلوكياتها مع والدتها .. وطريقة الحديث معها .


كل الشكر والتقدير لمبدعتنا كيد

🍃🌸🍃

fadi azar 25-06-16 02:18 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل مشوق كتير اخيرا جيهان بدات حسن انها ظلمت ابوها

كَيــدْ 28-06-16 09:54 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


حابة أنوه لشغلة : سطام الذي ذُكر في الجُزء السابـق مجرد اسم شبه عابِر ، وهو ليس نفسه " سالم "، سالم مهما كان غير معروف بالنسبة لهم " كاسم حقيقي " أو وجه وصفات بيكون تهوّر منه يدخـل بين سلك عسكري ويتلاعب فيه وهو مهم مثله مثل أحمد وسعُود.

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$

+ اللهم اكتبنا من المغفورين لهم في شهركَ الكريم ، وارحمنا واعتق رقابنـا من النـار، اللهم بلّغنا ليلة القدر . . لا تنسوا قراءة القرآن والعبـادة ولا تنسونِي من دعواتكم الطيبة :* ()

بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبـادات في هذا الشهرِ الكريم

+ القصيدة اقتباس الجميلة رماد الشوق / طعون .. " دورت اسم كاتبها وما حصلته فاللي تعرفه تقوله فضلًا "

نفضت الليل و اثاري السنين أوراق
تمر من الجفا.. و تصب في وصالك!
تعيش داخلي سيرة من الأشواق
و أحييها " وعد" و تطيح بـ اهمالك
أنا من عدك لدنياه ( بوح أشواق )
و عتمة صمت، قبل أنساك فـ ظلالك !
يا كم حاولت أدوّر للحنين أحداق
يا كم حاولت ادوّر شيء في بالك !
يا غايب .. و الألم يُنطق ولا ينطاق
وش اللي باقي من الروح يلجأ لك؟
عميق الحب.. شوفه طاح بالأعماق
بـ قيمة جرح.. و اثقاله من اثقالك !
لا تستغرب ! اذا جيتك عـلى الفراق
تراشقنا الفعول.. و جيت بأفعالك !


(75)*3



صوتُ الخطواتِ اقتربَت، تعالّت على مسمَعهِ المُرهقِ بالخطـر، تجمّد الوقتُ للحظـةٍ وهو ينحنِي دون تفكيرٍ للأرضِ ليُغيّبَ جسده وراء السريرِ عن البـاب، سمعَ في تلك اللحظـة صوتهُ يُفتَح بانفعـال، صمتٌ لثانيتينِ من الصدمـة، ومن ثمّ شتيمةٌ غاضبـة وهو يرى زميلهُ ملقيًا على الأرض، تحرّك بخفةٍ ينظُر في حنايا الغـرفةِ بحذر، التصقَت أقدامُه بالسريرِ لتقعَ عينـاه على الممرضةِ التي كانت تلتصقُ بظهرِها بالجدارِ أمامه ووجهها مُبللٌ بدمعها، تضغطُ على فمها بذعرٍ وهي تنتفضُ كاتمةً صوتَ بكائها، انـدفع صوتُه بخشونةٍ غاضبـة وهو يستديرُ حول السريرِ كي يصِل إليها : ما الذي حدث؟ أين ذهب ذاك . . .
انقطعَت كلماتُه في اللحظـةِ التي التفت فيها ساقُ بدر حول ساقِه اليُمنـى ليسقطَ على الأرضِ متأوهًا بصدمـة، اندفـع بدر إليه رافعًا كفه السليمة ليوجّه له ضربـةً مدروسةً بحافة/سكين يدِه إلى الجزء العلوِيّ من أنفه مبـاشرةً مسببًا لهُ عمـى مؤقت وعدم اتّزان، تأوه هذهِ المرّة ألمًا، بينما نهضَ بدر لينظُر للمرضةِ وهو يلفظُ بصوتٍ حـاد : اذهبـــــــــي حالًا !!
نهضَت الممرضـة بسرعةٍ بذعر لتركـض للبـابِ وكأنّ الخـلاص جاء إليها، نهضَ غيـر مبالٍ بذاكَ الذي كان لا يزالُ على الأرضِ يشعُر بالدوارِ ويئن من أنفه الذي شعر بأنّه يكـاد يتحطّم، لم يكُن لينتظـر حتى يستعيد توازنه، تحرّك بأقدامِه الحافيـة ليخـرج وهو يشعُر بالغثيـانِ من رائحة المشفى، هذهِ الرائحةُ مرتبطـةٌ بيومِ وفاتِهم/مقتلهم، هذهِ الرائحة يشعر أنّها تتوكأ على صدرِه فلا يقوى على تحمّلها.
خـرج من المشفـى بحالتِه المُزريـةِ تلك، قميصهُ عـاد يغطّي صدرَه بالتأكيد قبل أن يجلبُوه هنـا ، تحرّك مبتعدًا من ذلك المكـان، وقبـل أن يكون فارًّا بوهنِ جسدِه هو يهربُ من رائحتـه، من ذكرياتِه.


،


بعد نصفِ ساعـةٍ أو أكثـر ، رمـى الهاتِف بكلّ قوّةٍ على الجدارِ لتتحطّم شاشتـه وهو يزمجـر بشتيمةٍ غاضبـةٍ فرّغ فيها انفعـالاتِ صوتِه . . نظـر لهُ تميم وهو يبتسم ببرود، أدرك جيدًا ما كـان في الاتصـال والذي جعله يغضبُ بهذا الشكـل .. لفظَ بتسليـةٍ متسائلة : هرب؟
وجّه سعودْ نظراتـه الحادةَ إليـه، يجلسُ على كرسيٍّ خشبي، قهوتُه التركيّة ترتكزُ على الطـاولةِ أمـامه وقد انتصفَت بينما دُخـان حرارتِها مـاتَ من هواءِ الغـرفة البـارد، هذهِ البرودة التي لا تكفِي حتى تجعـل الغضب والانفعالاتِ تخمد.
رأى نظراتِ الغضبِ في عيني سعود بوضوح، لم يكُن غضبًا لكونِ بدر هرب فقط، بل لكونِ السبب في مهربِه هو! . . اقتربَ منه بخطواتٍ منفعلةٍ ليقفَ أمامه من خلفِ الطـاولة، استندَ بكفّه المُتشنّجةِ على سطحِها الزجاجـي ليلفظ من بينِ أسنـانِه بنبرةٍ غضب : كلّه منك! هرب منّك يا فاشِل!!
ضحكَ تميم بخفّةٍ دون مبالاةٍ حقيقية وهو يتناول الكوبَ من الطاولـة ليرتشف من برودتِها القليل، البرودة اللاذعـةِ كبرودةِ مزاجِه التي استفزّت سعود أكثر! .. لفظ بعد وهلةٍ بصوتٍ هادئ : ويعني؟ إذا هرب بسببي وش يصير؟ المصيبة لو ما هرب!
ارتفع حاجبي سعود والنيرانُ تشتدُّ في أحداقِه أكثـر غير مستوعبٍ كلمـاتِ تميم الباردة! بينما تابـع تميم دون مبالاة : بتصير اللعبـة مُملة بشكل لا يُطـاق!
سعود بصرخةِ غضب : تميــــــــــــــــــــــــــــــم !!!
تميم يضـع الكوب على الطــاولةِ وهو يُميل شفته السُفلـى بسخريـة، وبتوضيحٍ حـاد : خليتني أشاركك .. ومن عيوني لك اللي تبيه وبكون معك بحِصد الثروة اللي تبيها أكثر وأكثـر .. بس بطريقتي!
سعود من بين أسنانه : بطريقتك؟
تميم يبتسم ابتسامـة باردة : أيه .. بطريقتي .. أنا ألعب وياك بنفس الأشخـاص .. وما أبي أحس بالملل وكونك مسكته بهالوقت ما يناسبني!
سعود بخفوتٍ حاد : تعترف إنّك ساعدته؟
تميم يرفع كتفيه : أعتـرف ..
سعود بوعيد : بتندم يا تميم .. بتندم!!
تميم ينظُر لعيني سعُود بتحدي وثقـة : ما تقدر تسوي فيني شيء .. تحتاجني ، تحتاجني كثيييير يا جدّي العزيز.
سعود بشكٍ يخفت صوتُه قليلًا : لا تكون خاينّي وأنت جاسوسهم!!
ارتفعَ حاجبي تميم لوهلـة بصدمة، وسرعـان ما غرق في ضحكةٍ ساخرةٍ وهو يهزُّ رأسه بالنفي لافظًا : وش هالتفكير الغبـي !! ما بقى غير أوجع راسي أكثـر ماهو كفاية أنت!! * أردف بابتسامةِ استهزاء * أنـا أشتغل باللي يناسبني .. عشان نفسي وبس وعشان أتسلّى ماهو ورى ناس ما يهموني! ودامني شايف إنّ شغلك ما يضر لهالدرجـة ما اعترضت كثيييييير .. بس الأكيد بيكون كل شيء بطريقتي . .
سعود بغضب : ماراح يكون بكيفك .. ماراح يكون يا تميم وبخليك تتربى من جديد وتعرف شلون تسمع كلامي عدل!
تميم بتحدي : تراني ما كنت أسمع كلامك مجبور! عمري ما انجبرت على شيء .. كنت أوافـق .. وأتسلـى وبس! في المرات القليلة اللي عصبت من أشغالك كانت لأني مشغول بوناستي وعكّرت عليْ.
سعود يستقيم وهو يلفظ بوعيد : نشوف يا تميم .. نشوف ..
تحرّك بعد كلماتِه الحادةِ تلك ليخرج من الغـرفة مُطبقًا البـاب من خلفِه .. بينما انسلّت ضحكةٌ خافتـةٌ من بين شفتي تميم وهو ينظُر للقهوةِ البـاردةِ كبرودةِ عينيه الرماديتين، المرّة! كمرارةِ صوتِه الجـاف الذي نطـق بسخرية : شلون وصل لهنا .. شلون ما انمسك كل هالسنوات ! وين الذكـاء اللي مو قاعد أشوفه قدامي!!


،


مُستلقيةٌ على طرفِ السرير، تكـادُ تقعُ في أيِّ لحظةٍ من ربكةٍ جعلتها لا تنـامُ كما يجِب، كلّما شعرت بحركتهِ بجانِبها انتفضت مستيقظةً وكأنّها كلّفت عقلها بالشعُورِ بِه، قلبها، وجسدها الذي يقشعرّ. تحرّكاتهِ كانت تسمعها جيدًا وتُثيرُ فيها ربكةً أكبـر، يفتحُ بابَ خزانةِ ملابسِه، يتّجه للحمـامِ المُرفقِ مع غرفتِه، يستغرقُ ثوانٍ حتى يبعثَ بصوتِ الماءِ لأذنيها، المـاءُ الذي لا يغسلُ الذنوب، لن يغسِل هذا الكره في قلبها لو سكبهُ عليه، لا يمحي آثـارَ لوعةِ المراهقـةِ والخدَاع.
تنهّدت بأسى وهي تنقلبُ على ظهرِها، يلتفُّ جسدها الغضّ باللحـاف، تتأمّل نقوشاتِ السقف التي لم تمعِن بها التركيز البـارحة من حجمِ الغيظ، الغرفـة الكئيبةُ ذات الطـابَع الرجُولي، مزاجـه العابث والمتهور الذي طبعهُ في كلّ زاويـةٍ فيها، مرّرت عينيها ببطءٍ لتسقط على الأرائِك الرمـاديّة، الطـاولةُ ذات الساقين والتي ترتكزُ بسوادِها على إحدى الزوايا الأربـع، ومن فوقِها قبعَ تمثالٌ صغير لبُرج إيفل بفضّيةٍ لامعـة.
ما هذِه الكآبة! لا بيـاضَ سوى في لونِ السرير، حتى الجدران تصبّغت بدرجةٍ رماديّة أقـل حدةً من الأرائِك . . لوَت فمها بضيقٍ وهي تنظُر نحو البـابِ بوجُوم، تتذكّر كيف أرغمها على النومِ معه هنـا حين كادَت تهرب لأخرى وهي تصرخ أنّها تفضّل الموتَ على أن تنـام والجدران ذاتها تُحيط بهما ..
بعد عودتِه من المسجِد وجدها قد اختارت لها غرفة لها بكل بجاحة، في البدايـة بحث عنها ولم يجدْها في الأسفـل، فصعد ليسمع ضوضـاءَ في إحدى الغرف التي تركتْ بابَ غرفتها مفتوحًا، اتّجه لها ليجدها كانت تنظّفها وكأنها قررت كيف ستكُون حياتها هنا في وقتِ صلاتِه، بل بالفعلِ كانت قد قرّرت وانتهت!
رفـع أحدَ حاجبيه وهو ينظُر لجسدها الذي اختبأ خلف السرير، عباءتها مرميّةٌ فوقه، بينما كانت تسحبُ شيئًا ما بجانِبه . . صوتُه جاءها لتنتفض بذعرٍ وقد سحبها من عالَم الوحدةِ التي كانت فيهِ دونه : وش قاعدة تسوين؟
رفعّت نظراتها التي غادرها الذعر، زفـرت وهي تضعُ كفّها على صدرها لتهتف بعد لحظـة : أنظّف ..
أدهم يُميل فمه قليلًا بسخرية : على أساس ما أشوف أنا؟ أدري إنك تنظفين.
إلين بانزعاجٍ تجعّدت ملامحها : وليه تسأل يا أخي؟
شددت على " يا أخي " بعنادٍ ليبتسم رغمًا عنه ابتسامةً صادقـة رأتها عابثـةً متسليةً بها وهو يلفظ : الشيء المهم باللي قاعد أشوفه قدامي الحين .. ليه تنظفين؟
اعتدلّت في وقفتها جيدًا لتحرّك كفّها ببساطةٍ في الهواءِ وكأنّها لا تتحدّث مع من يكُون زوجًا لها : واااضحـة .. عشانها غرفتي.
زمّ شفتيه، وجههُ تغيّر بشكلٍ ملحوظ وعينيه التمعتا بشكلٍ مُريب .. كان يكتمُ شيئًا مـا خلف شفتيه .. لكنّه لم يستطِع أن يكتم أكثـر، انفجـر فجأةً بضحكةٍ صاخبةٍ وهو ينحني بجسدِه ويضعُ كفيهِ على بطنِه، يلفظُ بصوتٍ يغادرُ بين ضحكاته : لا لا ... هههههههههههه منتِ طبيعية لا يااا الله لاااااااا هههههههههههههههههههههههههههه
احمرّ وجهها بشدة، لا تدري بالضبطِ لمَ كـان يضحك، سخريةً أم استغراب! لكنّه استطـاع إحراجها لتصرخ بغضب : وججججججع وش اللي يضحك يا سامج؟
أدهم يضعُ ظاهِر كفّه على فمِه ليكتم البـاقي من ضحكاتِه وهو يهزّ رأسه بالنفي، لا فائدة! من الواضِح أن تفكيرها طفوليٌّ كفاية وفوضوي بينما ظهرت له العاقلــة من قبل ليكتشف العكس الآن.
مرّر لسانه على شفتيْهِ وهو يبتسم، أخفضَ كفّه ليرفعَ حاجبـه الأيسـر ويهتف بنبرةٍ مٌغيظةٍ لها دون مقدمات : ممنوووووووووووووع .. مكانك تعرفينه وين؟ جنبي .. بنفس الغرفـة معي .. حركات البزارين والمسلسلات هذي ما أبيها.
فغرَت فمها للحظةٍ بصدمة، لم تستوعِب كلماتِه في بادئ الأمـر، لكن سرعــان ما انتشـر احمرارَ الغضبِ على ملامحها، اشتعلت عينـاها بالكرهِ الذي شحذ أقدامها بالانفعـال الصـارخ من خطواتِها التي اتّجهت إليه بغضبٍ وهي تلفظ : تحلـــــــــــــــــــــم . . مستحييييييل أنام جنبك تبي كبدي تلوع من القرف؟ لا لا مستحيييل كافي نمت معك ليلتين بالفندق ومو برضاي بعد.
وقفَت أمامه وهي تضربُ قدمها بالأرضِ بغضب، بينما راقبها أدهـم بجمودٍ باردٍ وهو يبتسم وكأنّ من تتحدّث أمـامه مجرّد " مجنونة " لا تعي كلماتِها.
أردفت بصرخةٍ وصمتهُ يستفزها : شفيك ساكت كذا احكي!!
رفعَ كفّه ليحكّ ذقنـه بعارضِه الخفيف وهو يمطُّ فمه بضجرٍ ويراقبها من أعلى رأسها لأخمص قدميها بثيابِها المحتشمـة بإسراف، اشتعلت بالخجلِ من نظراتِه لتتراجـع خطوةً للخلفِ وتُشتت عينيها بغيظ، بينما لفظَ هو ببرودٍ بعد لحظة : مممممم بالتفكر بوضع عقلك .. الموضوع المستحيل هنا هو نومك بهالغـرفة .. وشو مستحيل؟ هذا جنون بعد مدري شلون تفكرين . . * اقترب ليقطـع الخطوة التي صنعتها بينهما، ليردفَ بخفوتٍ وهو ينحني برأسِه نحو وجهها * أنــا زوجك يا حلـــوة .. زوجك .. تعرفين معنى هالكلمة؟ ماني أخوك . .
ابتسم باستهزاءٍ عند آخر كلمـة، تلك التي أشعلتها أكثـر ، أشعلتها وهي تتذكّر كيفَ أنّه جـاراها قبلًا في هذهِ الحمـاقة، كيفَ جعلها تعيشُ الوهم بتفاصِيله حتى ركضت في تلك الليلـة إليه. شدّت على أسنانِها بقهر، تنظُر لهُ بحقدٍ أعمـى، بإسرافٍ في الكره، تشدُّ قبضتيها اللتين تتمنانِ سحقـه! فتحَت فمها تريد الردّ بقوّةٍ وربما بكلماتٍ وقحـة! لكنّه قاطعهـا بنبرةٍ محذّرة : نجـــــلاء! ترانِي صبور معك .. صبووووووور مرة على غير طبعِي .. لا تظنين إنّي معفيك من واجباتِك الزوجية يعني بخلي الوضع بيننا مهزلة بهالشكل! أنـا تاركك براحتك ، مو حاب أجبرك ولاني مستصيغ فكرة الغصيبة ذي .. بس لهنا وبس! تنامين بنفس الغرفة اللي ينـام فيها زوجك .. هالحركات السخيفة ابعديها عنك .. كوني أعقل من كِذا.
عضّت طرفَ شفتِها السُفلى وهي لا تنظُر إليه، نظراتُها كانت بعيدةً نحو الجدارِ العاجي، عنقها تشنّجت، اختنق صوتُها، صدرها الذي اضطرب بتنفّسه رافضًا تلك الفكـرة، أن تنـام بجوارِه ذلك جنونٌ بعينِه! لا تستطيع .. لا تستطيـــــع!! . .
ارتعشَت شفاهُها الناعمـة وكأنّ البـرد هزّها، كـان بردَ كلماتِه ، بردَ " الغصيبة " التي جاءت بحلّةٍ أخـرى . . همسَت باختنـاق لا تهتمُّ بالكلماتِ التي تنطُقها : ما أقدِر .. أقرف منّك .. ما أتخيّل فكرة قربك مني شلون بالنوم بعد؟
لم تبـالي أبدًا بحجمِ ما تقول، بالاعتـرافِ بكلِّ شفافيَةٍ عن تقزّزها منـه، الاعترافِ الذي يدرك منه أنّها تكرهه، ولم يكُن يظنُّ أن الكره تأصّل حتى وصـل لهذهِ النسبةِ من الاشمئزازِ الصـريح في ملامحها وهي تقولها.
مـال رأسُه قليلًا بميلانِ شفتِه السُفلى، عينـاه تطوفـانِ على ملامِحها بصمت، وجهها الواجِم، وتضاريسُ الضيقِ و - القرف -!! . . رفـع كفّه فجـأة، وجدها تستقرُّ فجأةً خلف عنقها، وكأنّه تمرّده الداخـلي عـاد، أن يفرض نفسه ، إن كان بتعاملِه اللطيف معها يجعلها تتمادى أكثـر، فسيفرض نفسه .. فرضًا من وجهةِ نظرِه " لطيف ". داعبَ بشرةَ عنقها ليشعر بأنفاسِها تتصاعد بقوّة، نظراتها ارتحلّت إليه أخيرًا برفضٍ صـارخٍ بين زواياها " الفاتنة "، تنظُر لهُ بنفور .. جعله يبتسم تدريجيًا ابتسامةً بـاردة، انحنى بوجههِ إلى وجهها مقتربًا، ليهمس أخيرًا بصوتٍ أشبـه بفحيحِ أفعـى سامّة : مشكلتك ، ماهي مشكلتي . . ماني ملزوم أتعامل مع قرفك هذا .. فاصرفيه من تصاريح مشاعِرك أو هذّبيـه لين ما أعرف أصرفه بنفسي.
كـانت كلماتًا متوعّدة ، كفحيح الأفعـى فعلًا، الصوتُ الذي يأتِي قبـل الخطـر!! . . ابتسمَ بلطفٍ مفاجئٍ ومن ثمّ ابتعدَ برأسِه للوراءِ قليلًا وهو يحِيط كتفيها ليقفَ أخيرًا بجانِبها ويلفظ بنبرتِه المعتـادة معها وكأنّ شيئًا لم يكُن : ويلا يا جميلتي بوريك غرفتنـا الحاليـة .. عسى بس تعجبك لين نغير أثاثها بذوقك الحلو.
انتفضَت بين ذراعيهِ بضعفٍ مخزي من تلاعبِه بصوتِه، بها! من صفـاء مزاجِه أو تصنّعه ذلك! وكأنه بذلك يخبرها بوضوحٍ أنّ حياتهما بيدِه، ليس لها أن تعترض، وليس لها أن تتحكّم بمزاجِه أيضًا !! يُخبرها أنّ الموضوع بيدِه، ولن تستطيع الإعتراض أبدًا.

أغمضَت عينيها عن كآبـةِ الغرفـة وهي تبتلعُ ريقها بقهر، نومها في الليل بجانِبه شعرت أنّه قد كسر جزءً منها لأنّه هزمها! هزمها منذ البدايـة، لم تبالِي إن كان على حقٍ أم لا ، لكنّها لا تريد .. لا تريد أن تكون بقربِه!! كيفَ كانت تشعر بأنفاسِه المنتظمـة وهي تعيشُ في حالـةٍ من الانفعـال، بينما هو بلؤمِه أغلق الغرفـة بالمفتـاح أيضًا ليأسرها بشكلٍ حقير! يُدرك أنّ هذهِ الليلـة كانت الحد، كانت العِمـاد الأول، ولو أنّها هربَت من الغـرفة ونامت بسواها فستفعلها في كلّ ليلـة، بينما لو نامت بجانِبه وإن كانت مرغمـة فستمضي بقيّة الليـالي بهذهِ الوتيرة حتى دون أن يرغمها أو يضطر لغلق البـاب .. سيكون أمرًا لا فرار منه.
أغمَضت عينيها بقوّةٍ ما إن فتـح بـاب الحمـام ، لكنّها فجأةً فتحتهما وهي تشدُّ على أسنانِها بقهر .. وإن يكن؟ خرج أم لم يخرج، هزمها أم انتصرت .. لن تخاف منه ولن تستسلم، لن تغمض عينيها هاربـةً فقط لأنّه خرج من الحمـام!!
نظـرت لهُ وهو يجفّف شعره، كانت نظراتها باردة، لكنّها سرعـان ما اشتعلت حين وقعت بِه، شهقت بقوّةٍ وهي تغمضُ عينيها، فهو كان عاري الصـدر ولم يكُن يرتدي سوى بنطالٍ رياضيٍّ أبيـض، سمـع شهقتها وابتسم دون أن يبـالي بمظهرهِ الجريء أمـام زوجته التي لم تكمل حتى أسبوعًا معه ولم يصـلا لمرحلةٍ قد تجعل مظهرهُ أقلّ وقاحـة.
رمـى المنشفـة على الأريكة بإهمـالٍ عابِثٍ ومن ثم تنـاول " تيشيرته " بيدين تدركـان طريقهما بينما عينيه تراقبانِها باستمتـاع، عينيها المغمضتين بإحراج، وجهها المُحمرُّ قليلًا، شفتها السُفلـى والتي تكادُ تمزّقها بأسنانِها الغاضبـة .. يا الله إنّها قريبةٌ منه بالفعل! إنها هُنـا! صغيرته قريبةٌ منه، نامت بجوارِه، شعر بأنفاسها المضطربـة، تتمدّدُ أمامه وتعبيراتها الغاضبـة يراقبـها بعينيه المُشتعلتين .. هل من بعدِ ذلك ترف؟ من بعدِ أنفاسِك يا صغيرتي، من بعدِ هذا الاحمرار الذي يقسمُ بفتكي! هل من بعدِ حضوركِ حضور، ومن بعد هذهِ النشـوةِ أخـرى! هل من بعد قُربك آخرٌ أكثر ترفًا؟ يا عجزي! أن أرآكِ أمـامي بهذهِ الفتنـة ولا أستطيع حتى تقبيلكِ قبلةً تبادلينني فيها بحُب!!
زفـر بغيظٍ وهو يُشيح بنظراتِه عنها، ارتدى " تيشيرته " بفوضويّةٍ وشعره اللولبيُّ ينسـاب بفعلِ البلل، عـاد لينظُر إليها، وببساطةٍ وكأنّه لم يُثِر هذا الجو المليء بالإحراج لها : خلصت .. تقدرين تفتحين عيونك.
فتحت عينيها ببطءٍ حتى وقعت به، رأى نظراتِ الحقدِ بوضوحٍ فيها، ولم يردّ على تلك النظـرات سوى بابتسامةٍ بسيطةٍ وهو يتحرّك نحو الكومدينةِ ليأخذ محفظته ومفتاح سيّارتِه، فتح الدُرجَ ليُخرج مفتـاح الباب الذي أغلقه قبل نومِه ليزداد الحقدُ اشتعالًا في عينيها، ابتعد وهو يشعر بنظراتِها تلك، توجّه نحو البـاب ليفتحه، جـاء صوتُها الغاضب إليه كي يمنعه من الخروج : مشغول مثل كل يوم صح؟ وبتطلع وتتركني بروحي بعَد مثل كل يوم!!
أدارَ رأسـه نحوها ليرمقها باستفزاز : تبيني؟
إلين تُميل فمها باشمئزاز : هذا الناقص.
أدهم بعبث : أجل؟ وش الشيء اللي يخليك تمنعيني من الطلعة؟
إلين " بتنرفز " : والله يا أخي أشوفك تطلع بروحك وأنا أنثبر بالبيت!! طبعًا لا . . يا تنثبر معي يا تاخذني لأهلي وتذلف.
أدهم بنبرةٍ مستفزة : ليه طيب ما يكون فيه خيار نطلع مع بعض؟
إلين بعنف : لبيت أهلي وبس!
أدهم : لا حول ولا قوّة إلا بالله .. الله يجيرني من نفسيات الحريم .. الحين المرة يوم تتزوج تبي زوجها يدلعها تبي تطلع معه بس أنتِ ما أشوف غير الهواش منك والنكد ذا.
إلين بتكشيرة : أيه هذي أنا.
أدهم : نسيت إنه لكل قاعدة شواذ.
إلين : لا نسيتْ إنّ فيه رجاجيل تستحق وفيه رجاجيل لا ..
أدهم يتجاهل كلماتها وهو يبتسم ابتسامةً مُغيظة : عمومًا .. ما كنت بطلعك معي تتمشين أو غيره كان مجرّد اقتراح وبشوفك توافقين أو لا .. طالع للسوبر ماركت اللي جنبنا .. بشتري أغراض البيت الناقصة.
إلين تُريد فقط أن - تجادل - : وتشتري أيش يا ذكي .. ما كتبت لك شيء للحين.
أدهم برفعةِ حاجب : كل يوم أكتشف إنك غبية أكثر وأكثر .. الحين لي شهور عايش بروحي وأدري وش يحتاج البيت بتوقف عليك الحين؟
إلين بغيظ : كنت عايش مع عمتك!
أدهم : من قبل ما كانت موجودة .. حتى وأبوي عايش ما كان تواجده بالبيت كثير!
إلين لا تريد أن تتوقف عن جدالِها : بس كنت عازب .. الحين الوضع اختلف.
أدهم يكتّف ذراعيه بصبر : وأيش اللي اختلف يا مدام؟
إلين بعناد : الحين أنا معك .. أسلوب حياتي ماهو نفسه أسلوب حياتك .. وبعدين لا تنسى إنك عازب .. والعازب يستخدم أمور محصورة باحتياجاته البسيطة.
تأفف بضجرٍ ليقترب منها فجأةً بخفة، شهقت وتراجعت للخلفِ بذعر من هجومِه المفاجئ، لكنّه كان قد وصل إليها ليُمسك بها من عضدها وهو يلفظُ بنفاد صبـر : أقول قومي بس بدلي ملابسك وامشي معي .. ماهو ناقصني كثرة حكي .. بنشتري الأغراض مع بعض ونشوف وش اللي تبينه يا ست نجلاء.
إلين بعنادٍ تحاول سحب عضدها من قبضتِه : اسمي إلين !!
أدهم دون مبالاة : يلا بس بدلي ملابسك بسرعة عشان نطلع ماهو بعيد.
إلين التي لا تريد أن تخرج معه : ما أبغى ..
أدهم بحدة : نجـــــــــــــــــــــــــلاااء!!
إلين بتحدي : ما عندي ملابس .. ناسي إنّك تركتها بالفندق؟ * وكأنها كانت تنتظر الفرصة * وبعدين ترى عندي محاضرات بدرسها ، مستحيل أضيع على نفسي دراستي أكثر بسببك .. الحين تروح تجيبها لي سامع؟
أدهم يرفع حاجبه الأيسر من أمرها الوقحِ هذا : قومي البسي من ملابس عمتي لين ما أجيبها.
إلين بعناد : لا ما أبي كفاية لبست من ملابسها أمس .. وبعدين ترى مقاسها مختلف شوف شلون واسعة!
افرجت ذراعيها لتُريه كيف أن قميص النومِ الطويل واسعٌ ولا يليق بجسدها، ابتسم رغمًا عنه على عفويّةِ حركتها الطفولية، ليردف : ماهي واسعة مرة .. تبالغين عمتي جسمها قريب من جسمك * باستفزاز * وأحلى بكثيييييييييييير.
إلين بحنقٍ أخفضت ذراعيها وهي تنظُر لعينيه بشرر : مو من الذوق تسوي مقارنات بين حريم!
أدهم : والله عاد أنا قلت الصدق ، هي رشيقة وأنتِ معصقلة .. وين وجه المقارنة بالله؟ أصلًا ظلمتها.
إلين بغضب : توك من شوي قايل جسمها قريب من جسمي!
أدهم بضجر : يوووووه أستغفر الله ما تخلصين حكي وجدال أنتِ؟ امشي قدامي يلا بتجين معي رضيتي أو لا . . هذا اللي ناقصني آخر عمري أتعامل مع بزرة!!


،


صحفٌ قديمـة، جـار عليها سنتينِ وأكثـر، تواريخُ تعودُ لبداياتِ 2013، بدايـاتُ موتِه، ونهايـاتِ الكثير، إنجـازات، تطوّر، نجـاح ، كلّ ذلك قـام بِه بينما توارى هو في الأحاديث خلف " رحمه الله " وجسدهُ في بارِيس حيٌّ بينما مشاعره ميّتـة . . نثـر الصحيفةَ بجزعٍ على السرير بعد ما قرأ مانشيت " الدكتور شاهين بن محمد يصعد باسمه بين أفضل أطباء المملكة في طب العيون " .. كل ذلك! النجـاح الذي جاء فجأة، اسمه الذي اعتلى بين الأطبـاء رغم صغر سنّه بينهم، العمليات التي كان ينجزها بنجاح، كل ذلك كان بعد موتِه بوقتٍ ضئيل!! في وقتٍ خارقٍ كان قد وصـل لهذهِ الشهرة، وصـل لهذهِ المكانـة وأكبـر دافعٍ كان أنّه تخلّص منه وضمـن أن تكون أسيـل له !!
نــارٌ تكويه، ألـم، ألمٌ يا شاهين تزرعه في صدري، ألمٌ لا ينفكُّ منـي ولا علاج له، ألم!! . . . شدّ على أسنـانه وهو يخرج آهةٍ من بينها، هذهِ النـار أقسم أنّها لن تنحصر فيّ فقط، سأحرقك، لن أهتم بكونِك أخي، لم أعد أهتم! سأحـرقك بأخذها .. أسيل لي حتى وإن تملّكتها قبلـي . . لن أتراجع ولن أسمـح لقلبي أن يعطف عليك .. فقط لأنك أخي الصغير!!
يُزيح كل تلك الأفكـار، ينسى ، أو يحاول النسيـان .. بأنّ شاهين أخاه! هذهِ الحقيقة هي وحدها ما تؤلمه، وقد تجعله يتراجع في انتقامه، هذهِ الحقيقة هي وحدها ما تُسكن فيهِ التردد ، تجعله لا يكرهه! وكلّما تناسـاه فـاض فيه حقدٌ وكره ، لينقشع فجأةً حين يجول بخاطره " أخي الأصغر ".
لم يكُن يعلـم ، أبدًا .. أن نجاح شاهين كـان دافعـه الألم، من فقدِه، ومن موتِه . . لم يكُن يعلم .. أنّه كـان يستغرق بعملهِ بشدّةٍ كي ينسى أحزانه، في ذاك العـامِ كان قد ضغط على نفسِه بشدة، كان يتألم ويكتم ألمـه بالعمـل .. كان يتناسى أحزانه بذلك ولا يتنـاساه .. لم يكُن يعلم .. أنّ سبب نجاحِ شاهين كان الأخ الأكبر !
طُرِق البـاب فجأة، انتـزعه صوتُه من آلآمِه ، نظـر لهُ بأنفاسٍ متحشرجـة، لم يكُن يريد لأحدٍ أن يتواجد الآن خاصـةً وهو في هذهِ الحـالةِ من عاطفةٍ مغدورةٍ ووعيدُ انتقـام، فُتـح البـاب قبل أن يسمح للطـارق بالدخول، طلَّ عليه عبدالله الذي ابتسم بهدوءٍ وهو يُغلـق البـاب من ورائه، وبهدوء : ما شاء الله عليك .. دايم أحصلك صاحي بهالوقت.
ابتسم ببهوتٍ دون أن يرد، جلس عبدالله في مقعدٍ متطرّفٍ وهو يلفظ : شلونك اليوم؟
متعب يبتسمُ بسخرية ليهتف : مثل كل يوم.
سقطَت أنظـار عبدالله على الصحفِ المتنـاثرةِ على السرير، نظـر نحوه وهو يدرك أنّها قديمـةٌ من هيئتها المُهترئة ، وبشك : من وين جايبها؟
متعب بجمودٍ يجلس على السرير : واحد من رجالك اللي يطل علي كل يوم وكأني بزر طلبتها منه .. من حسن حظي إنه يحتفظ بالجرائد القديمة وأول ما قلت له حاول تدبر لي كم وحدة من 2013 قال إنه يحتفظ فيها.
عبدالله باستنكـار : طلبتها كذا بدون هدف؟ قلت له جيب وبس؟
متعب وقد أدرك أن ذكاءَ عبدالله لم يجعله يفوّت تلك النقطة، هتف بجمود : أكيد لا.
عبدالله يقف بهدوء : طلبته يجيب لك أي أخبـار بالضبط؟
لم يردّ عليه وهو يرى عبدالله قد وصل للسرير، رفـع إحدى الصحف لتسقط أحداقه مباشرةً على اسم شاهين يترأس صفحةً ما، بهتَت ملامحه قليلًا، ومن ثمّ أدار رأسه إليه بصمت، بينما أشـاح متعب نظراته دون مبالاة.
ظلّ للحظتين ينظُر لهُ دون أن ينبس بكلمـة، لكنّه ابتـسم فجأة، أعـاد الصحيفة ليلفظ ببساطـة : الحلو إنك تحبه .. هذا بيخلي ضميري يرتـاح شوي .. أقلها موضوع زوجتك يتبسّط ولو بنسبة بسيطة.
عضّ زاويـة فمِه بغيظ، كتّف ذراعيه دون ردٍّ بينما أردف عبدالله بابتسامة : إذا تحبه ماراح تضحي بعلاقتكم عشان زواجـه .. كل شيء له حل، والمرة بدالها مليون وحدة .. بس أخوك لا.
تشنّج عنقه، وأظلمَت عينـاه وهو ينظُر للفراغِ دون هدى، لا أحـد يُدرك كلّ أوجـاعه، لا أحـد سيدرك كيف عانـى، كلّهم يُدركون قطرةً من " غيث "، غيثٌ يا الله! حتى أدهـم، لم يكن يدرك شيئًا قبـل ميونخ، لم يدرك كيف انتشـر السم في جسدي، لم يدرك لمَ حدثَ لي كلّ ذلك " تفصيلًا "، لم يُدرك سوى الحريق وأنّني أحيا في خطر، غدرَ أخِي .. بينما غاب عنـه الكثير ولم أُخبـره .. لا أحـد أبدًا .. سيعيش ما في صدري .. حتى هذا الذي أمـامي ورغم مركزِه لم يعلم أنّ لشاهين يدٌ في كل ذلك . . . هل أخبره الآن وأنتقم؟! أفضحه ليصبح مطلوبًا قانونيًا و . . . ابتلع ريقه بصعوبـة، ما الذي يجعله ينتظر؟ فليخبره الآن، فليخبره وينتهي! يجعله يقف خلف القضبـان، ليزوره في يومٍ ما ، ويقول له " أخذتها، أعدتها لي من جديد "، فيحترق !!
أُخرس لسانه، عينيهِ أظلمتـا أكثر وقلبه أوجعهُ أكثر! لمَ يتألّم هذا القلب الآن؟ ألأنّي الأخ الأكبـر، ولطالمـا كان الأخ الأكبر ملاذًا يحمي .. وليس بيتًا تهالك من الحروب .. لكنّني تهالكتّ، أنا فعلًا " متهالك " وكان شاهين الصاروخ الذي قصفَ ثباتي .. لمَ أتردد؟ أوليس أدهم دفعنِي لمقابلته كي أكرهه .. وكرهته؟! فلمَ أتردد الآن؟!!
لم يجِد منه عبدالله جوابًا، حينها تنهّد دون أن يفقد ابتسامتـه، تحرّك ينوِي الخروج وهو يلفظ بهدوء : فكّر بكلامي .. وفكر بالظروف اللي أوصلتك لهنا .. أخوك تزوجها وهو ما يدري عن شيء .. ما كان متعمد فلا تخسره .. شرعًا زواجه فيها ما فيه خطأ ولاهي علاقته فيها حرام .. اتركها له .. تقدر تلغي عقد زواجه ببساطة بس الأفضل تتركها له وتبدأ من جديد .. أخوك أهم.
يقولها وهو لا يدرك أنّه يشعل النيران أكثـر، يقولها وهو لا يدرك كيف يجعله يتألّم أكثـر، لا يدري أنّه ضائع .. حبيبته التي شعر بالنفور منها فطريًا ، " عافها "، لكنّه لازال يحترق كلّما فكّر بزواج شاهين بها! كلّما ارتحل بعقله إليهما، ليجد نفسه رغمًا عنه يتخيّل صورًا تقتله ، رغمًا عنـه لا يستطيع كبح عقله المتألم من كلّ جهة .. من أخيه، من اشتياقِه لأمه .. ومن فقدِه لحبيبته.
خـرج عبدالله بعد كلماتِه .. ليتركه من خلفه .. يشتعل ألمًا وحقدًا.


،


تمرُّ أيـامٌ قليلـة ليجيء صباحُها أسودًا .. سماؤهـا باهتـة، شمسُها يتقطّعُ نورُها، يجيء النهـار .. ولا يُسعفهُ ضوء، هذا الضوء انحسـر في إحدى الليـالي وغابَ بطُغيانِ ظلامِها، الوجَعُ يسرِي في أوردِتها .. تفركُ ذراعـها بخيبـة، تشعُر بالخـواءِ والظـلامُ يتغلغلُ روحها بينمـا صوتُها يجيبُ الجالسـة أمـامها بخفوتٍ مُعذّب، بصوتٍ منكسِر/مُنشطِر : حاسّة إني أكبر خسرانة بهالحيـاة! .. متضايقة .. كل اللي أحبهم خسرتهم! كلهم .. وإن كان البعض منهم خسرتهم ورجعوا .. بس يكفي إنّي خسرتهم بوقت! ويمكن ما تكون الرجعـة مثل قبل ! يمكن تغيرت أشياء كثييييييييير .. ما أدري ، بس حيييل أحس إنّي ضعيفة!
ابتسـامةٌ ناعِمةٌ رقيقة زيّنت ثغـر الطبيبـةِ أمامها، تمدُّ كفّها لتضعها على كفِّ جيهان الموضوعةِ على فخذِها بانكسـار، تضغطُ عليها وهي تلفظُ برقّة : شايفة يدي؟ شلُون تمسك كفّك مع إنّي ما عرفتك غير من يومين بس! أنا أسـاعد .. مو لأنّي طبيبة وبس! أحسْ فيك حتى لو ما تخصيني بشكل مباشر .. فشلون باللي تحبينهم؟ تقولين رجعوا لِك؟ وش اللي يخلِي رجعتهم ماهي مثل قبل؟ هم يحبونك .. وبيحسون فيك أكثر منّي .. تواجدي جنبك ماهو من حبهم .. فليه يائسة من جهتهم؟
ابتلعت ريقَها، سحبَت كفّها بنفُور، تستجيبُ لها في لحظةِ ضعف، لتجد نفسها دون شعورٍ في لحظـةٍ أخـرى تبتعد، لا تريد أن تشعر بها طبيبة! لا تريد أن يأتِيها العطفُ من غربـاء! تريد والدها، أرجوان، أمها، فواز! تريد من تحبّ فقط .. من تحب وخسرت! وليست غريبـة .. تريد الأسبـاب التي جلّبت إليها هذا الداء، انكسـارها الآن لا يجبره أيّ أحـد، لا يجبـره أيّ أحد! انكسـارها الآن تضاعـف .. حين وجدَت أنّها من كـان المُخطِئ منذُ البداية .. كانت المُخطئة! ارتحلَت بكبرياءٍ زائفٍ وعقوق، خسرت والدها، ومن ثمّ خسرت فواز بطريقةٍ شنيعة! لم يكُن منزّهًا عن كلّ شيء، كـان هو مُخطئًا أيضًا .. لكنّها اخطأت أكثر! لمَ تزوّج؟ بالتأكيد بسببها، بالتأكيد لنقصِها، بالتأكيد لأنها لا تُجيد سوى إلحـاق الضررِ به وبسواه، لأنَها لم تحـاول أن تُنجـح أمرهما منذ البدايـة .. هي السبب في نفور الكل من حولِها! هي السبب!!
ظهـرت على عينيها علاماتُ الغـرق في سوداويّةِ أفكـارها، تغرق أكثر، تغـرق .. وتجدُ في كلّ مرةٍ أنّها تختنق أكثـر كلما اقتربت من القـاع .. القـاع لازال بعيدًا، لكنها ستصِله ، ستصِله حتمًا!
جـاءها صوتُ الطبيبـة ليجتذبها من غرقِها لوهلةٍ ترتشفُ فيها " نفَسًا " : شايفة أبوك؟
تحرّكت أحداقُ جيهان ببهوتٍ لتتّجـه للجهةِ التي تُشِير لها بعينيها، كـان يوسف يظهرُ لهما من خلفِ الجزء الزجـاجيّ من البـاب، يجلسُ ومعهُ أختيها ككلّ يومٍ منذ بدأت تأتي هنـا . . أردفت الطبيبـة بابتسامة : تدرين ليه دايم يوقف قريب منك؟
جيهان دون أن تشيح عينيها عن يوسف : ينتظرنِي.
الطبيبة : بالساعـــــــات! ما يهمه طوّلتِ عندي أو لا .. المهم ينتظر وبس! واضِح من عيونه خايِف عليه ومحاتيك .. مثل هالاهتمـام بتظنين إنه للحظـة بيخف؟
جيهان بغصّة : أوجعتـه كثييير!
الطبيبة : مثل ما توجعين نفسك الحين؟
نظـرت جيهان نحو الطبيبـة بأسى وهي تُجيبها بنبرةٍ ميّتة : أكثـر.
الطبيـة : يعني ذقتِ أكثر من وجعك فيه؟ طيب تعظّمين اللي فيك ليه؟ تكبرينه وهو ولا شيء!
جيهان : ماهو ولا شيء!
الطبيبة : أنتِ اللي تصنعينه! وكل شيء احنا نصنعه ما كـان موجود .. ونقدر نرجعه لطبيعته .. ولا شيء!
جيهان : واللي خسرتَه؟
الطبيبـة : مو كل شيء بالدنيـا لِك .. تصالحي مع هالفكـرة .. مو كل شيء راح منّا كان لازم يكون ملكنا .. أنتِ ما خسرتيه .. هو ما كان لِك أساسًا !!
جيهان تؤذي نفسها أكثر، لمْ يكُن فواز لها! لم يكُن لها !! كيف تستطِع أن تتصـالح مع فكرةٍ كهذه؟ كيف؟ .. همسّت برفض : ما نقدر نخليه يكون لنا بأي حال من الأحوال؟
الطبيبة بابتسامة : معناته ما خسرتيه أصلًا بمفهومك! لو رجـع فهو أصلًا يخصّك .. ما كان فيه شيء اسمه خسارة أصلًا .. هذي هي الحياة ، اللي لك بيكون لك في النهايـة .. واللي ماهو لك كان مجرد عبّارة .. تنقلك من بحر للثانِي .. توريك وش قد هالدنيـا فيها أعاصير، فيها تقلّبـات .. وبتكسبين خبرة من الحياة، بتستفيدين من ركوبك هالعبارة، بس!
صمتت جيهان ولم ترد، أخفضَت رأسها تنظُر لحجرها، كفيها اللتين كانت قد ضمّتهما بصمت، تُشبكهما في صراعٍ يُقـام بحدّةٍ في عقلـها ..
أردفت الطبيبة بابتسامةٍ بشوشةٍ هامسةً بغمـزة : ما عنده سالفـة اللي تركك .. كل هالجمال وما يشوفه؟
رفعَت جيهان رأسها بسرعةٍ لتفغـر فمها وملامحها أجفلت للحظـة، ابتلعت ريقها، وأشاحَت عينيها سريعًا بحرجٍ كونَها فهمت أنّ من خسرتهُ كان " رجُلًا " .. عمّ الصمتُ للحظـاتٍ دون أن تنبسَ بكلمـة، يُسافِر عقلها للبعيد . . للحظـات، لكلمـاتِ غزلٍ بجمالِها، ما كـان أعمـى ، أو رُبّما كان بفعلِ الحب ليراها جميلة! أنتِ مخطئة، مخطئةٌ وجدًا ، كان " يشوف "، شيئًا لا تراه، كان يرى فيها ملامِح ليست لها !!
ارتعشَت شفتيها بعبرةٍ لتنهمِر الكلمـاتُ من بينِ شفتيها دون شعور : كان يقول إنّي جميلة!
الطبيبة بابتسامة : أوووه زين إنّه كان يشوف عدل.
جيهان ببهوت : كان أعمـى أو ما يشوف زين ..
الطبيبة ترفع حاجبيها : ليه؟
جيهان باهتزاز : يقول كثير إنّي حلوة .. المشكلة مانِي حلوة! يقول إنّي أجمـل وحدة بعيونه .. بس ليه تزوّج؟ كـان يكذِب علي .. بس كلام .. وهو في الأساس ما يشوفني بهالجمـال!
الطبيبة : لو كـان صادق فهو ما غِلط .. ولو كان كاذب فهو ما عند سالفـة .. وكونه تزوّج هذا ماهو دليل إنّك شينة .. شحلاتك بس! تهبلين مين قال غير هالحكِي!
عقدت جيهان حاجبيها بضيقٍ وهي تهتفُ باعتراض : مجاملتك باهتة!!
ضحكَت دون أن تستطِيع كبح ضحكتها : مين قال أجامل؟ أنتِ تشوفين نفسك شينة الحين؟ طيب خلني أوضح لك ليه تشوفين نفسك كِذا .. أختك قد قالت مرة أنا حلوة وجلست تمدح بجمالها؟
رفعت جيهان حاجبيها : لا.
الطبيبة : طيب أنتِ تشوفينها حلوة؟
جيهان بتعجب : الحين أنتِ ما تشوفينها حلوة؟
الطبيبة ببساطة : إلا أشوفها وجميلة مرررة بعد .. شايفة كيف هي بعيوننا؟ بينما هي ممكن تناظـر المراية وتشوف إنها .. مممم عادية !
جيهان باستسخاف : مستحييييييل! أحد يكون عنده هالملامح ويشوف نفسه عادي؟
الطبيبة : بداخِلها بتؤمن إنها حلوة .. لأنها مؤمنـة بنفسها وتحب روحها .. بس شكليًا ممكن تتفرج على عمرها وما تجلس تمدح! تدرين ليه؟
جيهان باهتمام : ليه؟
الطبيبة : لأنها متعودة على ملامِحها .. تشوف نفسها عادية لأنها كل مرة تشوفها .. بس غيرها بيشوف إنها حلوة .. والمعظم بيعتاد على ملامحها بعد وقت وماراح يشوفها بنفس الجمال إلا لو لعبتها صح وعرفت شلون تجمّل نفسها أكثـر وأكثر .. أنتِ جميلة! بالنسبة لي أشوفك جميلة بس أنتِ ما تشوفين هالشيء .. وحتى لو قال لك أحد غير هالكـلام بيكون كاذب أو عنده مقومات ثانية عشان يشوف الشخص جميل ... عمره الجمـال ما كان له مقوّم ثابِت .. أنتِ تشوفين أختك جميلة غيرك بيشوفها شينة .. عمرهم النـاس ما اتفقوا على شيء واحد .. فإذا شافك الشخص شينة هذا ماهو دليل! إمّا إنه ما يبي يعترف أو شايف إن الجمـال ثاني، بينما غيره بيشوف إن الجمـال أنتِ ..

انتهـى اللقـاء ، بعد أن تركَ في جعبتـها أثرًا مـا ، تركَ في صدرِها خلجـات، في عقلها قنـاعاتٌ أخـرى ، أو ربما بذرة .. ستكبـر.
أحـاط يُوسف كتفيها بحبٍ وهو يقبّل رأسها بينما عينيه يوجّهها للطبيبةِ وهو يلفظ بامتنـان : شكرًا دكتورة ندى .. عسى بس ما تعبتك بنتي؟
ندى بابتسامةٍ بشوشة : أبد عندك بنت تجنن ما شاء الله .. تستاهل الدلـع وتستاهل تتغلى شوي وأنا بتركها تتغلى وتتدلع براحتها .. حيّاها بأي وقت.
ودّعها شاكرًا لها وخـرجوا من العيـادة، التفت ليان حول جيهان وهي تهتف بشغب : جوعتيني .. بسببك ما أكلت شيء للحين .. بطني يعورني بموت من الجووووووووووووع.
نظـرت لها جيهان مبتسمةً ابتسـامةً باهتَة، خجِلة، كلّمـا خرجَت من العيـادة تبقى صامتـةً لساعاتٍ من تحسّسها بشأنِ هذا الوضع الغير معتـاد، مريضة، مجنونة، أو أيًّا كـان.
أرجوان بابتسامة : يا كبر شرهتك قبل لا نجي كنتِ مفطرة!
ليان بوجوم : طيب جعت .. استاذتي في الروضة كانت تقول البطن يجوع كل ثلاث أو أربع ساعات.
يوسف يضحك : ما شاء الله منتِ مقصرة مجمعة معلومات تساعدك بطوالة اللسان.
أرجوان : كذابة حتى ما كملنا 3 ساعات.
ليان تنظُر لوالدها وتتجاهـل كلمات أرجوان : بابا جوعانة بموووووووووت من الجوع.
يوسف : هههههههههههههههههه طيب حبيبتي كله ولا تموتين .. وش ودك فيه؟
ليـان تقفُ وهي تضعُ يدها على ذقنها مفكرة ليقفوا معها تلقائيًا بينما تهتف هي بأسلوبٍ طفوليٍّ بعد أن استغرقت ثوانِي قليلة في التفكير : مممممم أول شيء آيسكريم .. بعدين باستا.
يوسف برقّة : أبد أبشري من عيوني * نظـر لجيهان ليُردف بحنان * وحبيبتي الكبيرة وش ودها فيه.
جيهان تنظُر نحوه وهي تبتسم، بينما ذراعه لازالت تُحيط كتِفها باهتمـامٍ بالِغ، عينيه كانتا منفذ، لكلّ أحزانِها .. بينما هي كانت سببًا لحُزنها، هل ستقوى على جعلِه يحزن أكثر؟
أجابَت برقّةٍ وهي لا تستطيع مقاومـة الحنـان في عينيه، لا تستطِيع الانصياع لصمتِها : ودي بس أبوسك.
لم تكمِل جملتها حتى كانت قد انحنَت لتطبـع قبلةً على كتِفه، تستنشقُ رائحته التي تُحبّها، وتردف بغصّة : مو - بس -! ودي بعَد أحمد الله عليك .. وأعتذر منك!! وأقول لربي يحفظك .. يحفظك لي يا يبه.
ابتسم، ليشدّ ذراعهُ على كتفها ويعانقها بحنـانٍ مقبلًا رأسها بحب، تكفِيه من هذهِ الدنيـا أن يراها تبتسم، ويرى دمُوع الحزن تخفُّ وطأةً من عينيها .. تبًا للحزن يا ابنتي .. تبًا لهُ إن جاور عينكِ الجميلة ، عينكِ التي لا تضاهيها في عينيّ جمـالٌ هي وعيون أختيك ، تبًا للحُزن يا " جوج " .. تبًا !!


،


بينما في جهةٍ أخـرى، وتحت السمـاء ذاتها، تحت سماء بروكسيل المُظلمة، والتي غـابت زُرقتها خلف الغيوم، خلف الأفكـار التي غلّفت الأحداق بضبابيّتِها ، يدسُّ كفيهِ في جيبيْ معطَفِه وأحداقُه " المتضبّبة " تنظُر عبـر النافِذةِ بينما أفكـاره تذهبُ بعيدًا .. بعيدًا جدًا! تذهبُ ولا تجيء، يُغـادر للريـاض، حيثُ مكـانٍ واحد، يتذكّر الكثير من كلماتِه، لم ينسى ولا كلمة/حرف! ومن ذا الذي ينسى مُصابًا كهذا، مشـاعره كانت غائبـة، لا يدري ما يُريد! من جهةٍ أختـه ومن جهةٍ أخرى عودةُ متعب الذي لم يكُن ميتًا أصلًا!
حرّك وجههُ بعيدًا عن النـافذةِ وهو ينظُر لجنـان التي تسلّحت بالهدوءِ وهي تنفُض بعض الأتربـة عن ملابِس أخيها الصغير، تعقدُ حاجبيها في تفاصيلِ غضبٍ ناعِم، لا ترفـع صوتها بالرغمِ من كونِ عنقها بتشنّجه يريد ذلك، عنقها الذي اختفى عن عينيه بحجابِها الأبيض .. ابتعدَ أخيها عنها بعد أن انتهت من نفضِ بعض الأتربـةِ منه، هرولَ كي يخرج إلى الحديقةِ وينضم لأخويْهِ في اللعِب.
استدارَ ليسندَ ظهرهُ على النافذةِ الموصدَة وهو ينظُر لوجهها الذي وجّهتهُ للأسفـل في تعبيرٍ عميقٍ عن الضيق، وبهدوء : متى راجعين؟
جنان تنهضُ بعد أنْ كـانت تجلسُ على الأرض، جلَست على الكرسي، وبدون أن تنظُر نحوه لفظَت ببهوت : ما أدري . . إذا تبي تطلع محد مانعك عادي ماهي أول مرة يروحون المستشفى ويتركوننا بروحنا.
فواز يهزُّ كتفيْهِ دون اهتمـام : جيت أبـي فارِس .. وبنتظره.
عقدَت جنان حاجبيها بضِيقٍ وهي تنظُر لملامحهِ البـاردةِ وعينيهِ تنظُرانِ بعيدًا : قول إنّك تبي تضغط عليْ وبس! هذا اللي تبيه.
ابتسمَ وهو يوجّه أنظـاره إليها : وليه ما يكون فارِس اللي طلبني أجي وأتقرب منك بهالفرصة؟
جيهان بغيظٍ من تلكَ الفكـرة : ما يسويها.
فواز يغيّر الموضوع وهو يُخفض ذراعيه اللتين يكتفانها، وبتساؤلٍ هادئ : كم مرة أقول ما أبي هالحِجاب قدامِي؟!
أشـاحت وجهها عنـه، كفّها اليُمنـى ارتفعَت لتدلّكَ بِها عضدَها تلقائيًا وهي تسحبُ شفتها السُفلى للداخِل بأسنانِها، تختـار هذهِ المرّةَ أن تتجاهلـه، لكنّه في تلك اللحظـة لم يكُن ليجمُد .. شعـرت بخطواتِه تتحرّك إليها فجأة، فزعَت وهي تنظُر نحوه، بينما انكسَرت المسافـة بينهما ووقفَ أمامها مباشـرة، انكمـش جسدها وهي تُرجع ظهرها للخلفِ وتلتصقُ بظهرِ المقعدِ بينما كفّها تضغطُ بقوّةٍ على عضدِها، شعـرت بِه يمدّ يده، شهقَت دون أن تغادرها حالـة التجمّد تلك، استقرّت كفوفهِ على خديها، وأحداقها تهتزُّ بربكـة، بنظراتٍ منفعلـةٍ معلّقةٍ بعينيه الجامدتين فقط ... كان ، كان يفكُّ حجابها الملتفَّ حول رأسها !!!
لا تدري لمَ لم تستطِيع في تلك اللحظـة أن تعترض، أن تصفعَ كفيْه عنها، تجمّد جسدها بدرجةٍ جعلتها كالدميـة، وفي لحظـاتٍ كـان شعرها البندقيّ الذي تلفّه خلفَ رأسها ينسابُ على ظهرها وحولَ وجهها بفعلِ يدِه التي عبَثت بِه . . أنفاسُها تلطُمه ، كـان يشعر بحرارتِها المعترضة، لكنّه لم يهتمّ لهذا الرفض، وبعـد أن رأى الصورةَ التي أرضتـه استقـام بجسدِه جيدًا وابتسـم برقّةٍ ليلفظ : كـذا أجمل.
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، زفـرت هواءها زفـرةً حارة، زفـرةً مهترئة، وهي تُشيح بعينيها وشفاهُها تبدأ بالرعشـةِ الآن ، شعورٌ بالعريٍّ أصابها، شعورٌ بـارد، والهواءُ يداعبُ شعرها، يتغلغلُ إلى فـروةِ رأسها كعينيه !
وقفَت فجأةً بانفعـالٍ وهي لا تريد أن ترى نظـراته لها كيف تكون ! تحرّكت دون شعورٍ وهي تجمعُ شعرها على أحد كتفيها، بينمـا راقبها هو بصمتٍ وهي تغادر ، دون أن يلفُظ بشيء .. وكأنّ ذنبًا أصابَه فجأةً بعد أن كلماتِه الزائفـةِ تلك! بعد مـا قال وبعد أن سرق نظـرةً لها دون تلك القيود!
لم يمنعها من المغـادرةِ ولم يحاول، بينمـا زفـر صدرهُ وهو يدسُّ كفيهِ في جيوبِه، ويتحرّك حتى يخرج وهو يرفعُ هاتفه كي يتّصل بفارِس.


،


تجـاوز عتباتِ الدرجِ وهو يرتدِي ساعـةَ معصمِه، ينظُر حولَه باحثًا عن طيفِ غزل التي لم يجدها بعد نهوضِه، البيتُ هادئٌ كعـادته، لكنّ ضجيجًا يكاد أنْ لا يكُون يجيئه من المطبـخ، تحرّك نحوه وهو يستنتجُ تلقائيًا أنها تقوم بتجارِبها ككل يومٍ تقريبًا، وقفَ عند البـابِ ليبتسم تلقائيًا ويسند كتفَه على إطـارِ البـابِ بينما صوتُ غزل الغاضِب يخرج لسالِي محذرًا : لا تسوين شيء ! كم مرة أقولك يدّك المصيبة هذي لا تقرب الأكل أنا بسوي كل شيء له.
لتردّ سالِي بامتعاضٍ وكأنها بدأت بالفعلِ تعتـادُ على الوقـاحةِ مع غزل : بعدين هدا بابا سلطـان ..
قاطعتها غزل بغضب : خلاص درينا ماراح يصير له شيء .. طالت ما بقى إلا أنتِ تتحلطمين على أكلي.
سالي بعناد : بس إنتا مافي إعرف.
غزل تتمتم بحنقٍ وهي تُزيحُ الأومليت عن الموقد : وجع يوجعها الوقحة!
دخـل ليُنهِي جدلهما وهو يلفظ بهدوء : وش قاعد يصير هنا؟
استدارَت غزل بسرعةٍ بينما تجمّدت سالِي لوهلةٍ ومن ثمّ تحركَت نحو المغسلـة لتُشغل نفسها بعملٍ مـا، ابتسمَت غزل وهي تتّجـه نحوه وتلفظ : سويت لك الفطور اليوم .. * أردفت بسرعةٍ ما إن ابتسم رغمًا عنه * والله هالمرة حلو والله .. خلاص بديت أضبطها وهالمرة مشيت مثل ماهو مكتوب بالضبط.
سلطـان يتّجـه للخـارجِ وهو يلفظ بتهكّم : ماهو كل مرّة تمشين مثل ماهو مكتوب قدامك!
غزل بامتعـاضٍ وهي تستندُ بكفّها على البابِ بعد أن خرج : لا تصير سامج ما عندك دعم أنت؟
سلطـان يقفُ ومن ثمّ يستدِيرُ إليها وهو يهزّ رأسه بعجز : تجاربك كلها عليْ وما تشوفيني داعِم؟
غزل بلا مبالاة : بيعجبـك هالمرة وبتشكرني.
ابتعدَ دون تعليقٍ وهو يبتسم بصمت، بينمـا عادت غزل للمطبـخِ بحماسٍ تتجاهـل سالِي التي هتفت وهي تراها تصبّ الأومليت في الصينية : ما تبغى يحط دواء بطن جنب هدا سم؟

في الخـارِج ، جلـس أمـام التلفـازِ وهو يقلّب بين البرامِج الصباحيّةِ البـاردة، بالرغمِ من كونِه كان مستعجلًا في الخروج إلا أنه لم يحب أن يكسر حماسِها برفضِ الفطُور، جـاءت بعد دقائق قليلةً لتضعَ الصينية على الطـاولةِ أمامه، اعتدلَت في وقفتها وهي تبتسمُ بحماسٍ وتلفظ : تفضّل الفطـور.
لم يعلّق وهو يضع جهاز التحكّم جانبًا، في حين جلَست بجانِبه تنظُر لهُ بلهفةٍ وهو يشعُر بنظراتِها، وبالرغمِ من كونِ الشكـل كان فظيعًا إلا أنه بدأ يأكـل بكلّ رحـابةِ صدر.
غزل بلهفةٍ بعد أن ابتلع أول لقمـة : هاه!
سلطـان ينظُر نحوها وهو يُميل بفمِه قليلًا، وبانزعاج : وبتظلين كل يوم تراقبيني وأنا آكل؟
غزل دون اهتمـامٍ بالرغمِ من كونِه أخبرها أكثـر من مرةٍ أنّه لا يحب هذهِ المراقبـة في الوقتِ الذي يأكل فيه وأنّ ذلك غير لائق : بشّر بس.
سلطان يرفع حاجبه : عـادي .. سامج مافيه ملح .. والبهارات مكثرتها.
ظهـر الإحبـاط على ملامِحها وتلاشَت اللهفـة والابتسامَة التي كانت تنطُقها من شفتيها، امتعضَت وهي تقفُ وتتأفف بقهر، ذهبَت للمطبـخ لتجد سالِي لا تزال فيه، وبحنقٍ تفرّغ فشلها فيها : أنتِ السبب .. صدعتيني وما خليتيني أركز من شوشرتك ..
تجاهلتها سالِي ، كلّ مرةٍ تفشل تأتِي وتضع اللومَ عليها .. تحرّكت غزل بحنقٍ وقهرٍ باتجاه الثلاجـة لتفتحها وتتناول المـاء وهي تتمتم بعبرة : طيب ليه ما يجامل؟ وش ذي الصراحة اووووفف.
جلَست على أقربِ كرسيٍّ وهي تتمتم بكلماتٍ مـا وتتذمّر، مرّت دقائق قليلـةً قبل أن يصِل إليها صوتُ سلطـان من عندِ البـاب، يلفظ اسمها بنبرتِه التي تحبّ وبهذا الصوتِ الذي يدغدغُ صدرها المقهور . . نهضَت من الكرسيِّ بمزاجٍ ضيّقٍ لتخرج من المطبـخ وما إن اصتدمَت عينـاها بِه حتى لفظَت بتذمّر : ما أمداه بطنك يعورك فلا تكذب.
لم يستطِع أن يكبـح بسمتَه، قطـع آخر الخطواتِ التي لم تقطعها بينهما ولم تُبتـر، وقف أمـامها مباشَرة، بينما امتدّت كفّه اليُمنـى ليُمسك معصم يدِها، عقدت حاجبيها باستغرابٍ والربكـةُ تصيبُ جسدها، قدمها اليُسرى تراجعت خطوةً للخلفِ بخجلٍ مستنكرٍ وهي تهمس ببحّة : سلطان . . .
قاطعها حين رفَع كفها، جعلها تنبسطُ بيدِه الاخـرى، ومن ثمّ لامَس بشفتيهِ باطِنها، قبلةً عميقةً شعرت أنّها تتسلل بتيارٍ قويٍّ عبـر أعصابِها وصولًا إلى قلبها مبـاشرة، تحشرجَت أنفاسها بينما أخفض كفّها وهي تنظُر لوجههِ ببهوت .. نظـر لعينيها ليبتسم ويلفظ بنبرةٍ تشطُر الثبـات فيها : تسلم يدك .. هالمـرة كان حلو ولا هو سامج ولا شيء .. بس حبيت أستفزّك.
فغـرت فمها و " كلّها " يضيعُ في عينيه، يسلبها بمهارة، يسلبها أكثـر مما فعـل، تضِيع أكثـر ، بعينيه وصوتِه وملمسِ كفّه .. هذهِ الكفُّ التي تُمسك بمعصمِها الآن .. كيف قد تمتلك القوّة على الثبـات؟ كيف وهي التي لا حول ولا قوّة لها أمام عينيه؟ هذهِ العيون بحـر .. يُغـرقني كلّما تعمّقتُ فيه، هذهِ العيون سمـاء! سمـاءٌ تمتدُّ ولا تنتهي، لا تنتهي يا سلطان فكيف أنتهِي أنـا من بهوتِ " الحب " هذا؟ كيف وأنتَ تمنعُ منّي الثبـات وتقتله؟
انحنى بوجههِ إليها أكثر، أتبع قبلة كفّها بأخـرى لوجنتها، وكأنّ حرارةَ الكفِّ لم تنطفئ حتى يُتبعها بأخـرى ، حممْ، وليست حرارةً فقط، حين يكون قلبها بهذا الاضطرابِ الآن لا يكون واللهِ مجرّد نـار! . . تراجعَت للخلفِ وحمرةُ الخجلِ تكسوها، يده التي تُمسك بمعصها تركتها، بينما ابتـسم بخبثٍ وهو يلفظ : تصيرين أجمـل لما تستحين ..
غزل بربكةٍ تُزيح خصلاتِ شعرها الساقطـة على جبينها، وبرجفةِ صوتِها " الهائم " في كلمـة - أجمل - لفظَت : تتعمد تحرجني!
سلطـان : ماراح أقول أنك تصيرين أجمل مرة ثانية لا تحاولين.
شتت عينيها بحرجٍ و " فشلة " ولم تنطُق بشيء .. بينما صخب سلطـان بضحكةٍ وهو يضعُ كفّه على شعرها ويداعبه باستفزاز : ولا عاد تراقبيني وأنا آكل ... مو من الذوق.
ابتعـد بعد كلمـاتِه تلك عنها، راقبتـه بصمتٍ مُبتسمٍ وهو يتلاشى بصورتِه عن عينيها دون أن يغـادر فكرها، حضورُه بقيَ في قلبِها الذي بقيَ ينبُض بشدّة، بقيَ يهتفُ بأحرف اسمـه دون أن ينصفه! لا شيء فيها ينصفُ تكامـله .. يُنصف هذا الحُب وأنـانيّتها بِه . . . لم تكُن تدرك في تلك اللحظـة أنها كانت تبتسمُ بشعورٍ يجعلها كمن يطيرُ فوق الغيُوم، تحرّك أطـرافَ أصابِعها في باطِن كفّها الذي قبّلـه .. لكنّ صوتَ ساِلي جـاءها فجأةً هاتفـةً بجرأةٍ أقرب للوقاحـة : شلون شيطان وِذ أنجل؟

يُتبــع . .

كَيــدْ 28-06-16 10:03 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





،


تصدُّ عنـه بقسوة، قالتها وعملت بما قالـت ، كانت قد أقسمت إن لم يعدها خلالَ يومٍ لن تحدّثـه، لم يفكّر كثيرًا بكلمـاتها لأنّه ظنّه مجـردَ تهديد، لكنّه لم يكُن تهديدًا وحسب .. فها هي تتجاهلـه، لا يسمـع صوتها، حتى اهتمـامه بها نظرًا لكونِ أسيل هنا تعترضُ عليه.
وقفَ خلفَ بابِ غرفتها وهو يشعر أنّ جبلًا يحطُّ على ظهرِه، يحمِل ثقلًا فوق قوّته، هوَ بشر! وكونه رجلًا لا يعنِي أنّه يستطيع حملّ أيّ ثقل .. ضائع ، تائـه .. لأيامٍ يعقدُ فيها قراراتٍ ويحاول أن يثبُت ولو قليلًا، يحـاول أن ينتزع ضيـاعه من تلك الحقيقة، يحـاول أن يستعيد ولو جزءً قليلًا من ثباتِه حتى يحلّ القليل ممّا عُقِد .. كنّا حبـالًا أربـع ، تجانَست مع بعضِها وتعقدت دون فكـاك ، هذهِ الاحتكاكاتُ تؤذينـا، تجرحُ جلدنـا الموؤدَ بسخطِ الأيـام، يتساقطُ علينـا غبـار الغلبـةِ ولا نقوى على بتِر هذا الضعفِ منا، الضيـاع يا متعب! الضيـاع هو أكثـر ما يقتلنا ، هذا الضيـاع الذي جاء من الزيف .. يريحني ولو قليلًا أنّ أكثـر من يؤذَى منّا في هذهِ اللحظـاتِ هو أنا ، أن أتحمّل غضبك وحقدك، وغضب أمّي، وذنبَ أسيل .. يريحني أنْ لا يستلمَ العبء أحدٌ منكم غيري، أنْ أكون التائِه أكثـر، أن لا أتبيّن حقيقةً من بين كل الحقائق التي غابَت عنك ... على الأقل أنت الآن لست ضائع، للأسفِ أنت وجدت نفسك تقفُ أمام عتبةِ غدري .. صدّقت أنّني آذيتك .. وكيف أفعلها؟ أنـا .. من كلِّ من عرفت يا متعب كي عساي أفعلها؟ من قـال أنّك " عرفتني "؟ من قـال أنّ تلك الكلمـة تشمُلنـا؟ أنا وأنت لم نعرف بعضنا في دُنيـا ، أنا وأنت تكوّنـا في رحمِ امرأةٍ واحِدة، ولدنا ونحن ندرك بعضنـا دون بطاقةِ تعارف/هويّة ... فكيف تصدّق أنّ هويتَك تتبدّل؟ وأنّ الأرضَ التي استقمتَ عليها ستهتز، أنّك أيضًا أرضي التي وقفتُ منها على خارِطةِ الحيـاة فكيفَ أحطّمك؟
كنّا حبالًا أربـع .. تجانَست في عُقَد .. يا للأسف! أنا وأنت وأمي ... وأسيل!
رفـع كفّه ليُلامس البـابَ بصمتِ الثبـاتِ في فمِه، الكلمـاتُ تدرك الضيـاع، النبرةُ تتوهُ فوقَ غيومٍ عازبـةٍ عن الريـاح، لم ترضى الحمـل بمطَر! جفافُنـا يجفُّ أكثـر، انشقاقُنا يتشقّقٌ أكثر ، نضيعُ في بؤرةِ الضيـاعِ أكثر .. ونندثرُ من الوجود! هذا الوجود الذي يستقيم على عمـادِ العلاقات، الـدم، اندثَر حين انشطـرت الثقة!
لمْ يقوى على ضربِ البـابِ والحديثِ معها، لم يقوى على حملِ ابتعادٍ أكثر وجفافٍ أكثـر، أن تصدّ عنـه من جديدٍ بينمـا الصدودُ يُدركه جيدًا ... لا يريد المزيد، لا يريد!
تراجـع للخلف، ابتعـد، ودون هدى كـان أيضًا يُغـادِر المنـزل، تجاهَل سيّارته وفضّل المشي في حرارةِ الجو بينما الشمسُ تشرفُ عليهِ من علوٍّ وتنظُر لكآبتـه ، الجفافُ والحرارة، يجتمعان .. فيولّدانِ التهاباتٍ لا تُضمـر.
ما الذي يفعلـه الآن؟ المؤسِف أنّه طيلةَ الساعاتِ التي كـان يفكّر بِها لم يعثـر على منفذ، ضياعه كان أكبـر لذا لم يجد حلًا . . لم يجِد.
أخـرج هاتفهُ من جيبِه وهو يمشي في الحيِّ دون هدى، بحثَ عن رقمِ متعب، لمْ يفكّر كثيرًا وهو يتّصـل كما فعـل كثيرًا فيجِده مغلق! وكأنه لا يفتحه إلا عند الحـاجة ، يهرب من اتّصـاله بطريقةٍ ما! لا يريد سمـاع صوتِه بالتأكيد . . . " آه "! كيف يتحمّل فكـرة أن يلتقِي بِه بعد سنين ، ويحرم منه أيضًا رغم المسافاتِ القريبة، رغم كونِه فوق الأرضِ معه وليس أسفلـها !!
تحرّكت سبابته للخيـارِ الآخـر، وجدَ نفسه تلقائيًا يتّصل بالرجُل الذي - يتّصل - بهما معًا .. بأدهم.


،


دفعتـه بحنقٍ عنهـا بعد أن كـان قد انبطـح جانبها بوقاحةٍ وهي تُذاكر فوق السرير، يتسلّى بهاتِفه متمتّعًا في ذاتِ اللحظـةِ بكفّها التي تحاول دفعـه بغضبٍ وصرختها تدوِي في أذنـه فتوجع طبلته : وخــــر يا ثقل دمّك . .
أدهم دون مبالاةٍ يشير بكفِّه أن تبتعد : قومي وذاكري على المكتب.
إلين بغيظ وهي تزحف مبتعدةً كي لا تُلامس جسده : ما أعرف أذاكر إلا بالسرير.
أدهم ببرودٍ دون أن ينظُر إليها : أها أجل في لحظة غفلة منك ذاكرتي بالأرض ورسبتي.
عضّت شفتها السُفلـى بحنق، لا يتوانى أبدًا عن تذكيرها بذلك كلّما رآها تذاكـر فتصرخ في وجهه " أنت السبب " وتجد فيما بعد أنّ عذرها مثيرٌ للشفقةِ خاصـةً أنها تقولها له! لأدهم دون سواه.
أشاحت وجهها عنه وهي تتنفّسُ بسرعةٍ غاضبـة، بينما جلسَ أدهم وكأنه انتهى من عملِه في إغاظتها، وقفَ حتى يخرج من الغـرفة ويتركها هذهِ المرة لتُكمـل مذاكرتها، وحين خطى خطوةً واحِدة كـان صوتُ رنينِ هاتِفه يتصـاعد، رفعه لعينيه دون أن يتوقف، أمسك مقبضَ البـابِ في اللحظـة التي ارتفعَ فيها حاجبُه وهو يرى أنّ المتصل هو شاهين! والذي لازال رقمه مخزنًا لديه باسم " ليث السعد ".
فتـح البـاب وهو يُميل فمَه بازدراء، ماذا يريد الآن؟ ربّما أن يقول له من جديدٍ أريد رؤية متعب وهذهِ المرة يكون قد خطّط لاغتيـالِه كما يجب! . . أغلـق البـاب بعد أن خـرج، ردّ عليه بجمُود، ومن ثمّ وضـع الهاتف على أذنـه وهو يلفظ باستفزاز : نعم ليث.
وصـل إليه صوتُ أنفـاس شاهين التي خفتت لوهلـة، ومن ثمّ جـاء صوته هادئًا ، باردًا ، برودةً أقـرب للموتْ : أيش اللي مسويه بيننا؟
أدهم بسخرية دون أن يفهمه : نعم!!
شاهين بحدةٍ من بينِ أسنـانِه : أنت اللي خلقْ هالكذب والخداع بيننا؟ أنت اللي صوّرت لعقله إني غدرته!!
تحرّكت أقدامه تتجاوز عتباتِ الدرجِ نزولًا وهو يلفظُ بتنمّر : وين أصرفها هذي؟ كلامك ماله معنى .. وش بتستفيد منه مثلًا؟
شاهين بحقد : أيش أستفيد منه؟ أنت اللي أيش تستفيد من تدمير علاقات بهالشكـل! وش هالحقارة والوضاعـة!
لم يملك تفسيرًا، لم يصلْ سوى لحلٍّ واحـد، وهويّةٍ واحدة .. أن أدهم الذي يرافق متعب هو المُخـادعُ هنـا ، هو المنافقُ وهو الشيطـان الذي وسوسَ لمتعب كلّ ذلك . . فكيف صدّقه؟
ضحكَ أدهـم بصدمةٍ وهو يوسّع عينيه دون تصديق : يا الله كل مرة تثبت لي إنّك منتهي !! ما أدري وش أهدافك هالمـرة .. بس وش هالغبـاء في الأسلوب؟
شاهين باحتقـار : متى عرفته؟ قبل لا يموت موته المزعوم ما مر عليْ اسمك كواحد من ربعه!
أدهم يردّ باستفزاز : عرفته بعد ما قتلته أنت وظنّيت إنك قدرت.
شاهين من بينِ أسنـانه رغم كونِه يدرك كذبة ردّه إلا أنّه يجاريه : في ميونخ؟
أدهم يصحّح له : في باريس .. لقيته صدْفـة وتهاوشنـا أول مرة التقينا فيها .. كان عدائي وكأنّه من العصر الحجري ... يعتقد إنّ كل شخص حوله بيكون مثلك ، بيفكّر يذبحـه.
ارتخَت ملامح شاهِين فجأة، استندَ على الجدارِ الذي توقّفَ سيرهُ عنده، ارتفعَت عينـاه للسمـاء، ينظُر لزرقتها البـاهتةِ ببهوتٍ أكبـر ، لشمسِها الحارقـة فلا يكادُ يلتهمها بعينيه حتى تلتهب أحداقه بالألـمِ ويُشيحها . . " بيفكّر يذبحـه "! ، العــالم كلّه قد " يفكّر " إلا هو لن يفكّر سوى أن يُصبـح درعه، العـالم كلّه، قد ينوِي قتلـه، إلا هو لا يُجيد سوى تضميدِ جراحِه في الحروب . . . لم يشعر بنفسهِ وهو يسأله، لم يشعُر بنفسِه وهو يهمسُ بضيـاع، يرقُّ صوتُه وقلبـه الذي سافـر يتخيّل حالتـه وحيدًا هنـاك : شلون عـاش؟
سؤالٌ تــاهَ من فمِه، " شلون عـاش "؟ كيف! كيف تأقلـم مع الحيـاةِ في غربةٍ وقلـق، في دهاليـز مدينةٍ لا يعرف فيها سوى الغدر! كيف؟
صمتَ أدهم للحظـة، كـان فيها يشدُّ على أسنـانِه ويتنفّسُ منفعلًا! ردّ بصوتٍ أشبـه بصوتِ فحيحِ الأفعـى وهو يجلسُ في إحدى أرائِك الصـالة : عـاش لأنّ ربي كتب له هالشيء ... إنّك ما تربح بنجاستك!
لمَ يُمـاطِل حتى الآن؟ .. سؤالٌ سريعٌ جـال في ذهنِه، لمَ قد يتصنّع أنّه البريء إن كـان لا أحـد في الساحـةِ سواهما، هو بالتأكيد لن يفعلها، فلن يكون سوى أدهم! .. يفهم جيدًا لمَ سيكذبُ ويكمِل خداعه أمام متعب .. لكن لمَ لا يكون واضِحًا معه!!!
عقدَ حاجبيهِ قليلًا، شتت عينيه ينظُر للشارِع الفـارغِ من النـاس، في لحظاتٍ سريعةٍ كـان يُحلل، كـان يفكّ شفراتٍ عديدة، يحلّل صوتَ أدهـم، إن كان يخـدعه أيضًا، أم . . . .
أجفـل قليلًا عند تلك الفكـرة، أفرج شفتيه قيد أنملةٍ وعيونُه تلتمِع بتفسيرٍ مـا ، لتوّه يفكّر أنّه لربمـا سقطَ ثلاثتهم في الخدعـةِ ذاتِها، لربّمـا تلوّثوا بمكرٍ واحِد . . . أن يكون كلّنا أبرياء! أنا من ذنبِ متعب، وأدهم أيضًا!!
مرّر لسانه على شفتيْهِ ببهوت، تنفّسَ بانفعـالٍ بينمـا حدّةُ حنجرته تزدادُ صقلًا، لم يُدرك كلمـات أدهم البـاقية ولم تهتم لهما أذنـاه وهو يُكمِل استفساراته بنبرةٍ متلهفة : ومين ساعده بوقتها؟
أدهم باستهزاء : البابا تبع الكنيسة اللي جنبهم .. قال يا حرام واحد ضايع من أهله شلون يعيش بروحه؟
شاهين يكمِل استفزازه بأسئلته : كنت عايِش معه طول هالوقت؟
أدهم بغضبٍ لم يستطِيع أن يُمسك زمام انفعالاتِه من أسئلته الغبية أو التي يتصنّع فيها الغبـاء على الوجه الصحيح : يا حمــــــــــــار فكني من نهيقك ذا الحين .. على أساس كنت تقابل قريني؟
شاهين : هذا يعني إنه ما كان بالرياض بذاك الوقت .. أجل متى رجع؟
أدهم بزمجرةِ غضب : بعد ما درى إنّك بوقاحـة أخذت زوجتـه يا ****
لم يستطِع أن يكبح لسانه عن تلك الشتيمةِ الشوارعية التي لو أنّ متعب سمعه يلقيه عليه لتشاجرا من جديد، أجفـل شاهين للحظـةٍ من تلك الشتيمةِ البذيئة، زمّ شفتيه بعد أن استوعبها ، ومن ثمّ لفظَ بخفوتٍ حـاد : يشفع لك إنّك اللي ساندته . . . والحين دامه لا أنت ولا أنا اللي حبكنا كل هالمهزلة ... أجل مين؟
أدهم باحتقـار : العصفورة.
شاهين بجديّةٍ وهو يدرك جيدًا في هذهِ اللحظـة أن أدهـم يظنّ بذاتِ القوّةِ وربما أكثـر أنّه هو الذي فعـل كل ذلك : فيه طريقة عشان أكون فيها قدامك صادق؟
أدهم بضجرٍ وهو يريد أن يغلق، ملّ من هذا التمثيل البائس! : موتك بس .. صدقني مافيه شيء بيكون صادق فيك غير الموت.
شاهين : من بعد رجعة متعب حتى الموت ممكن يكون كذبة!
أدهم باستهزاء : لا يا حبيبي فيه فرق .. متعب كان صادق في كل شيء إلا الموت بعكسك.
ابتسم ابتسامةً لم تصِل لعينيه : أفضل شيء إنّه كان كاذب بهالناحيـة . .
أردف بهدوء : تذكر يوم علمتك بقصة أخوي الميت وإدمانـه؟ ردّة فعلك تو أفهمها كويس . . يومتها ظنّيتك تتلاعب معي وتمثل.
أدهم : مين اللي كان يتلاعب أنا والا أنت وقصتك هذي؟
شاهين ولتوّه يدرك تداخـل الحقائق وتشابكها بشكلٍ معقّد، لا أحد سيساعده على تبيّنها أمام متعب سوى أدهم، لا أحد .. لذا عليه أن يكسب ثقته : متعب ما علّمك وش صـار بحياته قبل لا تلتقي فيه بباريس؟ ما قالك ليه راح ميونخ؟
رفع أدهم أحد حاجبيه : ماهي شغلة مهمة طبعًا.
شاهين بثقة : قصة أخوي المدمن كانت حقيقة . . متعب هو اللي عانى منها .. كل التفاصيل اللي ذكرتها كانت مثل ما صـارت .. وهو سافر ميونخ عشان العلاج ، بغى يتعالج بسرّية بعيد عن الريـاض.
انعقـد حاجبيْ أدهـم لوهلـة، لكنّهما سرعـان ما انبسطا وحديث شاهين لا يروقه : كفاية كذب وهالمرة بغباء أكبر!!
شاهين : تقدر تسأله .. الدليل الوحيد لصدقي بهالقصة إنّك تسأله ويرد عليك ما أقدر أقنعك . . بس إعرف شغلة وحدة .. أول ما التقيتك كنت أظن إنّك الشخص اللي تسبب بإدمانه، بعد ما مات كنت حالف آخذ حقه .. بحثت كثييير عن أسمـاء ممكن يكون لها علاقة، وركزت بأسمـاء أطبـاء أكثر شيء .. ما أدري شلون كان اسمك هو اللي حصلته كشخص أقرب يكون هو المجرم ... تذكر سؤالي لك بداية ما عرفتك عن شغلك؟ كنت أظن إنّك طبيب ، وجوابك بأيه يعني إنّ التهمة كانت بتكون أكيدة فيك .. بس كان الجواب لا ، وهالشيء ما كان كافي عشان ينفي عنك التهمة.
لم يجِد من أدهـم سوى الصمت وكأنّ كلامه أبدى فيه القليل من الاهتمـام أو ربما فضولٌ حتى يسمع حبكتـهُ الجديدة، إلا أن شاهين أكمـل : تقرّبت منّك لأني كنت متأكد إنك اللي سببت كل هالضرر فيه ، كنت حاقد عليك .. وبعد ما ظهـر متعب بظنّه إنه أنا اللي ضريته .. كانت فكرتي مباشرة تتجه لك ... إنّك الشخص اللي خلق كل هالقصص بعقله وأقنعته إنه أنـا أخوه اللي ضرّه.
ضيّق أدهم عينيه، وصداعٌ بدأ يتخلخل رأسه من تشابك الأحاديث، انـزعج، لذا لفظ بحدةٍ دون أن يفكر بتحليل كلماته وفكّها حتى يستوعبها : يكفـــــــــــي مهزلة . . .
قاطعه شاهين بثقة : مهزلة ، إيه مهزلة ... شخص دخـل بيني وبينه وصنع كل هالمهزلة! أنـا ما ضريته ، أبدًا ومستحيل أسويها ، ممكن لأنّك ما كان لك أخ ماراح تفهمني ، بس ما يضر أخوه إلا شخص ماهو صاحي!
أدهم بحدة : ومين قال إنّك صاحي؟
شاهين : أنـا اللي أقوله ... وخلّى كلامي كله براسك .. فكّر فيه مرتين وثلاث ، لو كنت اللي ضريته ما تركت فرصة مقابلتي له من كم يوم وذبحته لو كان هذا هدفي!
أدهم بسخرية : على أسـاس كنت بتقدر؟
شاهين : لو كان هذا اللي أبيه كنت بقدر .. شخص يسوي كل هالأمور يعجز عند فرصة سهلة مثل هذي؟ وبعدين نقطـة ثانية مالك صلاح فيها بس بقولها .. مهما كنت إنسان سيء ماراح أرضى على نفسي أرتبط بهالشكل الحقير بإنسانة أدري إنّ زوجها عايش ! ماهي فطـرة هذي .. وماني قذر بهالشكل!!
أردف بحدة : فكّر بكلامي .. خذ وقتك ، ولما تستوعبه وتفكر إنّه امكانيّة تلاعب أحد فينا كلنا واردة .. اتّصل فيني .. اللي سوّى كل هالأمور بمتعب ما يعجز يستخدمني كإسم ... وأنت وضميرك .. فكّر يا أدهم، عشان خويّك أقل شيء ، لأني أدري إن الفكـرة كفكرة توجع .. شلون لو آمنّا فيها وعشناها وصدّقناها؟


،


السابعـةُ ليلًا.
توقّفت سيّارتهُ أمـام المنزل، مُتخمـانِ بالصمت، منهمكـةٌ في حياكةِ هذا الجفـاء، ومستغرقٌ هو في تفكيكِه. استدارَ إليها قبل أن تنزلَ، ظهرها يقابِله، ويدها تمتدّ كامتدادِ هذهِ المسـافةِ بينهما . . لفظَ بهدوء : بجيك الساعة 10.
لتردّ بخفوت : طيب.
نزلَت دون أن تضيفَ كلمـةً أخـرى، بينمـا زفـر سيفْ بصمتٍ ليحرّك السيـارةَ دون أن يسمح لنفسِه أن ينغمسَ في تفكيرٍ موجِع، لن يضجـر، لن يملّ، وسيبقى ينتظـرها بشوق .. في سبيل ثلاث سنينَ قضاها يؤلمها ، في سبِيلِ الكرْبِ الذي لم يُفرجه عنها إلا قريبًا .. قريبًا .. فكيفَ يضجر من أشهرٍ قليلةٍ فقط وهي التي صبرت سنين؟


،


عـادتْ لنمطِ الغـربةِ والظـلام، للنومِ الطويل جدًا، للغيـابِ خلفَ سلبيّاتِ روحِها ، الأفكـار، وهذهِ المرة ذنب! ذنبٌ على مالا تعلـم . . تستلقي على ظهرها ونعومةُ السريرِ تشعر بِبهل خشونةً أسفلها، تعقدُ حاجبيها بضيقٍ وهي تضعُ ساعِدها على جبينها وتُغمضُ عينيها عن ظلامِ الغـرفة، تسقُط في أفكـارها السوداء، ومن بين كلّ السقوطِ تغفل مسامِعها عن صوتِ بابِها الذي فُتِح، لم تشعُر بدخُول ديمـا للغـرفة، نظراتها الجازعـة إليها، اليائسة رغم كونِها لا تراها جيدًا في الظـلام، لـذا فتحَت الأضـواءَ تلقائيًا، وكأنّ النورَ اخترقَ أجفانها وشعرت بِه .. فتحت عينيها تلقائيًا ووجّهتها إلى ديما الواقفـةِ قريبًا من البـاب، عقدَت حاجبيها وهي تجلسُ وتعدّل قميصَ بجامتها، وبخفوتٍ مستنكر : متى جيتي؟
ديمـا ترفعُ حاجبها وهي تقتربُ منها وتلفظُ بازدراء : وببجامتك بعد؟ رجعت حليمة لعادتها القديمة! سلبية وإثارة للشفقة بس!
تغضّنت ملامحها بانزعـاج، أشاحت وجهها عنها وهي تهمسُ بضيقٍ وتتجاهل كلمـاتِها : لا تبالغِين.
ديما بسخرية : أبالغ! هه !! .. الحين مين اللي يبـالغ ! أسيل اصحي على نفسك مو كل ما صار لك شيء تخبيتي بغرفتك وقفلتِ النور وغمضتي عيونك!
أسيل تنظُر لها بأسى : مو عن أبـالغ .. بس أحس إنّي متضايقة هالوقت .. أبي أفكر بروحي شوي وأفهم اللي ما فهمته!
ديما بحدة : وش صار بينكم؟
أسيل بجزع : لا تسألوني! والله العظيم جوابي نفسه ماني كاذبة ما صار شيء وحتى لو صار ما أدري!!
ديما : يعني بالله فجأة كذا بيتركك ويقولك روحي لأهلك!
أسيل تتنهّد بضيق : هذا اللي صار !
ديما بحنق : إذا كنتِ ما سويتي شيء فهو حمـــــــار! ما يستاهل تضايقين نفسك عشانه! دامه رفسك ارفسي اسمه أنتِ بعد لا تكونين مثيرة للشفقة كذا!!
نظرت لها أسيل بصدمـة، لكنّها سرعـان ما ابتلعت ريقها وهي تلفظُ باهتزاز : ماقِد صارت بيينا مشكلة .. دايم كان ، كان متفهم لي! فيمكن أنا الغلطـانـ . .
ديما بغصبٍ صرخت مقاطعةً باقي كلماتِها : يا غبيييييييييية!! يا ويلك والله يا ويلك لو توصلين لهالمرحلة! محد يستاهل تغفرين أخطاءه أو تنسبينها لك .. يا ويلك يا أسيل يا ويلك!!
تنفّست أسيل بانفعـالٍ وهي تنظُر لملامح ديما الغاضبة والتي كانت تقفُ بجانِب السريرِ مباشـرة، تجعّدت ملامحها بألم، لن تفهمها، لا أحـد سيستطيع فهمها لأنها لا تقوى على الشرح! لا تقوى أن تخبرهم ما فعلته بِه وغفر! لا تقوى أن تخبرهم بسوءاتِها وأنها تشكُّ بنفسِها لأنه قالها " لن يغفر ! " لن يغفر لها من جديد، فكيف يتركها دون سببٍ وهو الذي اقترب منها وبقيَ يحبّها رغـم الكثير من أخطائها .. الكثيرِ الذي لا يُمحى بحسنات!
أخفضَت رأسها وهي تمرّر لسانها على شفتيها بحزن، حبسها الانفراديُّ هذهِ المرّة ليسَ ضعفًا، لكنّه ألـم الضمير الذي يجعلها تريد الظـلام حتى تسترجع كلّ لحظاتِهما الأخيرة، سبب ارتباطِ اسم متعب بحديثه لها آخر مرّة ، علاقة متعب بانفصالِهما الصامِت الآن!!
جلّست ديمـا يجانِبها بهدوء، ارتخَت ملامحها وهي تنظُر لأختها التي تصدُّ عنها بصمت، وقلبها الآن وفي لحظـةٍ خاطفـةٍ أوجعها، أن تصِل أختها لمرحلـة لومِ ذاتِها، الانصياع، الانسلاخ، العبـادة! نعم! العبـادةُ لرجل!! هذا ما حلّله عقلـها وتوصّل إليه، أن أسيل وصلت للمرحلـة الخطيرةِ التي بسببها فقدت الكثيرَ من نفسها، أن تنتمي إليه في كلّ شيءٍ حدّ أن تنسلخ من روحِها!
تفسيراتها تلك بنتها على ما فهمت من لومِها لذاتِها دون أن تدرك شيئًا، بنتها على " نفسها "، لأنها وقعت ، ونتائج ذلك جـاءت على مدى طويل .. فقد ، لذاتِها، لطفلها، وحسرة!
بينما كانت أسيل بعيدةٌ عن تلك الفكـرة، فهي تدرك الظروف، الظروف التي تجعل الأسباب ممكنةً في تبنّيها ! . . . لفظَت ديما بخفوتٍ متسائل، سؤالٌ كـان كصفعةِ يدٍّ حديديَةٍ جـاء على وجهِ أسيل كالسيلِ الجارِف : تحبينه؟
بهتتْ ملامحها، وانفرجت شفاهُها بصدمةٍ من ذاك السؤالِ الصـاعق، رفعَت وجهها إليها ببطء، الجـواب لامَس شفتيها ما إن اصتدمَت بملامِح ديمـا بـ " لا "، لكنّهُ فجأةً ارتدَّ لحنجرتها، صمتت، دونَ أن تدرك معنى صمتِها هذا، صمتتْ قهرًا، تحاول دفـع الحرفين .. لكن دون جدوى ، لمَ؟ لا تعلم! . . بينمـا راقبت ديما ملامِحها بصمتٍ لبعضٍ الوقت، عضّت طرف شفتِها، تنهّدت بأسـى، ومن ثمّ هزّت رأسها نفيًا وهي تلفُظ بحسرة : ما توقعت أقولها بيوم .. بس ليتك ظلّيتي على ذكرى متعب! ليتك . .
أسيل برجفةِ شفتيها الشاحبتين : وش قصدك؟
ديما بحدة : قصدي إنّنا وقتها بغيناك تتزوجين عشان تنسينه! تنسينه وتلاقين فرحتك بشاهين!! .. بس * بقهر * بس اللي ما حسبنا حسابه إنّك لما تنسين متعب وتحبين شاهين يطلع الثاني حقيييير!!
رفَعت كفّها المرتعشـة لفمها، وضعتهما على شفتيها لتضغطهما وأحداقها تهتز، أجفانها اتّسعت ... لا ، من قال أنّها نسيته؟ من قـال أنّها أحبّت شاهين ونسيّت متعب؟ مـن قال!!!
وجّدت نفسها دون شعورٍ منها تلفظُ باندفـاعٍ حادٍ تُدافـع عن حبّها الأزلـي لمتعب، متعب ولا أحد سواه، يستحيل أن تنساه، يستحيل!! : ما نسيته! متعب مستحيل أنساه مستحيل!
ديما من بينِ أسنانه : تحبين شاهين طيب؟
أسيل بانفعـال : لاااا .. ما حبيته ما . . .
قاطعتها ديما بغضب : كذّابـة .. تحبينه أدري إنّك تحبينه!
أسيل برعشـةٍ تشعر أنَها تضعف، تراجعت للخلفِ وهي تلفظُ بجزعٍ خافت : مستحيل أنسى متعب !! للحين أحس قلبي ما يبي غيره .. للحين ، للحين أشتاق له وأفكّر فيه كثييير! أتعب وأنا أستغفر، أتعب وأنا بلحظـة أتخيله بـ . . * بغصّةٍ وأولى قطراتِ الدمـع تسقط بذنب * بشاهين !!
شعرت بتجمّد ديما، أغمضَت عينيها الباكيتين عن ملامحِها التي أجفلت، بينما بقيّت ديما تتطلّع بِها دون تصديق ! صمتتْ لوقت، وهذا الصمتُ امتدَّ بينهما، امتدَّ طويلًا ، لا يقطعهُ سوى صوتِ أنفاسِ أسيل المنفعلة بالبكـاء . . .
لفظَت بعد فترةِ صمتٍ دون استيعابٍ وبتشتت : وصلتي لهالحد!! ما أدري وش أقول . . ما أدري!!!
أسيل بلومٍ لا تستطِيع النظـر إليها : أنتم السبب .. قلت لكم ما يصير أتزوجه ! ما أبي أحد من بعد متعب بس أصريتوا عليْ!
ديما تهزُّ رأسها بالنفي وهي تتمتم : بس تمسكين نفسك !! هو وش ذنبه؟ وش ذنبه تكونين بهالحقــ . .
قاطعتها أسيل بانفعال : لا تقولينها !! لا تقولين عني حقيرة والله ماهو بيدي!! * نظرت لها من بين ضبابِ الدموع لتردِف بتبريرٍ واهِن * كان في بداياتي معه .. ما كنت أمسك تخيلاتي على كثر ما أستغفر وأحاول أطرد هالأفكار بس أنا انسان ! . . بس ، بس والله خلاص من فترة طويلة صرت أشوف شاهين وبس! ما صار بعيوني متعب ولا صرت أتخيله هو كل ما حسيت إنّي بنفر منه!
ديما بغصّةٍ لم تعلَم لمَ اغتالَت حنجرتها، ربّما شعرت هي الأخرى بالذنب نحو شاهين، شعرت كم ظُلم بأختها التي حُفِر في قلبها اسم آخر . . : يعني حبيتيه؟
أسيل تهزُّ رأسها بالنفي : متعب . . .
قاطعتها ديما بتأكيد : حبيتيه .. أو بديتِ تحبينه .. بس له بقلبك مشاعر والا ما وقفتِ تخيلاتك الحمارة ذي وبديتِ تشوفينه هو.
أسيل تبتلعُ ريقها من ملامحِ ديما التي اشتدّت بغضبٍ وهي تلفظ " تخيلاتك الحمار " ، وبضيـاع : مشاعر احترام ومعزة بس.
ديما بسخرية : احترام! أنتِ خليتي فيها احترام؟
أسيل بعبرة : غصب عني !
ديما بثقـةٍ تنحنِي نحوها حتى وضعت كفّها على كتِفها : ماهي مشاعر احترام على قولتك ولا معزة .. أنتِ بديتي تحبينه ، وشوي شوي كان حبْ متعب بيروح ويظل كذكرى حلوة وبس! الظروف ما كانت بصفكم ، بس أنتِ صايرة تحبينه ولو ذرة من حبك الأول ، عشان كِذا حاولي تكلمِينه وتشوفين أسباب تركه وتسترجعينه * استقامت لتُردف * كنت بصفّك دامه تركك بدون توضيح، بس بما أنّك قلتِ لي عن سواد وجهك فما أستبعد يكون حسْ فيك أو فضحتي عمرك بطريقة غبية منك .. هالمرة الرجّال اللي مظلوم ، ماهو أنتِ.


،


توقّف عند بابِ المبنـى وابتسم بشكلٍ تلقائيٍّ ما إن رأى ليـان مع يُوسف، ابتسـامته تلك كانت حنينًا، حنينًا لم يشعُر بِه طيلـة فترةِ ابتعـادهِ عنها بعد عقد القرآن رغم لهفته له، ولا طيلة الحيـاة الجافّةِ التي كـانت بينهما .. ربّما لأنه وقتها كـان يدرك أنّها له، مهما ابتعدَ وابتعدَت، اسمها معلّقٌ بِه ، لكن الآن! انفصلت الأحرف التي تجانست، فواز وجيهان، اسمين كـانا يتّحدين بتكوينٍ لم يوجَد على خارطَةِ التفاعلات، لكن ويا للأسف، كـان اتحادهما خطأً منذ البداية، لم يكُن جائزًا في شرعِ التفاعلات، وكـان نتيجتهُ انفجـارًا بالألـم والشوق!
كـان يُمسك بيدِها، يُهزّئها بغضبٍ خافِت، يعقدُ حاجبيهِ بانزعـاج، يهمِسُ بكلمـاتٍ لم يسمعها، بينما ملامح ليـان الطفولية تتجهّم بضجر، وجهها الأبيض، شعرها القصير والبنيّ .. تسرقُ بعضًا من تفاصِيلها، بينما ملامحها كـانت بعيدةً عنها، تشبه أرجوان بعض الشيء، لكنّها تسرق بيـاض الوجهِ وبنيّةِ الشعـر الحريريّ، الاحمـرار الذي يغزو تضاريسها قبل البُكـاء، النبـرة المنفعلـة، السخونة الجارفـة في صوتِها حين الغضب! . . . هل سيراها فيها الآن ويغرقُ بشوقٍ أكثر حدّةً على عينيه؟! على فمِه الملتهبِ بقبلـةٍ قديمة، قديمـةٍ جدًا! لم يعُد يتذكّر متـى كـانت، لم يعد يتذكّر متى قبّلها آخـر مرّة، لكنّ طعـم قبلتها لازال في فمِه، لازال يتذوّقها كلّما فـاضَ بِه الشوق .. نحن العشّاق لا نحتفظ بالزمانِ بحجمِ ما نحتفظُ باللحظـةِ ومذاقِها، نحتفظ بالنظـرات، بالأحاديث، بالقُبـلٍ والعنـاق، لا نتذكّر كلّ الليـالي متى كانت، لا نتذكّر الصبـاح من أيِّ رحمٍ رقميٍّ ولِد، لا نتذكّر - سوانا - ولمسـاتٍ وكلمة!
متى كانت آخرَ مرةٍ عانقتُها؟ هل في تلك الليلـةِ المشؤومة التي قرّرت فيها أن تبتعد؟ أم في المشفى أم أين! .. كم كان التـاريخ! كنّا صباحًا أم مسـاء، كنّا نرتدي الوجعَ أم الغضب، كنّا نغسِل ملابِسَ الشوقِ أم نتناولها من حبالِ اللحظـاتِ وننزعَ عنها مشابِك الكبرياء، كنّا ماذا يا جيهان؟ ماذا غير أنّني عانقتك في لحظةٍ مـا، وقبّلتك، وشعرت بأنفاسِك تلتهمُ بشرتي وتمزّقها.
تحرّك مبتعدًا عن البـاب وهو يبتسم للحـارس الذي كـان ينظُر لهُ مستنكرًا وقوفه وشروده، اتجه ليوسف وليـان في اللحظـة التي استقـامَ بِها وانتبـه له، وبابتسامةٍ هادئة : مسـاء الخير.
نظـر له يوسف بجمودٍ لبعض الوقت، لكنّه سرعـان ما ابتسم له ابتسامةً هادئة وهو يهتف : يا هلا فيك فواز .. شلونك؟
فواز ينحنى نحو ليـان ويداعب شعرها برقّةٍ وهو يجيب : طيّب .. وش مسوّية هالشقية؟
ابتسمت له ليـان ابتسامـةً كرتونية في حين ردّ عليه يوسف وهو يضعُ كفّه على كتفها : على قولتك شقية .. فجأة طلعت من الشقة بدون ما ينتبه لها أحـد وما حصلتها إلا وهي واصلة للبـاب تبي تطلع.
فواز يضحك : أفا .. تنحاشين بروحك؟ وأنـا وين اطلعي لي ونطلع سوى والا ما مليت عيونك؟
ليان تُشير له أن يخفض جسده حتى يكون في مستواها، ضحكَ بصخبٍ وهو يجلسُ القرفصـاء أمامها، حينها اقتربت من أذنه لتهمس وكأنها لا تريد ليوسف أن يسمعها : خلاص بكرا لما يكون بابا نايم بجي لعندك ونطلع سوا.
فواز بتسلية : موعد يعني !! والله طلعتِ منتِ هينة.
يوسف يتنهّد بعجز : فواز ما عليك منها صايرة تحب الطلعة كثير.
فواز يستقيم ويعتدل في وقفته : عادي يا عمي دلّعها طفلة خلها تعيش حياتها.
تنهّد يوسف دون أن يرد عليه، بينما أعـاد فواز نظراته لها وهو يغمز لها بأنّه موافـق، وقد كان وقتها ينوي أن يستأذن عمه ويأخذها بنفسه لا أن يتركها تصعد له، يأخذها بنفسـه ، وبالتأكيد بعيدًا عن بابِهم، ربما هنـا ، أو خارج المبنى، لكنّ الجنون أن يذهب إليهم وهذا انتهى! انتهى منذ انتهيـا .. كيف قد يسعفُ نفسه بثباتٍ إن وقف هناك؟ لربّما تـاه منها عطرها عند البـابِ وحمله على متنِه، لربّما انزلق من أظـافرها طلاءُ وجود، ورآهُ بعينيهِ سرابًا، لربّما سقطَت من فمِها كلمـة، وبقيَت مستلقيةً أمـام البـاب ليسمع صوتَها ما إن يقف خلفه! لن يستطيع، لن يستطيع بالتأكيد وقتها أن يسيطرَ على بؤرةِ الشوق التي ستسحبهُ إليها قسرًا.
نظـر ليوسف وهو يبتلـع ريقَ الحنين/لمعـة عينِه، لم يستطِع أن يمنـع نفسه من سؤالٍ تردّدت شفاهه أن تتحرك لأجلـه، لم يستطِع، وكـانت رحلـة التردد في حياتِها سريعة، سرعان ما مات .. بخفوت : عمي . .
يوسف يبتسم وصوته انتزعه من أفكـارِه ، وبهدوء : سمْ.
فواز بذاتِ النبرةِ الخافتة : جيهان .. * أشـاح عنه ما إن انقلبت ملامح يوسف، ودون ترددٍ أكمل * شلونها مع الدكتورة؟
لم يرى في تلك اللحظة ملامح يوسف التي انفعلت قبل أن يلفظ بنبرةٍ حازمـةٍ جادة : ليه تسأل؟
فواز بتبريرٍ بـاردٍ وهو يوجّه أنظـاره إليه : من باب إنها بنت عمي .. بس!
يوسف بجمود يرسل إليه نظراتٍ محذّرة : على عيني وراسي .. لو بتسأل عن ليان أو حتى أرجوان على عيني وراسي .. بس جيهان خلاص طلّعها من نطـاق اهتمامك.
فواز يعدُ حاجبيه برفض، لكنّه بكبرياءٍ لفظ : فهمتني غلـط .. الأكيد جيهان ما عاد تعني لي شيء غير إنها بنت عمي .. لا تحط في بالك فكرة غير هذي.
يوسف يبتسم بسخرية : شلون ما تعني لك غير بنت عمّك؟ على مين تلعب يا فواز! على نفسك!! أدري وتدري إنت إن هالمكـانة انمحت من تزوجتها، مستحيل تفكّر فيها بيوم وأنت حاط في بالك إنها بنت عمك وبس!
ضيّق عينيه وبانزعاجٍ ليهتف بتمردٍ جريء : وإذا؟!
يوسف بحدةٍ وبعض الغضبِ غزى صوته : وإذا!! أنت مستوعب اللي تقوله؟ ... ما يشفع لك عندي غير إنّ جيهان كانت آخر وحدة غلطت ماهو أنت .. صح تزوجت عليها ، بس كانت هي المخطية بآخر لحظـة ، وهذا اللي لوى ذراعي قدامك.
زمّ فواز شفتيهِ وهو يُشيح وجهه عنه بضيق، يدهُ كانت تعبثُ بشعرِ ليـان التي تراقبهما بفضول، يدرك أنّهما أخطآ في هذهِ الحظـةِ حين تحدّثـا عن جيهان أمامها، لكنّه في لحظةِ غفلةٍ بمشاعِره نسيَها! نسيَ أنّها لربما ركضت بعد ثوانٍ لتخبر جيهان بكلِّ شيء!!
تحرّك يوسف وهو يمسك بيدِ ليـان ليبتعدَ بعد زفـرةِ جزع، بينما بقيَت يدهُ التي كانت تعبثُ بشعرِها معلّقـةً لبعضِ الوقت، شدّ على أسنـانِه فجأة، وهو يرى يوسف يتلاشى دون أن يُسعف لهفته بأخبـارها، هل هي بخير؟ كم مرةً بكَت؟ كم مرّةً تضايقت؟ كم مرةً ضحكَت؟ كم مرةً ابتسمت . . . كم مرةً ، فكّرت بِه !!!

بينما توقّف يوسف ما إن وصـل للبـاب، نظـر لليـان بتحذيرٍ وهو الآخر أدرك خطأه، وبنبرةٍ شدّد بها على كلمـاته : اسمعي حبيبتي .. كل اللي صاااار من شوي لا تعلمين فيه خواتك .. بس أنتِ سمعتيه، والبنت الشاطـرة تكون أسراراها بينها وبين أبوها ما تطلع ، صح؟
هزّت ليـان رأسها بالإيجاب رغم كونِها كانت متحمسَةً لأن تقول لجيهان الحديث الذي دار عنها، تنفّس يوسف بقوّةٍ وهو يمدُّ يده لمقبض البـاب ويدعو الله في نفسِه أن تصمت فعلًا ، بالرغمِ من كونِه يكاد يجزم بالعكس.


،


يمرّر قطنًا معقمًا على جرحِه وهو يشتُم من بين ِ أسنانه بغضب، رمـى الضمـاد الذي لم يكن قد أزاله نهائيًا، ومن ثمّ تنـاول آخر نظيف، يحاول أن يلفّه على كتِفه بعد أن عقّم جرحـه ذاك.
لم يكد يبدأ بلفّهِ حتى سمعَ صوتَ هاتِفه يرن، وضعَ الضمـاد جانبًا ببرود، ومن ثمّ نهضَ عن السرير ليتّجه للتسريحة التي وضع الهاتف عليها، حمَله لينظُر للرقمِ المتّصـل ، عبدالله الذي يتصرّف وكأنّه والده وليس الشخص الذي يُشرف عليه، يقُول له مراتٍ كثيرةٍ أن يبتعد! حتى حين علِم بما حدثَ لهُ آخر مرةٍ سمعَ في نبرتِه الغاضبـةِ قلقًا، هزّأهُ لكنّها أيضًا قـال له " احذر " بطريقةٍ تعنِي ابتعد !!!
لمْ يردّ عليْه، انتظـر حتى انتهى الرنين ومن ثمّ أغـلق الهاتف ووضعه على التسريحـة ببرود، لم يعُد أبدًا يعلـم ما موقعه، لم يعُد يعلم أبدًا لمَ هو هنـا ! ما الذي يخفونه عنه ! ما الذي يخفونه ؟!!


،


صوتُ السـاعةِ وعقاربِها يسحقُ طبلاتِ أذنها، الصمتُ يُشعرها بالانزعـاج، هدوء، هدوءٌ يحفّزُ ثوراتِ عقلها، يحفّزُ سلبيّاتِ ما يجرحُ خلوتها و - سعادتها -! كيفَ يجتمع ملاكٌ مع شيطان؟ قالتها سالي ، كيف يحدثُ ذلك؟ كيف!! لازالت الشيطـان الذي وسوسَ لنفسها هذا الخِداع، لازالت الشيطـان الذي يمارسُ هوايتهُ على ذاتِه، ليؤذي غيره! .. غضبَت، جُنّت ما إن سمعَت ما قالته لها سالِي حدّ أنها هذهِ المرة صرخت بغضبٍ في وجهها : " انقلعـــــــــــــــــــــــــــــي من وجهـــــــــــي يا وقحة ! "، لكنّها للأسفِ لم تكُن تكذب! لم تكُن تبـالغ .. أنا ، غزل، لم أكن سوى شيطان! شيطـانٌ في هيئةِ " غزال "، المخلوقُ الذي يستفزُّ حزن انسـانٍ لا يكون انسان، المخلوق الذي يستثير خيبات غيرِه لا يكون إلا شيطـان، المخلوق الذي يخادع ، يكذب، يُنـافق حتى يصِل لمآربِه لا يكون واللهِ صـالح! أبدًا، لا يكون سوى مخلوقٍ رُجِم من جنّةِ الصفـاتِ ووُعِدَ بالخلودِ في جحيمِ الحُزن ..
هل هي شيطان؟ أم فقط " شغفها حبًا " لتمكُر له! هل هيَ ابليس، أم امرأةُ العزيز؟
انقلبَت على بطنِها وهي تبتلعُ ريقها بغصّة، رغـم فرحتها والسعادةُ التي تتخلخلُ لحظـاتِها معه إلا أن جملةً من سالِي جعلها تسقُط من سماءِ سعادتها لأسفلِ قاعِ الحزنِ والوجَع.
فُتـح البـابُ ووجّهت أنظـارها له لترى سلطـان يدخُل وهو ينزعُ كبكه ويزفُر، شعرَت بغصّتها تتكثّف، بوجهها الكظيمِ يسودُّ أكثـر، شعرت بالذنبِ الذي تقترفهُ بِه، لذا أشاحَت ملامِحها عنه ودفنَت وجهها بالوسـادة . . صوتُ وضعِه لكبكه على التسريحةِ وصل لمسامِعها بخفوتِه، بينما نظـر هو نحوها وهو يفتحُ أزرارَ ثوبِه ويلفظ باستنكـار : نايمة بهالوقت؟
مرّرت لسـانها على شفتيها بربكةٍ وعينيها البائستين لا تقوى النظـر له، تشعُر أنّ أفكـارها كلّها تُرجمَت فيها، لذا لا تقوى على النظـر إليه ليُدرك خداعها، لا تقوى!
همسَت بصوتٍ حاولَت جعله طبيعيًا لكنّه كان متحشرجًا بوضوح : لا بس أحس ظهري يوجعنِي مو أكثر من كذا.
عقدَ سلطـان حاجبيهِ باستغراب، تحرّك كي يتّجه نحوها، وما إن سمعَت صوتَ خطواتِه حتى انكمشَ جسدها وتشبّثت بالوسادةِ بقوّةٍ بأظافِرها، جلسَ من الجهةِ الأخـرى للسرير، امتدّت يده ليقشعرَّ جسدها ما إن شعرت به يضعها على ظهرها ، كـادت تشهقُ في تلك اللحظـة، ولم تعلم كيف منعت تلك الشهقة. بينما لفظَ سلطان بصوتٍ خافتٍ وهو يمسحُ على ظهرها : سلامتك .. من أيش يعورك؟
غزل بربكةٍ تتحرّك لتنقلبَ على جانِبها الأيسر وتواجِه جسده، رفـع يدهُ عنها، بينما لفظَت هي بربكةٍ وهي تعتدلُ وتجلس : لا كان يعورني بس .. تمدّدت وراح.
سلطان : متأكدة يعني خلاص ما تحسين بأي وجع؟
هزّت رأسها بالنفيِ وهي تشعُر بحرقةٍ في حنجرتها، بألمٍ في أضلـع صدرها، تشعرُ بأنّ جبلًا يطئ على كتفيها فرغمًا عنها تنحني! . . اقتربَ منها بحنـان، شعرته فجأةً بكفيه على كتفيها، أعادها للخلفِ برفقٍ حتى استلقت على ظهرها، ملامحه ، عينيه، لمستـه ، كـان حنانها مُبكي! لقلبها الذي نزف، لضميرها الذي استفـاقَ وبشكلٍ قويٍّ هذهِ المرّة ، استفـاق فجأةً بعد أن قرّر أن ينهي مرحلـة الأبوّةِ هذِه، بعد كلمـاتِ سالِي تلك!!
انحنَى ليقبّل جبينها برقّة، يهترئ جسدها أكثـر، تتعفّن هذهِ الخـلايا كلّما انتشر صفير الذنب، أن تنظُر لعينيه المقدّستين وترى كم أنه " ملاك "! مــلاك! كيفَ تلوّثُ هذهِ الهـالة " بها "؟! كيفَ تلوّثُ صفـاءَ حياتِه بها!!
ارتفعَ جسدهُ بعد أن همسَ لها بأن ترتاح، بينما نظراتها المعلّقـةُ بهِ امتنعتْ لوهلة، لم تشعُر بنفسها وهي تمدُّ ذراعيها لتُحيطا عنقه وتمنعه من الابتعـاد .. تفاجأ، لكنّ ملامحه سرعان ما رقّت وهو يلفظ بخفوت : شفيك؟
غزل بهمسٍ مختنق : خايفة!
سلطـان يعقدُ حاجبيه : خايفة من أيش؟
غزل : من موطنِي ..
سلطان دون فهمٍ يكرّر : موطِنك؟
غزل بغصّةٍ تتثاقلُ بحنجرتها، يختنقُ صوتها أكثر، يتلاشى خلفَ الحُزن المتكدّسِ في كلماتِها : أخـاف يثور عليْ بيوم .. أخاف ينبذني !
سلطـان دون أن يطلب منها تفسيرًا وهو يشعر بالشحنات السلبية التي تُثقلها : مـا عاش!
غزل باندفـاعٍ باكي : لا .. أنا فداه !
سلطان يرفعُ كفيْهِ ليضعها على ذراعيها اللتين تطوّقانِه، لامسها برقّةٍ وهو يهمسُ بحنان : شفيك غزالـة؟
عقدَت حاجبيها، ودموعها سقطَت فجأةً ما إن همسَ باسمها المقدّسِ ذاك، اسـم المرأةِ النقيّةِ التي وُلِدَت معه، ليست غزل! ليست غزل المثقلة بالذنوبِ والمعاصي، الكذبِ والنفـاق، ليست غزل! هذهِ غـزالة سلطـان .. التي ارتبطَت بالملاك .. الجزء الأبيضُ منها فقط!!
ابتلعَت ريقها بغصّة، شدّت على عنقِه لينحنِي إلى وجهها أكثـر تلقائيًا، لامسَ بشرةَ وجهها بأنفاسِه، ووجدَت نفسها تندفعُ بألم، بعُمق، وكأن حرارة أنفاسها جعلت مشاعرها تغلي : أحبك .. أحبك . . . أحبك فوق تكويني .. فوق كل الكلام! أحبك ما أقولها لك بلسانِي يا سلطان .. أقولها لك بلسان غزالتك .. بلسان النقيّة! بلسانها هيّ ... لا تتركنِي! لا تنبذني بيوم ، لا تثقلنِي بعدم السمـاح .... لا . . .
قاطعت كلمـاتها بشهقةِ بكاءٍ مختنقة، في اللحظـة ذاتها التي كان يقبّل فيها عينها بشفاهِه وقد أدرك من كانت تقصد بالوطن، أدرك من كـانت تخافـه ، وتخاف نبذه !!
لم يردّ عليها بحنجرته ، كـان ردّه بشفتيه التي قبّلت الدمع من أجفانِها، مسحَت أهدابها، سـارت على أثرِ أقدامِ الدمعـات .. بينما كان صدرها يشهق بشهقاتِ بكاءٍ متباعدة، تشعر بشفتيه اللتين تتبعتا دمعها المـالح ومسحته من خديها ، ومن ثمّ كـانت القبلات الناعمـة تنهـال على ملامحها، تجمّد الوقتُ للحظـات، وجسده يجتذبها إلى جسدهِ أكثر، يطوّق ظهرها بذراعيه .. لتُخرَس كلمـاتها الباقية، وهي تشعر أنّ اقترابَ موطِنها هذهِ المرّة كـان اقترابًا مختلفًا .. يخبرها بهِ أنّه تقبّلها ، تقبّلها له واختار جسدهُ ملاذًا لهـا ، وحضنه وسـادةُ ريش .. رقيقة، دافئة.


،


تضعُ الهاتف على أذنها، تبتسمُ بشوقٍ بينمـا صوتُها المختنِق يلفظُ بحسـرة : يا حبيبي ! وشلونه الحين ليه ما كلّمني؟
من الجهةِ الأخـرى، هديل : لا تحاتينه طيب .. قاعد يتدلّع على امي بس.
ضحكَت إلين بحنين : يحق له بو ياسر جعلني فدا شيباته.
هديل بضحكة : والله لو تشوفين امي ! دايم تسوي فيها الثقيلة بس بهاليومين من يتثاءب بس تركض تقوله وش تبي!
إلين : ههههههههههههههههه يا حليلهم .. وثّقوا اللحظـات بالله أبي أشوف كل شيء.
هديل بحمـاس : أبوي طلع يستحي بعد .. يمه لو تشوفينهم قيس وليلى هههههههههههههه ... * انقطَعت ضحكتها لتتبعها بألم * ااااااي يمه راسي شفيك !!!
عقدَت إلين حاجبيها قليلًا وهي تبتسمُ لصوتِ هالة الذي وصلها غاضبًا بإحراج : مين تكلمين يا مسودة الوجه!
هديل " بتحلطم " : والله إلين تطمني ماراح أعلّم أحد غريب بكناري الحب اللي عندنا.
هالة بغضب : قليلة أدب ... عطيني بس خلني أكلمها.
هديل : مع انه المفروض ما أعطيك جوالي على ضربك لراســ ... اخخخ يمه والله تعور قرصتك!!
ضحكَت إلين بشوقٍ بينمـا وصل إليها صوتُ هالة الحنون : يا حلو هالضحكـة .. اشتقنالها والله شلونك حبيبتي؟
بقيَت علاماتُ الضحكـة في بسمتِها، لفظَت بحب : الحمدلله طيبة شلونك يمه؟
هالة : بخير دامك بخير يا عمري ... بشريني شلونك مع أدهم عسى بس يعاملك زين؟
أمـالت فمها بضيقٍ من ذكراه، تهربُ منه فيتبعها عن طريقِ أفـواه من تُحب، لكنّها للأسفِ لا تستطِيع أن تغيّر الموضوع فتفضح نفسها أو تخبرها بشفافيةٍ أنّها تكره حياتها التي ابتدأت لتوها معه! أجابت بنبرةٍ اعتيـادية : الحمدلله أدهم رجال والنعم فيه.
تنهّدت هالـة براحـة، كثيرًا ما تفكّر بها، تخشـى عليها منه، أن يكون كوالِده ويعاملها كما عامَل امّها - كما تظن - ! . . ابتسمَت بأسى وهي تمِيل برأسها قليلًا، كانت هديل قد ابتعدَت، لذا وجدَت نفسها تهمسُ متسائلةً بصدق : تدرين إنّي أحبك!
إلين بابتسامةٍ شفّافة : أدري.
هالـة : وتعرفين إنّي حتى لو غلطت كانت نيتي بعيدة عن أي سوء!
إلين بعتبٍ رقيق : أنا كل شيء نسيته بس لأنّي أحبـك ... بس يمه أبي أوضح لك شيء ، الليلة اللي حصلتِ فيهل ياسر معاي بغرفتِي كـانت ....
هالة تقاطعها بضيق : يا ليت ما نحكي عن هالسوالف ، خلاص نسينا أو تناسينا .. المهم كل شيء بيننا صار مثل قبل وأفضل.
إلين بإصرار : لا لازم أوضّح لأنه شيء يخصني قبل لا يخص ياسر حتى ! أنتِ فهمتينا غلط! ما كان بيننا شيء بس صار إنّي كنت تقريبًا تعبانة وهو دخـل يتطمّن عليْ .. بس أنتِ فهمتي غلط يومتها وما خليتينا نفسّر لك!!
زفـرت هالـة من الجهةِ الأخرى وصمتت لبعضِ الوقت دون أن تنبسَ بشيء، بينمـا دخـل أدهم للغرفـة في تلك اللحظـة لترتبكَ بسمتُها، لكنّها لم تستطِع أن تقطع حديثها، لذا أردفت بخفوت : عمومًا لا تضايقين عمرك .. أنا خلاص نسيت كل شيء صار وما عاد يهمني.
نظـر لها أدهـم بصمتٍ ليُشيح بأنظـاره ويعود ليبحث في أدراجِ التسريحة عن شيءٍ مـا .. وقفَت بتوتّر ، تشعُر أن الحديثَ ينزلقُ في فمِها فلا تكـادُ ترتّب الكلمات حتى تتلعثـم قبل أن تخرج فتضطرّ للصمت ... خـرجت من الغرفة، بينما لم يهتمّ أدهم في تلك اللحظـة لها، بل ظلّ يبحث عن شيءٍ نسيَه ، ما الذي جعله يدخل الغرفة؟ كـان يريد شيئًا ما لكن ماهو !!!
زمجر من بين أسنانِه بحنقٍ وهو يضعُ كفّه اليُسرى على خصرِه والأخـرى تخلخلَت بأنامِلها شعره .. نظـر في زوايـا الغرفـة بضياع، تلك المكـالمة التهمَت عقله صباحًا وقضمَت الاستيعابَ منه، كلّما استرجعَ كلمـاتِ شاهين نهرَ نفسه وقال " خداع "! لكنّه يعودُ ليستغرق في التفكير من جديد .. لا يستطِيع منع نفسِه من التفكير بأنّ الخـداع قد يكُون فعلًا مضغهم ثلاثتهم ... لا ! من الغبـاءِ أن يقع بهذهِ السهولة، لن يكون غبيًا كمتعب، على الأقـل ذاك كان أخـاه ولم يكُن يتوقّعها منه، لكن من العـار أن يسقط هو، من العـار !!
شدّ على أسنـانه وتحرّك في الغرفـة دون هدى، توقّف فجأةً في المنتصَف ، ومن ثمّ دسّ كفه فجأةً في جيبِ بنطاله البيتي .. ليس لديه سوى متعب ، سيتأكّد أولًا من تلك القصـة ، فهل من الغبـاء أن يسرد لهُ شيئًا عن متعب الذي هو صديقه؟!
بحثَ عن رقمِه من بين الأرقـام ، قرّر أخيرًا أن يسألـه ، أن يبقى في تيهِ المكالمـة نصفها أفضل من كلّها، لذا سيتأكّد من تلك القصّة . . .


،


وقفَ من خلفِها، أخيرًا وجدها تجلسُ في الصالـة ولا تهربُ منه في غرفتها، وضعَ كفيه على كتفيها من الخلف، تنهّد بجزعٍ لينحنِي فجأةً برأسِه ويقبّل رأسها بعمق ، وبرجـاءٍ ناعمٍ يُريد بهِ أن يرقّق قلبها : يمه يا الغـالية ... أجيك من ام شاهين والا ام متعب؟ وش اللي بيضعف قلبك أكثر قدامي وترضين عليْ؟

.

.

.

انــتــهــى

مافيه قفلات صح؟ -> أي هيّن :) **

آند ، موعدنا الجاي ماراح يكون الثلاثاء بما إن العيد بيكون مستقبلنا ، راح يكوت بإذن الله ثاني أيـام عيد الفطر بالليل إذا كتب الله ذلك.


ودمتم بخير يا أعزائي : كَيــدْ !



fadi azar 28-06-16 11:41 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
اتمنى ادهم يصدق شاهين وبتساعد معه حتى ترجع العلاقة الاخوية مع منعب وتتصافى القلوب

كَيــدْ 04-07-16 11:27 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




صَبـاح / مسَاء الخير
كيفكم؟ إن شاء الله تكونون طيبين؟
كنت بنزّل هالتعليق قبل ساعة .. بس بما إنّي أسيرة النعاس وأراجع موقف وأنام لدقائق طويلة هوّنت -> ما أضمن نفسي.
المهم وبما أنّني خلصت ، مفاجئة العيد بشرحها عالسريع

بارتين بينزلون ورى بعض وكلهم طوال ومليئين بالأحداث الدسمة :* لكِن ! اليوم راجعت حساباتي ومع اقتراحـات جميلتين قررت أنزل أول بارت واللي خلصته من يومين ، أما الثاني فرُبّما ينزل بوقته بالضبط أو نهار ثالث العيد - لأنه مليء بشيء مهم ومتعسرة ولادتي فيه - :(
فالفكرة إن المفاجئة راح تكون ببارت هدية - بارت الحين - وبارت العيد بيظل مثل ماهو " بس واحد "
يعني لحظات وينزل لكن الجزء الأول من بارت (76)

قراءة ممتعة ، وكل عام وأنتوا بألف خير ()


كَيــدْ 04-07-16 11:28 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


برجع وأنبّه على نزول هالبارت مع البارت الجاي بموعدنا الأساسي لأنه مثل ما تشوفون كان مفاجئة وأكيد كثير ماراح ينتبهون له.
كان على أساس بارتين ورى بعض مثل ما قلت بتعليقي الأخير وكلهم راح يكونون بدسامة أقوى ، بس نخففها عليكم ممكن ما تركزون مع الأعياد والمناسبات ()


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$


وكل عام وأنتم بألف خير وسعادة، عسى أيامكم كلها فرح وسرور :$ + اللهم احفظ بلاد الحرمين والبلاد العربية والمُسلمة من شرّ الأعداءِ وكيدهم ، ومن شرّ الفتن ما ظهر منها وما بطن. .

بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

هالبيتين يشرح أحد الثنائيات ببارت اليوم، اقتباس الجميلة " العنود ".

ماكان هجرًا ولا كبرًا وليس أذى
أستغفرالله هل أقوى فأؤذيك؟
كانت ظروفًا ثقالًا لو علمت بها
تبكي علي كما أبكي وأبكيك



(76)*1


وقفَ من خلفِها، أخيرًا وجدها تجلسُ في الصالـة ولا تهربُ منه في غرفتها، وضعَ كفيه على كتفيها من الخلف، تنهّد بجزعٍ لينحنِي فجأةً برأسِه ويقبّل رأسها بعمق ، وبرجـاءٍ ناعمٍ يُريد بهِ أن يرقّق قلبها : يمه يا الغـالية ... أجيك من ام شاهين والا ام متعب؟ وش اللي بيضعف قلبك أكثر قدامي وترضين عليْ؟
مرّت ثواني طويلة بعد كلماتِه تلك، لم تُسعفهُ برد، لا تدري أبدًا كيف أنّ تجاهلها الآن أقوى من أن يحتمله قلبي، كيف أنّ صوتها الغائبَ يزيدُ في شراهةِ هذا العذاب، يلتهمني أكثـر ، وأحتـاج من بينِ كل النـاس عينيها الحانيتين الآن! .. لا تدري أبدًا أنّني أنطقهـا وكلّ ما فيّ ينزِف، أنطق " ام متعب " وأنا أشعـر أن هذا الاسمَ يذبحُ صدري بيقينِه أنّني " قابيل " وهو " هابيل " ، أنّني قد أنوِي قتله!
لفّ ذراعيهِ حول كتفيها، انخفضَ ليقبّل رأسها مرّةً أخرى ويهمس بدلال : ام متعب يا عيني .. قدرك كبير عندي، ما كان ودي أكسر كلمتك بس تتوقعين بترك أسيل كذا؟ لعب عيال هو!
بقيّت صامتـةً لوقت، شعَر بارتفـاع صدرها بانفعـالٍ واضح، أدارت رأسها إليهِ ببطءٍ حتى واجهته بملامِحها التي يعشق، بعينيها المتضايقتين الآن، بشفتيها اللتين زمّتهما لتزداد التجاعِيد من حولِهما غضبًا منه، بينما تراجعت ذراعاه قليلًا وهي تلفُظ بصوتٍ لم يسمعه منها منذُ قرّرت هذا الغضب : وممكن تعطيني هالتبرير المقنع عشان تتركها؟
زفرةُ يأسٍ تسللت من بينِ شفاهِه، تحرّكت خطواتُه بتوسّعها ليدور حول الأريكه حتى وصلَ إليها، جلـس بجانِبها وحنجرته لا تملك تبريرًا، ماذا عساني أقول؟ زو .. زوجها حي؟ لم تكُن أرملـةً أصلًا؟! هذا الزواج بُنـيَ على هيئةٍ متلاشيـة، على عمـادٍ هش، قـدرنا كتبَ ذلك يا أمي، قدرنا أراد أن ندخُل في هذهِ الدائـرةِ الموبوءةِ – بعجزي -، ماذا أقول يا أمّي؟ كيف أنطـق بلسانِي آياتِ هذا الفُراق وفي صدريِ حب! كيف أنطُق آياتِ هذا الحب وفي دنيـانا أعـاصير، كيف أرتضيها على نفسِي؟ كيف أرتضيها عليهِ وعليها! كيف لازلتُ أحبها وأكره نفسِي! كيف يحدثُ كلّ هذا وأضيع؟ كيف أفـرح ولا أجيد الفـرح كما يجِب؟ كيفَ يتشتّتُ عن حنجرتِي شكر الله كمـا يجِب؟! أن أسجد سجودَ شكرٍ لعودتِه وأبكي رغـم تعاليمِ الرجولةِ التافهةِ هذه، أن أحمد الله لأنه عـاد! .. كيف أريد كل ذلك ولا أجيده؟ .. ضيـاع ! ضيــاعٌ يبترُ كلَّ شعورٍ حلو، حين تتجانـس الأفراح مع الأحزانِ مرّةً واحِدة .. ما أقسـاهُ من تجانُس ! ما أقسـاه!!
يا صعوبـة هذا النطـق ، أن أنطق " زوجها " بهذهِ اللعثمـةِ وأشعر بذاتِ اللحظـة أنّ قلبـي ينزف، وأنّه سعيد، وأنّه يحتقر ذاته! يا صعوبـة هذا الاختـلاطِ الجائر!
لم يجِد ما يقول، غيـر أنّه اقتربَ منها بلسانٍ أعجمي، القولُ يندثِر، أيّ تبريرٍ يُفصَّلُ الآن ويجعلها لا تغضب؟ أيّ كلمـةٍ هذهِ التي ستجعلها ترضى عنه ولا تضاعفُ عذابه؟ .. ابتلعَ ريقهُ وهو يرفعُ كفه ليضعها على كتفها، ابتسم ابتسامـةً شفافـةً لا تكـادُ ترى، بينما انسابَ صوتُه بنبرةٍ حنونـةٍ إلى مسامِعها : ما تثقين بقراراتي؟ إنّي مستحيل أختـارها من فراغ ومستحيـ . .
عُلا تقاطعـه بنبرةٍ قاسيةٍ جافّة : قول السبب؟
تريدني أن أقتلها الآن والظروف تعاكِسُ فرصـةً أخبرها فيها بهدوءٍ قد تعيه؟ متعب الآن بعيد، بعيدٌ كلّيًا وإن اشتاق لها ! . . حكّ شفتهُ السُفلـى بأسنانِه، بربكةٍ كانت تدركها بعينيها، وبهدوءٍ يقتضبُه : بتفهمين كل شيء يمه بس ماهو الحين! .. الوقت ماهو معنا.
علا تصدُّ عنه : أجل لين يصير الوقت معنا تعـال أحكي معي ..
أغمض عينيه بيأسٍ وهو يرفعُ يدهُ ليضغط بسبابتِه وإبهامِه أعلى أنفِه، وبتنهيدةٍ جازعة : يمه الله يصلحك . . .
نظـرت إليه بحدةٍ لتقاطـع باقي كلماتِه بانفعـالٍ حـاد : الله يصلحني؟ جـاي على هالكبـر تدعي لي بالصلاح وأنا اللي علمتك شلون يكون؟ ، لا كنت غلطانة! من البداية ما كنت صالحـة كفاية عشان أمدّك بتعليم صح والا ما كنت سويت مع بنت النـاس اللي سوّيته! صح يا ولد بطني ما كنت صالحة ، صح عليك.
عقد حاجبيه والأمور تنسابُ من بين أنامِله، فغـر فمه بجزعٍ أمـام غضبها الذي لم يعتدهُ حتى يعرف كيفية التعامـل معه، ما الذي قد يرضيها وهو الذي لا يستطِيع أن يمدّها بالتبرير الذي تريد؟ حتى الكذب لن ينفعه ، ليس هناك كذبـةٌ تستطيع أن تخرجه من هذا كالشعرةِ من العجين، موضوع انفصالِهما لا تكفيه التبريرات وإلا سيكون فيه عينيها الرجُل العابث الذي ترك زوجته ولم يكملا سنةً حتى !!
صمتَ بوجومٍ وهو يشدُّ قبضتيه بينما نهضَت علا وابتعدَت عنه بجفاءٍ وغضب ، أغمـض عينيهِ بقوةٍ وهو يهمسُ باختناق : يا الله ساعدني .. يا الله ساعدني !!


،


أنفـاسٌ مجهدةٌ بالذنب، اضطـراب، ثورانٌ على قدسيّةِ العيُونِ البيضـاء والتي لم يشُب ماءها تلوّث، عينيكَ نهرٌ كيف أجعله " راكدًا "؟ كيفَ أقوى؟ كيفَ أُسقطُ حلقـةَ ذنبي بِه وأصنعُ فيهِ مساحـةً من الطِين الذي لوّثني .. كيف أقوى يا سلطان على ارتضـاءِ هذا الذي أفعله بِك؟ .. شغفِي بِك ما الذي جعله الآن لسعـةً تُلهب بشرتِي؟ غصّة! غصّةٌ أكبـر من أن تحتملها حنجرتي فتصرخ بهذا النحيبِ الصامِت ولمستُك لي بحجمِ ما أتمنـاها صارت عذابًا ، صارت عذابًا في لحظـةٍ خاطفـة ، بعد أن جاءتني تلك العبـارةُ كسيفٍ التهبَ بالسُم ومرّ على ذنوبِي ، أنت ملاكٌ وأنا شيطان، كيفَ أجعلك كفّةَ ميزانٍ ترجحُ بذنبِي، بمعصيتي وحبّي لكَ المعصيـة العُظمى الذي لا أدري ما الكفـارةُ التي وجِدَت لهُ حتـى يُسمـح له بالبسمة ، يؤذيني أنّها لم توجِد! لم توجد أبدًا في خارطةِ الذنوب، حبّي لكَ دوّنَ في خـانةِ الذنوبِ ولم يجاورهُ في خانـة الكفـارةِ كلمة!
كانت تبكي وكأنّ عزيزًا عليها مـات، تبكي وتنتحبُ النحيبَ الذي منعهُ من إثباتِ القبُول، هذهِ القبلاتُ ما إن انهالَت عليها ولمساتُ كفيه حتى وجَدت الأفكـارَ تغزوها بقوّة، المرارةُ تكبـر، والغصّةُ تضخّمت حتى انفجرَت ببكاءٍ مفاجئٍ جعله يبتعد عنها ، قبِل بِي! كان فعلًا قد قبِل بي رغـم ما ظنّه حدَث، أخبـرها في هذهِ اللحظات كم هو لا يناسبُ ببياضِه سوداءَ مِثلها ، أخبـرها بقبولِه أنّها مخلوقٌ نجِس! كيفَ تخدعُ هذا الصفـاء؟ كيف؟
مسحَ على شعرها وهو يجلسُ بجانِبها ويدهُ الأخرى على ظهرها تمسحُ برفق، حـاول أن يجتذبها لصدرِه بحنـانٍ لكنّها صرخَت ببكاءٍ معتـرضٍ وهي تبتعدُ والكلمـاتُ تندفعُ من بين شفتيها برجـاءٍ وذنب : آسفة يا سلطان .. آسفة .. بس ما أقدر .. ما أقدر والله ما أقدر . .
ضاقَت عينـاه وأنفاسُه تتشتّت، ضـاق صدره، وجسدها الذي بدأ ينتفضُ بصورةٍ واضحةٍ أمـامه تقوقع، رفعت قدميها لتُحيط ساقيها بذراعيها وركبتها تُلامس صدرها، دفنَت وجهها في هذا الجُحرِ المُظلـم، تنسكبُ الدموع دون أن تغسِل المذاقَ المرَّ في حنجرتها ، تسقُط قطراتِ غيمةِ عينيها، ولا ترتوي بلؤمٍ أكبـر، أن تكسبه ، ما الذي تفعلينه يا غزل؟ ما الذي تفعلينه؟ .. جاء هذا الصوتُ من جانِبها المظلـم، جاءها من " غزل "، تُخبرها بأن لا تبكي، لمَ تبكين؟ أمـا كُنتِ تتمنينَ لحظـةً يقبل بكِ فيها كزوجة؟ ترتبطان برابطٍ أبدِيٍّ ينتجُ عنه طفـل، يحمل ملامحكِ ويحملُ قلبـه ، هذا الرابِط الذي سيجعلُ البقـاء معه أبديًا .. كيف قد يعلَم؟ يا لغبـائكِ يا " غزالة "! كيف قد يعلم؟ لا تبرير لهذا الخوفِ ، لا تبرير له .. قبِل بكِ فلا تتراجعِي !!
انكمشَت وهي تشعُر بذلك الصوتِ يصرخ ببجاحةٍ داخِلها، لكنّ جزءَها الآخر الذي خلقه فيها سلطـان اعترض .. ليس خوفًا ، هذا الذي أشعر بهِ ليسَ خوفًا ، هذهِ المرارةُ لأنّي أؤذيه، هذهِ المرارةُ لأنّني أمـارسُ ذنوبِي على طُهرِ قلبِه، برغمِ كلِّ ما فعلت إلّا أنني حينَ كدتُ أصِل شعرت بالهاويـةِ التي وقَعت فيها ، في وقتٍ متأخر .. وجدًا !
تجـاهلَ حُزنها تواجدهُ بجانِبها وبكَت فقدها الجديد، أدركت أنّها الآن تفقدُ الشيء الأثمـن الذي اصتدمَ بحياتِها الفارغَة، تفقده ما إن بدأت تحصلُ عليه ، كلّ ذلك لأنها كانت منذ البدايـةِ تسكُن في الظـلام، لأنها لم تكُن المخلـوق السوِيّ، لأنها انجرفَت بطريقةٍ قذرة، لأنها لم تُجِد تهذيبَ ذاتِها، لأنها حمقاء! استسلمَت للحظـاتِ الضعفِ ولم تكُن قويّةً أبدًا، كانت تتصنّع القوّة، لكنّها لم تكُن كذلك إطـلاقًا.
شعرَت بلفحـةِ أنفاسِه تصتدمُ بجبينها، لفّ ذراعهُ حول كتفِها في لحظـةٍ مباغتـة، وحين انتفضَت كي تهربَ منه وهي تهمسُ بـ " لا " راجية كان صوتُه الحازمُ يجيئها بقوّةٍ إلى أذنها : اصصص ولا كلمـة .. لا تخافين مني! كل شيء بيكون برضاك .. أنا معك ماني عليك وأنا طبيبك .. ماهو كان هذا كلامك؟
تقوّسَ فمها بألمٍ والسهـامُ التي تُصيبُ جسدها تزدادُ عددًا، وتزدادُ بأسًا، تضيقُ الإبرةُ أكثـر فلا تقوى على العبُورِ بخيطِ نجـاةٍ منها، كيف تعمّقت كذباتها بهذا الشكل؟ أدركَت من كلمـاته الآن أنّه ظنّها خائفةٌ لمـا حدثَ قبلًا – كما زعمَت – وأنّها لازالت متأثّرةً بِه .. كيفَ عسايَ أرى صورةَ رجلٌ وأنتَ أمامِي يا سلطـان؟ كيفَ عسـاي أفعلها ومن مثلك؟ كلُّ جنسِ الرجـال مندثرٌ وأنت وحدك البـاقي ، لكنّني أجرمت، أجرمتُ حينما كُنت لسواكَ قبلًا ، أجرمتُ بحقِّ ماضيّ وحاضري ومستقبلي !
رفعَت رأسها الذي دُفن بصدرِه، نظـرت لملامِحه الصامتـة والتي كانت تنظُر إليها، ابتسمَت بحُزنٍ مريرٍ وفقد، والدمُوع تغلّف ملامحها، بينما انسابَ صوتُها من بينِ شفتيها مختنقًا : تظن إنّ فيه وجه مقارنة؟ أقدر أتخيّله فيك مثلًا؟ حاشـاك منه ومني ، حاشـاك من كل قذارة يا سلطان ، حاشـاك . . .
سلطـان بحدةٍ يُخرسُ كلمـاتها : إنكتمي ولا كلمـة ثانية.
غزل تمرّر لسانها على شفتيها، همسَت : أدري إنّك معصب الحين ، مقهور ومتضايق بس ما توضّح لـي .. هاوشني يا سلطان ، طلّع حرتك لا تكون بهالشكل معي وأنا ما أستاهل.
سلطـان بحدةِ صوتِه التي أخبرتها بأنّه بالفعلِ يقاومُ انفعالاتِه : يكفّي يا غزل .. سبق وقلت لك هالموضوع ما أبيه يتكرر .. ما أبيه يتكرر !!
غزل بأسى وهي تبتعدُ عنه، تشعرُ بسوئها الذي يجعله الآن يغضبُ لشيء ما كان أبدًا قد حدَث : آسفـة . . بس ، بس ما أقدر! ماهي نيّتي أرفضك بس أنا .. أنا . .
ابتلعت ريقها وصمتت لا تجِد تبريرًا، بالتأكيد لن تُخبره، كيف تقولها له؟ كيف تعترفُ بخداعِها؟ . . ابتسم سلطـان وهو يمسحُ على شعرِها ويلفظُ بصوتٍ حنون جعل مرارةَ حنجرتها تتكثّف : ومين قال إنّي أطـالبك بأمور فوق قدرتك؟ قلت لك يا غزل أنا معك .. ماراح أتخلّى عنّك فلا تحاتين هالنقطـة .. بتلقيني دايِم جنبك . .
تقوّس فمها ودمُوعها تسقُط بمرارة، بحرقةٍ تسلخُ جلدها وتشتّت خلايـاها ، ارتفـع صوتُها بالنحيب، في حينِ دفـن سلطان وجهها في صدرِه ليتبلّل بدمعِها المالح، بينما كان صوتها يهمسُ باختنـاقٍ لتصتدمَ موجاتُه بأضلعِه : آسفة .. آسفة . . .


،


" عفوًا ، إن الرقم الذي طلبته مغلق .. الرجـاء الاتصـال في وقتٍ لاحق "
شدّ على أسنـانِه بحنقٍ وهو يزفُر من بينهما هواءً ساخنًا ملتهبًا بالغيظ، تحرّك نحو السرير ليرمِي هاتفهُ وهو يتمتمُ بعصبية : لا يكون الحمـار زعلان بعد ! أنا أوريه.
تحرّك وهو يمرّر أنامله بين خصلاتِ شعرِه، لا ينقصه اليوم أن لا ينـام كما يجب! أن يبقى يفكّر بِتلك القصّة الآن، هل هو مجنونٌ ليخبرهُ شيئًا لم يحدث وهو يدرك أنّه يستطيع سؤال متعب ببساطة؟ وإن كان حقيقةً، لمَ لم يخبره متعب؟ . . . شدّ قبضتيه وهو يتوعّد متعب إن كان أخفـى عنه ذلك وكان شاهين صادقًا . . لا ليسَ صادقًا! لكن هل هو أحمقٌ ليكذِب بهذهِ الطريقـة؟ .. وإن كان فعلًا صادق، فهل هذا يكفي ليفكّر كما قـال، أنّهم مخدوعين كلّهم؟
لوَى فمهُ وهو يخرجُ من الغـرفة، بحثّت أذناه عن صوتِها تلقائيًا، كـاد ينزلُ إلا أنه سمعَ صوتَ ضحكتِها من إحدَى الغرف، عقدَ حاجبيهِ في بادئ الأمـر، لكنّه سرعـان ما ابتسم، هل سمعَ ضحكتها قبلًا؟ يا لبخلهـا! حتى وإن كانت قد ضحكَت فهو لا يذكُر من حجمِ ما عبَست وبصقَت عليهِ بصوتٍ جـاف.
تحرّك نحوَ الصوتِ وضحكتُها تعزفُ على أذنيه سمفونيّةَ استرخـاءٍ استثنائيـة، محَت من عقلِه شاهين ومتعب لبعض الوقتِ وأذنـاه قادتاه أخيرًا للغـرفـة ذاتِها التي أرادتها لها أول يومٍ جاؤوا إلى هنا ، كشّر تلقائيًا ووقفَ خلفَ البـابِ للحظـة وهو يسمعها تلفُظ بحبور : حشى بالعة ميكرفون أذني يا مال العافيـة . . . . نعم! . . . ههههههههههههههههههههههه لا منتِ صاحية !!
ابتَسمَ من جديدٍ وهو يمدُّ يدهُ ليفتـح البـاب في اللحظـة التي لفظَت فيها بنبرةٍ مُبتسمَة : خلاص عطيني ياسر بكلمـه .. أيه كأنّي في آخر الأرض وش دخلك أنتِ أبي أكلمهم طيب!
انتبهَت لصوتِ البـابِ لترفـع رأسها إليه بربكـة، كـانت تجلسُ على السريرِ والهاتفُ معلّقٌ بأذنها بينما يدُها المحرّرةُ تستقرّ بجانِبها، اصتدمت عيناها بملامِحه المُظلمـة، ارتبكَت أكثـر وهي ترى تلك النظـرة الغريبـة على عينيه، كـانت زواياها جامـدة، وكأنّه لفـظ الحيـاةَ منها . . . فغـرت فمها بضيق بينما ارتفعت يدها المستقرة على السرير، تريد أن تُشير له بأن يذهب، لمَ لحقَ بِها وهي التي هربَت منه كيْ تحدّثهم بأريحيةٍ بعيدًا عنه ولم تبالِي إن كانت حركتها تلك ستكون في عينيه قلّة ذوقٍ أم لا ! . . لكنّ صوتُه انبعثَ فجأةً بجمودِه الحـازم وهو يلفظ كلمـاتٍ باردة : جوعـان .. سوّي لي شيء آكلـه.
عقدَت حاجبيها بربكةٍ وهي تغطّي الهاتِف بكفّها تلك كي لا يصِل إلى هديل صوتُه، وبخفوتٍ وهي تخفضه عن فمها لفظَت بينما رأسها تهزّه بالإيجاب : طيب بس لحظة أكلّم.
أدهم برفضٍ ورغبتها في الحديثِ مع ياسِر تستفزّه رغمًا عنه، يحاول أن يقنع عقله أنه فقط أخاها وأن يطرُدَ كلّ حديثهِ الماضِي مع رقيّة ولكن لا يقدر! : ولا لحظـة .. كم لك تكلمين بذا الجوال؟ وبعدين وش تسوين بهالغرفة؟ يعني قلّة سنع ومسؤولية من جهتين . . * بحدةٍ أردف * قومي واتركي عنك كثرة الحكي اللي ماله فايدة .. وراك زوج.
اتّسعت عينـاها بصدمـة، وصوته الحـاد بالتأكيد كان قد وصـل لهديل التي كانت تتّجه نحو غرفـة ياسِر كي تُعطِه الهاتف، لم تدري ما الذي تفعله الآن، لكنّها ابتلعت ريقها باضطرابٍ وأخفضَت رأسها قليلًا ، في حينِ زارَ التوتّر هديل أيضًا التي " تفشلت "، لتلفظَ بصوتٍ مرتبكٍ مودّع : معليش ليّون ياسِر نايم على غير العادة بخليه يتّصل بكرا.
كانت محاولةً فاشلـةً كي تُغلق دون أن تشعرها بأنها سمعَت، وتلك المحـاولة أشعلت في صدرها نارًا من الغضب، شدّت على أسنـانها بقهرٍ وهي تتنفّس بانفعـال، هتفت بصوتٍ بارد : تمام مع السلامة.
أغلقَت هديل مباشـرة، بينما ارتفعت نظـرات إلين المشتعلة ببطءٍ إليه، نظـرت لعينيه الباردتين، وكفّها تكـاد تحطّم الهاتفَ في تلك اللحظـة، تكادُ بالمعنـى الصحيح أن تقذفه في وجهه! . . لم تكدْ تقومُ بأيٍّ مما فكّرت بهِ حتى تحرّك أدهـم ببرودٍ وكأنّ لا شيء حدَث، خرَج من الغرفـة لتنهضَ بغضبٍ وهي ترمي الهاتف على السرير ومن ثمّ تتبعـه بخطواتٍ منفعلـةٍ وهي تلفظُ بحدة : أدهـــــــــــــــم !!
توقّف أدهم عن السير لتصتدمَ بظهرهِ من انفعالِ خطواتِها القريبـة منه، تراجعَت للخلفِ وهي تشدُّ على أسنـانها، بينما استدارَ إليها أدهـم وهو يبتسم، وسبب غضبـه تلاشى ولو بشكلٍ ضئيل، وببرود : دام هالحركـة بتخليك تناديني باسمي أجل بكرّرها كثير.
زمّت شفتيها بانفعالٍ وهي تشدُّ على قبضتيها وبرودهُ وهو يلفظها أثـار الغضبَ فيها أكثر، وكأنه لم يقُم بشيء! . . صرخَت بقهر : تعقب يا الـ . .
أدهم يقاطعها باسترخاءِ ملامِحه وصوتِه : بدون سب يا حلوتِي.
صرخَت دون مبالاة : يا التيس يا الخســـــــ . .
وأدَ بقيّة شتائمها بكفّه التي ضغطَت على فمها والأخرى على مؤخـرةِ رأسها، اقتربَت ملامحهُ من ملامحها الغاضبـة، عينيها المتّسعتين، بينما كان يبتسمُ ابتسامةً باردة وهو يهمس : لا لا يا حلوتي .. مو كِذا يكون الاحترام!
ارتفَت كفوفها بانفعالٍ تحاول أن تزيح كفّه التي تخنقُ كلمـاتها، عطرُه كان يخترقُ أنفها فكان تنفّسها عبـره صعبًا لمزاحمتِه للأكسجين . . لم تستطِع أن تزيح كفّه القوية، حينها بدأت تضرب صدرهُ وكتفيهِ بانهزامٍ وهي تهمهمُ بقهر، لو أنّها أقسمت ألّا تبكِي لبكَت الآن من شعورها الدامِي بضعفها، لكنْ لا ، لن تُزيد ضعفها الجسديٍّ بحساسيّةٍ تافهة! لذا كانت تضربه باستمرارٍ وتحاول ركلـه وكأنها تحوّلت للبوةٍ شرسة ، حينها ضحكَ أدهم باستمتـاعٍ وهو يلفظ بخفوت : تعجبني قوّتك الكاذبـة هذي ... بس لو تتركين السب وقلّة الأدب!
صرخَت صرخـةً مختنقـة ليضحكَ بصخبٍ ويتركها في تلك اللحظـةِ بعد أن أشفق عليها، ومن شدّة الانفعـال والغضبِ الذي غزاها بِه، لم تشعُر بنفسها وهي ترفعُ ملامحها المحمرّةَ إليه بعد أن تركها مباشرة، تتشنّج شفاهُها قبـل أن تبصقَ بكلّ قوةٍ في وجهه وهي تصرخ : قلة الأدب تعرف مين صاحبها يا وصخ!
تجمّد وجهه بصدمةٍ واتّسعت عينـاه دون استيعابٍ لما فعلت، بينما مرّت الثوانِي بينهما ببطء، تـاركةً الاستيعـاب يجثو إليهما رويدًا رويدًا ، حتى تجمّدت ملامحها هي أيضًا، فغـرت فمها بصدمةٍ وهي ترفعُ كفّها لتضعها على فمها وتتراجع خطوةً للخلفِ وهي ترى ملامحـه كيف تحوّلت بعد وقتٍ لمـلامح ... وحشية !
ابتلعَت ريقها بينما اقتربَ منها خطوةً باردَة وهو يمسحُ وجهه من بصقتها، رغمًا عنها خافَت وكرهت خوفَها منه .. من يكون؟ وما الذي قد يتجرّأ على فعلِه؟ لمَ قد تخـافه في هذهِ اللحظـة؟ ، ما الذي . . .
انقطَعت أفكـارها بشهقتِها لحظـةَ وقوفِه أمامها وتظليلها بجسدِه، لا تفصِل بينهما مسافـةٌ تذكر، التصقَ صدرها بصدرِه حين التفّت ذراعه القاسيـة حول خصرها ليشدّها إليه . . الرعبُ نطـق من وجهها، تنظُر لملامِحه ببهوتٍ وهي تحاول أن تنظّم ضرباتِ قلبها ، كرهَت هذا الخوف، لكنّها لم تستطِع، لم تستطِع أن تسيطر عليه وتواجهه بقوّة! أن تواجـه ملامحه المُخيفـة بنظراتٍ قويّة ، أن تواجه نظرته تلك ببأس! .. لكنّها كما قـال .. قوّتها كاذبة!!
ارتفَعت كفّه ببطء، لامَس خدّها بِه لتنتفضَ وهي تتنفّس بشدةٍ ارتفعَ بِها صدرها، راقبَ ملامحها الباهتـة بخوفٍ وهي تنظُر لوجهه بترقّب، تنتظـر ما الذي سيفعله بها الآن . . ابتسمَت شفاهُه تدريجيًا ابتسامةً كالطيفِ شفافةً تكادُ أن تتلاشى، مسح على خدّها ببطءٍ حتى وصـل لعنقها والقشعريرةُ أصابَت جسدها ، همسَ بصوتٍ لا تعبير فيه : دامِك مو قدها ليه تحطين نفسك بهالمواقف؟
ابتلعَت ريقها بصعوبـةٍ دون أن تشيحَ بنظراتِها عن شفتيه وكأنّها تقرأ الكلمـات بعينيها لا بأذنها ، تنفّست بتحشرجٍ ومن ثمّ رفعَت أحداقها نحو عينيه، وبخفوتٍ مضطرب : وبظل أحط نفسي فيها.
شدّ على خصرها وهو يرفعُ حاجبه الأيسر ويلفظُ بصوتٍ بهِ ملامح الخطـر : للحين تتصنعين القوة؟
إلين بالرغمِ من خوفِها إلا أنها لفظَت : مين قايل لك إن القوة بالضرورة ما يكون معها خوف؟
أدهم بسخريةٍ تلتوي شفاهه بابتسامةٍ ساخـرة : تعترفين إنك خايفة!
إلين وصوتها يخرج مهتزًّا تحاول أن تجلعه ثابتًا : أعترف إنّك حقييييييير.
أدهم بخفوتٍ حاد وهو يعودُ ليمسح على خدها إلى عنقها، يكرّرها مرارًا وتكرارًا فتضعف أكثر وكلماتهُ تخترق أذنها : نجلاءتي ! ترى ما يصير أبدًا اللي تقولينه لزوجك ! . . كم مرة لازم أعيد إن الصبر مو من عادتِي بس أمارسه كشيء شاذ بطبعِي!
إلين تزفُر بانفعـال : ماني ملزومة أتعامـل مع طباعك وشواذها.
أدهم : لا حبيبتي ملزومة .. مثل ما أنا ملزوم أتعامل مع قلّة أدبك.
احتدّت نظراتها بقسوَة : احترم نفسك يا أدهم .. لا تتمادى أكثر ، أحذرك لا تتمادى أكثر!
أدهم باستفزاز : الحيـاة الزوجية مشاركة ، تتمادين أتمادى معك ، تعقلين أعقل معك ، تموتين أموت معك.
إلين بغضب : وليه ما يكون البادئ أنت؟
أدهم : على أساس يفيد فيك؟ ماهو من البداية أنا اللي ماسك حدودي وأنا العاقل وأنا اللي ميت فيك؟
احمرّت ملامحها بقهرٍ من استطاعتهِ إرباكـها بكلماتٍ – سخيفةٍ – في هذهِ اللحظة! إربـاك صوتِها وإربـاك كلماتِها التي غصّت في حنجرتها، بينما اتّسعت ابتسامتهُ وهو يلفُّ ذراعه الأخـرى حولها يُعانقها برقّةٍ هامسًا : دايم البادئ أظلـم ، فسامحيني لو ما حبيتِ أساليبي الحقيرة على قولتك .. لو طباعي ما تنازلَت لقناعاتِك.
أكمـل وهو يشعر بجسدها يرتعِش، بهمسٍ ووعيد : نموت على بعض؟
تركها لتتراجـع للخلفِ بقهرٍ وضعفٍ وهي تتنفّسُ بقوةٍ وتدلّك عضدها المتشنّج، ابتسـم بينما خطواتُها كانت تتخبّط للخلفِ أكثـر وهي تُشتت عينيها لا تملكُ ردًا ، حينها مرّر لسانه على شفتيه وهو يلفظ بنبرةٍ اعتياديـةٍ هادئة : جوعـان ، لو فيك حيل سوّي لنا شيء أو أروح أجيب من برا أفضل؟
لم تردّ عليه وهي تزمُّ شفتيها وعينيها تشتعلان، تريد أن تقول الكثير مما لا تعلم، تموجُ في عيونها نظرات الحقد وفي حنجرتها الأحرف التي لم تتجانـس كما يجب . . مرّر أنامله بين خصلاتِ شعره لتتّسع ابتسامتـه، وبنبرةِ عطفٍ أغاظتها أكثر : خلاص رحمتك بجيب من برا.


،


جلسَت بمقعدِها وهي تلقِي السـلامَ بنبرةٍ هادئـة، حرّك السيـارةَ بينما يتمتمُ بخفوتٍ بـ " وعليكم السلام " ، ومن ثمّ ينظُر لها نظرةً خاطفـةً ليلفظ : وش صار بموضوعهم؟
نظـرت له ديمـا نظرةً صامتـةً ومن ثمّ تنهدَت لتلفظَ بجمود : ما أدري عنهم .. بس بتحاول تتفاهم معه.
سيف باهتمـام : أتفاهم مع شاهين بنفسِي؟
ديما تهزّ رأسها بالنفي : لا بتحاول فيه بنفسها .. أفضّل ما ندخـل بينهم أكثـر.
سيف : مرات لازم يتدخلون الأهل.
ديما : بالنسبـة لي الأفضل ما يتدخلون .. والا كنت من زمـان مشتكية عندهم ومطلقين بعد.
عقدَ حاجبيهِ قليلًا وهو ينظُر لها بعد أن رأى الطريقَ فارغًا ، عينيها الظـاهرتينِ من النقابِ كانتا مُظلمتين ولا تنظـرانِ نحوه أبدًا ، لفظَ بوجوم : لو تحكين عن اللي بنفسك يكون أفضل بالنسبة لي يا ديما!
ديما تهزُّ كتفيها وعينيها لا تنظُران نحوَه : لأني ما أبي أسوِّي الأفضـل لك ماراح أحكي.
ابتسم : تنتقمين مني؟
تجاهلت سؤالـه ، وعينيها تُسـافران إلى النـافذة، تنظُر للطريقِ بشرودٍ بينما صمتَ هو الآخـر دون أن ينبـس بكلمةٍ أخـرى، مرّ الوقتُ بينهمـا طويلًا ، حتـى انتبهَت له في النهـايةِ يتوقّف أمـام مطعـمٍ بحريّ، نظـرت باتجاهه باستنكارٍ وهي تلفظ : ليه جينا هنا؟
سيف يفتح البـاب وهو يبتسم : واضحـة من غير لا أجاوب . . انزلي.
ديما بضيقٍ تفتح البـاب : كان سألتني قبل.
سيف : عشان ترفضين؟ مالك حق خصوصًا إنّك تحبين الأكلات البحرية.


،


حين اقتربَت عقـاربُ السـاعةِ من الثانيـة عشرة منتصفَ الليل ، كانت تجلسُ على كرسيٍّ في غرفتها، أمـامها على الطـاولةِ كوبُ الشـاي الذي برد كنظــرةِ اليأسِ من – صدرها -! بينما عينيها كانت قد امتصّت الحرارةَ وهي تفكّر بكلمـاتِ ديمـا التي رتّلتها على مسامِعها ، تحبه؟ جنونٌ أم مـاذا؟ كيف قد تحبُّ اثنينَ في ذاتِ اللحظـة؟ تدرك أنّها لم تنسى متعب ولازال يستحوذُ على قلبها، فكيفَ قدْ تحبّ؟ كيف يجتمعُ شخصان في قلبٍ واحِد؟ جنون ! .. لكنّها في قرارةِ نفسها تدرك أنّها لا تريد ما حدث، تريد أن تعودَ لشاهين ، حتى وإن كانت في البداية لم ترِده لكنّها الآن لا تستطِيع أن تُنهي القصـة بمأساويّةٍ كهذِه، بدأت تتأقلـم، تحبّ الحيـاة معه، نعم تريده ولا تدري ما معنى ذلك لكنّها تُريده!
الهاتفُ كان بين كفيها المُسترحينِ على فخذيها، تنظُر لهُ واسم شاهين يعتلِي الشـاشة ويضيئها بأحرفه الخمس، يطولُ الرنينُ حتى يتوقّف، وتعودُ من جديدٍ وتتّصل بهِ حتى يتوقّف من جديدٍ ويصمت ، خمسُ مرّاتٍ حتى أصبـح الرنين يتوقّف قبل أن ينتهي زمنـه، وكما توقّعت ، كـان يرى ويتجاهَل ، لمَ؟ ما الذي فعلته؟ كيف يطردني بهذهِ الطريقـةِ وأصبح أسيـرة الأسبابِ الغائبة؟ كيفَ يريحه ضميره وأنا يؤلمنِي ضميري على ما لا أعلم! كيف تفعلها يا شاهين وتنبذني رغمَ قولكَ أنّك تحبني وأنّك تريدني .. كلّ هذا يعنِي أنّني أخطأت ، فماذا يكون خطأي؟
مسحَت على أرنبـةِ أنفها وهي تعودُ لتتّصل بِه وما إن يُغلـق حتى تكرّرها مرةً أخـرى إلى أن جـاء الرد، اتّسعت عيناها باضطرابٍ وهي ترى الثوانِي التي بدأت تُتلـى علامـة ردّه، رفعتـه بسرعةٍ لأذنها وهي تتنفّسُ بقوّةٍ ولهفةٍ هاتفـة : شاهين !
صمتْ ، هـذا ما عبـر على قافلةِ شفاهِه ، عُقدةُ حاجبينِ وأسـى ، اسمها الذي تكرّر وكـان يتجاهله، كان يتجـاهل سماعَ صوتِها، سمـاعَ نبرتِها واسمه منها ! يتجـاهل رغـم إصرارها حتى اضطرّ للرد، لم يكُن يستطيع إغلاق هاتفه، ينتظـر اتصالًا من أدهم في أيِّ وقت وبشكلٍ شبـه محال من " متعب ".
لم تنتظـر ردّه بينما اندفـع صوتها بلهفةٍ إليه : شاهين .. * تنفّست بقوّةٍ قبل أن تُردفَ بعتاب * حرام عليك .. حرام عليك يا شاهين!
أيضـًا امتدَّت بينهما الثوانِي دون أن يرد، وجههُ يظلـمُ بحزنٍ وهو الذي لم يتخيّل يومًا منذ تزوّجها أن يسمع صوتها وينفـر من سماعِه ، أنه بالرغمِ من حبّه الذي مازالَ ماكثًا على قلبِه لا يريدها أنْ تحدّثـه، يشعرُ بأنصالٍ تقطّع أجـزاءَ من جسدِه وبأنّه يذنِب .. يشعر بالخجِل من متعب وبأنّه يؤذِيه ، يشعر بالضيـاع وبأنّه لا يدري أبدًا .. ما موقعهُ من كلّ هذا؟ ماهي مشاعره بالضبط؟
أسيل تقفُ وهي تشدُّ على هاتِفها بعتَب : أقـل شيء تفسير ، بس تفسير ما يخليني ضايعة بهالشكل!
تنهّد بعجزٍ وهو يمسحُ على ملامِحه ويشتِّتُ عينيهِ في غرفـة الجلوسِ العلويـة ، عضّ زاويـةَ شفتِه السُفلـى وهذهِ المرّة قرّر أن يرد، قرّر أن ينطـق ، لفظَ بصوتٍ باهِت : يهون ضياعك عند ضياع غيرك!
عقدَت حاجبيها دون أن تفهمَ كلمـاته، وبوجَع : تدرِي إنّي اشتقت لصوتك !
أغمـضَ عينيهِ بقوّةٍ وحرقةٌ هزمَت أحشاءه ، استنشقَ الأكسجينَ بعمقٍ ليرتفعَ صدرهُ متعرقلًا بالهواء، هامسًا بهوانٍ وذنبـه يكبُر : لا تشتاقين .. لا تشتاقين لأنّ هالشوق مكروه !
أسيل بغصّة : عجزت أفهم منّك شيء !
شاهين : يُفضّل ما تفهمين ، ولا تشتاقين ولا تفكرين فيني من الأساس !!!
أسيل تبتلعُ ريقها وحصـى شغرَت حنجرتها، شعرت بأنّ حلقها يتفجّر والعبـرة فيها تخنقها ، لمْ تفعل شيء! لو أنّها فعلت شيئًا لاختلفَت كلمـاته ، ما معنـى هذهِ الحسرة في صوتِه؟ هذا الضيـاع وهذا التيه؟ .. ما الذي يحدثُ لنا؟ ما الذي يحدث؟!
ارتعشَت شفاهُها وهي تُشيح نظـراتها لإحدى الزوايا المُضيئةِ بضوءٍ برتقاليٍّ خافِت ، ضاعَت نبرتها لتتحلّى بذاتِ نبرتِه ، تاهَت وامتلأت حسرةً لما لا تعلـم : بتجرم بحقّ الحُب إن كان الشوق مكروه ،
شاهين يغمضُ عينيهِ وأجفانه تشتدُّ بتوجـسٌ تجاه كلماتِها ، لا ، لا تقوليها ، لا يا الله ! لا . . بحجمِ ما انتظـرتُ كلمـةً تُعني " أحبّك " إلّا أنّها الآن تكـادُ تقتلنِي قبل أن تقولها ، تكـادُ تمرّغُ السيفَ بحدّته على جلدي .. لا تقوليها ، لم أعُد أريد هذا الحُب ولم أعد أريد أن أتمرّغ في ذنبي تجاهه أكثـر ، لا تقوليها وابقـي كما أنتِ قبل أن نلتقي .. لا تقوليها !
عضّ شفتهُ السُفلـى لوهلـة، فتـح عينيهِ وهو يهمسُ بنبرةٍ متوجّسةٍ كـان من خلفها رجاءً كبيرًا : تحبيني؟
أسيل بحدّة : تحبني أنت صح؟ هذا اللي قلته لي كثير ... شلون تجرم بحق حبّك؟ إذا الشوق مكروه فالحب محرّم يا شاهين !
شاهين بابتسامـة أسى : اكتشفت من قريب إنّه صار محرّم ... للأسف ، بوقت غلط!
أسيل بقهر : ليييييييييش؟
شاهين بنبرةٍ جامِدة : بتوصلِك الأسبـاب بس بوقتها ، بس لا تحبيني يا أسيل ! ما أبيك تحبيني ولا أبيك تشتاقين .. كوني مثل ما أنتِ ، كل شيء بيننا كان غلط !!!
اتّسعَت عينـاها والضوءُ الخـافتُ في الغـرفةِ يُضيئها بلمعـةِ الحزن والخيبـة، يُضيئها بمشـاعرَ صاخبـةٍ بالرفـض، هاهوَ ينطقها من جديد، بأنّنا انتهينـا بلا سبب ! انتهينـا دون تفسير ، انتهينـا دون توضيحاتٍ ودون كلمـاتٍ تُشفي غليلَ الفُراق . . أما علمتَ أنّ من أقسـى الفراق ما يكون دون " تفسير "؟ كيفَ تمارسه؟ كيفَ تمارسهُ عليَّ وتخبرني بكلّ بساطـةٍ أن كل ما كان لم يكُن سوى خطأ ! .. كيف تقولُها لي بهذهِ البجاحةِ؟ كيف؟!! همسَت بضعف : عطنِي سبب .. ما أبي أقفـل إلا وأنا عارفـة أسبابك ! ما يصير تعاملني بهالطريقة وكأنّي نكرة ، ما يصير يا شاهين تكذّب وعودك وتكذّب كلامك .. كنت تقول ماراح أسامحك لو غلطتِ من جديد .. بس أنا ما غلطت، صح؟
شاهين بصدق : صدّقيني أنا اللي غِلط .. ماهو أنتِ يا أسيل !
أسيل تضحكُ دون تصديق : وين أصرفها ذي ! وعمري اللي راح معك؟
شاهين : بيكتمـل قريب وأكون بعيونك مجرّد دخيل.
أسيل ببهوت : لأيش تلمّح؟
شاهين : للحيـاة يا أسيل، الحيـاة اللي صارت تخدعنا كثير .. كثيييييير وبشكل نتمناه وبالرغم من هالشيء يوجعنا!
أسيل دون فهمٍ ترفعُ كفّها إلى رأسها : يا الله! يا الله ارحمني . .
لفظ بخفوت : رحمك .!!
وكـانت تلك الكلمـة الأخيرة من طلاسِمَ وضَعها ورحـل من ثمّ صوتُه، كـانت أحجيـة، أحجيـةً لم تفهمها ، أحجيـةً أدركت منها فقط أنّ لا عودة، أن هنـاك شيءٌ أكبـرُ بينهما ، أنّ بينهما سور ، يرتفع ويرتفعُ ولا يسقُط، لا تُصيبه فجوةٌ ولا يخذلُ صلابـته . . أنّ بيننا حدّ ، بستانينِ أنا وأنت وبيننا امتدّ طابورٌ من الزهرِ الذابِل .. كـان سورًا ، يحول بينَ تجانُس بتلاتنا . .
لن تسامحه ، على هذا الضيـاع وعلى هذهِ الحيـرة .. لن تسامحـه ، على الأحجيـة التي كلّفها بفكاكِها دون أدنـى مسـاعدة ، على هذهِ اللمعـة الزائفةِ في عينيها والتي كـان مصدرها فقط " ضوءُ غرفتها "
عـلــــــــى الخســـــــارةِ مرّتيـــــــــــن !!!


،


نزعَت نقابـها وهي تفتحُ البـاب بإرهـاق، صوتُ خطواتِه تجيء من خلفِها، بينما كفّها تنزعُ ربطـة شعرها ومن ثمّ تنثرهُ وتقوم بتدليك فروتها قليلًا . . وصـل إليها صوتُه المُبتسم : استانستِي؟!
لتنظُر نحوه بفمٍ مـال قليلًا وتهتف بتهكم : قول تعبتي؟
سيف : طيب تعبتي؟
أشاحَت وجهها عنه وهي تتّجه للخزانـة حتى تعلّق عباءتها بعد أن تخلعها : مو كثير.
ضحكَ متفاجئًا وهو يراها تخلعُ عباءتها وتعلّقها، أسندَ كتفه على إطـار الباب وهو يبتسم : صايرة بزرة.
ديما بعفويّةٍ ساخرة وهي تُغلق باب الخزانة : عادي البزران حلوين.
سيف يُخفض ذراعيْه ليتحرّك مقتربًا منها وهو يلفظ بنبرةٍ مقصودة : عسى بس ما تمر هالسنة الا وكرشك قدامك.
تحرّكت نظراتها بحدةٍ نحوه، كانت تشتعلُ نارًا، رفضًا، هذهِ المرّة الرفضُ كـان من عينيها وليسَ من عينيه . . . رفعَ حاجبه الأيسر دون أن يفقد بسمته وهو يلفظ : أيه ، أبي بنوتة حلوة تشبهك.
ديما تُميل فمها بغضبٍ وهي تتحرّك مقتربةً منه لتقطع المسافة الباقيـة بينهما، رفعَت عينيها المتحدّيتين إليه، ومن ثمّ بنبرةٍ باردةٍ تشدّد بها على الأحرف : تجيبها لك الحبيبة بثينة.
هذهِ المرّة رفـع حاجبيهِ معًا، وابتسامته ضاقت قليلًا بتعجّب .. يريدها أن تغضب أكثر، يريد لهذا الجمُود أن يزول، يريد أن يرى عينيها تشتعلانِ بنارٍ تُرضيهِ عن ثلاثة أشهرٍ من البرود .. لفظَ بسخرية : ما تجيب انسانة تشبهك .. أنا أبيها تشيل ملامحك * انخفضَ وجهه إليها ليردف بخفوت * وأبيها منك ، وما أبـي غيرك بحياتي.
أمالت شفتها السُفلى وهي تنظُر لعينيه القريبتين من عينيها، تمرّر أحداقها على تقاسيمِ وجهه الحـادة، لطالمـا كان قربه منها مُهلكٌ لقلبها، لكنّه الآن فقط مهلكٌ لأعصابِها ، يجعلها تهوى الجمود أكثـر من حجمِ استفزازِه، يجعلها تتمسّك بشخصيتها الجديدة والتي لا تريد لقناعها أن يسقط.
لفظَت بسخرية : عمرك ما كنت لي.
سيف : كنت لنفسي قبل لا ألاقيك.
ديما : هه! تبيع حكي عليْ؟
سيف بجمود : حبي لها كان كذبة.
ديما بالرغمِ من جمودها أمامه إلا أنّها كانت تشتعلُ غيرةً بالداخِل، هذهِ الغيرة التي لا تستوعبها، لم تكُن صارخةً لتشعُر بها : على مين تكذب؟ تأثيرها فيك للحين!
سيف يصحّح لها : تأثيرك أنتِ.
ديما بحدّة : ما أبـي عيال وهذا قراري.
سيف بعناد : وأنا أبي عيال منك أنتِ وهذا قراري الحين واللي بيمشي.
لوَت فمها لتلفظَ بجمود : وأنت كل شيء دايم يكون على كيفك؟
سيف بابتسامة يلفُّ ذراعيهِ حول خصرها : كل شيء يخصّك . . حاليًا بتظلين متطمّنة من ناحية الحمـل ، لو بنلتزم على كلام الدكتورة فـ الله يصبرني لبعد شهرين ونص.
ديما ببرودٍ متحدّي وهي تشعُر بشفتيه تلامس خدّها : الله يصبّرك لآخر العمر.
سيف يشدّها إلى أحضانه : تدرين إنّ صبري له حدود، فادعي من قلبك ... لأنّي أبي بنتنا تجي بأقرب وقت.
ديما تهمس ورأسها يستقرّ على كتفِه بنعومة : طول عمرك تحب الاضطهـاد .. ما تتغيّر من هالناحية.
سيف بمداعبة : اضطهاد مُستحب.


يُتبــع ..



كَيــدْ 04-07-16 11:31 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

،


في الصبـاح ، خرجَت من العيـادةِ بابتسامةٍ خافتـةٍ كبسمتِها المُعتـادةِ كلّ صبـاح، الروتينُ ذاته يتكرّرُ منذ أيـام، الشعُور ذاتـه رغم الاختلاف، نفسُ الألوانِ تراها رغم تغيّرها، نفسُ الرائحـة رغمَ اختلاطهـا بروائح أزكـى .. لا تدري هل كل شيءٍ مازال كما هو أم أنّ هنـاك شيئًا ما اختلف؟ الأيـام قصيرة ، لم يمرّ الكثير، لكن هل هنـاك شيءٌ ما اختلف؟ لا تظنّ الكثير.
يكفيها أنّ هذا الشوقَ يتضـاعف، آمنت أنّ لا معنى له، لا رجـاء منه، لكنّه يعانِد إيمانها ويتضاعَف، وماذا إن تضاعف؟ هل سيتغيّر شيء؟ هل ستذهبُ إليه مثلًا وتحطّ البقيّة الباقية من كرامتها وتطلبُ قربه؟ هل سترضَى أن تكون له ولا يكون لها!! بالطبـعِ هذا محال، هما انتهيا، لكنّ المشـاعر لا تنتهي، الذكريات والشوق والألـم.
تشبّثت بعضدِ والدهَا ومن ثمّ انحنَت إليه تهمسُ برقّة : هالمرة أنا اللي جوعانة.
ابتسمَ يوسف ليلفظ : أبشري الحين نمر أقرب مطعم.

تتبّعهم بعينيهِ وهم يدخلون لإحدى المطـاعِم، زفـر بجزعٍ وهو يمسحُ على رأسِه ويتحرّك من خلفِهم ، حتى لو رآه يوسف الموضوع انتهى! علِم بكلِّ شيءٍ وانتهـى !! . . لم يخبر حتى الآن عبدالله بهذا ، لكنّه على الأرجح سيخبره قريبًا ، " والله يستر " !!
دخـل المطعـم ليجلـس في جانبٍ يراهُم منه بوضوحٍ ولا ينتبهون له ، تكتّفَ وهو يراقبُ " ليـان " تقعُد بجانِب والدها وملامحها الغاضبـة تنظُر لأختها التي وقفَت أخيرًا لتجلسَ بالكرسيّ التي بجانِب الاخـرى ، ابتسمَ تلقائيًا وهو يتذكّر حسـام، عمره تقريبًا كعمرها ، لكنّه كـان هادئًا بعضَ الشيء .. اشتـاق لهم وكم يقتله الفراغ الآن بعد أن ذهبوا! . .
في الجهةِ الأخـرى اعتدلَت جيهان وهي تنظُر لليـان بحنق، في حينِ كانت أرجوان تضحكُ وهي تلفظ : ما عليك بزرة مشكلة لو قهرتك !
جيهان تنظُر نحوها : قهرتني وانتهـى الموضوع .. وجع محسستني بسرقه منها.
ليـان بعناد : بابا لي ..
جيهان بحنق : انقلعي من وجهي.
ليان تمدُّ لسانها : مووووتــــــي
جيهان بصدمـة : يمه يالوقـاحة !!
يوسف ينظُر لليان بصرامـة : ليان عيب! أختك الكبيرة هذي !
ليان تنظُر له بوجوم : المفروض تهاوشـها .. أصلًا محد يوقف بصفي غير فوازي أنت كله معها بس.
ارتبكَت ملامح يوسف ، بينمـا تبدّلت ملامحُ جيهان وأظلمَت قليلًا، ازدردت ريقها وهي تُشتت عينيها لتقـع فجأةً على بدر الذي كـان يراقبهم بعينيه، عقدَت حاجبيها ما إن تبيّنت ملامحـه ، لكنّها لم تُبـالي بِه كثيرًا في اللحظـة التي أشـاح فيها نظراته بعد أن انتبـه لكونِها أدركته . . صدرُها ضـاق ، واسمُ فوّاز شراعٌ لسفينةِ حُزنها، ما إن يُفتـح حتى تشعر بتلك السفينـةِ تمضي ، مع الريـاح، تحوَ منتصفِ المحيط – إن وُجِدَ منتصف -، هذهِ السفينـة المتأهبـة للمضيّ دون كسـل .. بينما شراعها يحفّز حُزنـها .. كيف تُذكـر أمامِي ولا أحزن! كيفَ يبزغُ اسمـك في لحظـاتِي وأنت لسواي ولا تضيقُ الدنيـا في عيني؟ كيفَ لتلك المرأةِ أن تتمتّع بقُربـك بعد أن سرقتـك منّي وكيف عساي أتحمّل هذهِ الفكرة دون أن تغصّ في محجري وتزاحـم دموعي لتسقط! كيف أنسـاك يا فوّاز وقلبي لم ينسى حبّك؟
نظـرت للأسفـل بصمت، بينما كـانت نظرات يوسف تنظُر لليـان بحدةٍ لم يستطِع أن يمنعها عنه في هذهِ الحظـة، يريدها أن تنسـى ، لكنّ كلّ شيءٍ يمنـع ذلك .. لذا كـانت نظراته تلك وحدها كافيـةً لتجعـل ليـان تصمُت بخوفٍ ويضيقَ صدرها، مدّت شفتيها للأمـامِ وهي تكتّف ذراعيها، بينمـا تنهّد يوسِف بعد أن انتبـه لنظراتِه ، اقتربَ من ليـان ليهمسَ في أذنها بخفوت : البنت الحلوة ما تحكي مع أختها بهالطريقة ! تزعليني منك؟
ليان بضيقٍ دون أن تنظُر نحوه : أنت أصلًا تحب جوجي أكثر منّي.
يوسف بابتسامةٍ حنونة : فيه أحد ما يحبّك؟
صمتت تتصنّع " الزعـل " بينما قبّل يوسف وجنتها المُمتلئة ومن ثمّ اعتدَل في جلوسِه وهو يشعُر بالنـادِل الذي وقفَ قربهم ، ابتسمَ ومن ثمّ نظـر لليـان : يلا حبيبتي وش ودك فيه؟

بعدَ وقت ، كـانت قد تناسَت مشاعـر الضيقِ التي اعترتْها، تناستها ولم تنساها! ، ارتفعَت نظـراتها نحوَ الجهـة التي كـان يجلُس فيها بدر، عقدَت حاجبيْها باستنكـارٍ بعد أن رأته للمرّة الثانيـة ينظر نحوهم وما إن انتبه لها حتى أشـاح عينيه، لوَت فمها وهي تنظُر لأرجوان، اقتربَت منها لتهمسَ كي لا يصل صوتها لوالدها : أرجوان . .
نظـرت لها أرجوان وهي تقطّب جبينها : وش فيك؟
جيهان بخفوت : الخليجي المملوح جالس هناك . .
كشّرت وهي ترى جيهان تُشير بعينيها إليه، شعرت بالحرجِ وهي تخاف أن يراهم في تلك اللحظـة بينما عيناها لم تتّجها نحوه أبدًا ، وبخفوتٍ تلفُظ بتنبيهٍ وحَرج : جيهاااااااان !!
جيهان بحنق : قليل أدب من أول يقز فينا .. طلع من هالنوع.
أرجوان بغيظ : الله ياخذك وخري عيونك عنه خليه يقز لبكرا وش عليك منه !!
جيهان : حسافة ملحه.
أرجوان : يا فشلتي !! لا يشوفك يا كلبة تقزين فيه بعد ويظن بنفس تفكيرك .. يمكن كان مسرح بس!
جيهان : مسرح بس أجل! يا براءتك أقولك من أول يقز وأول ما أشوفه يلف ... وقح !
دفعتـها بغيظ : خلاص طنشيه وكملي أكلك وإذا يقز وش نسوي فيه؟ عيونه وهو اللي بيتحاسب عليها.
لوَت فمها بغيظٍ وهي تحمُل ملعقتها، في حينِ أدار يوسف رأسه حيثُ كـانت تنظُر وقد انتبهَ لها ولنظراتها حيثُ نقطـةٍ معيّنة ، غصّت بلقمتها بحرجٍ وبدأت تسعُل ووجهها يتلوّن، لم تعتقد أنّه سينتبه لها ، عضّت أرجوان شفتها السُفلى وهي تكتمُ ضحكتها ونظراتها تتّجـه لها بينما كفّ جيهان تحملُ كوبَ المـاءِ بحرجٍ لتـشربَ منه.
لم ينتبهـا في تلك اللحظـةِ لملامِح يوسف التي تغيّرت ، نظـراته بعد أن رأى بـدر يجلسُ قريبًا منه وقد انتبـه لكونِه رآه . . صدّ عنه بجمودٍ وهو ينظُر نحوهما دونَ تعبير ، وبنبرةٍ صارمـة : عجلوا شوي عشـان نمشي !


،


بعد الظهيرة، كانت الشمسُ تتسلّلُ عبرَ النافـذةِ لينعكـس ضوؤها على بشرَتها السمراء، تمدُّ بأنـامِل شارِدة " واقي الشمس " على ملامِحها التي تظهرُ في المرآةِ ولا تراها، لا تراها بحجمِ ما يضيعُ تفكيرها بعيدًا، بحجمِ ما تتعرقلُ الأمنيـاتِ على نتوءاتِ السحّابِ " الضبابيّة "، بحجمِ ما يغيبُ عن عينيها النظـرُ ولا تعثُر في أحـداقِها على لمحـة، ترى بِها سلطـان الذي وقفَ عن البـابِ واتّكأ بكتِفه على إطـارِه ينظُر لشرودِها بصمت، يكتّف ذراعيهِ إلى صدرِه بينما كـانت في هذهِ اللحظـاتِ تفكّر " ماذا أفعل؟ "، الآن ماذا تستطيع أن تفعل؟ كيف بدأت ترى أحـلامها تتهاوى بهذهِ الطريقة؟ كانت الليلـة الماضيـةُ كافيةً لترى فيها أحلامَها تتهاوى واحدةً تلوى الأخرى، تسقُط من سماءِ سلطان، كـانت تقول بأنّها ستأتيه بعد عامينِ وربّما أقل أو أكثـر لتفاجئه بأنّها حفظَت القرآن، وقتها ستكون تحملُ في يدها طفلًا يُشبِهما ، أرادته أن يشبـه ملامح سلطـان، لكن الآن ذهبَ تفكيرها بعيدًا، أصبحَت لا تراه ، وربّما لو كان سيجيء لن تتمنّى أن يأخذ ملامحه ويأخذ منها البـاقي! ربّما الصفـات، ربّما الكذب! ربّما الخداع والأنانيّة والضياع! يأخذ ملامحها وقلبه وصفاته؟ هل سيجيء أصلًا كحلمٍ تحقّق بعدَ نومٍ ضائعٍ بتقلّبـاتِ السنين؟ هل سيجيء؟ هل سترضى بأن تمرّ بقيّة الأيـامِ بينهما وهي تخدعه؟ لمَ لم تفكّر بذلك منذ البداية! بأنّ ضميرها سيصرخ عليها بأن .. بأن ماذا؟ .. أن تبتعد؟ . . . فغرت شفتيها بضيـاعٍ وهي تتنفّسُ من بينهما باختناق، تبتعدُ بعد أن غرقَت في بحرِه وبعد أن أصبـح لها كلّ شيء ! .. كيف تستطيع؟ ربّما لو أنّها اختارت الابتعاد منذ خيّرها لكـان أفضل! .. لكنّها الآن لا تستطيع، لا تستطيع أبدًا أن تبتعد !!
رفعَت يدها لتمسَح على خدّها دمعـةً وهميّة، صارتْ تشعر بالدمع حتى قبل أن يسقط، هذهِ الصيغةُ في الحزنِ تقتلها . . مالّت فمها بأسى والنظـر يعودُ إليها بعد أن عادت لواقعِ التواجُد وما تفعل، وضعَت الواقي على التسريحة في اللحظـةِ التي رفعَت أحداقها للمرآة، شهقَت فجأةً بذعرٍ واستدارَت على عقبيها لتضعَ كفيها على حافّة طاولـة التسريحةِ من خلفها ما إن رأت سلطـان يقفُ خلفها عبر المرآة ، ارتبكَت وهي ترى نظراته الصامتة تلك والتي لا تعبّر عن شيءٍ من عواطِفه الآن ، ابتلعَت ريقها بصعوبـة .. ومن ثمّ أخفضَت نظراتها لتهمسَ بضيـاع : مساء الخير.
سلطـان بجمود : للحين خايفة مني؟
رفعَت أنظـارها بسرعةٍ وهي تفغـر فمها، عقدَت حاجبيها قليلًا بينما رأسها يتحرّك تلقائيًا بالنفي، تجيبه بأنّها لا تخافه، كيف قد تخافه؟
سلطـان يبتسـم : شلون لا؟ من خوفك أمس كنتِ تتنافضين بعيد عني ومو راضية تنامِين جنبي! ومن خوفك الحين ما قلتِ كلمـة وتهزين لي راسك وكأنّك خرسا !
أشـاحَت وجهها عنه وهي تُخفضُ إحدى كفيها المُمسكةِ بزاويـة الطـاولةِ لتعـانِق بها عضد يدها الأخرى، وبخفوت : مستحيل أخاف منك .. شلون تبيني أخاف من موطنِي؟
سلطان : كنتِ أمس تقولين خايفة منه.
غزل بغصّة : كنت خايفة ينبذني .. ماهو منه.
سلطـان يرفـع كفّه لتنتفضُ بذعرٍ ما إن وضعها على خدّها، تحرّكت كي تبتعدَ عن نطـاقِ كفّه وكأنها تنوي الهرب، لكنّه لم يسمحَ لها وهو يمدّ كفه الأخرى ليضعها على طاولـة التسريحة يمنعها من الهرب بأسرِه، وبنبرةٍ هادئةٍ وهو يلحظُ ارتعـاش شفتيها : أيش مفهوم النبذ عندك وأنتِ الحين خايفة بعد؟
غزل تُغمضُ عينيها لتردّ بصوتِها الخافِت ذاته : الحين خايفة من نفسي!
سلطان يرفع حاجبيه، وباستنكار : غزل وبعدين معك!
يرتفعُ صدرها بعمقٍ متحشرج وهي تخاف هذهِ المرّة أن تضعف، أن يقتربَ منها فتندفـع إليه ولا تعترض، أن تلوّثـه بخداعِها وكذبها ، هي الضعيفةُ إليه والشغوفـة بِه ، لذا الآمان تجاهها " عدَم " . . بصوتٍ يكاد أن يتلاشـى : بيجي يوم وتتركني.
سلطـان : عارف أسبـابك التافهة .. شايفة؟ تافهة .. أنتِ مالك ذنب!
فتحَت عينيها وهي تقوّس فمها، الذنبُ كلّه أنـا أحمله، الذنبُ كلّه مني منذُ دخلتُ حياتك وحتى هذهِ اللحظـة! . . هتفت تكرّر بعذاب : بيجي يوم وتتركني .. تنبذني ... إذا ما كان المعنى ترفسني من حياتك وكأنّي مجرد زبالة !
شهقَت ما إن التصقَ جسدهُ بها باندفـاعٍ وصوتُه يندفـع إليها بعلوٍّ حـاد : غـــــــــــــــــــــــــزززل !!
وبالرغمِ من كونِها خافَت من غضبِه الآن إلّا أنها لفظَت بقوةٍ وهي تغمضُ عينيها بينما جسده يضغط على جسدها بغضب : أيــــــــــــــــــــه .. غــــزززل ، اللي تحاكيها الحين غزل ، أنا النجسة وأنا الزبـالة وأستاهل كل شيء ! كل شيء من البداية أستاهله .. بس أنت ما تستاهل ، ما تستاهل هالدائرة اللي عشت فيها مع إنسانة مثلي !
سلطـان وعينيه تتّسعـانِ بتحذيرٍ خافتٍ حاد لم ترَه من إغماضـةِ عينيها : انكتمـــــي !!
غزل تتابـع بأسى وهي توجّه أحداقهُ إليه بعد أن ارتفعَت أجفانها عن عسليّةِ عينيها، التجأ التحديقُ لعينيه الغاضبـة، تنظُر لهُ بحزنٍ وهي تهمس بحسرة : تدرِي وش أكثر شيء يوجعنِي؟ إنّك دايم نيّتك حسنـة ، وأنا سوء النيّة بذاتها ، أول ما شفتك كنت أقول رجّال مثل جنسـه ، كذّاب ومنافق ويتصنّع ، أنتظـر بكل يوم تطلع بوجه أبوي ، انتظـرت وانتظرت بس ما تلبّسك بصفاته! شلون؟ للحين يمثّل علي إنّه الشخص " الملاك "؟ ليه ما يضربني كل ما عصّب مني؟ ليه يوم جاء معصب مرّة رفع يده بس بعدين تراجـع وانصـدم وكأنّه بهذاك الوقت ما كان هو! ما كـان سلطــان لأن سلطان ما يرفع يده على أحد! .. ليه كان يحاول يسعدنِي؟ ليه كان يصرف علي من وقته عشان أبتسم؟ يمثّل؟ مستحييييل كل هالوقت! انتظـرت لوقت طويل تطـلع بحقيقتك ، بس حتّى لمّا عرفت إنّي كنت أتآمر ضّدك مع أبوي ما ضربتني ، اكتشفت بعد كلّ هالوقت إنه أنا اللي كانت نيّتها سيئة وأنا اللي كـان وجهها كاذب! أنا المتصنعة وأنا المنافقـة وأنا اللي كنت شاذّة عن جنـس البشر ككل . . . اكتشفت ، اكتشفت * بألم * إنّي شيطــــان.
سقطَت دموعها مع كلمـتها الأخيرة، الوصفُ الذي أطلقته عليها سالِي ولم تكذِب ، ربّما لم تكُن سالي صالحـةً مثله، لم تكُن نقيّةً مثلـه لذا كـانت ترى عيوبها وترى كذبها بينما سلطـان لا يرى منها كلّ ذلك، لا يرى منها كلّ هذا الخداع !! . . زمَت شفتيها بألمٍ وهي تُخفضُ عينيها الدامعتـينِ عن عينيه، كـان ينظُر لها بصمتٍ وعينيه الجامدتيْنِ لم تكُن راضيـةً عمّا سمِع منها ، هذا البُكـاءُ الذي باتَ يهوى عينيها كثيرًا، يهوى تقبيلَ مقلتيها بدمعِه، يهوى السير على خدّيها حتى يسقًط كقطـرةِ ملحٍ من غيمٍ شاذّةٍ عن بنِي جنسِها ، كفّه التي كـانت تُستريحُ على خدّها قبلًا بدأت تمسحُ دمعها، بينما ملامحه لم ترسم أيّ تعبيـر ، كصوتِه : سبق وقلت لا عاد ينعاد موضوع أبوك بيننا ، نسيته .. وش قصّتك مع المواضيع اللي تضيّق خلقي أنتِ؟
لم تردّ ولم تنظُر إليه بينما دموعها يزدادُ هطولها وابلًا، ليُكمـل وهو يبتسمُ ويوجّه ملامحها إليه كي تنظُر له قسرًا : وأيش مصطلح شيطان هذي؟ وزبالة ومدري أيش ! شكلك تبني تجربين سلطـان اللي يضرب !
ابتسمَت بحزنٍ وهي تمسحُ بظاهِر كفّها على أرنبـةِ أنفها، وبتساؤلٍ مختنق : سلطـان يضرب؟
هزّ كتفيه : يمكن تطلعين منّي هالشخصية.
غزل بألم : ما أستبعد .. ما أستبعد ولا بلومك وقتها . .
احتدّت ملامحهُ ليهتف بتحذير : غــــــزل! لا تطلعيني من طوري معك! .. عمري ماراح أمد يدي على حرمة ، خلاص خلّي هذي حلقة بأذنك ماهو رجّال اللي يسويها.
غزل : ما تنقـص منك ، صدّقني لو سوّيتها ما تنقـص منك عندي شيء !
سلطان يضعُ كفّه على عينيها بشكلٍ أفقيٍّ وهو يهمسُ بابتسامة : خلاص .. قولي لعيونك تبطّل هالدموع تعبت يدي وأنا أمسح فيها.
ابتسمَت رغمًا عنها بعد أن حلّ الظـلام على عينيها من كفِّه، وبنبرةٍ لازالت مختنقـة : مو بيدّي والله.
سلطـان : متزوج لي بزرة كل وقتك أنتِ ودموعك .. حشى لو إنّه أحد ميّت عليك.
غزل تمسك كفّه لتُخفضها عن عينيها : ما عندي أحد بحياتِي غيرك.
سلطـان بسخرية : أجل يا بختي بتوفّرين كل دموعك لي . .
غزل بجزع : سلطــــــــــان !
سلطـان بجدّية : للحين خايفة مني؟
ابتلعَت ريقها وتجمّدت ملامحها للحظـة، أشـاحت وجهها وهي تمرّر باطـن إحدى قدميها على الأخرى، وبخفوتٍ مرتبك : قد قلت لك ماني خايفة منك.
سلطان : ماني مصدّقك للأسف.
غزل : قلت لك ما عندي أحد بحياتي إلا أنت .. لو أخاف منّك مصيبة !
تحرّك مبتعدًا عنها باتّجاه البـاب وهو يلفظ : أجل شرّفي يا مدام للغداء ، ما أكلت الصبح شيء بسببك وش هالنوم؟


،


تتحرّك أقدامها أسفـل الطـاولةِ بضجر، يجلسُ أمـامها، ترى فيه الشرودَ ولا تبـالي، الملعقـةُ يغزو بها غاراتِ الأرزِّ على طبقـه، لم يأكـل الكثير ، وبالرغم من فضولها الذي ثـار قليلًا حتى تعرف ما يُشغـل عقله بهذهِ الطريقةِ منذ الصبـاح إلا أنها صمتت تُكمـل أكلهـا بروتينٍ ممل، اشتـاقت الطعـام على طاولَتهم، الأحـاديثُ التي لا تريد أن تنتهِي وتستفزُّ عبدالله الذي ينطق أخيرًا بحدة " احترموا النعمة "! .. فيصمتُون لثوانٍ قليلـةٍ ومن ثمّ تعُود الأحـاديثُ لتنبثقَ من جديد . . ابتسمَت رغمًا عنها وهي ترفعُ الملعقـة لفمها، وفي حينِ شرودٍ منـه كان يُعيدُ جسدهُ للخلفِ زافـرًا بقوّةٍ بينمـا قدميه الحافيتينِ لامسَت قدمـها بعفويـة ، شهقَت لتُسقِط حبّات الأرزّ من ملعقتـها إلى صدرِها وجُحرها ، وضعَت الملعقـة بعنفٍ ليدوّي صوتُها على الطبـقِ بينما سحبَت قدميها بحنقٍ إليها ، انتبـه أدهـم لانفعـالاتِ حركاتِها لينظُر لها عاقدًا حاجبيهِ باستنكـار : وش فيه؟
إلين بحنق : أنت اللي وش فيك مع حركات المراهقـة هذي؟
انخفضَ حاجبٌ وبقيَ آخرٌ مرتفعًا دون فِهم، لم يكُن في مزاجٍ لها الآن لذا نهضَ ليبتعدَ وهو يلفُظ بجمود : الحمدلله . .
إلين تتمتمُ بكره : أي والله الحمدلله إنّك قمت أقلها آخذ راحتي .. اففف !
خـرجَ للصالـةِ وهو يزفُر ممرّرًا بعضَ الهواءِ الملوّثِ من رئتيْهِ للا فـراغ حولِه، نظـر للأرائكِ " المورّدة " بوجومٍ وهو يتّجـه ليجلسَ عليها بينما كفّه تُخرجُ الهـاتفَ من جيبِه ، سيجرّب الاتصـالَ بِه من جديدٍ بعد أن أثقلـه التفكير البارحـة ولم ينَم كمـا يجِب بسببِ ذاك الموضوعِ المعلّق منذ يوم ، وهذا اليوم كان كافِي ليشعر أنّه سيجنّ !
اتّصـل بمتعب ، لتُضيء ملامحه تلقائيًا ما إن سمـع الرنينَ الذي كان موؤدًا البـارحـة ، مرّر لسـانه على شفتيه قبـل أن يصلـه الردُّ بعد ثوانٍ، صوتث متعب جـاءه جافًا لا تعبير فيه : نعم ؟!
أدهم يعقد حاجبيه، مطّ فمـه قليلًا بعد أن سمـع صوته ورغم لهفته السابقة لردّه إلا أنه لم يدخل في موضوعهِ مباشرةً بل لفظَ بسخرية : يا حبيبي زعلان؟
متعبْ يزفُر بضجرٍ وهو ينقلبُ على جانِبه الأيمـنِ فوقَ السرير، لفظَ بجفاء : جـاي تكمّل؟
أدهم : صاير حسّاس.
متعب : لا والله ! دامها حساسية بالنسبة لك بسألك .. دعيت اليوم لأبوك؟ من زمـان ودي أسألك ماقد قال لك أحد هاليومين أبوك سكير حتى خاتمته . .
صمتَ وهو يعضُّ شفته دون أن يُكمـل، بينما اتّسعت عينا أدهم بصدمةٍ وهو يلفظُ بحدة : يا حقييييييير !
متعب بضيق : شايف شلون الشماتة توجع؟ أستغفر الله بس خليتني أتكلم عن ميّت بالسوء.
أدهم بحدة : لأنّك حيوان .. على بالك من المرجلة هذي تنتقم بأبوي؟
متعب بحدةٍ وهو يجلس : أجل من المرجلة تعايرني باللي صار لي؟
أدهم بحنق : وقح !
متعب : منكم نتعلم . .
أدهم يغيّر الموضوع بحنق : المهم أنت ووجهك .. بتكلم معك بموضوع مهم، من أمس وأنا أتصل عليك ليه مقفّل جوالك؟
متعب ينهضُ عن السرير دون هدى ، يشعر بالملل من روتينه المُمل : شاهين كان يتّصل ، وأنت أدرى جوالي مراقب.
تبدّلت ملامحُ أدهم ما إن نطـق اسم شاهين، حرّك عينيه لتقع على إلين التي كانت تتّجه للصعودِ للأعلى وهي تتجاهل وجوده، وبخفوتٍ متوجّس : وإذا مراقب ليه تتكلّم بهالشكل يا غبي !
متعب يُميل فمه : شالوا المراقبـة اليوم ، رفعوا ضغطي وانفجرت على رئيسهم إذا تشوفوني مجرم اسجنوني أما هالمعاملـة الزفت ما أبيها .. في النهاية وعدني إنه يشيله وتوه من نص ساعة قايل لي.
أدهم : واثق إنت بكلمتـه؟
هزّ كتفيه دون مبالاة : أكيد لا.
شدّ على أسنـانه بحنق : غبـي . .
متعب بسخريـة : مالنا غير نمشي ورى وعود النـاس إذا القريب بيكون كذّاب.
أدهم : هذا المفروض يخليك ما تثق !
متعب : عاد الشكوى لله.
أدهم : اسمـع ، خلنا من هالموضوع الحين .. ودي أقابلك الحين .. والحين الحين ماهو بعد ساعة ولا شيء .. عندي موضوع مهم وأبي أشوفك ماني مرتاح على الجوال.


،


وضعَت الملعقـة على صحنِها وهي تحمِدُ الله وتنهـض، تحرّكت كي تبتعِد لكنّ صوتَ عناد المبتسـم جاء إليها هادئًا : تعالِي لغرفتي بعد ساعة خاطري أسولف معك.
نظـرت له وهي تبتسم ابتسامةً بـاردة، وبرقّة : طيب.
ومن ثمّ تحرّكت خطواتُها لتبتعد، في حينِ وجّه عنـاد نظراته نحو امّه ليلفظ بشك : يمه متأكدة مافيها شيء! مو عاجبني هدوءها ذا !!
ام عناد بربكـة : عناد كم مرة أقولك سوالف حريم ! البنت كبرت وطبيعي بهالوقت مزاجها يشين.
عقدَ حاجبيهِ بشك : لهالدرجة !!!
امّه تُخفِي ما تراه أكثـر ، لم تقُل لهُ عن شخصيّتها التي تبدّلت ولم تقُل له عن تصرّفاتها الحادة معها مراتٍ كثيرة .. ولازالت تكذبُ عليه : وأكثـر من كذا ، كونك درست طب ما يعطيك كل العلـم سوالف الحريم احنا أدرى فيها . .
تنهّد عناد وهو يُعيد ظهره للخلف، ينظُر للأعلـى بصمتٍ لبعض الوقت، قبل أن يهتف بخفوت : محاتيها .. أحس إنّي أهملتها كثير بهالفترة .. ملاحظ الموضوع القديم ماهو مأثر عليها كثير ! كنت متوقّع ومتأكّد بيأذيها بس اللي أشوفه إنّني كل ما لمّحت له كان عادي بالنسبة لها !!
ام عناد بحدة : هذا بدل لا تنبسط إنه ما ضرها كثير !!
عناد ينظُر نحوها وهو يبتسم ابتسامةً خافتـة : أكيد بنبسط ، بس سكوتها بهالطريقة يخوفني أكثر !!!


،


رمَت محاضراتِها بضجر، لم يتبقّى الكثير على بدءِ امتحاناتِ الفصل الصيفي، تشعر أنّها أصبحَت تحفظُ كلّ صفحةٍ وكل كلمةٍ وحرف . . زفـرت بضجرٍ وهي تنظُر لساعةِ الحائط، استقامَت بعيدًا عن السرير لتمشِي وقد قرّرت أن تذهب لهم حتى وإن كـان في هذا الوقت ، منذ متى كـانت تبالِي بالوقتِ معهم؟ منذ متى كـانت تحتـاج لساعةٍ مـا حتى تراهم ! . . زمّت شفتيها بحقدٍ وهي تتجاوز عتبـاتِ الدرج، فقدَت حياتها الحلـوة بعد أن وافقَت عليه ، أيُّ جنونٍ كـان يعتليها؟ المشكـلة أنّها لو عـادت بالزمنِ لفضّلت هذا الخيـار ، لفضّلت أن تبدأ تكوينًا جديدًا لحياتِها . .
بحثّت عن أدهم حيثُ كـان يجلُس، لم تجدهُ لذا تحرّكت نحو المطبـخ، جهة المغاسِل ، ليس هنا! . . عقدَت حاجبيها لوهلـة ، وسرعـانَ ما اتّسعَت عينـاها لتشهقَ بصدمةٍ وعقلها يستوعِبُ أنّه خرج ! صرخَت بقهرٍ من بينِ أسنـانِها وهي تتحرّك بغيظٍ وتشتمه : الحيوان المهمل المراهق !! شلون يتركني كذا !! دايم يطلع وأنا أنثبر هنا الحمـــــاااار !!
تحرّكت خطواتُها بغضبٍ نحوَ الدَرج كي تصعَد وتحمل هاتفها، كي تتّصل بهِ وتقول له بأن يعود أو ستذهب مع سيّارةِ أجرةٍ من جديد !! . . لكنّها فجأةً توقّفت حينَ سمعَت صوتَ جرسِ البـابِ يتصاعد، عقدَت حاجبيها باستغراب ، أدهم لن يضرب الجرس ويستطِيع الدخول دونه؟ من قد يزورها في هذا الوقت؟ بالتأكيد ليسوا عائلتـها فهم لم يكونوا ليأتوا دون أن يخبروها !
تحرّكت بتوجسٍ نحوَ البـاب، نظـرت عبر " العين السحرية " لتلمـح كتفًا أسود ، كتف امرأةٍ ترتدي عباءة ! ازدادت عُقدةُ حاجبيها ، ربّما جارةٌ لها وجـاءت تنظُر لزوجـةِ الرجل الذي يسكن بجانِبهم !! . . أمـالت فمها قليلًا ومن ثمّ تراجعت لتفتـح البـابَ وهي تدسّ جسدها خلفه ولا يظهر للمرأةِ سوى رأسها ، لفظَت بتوجّس : أهلين . . .
لكنّ كلمـاتها أخرسَت فجأة ، شهقَت بصدمـةٍ وعينـاها تتّسعـان ببهوت ، بينما ترى أمامها ملامحَ ظاهرةٍ عبـر حجابٍ متهالِك ، وجـهٌ رأته قبل أكثر من سنـة ، وملامح تُشبهها لم تنساها حتى هذهِ اللحظـة !!


،


بقيَ ينتظـره في مكانِهم المعتـاد، يزفُر بقلّةِ صبرٍ وحرارةُ الشمسِ تجعلُ زفيرهُ كنـار ، تلك النـار أشعلها وقودُ الانتظـار الذي يعبثُ بمزاجِه السيء أصلًا ! . . كـان يتّكئ على سيارتِه بظهرهِ وهو ينظُر للسمـاء ويزفُر مرتينِ وثلاثًا، ينظُر للساعـةِ كل حين، وحينَ شعر أنّ الحرارةَ تشتدُّ استـدارَ كي يفتحَ بابَ السيّارةِ ويجلسَ في برودتِها وهو يشعُر بالغيظِ لتأخّر متعِب.
لم يكدْ يُمسك مقبضَ البـابِ حتى لمِح سيّارة أجرةٍ تقترب، ابتسـم وهو يتنهّد ، ومن ثمّ عـاد لوضعِه ، يستنـد بظهـرهِ على السيّارةِ وهو يرى متعب يقتربُ بملامح ظهـر عليها الضيقُ وكأنه لم يكُن يريد أن يخرج ، نظـر لهُ من الأعلـى للأسفل بسخريةٍ ما إن وقفَ أمامه، وبتهكم : أخيرًا أعتقت نفسك من الأثواب!
متعب بضجر : ترى ما طلعت معك كثير بالريـاض ، يعني ما شفتني فيه غير كم مرة . . . * أردف بجدّية * والحين وش عندك مطلعني الحين؟
أخفـض أدهم ذراعيْه الذين كـانا يكتّفهما أمـام صدرِه، نظـر لهُ بصمتٍ لوقت، ومن ثمّ لفظَ وهو يرسُم على ملامحِه الجدّية : كنت بسألك عن شيء.
متعب يرفع حاجبه الأيسر : ما ينسئل بالجوال؟
أدهم : لا .. الموضوع مهم ما ينقال عالجوال.
متعب بتوجّس : شلون يعني؟
أدهم دون مقدّمـات : وش اللي صار لك قبل لا نلتقي؟
راقبَ ملامحَ متعب وهي تتغيّر بحيرةٍ من سؤاله، بعضُ الربكـة أصابته لكنّ الأكثـر كان عدمَ فهمٍ بزغَ في ردّه : الفنـدق اللي كنت فيه . . .
قاطعـه أدهم بجمود : قبل الفندق !
متعب باستنكـار : نعم !
أدهـم يكرّر : قبـل الفندق .. وش صار معك بالضبط؟ ليه كنت مسافـر لميونخ وقتها؟
توتّرت ملامحُ متعب هذهِ المرّة وغـادرتها الحيـرة، شتت عينيه عنه والضيقُ اكتنـزَ في عينيهِ وكأن الذكـرياتِ هاجمته مرّةً واحدة، منذ متى كـانت مستسلمـةً للوقوفِ بصمتٍ وهي التي لا تتوانَى عن مهاجمـةِ فكرِه؟ . . لفظَ بضيق : ليه النـاس دايم تسافر لسبب غير الترويح؟
أدهم بحدة : أنت سافرت لسبب غير الترويح صح؟
متعب ينظُر لهُ وهو يقطّب ملامحه بحدّة : وش مناسبة هالسؤال الحين؟
أدهم بحنق : أبـي أعرف . . ليه ما قلت لي من قبل إنّك سافـرت عشان تعالج نفسك من الإدمـان؟
اتّسعَت عينـاه بصدمةٍ وملامحـه تشحُب ، تراجـع خطوةً مستنكـرةٍ استنكـارًا طـال صوته الذي لفظ : شلون دريت؟
أدهم بضيقٍ ابتـسم وهو يُشيح ملامحه جانبًا، وبحسرة : الحيوان كـان صادق !
متعب بحدةٍ اندفـع يلفظُ وهو يقتربُ الخطوةَ التي ابتعدَ بها : الحيوان !! مين تقصد؟ مين اللي قالّك ومحد يعرف عن شـ . .
قاطعه أدهم وهو ينظُر له بحدة : مين بيدري يعني غير شاهين؟ هو اللي قالّي.
متعب بصدمة : شاهين !! . . كلمته؟
أدهـم بحنق : ليه هوّ تركنِي في حالي؟ . . الله ياخذك خليتني جاهل قدامه يعني كنت مستخسر تقولي صار لي كذا وكذا وكذا؟
زفـر بضيقٍ وصوتُه يضيق معه، لمْ يكُن يريده أن يعلـم، ليسَ لشيءٍ سوى أنّ هذا الجانِب المظلـم من حياتِه لا يريد أن يتذكّره، لا يريد لأحدٍ أن يعلـم لأنّه لا يريد أن يتذكّره !! . . لفظَ بصوتٍ خافتٍ شرَد لتلك الأيــامِ الموجعَة : ما كان موضوع مهم !
أدهم يكادُ يضربه من غيظِه : ياخي أبي أضرب ! خاطري أضرب . .
نظـر لهُ متعب : أقسم بالله لكفّخك هالمرة تبي تضرب طلّعها بزوجتك يا همجي.
ابتسم باستفزاز : لا مرتِي ما أرضى عليها ماهي من مقام الحيوانات أمثالك عشان تنضرب.
متعب بتهديد : بديت تخرّبها معي .. * أردف بجدّية * الحين خلنا بموضوعنا ، وش المناسبة اللي خلته يعلمك بقصتي؟
أدهم : قالها لي من قبـل ، مو مهم ، بس هو كـان يحاول يثبت لي صدقه.
متعب يرفع أحد حاجبيه : صدقه !!
أدهم : أي .. ما أدري أحس عقلي اختبـص .. بس هو قبـل كـان يظنّ إنّي السبب في اللي صار لك . .
ارتفعَت زاويـة فمهِ دون فهمٍ ليكرّر : السبب في اللي صـار لي !!
أدهم بتردد : اسمـع .. أنا بنقل لك الكـلام سواءً كنت مصدّقه أو لا .. أصلًا أنا ما أدري للحين أصدّقه أو لا لأنّه لو كـان يكذب فشكله غبي لأنّك خويّي .. بس ما أدري إذا جوابـك يعبّر عن صدقه في بقيّة السالفـة . .
متعب : وش عند يا رجّال وترتني .. جيبها من الآخر وش مسوّي شاهين بعد؟
أدهـم يزفـر بتشتّتٍ وهو يمرّر كفّه على رأسه : يقول إنّنا كلنـا مخدوعين . .
لمـح نظرات متعب التي تغيّرت ببهوت، لم يستوعب معنـى كلمـاتِه لذا أردفَ أدهم بتأنّي : يقُول إنّه مستحيل يفكّر يأذيك .. مستحيل يتجرّأ يتزوج زوجتك وأنت حي . . السالفـة كلها إنّنا طحنـا بنفسَ الخدعـة ، ماهي بعيدة أحد يستخدم اسمه ويوهمك إنّه اللي سوّى فيك كذا .... مثل ما يقول !
صمتَ الوقتُ عن المضي، وعينـاه ترقبـان ملامحَ متعب التي شحبَت وهو ينظُر لهُ نظـرةً خاويـةً من الحيـاة ، جلدُه يذبُل، لم يستطِع أن يخفِي من عينيه الرغبـة بذلك، أن يكون كلّ ذلك خدعـة ، أمنيته الدائمـة في غربتِه كانت أنه يحيا كابُوسًا ، والخداعُ من مشتقّاتِ الكوابيس، أن يكُون كلّ ذلك بعيدًا عن شاهين ، ولو جـاءهُ ماردٌ بنبأ " الأمنيـات " لاختـار فقط أن يكون شاهين بريئًا . . . يا الله لو يتحقّق ذلك! وتضيعُ سنينه تلك بحزنِه .. لا يهمْ! فرحتـه في تلك اللحظـة ستتجاوزُ السنواتِ كلّها ، لكن هل يمكن أن يحدثُ هذا ! .. هه! يالعبِث الأمنيـاتِ الواهيةِ هذه!
لفظَ بنبرةٍ ميّتـةٍ وعينـيه تُظلمان، ملامحهُ تشيخ أكثـر ، أهدابُه تنكسِر، ذراعـه التي لوتها الأيـامُ بسلسلةِ الأقدار التي حملّت اسمـه ، كـان اسم شاهين بحروفِه هو الذي أسـره في كلّ هذا .. كـان هو ! : تدري إنّي سـامع صوته بنفسي .. وتدري إنّه كـان من رقمه بعد! الرسـالة اللي فضحَت مكانِي وبعدها صوته . . تدري بهالشيء يا أدهم !
لم يردّ أدهـم وهو يدرك في هذهِ اللحظـة أنّ آلآمـه عادَت لتثور ، بينما ابتسم متعب بسخريةٍ مريرةٍ وهو يلفُظ بخيبـة : كذبـة جديدة ، مجرّد كذبـة جديدة منّه . . للأسف.


،


تراجَعت للخلفِ بصدمـة ، وفحيحُ الهواءِ خـارجًا أصابَها مع ظهورِ ملامِح أمّها لهـا ، البـاب بقيَ معلّقًا ، مفتوحًا على الوجـه الذي رأتـه آخـر مرّةٍ قبـل وقتٍ طويل ، كـانت المرّة الأولـى والأخيرة ، لم يتبعها سوى سردٍ عن ماضي .. عن ماضٍ مُهلك !! ماضٍ يغمسُ جراحها الملتهبـة في الملـح . .
ابتسَمت رقيّة برقّةٍ وهي تلفظُ بنبرةِ صوتِها النـاعمـة : أدخل؟
ولم تكُن لتنتظـر ردّها بالفعـل، بل دخَلت لتغلـق البـاب من خلفِها وكأنّها صاحبـة المنزِل . . شعرَت بجسدِها يتشنّج وبالزمنِ معها ، تنظُر لهـا بملامِح باهتـة ، بعينين لا تصدّقـان، بلوعـةٍ حشرجَت أنفاسها وماضٍ بـزغ من جديدٍ غير " أدهم ونجلاء " ، ماضٍ تكرّر مرّةً أخـرى ، غير والدها الذي غـاب مرّةً أخـرى بعد أن قـامَ بعملِه ورحـل ، عملِه الذي كـان قسرًا حتى لا يُعكّرَ مزاجـه فقط ! جـاءتها من المـاضِي وأنــارتْ في شفتيها تقويسةَ خذلان، لمعـةُ حزنٍ في عينيها سرعـان ما أطفأتها وهي تُشيحُ بوجهها الشبيهِ بها عنها ، قلبـها شعرت أنّه ينكمـشُ فيوجعها، صوتُها أيضًا، والذي خرج إليها مختنقًا : وش تبغين؟
رقيـة بعتب : هذي طريقة تستقبلين فيها أمّك؟!!
احتدّت نظراتها بينمـا مـال فمها بسخريةٍ لاذعـةٍ لنفسِها ، بحزنٍ من تلك الكلمـة التي تجلدها بسياطِ الفقـر الأسريّ، أقسـى فقر، ليس المـال بل هو فقر الأسـرة ! . . لفظَت بتهكّمٍ ساخـر : أمي؟ حاشا هالمكانـة منك !
ابتسمَت رقيّة دونَ تعليقٍ وهي تحرّك أحداقـها تنظُر للمنزل الذي اختلفَ وباتَ آخـر منذ المرّة الأخيـرةِ الذي كـانت بِه، الجدرانُ اختلفت، الأرائك، التضاريس، والألوان أصبحت أكثر عصريةً وزهوًا . . لفظَت وهي تبتسم ابتسامةً أقرب للسخرية : يا الله شلون تغيّر كل شيء !!
نظـرت نحو إلين التي كانت ترمقها بجمودٍ وشراراتُ عدمِ الاستقبـال تظهر مليًا على ملامحها : شفت أدهـم من شوي طلع فقلت فرصتِي عشان أشوفك.
إلين تعقدُ حاجبيها بضيق : تراقبيني؟
رقيّة ببساطة : تقريبًا . . شلونك مع هالهمجي؟
إلين بالرغمِ من كرهها لأدهـم وحقدها عليه إلا أنّها لم تكُن لتسمـح لها بالحدِيثِ بهذا السوءِ وهي أسوأ، كلّهما يملكـان صفـاتًا متقاربـة، لكنْ على الأقـل أدهم لم يطمـح للحرام يومًا! ، لفظَت بدفـاع : يا ليت تحترميني وما تحكين عنه بسوء قدّامـي! وبعدين ترى مالك حق تقيميين الناس !!
ضحكَت رقيّة بصدمة، ضحكـةً سريعـةً خاطفـة ومن ثمّ لفظَت بتعجّب : جـاب راسك؟
إلين بقهر : سؤال ماله قيمـة .. بس الأكيد ماراح أسمح لأحد يحكي عنه مهما كـانت مكانته عندي.
رقية : يعني له مكانـة؟
إلين تتجاهـل سؤالها وتردُّ عليها بسؤالٍ آخر : ليه جيتي؟
رقيّة ببساطـة : عشـان أشوفك . . بتخليني واقفة كذا؟
إلين تشدُّ قبضتيها وآلامها تُبصِر الطريقَ إليها، هذا الغزو الذي امتهـن قلبها ، أن تنتظـر شيئًا وتتمنّاه سنينًا لتكتشف أنّه حقيقـة، لكنّها حقيقةٌ موجعَةٌ تجعلك تتمنّى لو أنّها لم تكُن! تجعلك تنسى أمنياتِك السابقـة وتتمنّى أنّها لم تكُن ، يا الله كم أنّنَا نظلمُ أنفسنا حين لا نرضى ! ، كنتُ بخيرٍ قبل أن ألتقي بهِم، قبل أن أعـرف الحقيقـة وأعيش في دوامةِ هذهِ الخيبـة، كنتُ بخيرٍ قبـل أن أفقدَ نفسي ، فقدتها من شدّةِ هذا الحُزن وهذهِ المرارَة التي بقيَت حتَى الآن تسكُنني كصديدٍ وجَد دارَهُ في حنجرتِي ووجدْتُه قوتِي اليوميّ من الألـم . . . ابتلعت ريقها بصعوبـة، هذهِ الصعوبـة تقتلنِي حين تُخلـق في أبسط الأشيـاء تعبيرًا عن الانهزام . . ارتفعَ صدرها بضيقِ تنفّسها وهي تُقرِئ نفسها أن لا تضعف ، لم يُخلـق بعدُ من يُضعفها سواهم، عائلتها التي لم تجتمِع معهم بدّمٍ لكنّهم كـانوا أصدَق دائمًا ، لم يكونوا مثلهم ، أبدًا لم يكونوا مثل من أخذَت دمهم !!
لفظَت بخفوتٍ متأسّي : شلون لك وجه تجين عشان تشوفيني! شلون لك وجه تعيشين أصلًا!!
رقيـة تبتسم بجمود : أخطائي منتِ مسؤولة تحاسبيني عليها.
إلين بحدةِ صوتٍ خـرج مقهورًا ، بتداخُل حبالها الصوتيّةِ مع بعضها حتى خرجَ صوتها حادًا ، غاضبًا ، عاتبًا ، لا مُحبّ : أخطائك مسّتني يا أمّي العزيزة .. شلون لك حيل تغلطين وتنسين إنّ هالغلط الفادح ممكن ينتج عن طفـل يشيله! هالخطأ من بين كلّ الأخطـاء ما يتحمله بس اللي ارتكبـه .. تتحمّله أجيـال !! .. الحين أنا ، وبكرا عيالي وبعده عيال عيالي! بيقولون أمنا وجدتنا كـانت نتاج زواج لعبـة ومصخرة ! كـانت خرّيجة دور أيتام !!
رقية ترفعُ كفّها لتُعيد طرحتـها للخلفِ ويظهر البـاقي من شعرِها الأسـود ، رمقتها بنظـراتٍ باردِة ، لا مبـاليةَ بكلمـاتِها وكأنها تُخبرها أنّها لم تندَم، لم تخسـر شيئًا، لم تبالـي بما حدَث !! . . هتفت بخفوت : خليك شاطـرة ولا توصّلين الموضوع لعيالك . . من . .!
ابتسمَت بسخريةٍ ولم تكمِل كلمتها الأخير " أدهـم "! وكأنها تستخفُّ بزواجها بِه ، ترى أنّه لا يستحقّ أن يرتبـط بابنتِها ، حتى وإن كـانت مجرّد اسم ، " ابنة " ، لم تكن يومًا أكثـر من كلمـةِ تعارف ، لا تنكـر أنّها تمنّت لها الأفضـل، تمنّت لها رجلًا تعيشُ معه بشكلٍ يُرضيها ، لم تُبتـر منها كلّ معالِم الأمومـة ، ربّما كانت مشاعِرها باردة، لكنّها أبدًا لم تكُن لا تبـالي بها وإلا لما جعلتها تبتعدُ عن حيـاةِ دار الأيتـام حين طلبَت من هالـة أن تكفلها وتعذّرت بأنها لا تستطِيع كونَها تعيشُ وحيدة ، حينَ كانت تتمنّاها ليـاسِر حتى تبقَى معهم ، ياسِر الطبيبُ النـاجح وليسَ أدهم !!
شدّت على أسنـانِها بغيظٍ بنما نظـرت إلين للأرضِ بسخريةٍ من فكـرة " عيالك من أدهم "! هل سيجيء يومٌ وتستسلم! غبيّةٌ حين تظنّ هذهِ المهزلـة ستدوم ، لم تكُن تفكّر بالنفور قبـل أن تصبح قريبـةً منه ، لم تكُن تفكّر بأن تحرمـه من حقوقِه كزوج ، لكنّه حين اقتربَ استشعرت عظمَ تلك العلاقـة عليها وأنّها لا تستطِيع ، لا تستطِيع أن تبنِي معه قربًا كهذا .. لا تستطيع أن تهربَ من لعنـاتِ الملائكـة . . . غصّت من تلكَ الفكرةِ وهي ترفعُ أحداقـها للأعلى وتهمسُ بالسمـاح من الله .. أن يرحمها ، أن لا يؤاخذها على نفورها القهريّ ، لست أنـا من يقرّر بل ماضيّ معـه وحاضرِي الآن ، لست أنا يا الله .. فاغفر لي غضبـه كلّ ليلـةٍ مني وبالرغمِ من كونِه لم يُفصـح عن ذلك إلا أنّني أكـاد أجزم أنّه يكتم غيظًا ربّما لأجـل كرامته فقط ، بالتأكيد ليس لأجلي!
إلين بسخرية : ما أدري مين قالّك إن الموضوع بهالبسـاطة ! يظل محصور بجيل وما يتناقلـه الجيل اللي وراه .. مين قالّك؟
رقيّة تُميل فمها : يعتمِد عليك.
إلين بسخرية : مثل ما ظلْ سرّك مستور؟
رقية تغيّر دفّة الموضوع : حضرت زواجك . .
إلين تبتسمُ بحسرة : زدتيه ظـلام . .
رقيّة : منتِ سعيدة معه؟
إلين : ما يهمك سعيدة أو لا .. هذي حياتي يا أمّي العزيزة .. وأنا اللي قرّرتها.
اقتربَت منها رقيّة وعينيها تلتمعـانِ بقوّةٍ حـاقدة، حقدُها كـان مبنيًّا بصلابتِه على أدهـم ووالدِه ، أحمـد ، ولم يكُن على إلين بذاتِها .. لفظَت بخفوتٍ حـاد : تطلّقي منه .. تطلّقي منه يا حبيبتي وأزوّجك أفضل من اللي خلفوه كلهم . .
تراجعَت إلين وهي تتنفّس بقوّةٍ غيـر مستوعبةٍ كلماتَها تلك، بينما أردفت رقيّة بخفوت : رجُل أعمـال يعيّشك عيشة كريمة ، إذا ما كـنتِ لياسر ماراح تكونين لهالفاشِل .. تكونين لأي رجال بس هذا لا !!
إلين بصدمةٍ تتراجـع أكثر ورقيّة تقتربُ منها، لفظَت ببهوت : أنتِ وش قاعدة تخربطين ! ودّك تزوجيني على كيفك وأنا متزوجة؟
رقيّة : أدري إنّك كارهة هالزواج .. ليه تحترمينه؟
هزّت رأسها بالنفيِ وهي تبتلـع مرارتها ، هل تقول لها بأن تخطو على سيرها؟ أن ترتبطَ برجلٍ ما كما ارتبطَت هي بدافِع الطمـع؟ هل تخبرها أن تكون قذرةً ولا تُبـالي بحرمـة الزواج!!! . . فهمَت رقيّة مكنونَ نظراتها ، حينها ابتسمت وهي تلفظُ برقّة : لا حبيبتي ، ما قصدت اللي في بالك .. تقدرين تتطلقين منّه وتتزوجين غيره . . .
قاطعتـها إلين بانفعـال : بــــــــــــس !! وش هالجنون صاحية أنتِ تقولين لي هالكلام وأنا متزوجة؟!!!
رقيّة تهتفُ دون مبالاةٍ بكلمـاتها : شايفة بنت أحمد؟ أيه هو نفسه أبوك .. بنته اللي تعتبر أختك بعد .. مممم أتوقَع اسمهـا غزل ، اللي يهمني أقوله إنّها عرفت تختار! زوجـها رجّال ناجح و . .
وضعَت كفّيها على أذنها وهي تلفظُ بعذابٍ يحاصرها من كلّ جانِب ، بصراخٍ تقاطـع كلمـاتها عن الكمـال : خلاااااااااااص .. اطلعي برااا ما أبي أسمع كلمـة ثانية من جنونك .. اطللللللللللعي !!!!
ابتسمَت رقيّة ببرود ، وتلك شعَرت بمشـاعرها تنضَحُ بالأسـى ، تتجاهـل كثيرًا موضوع الأخت هذا ، تناستـه، ربما تشعُر بالغيرةِ نحوها، ربّما لا تريد أن تعترفَ بأنّها تتمنى منذ زمنٍ أختًا وأخَا أبًا وأمًا وعائلة! وحين التقت بالأمِّ والأبِ كـانت أمنيتها تتحقّق كمأسـاة ، فهل تستطِيع استقبـال مأساةٍ أخرى! .. تتنـاسى الأخت وتتنـاسى اسمها لتجيء أمّها الآن وتذكّرها بِها .. بغزل ، والتي ولِدت في كنفِ عائلتها الحقيقيّةِ بعكسِها ، ترعرعت بين حنانِهم وعطفهم .. وهي ماذا؟ بالرغمِ من كلّ النعـم التي أغرقها الله عليها إلا أنها تكفُر بِها في لحظـةِ خيبـة ، تكفُر دونَ شعورٍ وتبدأ بالغرقِ في حزنها وحاجتِها ، إمّا أن تتناساهم أو تتنـاسى نعمَ الله عليها دونَ شعور . . لذا لا تريد أن تفكّر بهم ، العائلة التي تحمِل دمها ، لا تريد أن تشعر بهذهِ الغيـرة تجـاه " أختها "! لا تريد هذا الحزن وهذهِ الخيبـة .. هو محض حُزن ، محضُ حزنٍ وخيبـة ، محضُ عـذاب ، محضُ أسـى .. وهم كلّ ذلك يا الله .. بينما نعمُك التي لا تحصـى أعتذر منها لأنّها عانقتني ، أنـا التي كلّما فتحَت نوافِذ القنـاعةِ والحمدِ أُغلقَت في وجهها وغابَت شمسـها ، أتوارى عنِ كلّ ذلك يا الله، عن شمسِهم وعن ظلي الذي جاء منهم مستقيمًا وليسَ معوجًّا بهؤلاء، أُذنِب في حقّ نفسي حينَ أقـارنُ حيـاتِي بأخـرى لم أملكها يومًا .. أجرِم بحقِ نفسي حين لا أرضـى .. يا الله ما أغباني! ما أغبـانِي حين أسقُط في هاويـةِ التمنّي وأنا ملكـتُ عيون الأرضِ ولم أكُن جافّةً من مـاء البسمةِ معهم.
لملمَت رقيّة موقِفها، عدّلت طرحتـها ببرودٍ لتثبّتـها بينمـا جزءُ من شعرها الأسود يظهرُ من الأمـام ، تحرّكت ببرودٍ لتتّجـه نحوَ البـاب ، دونَ تعبيرٍ ملحوظ، دون أن تكسَب شيئًا من هذا اللقـاءِ سوى أنّها بنَت المزيد من الكره في قلبِها ، جعلتـها تكره نفسها أكثـر لأنها علمَت من هيَ أمّها، لأنّها أدركَت أنّها خسرَت أكثر بعد لقائهم ولم تربَح شيئًا !!
خرجَت بصمتٍ كمـا دخلَت ، أغلقَت البـاب من خلفها كما فعلت بعد دخولِها، بقيَت إلين تتـابع البـابَ بأسى وهي تُخفِضُ كفيها عن أذنها ، وبالرغمِ من وعودِها .. كـانَ دمعٌ بائسٌ يسقُط من عينيها دون شعورٍ منها . . .


،


حينَ تجانَست عقاربُ السـاعةِ عند الخامسَةِ مسـاءً كانت تجلِسُ في غرفـة الجلوسِ وهي تُحاكي قطّتها كما بدأت تفعـل بالآونـةِ الأخيرة ، تجدُ أنها " تفضفض "، لا ترتـاح كثيرًا لكنّها على الأقـل تصمُد بذلك! بالتأكيد لا أحـد سيسمعها، ومن سيسمعها لن يُسكن الأعذارَ بينهما ، من سيسمعها سيحتقـر، سيشمُت ربّما، سيرمقها بنظراتِ القرفِ ويلومها على خداعِها لسلطـان !!
سمِعَت صوتَ خطواتٍ تقتربُ منها، رفعَت رأسها لتصتدم مباشرةً بسلطـان الذي كان في الخـارجِ ولتوّهِ عـاد ، عقدَت حاجبيها ومن ثمّ أخفضَت القطّة إلى الأرضِ مبتسمـةٍ بخيبـة، سيأتِي يومٌ لا تتعـاملُ فيهِ مع كرههِ للقطط، سيأتي يومٌ ما لن تكون لها ذكرى منه سوَى هذهِ القطّة التي أحضـرها لها رغمَ كرههِ لها ، لم يُرِد أن يبخـل عليها بشيء ، لم يُرِد أن تتمنّى البسيطَ والعظيمَ ولا يحضره لعينيها اللتين تلتمعـانِ كطفلـةٍ كلّما أسعدها . .
تمطّت القطّةُ بدلالٍ بعد أن تركتها على الأرض، استلقَت بجانِب الأريكـة التي جلسَ فيها سلطـان مع غـزل وفي عينيهِ كلامٌ مـا . . عقدَت حاجبيها تنظُرُ لملامحه وقد أدركت أنّه يريد أن يقول شيئًا .. ارتبكَت رغمًا عنها، وبتوجّس : تبي تقول شيء؟
سلطـان يزفـر قبل أن يردف بهدوء : أيه .. في موضوع يخصّك لازم نحكي عنّه.
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، هل يعقل أن يكون علِم! .. لحظة ! ما هذا الغبـاء الذي يجعلها تفكّر بهذِه الطريقـة وهي تراه هادئًا ، من المستحيل أن يكون هادئًا مع موضوعٍ كهذا .. يا الله لو يكون ! على الأقل سيجلب بهدوئه الأمـل في أن يتقبّلها !!
همسَت بتوتّرٍ وهي تلعبُ بطرفِ قمـاش بلوزتها الطويلة لفخذَيها : يخصني أنا؟ وش هو ؟!
سلطـان بهدوء : أمّك .. أبوك طلّقها . . .


،


كـانتْ تُراقِب ملامِح والِدها الثائـرة ، تنظُر لأرجوانْ باستنكـارٍ وتلك حالها مثل أختها ، كـان يجلسُ في الصـالةِ وكفيهِ يضعها على فمِه .. يفكّر كثيرًا .. ما الذي كان يفعله قريبًا منهم ، قلقْ؟ أمـا كان هو السبب في ذلك !! لازال يبقى قُربه ويعرّضهم للخطـر أكثـر . . . رفـع عينيه لجيهان الواقفـةِ عندَ بابِ غرفتها ومعها أرجوان ، ينظـرانِ إليهِ بنظراتٍ مستغربـة .. لم يظهـر على ملامِحه أيُّ تعبيرٍ وهو ينهضُ ليتحرّك يريد أن يذهبَ لغرفتـه، لكنّ صوتَ جيهان منعه حين لفظَت باستغراب : يبه شفيك؟
استدارَ ينظُر إليها مبتسمًا ابتسامةً كـاذبة وهو يلفظ : شفيني؟ مافيني شيء ..
أرجوان باستغراب : لا فيك .. كنت عادي لين ما شفت ذاك الرجـال في المطعـم . .
لحظتـا احتقـان ملامحه وشدّه على أسنـانِه .. مرّر لسان على شفتيهِ وهو يتحرّك مبتعدًا لافظًا بحدة : لا تحكون عن شيء منتوا متأكدين منه .. مزاجي ما صار له شيء مثل ماهو

.

.

.

انــتــهــى

وموعدنا الجاي ثاني أيام العيد إن شاء الله، واحتمـال أخليه نهار الثالث بما إنّ البارت الجاي دسِم ()

ودمتم بخير / كَيــدْ !





fadi azar 08-07-16 10:11 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
كل عام واني بخير اختي مشكورة على الفصل الرائع

ضَّيْم 09-07-16 02:27 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
أهلاً أهلاً وش هالعيدية الجميلة كيد :rolleyes:
البارتات الأخيرة ممتعة جدًا وبدأ الغموض نوعًا ما يتّضح

أسيل... ربما تكون حبّت شاهين بس لا زالت تكن مشاعر قديمة لمتعب مشاعر حب الطفولة ربّما أو كذكرى جميلة بس ماتدرك هالشي
يمكن البعد المسافة اللي بينهم تخلّي مكانة شاهين تبيّن بقلبها.

شاهين... تعب من قلب هالفترة ولا يهون متعب اللي تعب أكثر منّه بأضعاف.
لكن نقول إن شاء الله يتفتّح عقل أدهم ويكون فاتحة خير عليهم.

غزل... الضمير اللي بدأ يشتغل بعد ماقربت المسافة بينهم بهالشكل يقهرر :biggrin: بس شوفي أنتِ تحبين المفاجئات والصدمات
فأتوقع إنّ غزل مازالت بنت كيف وشلون ما أدري عنّك الصراحه :/ بس ما أدري والله شلون راح تفربكينها!
بس تكفين الزعل اللي صار من جهة سلطان قبل لا يرجع ولا بتمصخ السالفه حتّى لو كانت مو بنت لأنّها ضروري راح تقوله كذا ولا كذا عشان ترتاح :/
وأبوها طلق أمها ومالها يختشي :rfb04470: لا جد أتوقع ردة فعلها عادية ما ندري وش وراك كيد :7Fb04734:

إلين... ماتنلام أبدًا بس على الأقل الشخص يتعامل بأصله دام الرجال ماغلط ليش لسانها كذا بذيء الله يهديها :/
واضح انّي واقفه بصف ادهم بس والله أتكلم بمنطقية من حقّها ترفضه ولا تتقبّله بس أخلاقها تعامله بالمثل وهو ماغلط زيّها حتّى الآن :/
بالنسبة لأمها هذي اللي مغسول وجهها بمرق ماجت عبث. وتقول إنّها تغبط غزل، على وش ياحسرتي :/ ياعميري هي تلقاها من هنا ولا من هنا.

سيف... اجتهد وسوّا اللي عليه وأكثر، وديما لا تغيير، المواقف بينهم ممله ومو معقول للحين ماتحركت شوي.

جيهان... بدأت شخصيتها اللطيفة تظهر، عندي أمل كبيير ترجع لفواز بقدرة قادر!
أما جنان... والله ماتستاهل حرام جد! عقله وقلبه كلش مو معها وهي وش ذنبها تجربتها الأولى تكون بهالسوء هذا
تستاهل الأفضل كيد رجاءً! حتى لو مايرجع فواز لجيهان :5rdsew3:
وللحين حاسه إنّ يوسف وبدر سوف يصبحون أنسباء عن قريب :cgE05050:

أما اخت عناد... ناسيه اسمها غيداء أو ما أدري الزبدة الله يستر من خويّتها اللي قلبتها فوق تحت.

** دخلنا الحين على صباح رابع العيد في انتظاركِ :361:

فتاة طيبة 09-07-16 03:09 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
كل عام وانت بخير حبيبتي ... يختي شوفي لك صرفة في الين من بداية القصة وهي غاثتني شخصية درامية مملة ومقرفة عاشت دور الضحية عند اهلها رغم كل الدلال اللي توفر لها وتسببت بطلاق هالة ولسة مستمرة في الدور اللي عايشته مع ادهم رغم زواجها هي اجبرت ابوها عليه ورغم ان ادهم يحاول يعاملها بطول بال واضح ومع ذلك مستمرة في غثاها وقلة ادبها يختي موتيها ولا خلي ادهم يعطيها علقة تصحيها من سخافتها قرفت منها

كَيــدْ 09-07-16 02:31 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


بكرر وأنوه إنّ فيه جزء نزل قبل هذا بتاربخ 29 رمضان عشان اللي ما انتبهوا له ، + بارت اليوم رغم وسطيّة طوله بس فيه شيء جميل أتوقع الكل كان منتظره :) وَ من بعد اليوم بنثبت على مواعيد محدّدة راح أذكرها نهاية البارت.

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$

بسم الله نبدأ ،
قيود بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(76)*2



" دريت عن الموضوع من ساعتين، انرسلت ورقـة طلاقها لها اليوم الصبح "
ردّهـا كـان في حاجبيْها الذين انعقدَا، عبـر بينهما الصمتْ، لم يظهـر على وجهِها الكثيـر من الاهتمـام، لكنّها صمتت، وكأنها لم تكُن تجدُ ردًّا، لا تدرِي ما تقول ، سعيدةٌ لأن الموضوع لم يكُن كما خشيَت ، لكنّها في المقـابل لا تدري ! ما معنى أن يكون حدثَ لأمّها أمرٌ جلِل.
وضَع سلطـان كفّه على يدِها التي تستقرُّ على فخذِها، ضغطَ عليها وهو يلفظُ بصوتٍ متمهّل : رحت لهـا . . وقالت تبِي تشوفك.
هذهِ المرّة اتّسعَت عينـاها بصدمـة، أشـاحت وجهها الباهتُ عنه لتنظُر للأمامِ دون تصديق، تريد أن تراها؟ تريد أن تقابلها؟ لمَ؟ ما الذي يستدعي عليها هذا اللقـاءَ الأجوف؟ .. نعم! تدرك أنّه سيكونُ أجوفًا، تدرك أنّ المشاعـر والعواطِف انتهت بينهما بل لم تكُن أصلًا ! حدّ أن تغـار من غيداء مثلًا! ومن قبـل من سلطـان، حين ترى تعامـل أمٍ لم تحمله في رحمها، كـانت فقط أمّه بالرضـاع، وبالرغمِ من ذلك حنونةٌ عليه وكأنّه ابنُ رحمـها، بينما هي! لم تعِش يومًا لمسـةً حنونةً منها ، لا تذكر أنّها مرةً مسحَت دمعها، لا تذكر أنّها مرةً ابتسمَت لها في أحاديثَ ناعمـةٍ بينهما، لا تذكر أبدًا لحظـاتٍ جميلة .. هل فعلًا لم تكُن بينهما لحظـاتٌ رغم الأوقات الطويلة التي كانت تكون فيها قُربها؟ كـانا كثيرًا ما تسافرانِ في مقعدين متجاورينِ في الطائرة، لا يكون معهما والدها، تسكنـانِ في نفسِ الفنـدق، غرفتيهما ملتصقتينِ يفصُل بينهما جدار، تخرجـانِ كثيرًا في سيّارةٍ واحدة، تجلسـانِ بجانب بعضيهما ، لكن هل حدثت بينهما مواقفُ " لذيذةٌ " بين أمٍ وابنـة؟ .. يا للعـار! لم يحدث، لم يحدث إطلاقًا .. كلّ تلك السنينَ لم يحدث بينهما فيها تشابُكٌ ابتسمـا معهُ رغم القرب .. هل يعقل؟ هل يندرجُ ذلك في المنطـق؟ .. لا تذكُر أنّه كان بينهما ذلك، أو ربّما كـان ومن قلّته لا تذكر!!!
عـادَت لتنظُر لملامح سلطـان الذي كان يترقّب ردّها، ابتلَعت ريقها بأسـى ، قبل أن تهمسَ بصوتٍ بحّ بخيبتِها : ما أبي أروح لها . .
عقدَ سلطـان حاجبيهِ قليلًا، تنهّد، ومن ثمَ مدّ يدهُ ليضعها على كتفِها وهو يلفظ بتفهّم : فاهمك .. وما ودّي أجبرك .. بس مو عشانك هالمرة ، عشانها هي فكّري.
غزل تقطّب جبينها بحسرة : عشانها؟
سلطـان يهزُّ رأسه بالإيجاب : هذي في النهايـة أمّك يا غزل ، مهما سوّت.
غزل بغصّةٍ تُشيح عينيها عن ملامِحه : نفس المنطق هو أبوي.
سلطان : قد طلب يشوفك مرّة ورفضت؟ لو جاء ما كنت بقول شيء حتى لو ما أطيقه ، الفكـرة اللي قبل إنّه لا طاعة لمخلوق في معصيَة الخالق ! والمرّة الأخيرة اللي قلت فيها ماراح أخليك تدخلين بيتكم لأنّي شفت أبوك وهو ودّه يضرك ، غير كذا ماراح أشجعك على شيء مثل كذا! بس هو اللي قال يبي هالشيء بأفعاله .. أمّا أمك لا.
غزل تُعيدُ نظراتها نحوه بضيق، تشعُر بسكاكينَ تقطّع من صوتِها ، من كلمـاتِها التي خرجَت إليه مستوجعِة تئنُّ بتكدّسِ الجراح : ما أقدر!
سلطـان بتأنّي : خلاص .. نغيّر طريقة الإغراء ، شرايك يكون عشاني؟
ابتسمَت رغمًا عنها وبيـاضُ عينيها يغشـاهُ الاحمرار : مسكتني من يدي اللي تعورني.
سلطان بابتسامة : يعني؟
غزل : اسمح لي أفكر قبل.
سلطان يتنهّد : غزل ترى منتِ رايحة جهاد عشان تفكرين تقتنعين بخطوتِك هذي أو لا! كم ساعة وبترجعين.
غزل تهزُّ رأسها بالنفيِ لتلفظَ بإصرار : بفكّر .. إذا بالنسبة لك الموضوع سهل فأنا أدري راح يخرب نفسيتي فوق ماهي مختربة أصلًا !!
سلطـان : ومتى إن شاء الله بتقررين؟
غزل تبتسمُ بتودّد : اليوم بقولك بس عطنِي فرصة أفكر.
سلطـان ينهضُ وملامحه تتعجّن بضجر : الله يصلحك بس.


،


في الليل ، وبعد صلاةِ العشـاء تحديدًا بساعة.
أوقفَ السيّارةَ أمـام الفندق الذي يقطُن فيه متعب، نظـر لهُ وهو يلفُظ بحيرة : عادي يعني لو وصلتك بنفسي ماراح يكون شكلي مشبوه؟!
متعب بجمودٍ وهو يفتح البـاب : لا .. أصلًا يدرون عنّك بس الشيء اللي أنا موضحه لهم بس.
أدهم يرفع أحد حاجبيه : اللي موضحه لهم؟
متعب يبتسم : أحسه يسلك لي .. هذا اللي قلت لك اسمه عبدالله ،
أدهم : وش رتبته ذا؟
متعب : أتوقع عميد .. وشكله المسؤول عن هالقضية عامةً واللي دخلت نفسي فيها.
أدهم : طيب شلون يسلك لك؟
متعب يهزّ كتفيه : مدري بس حاسس إنّي كذّاب ... أقصد بسالفة تزوير الهوية وعنك .. قلتله إنك بس مجرد صديق وعرفته بباريس.
تراجـع أدهم بظهرُه للخلف : لو بيتعامـل معك بجدّية قانونيًا كان مسكك على سالفة الهوية هذي .. انتبـه له.
رفعَ متعب حاجبيه : وش قصدك؟
أدهم بجمودٍ ينظُر للأمـام : ما أدري .. بس يمكن مخبّي عنك شيء.
متعب بسخرية : ليه أنا مين بالنسبة له عشان يقولي كل شيء!
أدهم ينظُر لهُ بضجر : انزل بس وفكني من غثاك ... مرتِي صارت تزعل من كثر ما أطلع بسببك.
فتحَ الباب وهو يضحك : زوج فاشل عجزت تدلعها بأول أيامكم؟
أطبـق الباب دون أن ينتظـر ردّه، بينما ابتسمَ أدهم بسخريةٍ من نفسِه وهو يحرّك السيـارة حتى يعُود للمنـزل ، الآن ستستقبلـه بالتأكيد كالمعتـاد بنظراتِها الحاقدة وبصوتِها وكلماتها الوقحة !! تمتم بخفوت : نصبر .. وش ورانا غير الصبر !

بينما رمـى متعب جسدهُ على السرير بعد أن دخـل غرفته، دسَّ كفيْهِ أسفـل رأسه، ينظُر للسقفِ الأبيضِ بشرود، ابتسـامته الكاذبة مع أدهم تلاشَت، وبقيَ في جنباتِ شفاهه جمودُ الأسى، ما الذي تريده يا شاهين من قصّتك الجديدة؟ أن تصعَد بي إلى غيوم الأمـل حتى تتلاشى وأسقطَ فجأة؟ أن أنكسـر من جديد؟ أن أفـرح لتتحطّم ابتسـامة الفرحـة وتوجعني أكثر! ماذا تريد من كلّ هذا؟ منذ متـى صنعْت في نفسِك هذهِ الشخصيّة التي تهوى تعذيب من حولك .. لا ! بل تعذيبي أنا ! من بينِ كلّ البشـر . . . لطالمـا كنتُ أرشدك بعيدًا عن أخطائك حين تفتعلها، ولو أنّك آذيتَ نفسك كنتُ سأرشدك لكفّارةِ ما فعلت .. لكن كيف أرشدك وذنبك هذهِ المرّة مارسته عليْ؟ لم أعُد أفهمك .. هل تريد تعذيبي أكثـر؟ هل تريدني أن أحبّك من جديدٍ وأحيـا ، ومن ثمّ أموت بقسوةٍ أكبـر !
يا ربّ العباد ! مالي وأمنيـاتي الآن؟ كيف يطلبُ قلبي دون إرادةٍ منّي أن يكون صادقًا بالرغم من كونِ عقلي لا يريد التفكير بـ - كذبته - من الأساس! يدرك أنّها خدعـة ، ولو أنّ المنطـق يغادر كلّ شيء ، المنطـق يا شاهين، أن لا يكون ذاك الصوت الحاقد عليّ صوتُك ، ألّا تكون الكلمـات تلك كلماتك ، كيف ذلك؟ لا يُمكـن ، هُنا تقطُن الحقيقة للأسـف ، كلماتك التي لا تأويلَ لها سوى " تأكّد من موت أخوي اللي ما أبيه بهالدنيا! "، كلمـاتك التي رسخَت في جدران ذاكرتِي وأنت تسأل " مات؟ "، ومن ثمّ تُكمـل بوعيدِ صوتِك إن كـان فشِل . . كلماتُك تلك لا أنساها، لا أنساها أبدًا !!
من جديدٍ وكعـادةِ الليـالي التي يقضيها بالتفكِير قبل نومِه، يسترجع البعضَ أو الكُل ممّا حدثَ قبل أكثـر من ثلاثِ سنين، من تلك الليلـة ، ومنذُ اتّصـال أسيل بِه . . . ابتسمَ بخيبة ، يومَها دخـل في هذهِ المعمعَةِ حين افتضحهُ اتصالها، ومن ثمّ غـدر بهِ أخوه لأجلها ! . . ماذا فعلَ بِي حبّك يا أسيل من دمـارٍ حتى الآن! ماذا فعل؟!!
عـادت إليه نظراتُ ذاك الذي اصتدمَ بِه تلك الليلـة - سالم -، شعـر أنّها حوله، لذا سحبَ إحدى الوسائد التي كانت متناثرةً حولَ رأسِه ليغطّي بها وجههُ وهو يزفُر بضيق . . ذلك اليوم بعد أن أخذَ هاتفه الذي كان يرنّ، ردّه على أسيل ، والتي لفظَت مباشـرةً باسمِه " متعب ".
ابتسامـة الشرّ في وجهِ سالـم، ومن ثمّ إغلاقِه للهاتِف، استدارته لأحدِ الرجـال الذين كانوا معه . . نظـر لهُ بنظراتٍ متوجّسـة وهو يرمي الهاتفَ بعد أن أشار لرجلٍ كان خلفُه ليُمسكـه مباشرة ، ومن ثمّ عصَف صوتُه الوحشيُّ بخشونتِه في المكـان المُعتـم، والهادئ : شوف لي معلومات آخر الأرقـام الموجودة .. وركّز أكثر شيء عن أب .. ام .. اخوان ... زوجة !
حينـها اتّسعَت عينـاه بذهول، وقد فهمُ ولو بشكلٍ مبسّط .. أن هنـاك خطرًا سيعانقِ من قصدهم ! ، امه، اخوه ، وزوجته ! . . بينما عـاد سالِم لينظُر إليه، يبتسم ابتسامةً ساخنـةٍ بالشر، وهو يلفظُ بنبرةٍ ماكرة : من وين نبدأ أخ متعب؟
ومنذُ تلك الليلـة ، انتهَت حياته التي اعتادها ! الهدوء، السـلام، كـان يفضّل الموتَ على أمورٍ كثيرةٍ حكَى معه عنها في تلك الليلـة ومن بعدِها ، قـال له سيمُوت ، أو يقوم بخدمةٍ واحدةٍ لأجلـة ، ومن بعدها " وعدَ " أنّه سيتركه وينساه، لمْ يكُن أحمـق ليصدّق وعدَه، لكنّه استطـاع ارغامِه بهم ، وبعدَ أن عـاش لحظاتٍ من التوجّس والترقب وهو ينتظُر أنْ يُسجن في يومٍ مـا بتهمتِه ، نسيَه سالم ، كمـا قال، ولم يكُن يدرك وقتها أنّه اختـار له الموتَ ببطءٍ بعيدًا . .
ارتخَت كفوفُه على الوسادةِ وهو يتذكّر كيف أنّ شاهين كان هو من انتبـه لظهورِ علاماتِ الادمـان عليه . . لمَ نبّهه لذلك؟ كـان يستطِيع أن يُكمل بكلّ بساطةٍ هذا الموتَ البطيء، يبدو أنّه ملّ، لذا اختـار الموت السريع حتى يحضى بِها . . لحظة ! متى تزوّجها؟ في هذا العـام على الأرجح ، لمَ انتظـر كلّ ذلك الوقت إن كـان دافعه أسيل؟ . . أزاحَ الوسادةَ عن رأسِه وهو يعقدُ حاجبيه ، انتظـر لسنتين ! إن كـان هناك من قد يقتل أقرب الناس لديه لأجلِ امرأةٍ فهل يُعقل أن ينتظر لسنتين؟!
أغمضَ عينيه للحظـة، للحظتين ، وحاجبيه لازالا منعقدين .. لكنّهما سرعـان ما ارتخيا ، لتُخلق على شفتيه ابتسامة ، ساخِرة ، متألّمة ، فشاهين بالتأكيد انشغل لوقتٍ فقط بالنجـاح، حتى يستطِيع وقتها أن ينال رضاها بزواجِه.
كلاهما غدرا بِه ، كلاهما !! هوَ حين قتله ، وحين حينَ رضيَت بِه وخانته! وعدتنِي في يومٍ مـا أنّها لن تكون لسواي، لكنّها كانت كاذبـة، مثله ، كلاهما كاذبان !!!


،


وصـل للمنزلِ في غضونِ ثُلثِ ساعـة، ترجّل من السيّارةِ وهو يتمتمُ بكلمـاتٍ مـا، يخطُو باتّجـاه البابِ وهو يحكُّ فروةَ رأسِه بضجَر، فتحَ البـابَ ودخـل، ليبحثَ بعينيه سريعًا وحين لم يجدها اتّجه مباشرةً للدرجِ كيْ يصعَد، دخـل غرفتـه، بالتأكيد ستكون الآن تدرسُ أو ربّما هربَت لتلك الغرفـة من جديد! لوى فمه وهو هذهِ المرّة يجزم بأنّه سيحملها قسرًا ويحبسها في غرفته يومين عقابًا !
وصَل لبابِ غرفتـه ليجدهُ مفتوحًا تقريبًا، دفعـه فقط دون مبالاةٍ ودخـل وهو يلفظُ بصوتٍ هادئ : نجلاء.
كانت في تلك اللحظـةِ على السرير، اضطربَ جسدها ما إن سمعَت صوته يناديها بذاكَ الاسم، أشاحت وجهها بعيدًا عن نطاقِ رؤيتِه، كـانت تجلسُ وهي تضمُّ ركبتيها إلى صدرها وتلفُّ ذراعيها على ساقيها، لكنّها الآن كانت تخفضهما بهدوءٍ وكأنّها تُخفِي حالـةَ ضعفٍ كـانت تغزوها . .
اقتربَ وهو يبتسم ويعقدُ حاجبيهِ باستغراب : غريبة شايفتني راجع من برا وهاجدة! بالعادة بتهاوشين وتقولين ليه ما أخذتك لأهلك !!
إلين بخفوت، ظهرت منه نبـرةٌ مـا، نبرةٌ كـانت في غيرِ مكانِها : ما يهمني.
كـانت تحاول أن تُخفِي نبرةَ الاختنـاقِ الباكـي تلك، لكنّها سطعَت على كلمـاتِها، ظهرت لمسامِعه .. حينها ابتلعت ريقها بينما صوتُ خطواتِه اقتربَت فجأةً وملامحه تتغيّر، تحرّكت بانفعـالٍ كي تبتعد، تهربَ منه بالمعنـى الصحيح وقد أدركت أنّه قرأ ملامِح صوتِها الباكي، لكنّه كـان أقرب إليها من الهربَ، التصقَ جسدهُ بجسدها ما إن وقفَت لترتعشَ بربكةٍ وتتراجع جالسةً على السرير، في حين انحنى إليها بملامِح هادئـة، لم تُظهر الاستنكـار الذي اعتلاه، لم تُظهـر توجّسه وخوفـه .. أمسك فكّها برقّة، ومن ثمّ رفـع رأسها ، كـانت تقاومُ تيّارَ يدِه التي تجرفها إلى عينيه، يرغمها على النظر إليه حتى يستطِيع رؤيـة عينيها بوضوح .. كـانت أضعف! أمّها بعثَت بالمزيد من الضعف، بالبكـاءِ على ماضيها وعلى حياتِها هذهِ المرّة، أمّها كـانت مفتـاح الانفجـار ، كـانت السبب في النظـرة التي اعتلَت على ملامِح أدهـم ، الصدمـة من عينيها المُحمرّتين وملامحها المُنتفخـة لتُخبره بوضوحٍ أنها بكت ساعات ، بكَت لوقتٍ طويل ، بكَت وانسلّت من قناعتها بعدمِ البكـاء!
همسَ دون تصديق : كنتِ تبكين ؟!!
إلين ترفعُ كفّها لتُمسك بمعصمِ يدِه التي تقبضُ على فكّها، حاولت أن تجلعه يُطلقها وهي تلفظُ بسخرية : افـرح ، ما عاد تحتاج تقولي قوّتك كاذبة !
أدهم بحدةٍ يرفعُ وجهها إليهِ بقوّةٍ وهو يلفظُ من بين أسنـانه : وش صـار؟
إلين ببهوتٍ وهي تشتّت عينيها بعيدًا عنه : مو شغلك.
أدهم : مو شغلي !!!
اقتربَت ملامحه منه فجأةً بانفعـال، شهقَت شهقةً خافتـةٍ وهي ترجع رأسها للخلفِ لكنّه شدّ على فكها ليقربها من وجههِ قسرًا وهو يلفظ بحدّة : وش صار؟
ارتعشَت شفتيها بخوفٍ من قربِه، أنفاسه تلفحُ وجهها المُحمر، حرارتُها تلهبُ بشرتها، تّذيبُ جلدها في علامـةِ انصهـارٍ أخيرة، بعد أن انصهر الدمـع وبعد أن بكَت، هاهو الآن يصهر جلدها بعيدًا عن ملوحةِ عينيها التي انصهرت بنارِ أمّها .
أدهم يقرّبها منه أكثر وهو يدرك أن قربـه يستفزّ الذعـر فيها وسيجعلها تتكلّم رغمًا عن صمتها، وببرودٍ يكرّر : وش صار؟
أغمَضت عينيها بضعف، الأدرينـالين يتصاعدُ في جسدِها، قلبها باتَ ينبضُ بقوّةٍ مرتبكـةٍ وهي تهمسُ برجـاء : ابعد.
أدهم بخفوت : بمقابـل تردّين على سؤالي.
إلين بصوتٍ واهِن : شيء يخصني.
أدهم : اللي يأذيك يأذيني.
فتحَت عينيها ببطءٍ وهي تشعُر بغصّةٍ تزاحـمُ حنجرتها، ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ ليتحرّك حلقها بوضوحٍ لعينيه، حينها شدّ على أسنـانه بغضب، أغضبـه أن تحزن حدّ أن تبكي وهي في بيتِه/بيتها، ما الذي قد يُحزنها؟ ما الذي قد يُذيبُ جمودَ عينيها ويُسقطُ الغيـم الأبيضَ في هيئةِ مطر؟ لطـالما كانت غيمةً بيضـاء! لم تكُن سوداءَ يومًا تحمل المطر، فلمَ تبكِي؟ كيفَ يُولد المـطر من غيرِ رحمِه؟!ا
هتف من بينِ أسنانه بغضبٍ جارفٍ ووعيد : احكِي .. والا ماراح يكون سكوتك ذا شيء طيّب لِك.
استفزّها من تهديدِه هذا لشيءٍ يعنيها هي فقط ولا يعنيهِ هو، لذا صرخَت بغضب : مالك شغـل فيني .. مالك شغل!!
أدهم يضغطُ على فكّها وهو يدفعها للخلفِ لتسقطَ على ظهرها، شهقةُ ذعرٍ تسلّلت من صدرِها إلى المُحيط، اعتلاها بحسدِه دون أن يترك فكّها ، بينمـا تجمّد جسدها دلالـة الخوفِ وعينيها تهتزّان، تنظـر لأحداِقه الغاضبـةِ وهي تضيق، شفتيه اللتين زمّهما بغيظٍ ليلفظَ أخيرًا بصوتٍ هامسٍ أقرب لفحيحِ أفعـى غاضبـة : أجـل ليلنا طويل .. ماراح أتركك لين توصلنِي الإجابة.
انفجـرت بالبكـاء من جديد، سقطَت دموعها، انبثَقت من عينِها، والبؤسُ في عينيها لم يسقُط، الحزن لم يغادرها كمـا يجب حتى تستطيع الصمودَ أمـامه . . بهتَ بصدمةٍ من بكائها أمـام عينيه، بينما اندفـع صوتها صارخًا وقد هُزمَ ثباته أمـامه وامتلأ بنبرةِ البُكـاء : أنت وش اللي تبيه مني بالضبط!! وش اللي تبيه ؟؟ اتركني بروحي ، تكفي اتركني بروحي هالمـرة مافيني حيل .. والله ما فيني!!
صمتْ، وصدرهُ يرتفـعُ بتنفّسٍ حادٍ منفعل، الآن ترجُوه ، لمَ؟ ما سبب هذا الضعف الذي غزاها الآن؟ ليسَ بسببه، وليس بسببِ حياتِها التي ابتدأت معه ، يشعر أنّ هنـاك ما أصابها وهناك ماهو أعمقُ حدّ أن يجعلها تضعف أمامه، ولو أنّه كان السبب لما أظهرت ضعفها!
أرخـى قبضته عن فكّها قليلًا، لم يكُن يمسكها بشكلٍ مؤلمٍ لكنّ قبضته كانت قويّةً على رقّةِ بشرتِها وخشيَ أن يجرحها .. رقّت ملامحه، دفـع الغضبَ عنه، وانخفضّت نبرةُ صوتِه الحـادةِ دون أنفاسِه وهو يهمس : وش صار؟
إلين بقهرٍ تلفُّ وجهها عنه حين استطـاعت بعد أن خفّف من قبضةِ يدِه، وبحدةٍ باكيـة : أنت ما تفهم ؟ ما تفهـــم !!! إذا مضايقتك لهالدرجـة بطلع وأنام بعيد عنّك ، مافيه عذر لإصرارك ذا غير أنك متضايق مني!!
أدهم يبتسم برقّة : أتضايق؟ وبعدين ترى سبق وحذّرتك لا تروحين لذيك الغرفـة.
إلين تنظُر لهُ بقهر، وبتحدي : ولو رحت؟ وش بتسوي لو حصلتني مقفلة الباب بالمفتاح مثلًا.
أدهم بنبرةٍ حنونةٍ وهو يمسحُ بإبهامِه على خدّها ليُرعشها : بكسر البـاب وبعدين أشيلك بيني يديني.
إلين بربكـةٍ أصابتها رغمًا عنها، لم تعتد لمسـة رجلٍ ولم تعتد قربًا كهذا، حتى وإن كـانت تكرهه لكنّه يربكها رغمًا عنها، لفظَت بنفورٍ مرتبك : أبعد.
أدهم بابتسامة : قلت لك ببعد إذا علمتيني وش اللي مبكيك.
إلين بخفوتٍ مختنق : شيء يخصني.
أدهم : اللي يخصك يخصني.
إلين تكرّر بحدةِ صوتها الذي ارتفع : شيء يخصني.
أدهم : أجل ماراح أبعد عنك.
أغمضَت عينيها بجزعٍ وكفيها تبهتـانِ عن دفعِه، هذهِ المرّة لم تحاول أن تُزيحه عنها قسرًا، لم تحاول وهي تشعر بأن جسدها باهِت، بأنّها تتوهُ عن القوّة التي كانت تتلبّسها منذُ أيـام، قوّتها الزائفة كما كان يقُول لها.
شدّت على أجفانِها بقوّةٍ وصوتُه يردف بخفوتِه الحنونِ ذاتِه : وش صار؟
لمْ تردّ هذهِ المرّة بحدتِها وآثـرت الصمت، في حين لفظَ هو يبحث عن الجوابِ بأسئلته : صار لأحد من أهلك شيء؟
شهقَت وهي تفتح عينيها بذعر : بعيد الشر!!
أدهم : أجل انحرمتي بوحدة من موادِك اللي منزلتها؟
قطّبت جبينها : لهالدرجة تشوفني دلوعة؟
أدهم يبتسم : قولي عادي لا تستحين .. وأنا بدبر لك عذر دامك مهملة.
لوَت فمها وهي تدرك أنّه قد رسمَ في عقلهِ صورةَ الطـالبةِ المهملةِ لها، ردّت ببطءِ كلماتِها الموضحة : ترى كوني رسبت ما يعني إني مهملة.
أدهم بسخرية : محد يرسب وهو مجتهد.
إلين بغيظ : هي مرة وحدة بس .. وإلا درجاتي دايم عالية!
ابتسم : طيب ليه كنتِ تبكين؟
أشاحَت وجهها مباشرةً باختنـاقٍ وصوتُها يعودُ ليضيقَ بآلامِه، عادت لها صورةُ أمّها، شعرت بالنقصِ يغزوها من جديد، من تسمى أختها، والدها، أمها!! كلّ تلك المفاهيمِ تفقدُها ، هذا النقصُ كم يُكلّف من الأنفـس ما فوقَ وسعِها " حزنًا "، هذا النقصُ لن يكُون إلا حين تغادرنا قناعتنا .. للأسف ، رغمًا عنها تحزنُ ورغمًا عنها تتحسّر على أمورٍ لم تذقها. هل كـانَ يجب أن تذوقَ كلّ هذهِ الخيبـةِ بعد ظهورِهم، تريد قول " ليتَ "، تريد التمنّي الآن و " ياليتهم لم يظهروا " لكنّها تشيخُ قبل أن تبدأ في التمنّي، تشيخُ كلّما أدركت بذلك أنّها تخسرُ نفسها أكثر في وحلِ خيباتِها.
جاءها صوتُه من جديدٍ يكرّر سؤاله بنبرةٍ تستفزّ الحزن فيها أكثر : ليه كنتِ تبكين؟ وش صار؟!!
تقوّس فمها قليلًا، تنظُر للبعيد، لمـا وراءِ كتفِه ، للسقفِ الخـاوي من ألوانِ الحيـاةِ وهذهِ الكآبـةُ في غرفتـه التجأت لها كي تزيدَ من حزنها أكثـر . . همسَت دون تعبير : جات اليوم.
أدهم يعقدُ حاجبيه دونَ فهم : جات مين؟
إلين تبتلعُ ريقها، نظـرت لملامِحه الحـادةِ وقد أدركت أن صوتها انزلقَ بتلك الكلمـاتِ دون شعورٍ منها، تنفّست بتحشرجٍ بينما احتدّت ملامحه قليلًا وهو يلفظ بحزم : مين اللي جات؟
إلين ببهوت : اللي ينقال عنها امّي . .
لم تشعُر بهِ إلا وهو ينتفضُ مبتعدًا عنها وملامحه تتبدّل بنـارٍ عصفَت فيها عواصِف حـارقة، عواصِف تحملُ براكينَ كرهٍ وازدراء ، براكينِ غضب !! . . ارتفعَ صوته فجأةً بتقززٍ وهو يقفُ أمامها بينما اتّكأت هي على ساعديها كي ترفع جسدها قليلًا بعد ابتعادِه : وش اللي كـانت تسويه هنا ؟!!!
مرّرت لسانها على شفتيها وهي تعتدلُ بجلوسِها، تمرّر كفيها على شعرِها القصيرِ كي تنفُضَ عنه غبـار العبَث الذي أصابه، مُشعثةٌ ملامحها من الأسـى، مُشعثٌ صدرها من الخسرانِ والهوان . . همسَت دون تعبيرٍ وهي تهزُّ كتفيها : ما أدري وش كانت تبي بالضبط .. قطّت كم كلمـة وطلعت.
توحّشت ملامحـه فوقَ وحشيّتها، شدّ قبضتيهِ بوعيدٍ وهو يمرّر أحداقهُ على ملامِحها التي ترسّبت فوقها آثـار البكـاء، وبصوتٍ متباطئٍ يُنبئ بالخطـر : هي السبب بدموعك؟
عقدَت حاجبيها بتوجسٍ ولم ترد على سؤالِه الخافِت ذاك، وكـان صمتُها كافيًا لتصله الإجابـة، حينها تحرّك بغضبٍ مبتعدًا عنها وهو يهتفُ بنبرةِ شرٍّ ووعيد : والله لكسر راسها وأنسى إنها كانت بيوم مرة أبوي .. بنسى إنها كبيرة عجوز النــــــار!!!
شهقَت بصدمةٍ وهي تنتفضُ واقفـةٌ لتلحـق بِه بعد أن استوعبَت سببَ سؤالِه، هرولَت من خلفِه وهي تراه يمشي بخطواتٍ سريعةٍ يكسر بها المسافـات ومن الواضح أنّ شيطـانًا قـام على رأسِه، وصَلت إليه لتُمسك عضدهُ تحاول إيقافه وهي تلفظ برجـاء : لحظة .. لحظــة أدهم وش بتسوي ؟!!!
أدهم يحاول أن يسحب عضده وهو يهتف بحدّةٍ غاضبـة : بكسـر راسها الحيوانة شلون تبكيك؟ شلون تتجرّأ تدخل بيتك وتبكيك فيه؟!!
إلين بحدّة : لا تسبها .. تظل أمّي.
نظـر لها بغضب : بجهنننننم .. أمّك بس يوم تتجرأ وتنزل دموعك بنسى إنها امك !!
إلين تنظُر لعينيه برجاءٍ خفَت به صوتها : لا تسوي شيء ما عليك منها.
أدهم يستديرُ بكامِل جسدِه إليها، عـاد ليتطلّع لعينيها المحمرّتين، لوجهها المنتفـخ في دلالـة البكـاءِ الطويل، منذ متى قدمَت؟ وماذا قالت لها حتى تبكي بكاءً يبدو أنّه طـال لساعات! ما الذي قالته تلك المرأة ال . . . صمتَ وهو يريد شتمها ، شدّ على أسنانِه ليلفظَ من بينهما بعصبيةٍ بالغة : وش قالت؟!
ارتبكَت من سؤاله لتُشتّت عينيها وتلفظ : كلام ما ينقـال.
أدهم يرفعُ أحد حاجبيه : وشو ما ينقال؟
إلين بغضبٍ تنفجر في وجهه : ما ينقـال وبس يعني لازم تركّز على كل شيء !! خلاص ما أبي أقوله فكّني منك!!
شعرَت بِه يُمسِك بمعصمِها فجأة، سحبها إليه لتصتدمَ بصدرِه، ابتلعَت ريقها وهي تنظُر لملامحهِ الجامدةِ وهو يلفظُ بنبرةٍ خافتـة : وش قالت؟
إلين بشفتينِ ترتعشـان، باتَ قربه ونظراته وصوتُه الخافِت بنبرتِه الخطِرةِ هذهِ تُربكها وتضعفها ورغمًا عنها يتسلّل إليها الخوفُ منه .. لذا همسَت وهي تبتلع ريقها : بتعصّب.
كـاد يبتسم على براءةِ كلمتِها تلك لكنّ غضبه كـان أكبر، لذا أمـال فمهُ وهو يهتفُ بتساؤلٍ حازم : أنا معصب من غير يعني قولي.
إلين بربكة : بتعصب أكثـر.
أدهم بصبر : وصلت حدي في العصبية يعني تطمني.
إلين وصوتُها يرتعش : بتتجاوز حدك هالمرة وب . ..
صرخ بنفاد صبرٍ يُقاطِعها : وبعدييييييييييييييين !!! بتحكين وإلا شلون؟
إلين تُشيح وجهها عنه وهي ترتعشُ باضطراب، ابتلعَت ريقها قبل أن تهمِس : سبّتك ووو . . و بس !!
زفـر وهو يُغمض عينيه ويهتف بداخله " يا صبر أيوب "!!! .. لكنّه هذهِ المرّة ترك معصمها ، ربّما في داخِله لم يُرِد أن يعلم، يدرك كيفَ تراه، ويُدرك أنّها تتمادى بكلمـاتِها وربّما أفصحَت أمام إلين أنها أرادتها ليـاسر ، بالتأكيد تفعلها .. وكما قالت ، سيتجاوز حدودَ غضبِه ربّما إن هيَ أخبرته، لذا هذّب إرادتـه في المعـرفة . . فتحَ عينيه لينظُر إلى ملامِحها المُرتبكـة ، تخشـاهُ وإن مثّلت عكسَ ذلك ، ليسَ جاهلًا كي تخفـى عنه نظراتُ الربكـةِ والخشيـةِ كلّما اصتدمـا .. ابتسم، لا يدري هل ذلك يساعده أم لا ، لكن، ماذا كانت ردّة فعلِها لشتمِ أمّها له والحديثِ السيء الذي لم يعلمه؟ . . شعر أنّه سيهلك نفسه بالتفكير بردّة الفعـل والكلماتِ معها ، لا يريد أن يسألها ، ولا يريد أن يعلـم ، فهي الآن احتدّت بصوتِها عليه لأنه شتم امّها ، هل ستدافع عنه مثلًا؟
رفعَت كفَها لتُمسك معصمها وتتراجـع قليلًا للخلفِ وهي تُخفـض ملامحها المضطربـة عنه، شتفتيها ترتعشـان رعشـةً خافتـة وكأنّ البـرد أصابها، صوتُها ابتلعتـه الرجفـة ، تكره ضعفها الذي باتَ يظهر أمامه شيئًا فشيئًا، اليومَ نقضَت وعدها وبكَت ، وغدًا ماذا؟ قد تستسلمُ لهُ وتنصـاع ، تُصبـح له كمـا يريد بعد هذهِ الخشيـةِ التي باتت تُصيبها كلّما غضِب.
رطّب شفتيهِ بلسانِه وهو يعقدُ حاجبيهِ ويبتسم بعطف، وبخفوت : قطّعتي شفايفك.
انتبهَت أنّها كانت تعضَ شفتها من شدّة ربكتها، تنفّست بعمقٍ وهي ترفعُ وجهها نحوَه وصدرها يتعرقـل بأنفاسِها المُضطـربة، وبخفوتٍ تبرر : كنت خايفة تروح لها وتجيب العيد.
أدهم بحنـانٍ وهو يدرك أنّ تبريرها كـاذب، هيَ خائفةٌ منه! : خلاص ماني رايح لها تطمّني . . وعلى فكرة تطلعين شينة لو خايفة .. حلاتك صرصور يخوّف وما يخاف.
فغرت فمها من تشبيهه المُقزّز ، وبتهكّم : أنت تخاف منه يعني؟
أدهم بابتسامة : لا أنتوا اللي تخافون منه.
صدّت بوجهها عنه : تشبيه معفّن .. لا عاد تشبّه.
ضحكَ بصخبِ صوتِه لتبتلع ريقها وتُرخي أجفانها من فوقِ أحداقها دون أن تُغمِضها . . بينما اقتربَ أدهـم منها خطوةً وهو يهمسُ بنبرةٍ خافتـةٍ مبتسمـة : خاطري بشيء.
نظـرت لهُ مباشرةً بتوجّس، ويدها تشتدُّ على معصمِها وكأنها تدرك ما يريد ، لفظَت بربكـة : وشو؟
أدهم بمكر : بتخافين مني؟
إلين تتراجـع للخلفِ بتوتّرٍ وحذر : ليه بخاف؟ وش تبي؟
أدهم ببراءة : شيء بسييييييط مررررة ، وعادي ما يخوّف بس أنتِ الجبانة.
تحرّكت بسرعةٍ كي تبتعدَ وهي تدركُ جيدًا إيحاءاتِه الماكـرة تلك، لكنّها صرخَت فجأةً بذعرٍ ما إن أحاطَ خصرها من الخلفِ ليجذبها إلى صدرِهِ قسرًا ويضحكَ قرب أذنها وهو يلفظ بخفوت : وشوله الخوف يا بنت النـاس ما آكل والله !!
إلين بغضبٍ تحاول أن تفكّ حصار ذراعيهِ وكفوفها المرتعشتينِ بخوفٍ لا تساعدانِها : ابعـــــــد !! وخر عني يا قليل الأدب.
أدهم بعبث : تغويني هالكلمـة.
إلين بخوف : وش تبي؟!!
أدهم : بس هذا والله.
أكمـلت شفتيه إجابـته، التصقتا بوجنتِها في قبلةٍ عميقـةٍ جعلتها تشهقُ وهي توسّع أحداقها وتتنفّسُ بقوّةِ صدرِها الذي ارتفـع، ضغطَ على بطنِها الذي تشنّج بكفيه ليحتضنَ ظهرها إلى صدرِه الدافئ أكثر، جسدُها يرتخي، يستندُ بكفيهِ على الاستقامـة . . يشعُر بخلجاتِ الربكـةِ فيها ويشعر بالتشنّجـاتِ التي أصابَت أقدامها لتثقُل وتتّكئ على كفيْه ، لكنّه يشتـاق ، يشتاق لتقبيل وجنتِها ، هذا الحصـارُ عليهِ شحّ بوجنتِها ، هذا الحصـار الذي يمنعهُ من إغراقِ جفـافِ شفتيه لملمسِهما، لطالمـا وجدتُك في الزهُور ، أكرّرها كثيرًا ، أكرّرها ولا تتعبُ شفاهِي ، أنتِ زهـرة ، بُستـان، أنعمَ الله عليها بنعومةٍ لا تقوى أشواكِي على جرحِها . . زهرةٌ بيضـاءُ ناعمة، حتى الندى يؤذيها ! . . طـالت قبلته ، وطالت رجفتها حتى ضغطَت بقدمِها على قدمهِ بقوة، لم يتأثّر بهِ كونها حافيةً وهو لا .. لكنّه شعر بها، وابتسـم متراجعًا قليلًا لتضربها بمرفقها في بطنِه وهي تصرخ بغضبٍ ووجهها احمرّ بشدة : قلييييييل أدب !!!
وكانت تلك آخر كلماتها قبل أن تهرول للغرفـة كي تهرب منه وتنبثقَ ضحكةٌ عميقةٌ من صدرِه وهو يضغط على بطنِه الذي آلمه.

،


صباح اليومِ التالي ، وبعدَ الفطور الذي كـان مُشبعًا بالصمت، كـانوا يجلسُون في غرفـة الجلوس، جيهان تردُّ على رسـالة الدكتورة " ندى " والتي أخبرتها أنّها اليومَ لن تكون موجودةً في العيـادةِ لحالةٍ طارئة، تنهّدت بضيقٍ وهي تُعيد ظهرها للخلف، بحجمِ ما ترتاحُ حينَ تُخبـر غريبةً عنها بما يختلجُ صدرها من حُزنٍ إلا أنها تخجلُ من هذا التعرّي، تخجلُ من هذا الانهزامِ أمامها ومن عينيها اللتينِ تلتمعـانِ حزنًا .. من " فواز " الذي يسقُط اسمـه من فمِها كثيرًا أمامـها.
نظـرت نحوَ والدِها الذي وقَف، حينها تحنحنَت بربكةٍ وحرجٍ وهي تلفظ : يبه.
نظـر لها وهو يبتسم : عيوني.
جيهان بخجل : تخليلي هالعيون .. بغيت أقولك إنّ الدكتورة ندى أرسلت لي إنها ما تقدر اليوم تشوفني ..
يوسف يعقدُ حاجبيه : عسى ماشر.
هزّت رأسها بالنفي : انشغلت عن عيادتها اليوم.
تنهّد بصمت، ومن ثمّ غرقَ في صمتِه للحظـات، عينـاه بهتتا وكأنه بدأ يفكّر بشيء مـا جعلها تعقدُ حاجبيها مستنكـرة ، لا تطمئنُّ لسكوتِه، لغرابـةِ ملامحـه هذهِ الأيـام، لحيرتِه واهتمـامه الذي تضاعفَ بهم . . تحرّك فجأةً باتّجـاه البـاب وهو يمرّرُ لسانه على شفتيه ، وبنبرةٍ مستعجلـة : مضطر أطلـع الحين * نظر نحوهنّ ليردف بتحذير * ولا تطلعون ! ماني متأخر . .
لفظَ كلماتِه المحذّرةَ تلك ومن ثمّ خـرجَ لتحرّك جيهان رأسها نحوَ أرجوان وهي تُميل فمها وتنظُر لنظراتِ الاستنكـار في عينيها : مو كأنه يوم عن يوم يصير أغرب؟
ابتعدَت نظراتُ أرجوان عن البـاب الذي أغلِق بعدَ خروجِ والدها، نظـرت لجيهان وهي تعقدُ حاجبيها، وبحيرة : مرة ! فيه شيء مضيق خاطره ..
التمعَت عينا جيهان بتمرّدٍ وهي تنهضُ وتقتربُ منها، خفتَ صوتُها كي لا تسمعها ليـان وهي تقرّب وجهها من أرجوان لتهمسَ بخفوت : بطلـع وراه وبشوف وش اللي مشغله.
أرجوان تنظُر نحوها بدهشة : وشو؟ بتلحقينه؟
جيهان : اصصص لا تسمعك الفصعونة وتعلمه بعد ما يرجع .. بشوفه بس وش عنده ، واضح إنّه بيروح للشيء اللي مخرب عليه مزاجه من أيام.
أرجوان : للشيء؟
جيهان بتصحيح : للشخـص .. وحاسة إنه لأبو عيون فلتانة هذاك.
أرجوان بجزع : جوج بلا استهبال ترى بيعصب! واضح إنه ما يبينا نطلع لو درى بيمسح فيك البلاط.
جيهان تلوي فمها بتمرّد : وشلون بيدري يعني؟
أرجوان بحدة : جيهان ! انثبري أقول . .
جيهان : معليش بس تبينا نظل كذا ما ندري وش اللي مخبيه؟ يعني واضح إنّه شيء سيء وضايق خلقه بسببه .. ما يهون علي أشوفه بهالوضع عشان كذا بعرف وش وراه واللي مسوي فيه كل ذا . . وأنتِ تصرفي مع ليون لين أطلـع .. أشغليها ماراح أتأخر.
أرجوان : ماراح تحصلينه أكيد أمداه يبعد ..
جيهان : لو بعّد فمنك أنتِ .. اصرفي ليان وإذا ما حصلته بالحي وبالمقهى اللي يكون فيه بالعادة برجع.
أرجوان تزفُر : يا صبـر الأرض . .

خرجَت من المبنى وهي تثبّت حجابها الذي شعرت بهِ متراخيًا من عجلتها، بحثَت بعينيها في الشارعِ الذي تزاحمه الحيـاة، أصواتُ النـاسِ ورائحة الخبز ، ضوءُ الصبـاحِ الذي يزاحـمُ عينيها فتغضّهما عن السمـاء، تُخفضُ أجفانها وتُشيح بصرها عن شمسِها الدافئـة . . تحرّكت خطواتُها بزخمٍ تبحثُ بحذرٍ وخشيةٍ من أن يكون والدها قريبًا ويراها ، عـادةً ما يجلسُ في المقهى المقـاربِ لهم في هذا الوقت عدا أنّه تخلى عن عادتـه لسوءِ مزاجِه منذ أيـامْ . . اتّجهت لذلك المقهى وهي تمرّر لسانها على شفتيها، إن لم تجدْهُ هنـاك ستعود مباشرةً فهي لا تنكـر أنّها مرتبكـة فوالدها باتَ حازمًا في أمـر خروجهنّ دونـه.
وقفَت عند بابِ المقهى ليصتدمَ كتفها بالخـارجِ منه، ابتعدَت بجسدها وهي تتمتمُ بكلماتٍ متضايقـة، بحثَت بعينيها سريعًا لتسقطَ فجأةً على ملامحه، حينها سارعَت بالالتصـاق بإطار البابِ وكأنها بذلك تحتمي من انتباهِه .. ضيّقت عينيها تحاول أن ترى الذي يجلسُ معه .. ظهرهُ كـان يواجهها بينما ملامح والدها تقابلها ولو رفـع عينيه للبـابِ سيراها بالتأكيد .. كـان يتكلّم بكلمـاتٍ رأت الحدّة فيها من حركةِ شفاهِه وعقدةِ حاجبيه ، غاضِب ، هنـاك غضبٌ وحنقٌ يتصاعدُ بركانهما في عينيه . . . حانَت من الشـاب الذي يجلسُ معه التفاتـةٌ للجانِب .. كان بدر ، ينظُر للجالسينَ وهو يزفُر بضيق ، عقدَت حاجبيها ، ومن ثمّ تراجعَت وهي تشتمُ بقهر .. هو السبب إذن ! الآن تأكّدت شكوكها من بعدِ نظرتِه له في المطعمِ صباح الأمـس .. ما الذي يحدثُ وما علاقة ذاك الشابِ بتغيّر والدها وحذره؟ ضيقِه ومزاجـهِ السيء !! .. استدارَت وملامحها تتغضّن بضيق ، أرادت أن تغسلَ جزءً من فضولها لكنّه الآن تضاعف . . هزّت رأسها بالنفيِ وهي تُميل فمها وتُتمتم : لازم أعرف وش مسوّي هالكلب فيه !!
شهقَت بصدمةٍ وتوقّفت خطواتها بل تراجعَت ، اتّسعَت عينـاها وهي ترى الملامِح التي ظهرت أمامها ببرودِها ، تجيء ردّة فعلها " بالنبض "، يتعرقـل قلبها باسمِه كلّما فكّرت بِه فكيفَ حين يظهر؟ كيفَ حينَ يبزُغ مع ضوءِ الصبـاح وترمـق عينيهِ حقيقـةً لا ذكـرى ! .. كيفَ تجيء ردّات الفعـل بشهقةِ شفاهٍ وشهقةِ قلبٍ ولا يتهاوى جسدها في الفتور؟
بهتت ملامحها وصدرها يرتفعُ باضطراب، بينما كتّف ذراعـيه ، ببرود، بجمود .. وصوتُه يظهرُ إليها من عدمِ التعبير : وش اللي مطلعك بروحك هالوقت؟


،


يمسحُ وجههُ المبتلّ بالمنشفـة، صفيرٌ في أذنـه، لا يدري من أيْن، لكنّه يشعُر بأنّ هنـاك صراخًا يُخلقُ في مسامِعه، يغادره النومُ فلا يستطيع أن يسترخِي ولو للحظـة، لا يستطيع سوى الحزن وهذا الصـداع الذي يكادُ يحطّم رأسـه.
رمـى المنشفة الرطبة جانبًا وملامحه متجهّمةٌ بضيق، عينيه تضيقان، تريدان النوم لكنّ الأرقَ سحقَ حاجته له . . رفـع وجهه للبابِ حينَ طُرق، عقدَ حاجبيه وهو ينهض، وبضجر : لحظـة.
تحرّك باتجـاه الباب ليفتحَ قفله، ابتسمَ له عبدالله ما إن سقطَت عينـاه على وجهه، دخـل وهو يلفظ : صباح الخير ، شفيك متضايق كذا؟
أشـاح متعب وجهه وهو يغلق البـاب، في حينِ جلس عبدالله على المقعدِ الذي يجلسُ عليهِ عادةً، واتّكأ متعب على البابِ بكتفِه وهو يكتّف ذراعيه ويلفُظ بجمود : ما أذكر أنّي قلت لك متضايق من وين جبت هالاستنتاج.
عبدالله : أووووه النفسية منتهية اليوم.
متعب يزفُر وعُقدة حاجبيه تتضاعف : ادخل في الموضوع مباشـرة ، وش تبي مني؟
عبدالله يبتسم : الله يلطف على صدرك.
متعب بحدة : شيء ثاني؟
عبدالله يضع ساقًا على الأخـرى : تعال يا ابن الحلال واجلس خلنا نحكي زي الناس.
زفـر بمزاجٍ سيء ، دائمًا ما ينهضَ في الصبـاح ومزاجُه يحكِي هذا السوء، منذُ أكثـر من سنتين ومزاجـه باتَ عادةً للأسف، يطغــى على سكونِ الصبـاحِ ويطغـى على زرقتِه ، ينهضُ عاقدًا حاجبيه وغالبًا ما ينـامُ بهذهِ الهيئةِ أيضًا . . واليومَ تضاعفَ سوءُ مزاجـه، بل تضاعفَت منذ عاد للريـاض، بحجمِ ما شغفَ بالعودةِ إلا أنّ كونه قريبًا ممن غدروا بهِ وخانوه يؤذي صدره، بعده عن والدته رغم أنه على ذات الأرض .. كل ذلك يؤذيه !!
تحرّكت خطواتُه قسرًا ليقتربَ منه، جلسَ على المقعدِ الذي أمامه لتفصل بينهما الطـاولة، وبهدوءٍ ظاهريٍّ وهو يفرشُ ذراعه على سطحِها : جلست .. ممكن تدخل في الموضوع مباشرة؟
عبدالله بابتسامةٍ وقورة : ما أبي أضغط عليك .. عشان كذا كنت دايم ساكَت وتاركك براحتك ، بس اليوم معليش محتاج إدلالك .. أبيك تعلمنِي وش صار من سنة 2012 للحين . .
ظهر على ملامِحه الظـلام، هذا الظـلام الذي يبترُ الظـلالَ فلا تُسعفه بحمايـةٍ مـا ، من عريّ المشاعِر ومن أوجاعِها . . . همسَ بصوتٍ دون تعبير : تبي تقنعني إنّك ما تدري !!
عبدالله بهدوء : أتوقع محنا عالمين للغيب يا متعب! أبي التفاصيل.
يدرك جيدًا أنّه لا يعلم كلّ التفاصيل، يدرك جيدًا لأنّه لم يعلم حتى الآن أنّ لشاهين دورًا معهم .. هل يخبره الآن؟ هل يقولها لهُ فتنتهي حياتـه خلفَ قضبانٍ ومحاكمـةٍ قد ينتجُ منه " إعدام " . . لمَ هذهِ الغصّة الآن؟ لمَ توجعني فكرة أن يحدثَ لهُ أذى وهو الذي " هان عليه أنا "؟! لمَ توجعني يا شاهين فكرة أن أؤذيك؟! لمَ ما زلت أريد حمايتك وأكرهك ولا أكرهك!! . . عادَت لهُ كلمـاتُ أدهم البارحـة، عضّ شفته السُفلـى بحسرة ، الرسائل لا تكذب، عينـاي لا تخطئآن رقمك ، صوتك لا تتشوّشُ نبرته عن مسامعي يا شاهين . . لأكون منصفًا ، الرسائلُ قد يُخادِعها أحـد ، قد يغدر بكَ أحدٌ كما حدَث لي ويرسلها من هاتِفك .. لكنْ الصوت !! لا يمكن .. لا يُمكن أبدًا.
رفـع كفّه المضطربـة ليمسح بها على جبينه، نظـر لملامِح عبدالله بضيق، سيقولها له وينتهي كلّ شيء .. سيقولها له . .
عبدالله : بالوقت اللي سافرت فيه أنت قدرنا نمسك واحد من الجمـاعة اللي تحت سالم وكانوا معه يوم طحت بيدينهم .. علّمنا عنك من بين اعترافاته .. ومنها صارت حمايتك واجبة علينا، بس بيوم حريق الفندق كان فيه جثّة بشقتك .. ما ظهرت إنها لك بالتحاليل بس طلعناها على أساس إنها لك ، وبعدين اكتشفنا من ملفات قديمة إنها لشخص له سوابق، وكـان منضمّ للرازن .. اللي أبي أعرفه ، هو اللي كـان له دور بالحريق أكيد .. بس شلون مات بدالك؟ أنت اللي قتلته؟!
عقدَ حاجبيه وكلماته الأخيرة تخرج بنبرةٍ جامـدة، حينـها زفـر متعب وهو يتذكّر تلك الليلـة ، نظـر لعينيْهِ مباشرةً ومن ثمّ هتف ببطء : بعلمك كل شيء .. كل شيء هالمرة .. بس بالأول عندي شرط.
عبدالله يعقد حاجبيه : شرط أيش؟
متعب بتأني : بسألك عن شيء بسيط .. وأبيك تجاوبني عليه .. مجرّد معلومة أبيك تأكّدها لي إذا أيه أو لا . . تقدر تعطيني هالخدمة؟.
نظـر لهُ بتوجّس، يستطيع أن يجبره على الكلام ، لكنّه لا يستصيغ ذلك مع أمثـاله، يعطـف عليه بالمعنـى الصحيح، لذا أومأ رأسه ببطءٍ وهو يلفظ بتمهّل : اسأل.
متعب بهدوء، لا يدري إلى أين سيصِل، لا يدري ما هذهِ الحجّة الضعيفة التي جالت في عقله .. لكنّه الأمـل الأخير ، الأمـل الذي يدرك أنّه انقطـع قبل حتى أن يُعقد " من شدّة اليأسِ الذي يعتريه " : فيه امكانيّة إن أي أحد ينتحل صوت شخص؟ يعني انسـان يكلمك بصوتْ شخص تعرفـه ، نفس النبرة ونفس الصوت.
عقدَ عبدالله حاجبيهِ باستنكـار، أمـال فمه قبل أن يلفظ بتساؤل : ليش تسأل هالسؤال؟!!
متعب برجاءٍ خافت : رد علي .. فيه امكانية؟
عبدالله بعدَ صمتٍ قصير : مممم نقدر نقول فيه ..
تشنّج فكّه وصدره يرتفـع في تنفّسٍ عسِير، تقدّم جسده للأمامِ وهو يرفع ذراعه الأخرى ليفرشها على الطاولـة مع أختها .. هاتفًا بلهفة وأمـلٍ انعقد : متأكد؟
عبدالله يرفع حاجبيه بتعجب : هذا سؤال ينسأل لي؟ أيه فيه امكانية.
متعب يبتلع ريقه بصعوبـة : شلون؟
عبدالله : إذا متواجدة عيّنات من الصوت .. يعني تسجيلات ففيه امكانيـة إنّ أحد يقلّده والتقنية تطوّرت .. وصعب للأذن تستوعب إذا هو الصوت الحقيقي أو لا . .* أردف بشك * أيش تبي من هالسؤال؟!
شعـر بأجفانِه تثقُل .. صدرهُ يضيقُ ويغادرهُ الأكسجين، ملامحه تشحب ، لا يدري في هذهِ اللحظـةِ ما المشـاعر التي اعترته غير الأمـل الذي تصاعدَ فيه، الأدرينـالين ضخّ في جسدِه بارتفـاع معدّل نبضاتِ قلبه، رعشـةُ شفاهِه، صوتُه الذي اختنـق .. ضغطَ بكفيه على فمه، أسند مرفقيه على الطـاولة وهو يغمضُ عينيه، صورةٌ من الحُزن تداعَت، تحطّم إطـارٌ من الإطـارات الأربعةِ للخيبِة ، بيـاضُ عينيهِ تلاشـى وباتَ احمرارًا أسدل عليه ستائر أجفانه، بينما صوتُه المختنقُ يخرجُ من فمِه برعشته، يصتدمُ بكفيه فيختنق أكثر بنبرتِه الراجيـة، المستغيثة، السائلـة الله " حيـاة " وانبعاثًا بعدَ موتِه الذي طـال : يارب .. يارب يارب ، يارب أكون حقير إنّي صدّقت فيه .. يارب أكون غلطـان وأستاهل الموت .. يارب أكون كل شيء سيء بس هو لا !! هو صادق .. هو أخوووووووي .. يارب اكتبني قدّامه بحقارةِ اللي ظنْ فيه ظن سوء بس هو لا يكون غدر فيني .. يارب إنّي أحتاجه! والله أحتاجه بصفي .. ما كسـر ظهري إلا هو !! ما كسـر ظهري إلا شاهين فيارب اكتبني الظـالم وهو المظلوووووم.
غطـى وجهه بأكملـه ، مشـاعرُ عصفَت بِه ، أمـل وحزن ، لكنّ الحزن كـان آخر ، كـان حزنًا من نفسه ، يا الله لا تكتب لأملي الانقطـاع .. اللهم إنّي أحتاجه وإنّي لهذا الشقـاءِ راضي ، اللهم إنّي راضٍ عن تلك السنوات، أضحّي بها لأجـل هذا الأمـل ، لم أعد أبـالي كم بقيتُ هنـاك، كم حزنت، كم كُسرت، لم أعـد أبـالي بحزني لكنّي أبـالي بِه !! كسرتني تلك الكذبـة ، فلا تكتبها كذبـةً أيضًا .. كسرتني غربتي أضعافًا حيـن فقدته .. يا الله اجعلني الظـالم ، يا الله اجعلني الظـالم وهو المظلوم .. يا الله إنّي أحتاجه .. أحتاج أن أسند نفسي عليه وأحتمـل البقيّة من حياتي التي فرغَت من دونه .. إلهي كم بكى فؤادي قطعـةً مني احتجتـها وظننتُ أنّها خذلتني .. اكتبه ظنّ سوء ! اكتبـه ظنّ سوءٍ وعاقبنـي بظلمٍ هو ظلمـاتُ يومِ القيامة، أريد العقاب وأريد أن أحترق لأنّي ظـالم، لا أريد أن أكون مظلومًا ، لا أريد هذهِ الخيبة ..لا أريد أن أشقى أكثر، أريد أن أحيا ، وأحتاجه! أحتـاجه ماءً وأحتاجه حيـاة. اللهم إنّي أحتاجه!!
بقيَ يكرّر " يارب " ويدعي على نفسِه أن يكون ظالمًا ، بقيَ يغرقُ في عاصفـةِ أملهِ وحُزنِه حتى غابَ عنه صوتُ عبدالله وبقيَ يتأرجح على نشوةِ الحقيقة .. أن يكون بريئًا من كلّ ذلك ، أن يذهب إليه الآن ويحتضنه عن سنينَ بكـاه، عن سنينَ فقده، عن سنينَ اشتاقهُ ورأى أنّ شوقه محرّم، عن سنينَ كـان فيها يحتاجه وظنّ أنه يحتـاج قاتله .. لام نفسه كثيرًا .. من يحتاج شخصًا آذاه؟ من يحتاج هذا الإحتياج الظـالم للنفس؟
شعـر فجأةً بكفيْن قبضَتا على معصميه بقوّةٍ لتسحبَا يديه عن ملامِحه التي غرقَت بانفعـالِه، لم يكن يدري أنّه أصبـح يتنفّس بقوَة، لم يكن يدري أنّ نبضـاتِ قلبه باتت تتصاعد حتى يكاد صدره أن ينفجـر، لم يكن يدري أنّه يكادُ في هذهِ اللحظـةِ أن يموت ، بينما عبدالله كـان يقفُ بجانِبه وهو يلفظُ بصوتٍ صارخٍ يصلُ إليه مشوشًا : متعب شفييييك؟؟!!! اهدا .. اهدا وتنفّس بشويش.
كـان جسدهُ ينتفضُ وهو يهمسُ بأنفاسٍ ذاهبـة، بعينينِ جفّتا عدا من الحمرةِ التي غزَت بياضهما، يلفظُ بصوتٍ لازال راجيًا : يــــــــــــا الله !!!!
عبدالله بانفعالٍ يصفعه : اصحى بتذبح نفسك .. شفيك وش صار لك؟
متعب الذي لم يشعر بصفعته : شاهين .. شاهين.
عبدالله يعقدُ حاجبيه : شاهين!! شفيه ؟؟!!
نظـر نحوهُ متعب بعينينِ تضبّبتا عن الرؤيـة ، وبرجـاء : أبي أشوفه !! أبي أتأكّد منه شلون؟
عبدالله بحدة : شلون أيش؟!!
رفـع كفّه المرتعشـة ليمسحَ على فمِه ويغمـض عينيه بقوّة ، كيفَ يتأكّد؟ كيفَ يتأكدُ ليلتقي بِه ولا شكّ في قلبه؟ كيف يلتقِي به وهو متعب فقط .. متعب الحيّ وليس الميّت . . . بقيَ ساكنًا للحظـاتٍ طويلة، تركه فيها عبدالله وهو يتراجـع للخلف، يريده أن يسيطر على انفعالاتِه ويسكُن ومن ثمّ سيعلـم ما الذي جعله بهذا الانفعـال بعـد أن سأله ذاك السؤال دون مناسبـةٍ ما ، أو هكذا يعتقد.
مرّت دقائقُ امتدّت لربعِ ساعة، لم يكن متعب يريد أن يتأخّر في التأكّد أكثر، لذا وجَد نفسه ينظُر لعبدالله بحدّةٍ ليلفظَ بعد أن استقرّت أنفاسه : بعلمك كل شيء .. كل شيء وأبيك تساعدني.

يُتبــع . .

كَيــدْ 09-07-16 02:53 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


،


حملَت حقيبتها ومن ثمّ نقابها لتخطُو خطواتها المُضطربـةِ نحوَ البـاب، نزلَت لتجده ينتظـرها في الأسفـل، ابتسمَ ما إن رآها ووقف، بينما تنفّست بربكـةٍ وهي تُشيح بنظراتِها عنهُ وتلفظُ بصوتٍ خافت : شوف .. كوني وافقت أروح لها ما يعني إنّي بطوّل! ساعة وتجيني.
ابتسمَ سلطـان وهو يُشير لها بصمتٍ أن تمشي أمامه، لوَت فمها بامتعـاضٍ ومن ثمّ تحركَت تخطو قبله، بينما لفظَ وهو يراها ترتدِي النقـاب : ماراح أجيك إلا بعد ما تتّصلين علي ترى.
غزل تتمتم بضيق : سلطان واللي يعافيك ما يبيلها.
سلطان بحزم : ماراح أجيك إلا بعد ما تتصلين.
تنهدت ولم تُجِب ، في اللحظـة التي كـانا فيها قد خرجـا، المسافاتُ باتت قصيرة، سرعـان ما وصلت لبابِ السيّارةِ وسرعان ما أصبحت تتحرّك، لأنّها تخشى ما سيحدثُ بعد دقائق باتَ كلّ شيءٍ سريعًا، لأنّها تخشى اللقـاء تقلّصت مسافاتُ البُعد ، لأنّها تخشاها ضحكَت عليها الخطوات وتناقصَت عددًا . .
تنظُر بعينيها للطريقِ المُلتهِب بضوءِ الصباح، تتحرّك السيارة فيظهر العـالم كلّه بحركاتٍ كاذِبة/مُخادعَة .. كيف ستلتقي بها؟ كيف ستنظُر لعينيها ولا ترى عبرهما ظـلال الماضي؟ كيف تقدِر على المواجهـة وهي التي كانت تريد أن تهربَ من تلك الأيـام فكيفَ تعود؟ . . تنفّست بضيقٍ وهي تُغمضُ عينيها لوهلـة، تعضُّ طرف شفتِها السُفلـى ، لا تقوى ! لذا وجَدت نفسها فجأةً تستديرُ نحوه، عقدَت حاجبيها قبل أن تلفظ باندفـاعٍ ورجاء : لا سلطان .. خلاص ما أبي ماني موافقة رجعني.
سلطـان يعقدُ حاجبيهِ دون أن ينظُر نحوها، نظراته مرتكزةٌ على الطريق، يدرك مخاوفها ويدرك المأساويّة في علاقتها مع عائلتها .. لذا لفظ بتمهّل : غزل .. تراها أمّك ماهي أبوك.
ماذا يعني؟ هل اختلف الوضـع؟ هل هذا يكفي حتى يحفّزها؟ ماذا يعنِي إن التقَت بملامحِها الشبيهةِ بها، ماذا يعنِي إن هي لمحَت من بؤرةِ بؤبؤها أيـامًا سوداء لازالت تُثقل أهدابها بالدمـع .. ماذا يعني إن كان امّها وليسَت والدها؟ كلاهما أسكنا فيها عُقدةً لا تريد أن تنفكّ حتى هذهِ اللحظـة، كلاهما آذيآها بطريقةٍ أو بأخرى.
ارتعشَت شفاهُها قبل أن تتنفّس بعمقٍ وتهتف بغصّة : أيش تعني أمّي؟ أيش تعني هالكلمـة وهي ما سقتها بأفعالها !!
سلطان ينظُر لها نظرةً خاطفـة قبل أن يُعيدها للطريق ويلفظَ بهدوء : يعني سقتها بالمشاعر؟!
غزل بحرارة : لاااا .. حتى المشاعر ما كانت تقول إنّها أم !!! باردة ، وتكرهني ، وما تشيل همّي .. باردة بالأفعـال وبالمشاعر ليه بداري خاطرها وأجيها؟
سلطان بتمهّل : باردة بالأفعـال ، ويمكن مشاعرها ما تظهر لك بوضوح . . بس مين قال تكرهك؟
أغمضَت غزل عينيها وهي تصدُّ بحسرة : هيّ قـالت بأفعالها.
سلطان : لو تكرهك ليه بتطلب تشوفك؟ ليه زارتك مرّة قبـل الحين؟ . . غزل ، يمكن عيونك ما تشوف بس أنا شفتها بذاك اليوم مبسوطة عشانك ، لما طلبت مني أمس أجيبك لها كانت عيونها مشتاقـة لك . . هي تحبّك مهما كانت باردة ومهما كـانت قاسية .. عشان كذا صحّي الأم اللي بداخلها بأفعالها وتعبيرها بعيد عن برودها.
هزّت رأسها بالنفي، عينيها المغمضتينِ تشدُّ عليهما أكثـر، لن تستطِيع، لن تستطِيع أبدًا أن تحتمل وقوفها بجانبها أو جلوسها معها .. بينما مرّر سلطان طرفِ لسانِه على شفتيهِ وهو يزفُر بتروّي ، وبنبرةٍ حازمـة : ما أظن بتقتنعين بأي طريقة كانت .. عشان كذا ماراح أسمع اللي تبينه وبتروحين .. ماني راجع ..
ارتفعَت أجفانها لتنظُر لهُ بأسـى ، تزدردُ ريقها وتتقوقعُ في صمتِها بعد أن أنهـى النقاش أخيرًا ولم يبالي بما تريد، أعـادت ظهرها للخلف، أسندته على ظهرِ المقعدِ وهي تنظُر بحسرةٍ إلى الطريقِ وتهمسُ داخلها : يــــــارب !!!

رنّ الجـرسُ مرّتين فقط، ومن ثمَّ فُتـح وكأنّها كـانت تنتظر بلهفةٍ بعد أن اتّصل بها سلطـان قبل خروجه ، ابتـسم لها وهو يضعُ كفّه على ظهرِ غزل ليحثّها على الدخول، بينما بدأت تلك نوبـةَ انفعالٍ قلبيـة، شعرت أنّ قلبها ينبِضُ ببأسٍ وكأنها تخوضُ سباق ماراثون، الهواءُ يضيق، وأصواتٌ شعرت أنّها تجيء من الزوايـا، أصواتُ الحيـاةِ هنا ، رائحـة الصراخ من حنجرةِ والدها، القسـوة، وحلّة البرودِ في ملامِح الأمّ التي أمـامها ، سمِعَت صوتها يبكِي بخفوتِه أسفـل الوسادة ، كأنّها دخلَت بعد سنينَ طويلـةٍ لتنبثقَ الذكرياتُ من الأسى ، كم ليلةً قضتها تبكِي بينَ جدرانِ غرفتها؟؟ كم ليلةً أمضتها تتحسّر وتُتمتم بكلماتِ الكره والحقد وشتائمها التي كانت تُطلقها عليهما دون تردّد!!
تنفّست بعمقٍ وهي تشتت أحداقها تنظُر للزوايا ، لم تنتبه لكونِ سلطان قد اعتـذر من امّها لا يستطِيع أن يبقـى، رحَل دون أن تنتبه ، ولم تستفِق لرحيلِه إلا حين شعرت بكفيّ أمها تُمسك كتفيها وهي تلفظُ بحنان : فصخي نقابك مافيه أحد غريب هنا.
اتّسعت عينـاها بصدمةٍ حين شعرت بكفّيها، لم تستطِع السيطرةَ على رعشـةٍ جزّت جسدها لتتراجـع بنفورٍ وهي تبحثُ بعينينِ مرتبكتينِ عن سلطان، لا تصدّق أنه تركها هنا ورحل! تركها لوحدها وهو يعلم أنّها عانت في هذا المنزل !!
ابتسمَت امّها بحسرةٍ وهي تتفهّم نفورها ، لا تلومها ولا تملك أن تبدّله في ليلةٍ وضحاها، هتفَت بخفوت : هاتي عبايتك.
عضّت غزل شفتها السُفلى وهي تتنفّس بانفعـال، لم تشعر بنفسها وهي تحرّك رأسها بالنفيِ وتلفظ بصوتٍ خافتٍ مرتعش : مالها .. داعي.
ام غزل تقتربُ بإصرارٍ حتى بدأت بنفسها تفتحُ النقابَ دون أن تدفعها رعشـة الخوفِ من غزل للابتعـاد . . . غصّة .. حُرقـة .. وحزنٌ أحـال قلبها للرمـاد، سقطَ النقـابُ من يدِها، ارتفـع صدرها بقوّة ، لم تكُن تدرك أنّ دموعها قد بدأت تُظلّل أحداقها، لم تكُن تدرك أنّ صدرها أنّ بحسرةِ أمٍ تاهَت عن عواطِفها ، لم تكن تدركُ وهي تضمُّ غزل إليها بقوّة . . . أنها بكَت !!
هذهِ النظـرة كيفَ خلقتها في عيني ابنتها؟ هذهِ الرعشـة منها !! هي خائفة، خائفةٌ منّي وخائفةٌ من قربي ، خائفةٌ من هذا المكـان ، خائفةٌ ونفورها ينطُق بأحرفِه من عينيها . . . كيفَ خلقَت كلّ ذلك؟ كيف لم تصحو إلا الآن؟ كيفَ بقيّت طول السنينِ تركضُ في الدنيـا ولم تنتبه .. بل لم تبالِي بِها !! .. كيفَ ترى الآن هذهِ النظـرة ولا تبكِي حسرةَ السنينِ التي جالَت في هذهِ اللحظة ..
ضمّتها إليها بقوّة ، بينما اتّسعت عينا غزل وتجمّد جسدها بصدمـة ، وصوتُ أمّها يصلُ إلى مسامعها هامسًا بنبرةِ بكاءٍ وبحّة : حسبك الله علي وعليه ... حسبك الله على هالسنين.


،


يلوِي فمه باستنكـارٍ وهو يقفُ خلفَ البـاب، الصوت الذي يصلُ لمسامعه ليسَ صوتًا واحدًا بل لاثنين !! . . لم يبالِي وهو يطرق البـاب ويدخـل مباشرةً دون أن ينتظـر ردّه كعادتـه ، نظـر ببرودٍ لسعُود ومن ثمّ للشخـص الجالِس معه .. تحرّكت خطواتُه نحو أقربِ أريكةٍ ليجلسَ وهو يلفظُ دون اهتمـام : وش تبي؟
سعودْ بجمودٍ وهو يرفع حاجبه الأيسر محذرًا له من أيِّ تهورٍ قد يقوم به، أشـار للجالسِ معه بيدِه وهو يلفظ : هذا أحمد الأمير .. شريكنا.
أمـال شفتهُ السُفلى وهو ينظُر لأحمد الذي ابتسم بهدوء، رمقـه من أعلاه لأسفلـه ليبتسم أخيرًا باحتقار، وبسخرية : والنعم.
أجفلَت ملامـح أحمد بصدمةٍ من تلك النظـرة ، بينمـا شدّ سعود على أسنـانِه وهو يغمضُ عينيه، يُمسك زمـام أعصابِه منذ آخرِ مرّةً استفزّه فيها . . .
نهضَ تميم بضجرٍ وهو يحكُّ رأسه، وبنبرةٍ ملولة : خلصت والا بقى شيء؟
سعود من بينِ أسنانه : اجلس ..
تميم يرفـع حاجبيه وهو يمطُّ فمـه : بأي حجة؟ أسمع كلامكم السخيف عن شغلكم والا تبيني أراعي رجولك وأ . . .
قاطعـه سعود بصرخةٍ مفاجئة : تميــــــــــــــم!!! اجلس بدون حكي ماله داعي.
تميم يبتسم باستفزاز : سبق وقلت لك أنا ما أنجبر .. وحاليًا ما ودي أجلس فما راح أجلس طبعًا!
سعود الذي يدرك أنّه سيفعـل مافي رأسه : انقلـــــــــــــــــــــع
اتّسعت ابتسامتـه ومن ثمّ تحرّك وهو يغمزُ لأحمد بسخريةٍ ويلفظ : تشرفنا يا عزيزي.
ليخـرج مخلّفًا ثورانًا جديدًا في صدرِ سعود الذي نظـر لأحمد بعد أن لفظَ بتحذير : الولد متمرد يا سعود.
سعود بحدّة : أنا اللي بعقله .. ما انولد اللي يعاندني مثل ما يسوّي هو ..

بينمـا مدّ تميمْ يديه بكسلٍ بعدَ أن خـرج وواجـه ضوءَ النهـار ، ابتسـم وهو يصعدُ لسيّارته ، يتجاهل السائق الذي يسأله إن كان يريده أن يقود هوَ ويوصله حيثما يريد . . حرّك السيـارةَ وهو يمسـح على وجهه ، يشعر بالضجـر ، لا يدري أين يذهب الآن وما قد يسليه !


،


تزاحمـه الأصوات والنهـار، باتت عادةً له بعد أن ينهضَ أن يصلّي الفجـر ومن ثمّ ينتظـر لما بعد الشروقِ فيغتسـل ويخرج، يتناولُ إفطارهُ في أقرب مطعم، ومن ثمّ يتمشى في الحيّ أو قريبًا منه أو يخرج مع فـارس حتى يحين وقتُ ساعاتِ عمله.
كـان يجلسُ في إحدى المطـاعم، يتنـاول الشـايَ بروتينٍ مملّ، ينظُر للداخلـين والخارجينَ بعينينِ اعتـادتا هذهِ النظـرات الصامتةَ للعالمين، عبر البـابِ وعبر النافذةِ التي تنمُّ بشفافيّتها عن ملامِح العابرينَ على الرصيف، زفـر هواءً ساخنًا رغمَ البرودة، ومن ثمّ نهضَ وهو يضعُ الحسـابَ على الطـاولة، تتداخلُ في عقلِه أفكـارٌ أوّلها أسيل وأهمّها أسيل، يجبُ أن يخبرها ، ما فهمه من حديثِ شاهين أنّه لا يريد إخبارها في هذا الوقت، لكن إلى متى؟ هل ستبقى جاهلـة لكلّ شيء؟ بالتأكيد لن يرضى .. لذا يجب أن يخبرها ، اليوم أو غدًا لكن يجبُ أن يكون قريبًا.
أغمضَ عينيهِ وهو يتحرّك باتجـاه الباب، كيف يعودُ الأموات؟ أكثـر سؤالٍ أرّقـه الليالي التي رحلّت .. سبحانك يا من كتبَ لهُ الحيـاة ونحنُ سكـارى عزاء ، سبحانك يا الله يا من ردّه إلى أرضِه بروحِه لا جثّةً فقط.
خرجَ من المطعـمِ ليستنشـق عبيرَ الصبـاح، تحرّك وهو يدسُّ يديهِ في جيبيْ معطفِه، ينظُر للعابـرينَ ولأعينهم، يحاول أن يستنبطَ من أحداقِهم شوقًا وحنينًا كالذي ينطـق من أعينِه.
اقتربَ من جهةِ المبنـى الذي يقطنه، بالرغمِ من كونِه باتَ يكرهه للشوقِ الذي يُأجّجه فيه إلّا أنه يضطرُّ للسكنِ في أطرافِ ذكرياتِهم، على السرير الذي نامَت فيه معه قبلًا، على أريكةِ الصالـةِ التي جلَست عليها ساعاتٍ طويلة، على الجدران التي تشبّعت بعطرِها، وعلى الوسادات التي احتفظَت بخصلاتٍ خفيّةً من شعرِها البني، على بعضِها في ذكـرى ، يا الله كيف يريد أن ينساها وهو واهنٌ عند الذكريات؟
هيَ رحلةٌ في بحـر الوجوه، أحداقهُ سفينـة ، غرقت واللهِ يا جيهان تريد أن ترى شبيهًا ، رغمًا عن رغبتـه في الابتعـاد يريد أن يرى شبيهًا بِها .. لا بل لشوقِه، يريد أن يرى وجهًا يعانِي ذاتَ معانـاته .. على من يكذِب؟ يريد أن يراها .. أن تنعقـد حاجباهُ وهو يلمـحُ طرفَ رمشِها الطويل، وعينيها البنيّتينِ التي عشِق . . .
تنهّد صدرهُ بضيق، ومن ثمّ غضَّ البصـر عن أشواقِه، أشاحـهُ عن وجهِ أحدِهم، لتصتدمـا بشبيهةٍ لها تمشي وتلتفتُ أحداقُها في المـارة . . وقفَ فجأةً وهو يوسّع أعيُنه . . شبيهةٌ لها !! لحظـة ! . . لم يشعر إلا وجسدهُ يتصلّبُ ناظرًا لها ، لجيهان ، نعم .. قلبه الذي اضطرب الآن أخبره أنّها هيَ .. عينيها، ملامحها البيضـاء، قامتها وكلّها . . وكأنّ الأمنيـاتِ التي تمنّى أن تبزُغ في وهمٍ خُلقَت في حقيقة، بحجمِ ما كـان يوسف يحرص على أن لا يلتقيا من بابِ المسافاتِ القريبـة إلّا أنّه الآن يراها .. دون يوسف! وحيدة . . لم يكَد صدرهُ يشعرُ باختلاجاتِ الشوقٍ والحنينَ حتى عقدَ حاجبيه مستنكرًا من عينيها اللتين تتلفّتـان يمنةً ويسرةً وكأنها تبحثُ عن شيء، تمشي وحدها حتى أرجوان ليسَت معها . . ما بِها؟ .. بلّل شفتيه بطرفِ لسانِه ومن ثمّ تحرّكت خطواتُه بتوجّسٍ يتبعها ، رآها تقفُ عند بابِ المقهى القريبِ من مسكنِهم، يصتدمُ عابرٌ بكتفِها ويمضي، يستفزّه! بينما لا تبتعدُ بل تستندُ على إطـار البـاب وكأنها تقطُن الآن في مكانٍ يخصّها وليسَ للنـاس .. عضّ شفتهُ وخطواتُه تتباطأ من خلفِها، تحرّك رأسها بحثًا عن شيء أو عن شخصٍ في المعنى الصحيح، يثبَت رأسها عن الحركـة، ومن ثمّ تمرُّ ثوانٍ قليلـةٌ قبل أن تتراجـع وقد نوَت أن تعودَ أدراجها بعد أن وجَدت ما تريد .. لكنّها في اللحظـة التي استدارَت ، في اللحظـةِ التي اصتدمت عينـاها بعينيه، في اللحظـةِ التي شهقَت بصدمـةِ رؤيتـه ، هذهِ الشهقةُ التي زلزلت صدرهُ بالإيمـان الكامِن بها، زلزلته! الإيمـان بأنّها تسحقُ كل الإنـاثِ في تارِيخ حوّاء، تجعلـه يدرك كم يظلـم جنان في هذهِ اللحظـة بنظراتِه التي اجتذبتها لعينيها كمغناطيسٍ يسحبُ إليه كلّ معدنٍ تصنّع الصـلابةَ وهو بعيدٌ عنها .. يلينُ أمامَ الحب! أمام الشوق وأمام عينيكِ يا جيهان .. تتبدّل التكوينـات لأجدَ صوتِي نوتـات! لأجدَ عينيّ محيط، امتلأتا بزرقـة السماءِ المعطاءةِ في كنفِك، أجدُ أنّني لستُ أنـا في بعدك، ولست أنا في قربك، تتلاعبينَ بي حدّ أن أكـره نفسي حين أفتقدُ مشاعري معك، هذهِ المشـاعر التي تعصِف بي الآن . . لمَ اشتقتك؟ وظللتِي في عينيّ موسيقى الحُب! لمَ أنظـر إليكِ الآن وفي عينيّ " شغف "! ولمَ يسكُن فؤادي تيّارُ نظرتكِ وفي صدري صوتُ شهقتِك الناعمـة يسري، هذهِ السمـاءُ باتت باهتـة ، غُلّفَت بشفافيةِ دمعِها وكلّها حزين، الصباحات التي كُتبَ فيها الفراق لوّثت ابتساماتها .. للأسف!
زمّ شفتيْه، تجاهل شهقتها وتجاهل شوقه وحنينه، تجاهل مشاعره وتجاهل كلّ الخيبـة وكلّ الضعفِ الذي يوهِن قلبه .. وبنبرةٍ جامدةٍ لفّظ : وش اللي مطلعك بروحك هالوقت؟
راقبها وصدرها يرتفـع بينما عيناها تنظُرانِ إليهِ ببهوتٍ وكأنّها لا تصدّق حتى الآن أنّ الدروب أفضَت بالتقـاء، أن الشُعَبَ التقت في نهاياتِ أطرافِها لتمسّ بعينيها عينيهِ الآن وتراه أمـامها ، فواز .. أمامها ! يا الله بعد الأيـامِ وبعد الحسراتِ والخيبات، بعد تلك الليلـة التي اصتدما فيها بحديثٍ أخـرسَ منها الكبرياء، بعد أن خسرَت وخسِر .. كلانا خسِر، كيف خسِرنا؟ لا ندري! .. نعم أعلم أنّك أيضًا لا تدري كيفَ أننا جميعًا خسرنا ولم يربح أحدنا بسعادةٍ حتى الآن .. أرى في عينيكَ دعواتِي لازالت تجري ولم تسعد حتى الآن ، أسمعُ في صوتِك نبرةً تجهلُ التعبيراتِ وتجهلُك ، تجهل المحيطَ الذي يوصِلها لمسامعـي فتتعثّر خطواتها على نتوءاتِ الهواء . . أنتَ أمامي! وأنا أمـامك والمسافاتِ طويلـة . .
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، ارتخَت أجفانها بعد أن استوعبت أنّه أمامها بالفعـل ، اضطربّت أنفاسها أكثر، تشتّت أحداقها أكثر، انحسرَت أمواج الثبـات/الاستقامـة لتشعر أنّه أوخز خاصرتها فمالَت بِعنفوانِ صوتِه الذي كرّر بخفوتٍ بارد : وش قاعدة تسوين بهالوقت بروحك!
زمّت شفتيها وهي تنظُر جانبًا وحضورهُ يهزمها، لكنّها لا تستطيِع أن تتركه يتكلّم معها بهذا الشكـل وهو لا يملك الحق! لا تستطيع أن تجعل حنينها له يهزمها، لا تستطيع أن تنصـاع للهفتها كي تراه ولكلّ اللحظـات التي كانت فيها تتذكّر لحظاتهما، بحجمِ الشوقِ إلا أنها رفعَت أحداقها لوجههِ بقوّة، بحجمِ الحسرة على هذا الفراق إلا أنها نظرت لهً بكبرياءٍ وهي تهتفُ بنبرةٍ باردةٍ كنبرتِه : التحقيق معي بهالشكـل صرت معفي منّه من زمـان .. مارسه على البديلة !!
رفعَ حاجبه وهو يتنفّس بحدة، فهم جيدًا من تقصدُ بالبديلة، لكنّه لم يبـالي بما قصدت وهو يقتربُ بخطوةٍ قصيرةٍ جعلتها ترتبكُ وتتراجـع للخلف، بينما استطـالت نظراتها لما خلفها وهو يلفظ : تراقبين مين؟
جيهان بحدّةِ صوتٍ ارتعشَ لتبدأ أولى علاماتِ التناقض ما بينَ وّقةٍ وضعف، لفظَت بحدّة : أراقب اللي أراقبـه مالك شغل.
سقطَت أنظـاره على يوسف، عقدَ حاجبيهِ دون تعليقٍ وهو يُخفض نظراته إليها، وباستنكـار : وش أسلوب البزارين هذا في الحكي؟
جيهان بتحدّي : نفس أسلوبك مع مسألة الطفش .. يوم طفشت من لعبتك الأولى رحت للعبـة ثانية ..
ابتسمَ بانتصـارٍ ولمعـة عينيها الحاقدتينِ تُشعِره بالرضـا أبدًا، نفس النظـرة في آخر لقاء، نفس القهرِ والغيرةِ التي تلفظها مع كلماتِها .. عينيكِ الشفافتينِ تفضحانِ كلّ شيءٍ يا جيهان ومهما حاولتِ أن تخفي عني قهركِ لا تُجيدين.
عضّ زاويـةَ شفتِه ومن ثمّ عاد لينظـر من خلفها ليوسف، وبمكر : عمي يدري إنّك وراه؟
ارتبكَت ملامحها، وما إن وجّه عينيهِ إلى عينيها حتى وجَدَت نفسها تُشتّتهما بتوترٍ وتزفـر، وبضيقٍ وأنفاسها المتسارعـة تفضحُ انفعالها بقربه : ماهو شغلك .. مالك كلمة علي.
فواز باستفزاز : تو تو تو ليه تتكلّمين بهالطريقة يعني وراك مصيبة؟ أناديه وأخليه يشوفك وأنتِ هنا بروحك؟ لا لا مو بروحك معي!
عقدَت حاجبيها وهي تُفرجُ شفتيها قليلًا وتنظُر له بانزعـاج : وش هالوقاحـة؟ * تحرّكت تريد أن تذهب لتردف بحنق * ابعد بس بروح من هالمكان اللي صار معفن.
ابتعدَت عنه بينما تابعها بابتسامةٍ شغوفـةٍ أخفاها خلفَ نبرتِه الماكـرة : إذا ما قلتِ لي وش كنتِ تسوين هنا بالضبط بعلمه إنّي شفتك.
جيهان تقفُ لتقابله بظهرها، تشعُر بنارٍ تأكُل الأخضـر واليابِسَ منها، كلّها يابِس! تشعر أنّ الشرارةَ فيها تحوّلت لنارٍ ستبتلعها لا محالـة ، فواز الذي يتحدّث معها الآن باتَ ملكًا لغيرها وهي لا تستطِيع أن تكون لغيرِه، لا تقـوى على ذلك، تريد لاسمها أن يظلّ مقدّسًا بارتباطِها بِه ، ارتباطِها الذي نتجَ عنه هذا الحُبّ الذي يلسعها بخيبتِه، يؤذيها أنّه يعيش، حتى وإن لم يكن سعيدًا سيؤذيها ذلك ، يؤذيها أنّ امرأةً حظيَت بِه، أنّها تتأمّل ملامحه بعد أن تنهضَ في الصبـاح ويكون نائمًا، تستمعُ لكلماته الرقيقة، تسقُط أنظـارها على عينيهِ سقوطًا يطولُ ولا ينهضُ بسرعـة، تغرق ! تغرقُ فيكَ يا فوّاز وأنا أغـرق بحزنِ فقدي.
من شدّة قهرها وخسرانِها لم تشعُر بنفسِها وهي تُديرُ رأسها نحوه، تنظُر لهُ بنظراتِها المقهورةِ تلك والحاقدَة، تشدُّ على أسنانها قبل أن تلفظَ كلمـاتٍ امتلأت بسذاجتِها في الاستفزاز : تبي تعرف وش أسوي؟ .. شفت الرجـال اللي مع أبوي؟ هذا الله يسلمك عاجبني .. حليو ومملوح وأحسن منك .. لقيت تعويض صح كنت أقول ما بتزوج بس غيّرت رأيي أول ما شفته.
وبالرغمِ من كونِ أسلوبها في محاولـة الاستفزازِ " غبيًا " إلا أنها نجحَت .. استطاعَت أن تشعل نظراته، أن تنشُر الظـلام على ملامِحه ، أن تجعلَ نظرتهُ تضيقُ بها ونـارٌ تكتوي في صدرِه .. لوى فمهُ وملامحـه باتتْ مرعبـة ، لكنّها لم تُبالي وهي تهزُّ رأسها وصدرها المقهور يخرجُ صوتًا حادًا اكتفى بـ " هه " .. كـانت كالطفـل في استفزازِه، رغم السذاجـة إلا أنها كانت ناجحة..
تحرّكت بخيلاءٍ بعد أن أشاحَت وجهها بانتصـار، بينما اشتدّت شفاهُه وهو يوجّه أنظـاره نحو الجالِس مع عمّه ، وبنبرةٍ غاضبـةٍ من بين أسنانه، يدرك أنها تكذب لكنّه غضِب رغمًا عن إدراكه : وقحــــة !!
جيهان تستدير إليه بعدَ كلمته تلك، أمالت شفتها السُفلـى وهي ترفعُ حاجبها الأيسر بتحدي : وقحة !! لأني أبي أبدا من جديد وأتزوج صرت وقحة !!! هذا وأنا انتهى ارتباطي فيك بس أنت !! ختمت الوقاحة والقرف كنت متزوّج لك ثنتين.
فواز بغضبٍ يغلّف ملامحه التي تعشقها : قليلة أدب .. شكلك مشتهية أسطرك إذا عمي ما انتبه لسواد وجهك وحركاتك بعرف أربيك أنا.
جيهان بعنادٍ طفولي : جرب لو ولد أبوك .. تراني مجربـة ضربك لي من قبل .. ماراح يفرق غير إنّك منت محرم علي ومحرّم تلمسني .. * أردفت بغباء * وأما عن كوني مشتهية أنضرب أو لا فحتى لو مشتهية ما أبيه من يدك الخايسة أبيه من يده هو بعد ما نتزوج ...
شدّ على أسنانِه بقوّةٍ وهو يزفُر من بينهما هواءً باتَ مشتعلًا، تحرّكت خطواتُه نحوها وعينيه تتّسعان بغضبٍ حارق، لا يكاد يصدّق كلمـاتِها، لا يكـاد يصدّق هذهِ الوقاحـة التي تريد بها استفزازه فقط وتنجح في ذلك !!
بينما انتفضَت هي بذعرٍ ما إن رأته يقترب منها، خشيَت أن يفعلها فعلًا ويضربها .. لذا هتفت بهجوم : وخر .. أقسم بالله لو تقرّب ألم عليك هالعالم ومعهم أبوي...
فواز بغضبٍ وهو يقتربُ ببطءٍ بينما هي تبتعدُ للخلفِ برجفـة : معهم أبوك بس؟ وهو شلون! بيفكّك مني بعد؟!
جيهان بارتباك : لا يكون غرت مثلًا؟
فواز بحدةٍ يرتفعُ بها صوته وهو لا يكاد يستوعب مقدارَ وقاحتها : لاااااا .. بس حبيت أربيك!!
ما إن وقفَ أمامها حتى شهقَت بذعرٍ واختارَت هذهِ المرّة أن تهرب، هروَلت بسرعةٍ بينما كادَ هو هذهِ المرّة أن يمسكها بيديهِ لكنّها كانت أسـرع ، أراد أن يُمسكها وقد نسيَ أنّه لا يحقُّ له .. نسيَ أنّها لم تعُد لـه .. وكم جاءته تلك الفكـرة بعد أن استوعبها كوخزِ شوكٍ قطّع أنيـابَ السُكون . . عضّ شفتهُ بقوّة، أغمـض عينيهِ وهو يتنفّس تنفسًا حادًا ألهبَ قلبـه .. يحاول أن يتناساها ولا يقدر .. يحاول أن يتجاهل الشوق ويجدُ أنّه يتضاعف أكثر . . . استدارَ ينظُر للمطعـمِ ويوسف ، للرجُل الذي يجلسُ معه .. ومن ثمّ شدّ على أسنانِه بغضب ، الوقحة! استطاعَت أن تغضبـه رغم أنّه يدرك أنها كاذبـة .. فكرةَ أن تكون لغيرِه تُشعلـه رغم أنّه صرّح لها بعكسِ ذلك .. لم يشعر بنفسِه وهو يتحرّك للداخـل، يريد أن يرى هذا الشـاب الذي قالت بأنّها تريده بدايـةً جديدةً لها ، يريد أن يراه ويحطّم وجهه قبـل أن تسقط أنظاره صدفةً نحوها.


،


يستطِيلُ الوقت ويطول الانتظـار، هذا الانتظـار الدامِي يستفزّه الآن للصراخِ بغضبٍ حارقٍ أن يمُوت، أن يندثِر خلفَ ضريحِ الحقيقة، بـات يشعُر أنّه يتقلّب فوقَ صفيحةِ هذا الانتظـار وحرارةُ الظهيرةِ تُرمِد عينيهِ بلهبِ اللهفـة .. لمَ تأخّر وتأخر الوقت أكثـر؟ لمَ تمارس الدقائق البطء الآن وتجعلهُ يتفتّتُ ببطشِها .. لم يعُد يريد أن ينتظـر، إن كـان لسنواتٍ انتظـر لهفـة للوطن فهو الآن ينتظِر لهفـة للحياة، وهذهِ اللهفـة تقتلُ كلّما طالَت دون قرارِ الخلاص .. قضبانٌ هذهِ يا الله وأغلالٌ أدمَت معصمِي .. قضبـانٌ تواريتُ من خلفها في الظـلام والآن لا أكـاد أنتظـر النور حتى أموت بنفادِ صبري! لم أعُد أريد أن أنتظـر ، الطفْ بي يا الله لم أعد أريد شيئًا سوى أن يتبيّن الحقّ وأرى الحيـاةَ من بؤرةٍ مضيئة ، أرى الحياة بشكلٍ ألطـف فقسوتها خشّنت مبادئي، أهلكتني! زرعتْ فيّ الحقدَ وأنا واللهِ الآن لم أعد أريد من الحيـاةِ شيئًا سوى السمـاح، سوى أن تأذَن لي بابتسـامةٍ حتى وإن كُنتُ ظالمًا .. راضٍ ! راضٍ إنّي على هذا الذنبِ في سبيلِ الراحـة التي أريد .. راضٍ أن أتّكئ على كتفِه وأعتـذر .. أهوى الاعتذار الآن وكم أنا شغوفٌ بِه إن كنت سأبتسم للحياةِ أخيرًا وتبتسمُ لـي . .
كـان يخطو ذهابًا وإيابًا وهو يزفُر نفادَ صبرِه بحرارة، يتمتمُ بحنقٍ كلّما نظر للساعةِ ورآها لا تسيرُ على نحوٍ سريع : وجع للعدو ليش تأخّر ؟!!!
رفعَ هاتفه يريد أنّ يتّصل بهِ من جديدٍ بعد مرّاتٍ حاولَ فيها ولم يُجِبه ، وما إن تصاعَد الرنينُ الأول حتى وصله من الهاتفِ ومن الخارجِ أيضًا !! . . نظـر نحو البـابٍ ببهوت، يتزايدُ علوّ الرنينِ حتى انتهـى بأن أغلقه عبدالله لينقطـع من عندِه .. حينها تأكّد بأنه هو، لم ينتظِر وهو يتّجه للبـابِ ويفتحه ليظهـر أمامه، وبحدة : تأخــرت !!
عبدالله يدخُل بملامح جامدةٍ لا يظهـر منها أي تعبير، وبنبرةٍ هادئة : الموضوع مو سهل ..صار له سنين وبالحيل قدرنا نجيب معلومات عن الرقم ..
متعب يتراجعُ للخلفِ وملامحه الشاحبـة تنظُر إليه بأمل : وأيش حصلتوا؟
عبدالله يزفُر قبل أن يجلسَ على الكرسيّ، نظـر لهُ بحدّةٍ ليعتلِي صوته فجأةً بغضب : ماشاء الله أشوفك محترق تبي تعرف؟ وليه ما علمتني من البداية وريّحت عمرك؟
متعب يشتّت عينيهِ وهو يشدُّ على أسنانِه، يشعر أن قلبه يكاد أن ينفجر وهو يلفظُ برجاء : تكلّم بالأول وبعدين حاسبني.
عبدالله ينظُر جانبًا وفمه يلتوِي بغيظ : شاهين سبق وطلّع له بدل فاقد من رقمه القديم . .
التوَى عنقه باضطرابٍ وأنفاسه تتصاعد ، وبربكـة : متى؟
عبدالله ينظُر نحوه بحدّة : بعد تاريخ موتك لهم بشهر ... وقبل هالشهر كانت آخر عملية بهالرقم بنفس التاريخ .. تاريخ موتك بعد.
لا يكفي! هذا الحديثُ لا يكفـي، لا يريد أن يصدّق الآن ويُصدَم من جديد، لمَ لا يكون شاهين قد فقدهُ في نفسِ اليوم؟ لمَ لا يكون فعلها بِه ومن ثمّ فقدَ رقمـه ذاك؟ . . . تنفّس بتحشرجٍ وهو يشتت عينيهِ بوهن ، يتمتمُ بكلمـاتٍ لم تصل بوضوحها إلى مسامِع عبدالله الذي نظـر لهُ بعينينِ ضيّقتين ، يرى التشتت والضيـاع، التيهِ الذي يعزفُ على ملامِحه شيخوخةً وكهولـةَ غيـاب .. يدرك كم أنّ الغيـابَ يشيخُ بالبدنِ والروح حتى يقضمك الموت ولا يلتهمك .. يكسر منك أجزاءً ويُبقي منكَ جزءً فقط لتعيشَ بآلآمك ، يدرك كم أنّ الخذلانَ يتشبّعُ بالدمـاء حتى يلوّثها بالحقدِ الذي يختلطُ بالحبِّ وبالوجَع ..
رقّت ملامحـه فجأة، قرّر أن يرحمـه ، يرى فيه هذا الضيـاع الذي زعزّع ضوء الحيـاةِ في عينيهِ ليتركهُ في ظلامـه .. لذا ارتخَت شفاهه المشدودة ، ليردف بهدوء : حاولت أحصّل إجابـة ثابتـة تأكد تورطه من العدم بس الموضوع صعب من ناحية الاتصالات .. زين منّي قدرت أطلع هالمعلومات بعد ساعات بحث .. بس متى فقِد رقمه بالضبط صعبة، حتى لو علّمهم وكان نفس العميل اللي تعامل معه موجود للحين شلون بيتذكّر ! .. عشان كذا استجوبت شخص.
التمعَت أحداقـه ليوجّهها إليهِ بسرعـة ، تشنّج فكّه، أفـرج شفاهه يريد أن يسأله من يكون ، ماذا سألته، والأهم ما كـانت إجابته؟ شعر أنّه يريد أن يسأل كلّ تلك الأسئلة لكنّ صوته غصّ في الصمتِ الموجِع فجأةً ودخـل في غيبوبتِه .. لم يستطِع أن يخلق الكلمـات .. في حينِ تفهّم عبدالله صمته ليردفَ دون أن ينتظـر وقتًا أطول حتى يسأله : فيصـل .. اللي كان معك بباريس.
اتّسعت عينا متعب فجأة .. تذكّر مباشـرةً اللحظـاتِ الاخيرةِ هناك والتي اكتشفَ فيها أنّ شاهين أخذها منـه ، حين قـال له أنّه يستمعُ لما يجري ويتلذّذ ، حين أضاف لأوجاعه المزيد وتمتّع بساديّةٍ بآلامِه .. تذكّر كلّ هذا في لحظةٍ خاطفـةٍ ولم يبالي بذاك الألـم واسترجاعِه بحجمِ ما أدرك أنّه بالتأكيد يعلمُ فهو استفزّه بذلك يومذاك.
لفظَ بصوتٍ ميّتٍ خافتٍ بزغَ من همسِ الأمـلِ وأنفاسه المتسارعـة تنعكسُ على كلماتِه فتجعلها تنفعلُ أكثـر : وبعدين ؟ وش صار بالضبط !!
عبدالله : قدرت آخذ منّه المفيد .. شاهين انسرقْ منّه جوالـه بصبـاح نفس اليوم اللي احترقت فيها شقّتك .. وبكذا بيكون بريء من الظنون اللي في بالك . . .
كـانت تلك الكلمـات الأخيرة ، كـانت الكلمـات التي جعلت ألمـه يكتفِي بانتفاضـةِ آهةٍ طويلةٍ من حنجرته ، كانت الاكتفـاءَ من الضيـاع ، كانت القشّة التي قصمَت كلّ الترهات التي أفعمته بالتيه .. كانت هذهِ الحلقـة التي انتظـرها، الحلقة التي التفّت بفستانها الكاذِب على قلبِه وعينيهِ فالتهبتا بنارِ الخذلان . . . تراجـع للخلفِ وهو يضعُ كفّيه على رأسِه ليهزّه بالنفيَ وهو يتنفّسُ بقوةٍ من فمِه ، يرتفع صدره وينخفضُ بقوّةٍ منفعلة ، ينظُر للأرضِ ويغرقُ في ظلمـه ، يغرقُ في احتجاجاتِ الضيـاع الذي رفضَ الحقيقة ، يرتوِي بماءِ الفكـاك .. انسلّت عنه قيودُ الوهم ، تفكّكت وأنـارَ ضوءُ النهـار أخيرًا ، خـرج من ظلامِه ، عـاد الصباح وعادت الشمـس ، انتهـى ذاك الليل ، انتهى الظـلامُ وانقشع .. ليسجُدَ قلبه في تلك اللحظـةِ لله .. قبْـل جسده الذي بقيَ جامدًا للحظـات ، قبل جسدهِ الذي يكتوي بهوانِه ، قبل جسدِه الذي كان يرتعشُ واستقامتـه التوَت ، تحتاجُه! تحتاج شاهين .. شاهين بريء يا الله ! بريءٌ وأنا الظـالمُ إليه وإليك الحمد . . كيفَ يصدّق في هذهِ اللحظـاتِ أن آلام السنينِ لم يكُن لها داعٍ أجاب لها .. لمن أجبتْ؟ لمَن بكيتُ بصدري الموبوءِ بالخيبـة ، لمَ امتلأتُ بتلك الخيبة؟ .. هل انتهى الظـلام .. ينقشعُ الآن رويدًا رويدًا والصورةُ الجميلـة تعودُ لتستوِي .. من قـال أن الصور حين تنكسـر لا تُجبر؟ من قـال أنّها لا تعود وأنا الآن أرى صورتِي معه تُلملمُ وتتلاشى منها الشروخ .. من قـال لنـا أنّ ما يتحطّم لا يعود؟ من قـال لنا أنّنا حين نكره لا نحب، حين نحقدُ لا يتلاشى هذا الحقد .. من قـال أنّ الأخوّة كاذبـة؟ كَذبَ وكذبتُ أنـا ، لم يخذلني، لم يغدر بِي .. كان دائمًا معي وكنت أنا الظالم وأنا الذي حقدتُ دون سببٍ وأردت كرهه .. هل كرهته؟ لا .. لم أكرهه بعد .. لم أكرهه وكيف أقوى؟ كنت منذ سنينَ في غربتين ، واحدةٌ في مدينـة ، وأخـرى في بشـر، والأخـرى أنا اختلقتها من سوءِ ظنّي ... لم يفعلها بي؟ لم يفعلها بي بل أنا من كان المخطئ في النهايـة ، أنا !!!
ارتحلَت لحظـاتُ الصدمـة ، انتهَت ليسجد سجودَ شكرٍ لله ، يلتصقُ جبينهُ بالأرضِ والدموع لا يدري أينَ ذهبَت، تحمرُّ عيناه لكنّها لا تُسقِط ماءً ، يتمتمُ بالحمد وهو يبتسمُ ويضحك دون شعور .. فرحـةٌ غمرته شعر أنّها ستقتله لا محالـة .. لا لن يموت! لن يمُوت الآن بعد أن طرقت الحياة بابه ، لا يريد أن يموت !!
نهضَ بانفعالٍ وهو ينظُر بتشتتٍ حوله ، لا يستطِع أن يرى ملامح عبدالله جيدًا وهو يلفظُ بصوتٍ غادرهُ من علوّ أنفاسِه وانفعـال مشاعره : بروح له ...
زمّ عبدالله شفتيه ، لم يستطِع أن يعترضَ وهو يرى الانفعـال والسعادة على محيـاه ، في حين لم يكن لينتظـر متعب منه الموافقـة ، بحثَ بعينيهِ عن هاتفه ليجده على الأرض ، لا يدري متى سقطَ منه ، ولم يهتمّ وهو ينحني ليحملـه ومن ثمّ يخرج مهرولّا من المكـان . . .


،


يمرّر كفهُ على شعرِه بضجر، لتوّه وصـل واصتدم بإبراهيم ما إن جـاء إلى هنـا لذا ساء مزاجـه فوق ما كان سيء ، دخـل الغرفـة التي باتَ يتشاركها معه هذهِ الفتـرة ، يزعـم سالِم أنّه يريد لعلاقتهما أن تتحسّن ولو قليلًا، بينمـا خططهُ تبتعِد عن هذهِ الفكـرة، يريدها أن تسوء أكثـر وأكثر ، يريدها أن تسوء للنقطـة التي . . .
عضّ شفته بحنقٍ ما إن شعرَ بكتفِ إبراهيم تصتدمُ بِه ليتجاوزه أخيرًا ويدخُل، زفـر بغيظ، ومن ثمّ تبَعهُ ليتّجه مباشـرةً للطاولـةِ ويضعَ هاتفهُ عليه، يتنـاولُ تفاحًا باليدِ الأخرى، ومن ثمّ يحمل السكين ليبدأ بتقطيعه وهو يتجاهل إبراهيم الذي كـان صامتًا على غيرِ العادة ، أمـال فمه وهو يرمِي السكين ويتناول القطعـة التي في يدِه، ينظُر لإبراهم بجمودٍ ليرفـع حاجبه الأيمـن وهو يراهُ يمسكُ بصورة! يتطلّع بها وهو يرفعُ حاجبيه بانبهار . .اقتربَ منه بفضولٍ ليلفظَ بنبرةٍ تصنّع فيه عدمَ الاهتمـام : وش وراك أنت؟!
إبراهيم يصدر صفيرًا بإعجاب : اوووو مااااي قااااد صاروخ أرض جو !!
عقدَ حاجبيهِ بشدّةِ فضوله، وتمرّدت يدهُ لتخطفَ منه الصورة في لحظـةٍ خاطفـة حتى يرى الصاروخ الذي قصـده . . لكنّ ملامحـه بهتت ، اتّسعَت عينـاه بصدمَة، رفـعهما نحو إبراهيم وهو يفرج شفتيه بينما رعشـةٌ سرَت في جسدِه . . لا يدري كيفَ استطـاع أن يسيطر على صوتِه، كيفَ استطاع أن يبتلـع ريقه بهدوءٍ رغـم اشتعال عينيه ، أن يلفظ بنبرةٍ هادئةٍ خافتة متسائلة : من وين جايب هالصورة؟
إبراهيم يمدُّ يده يريد أن يستعيدها له وهو يهتف دون مبالاة : حصّلتها . .
سعد يصرخ فجأةً وهو يُعيد اليد التي يحمل بها الصورة للخلف، بينما الأخرى امتدّت للأمـام ليقبضَ أخيرًا على عنقِه وهو ينفضُ كلماتٍ غاضبـة : من وين جايب صورة أختـي يا **** .... من وين جايبها تكلللللم !!!
راقبَ ملامح إبراهيم التي ظهرت عليها الصدمـة، شعر أنّه يختنقُ من يدِه، لكنّه بالرغمِ من ذلك كان يحاول أن يبعدها وهو يلفظُ باختناق : ابعد يدك يا حيوان . .
سعد يضغطُ على عنقه أكثر وعينيه تطلقان حممًا حارقة : من وين جايبها؟ من وين جايب هالصورة ؟!!!
إبراهيم بغضب : من جهنننننم . .
سعدْ يدفعه للخلف، يتركُ عنقه فجأة، ومن ثمّ يلكمُه بغضبٍ وهو يصرخ : لا تتلاعب معي !! أقسم بالله لو تضرّها بشيء أذبحك ... لو تفكّر مجرّد تفكير فيها أنكل فيك . . . * أردف بعلوّ أكبر وهو يضربه من جديد * من وين جايبها؟!!!!!
إبراهيم يتراجع للخلفِ بغضبٍ وهو يضعُ كفّه على فكّه بعد الضربـة الأخيرة التي تلقّاها ، وبوقاحـةٍ مقهورة يستفزّه بها : والله الطبيعي قبل لا تسألني تشوف وش الأسباب اللي بتخلّي صورة أختك توصل ليد الناس !!
تنفّس بحدّة ، بتسارع الأكسجين إلى صدرِه ، بالانفعـال الذي احمرّت بِه ملامحـه . . رفـع الصورة ينظُر لابتسامةِ اختـه البريئةِ فيها ، ترتدِي زيّ المدرسـةِ وهي تحملُ حقيبـة ظهرها .. كيفَ وصلت إلى هنا؟ كيف!! . . في هذهِ اللحظـة كـاد أن يقتلَه ، تمنّى لو يفعلـها، ولا يدري كيف انسحبَت أقدامـه ليهرول بسرعةٍ خارجًا ، بينما مرّر إبراهيم كفه على شعرِه ولا ينكـر أنّه خاف منه لوهلـة، لم يره بغضبِه الآن قبلًا وللحظـةٍ ظنّه سيقتله !
نظـر نحو الكرسيّ الذي وجَد الصورة مرميّةً عليـه .. عقدَ حاجبيه ، كيفَ ستصل صورة أخت سعد لهنا؟


،


" أبي أشوفك في المكـان اللي قابلتك فيه المرة اللي راحت "
رسالةٌ كـانت كافيـةً لتُشعِل جنونه ، كـانت كافيـةً لتجعله ينتفضُ من خمولِ الوقتِ ويمضي ، أن يتجاوز الكثير من الاشاراتِ الحمراء الآن ويشتمَ زحـام الرياض ، أن يتغيّب في تلك الأحرفِ ونقاطها ، في تلك الرسـالةِ التي وصلَت إليه من رقمِه ، ما معنـاها وما سيكون مكنونها غير أنّ أدهم أخبره ! ربّما لم يخبره ، وربّما لم يصدّقه أيضًا إن كان قال له .. لكنّ طلبه أن يقابلـه أخيرًا يكفيه الآن ، إن علم وصدّق فلن يملك من زمـامِ سعادته شيئًا ، وإن لم يعلم أو لم يصدّق فسيقنعه هو ! يكفِي أنّه وافـق أن يراه بعد المرات الكثيرة التي كـان يتّصـل بِه ولا يرد . .
ضرَب مزمار السيارةِ بغضبٍ وهو يصرخ دون أن يستطِيع السيطرة على علوّ صوته : تحركوا يا حمييييييييييييييييييييييير
وضـع رأسه على المقودِ وهو يتنفّسُ بسرعة ، الزحـام يشقُّ أنفاسهُ ليغـرق في اختناقِه الآن ، السمـاءُ تقترب ، بشمسِها وحرارتها فيذوبُ في وقتِ اشتعالين ، يشتعلُ داخليًا ويشتعلُ من الخـارج، حتى التكييفُ لا يبدّد حرارةَ الشمسِ أو يقلّصها .. لا يُبخّر هذا اللهب . . . رفـع رأسه وهو يسمَع صوتَ المزاميـر من خلفِه، انتبـه لكونِ الزحـامِ قد تناقـص تدريجيًا والسيارة التي أمامه تحرّكت منذ لحظاتٍ ولم ينتبـه ، تنفّس بحدةٍ وهو يحرّك السيارة، يمسحُ على وجههِ ويهمسُ باختناق : انتظرني شوي .. انتظرني . . .

في جهةٍ أخـرى .. اتّكأ على إحدى الجُدرانِ وهو يرفـع رأسهُ للأعلـى ، يحاول أن يضبط أنفاسـه ويرخِي صدرهُ المشدود . . . شكرًا يا الله .. شكرًا لأنّك مددتنِي بالحيـاةِ حتى هذهِ اللحظـة ، لمْ أمُت قبل أن أعـرف الحقيقة، لم أمُت وأنا غارقٌ في خيبتِي وحزنِي ، لم أمُت وأنـا أرآه في إطـارِ صورةٍ كـاذبـة .. حصحص الحق! بعد أعوامٍ وأشهرٍ أمضاها بوجعٍ لم يذُق مثله طول حياتِه ... ماذا لو كان في حلمٍ الآن؟ ماذا لو أنّه يتوهّم هذا من شدّةٍ لهفتـه له .. ربما مازال نائمًا بعدَ كلمـاتَ أدهم في الليلـة الماضية ويحلم أنّ كل شيءٍ كـان كذبًا . . . أغمضَ عينيها وهو يفرجُ شفتيه قليلًا ، يهمسُ بتضرّعٍ وخشوع : لو كان كل ذا حلـم .. يا رب لا تكتب لي أصحـى .. خذني إليكَ أخذ عزيزٍ مقتدر . . .
لو كـان شاهين قد خذلـه فعلًا ، لم يعُد يريد هذهِ الحيـاة وقد ذاق نشوةَ الوهمِ الآن .. لا يريد الانكسـار من جديدٍ بعدَ حلمٍ ومنـام !
تأخّر كثيرًا .. تأخّر وإن كـان في الحلم .. عقدَ حاجبيهِ وهو يفتحُ عينيهِ وينظُر لساعةِ هاتِفه ، ربّما لم ينتبه لرسالتِه ! يا للغبـاء ليته اتّصل ! لكن هل كـان سيقوى على سمـاعِ صوتِه دون أن ينخرطَ في انفعالاتِ صدره ويموت هذهِ المرّة؟!
مرّر لسانه على شفتيه بأسـى .. يجب أن يتّصـل بِه ، هو مستعدٌّ لذلك ، يجب أن يتّصل بهِ حتى يأتي .. لم يعد يتحمّل هذا الشوق .. يريد أن يراه ومن ثمّ يُحلُّ كلّ شيء ، أن تنتهي هذهِ المعضلات ، أن يرى أمّه أيضًا . . اشتاق لهم! هذا الشوق لم يعُد يُحتمـل .. اشتاق لشاهين ، من بعد الحقائق التي تُليَت على مسامعه شعر أنّ شوقه إليه أصبـح قاتلًا ، ولِد هذا الشوق من الخيبـة ، لذا يكادُ يقتله.
رفـع هاتفه بأعصابٍ نفَدت ، قرّر أن يتّصل بِه، لا يجزم أنّه رأى رسالته .. ربّما نائمٌ أو مشغولٌ بشيءٍ ما ، ربّما . . . لكنّ شاهين لا ينـام في هذا الوقت!
ابتسـم ، لازال يحفظُ عاداتِه ، لا ينـام في هذا الوقت ، لا يُحبّ أن يرتدي قميصًا أثنـاءِ نومِه ، لا يستصيغُ مشتقّاتِ الألبـان، يتحسّس جسده من البيض ، يتذكّر التفاصِيل وكأنها لـه .. لازلت أحفظكَ كاسمـي رغم السنواتِ التي مضَت ورغمَ الأشهر التي بُنيَت بيننا وأنا " حاقد "!.
اتَجه لرقمـه وهو يبتسم دون أن ينتبـه لذلك ، يبتسم بشوقٍ ويبتسم لهفةً ليكونَ معه أخيرًا كما كانا منذُ طفولتِهما . . نظـر لاسمه للحظـة ، لكنّه تراجـع عن الاتصـالِ بهِ ما إن سمـع صوتَ سيارةٍ تتوقّفُ بعنفِ جعل إطاراتِها تصرخُ بألمِ الاحتكـاك . . رفـع رأسـه ليعقدَ حاجبيهِ ويتنفّس باضطرابٍ ما إن رآه .. ترجّل من السيـارةِ وهو ينظُر لهُ بانفعـالٍ مُفاجئ ، كـان هناك غضبٌ في عينيه، كـان هناك عتَب .. لم يكُن متيقّنًا في هذهِ اللحظـاتِ أنّ متعب علِم .. لذا غرقَ في عتابـه الصامت .. بينما تنهّد متعب وهو يشعر أنّ أنفاسـه تتّجه للبعيدِ ويختنق . . ينظـر لهُ وهو يقتربُ منه ، يرى الغضبَ في عينيه .. لو ضربه الآن لن يعترض ، فهو ضربـه يومَ التقى بِه قبل أيـام ، ليضـربه حتى يرضـى عن نفسِه ولن يرضى! سنينٌ مرّت وهو ظـالمْ ، ليضربـه على ظلمـه ويردَّ إليه أنفاسه الآن ، أنفاسـه التي غادرته بينما تجمّدت أرجله عن الحركـة.
وقفَ شاهين أمامه مباشرةً وهو يشدُّ على شفتيه ، يضيّق عينيه قليلًا ، ومن ثمّ يلفظُ بغضبٍ وانفعـال : ما أدري إذا الورع اللي معك علّمك بكلامي أو لا .. بس يكفّيني إنّك قدامي الحين عشان أدخّل الكلام براسك وأخليك تصدّق غصب عنك . . .
ارتفـع صدره بانفعالٍ لينخفضَ ويردفُ بأسى : مدري الشرهة عليك والا علي .. كل هالسنوات اللي تعدّت الثلاثين ومع كِذا ما تثق فيني؟!!!!
ابتسـم متعب دون ردّ ، عينيهِ تلتمعــان ، لم تعُد بذاتِ الظلامِ الذي رآه فيها لأوّل مرةٍ بعد سنين .. عقدَ شاهين حاجبيه، شعـر بأنّ أضلعه تصدأ وهو يرى تلك النظـرة الغريبـة في عينيه، النظـرة التي كـانت صافيـةً من ذاك الحقد و . . .
انقطَعت سلسلـة أفكـارِه حينَ ارتفعَت كفُّ متعب، ضغطَ بسبّابته وإبهامِه أعلى أنفِه ، ابتسم ، بل ضحكَ ضحكـةً قصيرةً ومن ثمّ همـس دون تصديق : يا الله !!
شاهين برجـاءٍ وهو يظنّه يسخر منه بتلك الضحكـة : متعب !
متعب يخفضُ كفّه وينظُر نحوهُ بابتسـامةٍ مجروحـةٍ بسنينَ الخداع ، همسَ بتحشرج : كسرَت ظهري هالكذبـة . .
بهتتْ ملامح شاهين ، لم يستطِع أن يستنبطَ من كلمـاتِه فكرةً تُريحه ، لم يستطِع أن يفهم إن كـان يعني كذبه هو " بظنّه " أم يقصد الخدعـة التي سقطوا فيها .. لم يردّ وهو يميل فمه بأسـى ، بينما اتّسعت ابتسامـة متعب، اقتربَ منه فجأة ، وحين همسَ شاهين برجاءِ عميق بـ " تكفى " كـان متعب يقاطعـه حين انحنى برأسهِ ليضعه على كتفِه فجأة .. أثقلته الأيـام والليالِي ، النهاراتِ الصاخبـة بتأمّلاتِ السمـاء .. لكم رآهم في صفيحتها وأحبّها لأنها الشيء الوحيد المشترك بينهم ، كـان يلومُ فارقَ الوقتِ البسيط ، الصلواتِ التي يصلّيها في وقتٍ غير وقتهم ، الأرضُ التي تخضرُّ في بارِيس بينما صحراءهُ هنـا كانَ يحبّها أكثـر ، يحبّ لونها الرمليّ ويحبّ حرارتها التي تغوصُ أقدامه فيها .. كانت السماءُ وحدها من تصله بهم ، وكانت الخيبـاتُ تثقله حتى باتَ منكسرًا .. يحتاجُ كتفَه ليستندَ عليه ، يحتاج وقوفه الآن أمامه وبجانِبه وخلفه! يحميه من حزنه ، يحميهِ من ضيق صدره ، يحميه من كلّ الذي وأدَ الضحكـةَ على فمه.
استندَ برأسِه أخيرًا على كتفِ أخيـه دون أن تخالجُه مشاعـر حقد، دون أن يبـالي بالتعرقلاتِ التي بينهما، دون أن يبالي بالذين وضعوا هذهِ العقبـاتِ بينهما ودون أن يفكّر بمعضلة أسيل في هذهِ اللحظـة ، وضـع رأسه على كتفه ، وهو يهمسُ بصوتٍ يختنق، بصوتٍ متحشرج، بصوتٍ مشتاق : وحشتنـــــــــي !!

.

.

.

انــتــهــى . . .

وموعدنا القادم راح يكون الجمعـة إن شاء الله ، ومن ثمّ بتثبت المواعد على يومي الأحد والأربعاء . .
+ عذرًا منكم على التأخير، وقراءة ممتعة . .

ودمتم بخير / كَيــدْ !




أبها 10-07-16 10:36 AM

شكرا كيد على الجزءين ..

فعلا الموقف الذي انتظرناه كثيرا وتمنيناه
جاء .. معرفة متعب ببراءة شاهين ولقاءهما
الذي لن يكون لقاءً عادياً .
أجمل كلمة نطقها متعب هي كلمة وحشتني ..
معبرة عن مدى الشوق واللهفة والحب .
بانتظار بقية اللقاء وردة فعل شاهين
مرة أخرى شكرا لمبدعتنا كيد
🍃🌸🍃

fadi azar 15-07-16 06:31 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
رائعة جدا واخيرا عرف متعب برائة شاهين من كل الاكازيب

كَيــدْ 15-07-16 08:37 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ، عسى بس تظل البارتز ترضيكم، هالبارت واللي قبله ما أرضوني من ناحية الطول والأحداث ضاق وقتي، بس إن شاء الله تختلف عندكم النظرة.

+ بنات الكِك خاصـةً اللي مرسليلي من أيام وما رديت، هاليومين ما أقدر أرد عليكم ، جوالي يعاني من مشكلةٍ ما :( وما أقدر أدخل الكِك من ثاني لأنه غالبًا تروح الرسائل مع أي دخول جديد حتى لو بنفس الجهاز ... راجعة لكم ()

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم على العبادات

حبايبنا وطاحت مِنْ غُصُون العمر ذكراكم
حبايبنا وِنَاحَتْ مِنْ غُصُون الذّاكِرَه وَرْقَا
تعبنا نِشْعِل التّلوِيح فِي عتْمَات مِينَاكم
ولا رجّع لنا " انتُم " ولا أحْلَامَنَا الغَرْقَا
وِرِحْناَ نْصَافِح اصْوَرْكم رِسَايلْكم هَدَايَاكم
إلَىْ مَافاح عِطْر اشْيَاءَكم بِكْفُوفِنَا العَرْقَا
حَبَايِبْنَا وِكِلْ مَا اعْشُوشَبَتْ لحْظَه بِطِرْيَاكم
تطيح دْموعَنَا منْ شانِكُم ولْشَانَكُم تَرْقَا !
رحَلْتُوا والطّريق الْ بَرْوز آمَانِيه بِخْطَاكُم
يِمُوت مْن الأسَى مِثْل الأمَانِي لِيلَة الفَرْقا !


* العنود عبدالله

(76)*3




في وقتٍ سـابق – وبعدَ مضيّ نصفِ ساعةٍ من زمنِ " العناق ".
غُربـة ، وتوحّدٌ في حالـةٍ لا مرَضيَّة، يزورها البهوتُ وهي تجلِسُ كطالبٍ في سنتِه الأولى، يجهل المكـان ويجهلُ النـاسَ من حولِه ، يجهـل الوجوهَ ويجهلُ تعاليمَ التواصـل .. توجسٌ في نظراتِها كان يؤلمُ أمّها أكثـر ، تبتسمُ لها وهي تضعُ كوبَ الحليبِ أمامها وتلفظَ برقّةٍ حزينة : اشربيه كلّه .. هذا تعويض عن سنواتْ صغرك اللي شربتِ فيها من يد الخدامـات.
ابتلّعت ريقها بصعوبـةٍ وحيرة، نظـرت للكوبِ والضياعُ يوخز نظراتها وكأنها تستنكرُ ما تراه، ترى شيئًا لم تعتده ، هل هنـاك أمٌ تقدم لابنتها كوبًا من الحليب؟ غير كوبِ صدرِها، وغير اللذعـة التي كانت توخزُ لسانَ طفلةٍ من " فلفلٍ " أكلته ولم تبالي بأنّها مُرضِعةٌ لصغيرها؟ .. هه ! . . . لحظة ، كونها كانت طفلةً لم تكُن لتتذكّر الآن شيئًا كهذا .. لكنّ أمًا بإهمالٍ كالذي تراه سترى الفلفلَ مجرّد – نكهة - ! حتى تعتاد صغيرتها بعد أن تكبـر ، تكبر قليلًا قليلًا ، وتشيخ بسرعة .. على لذعة الحياة !
ظلّت تنظُر للكوبِ بصمتٍ وتيه، لم تستوعبْ الفراغَ من حولِها حتى شعرت فجأةً بجسدِ أمّها بجانِبها ، انتفضَت لتنظُر لها بتوجّس، حينها ابتسمت أمّها بأسى وهي ترفـع كفّها، تضعه على شعرِ غزل الحريريّ بأمواجٍ متباعدة والذي أطلقته على ظهرها بعد لحظـةٍ من جلوسها كصورةِ اعتـياد .. لطالمـا كانت سجينـةَ حياةٍ بائسة، لذا نطقَت بتحررٍ سطحي ، من خلالِ شعرها ، ملابسها ، وعلاقاتها !
ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي تشعُر بكفّ أمّها التي كانت تمسح على شعرها ، بينما انزلقَ صوتها من بينِ شفتيها لتهمسَ بنبرةٍ حنونة ، أقـرب للرجـاء : اشربيه . . !
وجّهت نظراتها باضطرابٍ نحوَ الكوب، نظـرت لهُ وكأنّ هذا الحليبَ هو الفاصـل، هو البـاب أو المفتـاح ، لحيـاةٍ مختلفةٍ مع هذهِ الأم .. كأنّ هذا الكوبَ الآن إن شربته فستجرّب طعـم شخصيّةٍ جديدةٍ من الجالسـة بجانبها . . . ظلّت تنظُر لهُ بتردّدٍ للحظـاتٍ قصيرة ، لم تطُل أبدًا ، وفي اللحظـة ما بعد الانتظـار القصير كانت يدها تمتدُّ دون إرادةٍ منها، وكأن عقلها البـاطن أراد في هذهِ اللحظـة .. أن ينصـاع لمقبضِ الباب، ويفتحه !
رفعَت الكوبَ لفمها، بينما كانت امّها تبتسمُ وهي تنظُر لها ويدها لازالت تمسحُ على شعرها، ارتشفَت أوّل رشفـة، لتتّسع امها ببسمتها، وتبتلـع غصّة، مرّةً كالعلقـم ، بينما عينيها لا زالتا ملتهبتينِ منذ أكثر من نصفِ ساعـة، لازالتـا تبكيانِ بحُمرتِها.
تجمّدت كفُّ غزل بعيدًا عن فمها، كـان واضحًا لعينيها أنّها لم تعد تريد أن تُكمـل مافي الكوب، وهذهِ المرّة كان الجزء المُمتلئ من الكأسِ هو السلبياتُ بعينِها ، لذا وجدَت نفسها تلفظُ بنبرةٍ خافتـةٍ تحثّها على اكماله : اشربيه كلّه ..
نظـرت لها غزل بربكـة، لكنّها سرعان ما شتّت عينيها وهي تهمس : لا خلاص . .
امها بإصرار : لا لازم تكملينه !
لم ترد، ورغمًا عنها كانت كفّها ترتفعُ أخيرًا لتُكمـله قسرًا، بالرغمِ من كونِها تشرب مجرّد حليب ، إلا أنّ أمّها شعرت بِها تشربُ منـها مشاعر كثيرة ، ترتشفُ منها الكثير من الحسرةِ وتبصقها، بينما وضعَت غزل الكوبَ بصمتٍ بعد أن أنهَت ما فيه، ومن ثمّ مرّرت لسانها على شفتيها، وحين مدّت يدها نحوَ المناديل تريد أن تمسحَ أيّ أثرٍ للحليبِ كانت امّها تلفظُ بعجل : لا خليك!
نظـرت لها غزل باستنكـار، لكنّها سرعان ما ارتبكَت من جديدٍ وشتّت عينيها، نهضَت أمّها لتقتربَ من الطاولـة التي كانت غريبةً من غـزل، عقدَت حاجبيها وهي تنظُر نحوها بفضولٍ تريد أن تعرف سبب تحرّكها للطاولـة، رأتها تقطِف منديلين، ومن ثمّ تقتربُ منها . . أجفَلت ، واتّسعت عيناها بصدمةٍ وهي تشعُر بالمنديل يلامِس فمها، صُدمَت بغرابـة ردّة فعلـها هذِه، وحين تراجعَت كي تهربَ من يدِها كانت امّها تُمسكُ بكتِفها بكفّها الاخرى وهي تهمس : لا تتحركين ... خليني !
عنقها تشنّج، قلبها شعرت بِه يصدأ وصدرها يرتفعُ بنفَسِها الحـاد ، حرارةٌ ارتفعَت في الهواء، شعورها أنّ هذهِ اللمسـة محرّمةٌ بغرابتِها! غريبـة ، نعم غريبـة ! لم يذقها جلدها قبلًا، وكان الانطبـاع الأول أن مذاقها " لا يُعبّر عنه " ..
نظـرت بعينينِ باهتتينِ لملامِح والدتها التي ابتعدَت وهي تبتسم، بينما كفيّ غزل مسندتانِ على الأريكة، جسدها مشدودٌ لخلفٍ في صورةِ صدمةٍ باهتـة . . لفظَت امها بخفوت : ما أقدر ألومك .. ولا لي حق ، شلون صحت على حالي أصلًا؟ ما أدري ! بس من فترة طويلة ، من فتـرة .. من يوم ما غلطتِ . . . وأنا متحسرة عليك! متحسرة عليْ وعليك .. ومن كثر غبنتي كنت أضربك لين رحتي له ، للرجال اللي عرف شلون يسعدك ، وأنا أمك وهو أبوك عجزنا. لا! ما كنا عجزانين ، كنا بس .. متخاذلين ! متخاذلييييين حيـــــــــل يا غزل.
تنفّست بتحشرجٍ وضياعها يزيد بكلماتِها، صوتِها .. ما الذي تريده؟ بعد السنينَ وبعد دهرين ، بعد مرورِ أكثر من أربعةٍ وعشرين عامًا . . ما الذي تريده الآن بكلماتِها هذه؟ صحوة! هل هذهِ صحوةٌ متأخّرة! كيفَ تصدّق؟ بل لمَ الآن تشعر بالرغبـة في البكاء! بعد أن اعترفت أمّها بتخاذلها في اعتنائها بها .. لمَ تشعر أنّها تريد أن تبكي؟ لمَ؟!!
شدّت على طرفِ الأريكةٍ بأظافرها حتى شعرت أنّها ستخلعها من جلدِها، بقيَت تنظُر ببهوتٍ لها .. لا تصدّق أنّها اليوم عانقتها وبكَت! جعلتها تشرب " حليبًا " من يدِها، ومن ثمّ مسحَت لها فمها من آثـارِه ، ما الذي يحدث؟
أمسكت أمّها كتفيها ، ومن ثمّ ابتسمَت بأسـى .. لتهمس : مبسوطة معه صح؟ يائسة من ناحيتنا ، خلاص مافيه شيء يتصلح بيننا ومشاعرك صعب أكسبها .. بس مبسوطة معه صح؟ عرف شلون يسعدك؟
كانت تائهةً في عينيها، غادرها نصفُ الوعيِ وبقيّ نصفه الذي دفعها لهزّ رأسها بالإيجاب دون أن تلفظَ بكلمـة، تذوبُ بين كفيها وتشعر أنّ حرارتهما تصهرانها، لكنّها حرّكت رأسها بآليـة حبّها له ، وأجـابت.
ام غزل تبتسمُ بأمـل : دريت من أحمد عن آخر شيء قلتيه له .. كان الموضوع فيه التبـاس؟ أقصـد موضوع عبدالعزيز!
انتبهَت للصدمـةِ التي ظهرت على ملامِح غزل ، تراجعَت للخلفِ بنفضـة ، أشاحت وجهها عنها وشفتيها بدأتا بالارتجاف للحظـةٍ لتزمّهما أخيرًا، حينها عقدت امّها حاجبيها قليلًا ما إن رأت ردّة فعلها تلك، وبخفوتٍ متساءل : ما صار بينكم شيء؟ ما غلطتي معه مثل ما قلتِ لأحمد صح؟
ابتلعَت غزل ريقها، لم تتوقّع أبدًا أن تسألها أمّها عن ذلك، ظنّت أنّ عائلتها المزعومـة ستنسى بعد سلطـان، وبعد كذبتها تلك ! . . لم ترد، حينها تصاعدت شكوك امّها أكثرًا، تشنّجت ملامحها، ضاقَت عيناها، بينما فكرةٌ واحدةٌ فقط طرأت على عقلها لتنزلق من طرفِ لسانها دون شعور : سلطان دخل عليك؟!!
تحرّك حلقها بربكـةٍ وصدمةٍ من أسئلتها هذِه . . لم تُجِب، لكنّ ربكتها، اضطرابها، رجفـة جسدها . . كانت إجاباتٍ كافيـة .. إجاباتٍ جعلت امّها تشهقُ وتتراجـع للخلفِ وهي تضعُ كفّها على فمها ، وباضطرابٍ مُتسائِلٍ وصوتها يخفت أكثر : طيب ... يدري؟!!!
زمّت شفتيها، وجهها وجّهته إليها، نظـرت لها هذهِ المرّة ، بعينينِ منكسرتين ، بأهدابٍ طويلةٍ تنعكـف، ببشرةٍ شحبَت حين تراقصَت الإجابـة عليها .. نظرت لها نظرةً تكفيها كي تقول لها " لا ، قاعدة أكذب عليه ، ما يدري! محسن ظنّه معي وما يدري " ، ولكَم تجِدُ هذهِ الفكـرة موجعةً لها، تجدها الفكـرة القاضيـة، السيفَ الذي بتـر ذراعي السعادة فلم تعانقها، سلطـان من بينِ كل أحداثِ حياتها " المُعدمة " كان الأجمـل، كان الأنقـى، كـان الربيـع بعد شتاءٍ بارد، وأنا كنتُ أيلُول، أمطرتُ عليهِ بخريف الكذبات، أمطرتُ عليهِ بزهرِ الخداعِ الجاف، كنتُ الفصـل السيء، الشاحب، كنتُ كلّ التعاليـم الميّتـة في الخريف، كنتُ المماتَ وأنت الحيـاة يا سلطان ، كنتُ الظـل وأنت الشمـس، كنتُ الثيـابَ المبتلّةَ والمتعجّنـة بغسيلِ الخداع وأنت المشابك التي حملَت كذباتِي على حبـل الحياةِ الزائفـة هذِه، كنتُ المشتقّات السيئة، وأنت الخيـر بعينِه . . .
أغمضَت عينيها بألمٍ قرأته أمّها ، اهتزّ صدرها بأسـى ، لا تصدّق أن ابنتها بالفعـل لازالت تجري في هذا الذنب وأنّها لم تكُن بريئةً منه! لا تصدّق أنّها تعيشُ حتى الآن على بابِ سلطان، تتمنّى منه ماذا!! قبولًا؟ هل تنتظر من سلطان القبول وهي حتى لم تخبره؟! هل ستسمح لها بإخبـاره؟! لا ... لن تجِد في ذلك الراحـة ، سيسحقها ، بالتأكيد لن يصمت على أشهرٍ قضاها وهي تكذبُ قربـه وعليه.
لم تشعر بنفسِها إلا وهي تضمّها بقوة بعد أن رفعتها، تتنفّسُ بعنفٍ وهي تنظُر للجدارِ من خلفِ غزل، تهزُّ رأسها بالنفي، بينما كلماتها تخرج من بين شفتيها منفعلـةً بذعرها : اتركيــــــه ... اتركيه يا غزل ، اتركيه وأنا بحطك بعيوني لين ما تبدأين من جديد !!!
فرّت دمعـةٌ من مقلتها، قوّست فمها، بحزن، بخيبـة، بانكسار، بخسارةٍ ملأت كيانها بالفراغ !! . . ارتفعَت كفّها، وضعَتها على صدر امّها دون شعور، بينما صوتُها ينسدلُ كستـارٍ على مسرحِ الأمنيـاتِ التي وُئِدَت " بانتهى "، على مسرحِ المواقفِ الظمآنة، على اللحظـاتِ المبتورةِ بنهاياتٍ سعيدة : أحبـــه !
عضّت امّها شفتَها بقوّة، خشيَت عليها من الحب، خشيَت أن تكون وقعَت بالفعـل ، خشيَت ذلك وحدث! . . شدّتها إليها، بينما همسَ صوتها بحسرة : الحب ما يودي ولا يجيب .. الحب ماهو كل شيء يا غزل!
غزل بغصّة : أحبه .. وما أتخيل حياتي بدونه .. أحبه وأتمنى لو الوقت يرجع لورى ، شوي بس! شوي . . ليه ما نقدر؟ ليه ما نقدر نغيّر في الزمن ونتحكّم بمصيرنا؟ نشوف إذا اللي بنسويه صح أو لا ، وبعدين نرجع ونعدل!
أغمضَت عينيها، وبنبرةٍ خافتـة وهي تمسحُ على شعرها بأسـى : مافيه هالشيء يا غـزل .. اللي يروح ما يرجع ، واللي يموت ما يولد !! ما يولد من جديد مثل ما ولد أول مرّة !
غزل تكرّر بحسرة : ليه ما نقدر؟ ما تعطينا الحياة هالفرصـة! ما تعطينا هالخيار !! أقلها تعلمنا الخطوة ذي صح ، والا بتطيّحنا ومحنا بواقفين من بعدها !! ...
امها بخفوت متأسّي : غزل !
غزل بإعيـاءٍ قد بدأت بالبكـاء، تتشبّث بصدرها، أظافرها تكادُ تنغرسُ في جلدِها وصياحُ قلبها هذهِ المرّة يهوي . . لم تستِطع أن تبكِي كما تريد في – منزلها -، قريبًا من سلطان، لم تستطِع أن تبكي وتتحدّث عن سوءاتِ ما في صدرِها بوضوح، لم تستطِع، لأنّه سلطـان ، الذي لا تريد خسارته ! لذا وجدَت نفسها الآن تنفجر، وجدت نفسها الآن تبكي كما يجب، بحجمِ مصيبتها وبحجمِ خسارتها الكبرى .. كيف تحتمل أن تخسره؟ كيف قد لا تنهضُ في يومٍ ولا تجدُ عينيهِ لتشرق كأوّل شمسٍ لها، كيف لا يوقضها لصلاةِ الفجـر التي تتغيّب عن موعدها كثيرًا ولا تستمع لرنينِ منبّهها لأجلها؟ كيف ستؤمـن كما يجب ، ومعلّمها ليسَ معها؟ كيفَ تخسره وتخسر قلبـه؟ كيف تستطِيع تخيّل كلّ ذلك . . ولمَ كان هو النقيّ من كل البشر، جـاءها متأخرًا، ليته جاء أبكر! ليتـه!!
لفظَت بصوتٍ يختنقُ بتعاليمِ البكاء، باهتزازِ أحلامها التي تداعَت وتحطّمت ، بكلماتٍ تتلاشى خلفَ غمائمِ الاختنـاق : يا رب عيونه يا رب ! كيف أصحى بيوم وما ألاقيها؟ يا رب صوته كيف ما أسمعه بيوم؟ شلون أبعِد شلون؟ ما أقـدر والله ما أقـدر . . . بس شلون أكمّل كذبتي؟ أخدعـه وهو نقي .. ماهو مثلي كلّي ذنوب .. ماهو مثلي!!
رفعَت وجهها المغطّى بالدموع، نظـرت لملامحِ أمّها المنكسرة، وبعذاب : تدرين يمه وش سويت فيه؟ كذبت .. قلت إنّي مُغتصبـة وكذبت .. وهو صدّقني! صدّقني لأنه نقي .. وقبل فيني .. رضى فيني وما شافني ناقصة!! .. شلون يا رب .. شلون أكمل كذبتي وشلون أعيش معه؟


،


بهمسٍ يختنق : وحشتنــي .. وحشتني اليوم أكثر ، وحشتني بهالساعات اللي انتظرت فيها أكثر .. وحشتني في دقائق عن سنين ... لأنّي قبل ، ما كنت عايش وما كنت موجود عشان أشتاق وعشان أحس! وحشتوني اليوم ، وحشتــوني عن سنيني كلها وعن هالعمـر . . .
تنفّس بقوّة، هذهِ المرّة تنفّس وهو يشعر أنّ الحيـاةَ عاودته كما عاودت متعب ، كما عاد إليهم وكما حلّت المعجزةُ الجميلـة عليهم، تنفّس . . وشعر أن الضيقَ كلّه يغادره، شعَر أنّ عينيه اللتين ضاقت فيهما الوسيعـة توسّعت ، أنّه الآن يستطيع أن يفرح ، يستطيع أن يبتسم، يستطيع أن يصرخ في الدنيـا كلّها أنه عـاد إليه ، أخيرًا عـاد .. متعب بالفعلِ حيٌّ وبالفعـل عاد . . أيّ كلماتٍ تصفُ مشاعره الآن؟ أيّ كلمـات؟ أيُّ هويّةٍ ينتحلها في هذهِ اللحظـة تستطِيع أن تحتمـل هذهِ الفرحـة؟ هذهِ الفرحـة التي لا تملأه بل تفجّره .
يتنفّس في هذهِ اللحظـةِ بقوّة ، يرتفعُ صدرهُ وهو يغمضُ عينيهِ براحـةٍ ويبتسم أخيرًا، بينما هتفَ متعب بخفوتٍ وهو يغمضُ عينيهِ فوقَ كتفِه : آسف .. حقّك علي وآسف . .
أردف قبلـةً على كتفِه بعد كلمـاتِ الاعتذار، حينها انتفضَ شاهين وهو يمسك كتفيه ويرفعه، ينظُر له بانفعـال، بأنفاسٍ تتصاعد، والأدرينـالين يتصاعدُ في صورةِ انفعالٍ قصوى ، يعقدُ حاجبيهِ ورئتيه تكاد أن تنفجر، يهزُّ رأسه بالنفي، ومن ثمّ يلفُظ بتحشرجٍ واشتياق : لا .. ما تعتذر ، أنت ما تعتذر مني ! ما تعتذر يا متعب دايم قدرك رفيع عندي.
ابتسمَ متعب ابتسامةً كالطيف، حزنٌ وفـرح، كلاهما نثرا بريقهما على عينيه، حزنٌ وفـرح، كلاهما عانقاهُ في هذهِ اللحظـة . . بينما اقتربَ منه شاهين ليقبّل جبينه أخيرًا، يستنشق رائحته التي اشتاقها والتي لم تتغيّر ، وباختنـاق : الحمدلله على سلامتك .. الحمدلله على رجعتك اللي تسوى عندي الدنيا وما فيها .. يا الله ما تدري شلون أنا مبسوط الحين وأحس إنّي بحلم !!
ضربَ كتفهُ بخفّةٍ ليُردفَ هامسًا : حيوان للأبد ... عذبتني هاليومين .. تفكيري كلّه فيك ، فداك والله فداك ... الحين بقدر أرضى على الكلب ذاك اللي اسمه أدهم.
ضحكّ رغمًا عنـه ليعضّ شفته أخيرًا ، لا يصدّق ما يجري الآن، لا يصدّق أنّ عينيهِ الآن تعانقانِه بعد سنين .. لا ! بل لم تكُن ، قالها الآن ، تلك السنينُ لم تكُن وأنا لم أبتعد، أنـا مُتُّ لبعضِ الوقتِ فقط ، وعُدت ، عدتُ إليكم اليوم، عدتُ بعد أن عادَت الحيـاةُ تنبضُ فيّ عبـرك أنتَ يا شاهين ، عدتُ أخيرًا وكان عودتي مفتاحها أنت ، وعودتي أحمدُ !
همسَ بغصّةٍ تكادُ أن تفتّت حنجرته : ترى ما أرضى عليه.
شاهين يبتعدُ عنه وهو يمسك كتفيه ، وبابتسامة : خلك منه أبو لسان فلتان ذاك .. دامك خلاص دريت بعرف الحين أتصرف معه بعد ما انتهت مصلحتي عنده .. والله ما أمشي له السبة اللي قالها لي.
متعب يعقدُ حاجبيه : وش قال من مصيبة بعد؟!
شاهين يضعُ سبابته على فمه بعبث : شيء ما ينقـال للصغار .. اششششش
ضحكَ متعب وهو يشعر أنّ أيَّ شيءٍ اليوم سيبثُّ الضحكـةَ على فمه، أحاطَ عنقـه ليشدّه إليهِ بقوّةٍ وهما الآن يعودانِ بسرعةٍ لأيامِهما السابقة، يتجاهلان في لحظاتِ اللقـاء الأولى التفسيرات، المُعضلات، ما بقيَ بينهما ، يتجاهلانِ كلّ شيءٍ الآن ويعيشانِ لحظـاتِ اللقـاءِ - الأولى - والشوق.
شدّ متعب بذراعِه على عنقِ شاهين بقوّة وهو يشدُّ على أسنانه، وبتهكّم : ما ينقال للصغار؟ تدري ! أنا اللي بربي أدهم على اللي قاله ما يصير يقول كلامه الوصخ عندك .. توك بزر بعدين تخرب . . . وترى والله اشتقت لك ، وأعتذر !
قالها وهو يرخي قبضتـه على عنقـه، لم يستطِع السيطرةَ على فيضِ مشاعره أكثـر ، لم يستطِع أن يكبـح آلامه، أن يمضي الآن ويبتسم فقط، دون عتـاب السنين، دون انجرافاتِ الخيبـةِ منذ أشهرٍ طويلـة، دون حرقةِ الشكوكِ وأشواكِ الحقد، دون أن يعاتب نفسه .. ويطلب منه العتاب ! يريدها منه ، عاتبني ، عاتبني كي أخفف من ذنبِي، عاتبنـي، كيْ تنقشـع الدعوات و " حسبيَ الله عليك " التي قلتها لك قبلًا، عاتبنِي ولا تصمت، حتى أعرف ظلمـي أكثر، عاتبنـي ولا تصمت ، حتى أحترق ، ويرحـل ذنبي رمادًا .. لأرتاح، وأجده من جديد، يومَ القيامـة . .
قلتها قبلًا، نحنُ خصمان ، خصمـان وقد ظننت أنّك الظـالمُ وقتها ، لكنّني الآن أقولها بطريقةٍ أخرى ، أنا وأنت خصمانِ يومَ القيـامة ، وأنا الظالم هذهِ المرة ، أنا الظـالم .. فلا تسامحني حتى وإن اعتذرت لك ألفًا !!
زمّ شفتهُ بأسـى وهو يبتعِد عنه، رفـع كفّه ليضغطَ بسبابتِه وإبهامِه على أجفانِه المغمضة، ضحكَ ضحكةً خافتـة، ومن ثمّ لفظَ بخيبةٍ وهو يُخفِي حمرة عينيه الملتهبةِ بملوحتها : شفيني صرت حساس من بعد باريس؟ مدينة دلوعة .. من حقّي أكرهها.
تصلّبت ملامح شاهين بأساها، ابتلـع ريقه وهو يراقبُ الانكسـار عليه، كفّه التي يضغطُ بأصابعها أجفانه، والأخـرى يضعها على خصره، ابتسامتـه التي تنعكـف، بشرته التي تنسحبُ الحيـاة منها، وصوته الذي كان مختنقًا ... ليجعله في المقابل يختنق معه ، لافظًا بابتسامةِ عتَب : قلت لك لا تعتذر .. قدرك أكبر عندي من اعتذار وتفاهات ... من متى كنّا نعتذر لبعض؟
متعب يُخفضُ كفّه لواجـه شاهين بحمرةِ عينيه، اتّسعت ابتسامتـه بحزن، ومن ثمّ همـس : شلون كنت عايش هالفترة كلها بعذاب من العدم؟ لا .. شلون كنت ميّت؟ ميّت بهالعذاب يا شاهين؟! .. شلون صدّقت فيك؟ .. وحقدت عليك ، وتحسّبت ... وظليت أحبك فوق كل شيء !
شاهين ببساطـة ، لا يرى للعتـاب الآن مكانًا، عتابه الأول كان لأنه لم يصدّقه بعد، لكنّه الآن يموت ، العتـاب يموت ، ولا يريد أن يضاعفَ حزن متعب أكثر ، لذا لن يهتمّ لشيءٍ إلا أنه عـاد : الأخيرة تمحي كل شيء ..
متعبْ يهزُّ رأسه بالنفي، ومن ثمّ يقتربُ ليلفظَ بأمرٍ وهو يعقدُ حاجبيه : يلا اضربني مثل ما ضربتك المرّة اللي فاتت .. تحسب عليْ ، قول إنّي ظالم ، وإنّي خصمك .. ريّحني في الدنيا وخلني أتعذّب بالآخرة.
شاهين وحاحبيه يتمايلانِ برفض، لفظ : لأنّي أبي أريحك في الدارين حسبي الله على من كـان السبب .. وأنت الله يحللك من ظلمـي ، ماني خصمك طول حياتي ومماتي وبوقت الحساب.
متعب برفضٍ يغصُّ فيه صوته : ماني مرتاح كذا.
شاهين بشغب : تعال أضمك وترتاح .. حضنــي لك حنان ، يا زيني والله ..
متعب يبتسم رغمًا عنه، يئِد ضحكته ليلفظَ بحاجبينِ ينعقدان : اعقل .. لمرّة وحدة كون جدّي.
شاهين بضحكة : والله أنا جدي .. أبي أضمك بس خلاص كبرنا حسبي الله على الكبر . . . والا أقول ، ينقلع الكبر وينقلع كل شيء . . .
ضمّه بعد جملتِه الأخيرةِ مع ضربةٍ معتادةٍ لكتفِه ، ضحكَ متعب وهو يدفعه، وبامتعاض : خنقتني .. عييييب وخر الحين يفهمونا الناس غلط هههههههههههههههههه
شاهين بسخرية : والله؟ ما شاء الله أشوفك كبرت وصرت تقول عيب ! والا باريس خلّت تفكيرك وصخ لهالدرجة؟!
متعب : وجع يوجع العدو ... لسانك ما انقص للحين تراددني؟
شاهين : تعبيرًا عن الأشواق وش يعرفك أنت؟!
دفعه ليردفَ بابتسامةٍ متلاعبة : خلاص ريحتك خايسة أنا اللي اختنقت.
متعب يرفع حاجبه : قليل أدب ... أعوج ما تتعدل ..
في تلكَ اللحظـةِ ارتفـع رنينُ هاتِف، قـاطَع الضحكـة التي خلقَت بينهما من جديدٍ والبسمـة العطـرة بمشاعر ابتعدَت أميالًا عن الحقدِ أو الكـره . . تراجـع متعب وهو يبتسم، يخرج هاتفه من جيبِه بعد أن أدخله في اللحظـة التي رأى فيها شاهين ، قبـل أن يستندَ عليهِ ويكتبَ بذلك أنْ لا قاتـل لآلامِه إلا هو في هذهِ اللحظـات.
نظـر لشاشـة الهاتفِ لتميلَ ابتسامتـه أكثر رغمًا عنه، رفع انظـاره لشاهين الذي كان ينظُر له بترقب، وبتسلية : أدهـم.
تعجّنت ملامح شاهين تلقائيًا بغيظ : وش يبي ذا؟
متعب بتحذير : حدّك ترى ما أرضى عليه ..
شاهين يرفع حاجبه الأيسر : أييييه طاح كرتنا
متعب : ههههههههههههههه أبد أنت الأول دايم ... بس تعال خاطري ألعب فيه ، آخر مرّة ضربني حلفت أردها له وللحين ما رديتها.
التمعَت عينا شاهين بمكر : وأنا ودي آخذ بثاري منه بسبب سبّه لي هالوصخ.
متعب بحدة : لا تسبه . .
شاهين يسحبُ هاتفه وهو يهتف بنفاد صبر : طيييير بس والله لوريك فيه هات الجوال بس.


،


يقودُ سيّارته والهاتفُ يثبّته على أذنـه بيدِه اليُمنـى، بينما صوتُه يتدحرجُ مبتعدًا عن حنجرته وهو يلفُظ بتساؤل : نايمة؟
صوتُها جاءَ مرتبكًا من عُتمـةِ الاهتزاز، وصله ارتباكها بوضوحٍ ليعقد حاجبيه : أيه .. من ساعتين تقريبًا.
سلطـان بشك : شفيه صوتك؟ صار شيء لغزل؟
ام غزل بربكةٍ تشتّت عينيها : لا .. ما صار شيء ..
سلطان بحدة : تراني وافقت أجيبها لك لأني وثقت فيك ... وش صار لها؟!
ام غزل بجزع : لأنك وثقت فيني؟! ليه وش بسوّي فيها؟ بضربها وإلا بذبحها؟ خلاص كفايـة نظراتها لي وخوفها يذكروني بإهمالي وبعدم مبالاتِي فيها قبل! .. لا تزودها علي!!!
استرخَت ملامحه قليلًا، زفـر ليرخي قبضته اليُسرى عن المقودِ ويلفظَ بجمود : طيب وش فيها؟ صوتك يقول إنها ماهي بخير.
ام غزل بصدق : ما صار شيء .. كانت تبكي ونامت بس.
سلطان وحاجبيهِ يزدادانِ انعقادًا بتوجس : وليه كانت تبكي؟
ام غزب تبتلعُ ريقها بتوتر، تبحثُ عن كذبـةٍ ما، بعيدًا عن الحقيقة، بعيدًا عن كونِها بكَت حسرةً على حياتِها التي تدرك ضياعها معه، بعيدًا عن عينيها اللتينِ ذرفتا فقدًا وعشقًا . . . همسَت بحسرة : ماهي متعودة على وضعي معها .. أكيد بتبكي لأنّي أهملتها كثييير.
سلطـان بضيق : بجيكم الحين .. لازم أكون معها . . .
ام غزل بسرعةٍ وذعر : لا لا لا تجي .. تكفى سلطان خلني أنا بروحي معها ، أبي أكسبها وهذي فرصتي.
سلطان بغضب : تكسبينها؟ أنتِ تدرين إنها كل وقتها ضايق خلقها وتبكي؟ الله حسيبها طول هالسنين بنيتوا فيها هالشخصية الضعيفة واللي على أبسط شيء تنكسر! والحين تبين تكسبيها؟ بعد ما طاح الفاس بالراس؟ وين كنتِ من قبل؟!
رفعَت كفّها بألم، ضغطّت على عنقها وهي تشعر بحنجرتها تؤلمـها بتكثّف الغصّة فيها، أغمضَت عينيها بقوّة، وهي تدرك أن كلمـاتِه صحيحة، أنّ كلماته لا غبـار عليها ، ولأنها سبب هذهِ الانكساراتِ فيها، لن تتركها معه! ستُعالجها من حبّه، يجب على غزل أن تبتعد عنه بأسرع وقت، مكوثها قربه يعني انكسارًا أكبر، لن يقبل بها مهما حدَث، وهذهِ الكذبـة سينقطـع حبلها قريبًا، لذا يجب أن تُبعدها عنه بأسرعِ ما يمكن .. تكفي انكساراتٍ ويكفي ضعفًا ، لن تسمـح بحزنٍ آخـر لها.
بينما تنهّد سلطـان بعد اعتلاءِ صوته، أغمضَ عينيهِ لوهلةٍ ومن ثمَّ نظر للطريقِ بانزعاجٍ وهو يلفظ : من البداية مشجّعك على هالخطوة وأبيك تعالجين اللي بينكم .. بس تبكينها وتضايقينها أكثر لا !! هذا اللي ماراح أسمح لك فيه.
ام غزل برجاء : ما كان بخاطري أضايقها ... أبدًا !
سلطان : عشان كذا بخليكم هالمرة .. بس لو تتّصل علي بنفسها وتشتكي من جلوسها معك لا تلوميني وقتها.
أغلـق بعدَ كلمـاتِه تلك، ومن ثمّ تنهّد وهو يرمِي هاتفهُ على المقعدِ بجانِبـه، اقتربَ من وجهتِه/منزل عناد، وهو يطردُ سوءَ مزاجـه المفاجئ عنه، أوقفَ السيـارةَ ليضربَ على المزمـارِ يُنبئه بوصوله، " ماله خلق ينزل " ، لذا انتظـره وهو يعلم أنّه سيدرك أنّه هو .. مرّت لحظـاتٌ قبل أن يرى البـابَ يفتح، تحرّك عناد نحو السيارةِ وملامحه متجهّمةٌ بضيقٍ بارز، وقفَ أمام بابِ سلطـان ليخفضَ النافذّة ومن ثمّ يبتسم وهو يلفظ باستفسار : وش فيه وجهك مقلوب كذا؟
عناد يرفع أحد حاجبيه : حسابك عندي .. بس الحين علمني وش هالازعاج؟ تعيجزت نزل تسلم على امي وغيداء أو حتى تتّصل؟!
سلطان برودٍ وهو يشيحُ وجهه للأمام : مالي خلق .. اركب الحين بس ، سواق أبوك أنا؟
ابتسمَ رغمًا عنه ومن ثمّ تحرّك ملتفًّا حول السيّارةِ حتى وصل لبابِ مقعدِ الراكب الأمامي، فتح البـاب ومن ثمّ صعدَ ليغلقه من خلفِه ، مُردفًا بتهكّم : تحرك ، عشان أعرف أكفخك وما تقدر ترد.
ضحكَ سلطان وهو يحرّك السيارة، نظر نحوه ليهتف باستنكارٍ دون أن يفقد ابتسامته : شسويت لك أنا؟
عناد بغيظ : شسويت؟ تدري إنّ أمّي من كم يوم تحن على راسي عشان أتزوج؟ في النهاية قالت لي لو ما وافقت بخطب لك وأنت ما تدري.
كتمَ ضحكتهُ بعضِّ شفتِه السفلى، ظلّ ينظُر للأمام وهو يلفظ ببراءة : طيب أنا وش دخلني؟
عناد : شايفك شايفك اضحك لا تسكت.
وكأنّ سلطان كان ينتظرُ جملته تلك فقط، انفجـر ضاحكًا بتسليةٍ لينظُر له نظرةً خاطفـة، مرّر لسانه على شفتيه ليلفظ بضحكة : شلون دريت إنّه أنا اللي خربتها عليك؟ لا تكون غيداء علمتك؟
عناد يميل فمه : حتى غيداء تدري؟
سلطان : اففف يا حيوان مين قالك أجل؟ ما أظن امي بتفضحني قدامك؟!
عناد بحنق : ومين بيحشر نفسه فيني غيرك يعني؟ .. حيوان الحين وش يفكني من سالفة الزواج.
سلطان يبتسم حتى ظهرت أسنانه المتراصّة : يا ابن الحلال تزوج بتطق 32 .. إذا شايل هم الحرمة وشخصيتها أتوقع ما يصعب عليك التعامل معها ، إذا شايل هم المسؤولية ما أظن إنّك بزر وتقدر! وإذا شايف هم الجمال عاد هذي سهلة شوف اللي بتخطبها شوفة شرعية وإذا ما عجبتك حوّل! البيوت بالرياض ماهي بهالكثر يمديك تشوف كل البنات هههههههههههههههههه
عقدَ حاجبيهِ بحنقٍ من سخريته، وبوعيد : ما علينا ، تمصخَر لين تشبع وتوريطك لي بردها لك عشر.
سلطان بسخرية : ننتظر بفارغ الصبر.


،


تقضُم ظفر إبهامِها، تكـاد أن تكسره وتلتهمَهُ مرارةً، تهزُّ قدمها على الأرضِ وعينيها ملتهبتينِ بحُمرةِ حُزنها، إلتقَت بِه اليوم، إلتقَت بِه بعد المرّة الأخيـرة التي أغرقها بها في خيبتِها، فرّقتهما الأيـام عن الصدامِ حتى وهما في نفسِ الشارِع، في نفس العمودِ المعيشي " المبنى "، في نمطِ الحيـاةِ ذاتِها إلا أنّ الهواءَ كـان يحرصُ على عدمِ لقياهما حتى في " تنفّس " . . التقيتُ بكَ أخيرًا يا فوّاز من جديدٍ لتغسلنِي بحُزنِي مرّةً أخرى، بخيبتِي وأنا أراكَ تحيا، لا يهمُّ إن كان بسعادةٍ أم لا لكنّك تحيا! تريد البدء من جديدٍ وأنا! لا أزال حتى هذهِ اللحظـةِ غارقـةٌ في عينيكَ وفي حبّي الذي يغسلنِي بالأسـى !!
رفعَت وجهها المُحمرّ ما إن وقفَت أمامها أرجوان وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، هتفَت بخفوت : جيهان وبعدين؟
جيهان بغصّةٍ تعضُّ طرفَ اصبعها، شتتْ عينيها قبل أن تُعيدهما إليها، ومن ثمّ همسَت بحسرة : شفته يا أرجوان !
أرجوان بحدّة : ويعني؟ انتهت الحياة يوم شفتيه؟
جيهان تهزُّ رأسها بالنفيِ وهي تُخفِض ملامحها : لا .. ما انتهت ، لأنها منتهية وخالصـة .. * أردفَت بنبرةٍ تختنقُ حتى كادت تتلاشى * يعيش! قاعد يعيش .. شلون وأنا عاهدت نفسي أظل على قدسيّة علاقتنا؟ شلون يبدأ من جديد وأنا عاجـزة أفكّر بالفكرة نفسها؟ شلووون؟ ما انتهت الحيـاة بس معناها انتهت عندي لأنّي عاجـزة من بعده.
أرجوان بخفوت : قلتِ بتعيشين من بعده ، ماراح تظلين واقفة على بابه!
جيهان بحُزنٍ وهي تضمُّ كفيها ببعضهما : كوني للحين أفكر فيه وأحبّه فأنا ما عشت ولا كمّلت حياتِي من بعد ... كنت فاهمة المصطلح غلط، أو أتوهم إنّي فاهمته !!
هل يكفِي أن تتلاعب بالكلمـاتِ وتتلاعبَ بنفسها؟ هل يكفي أن تقول " استطعت تناسيه "؟ وبعد التنـاسي يحلُّ التذكر؟ كيف أبقى معلّقةً بِك ولا أنساك نسيانًا أبديًا، نسيانًا لا تأتيني خلالـه في خاطرَة، في قصيدةٍ عن الفراق! لمَ لازالت أبحثُ عن هذا النوعِ من قصائدِ " رثاء " وأجعل من نفسي - دراميَّةً - تُثير الشفقة وحسب؟ . . . مرّت أشهرٌ يا فواز ، وأنا أسيرتك بينما أنت طليقي ، مرّت أشهرٌ يا فواز ، وأنا على ظلّك بينما هيَ يتكوّن ظلها من ضوئِك ، مرّت أشهرٌ يا فواز ، وأنا مقيّدةٌ في خريفِنا، في آخر لحظةٍ قبل أن قُلتها " مطلقة " ، في اللحظة التي شعرت بقلبِي يُنتزع .. وبأنّني بدأت أشتاقك ، منذُ أن لفظتها.
مرّت تلك الأشهر ، لكنّك تمضي وإن كـان مضيّك " زحفًا "، بينما أنا بالفعلِ واقفةٌ أمام بابِك، هل هنـاك أملْ؟ وإن كـان هناك أملٌ بأن تفتح لي ، فهل سأرضى بإهدار ما بقيَ من كبريائي أمامك؟ أنـا الواقفـة منذ أشهر، لم أطرق حتى الآن ... فهل يمكن أن أعود إليك؟
ابتسمَت بحسرة، لن يحدُث، لأبقـى كذلك، لكنّه لن يحدُث أبدًا، أنا من أخطأ أخيرًا، لكنّك اخطأت من قبلـي، وتجرّأت على خذلاني بخيانـة ... لن أعود، وسأكون قويّة، وإن لم أمضي أبدًا وبقيتُ طول ما تبقّى من حياتِي أمام بابِك .. أنظُر لجمودِه، ولا أفكّر أن أنظر نحو مقبضـه ... أبدًا.
أحبّك ، لكنّني أمـام حُبّي لك أتكبّر ، لأنّي أحبك، لم أُجِد الحيـاة، لذا ها أنا أكره نفسي كلّما قرأت اسمك في قصيدةٍ اختلّ توازنها بأنينِ الحُزن وانقشعَ ثباتُ قوافيها برثاء شفاهي التي تتلوك، تتلوكَ قرآنا لشريعتنا ، قرآنًا ثابتًا ، لا يحرّف ولا أستطِيع الكُفر بِه!
وقفَت وهي تبثُّ ابتسامتها بالثبـات الكاذِب، تمسَح على وجهها المُحمرّ، ومن ثمّ تهمسُ بزيفِ صوتِها المتسائل : مو كأنه أبونا تأخر؟


من جهةٍ أخـرى، وقفَ في بدايـة الطابـق الثاني، يضعُ كفيهِ في جيبيّ معطفِه، يبتسمُ ابتسامةً هادئةً وهو أبعدُ ما يكونُ عن الهدوء، أبعدُ ما يكونُ عن ذلك، لازال يشعر أنّه يحترق، حتى الآن لازال يحترق ممّا حدَث صباحًا ومن كلماتِها الكاذبـة التي استطاعَت بها استفزازه .. يُزيّف ثباته وهو يوجّه ابتسامته تلك ليوسفْ ويلفظَ قبل أن يبتعد عنه بكلماتٍ تنزَلقُ رغمًا عنه : طيب من متى تعرفه ذا بدر؟
رفـع يوسفْ أحد حاجبيه وهو ينظُر لهُ من زاويـة عينيه مستنكرًا تحقيقه الذي استمرّ منذ خروجهما من المطعم ، وبحدة : وش قصّة التحقيق هذي؟
فواز يشتّ عينيه بربكـة : أبد بس أسأل.
يوسف بحدة : فواز لا تستفزني ! وراك للحين تلاحقني؟
رفـع كفّه وهو يشعر بسذاجـةِ موقفِه، حكَّ عنقه وهو " يمتّر " الجدران بعينيه، وبنبرةٍ متوتّرة : لا بس ترى ما ارتحت له .. أحس وراه شيء يعني الأحسن تبعد عنه !
ماذا! ماذا يقول الآن من حماقات؟ . . . عض لسانه بحرجٍ من نفسِه، ما الذي يقترفه الآن من سذاجاتِ قول؟ هي تكذب ، تكذبُ فقط .. فلمَ استفزّتني بكذباتها الوقحـة تلك؟ لازالت أحترق حتى الآن وكأنها حقيقة، كأن ذاك الأحمق سيأتي يومًا وهو يُمسك يدها وهي زوجـةٌ له . . . كشّر بملامِحه من تلك الصورةِ التي تجسّد طيفها أمامه فجأة، وجَد نفسه يحترق أكثر بدل أن يُهدِّئ نفسه، بينما أمـال يوسف فمه باستنكـار ليلفظ أخيرًا بسخرية : بالله؟ ومن متى تعلمني وش اللي لازم أسويه ووش اللي ما أسويه؟ .. وين أصرف احساسك ذا؟
زمّ شفته بحرجٍ وهو يُشيح بملامحه، بينما تنهّد يوسف دون أن يفهمه، تحرّك بلا مبالاةٍ باتّجـاه الشقة، راقبـه بعينيهِ حتى تلاشـى ، بينما قبضتاه تنشدّان بانفعـال ، ما الذي أفعله بالضبط؟ كـانت تكذب .. وأنا الأحمق الذي لا يزال حتى الآن يحترق بكذبتها . . . سحقًا للسانِك الوقح هذا !!!


يُتبــع . .

كَيــدْ 15-07-16 08:52 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


،


رأسها ثقيل، أجفانُها انتفخَت حتى جادَت في وجهها كتلةً أثقلتها، صريرٌ يتصاعدُ في مسامِعها وهمهماتٌ لا تعيها .. عيونٌ تراقبها، وصمتٌ يندلـع من فراغِ صدرِها بينما الضجيجُ من المحيطِ الذي يكتـالُ على السكُون.
بينما عيونٌ خفقَت تراقبُ تجعّد ملامحها في المنـام، اكتواءُ شفتيها اللتينِ تمتدّانِ بآلامٍ مـا، عُقدةُ الحاجبينِ المرتّلانِ بأحاديثِ الأسـى . . وضعَت كفّها على جبينها وهي تبتسمُ بحسرة، مسحَت عليهِ حتى ربّتت أخيرًا على شعرها المنسابِ كليلٍ طويل، ليلٍ لا ينتهي أبدًا ، ليلٍ عانـد الطبيعـة ومضى، دون أن يقِف .. يولّد مجازهُ في ظلامِه، يُنبِتُ في سكونِ الأجفـانِ عن لمعـانِ الحيـاة فيبقى مُظلمًا دون شفافيّة.
كانت ابتسامتها المتحسّرة تحكِي الكثير ، وعودًا، وعهودًا قطعتها، لن تتركها لدى سلطـان، لن تجعلها تتوجّع أكثـر، إن كـان هذا الخطأ سيُلازمها طوال حياتها إلا أنها لن تتركها تُعاقَبُ عليه ولن تسمح لسلطـان أن يعلم بما فعلت .. زمّت شفتيها بألم، بينما أحداقها تراقب غزل التي أضاءت - بظلام - عينيها لها، رفعَت أجفانها الثقلةَ لتتأوّه أخيرًا لخمولٍ بعد بُكـاء، جسدها المسجّى على السرير شبـه ميّت، بينما الصداعُ يكادُ يقسـم رأسها نصفين. سقطَت أنظـارها على أمّها لتزدادَ عقدة حاجبيها وكأنها تفاجأت برؤيتها، عقلها المشوّش توقّف عند محطّة ما قبـل مجيئها، وشيئًا فشيئًا ، اتّسعت عيناها بعد أن استوعبَت لمَ هيَ ترى امّها الآن ولمَ تنـام في غرفةٍ لم تمتلكْ عطرَه ! كم تؤذي التفاصيلُ أركاننا حين لا نجدها في شيء! كم تؤذينا منذ البدايـة حين ترتبطُ بحواسّنا، هاهو أنفها اعتاد رائحة عنقه التي التحمَت بِه مرّاتٍ قليلـةً حتى الآن، عيناها باتتا ترى الدنيـا من عينيه فقط، وإن غابَ عنها ستفقد البصر، مسامعها باتت تسمع في كلّ موسيقى - طبيعيّة - نبرتهُ هو، ولسـانها يتذوّق كلماته، أصبحت ظلًا منه وأصبحَت كلّها هو.
عادَت لتغمضَ عينيها بأسى بعدَ أن استوعبَت، ارتفعَ صدرها بتنفّسٍ حزين، لم تكُن في غرفتها القديمة، وكأن أمّها أدركت انّ تواجدها فيها الآن لن يكون سوى خطأ، ستنبثق الأحزانُ أكثر، وستسمـع صوتها في كلماتٍ قديمةٍ لازالت تقبّل الزوايا، سترى طيفًا لها وكأنّ تلك الغـرفةَ المهجورةَ ليسَت إلا وكر أشباحِها الماضي! أشباحها التي تعايشَت في كنفِ القسوةٍ هنا.
تحرّكت لتنقلِبَ على جانِبها الأيمـن وتُدير ظهرها لامّها، ابتسمَت رغمًا عنها ، هوَ ينام في هذا الجانب، الله ما أجمل تفاصيله!! . . . ابتلعَت امّها ريقها من قسـوةِ حركتها العفويّة الآن، لكنّها ابتسمَت، تستحقّ الصد وتستحقّ غزل أن تصبر! . . همسَت بخفوت : قومي كلي لك شيء .. أكيد ما أكلتي من الصبح.
غزل تهمسُ بخفوتٍ ميّت/بارد : أكلت.
امّها بتأكيد : الصبح !
غزل : أيه ومكتفية . .
امّها بإصرار : غزل . . .
قاطعتها غزل بجمودٍ بعد أن اعتدلّت لتستندَ على ساعِديْها بينما كفّها تُزيح خصلاتِها عن ملامحها : أعتقد لبّيت لك اللي تبينه وانتهت خدمتي لك ، بتّصل على سلطان يجيني.
ليسَ الآن، ليسَ الآن وهي حتى لم تستطِع أن تغيّر شيئًا ! ليسَ الآن ولا بعدَ الآن أيضًا ، غزل لن تعود له ، لن تعـــووود!! . . . لفظَت بحدةٍ لم تستطِع أن تبترها من صوتِها : بترجعين له حتى بعد ما علمتيني شلون كذبتي عليه؟
جـال الحُزن على ملامِحها ، ابتسمَت ، ابتسامَةً كـانت زواياها ذابلة، ابتسمَت ، وعيناها تُظلمـان أكثر بينما جسدها يشعُر بالبردِ من فكرة نفي " بترجعين له؟" ، كيفَ لا؟ هل تستطيع غير ذلك؟ غير أن تسيرَ في حلقةٍ لا تدري ما نهاياتها، ما تعاليمها وتضاريسها، تهرولُ بين عينيهِ لا تدري ما المصير معه، لكنّها تريد أن تهرول، تريده للأبد. أجابتها باختنـاقٍ مبتسم : أيه .. برجع له ، وبظل أستمرّ بكذبتي ، وبظل أمشي في سبيله بدون هدَف غير إنّي أعيش!
امّها بأسـى : هايِن عليك وأنتِ تكذبين عليه بهالشكل؟
غزل تغمضُ عينيها وهي لا تجدُ سوى المرارةَ والحرقـة ، يُردف الاختناقُ خمارهُ على صوتِها، بل أكثر من خمارٍ واحد، ستائرُ متينة، ستائرُ تحجبُ ضياءَ الأمـل ولا تجدُ من نفسها سوى اليأس، انهـار صوتُها الجامـد، اختنقَ أكثر ليخرج إلى مسامِعها مشوّشًا مغلّفًا بالضيـاع : هاين علي؟ شلون وأنا لما قرب منّي ما قدرت أقبلها بحقه .. أنا أصغر منه ، حقييييرة عشان يعطيني هالمكانة . . . * أردفت بيأس * فيه مجال يتقبّل الصياد غزال كلّه أوساخ؟ فيه مجال غير إنّه يغسله من أوساخه؟ شلون طيّب وأنا اللي فيني أكبـر من إنّه يروح، شلون؟
عضّت طرفَ شفتِها وهي ترى هذا الحبّ والاحتيـاج الصارخ في أحداقِها، الذي غزاها هذهِ المرّة بأقصـى قوّةٍ وقسـوة .. " شلون؟ "، هذا السؤال الذي علِق بينهما لوقت، علقَ بينهما للحظـاتٍ طالَت ، كيف؟ هل هنـاك مجالٌ ليرضى بها؟ هل هنـاك طريقةٌ تجعلها تعيش ، تعيشُ معه بطبيعيّةٍ تامـة ودون أن ينقّصَ على حياتهما شيء؟ دون أن تتعرقـل ودون أن تنكتَ فيها نكتةً سوداء؟ ... كيف؟
مرّرت غزل لسانها على شفتيها وهي تجلسُ بشكلٍ معتدل، سقطَ اللحافُ لتسقطَ معها كلمـة ، فكرة ، لم تجئ من حنجرةِ غزل بل جاءت من امّها التي لفظَت بنبرةٍ متردّة ، بنبرةٍ كان فيها عدم الاقتنـاع واضحًا : تقدرين تغتسلين من اللي كـان . .
نظرَت لها غزل بسرعةٍ وهي توسّع أحداقها دون تصديق ، وبأمل! أيّ حلٍّ قد يبزغ؟ أيّ حل؟ .. هل هنـاك فعلًا ما سيجعلها تبقى معه وتعيشُ بسعادةٍ دون متعرقلات؟ هل هنـاك؟!!
لم تستطِع أن تسألها، صوتها المتحشرج لم ينصـاع، بينما أدرفت أمّها بخفوتٍ وهي تشتّت عينيها : عملية ترقيع ..
لم ترى في تلك اللحظـة نظرات غزل التي صدمَت، كفّها التي ارتفعَت لتغطّي فمها وهي تهزُّ رأسها بالنفيِ غيرَ مستوعبـةً اليأس الذي يحيطُ بها، إن كـان هذا هو الحلّ الوحيد .. فلا حلول! لا حلول أبدًا إن ظلّت تستمرُّ في الخـداع ، إن كـان هذا هو الحلّ الوحيد ... فلن تبقى ! هذهِ هي الإجابة ، سلطان ليسَ لها، ولن تكون له أبدًا ، سلطـان سيمضِي في طريقٍ بعيد، في شُعبٍ آخر بعيدًا عنها، سلطـان الذي خلقَ فيها الحيـاة، سيموتُ من حياتِها! لتموتَ من خلفِه.
رفعَت كفّها لتغطّي بِها حُزن عينيها، ابتسمَت بيأسٍ حتى ظهرتْ أسنانها . . . محطّمـة، هذه الأقـاويلُ تنسكِب، لتحطّمها اكثر وحسبْ! الحلولُ المبتورةُ ساقها، كيفَ عساها تحملني إليك؟ كيفَ تكون الأمل الذي لا يمضي؟ .. انسكبَت النهايـة منذ البداية، قبل أن ألتقيك ومنذُ أذنبت في حقّ نفسي، انسكبَت النهاية منذُ كُنت غزل ولم أكن " غزالتك " البيضاء ، كم هو قاسٍ أن تكون النهايـةُ مكتوبةً لنا، ونحن حتى لم نبدأ! .. لي الذنبُ ولكَ الكمـال، لي الحسرةُ ولك الصد، لم تأتنِي قبلًا ولطالما كانت حسرتِي بذلك تتكرّر، لم تأتنِي قبلًا!! لو أنّك جئت أبكر! لكنت الآن أحضى بكَ وأتمرّغ في أحضانِ عينيك . . .
تلاشَت ابتسامتها لتزمّ شفتيها أخيرًا وهي تُخفضُ كفّها عن عينِها الدامعـة، لي الذنبُ في حقّ نفسي، ولوالدي أيضًا ، كم من القسـوة يملك حتى يستغلّ امرأةً أمام رجلٍ مثله؟ ألم يخشى منذ البدايـة أن الوقوع في عينيهِ سهل؟ أنّه واللهِ كامـلٌ حدّ أن تجدَ الإناث البذخ لديه .. كيفَ فعلها بِي؟ وجعله يحضى بقلبـي ومضى؟ كيفَ سلّمني إلى أنقى الرجـال وهو مطمئنٌّ أنّني سأعودُ كما أنا؟!
الآن ترى الظـلام ينتشـر أكثر بانتشـار اليأس ، وهي تدرك إدراكها الأخيـر " لا حـــلول ، انتهيــــنا منذ ابتدأنــا "!!
لم تردّ على اقتراحها ذاك، وكـان صمتها وحدهُ إشارةً للرفض، الصمتُ الجاف هو الذي لا يعني الموافقـة بحجمِ الرفض .. تنهّدت أمّها بيأسٍ مماثـل، مسحَت على وجهها، ومن ثمّ لفظَت بالذي تريده منذ البدايـة والحلّ الوحيد " لتبدأ من جديد " وليس لتمضي معه : اتركيه .. هذا الحل الأول والاخير .. اتركيه ، إذا ما ودّك تخدعينه أكثر وإذا ما يهون عليك ... ودامك ظليتي طول هالفترة متزوجته فهذا يعطيك المجـال عشان تبدأين من جديد، محد بيعرف عن شيء ومع الزمن بترجعين تحبين اللي يسعدك .. راح يكون طلاقك منّه بداية جديدة لك.
ضحكَت بسخرية، ودمعها أثقل أهدابها حتى اهترأت وسقطَ لتشعر أنّه حمّل الهدَب المُهترئ بملوحتِه معه، هزّت رأسها بالنفي، ولم تستطِع أنْ تمنـع نفسها من أن تغصّ في خيباتِها وتبكِي من جديدٍ أمامها، لم تستطِع إلا أن تنفجـر ببكاءٍ صاخبٍ وهي تضعُ ظـاهرَ كفيها على عينيها، تشرح خسارتها من جديدٍ وتنطُقـه ببكائها، تشرح مقدار اليأسِ الذي لم يجلُب لها حلًّا، كيف يُقـال بأنّ لكلّ مشكلـةٍ عشراتُ الحلول وأنا أبحثُ عن نصفِ حلّ يجعلني أحضى بِك ولا أجد؟
انخفضَ السريرِ بجانِبها، كانت أمّها التي جلَست حتى تحيطَ بها أخيرًا وتتركها تبكِي على صدرِها، زمّت شفتيها وهي تشعر بالألـم يغزوها من بكائِها، بينما عادَت غزل تتمسّك بها، تحتاجُ صدرًا تبكِي عليه غير صدرِه، تحتاج صدرًا آخر كي تستطِيع الانحلالَ من صمتِها وتشكو من كلّ شيءٍ دون تحفّظٍ خائفٍ من أن يكتشفها . . . انتفضَ جسدها وهي تشهقُ وتتمتمُ بحسرةٍ وخيبة : طلاقي منّه بداية جديدة؟ شلون تقولين إنّ نهايتنا بداية لي وأنا أشوف إنّي ما بديت إلا عنده! .. بدايتي ونهايتي عنده هو بس .. شلون بقدر أبعد؟
امّها بحسرة : الحب ماهو كل شيء!
غزل : أدري .. بس أقسى شيء! لأنّي أبيه بس ما أقدر بسببي .. بسببي أنا وبس !! أبيه بسبب هالحب .. ليه عرفته وسوّاها فيني أبوي؟
رفعَت رأسها لتنظُر بملامح عينيها المتضبّبتانِ بالدمعِ إليها، ارتعشَت كفوفها، ونبرتها تخفت بحزن، عينيها تسكبان الدمـع بينما أجفانها ترتخي أخيرًا وهي تردف بشكوى صادقـة، تشتكِي لأمها وتعترفُ بالتفاصيلِ التي أهلكتها، تعترفُ بالماضي الذي أحال حاضرها ومستقبلها وحبّها إلى خراب! : بتصدّقيني .. لو قلت لك ما كنت راضية ! .. والله العظيم حبّيته بس ما كنت راضية باللي صـار ..
عضّت سبابتها وهي ترتعش، تستعيدُ كلّ شيءٍ وتبكِي حسرةً أكبـر، لم تجِد يومذاك من تقولها له، من تخبره الحقيقة ويصدّقها، لم تجِد من ترتّل عليه ذنبها وذنبَ ذاك دون أن يصدّق أحد، لم أكن راضية! هل هذا يكفي؟!!!
دفَنت وجهها في صدرِ أمّها بخزي، تحشرج صدرها بشهقاتِها وهي تتكوّر بين أضلعها كطفلةٍ أذنبَت وتخجل من ذنبها، أردفَت بغصّة : كـان يواسيني كثير ، كـان يحس فني عكسكم ، كل ما بكيت رحت أعلمه وأقوله عنكم ، أقوله شلون تجرحوني كثير وشلون تأذوني وشلون كنت أمسك نفسي عشان ما أبكِي قدّامكم بس أبكي من وراكم .. هو الوحيد اللي كـان يدري عن حزني وقتها! بس أزعل أتّصل فيه وأشتكي له، بس أعصّب أتصل فيه وأفرّغ عصبيتي عنده وهو بس يقولي لا تكتمين . . . ليتني كتمت !
عضّت شفتَها وهي تنتحبُ أكثـر وتُغمضُ عينيها بعذاب، وصوتها يكاد أن يتلاشى، يخفت، يصير عدمًا : كذَب علي يا يمّه ، كذَب علي !
ومصير هذهِ الكذبـة ، أن التصقَت بها حتى هذهِ اللحظـة ، أن التصَقت بها لتخسـر الصادق والنقيّ ، لتخسـر سلطـان ، بسببِ كذبةٍ وخداع ! .. والآن هاهي تكذبُ أيضًا ، هاهيَ تكذبُ وتخدع كما فعل معها غيـرها ، هاهي تكذبُ على شخصٍ نقيٍّ كمـا كذب عليها شخصٌ قبلًا وهي منكسرة ! استغلّ انكسـارها ، لتخسر كلّ شيء !!
لم تستوعِب في تلك اللحظـة أنّ أمها كانت قد بكَت معها أيضًا وهي تضمّها إليها بذنب، الكُل مخطئ، وهي خطأوها أكبر، الكلّ مخطئ، حتى غـزل ، لكنّها كـانت البعيدةَ جدًا، المهملـة، والتي لم تكُن بجانبها، التي لم تحمِها ولم تمارِس عليها عواطـف أمٍّ مخضَت فيها وتألّمت حتى انجبتها .. الكلّ مخطئ ، لكنّ خطأها أكبـر !!
انحنَت لتقبّل جبين ابنتها بأسى، أطالت في قبلتها بينما غزل تشدُّ على كتفِها وكأنها تحتاج هذهِ القبلـة الحنونة ، من غير سلطان! تحتاجها حتى تسكبَ الأكثر من أحزانِها، وليسَ الكثير وحسب.
مسحَت أمّها على شعرها ، ضمّت وجهها إلى صدرها، ومن ثمّ هتفَت باختنـاقٍ يائس : خلاص ، طاح الفاس بالراس وكل شيء صار وانتهى ، ما ينفـع الندم ، لازم تندمين ونندم، ولازم نحزن بسبب اللي صار بس مافيه فايدة من كل ذا غير إنّنا نوجع نفسنا أكثر ..
غزل بيأس : طيب أبي أندم وأحزن وأوجع نفسي .. بس سلطان . . .
قاطعتها امّها وهي تهزّ رأسها بالنفي : للأسف يا غزل ، اقنعي نفسك إنّه مافي لكم حياة مع بعض .. ماراح يرضى، ولا أنتِ بترضين تكملين خداعك له ... مالكم غير الفراق.


،


نـزل من الأعلـى وهو يتثاءب، نـام مطوّلًا، يستيقظُ على صوتِها عند الصلاةِ ومن ثمّ يذهب للمسجِد ويعودَ ليغرقَ في نومِه . . وجهه شبـهَ منتفخٍ الآن ومُبلّل، لم يقم سوى بتفريش أسنانِه وإغراق وجههِ بالماءِ ومن ثمّ نزل . . بحثَ بعينيهِ عنها وبضجر، وجدَها تجلسُ أمام التلفـازِ وفي يدِها " نسكافيه " ترتشفُ منه، لـوى فمه، لم تنتبه له بينما تحرّك هو باتّجاهِها حتى وقفَ بجانبِها ليتثاءبَ من جديدٍ ومن ثمّ يلفظ : هييي بنت ..
شهقَت إلين بذعرٍ من صوتِه الذي جاءها فجأة، نظـرت لهُ بنظرةٍ مُجفلةٍ لتلفظَ أخيرًا ببهوت : أنت صحيت؟ يعنِي ما مت للحين؟!!!
زفـر بغيظٍ ومن ثمّ مدّ يدهُ بشكلٍ مفاجئٍ ليأخذ كوبها ويتحرّك مبتعدًا عنها : لا حالف ما أموت قبل لا تموتين فيني.
إلين بسخريةٍ تنظُر لكفّه التي تحمل كوبها بحقد : لا تحلم حتى ... اففف وش ذا الحظ وأنا قالة بخاطري أكيد تسي تسي قرصته وبيموت قريب.
أدهم ينظُر إليها وهو يرفعُ أحد حاجبيه : تسي تسي بعينك ... وينا فيه؟ بأفريقيا!!
إلين تضعُ ساقًا على أخرى وهي توجّه جهاز التحكم بالتلفازِ نحو الشـاشة لترفـع صوتَ الفيلمِ إلى أعلى درجةٍ بعناد، وبصوتٍ عالٍ كي يصلهُ بينما الأحاديث اعتلّت من التلفازْ باللهجـة الامريكيّة البحتـة : البيت هذا صحراء شال كل حيوانات الصحاري فيك أنت.
أدهم يهزُّ رأسه بالنفي " يأسًا " : قليلة أدب ما تتعدلين لين يجيك كف يقلب وجهك.
لم تسمعه جيدًا، لكنّها تبيّنت " كف " و " ووجهك " لذا استنتجَت ما قال .. أغلقَت التلفازَ لتنظُر إليه وهي ترمِي جهاز التحكّم بجانبها وتلفظ بامتعاضٍ وقِح : جرب وأنا برده لك عشر.
أدهم يرتشفُ من كوبها بـ " روقان " ومن ثمّ يخفظه ليردف ببساطة : متزوج لي رجّال ..
إلين تريد أن تغيظه وبروده يستفزّها : أرجل منك والله.
أدهم يتحرّك مبتعدًا : أدري ... بغينا أنثى بس للأسف خاب الظن.
إلين بقهر : الله ياخذك.
أدهم : يا حبي لك بكل أشكالك المُحبطة .. بالله في مرة توها متزوجة تلبس لزوجها هاللي لابسته؟
نظـرت إلين بغيظٍ لملابسها، رفعَت حاجبها، كـانت ترتدِي قميصًا طفوليًا بلونٍ زهري يصِل لكاحليها وفي منتصَف صدرها يرتسِم عليه صورة " تويتي " ، شعَرت بالحرجِ رغمًا عنها، تباسَطت فيما ترتدي بشكلٍ طفوليٍّ لأنّه نائمٌ وأطال في نومِه فلم تتوقّع أن ينهضَ قبل أن تبدّل ثيابها . . . انفجـر ضاحكًا رغمًا عنه من وجهها الذي احمرّ من الاحراج، وبتسليـة : فديت البزرة .. دمّرتي كل مفاهيم الموضة والأناقة بهاللبس، باقي فيه أحد يلبسه؟
إلين بحرجٍ تنظُر إليه لتلفظَ بامتعاض : انقــــــــــــلع !! حصلته من امي.
أدهم الذي يدرك أيّ أمٍ تقصِد : مع احترامِي لها بس ذوقها .. ممم ما عندي تعليق.
إلين تقفُ بغضبٍ وكأنّها تريد أن تقاتل الآن لانتقادِه : ولا كلمـة ، جابته لي من سنين بس ما كنت ألبسه، كان وقتها طويل علي.
أدهم : هههههههههههه أنتِ قصيرة أصلًا شلون كنتِ قبل؟
لوّت فمها ووجهها اشتعل بغيظِه : مالك شغل ، قصيرة بس أرجل منّك.
أدهم يهزُّ كتفيه ومحاولة استفزازه لا تجلبُ لها نتيجة : سبق وقلت أدري !
إلين تصراخُ صرخةً مكتومـة لتُردف بقهر: عصّب طيب لا تقهرني كذا !!
أدهم يبتسم حتى ظهرت صفّ أسنانه : وإذا عصّبت خفتِ مني وشفتك تتنافضن ، سكتنا رجعتِ تسبين وتناقضين خوفك وهكذا دواليك . . . المهم يا حلوة كثرتي حكي بزيادة اليوم، قومي سوّي لي شيء آكله جوعان.
تحرّكت وهي تكاد أن تنفجـر، وبحنق : فوق منت ماخذ كوبي تتشرّط .. بس هيّن والله لخليه كلّه فلفل.
أدهم : هههههههههههههههههههههههههه بزرة بس تراني أحب الأكل الحار على فكرة.
ابتعدَت للمطبخِ دون أن تردّ ليردف بضحكة : المهم ما تعرف إنّ الأكلات الحامضـة عدوّتي والله إن تذبحني.
تحرّك ليجلسَ أخيرًا حيثُ ما كانت تجلُس، تنـاول جهاز التحكّم ليفتح على ما كانت تُطـالع، ابتسم، بينما جانبٌ من كوبِها طُبع عليه لونٌ زهريٌّ باهِت رسمَ جزءً من شفتيها، المخادعـة تباغتـه بألوانِ " مرطّباتِ شفاهٍ " لا يلحظها، لا تتغنّج لهُ بزينـتها ككلّ النسـاء، حسنًا حالهما ليسَت طبيعيّةً حتى الآن ومن المضحِك أن يفكّر بذلك.
شربَ من نفسِ الموضِع الذي كانت تشربُ منه، بينما مرّت لحظاتٌ حتى بدأت أنفُه تشمُّ رائحة ما تطبـخ، ابتسم ليتمتم : الوقحة زين ما تفكّر بعد تجوعني .. لا فيه أمل تتعدّل.
قلّب بين القنواتِ وقد بدأ الملل يجتاحـه، نظر للساعـة من هاتِفه ليرى أنّها لم تتجاوز حتى الربع ساعـةٍ منذ أن ذهبَت، مطّ فمـه، وفكّر بأن يذهب لها ويستفزّها من جديدٍ لكنّه تراجـع عن ذلك وهو يتّجه تلقائيًا للأسماءِ المسجّلة لديه، ابتسم ابتسامةً خافتـة وهو يتّجه لاسمه، يدرك الحـال الذي تركه فيها آخر مرّةً ويتمنّى أنه الآن أصبـح أفضل ، انتظـر للحظاتٍ طالّت، حتى وصلَه الرد ليهتفَ مباشرةً بمشاكسـة : يا هلا بالغثيث مـاجد . . .
قاطعـه صوتٌ آخر لم يكُن صوتَ متعب : معك شاهين مو ماجد ذا ..
اتّسعت عينـاه بصدمـة، ومن ثمّ حرّك الهاتف باتّجاه أذنـه ليتأكّد من الرقم الذي اتّصل بِه، شحبَت ملامحه حين رأى أنّه رقم متعب، ومن ثمّ أعاد الهاتف إلى أذنه ليلفظَ بخفوتٍ متوجّس : وش جاب جواله لك؟
شاهين بسخرية : أنت يا حبيبي. .
أدهم باستنكار : أنـا؟!!
شاهين : أيه .. علّمته باللي قلته لك صح؟
أدهم يعضُّ شفته وكأنه يخشى ما سيردفه الآن : يعني أيش؟
شاهين : كانت غلطتك إنّك ما سمعت لشكوكك ووصّلت الكلام له ... كذبت عليك ومتعب صدّق .. لهفته لهالفكرة خلّته يجرّب يصدق هالمرة ...
وقفَ أدهم بسرعةٍ وعينـاه تتّسعانِ أكثـر، ألمٌ أحرق أحشاءهُ وهو يتنفّس بانفعـالٍ غلّف كلمـاته التي خرجَت سريعةً بذعرِه : وينه؟
شاهين يحرّك كفّه ببرودٍ وهو يلفظ : أبد .. جاني وصار الحين - بح -!!
شعر بجسدِه يرتخِي فجأة، نفسُ ردّة الفعـل، نفس الفراغ وذاتُ الصدمـة ، تغادره أنفاسه ويختنقُ فجأة، تنطفِئ أعينهُ كمـا حدثَ يومذاك ، حينَ ظنّ أنه ماتَ على يدِ فيصل .. لا ، لا يمكن أن يكون الآن ماتَ على يدِ - أخيه - هذهِ المرة! لا يمكن !!!
تراجـع للخلفِ بصدمةٍ ليسقطَ جسدهُ جالسًا على الأريكـة وهو يستعيدُ كلّ هوانِه في تلك اللحظـاتِ وحُزنه، كيفَ يحدثُ ذلك؟ كيفَ يعيشُ معاناةٍ موتِ شخصٍ ما مرّتين؟ كيفَ يحدثُ ذلك؟ لا يعقــل !!!
كـان تنفّسه يصِل بعلوّه إلى مسامِع شاهين الذي كـان يبتسمُ بينما متعب أمامه لم يكُن راضيًا بالرغمِ من موافقتِه لخدعةٍ ما منذ البداية لكن ليست هذِه! . . ابتلعَ أدهم ريقهُ بصعوبةٍ ومرارةُ صديدٍ حُشرت في حنجرته، وباختناق : بذبحك !
شاهين يكتم ضحكته المتسلية : اوووه خوّفتني.
أدهم بغضبٍ ينفجر صارخًا فجأةً : بذبحك يا **** والله لوريك نجوم الليل بعزّ الظهر . .
خرجَت إلين في تلك اللحظـة مذعورةً من صراخـه، وقفَت عند بابِ المطبـخ وهي توسّع عينيها لافظةً باستفهامٍ وخوف : شفيك تصارخ؟!!!
أدهم يتحرّك بحدةٍ نحو البـاب وهو يصرخ في وجهها : انخرسي أنتِ !!!
لم ينظُر إليها وهو يتّجه للبـابِ بغضبٍ ونارٌ تصاعَدت في صدرِه، لفظَ بوعيدٍ بينما أجفل شاهين هذهِ المرّة لصراخِه الأخير الذي ألقاه على إلين : وينك أنت؟ لو واثق من نفسك علمني بمكانك عشان أوريك العلم الصح.
شاهين يبتسم تدريجيًا بتحدّي حتى لفظَ وهو يشيح بوجهه عن متعب الذي كان يحذّره بحدةٍ بعينيه : المكـان اللي شفت فيه متعب بالمرة اللي فاتت ... تعال عشان تلحقه.


،


" لو ما تجي باخذ معاي الليل والنجمة وأجي "
تلك الكلمات كانت مطبوعـةً على ورقةِ شفتيها اللتينِ تمتمتا بِها، وبغيرها من الأبياتِ والنصوص والأحاديثُ " الفارغـة "، بالنسبةِ لها باتت فارغـة! لا تزيّن الحب التافـه إن خلا من مقوّماتِه، العطـاء والمبادلـة، أو كما آمنت ... الحبّ دائمًا لا يكفي إن أصبح دون احترام، أن يحبّ الانسان شخصًا تملكًا ويجرّده من حقوقِه وأساليبِ سعادته.
سكَبت تلك الكلمـاتِ على ورقـةٍ مصفرّةٍ كعينيها، تتلاعبُ بقدميها أسفل الطاولـة وهي تُريح هاتفها على الطـاولة وتقرأ كلمـاتٍ ثمّ تجرّب كتابتها على الورقِ بخطٍ مـا دلالة الضجـر.
" نحنُ قومٌ إذا مسّنا الحب لم نتركه يتغلّب على كبريائنا "
لتتبع في نفسها بسخريةٍ مُرّة - يبدو أنّني لم أكُن يومًا شرقية -!! . . . أو ربّما الموضوع مجرّد " عدم التعميم "، هل امتلكتُ نفسًا غير شرقيّةٍ حتى خسرتُ كبريائي أمامك؟ الأمـر سيان، وأنا في النهايـة حمقاءٌ في كلا الجهتين.
رمَت القلمَ الأسودَ بجانِب الدفتـر لتزفُر بضجرٍ وتُعيد ظهرها للخلف وهي تغمضُ عينيها، أمالت رأسها للوراءِ حتى استطال عنقها وساقيها يمتدّان إلى الأمام ، تمتمَت " تدندن " : لو ما تجي باخذ معاي اللي والنجمة وأجي . . . أتوقع ماراح أجي، مين تكون أصلًا؟
لامست جبينها شفاهٌ دافئةٌ قبّلتها لتشهقَ بذعرٍ متفاجئةً وهي تفتحُ عينيها وتتحرّك باضطرابٍ كادت بِه أن تقع من الكرسيّ إلا أنه أمسك كتفيها وثبّتها وهو يضحك : أكون النجمة والليل اللي بتاخذينهم.
نظرت لملامحهِ ببهوتٍ وقلبها يضربُ قفصها الصدريّ بذعر، تنظُر لهُ بفتورٍ ليعتلي بضحكاتِه وهو يشدّها كي تقفَ مُردفًا : فيه شيء حلو لك تحت ... تعالي.
تحرّك قبلها، لتُميل فمها وهي تلفظُ بببرود : مشغولة حاليًا.
سيف يبتسمُ وهو يدرك أنها تكذِب : لو ما تجي بآخذ معاي الليل والنجمة وأجي.
ديما بجمود : احنا نهار ، مافيه نجوم ولا ليل.
ضحكَ بعمقٍ ليردف : مجرد مجاز وأسلوب مبالغة ، محد يقدر يشيل النجم والليل من الأساس.
ديما باعتراض : المعنى أعمق من كذا.
سيف : أجل شوفي كلامي من ناحية العمق .. لا تفكرين بالمنطق.
ديما بسخرية : المنطق اللي ما جابك؟
سيف بابتسامة : المنطق اللي ما كان معك في حبّي.
ديما بانزعاج : تعترف إنّك سيء؟!
سيف يهزّ رأسه بالإيجاب : سيء وأومن إن الحب يخفي هالسوء عشان كذا حبيتيني بعيد عن المنطق.
ديما : تراني أشوفك سيء!
سيف يرفع حاجبيه دون أن يفقد ابتسامته : في الوقت الضائع شفتي . . . امشي قدّامي أشوف.
ابتسمَت بغيظٍ واضحٍ لتقفَ ويسقطَ الوشاح الخفيفُ عن كتفيها بلونِه البنيّ المُحترق، ظهر جزءٌ من كتفيها المرمريين من " البدي " الأسود، بينما تحرّكت أقدامها وجزءٌ من ساقِها ينكشفُ من بنطالِها القطنيّ الأسودِ أيضًا، رفـع أحدَ حاجبيهِ متسلٍ بتأمّلها بينما لفظَت بصوتٍ باردٍ أخفت منه غيظها الذي كان يراه بوضوح : حاضر يا بعلي.
سيف : ههههههههههههههههههه من أي عصر جيتي؟
ديما ببرود : العصور الوسطى.
سيف بحبور : وأنا أشهد ، أخذتِ من هالعصر فتنـة تضاريسه.
تجاوزته بجمودِها وهي تردّ : هالعصر كله كان تعذيب ودماء !
سيف يتابعها بنظراتٍ عابثـة : لعلمك تراك قاعدة تعذبيني أصلًا !
لوَت فمها بضيقٍ لتلفظ أخيرًا : وش عندك خلصني؟
سيفْ بابتسامة : امشي قدامي يا حلوة ...
ديما تكتّف يديها : ما أحب هالغموض ..
سيف بإصرار : امشي !
تأففت ، ومن ثمّ تحرّكت أقدامها نحوه بينما سقطَت أنظـار سيف فجأةً على الدفتـر، توقّفت بعد أن تجاوزَته ووصلت للبـابِ دون أن تسمَع خطواته من ورائها، استدارت باستنكارٍ لافظـة : شفيك وقفـ ...
سيف الذي أخرسها ما إن رأته يحمل الدفتـر، ابتسم وهو يتمتم بالكلمـات التي كتبتها بخفوت : يبدو أنّني لم أكُن يومًا شرقية !


،


وصـل للمكـان الموبوءِ وهو يشعُر بضغطٍ على كتفيه، يشعُر أنّه كسِر من جديدٍ كما حدَث سابقًا بسببِ ظنِّ فقدْ، فهل حدثَ ذلك الظنُّ فعلًا؟ هل حدثَت مخاوفه و - قُتِل -؟!! . . زمّ شفتيهِ بقهرٍ ما إن سقطَت أنظـارهُ على شاهين الذي انتبهَ لهُ لكنّه تصنّع عكسَ ذلك، يتّكئ بكتفِه على السيارة، يهزُّ ساقهُ بضجرٍ ويدندنُ قصيدةً ما . . تصاعدَت أنفاسه أشدّ مما كـانت عليه، كفيهِ كانتا تنتفضان بانفعالٍ دامي بينما قلبه ينبضُ بشدّةٍ تكادُ أن تفجّره، تُشعله الشمسُ التي تصقُل غضبه أكثر، الحرارةُ تنجذبُ إلى جسدِه وتنبعثُ منه أيضًا، كانت حرارةَ غضبٍ جعلت شاهين يبتسمُ رغمًا عنهُ وهو ينظُر لهُ من زاويـة عينيه ويتذكّر السؤال الذي ألقاه على متعب " إذا عصّب ممكن يقتل؟ " ليضحك متعب بعد سؤالِه المتوجّسِ ذاك وكأنه شعر بعظمـةِ خدعته له، مجيبًا بتلاعب " ممكن! مرات أخاف من ردة فعله إذا عصّب "..
شاهين يتمتم بخفوتٍ وهو يبحث بعينيهِ إن كان يحملُ سلاحًا ما للقتل : أتوقع إنّي من جد سخيف يومي كذبت هالكذبة على مجنون وغبي مثل ذا !
استدار بسرعةٍ متوجّسًا ما إن اندفـع إليهِ أدهم بخطواتٍ حادةٍ منفعلـة وهو يتمنّى قتله فعلًا، لكنّه تباطأ قليلًا وهو يُمرّر أنظـاره الحاقدةَ على ملامِح شاهين، يبحثُ عن خدعـةً ما، ربّما لم يقتله وفقط ... فقط ماذا؟ .. عضّ شفته بينما رمقـه شاهين بحذر، لكنّه لم يتراجع وهو يسأله بسخريةٍ لاذعة : بتحترق من العصبية ، ماتبي تشرب شيء بارد قبل لا نسولف؟
أدهم بعصبيّةٍ بالغـة وهو يقتربُ منه بخطواتٍ بطيئةٍ تُنبِئهُ بنيّةٍ سيئة : عصبية ونسولف؟ وصف ناعم .. ناعم مرررة يا أخوه !!
قال " أخوه " بسخريةٍ ليكتمَ شاهين ضحكته، تراجـع بتوجسٍ وحذر وهو يراه يقترب، يبدو أنّه بالفعـل سيقتله ! .. أدهم بخفوتٍ حاد : ذبحته؟
شاهين يلوِي فمه وهو يريده أن يغضَب أكثر متجاهلًا بعضَ القلق الذي هاجمه وهو لا يدرك ردّات فعله وإجابـة متعب كانت شاملةً فقط، أيْ أنّه بالفعل قد يقتل إن فقد أعصابه ! : يعني منت مصدّقني مثلًا؟
أدهم بوحشية : تدري وش ممكن أسوي فيك لو كانت الإجابة أيه؟
شاهين يضحك ضحكةً صغيرةً متهكّمة : وش بتسوي يا حلو؟
وصـل غضبـه حدّ أن شدّ هاتفه الذي في كفّه ليرفعه أخيرًا دون أن يبالي بالنتيجة، رمـاه نحوه بأقصى ما يستطِيع لتتّسع عينا شاهين بصدمةٍ وقبل أن يتدارك كـان قد اصطدم بجبينِه بشدّةٍ جعلته يتراجع للخلفِ وهو يتأوّه ويضعُ كفّه على جبينه صارخًا بشتيمةٍ غاضبـة : يا حمـــــــااااااااار
اندفـع أدهم نحوه بحدّةٍ في حينِ كان جبينهُ قد جرحَ إضافـةً لكونِ الدوارِ أصابه، لذا لم يتحرّك وبقيَ يُمسك بجبينِه وهو يغمضُ عينيهِ بألمٍ وجسدهُ اتكأ على السيارةِ ليتوازن، وصـل أدهم إليه، أمسـك بمقدّمة ثوبِه ليشدّه نحوه وهو يهتفُ بصدرٍ لازال يشتعل : وهالحمار بيوريك العلم الصح شلون !!
شاهين يشدُّ على أسنانه وهو يفتحُ عينيهِ قليلًا وكفّه لا تزال تضمّد جرحه : أقسم بالله لو ما تبعد يدينك الحين بخليك أنت والأرض واحد وماني مهتم إذا كنت اللي ساعدته أو لا ... * ركله في ساقهِ بقوّةٍ ليردف بغضب * وخّر يدك الوصخة هذي . .
أدهم يشدُّ هذهِ المرّة على عنقهِ بقوّةٍ وهو يهتفُ بابتسامةِ شرّ : لاااا يا الحبيب ما بدينا للحين ....
أمسك متعب في تلك اللحظـة بكفيْ أدهم حتى يبعدها عن عنقه وهو يلفظُ بوجوم : والله إنّك تستاهل ما جاك قلت لك لا تبالغ بهالشكل بس عييت.
شعـر بكفّي أدهم تتصلبان بصدمةٍ حتى أنه أستطاع ان يبعدها عن عنق شاهين بسهولـة، ابتسم رغمًا عنه لينظُر لملامحه الشاحبـة وهو ينظُر لهُ دون تصديق، وبضحكةٍ بريئة : كنا نلعب معك بس ، كان شاهين صادق وكلنا انخدعنا.
تراجـع أدهم للخلفِ بملامـح جمدَت، يتنفّس بقوّةٍ وهو ينظُر لمتعب بنظراتٍ كانت تحاول أن تتأكد إن كان فعلًا أمامه أم أنّه يحلـم ، يحلم بانّه حيّ! وأنّ شاهين كذَب فعلًا !! . . . عضّ متعب شفته وهو يدرك أنّ لعبة شاهين كانت وضيعةً بعُمقٍ وهو يرى ردّة فعـل أدهم أمامه الآن ، تباطأت أنفاسه أخيرًا، ومن ثمّ شتت عينيهِ وكفيه بدأتا ترتعشان من جديدٍ رغمًا عنه، بينما أخفضَ شاهين كفّه عن الجرح الذي كان صغيرًا لينظُر لأدهم بحقدٍ ويلفظَ بوجوم : للأسف ... أنا مديون لك بشكر ... مشكور على اللي سويّته لمتعب للحين.
لم ينظُر له أدهم وكأنه لم يسمع كلامـه كما يجب، في حين ارتبكَ متعب قليلًا وهو يميّز نظـرة أدهم التي انقلبَت رأسًا على عقِب بعد أن استوعبَ أنّه لا يحلـم، كـان لايزال ينتفضُ بانفعـالٍ من فكرةِ موتِه، لكنّ ملامحـه باتت صلبـةً حـادةً انتهَت بها نظـراته في اللحظـة التي تحرّك فجأةً ليبتعد .. تأوّه متعب بيأسٍ وهو يناديه لكنّه تجاهله وهو يركبُ سيّارته بغضبٍ أكبـر، كـان يتوقّع في تلك اللحظـة أن يضربه من شدّةِ غضبه بعد الانفعـال الذي أصابه، ولم يتوقّع أن يذهبَ بصمتٍ وكأنّ غضبه هذهِ المرّة تجاوز الضرب الذي لم يكُن كافٍ لشرحِه، تأفّف متعب وهو يضعُ كفّه على رأسه بعد أن حرّك أدهم سيّارته بسرعة، نظـر لشاهين الذي كـان يحمِل هاتفَ أدهم من الأرضِ وهو يلفظ : كان بيفقع عيني الكلب.
متعب بتجهّم : والله إنّك تستاهل .. قلت لك بلاش هالحركة السخيفة وغيّرها بس رفضت ، الحين وش بسوي معه يعني غريبة ما قام يصارخ ويضرب.
شاهين بسخريـة وهو يقلّب الهاتف " الآيفون " في كفّه وينظُر لشاشته : لو ضرب كنت بضرب بعد الأمر سيان . . . وجع ما انكسر وأنا على بالي كسر جمجمتي فيه ، ماهي يد طبيعية ذي ولا الجوال بعد.
متعب يلتقطُ الهاتف من يدِه : هاته بآخذه له بعدين .. الله يستر بس.
شاهين يُميل فمهُ وهو يتّكئ على بابِ السيارةِ لافظًا : ياخي خلّه يعصب وش بيصير يعني؟ هذا ماهو انسان شكله جاي من العصر الحجري اوووف ما يتفاهم . .
متعب بسخرية : بس هو؟
ابتسم شاهين رغمًا عنه : شلون يرجعون الأموات؟
ابتسمَ متعب ابتسامـةً خافتـةً تكادُ لا ترى، نظـر للأرضِ وهو يتلاعبُ بالهاتِف في يدِه التي كانت تتدلّى بجانِب فخذِه كما الأخرى، بل كيفَ تعود الحيـاةُ برمّتها؟ كيفَ تعودُ بعد أن ظنّ موتها في عينيهِ وأنّه حتى وإن عاد لأمّه - فقط - لن يعود كما كـان، لن يبتسم، لن يرى الحيـاةَ سوى ثغـرةً سيعبر من خلالها ليعودَ ويموتَ من جديد، وهذهِ المرّة يموتُ ليحال لحيـاةِ البرزح، وليـس لبقايا دُنيـا!
همسَ يُجيبه بخفوت : الأموات ما يرجعون ، إلا إذا كان موتهم موتة حياة بس ، ماهي موتة روح.
أحاطَ شاهين عنقهُ وهو يبتسم : راسي يوجعني من ضربة صاحبك الفاشـل .. بس اليوم فيني حيل أدور فيك بشوارع الرياض ، بعلمك وش تغيّر ووش ما تغيّر.
ضحك متعب : ليه هو أمداها تتغير؟
شاهين : لا والله ، بس ودي أستكشفها اليوم معك .. أحسها رجعت حلوة ، قبل كئيبة.


،


رأسها يتّكئ على الأريكـةِ " المورّدة " والتي كاد أن يشملها اللونُ الأبيض، تنظُر لسقفِ غرفـة الجلوسِ بنقوشاتِه ببهوت، تشعرُ بقلبها يؤلمها وأنّ هنـاك ماهوَ غريبٌ يحدث ، ماهو موجِعٌ ربما - لها - هي !
وضعَت امّها كوبًا من الليمون على الطاولـةِ وهي تلفظُ بنبرةٍ متداعيـةٍ بأسى : اشربيه ، لك أيام ما تاكلين شيء ووجهك مصفّر.
أسيل تنظُر لها بنظرةٍ جامـدة، مدّت يدها نحو الكوبِ لا تريد أن " تردها "، حملته لتشربَ نصفَه مرّةً واحدة ومن ثمّ اعادته للطاولة لتزفر أمّها وهي تصلبُ جسدها وتضعُ كفيها على خصرها : لا تشربينه عشان ترضيني .. اشربيه عشان نفسك.
أسيل تنظُر للأرضِ نظراتٍ صامتـة بعكسِ حنجرتها التي نطقَت ببؤس : لا تحاتين نفسي .. ترى مو قاعدة أعاقبها ولا أضرها بشيء .. أنا بس متضايقة، وتعرفيني لو تضايقت ما أشتهي آكل.
ام فواز بأسى : ترجعين لنفس وضعك؟
ابتسمَت وهي تقفْ : جسمي صار متعوّد . . .
وجّهت أنظـارها الحزينة لملامِح امّها قبل أن تتّسع ابتسامتها بخيبةٍ وتُردف : زعّلني منه !
ام فواز تتنهّد بيأس : ما رضى يقول شيء؟
أسيل تهزُّ رأسها بالنفي : قال مو الحين ... بس قلبي قاعد يقرصني ، أحس فيه شيء غريب ! ليه بيسوي كذا يعني؟
عضّت شفتَها السُفلى وهي تشعُر بثقلٍ على كتفيها وجسدِها كلّه، زفـرت بألمٍ لتقتربَ منها أمّها وتُمسك كتفيها هامسـةً بضيق : يكفي .. إذا هو مزعّلك لا تزعلين نفسك أكثر.
انحنت برأسها لتُلامسَ كتفَ أمّها أخيرًا، أسندته عليها ومن ثمّ أغمضَت عينيها بحزن، هامسـة : ماراح أسامحــه . . .


،


بعدَ حلول الليل - الساعـة الحادية عشرة.
خرجَت من المنزلِ وعيُونها تسقُط على سيّارة سلطـان التي تنتظرها، ابتـسامةٌ تتحوّر، والحُزن فيها يتضاعف ، تكتشفُ يومًا بعدَ يومٍ أنّ لا حدودَ لهذا الحزن، أنّه لا ينتهي كما بدأ، لم يكُن أزليًا لكنّه كان أبديّ! لا يريد الانتهـاء ولم يعترف بهذا المعنـى في قاموسِه . . صعدَت للسيـارة لتصطدم بأولى المقوّمات لحاجتها، لرائحته التي باتَ أنفها يعتبرها حاجةً لهُ كالمـاء! .. ومن بعدِ رائحتـه كـان يمدُّ إلى أذنيها حاجتهما، " صوته "!! .. هتف بخفوتٍ حنون : وين السلام؟
غزل تبتسمُ رغمًا عنها وهي تُغلقُ باب السيارة، وبخفوتٍ بائس : السلام علكم.
سلطان : وعلى جمالك السلام ورحمة الله وبركاته.
غصّت بشيءٍ مـا، ربّما كـان صديدًا، ربّما كـان الوجَع! لكنّها كانت تعلم فقط، أنّ مذاقَهُ مرّ! هذهِ المرارةُ تقتلني لأجيبَ عليك بيأسي " علي رحمة الله، يارب ارحمني! "، من كلّ هذا العذابِ ارحمني، ارحمنِي من هذا الحُزن وهذهِ الخيبات، أن أحتاجـه ملء الحيـاةِ التي لا تريدنا أن نبقى سويّةً ، ملء الحيـاة الطويلة ، الطويلـةِ جدًّا لكنّها بالرغم من ذلك تمدّنا بالخيباتِ المميتـة فلا نحضى بجزءٍ منها ، يا الله ارحمني من محنـةِ الماضي هذهِ ومن الذي فعلته بنفسي حتى الآن، كيفَ وقعت! حدّ أن أتمنـى محضَ " ملاك " ولا أجده! هذهِ التعبيراتُ كاذبـة، ظالمـة، لا تليقُ بِه، لا تليقُ بما هوَ عليه من بذخ!
كـانت السيارة قد تحرّكت ولم تنتبه لها، دسّت كفها أسفل النقـابِ لتمسحَ على أرنبةِ أنفها وعلى خديها الباهتين، مرّرت لسانها على شفتيها وهي تعترفُ أنّه يحتـاج رحمـة الله أكثر منها ربّما! ليسَ لضعفٍ منه بحجمِ لؤمها هي . . تذكّرت كلماتًا قالتها لها امّها ما بين الأحاديثِ التي كانت طويلة بينهما، معظم الأحاديث كان من امّها، وهي لها الاستماع.
" كنت أحبه .. أحب أبوك، تزوّجته وبعد زواجنا بفترة بسيطة ما حسيت بعمري إلا وأنا أحب أراقبه وأحب أسمع صوته كل وقتي! باللحظة اللي يتكلم أترك أي شيء كنت مركزة فيه وأظل أركز بصوته وبس .. الحب أعمى للأسف حتى قبل لا يصير، كان أعمى من البداية عشان أحبه وما انتبه لعيوبه أو إنّي كنت عاطفية بزيادة عشان أحب أول رجّال بحياتي . . بس أيش استفدت في النهاية؟ بعد سنين من هالحب كل المساوئ اللي فيه طلعت لعيوني مع إنها من أول كانت موجود بس أنا أتجاهلها، أول شيء وأهم شيء كان أنتِ .. جيتِ بعد حب طويل من طرفي أنا وبس! بعد ثلاث سنين تقريبًا ، في البداية كان يصدمني إنّه ما يهتم فيك ، ما أشوف فيه اهتمام الأب ولا حبه، بارد ! بشكل أكبر من بروده معي أنا . . ثلاث سنين ، وبعدها انصدمت فيه أول صدمة ملموسة غير بروده معك قبل لا يكون معي .. * ابتسمَت بأسى لتردف دون أن تذكر ما كانت تلك الصدمة * .. الحب ما كـان كل شيء! هذا اللي اكتشفته بعدين ، هالحب اختفى بعد وقت لما كنت أشوف تعامله معك وأسكت ، ما أقدر أقوله شيء! في البداية اعترضت وكنت اتهاوش معه كل ما ضربك بس بعد فترة تبلّدت وصرت ما أعترض ، أيش كانت فايدة اعتراضي وهو وحش؟ . . أعتذر منك حبيبتي ، أعتذر ، ما كنت أقدر أسوي شيء، عشان كذا صرت باردة معك ... وخسرت احساس الأمومة معك . . "
أسندت رأسها على النافذة بحزنٍ وهي تتذكّر الكثير الباقي من كلماتها " الحب ما كان كل شيء ، ودائمًا ما يكون كل شيء، إذا ما كان فيه مقومات بيموت أو بتصير مشاعر مؤذيـة وبس ... وأنتوا مالكم حياة ، حتى لو كان هو يحبك بعد ، ماراح يستمر وبيتحوّل حبه لاحتقار وبعدين كره ".
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تبتلعُ ريقها، يتحوّل لاحتقار! الاحتقـار الذي كانت تسأله عنه كثيرًا " تقرف مني؟ " لشيءٍ لم يحدُث لأنها كانت تخشى أن يكون في صدرِه حتى وإن أقرّ في نفسه أن لا ذنبّ لها، الاحتقـار بعد الحب، كيف إن كان في الأصل - لا يوجد حب -؟ أيّ أنه سيكون أكبـر ، سيدمّرهما معًا ، وهي أكثر!
زمّت شفتيها وهي تتنفّس بانفعـال، حرّكت وجهها وهي تبتعدُ عن النافـذة لتنظُر إلى ملامِحه التي تعشقُ النظـر إليها مطولًا، ابتسمَت بأسى، اتّخذت قرارها وانتهى الأمـر. همسَت بصوتٍ باهت : رجعني.
نظـر سلطان إليها نظرةً خاطفـةً وكأنه تفاجأ بصوتِها الذي جاءَ فجأةً من الهدوء، ابتسم وهو يلفظ : وش قلتِ؟
غزل تبتلعُ ريقها بحرارةٍ وهي تشعر بأنّ حنجرتها تذوب، تشعُر بالمرارة، تشعر أنّها تنتهي : رجعني لها .. لأمي.
سلطان باستنكارٍ يعقدُ حاجبيه : بتنامين عندها اليوم؟
تأوّه صدرها دون أن تكون آهتها الأقرب للأنينِ مسموعـة، ترتدُّ تلك الآهةُ وتتكرّر، ألـم، ألـم .. ماهذا الألـم الذي لا يُحتمـل؟ أشعر أنّه يمزّق صدري وكأنه يثبت إيمانِي بأن نهايتي لن تكون إلا حين ننتهي . . ألــم ، ألــمٌ لا يطاق يا سلطان لكنّني بتُّ أخشى ألمًا أكبـر منه يصرعني في لحظتـه .. أأحاول قولها؟ ننتهي الآن أو أنا فقط من ستنتهي في كلّ هذا؟ لا أريد أن أستمرّ، ولا أريد أن أبدأ من جديدٍ وأكون امرأةً استغلّت اسمك وحسب ! لاسمك قدسيّةٌ في شريعتي الباهتـة، وحدها أحرفه ساطعـةٌ من البهوت، لاسمك قدسيّةٌ يا سلطـان وأنا حين أقدّس شيئًا يخصّك لا أمتهنهُ بقذارتي! .. لا أريد أن أبدأ من جديدٍ لأنّني من بعدِ عينيكَ أنتهِي وتموت البدايات . .
شعرّت بقلبها يتمزّق، بأضلعها تتحطّم، شعـرت أنها تهوِي في حفـرةٍ امتلأت بغبـارِ الوجَع الذي خنقها ، حصـر أنفاسها في كلمةٍ من خمسةِ أحرفٍ أطلقتها إليه بعد جملةٍ فاترة : مو بس اليوم ، بنام عندها من اليوم وللأبد ..... طلّقني !


.

.

.

انــتــهــى

أعتذر منكم عن بارت الأحد، هالبارت خليت ميعاده الجمعة عشان أقدر أخلصه بدري وأبدأ بجزء الأحد بس ما قدرت أخلصه اليوم من ضيق وقتي.
موعدنا الأربعاء إن شاء المولى، ومن بعدها بحاول ألتزم بالموعد اللي قلته وإذا ما قدرت بغيّره :(

ودمتم بخير / كَيــدْ !


أبها 17-07-16 05:59 AM

شكرا كيد على الجزء الرائع كروعة حضورك.

لقاء شاهين بمتعب مرّ بسلام
فهل سيكون لقاء متعب بأمه مثل ذلك ؟!
علا إلى ذلك الوقت تتجرع حسرة فقدها
لولدها ، و يحتاج شاهين إلى حنكة وذكاء كي
يوصل لها خبر عودة متعب . دون أن تصاب بصدمة
تفقدها عقلها أو حياتها ، فهل سينجح في ذلك ؟

والدة غزل .. ظهورها كان بعد طلاقها من أحمد
هذا يعني أنها لو لم تطلق لم تكن لتلتفت لابنتها
وتفكر في احتواءها وتعويضها عما فقدته،
أنانية ...هذا انطباعي عنها وما أوردته من حجج
واهيه لا يبرر لها قسوتها على غزل..
وبالرغم من مجيئها المتأخر إلا أن قرارها كان صائبا ،.
فانسحابها من حياة سلطان هو أفضل الحلول .

كل الشكر والتقدير للمبدعة كيد .🍃🌸

bluemay 20-07-16 06:37 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

قرأت الفصول مجتمعة والجمتني الروعة عن التعليق ...

أستمتعت كثيرا بالتطورات التي استجدت على ابطالنا او لنقل معظمهم ...

وحزنت لتردي حال البعض منهم .


متشووووقة للقادم

تقبلي مروري وخالص ودي



★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ


أبها 21-07-16 08:43 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
أرجو أن تكوني بخير يا كيد ..

تعودنا على التزامك وتأخيرك لا بد أنه

لأمر خارج عن ارادتك ..حفظك المولى .

fadi azar 21-07-16 10:16 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 21-07-16 11:23 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعـة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية ...


تأخيرْ إجباري والله :( ، انقطـع عندي النت فرحت أقضي الوقت بإضافة كم موقف وبدأت بالبارت اللي ورى ذا بعد :( :$ السموحة منكم ومن بنات الآسك - متأكدة بدخل الحين وألاقيه مشعلل - :p
.

كالعادة بنقول بالبارتز المهمة والمؤثرة " اقرأوا البارت حبّة حبّة " ، بيزعجكم اليوم شوي بسبب كم موقف بس امسكوا أعصابكم ولا تفجروني * الله يحفظني بس * :p

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ، وأحبكم وأحب لطفكم ()

بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(77)*1



كـانت ملامحهُ باردة في اللحظـاتِ التي تلقّى فيها تلك الكلمـة، في بادئ الأمـر برقَت عينـاه بالصدمة وحسب، وسرعان ما انطفأت تلك الصدمة ليحلّ محلها ظلامٌ نشأ من أفكـارهِ المُعتمـة .. بينما غصّ صوتُها بعد أن قالتها له، بعد أن قالت " طلّقني " بلكنةٍ لا تجدها في قاموسِ الأحيـاءَ وكأنّها تموتُ لتلك الفكرةِ حتى قبل حلولها، احتكّت حنجرتها بالصمتِ واشتعلتْ بخيبةٍ وتحشرجٍ جعلها تصمتُ ولا تقول شيئًا آخر، تنتظرُ كلمـةً من فمِه، إجابـةً بكلمةٍ واحدةٍ لتحلّ الفكرة أخيرًا وتبتعدَ عن نطاق التفكير، تنتظرُ صوته الذي قد يكون بعد لحظتين .. سيفًا يبتر رأس جسدِها المعلّقِ في سمائه! . . . زمّت شفتيها بألمٍ وهي تضغطُ بكفّها على صدرِها بقوّة، تشعر أنّ قلبها يكادُ أن يخرج مُمزّقًا مهترئًا لا يسعهُ سوى الجفاف، متهدّلًا بانسكابِ الحزنِ فيه !
استغـرق الصمتُ بينهما حتى ابتلعتْها الربكـة، لم تكُن تنظُر إليه، لكنّها في النهـايةِ أدارتْ وجهها نحوه ببطءٍ متوجّس، مستنكرةً هذا الصمتَ الجـارف، حتى أنّه لم يغيّر اتجاه السيارة للعودة!! . . . سقطَت أنظـارها على ملامِحه التي تُضيء بأنوارِ الشارِع الذي يمتدُّ أمامهما كما امتدّ الصمت للا معـرفة ! .. ارتعشَت شفـاهها وتعابيرُ ملامحه التي غاصت في " اللا تعبير " جعلتْ صوتها يرتعشُ بربكتِه وهي تهمس : رجّعنـي ..
لم يردّ أيضًا، يباغتها بالصمتِ الذي يُضاعِف ربكتها وألمها، يباغتها بهذا الجمودِ الذي أشعل وجهه فلم تفهم هل هو يحترق ، أم مترمّدٌ بصمتِه وحسب! ... كرّرت بإصرارٍ واهِن : رجعني سلطـان .. خلاص أنا ما عاد أبي أظل معك.
صوتُها كـان يعبُر إلى أذنـه، لكنّه كان يشوّشه داخليًا ويتجـاهل لملمةَ الكلمـاتِ والاستجابـة لها حتى " بَرَدْ "، تراجعَ ظهرها للخلفِ بجزعٍ وكفها اليُمنى ترتعش، أدركت أنّه يتجاهلها، هذا التجاهل الذي يعني الرفض! هل تستطِيع الآن أن ترتاحَ وتفرح أم تحزن أكثر؟ تقلق أكثر وتستاءُ من نفسها أضعاف ما كـان! هل رفضُه يُسعِدها؟ لا .. لمَ تشعُر بالألـم لفكرةِ أن تبتعد، وكذلك بالبقاء!! كلاهما مؤلمـان، كلاهما يجرحانِها بأطرافِهما المسنّنة، لمَ لا تجدُ راحـةً ما بينَ ذاك وذاك ... ما الذي تريده بالضبط؟ ما الذي تريده؟ لا شيء! .. تريد فقط أن تتلاشى، أو تعودَ بالزمـن، وتغيّر كلّ ما كـان لتبدأ معه .. من جديد ، تريده هو، لكنْ في زمانٍ آخر، وفي وضعٍ آخر، وبشخصيّةٍ أخـرى .. وكلّما توغّلت بإدراكها ذا، تؤمن أنّ اليـأس أكبر منها ، وأنّ لا شيء سيحدثُ كما تتمنّى ! مجرّد أمنيـاتٍ مشوّشة، تسحقني لا أكثـر كلّما أدركت استحالتها، كيفَ أمضي معك؟ وكيف أتركك، وكلا الخيارينِ موجِع.
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تشدُّ على شفتها السُفلى بأسنانها، طـال الصمت حتى أنها تكـاد تسمعُ احتكـاك الإطاراتِ المتناورِ بالسّكةِ الخشنـة، هذهِ الخشونةُ لا تحتكُّ بإطاراتٍ سوداءَ معبّأةً بالهواء، بل تحتكّ بجسدي الذي امتلأ بفراغِ الخيبـاتِ والحزن وحتى الجراحُ لم تكُن يومًا منفذًا لتنسكبَ منّي.
توقّفت السيـارة بعدَ وقتٍ طـال، اقشعرّ جسدها، تشعُر ببردٍ ما، جعلها تضمُّ ذراعيها حولها وهي تترك للرجفـةِ أن تحتلّ شفاهها وأهدابها، سمعَت صوتَ بابِه يُفتح بصمتِه ذاتِه، صمتِه الذي يُغرقها في الظـلامِ أكثر، لم تفتحْ عينيها وهي تسمعُ البـابَ يُغلق، ومن ثمّ مرّت ثوانٍ قصيرة حتى سمعَت طرقًا على نافذتها، فتحَت عينيها ومن ثمّ تراجعت للخلفِ باضطرابٍ وهي تنظُر لوجههِ الجامِد خلفَ زجاجِ النافذة، كـانت حركته تلك حتى ينبّهها ويجعلها تبتعد، ومن ثمّ يفتح البـاب دون أن يتخلّى عن ملامِح صمتِه.
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وهي تتراجـع للخلف، تنظُر لملامِحه بربكةٍ وهو يُشير لها بعينيهِ أن تنزل، حرّكت رأسها بالنفيِ بشكل فارغ، لا تدري ما الذي تفعله الآن بعد أن طلبَت منه ذاك الطلب وتجاهلها وها هو يعيدها حيثُ يرى أنّها يجب أن تكون، لم يكُن طلبًا! بل كـان حديثًا أقربَ للأمـر.
سلطـان ودون أن تتبدّل تعاليمُ وجهه اقتربَ منها حتى أدخل جزءً من جسدِه للسيارَة، شهقَت وهي تتشبّث بأظافرها على المقعد، لكنّها لم تكُن شيئًا أمـام أمواجِ كفّه التي كانت أعتى، أمسك عضدها بلمسةٍ رقيقةٍ كلمستِه المعتادة، أجفلَت، وأنّ صدرها رغمًا عنها أنينًا وصلَ إلى أذنه وهو يجتذبها بقوّةٍ صغيرة، لم يكُن قاسيًا معها، كـان كلطفِه المعتاد، لطفِه الذي ينجحُ دائمًا، لم يكُن قاسيًا بل جذبها إلى الخروج رغمًا عنها بطاقةٍ يمتلكها ولا تستطِيع أن تهزمها . . . أحاطَ كتفيها بإحدى ذراعيه وهو يمدُّ يده الأخرى ليأخذ حقيبتها ومن ثمّ يغلق بابَ السيارة، تحرّك بها رغمًا عنها والسيـارةُ تضيءُ علامـةَ الوصدِ من جهاز التحكّم الذي عانقه بكفّ ذراعِه المحيطةِ بها ... لا تحتمل، لا تحتملُ أبدًا كلّ هذا، دائمًا ما يجعلها تتعلّق بِه أكثـر، يجعلها تعشقه أكثـر بأبسطِ تفاصيله الرجوليّة الخشنة ، والرقيقة في آن! رقّةً لا تناسبه إلا هو .. لا تناسب رجلّا سواه .. إلهي كيف أقدِر على تخيّل يومٍ ما أنهضُ فيهِ ولا أجده؟!!!
وقفَ أمـام البـابِ ليُخرِجَ باليدِ التي تُمسك حقيبتها المفتاحَ من جيبِه ويفتحه، يدرك أن سالِي في هذهِ اللحظـاتِ ستكون نائمةً وتغلق بابَ غرفتها حذرًا منذ ما حدثَ قبل بضعةِ أشهر، دخـل وهو يحاصـرها لتجدَ نفسها مقيّدةً بِه بطريقةٍ ما، انسلّت ذراعـه عن كتفِها فجأة، شعرَت ببردٍ صقيعيٍّ لتمرّها الرعشـة بسرعةٍ خاطفـة قبل أن تسمع صوتَ البـابِ يُغلَق، نظَرت للأرضِ وهي تتنفّس بتحشرج، بينما استدار سلطان بهدوءٍ بعد إغلاقه للبـاب، وأخيـرًا جاء صوته محمّلًا بنبرةٍ لا تُقرأ، جـاء بجملةٍ في صيغةِ سؤالٍ بارد : ممكن أفهم الحين المناسبـة ورى طلبك الوقح ذا؟!
ارتعشَت أهدابها لتخفقَ بأجفانها في صورةِ اضطراب، ضمّت كفيها لبعضهما البعض وهي تنظُر للأسفل، بينما وقفَ سلطـان بجانبها مباشرةً، قابلَ جانبها بصدرِه، وضـع الحقيبةَ ببرودٍ على الأرضِ وهو يردف بجمود : عطيني سبب مقنع ، أما أسلوب الأمر اللي من شوي ما يمشي معي ... ماني على كيفك !
تحرّكت أقدامها خطوتين مضطربتينِ لتبتعِد، بينما تابعها بعينينِ لا تفصحـان عن أيّ تعبير، مُكملًا بنبرةٍ حازمة : فصخي نقابك وواجهيني.
غزل وحلقها تشعر أنّه يلتوي ويتشنّج ليبقى على التوائه دون أن يستقيم، لفظَت بصوتٍ مرتعش : محنا بحرب.
سلطان ببرود : ومحنا بلعبـة تخضع لمزاجك!
غزل برعشـة شفتيها التي لم تَظهر من خلفِ نقابها : مزاجي؟
سلطان بجمود : كنتِ مختارة نكمّل مع بعـض .. والحين اخترتي العكس من وين ما أدري! بس لمجرّد إنك غيرتي رأيك بعد ما ساء لك الوضع!!
تراجعَت خطوةً أكثـر تُظهرُ ضعفها، بينما عينيها تلتمعـانِ بحزنٍ مريرٍ وهي تهمسُ بغصّة : من قبلها لما ساء الوضع عندك غيّرت الشروط والقواعد وكل شيء !
سلطـان ويفهم جيدًا ما تقصد، ردّ ببرودٍ حازم : قبل شهور كانت الشروط والقواعد على قولتك مبنيّة منك .. مو أنا اللي اخترتها عشان أمشي عليها وما أنقضها.
غزل بغصّة : تظل قواعد!
سلطـان بحدّةٍ يمنـع نفسه من الغضبِ تجاه موضوعٍ أمرها ألّا تكرره أمامه : هشّة! بعيوني صارت هشّة !! .. أي غباء أو طموح وقح اللي تؤمنين فيه بيخليك تظنين للحظة إنّي بتركك تعيشين على مزاجِك وأنتِ اخترتِ تلعبين بحسبتي ! إنّي بستمر على شروطك بعد ما عرفت أهدافك من هالزواج أصلًا !!
وصلتها الإجابـة، تلك الجملـة وحدها كانت تكفي لترى المستقبل عن كثب، وصلتها الإجابـة لتغرقَ في رعشـةٍ عنيفةٍ وهي تتراجـعُ بتعثّرٍ أمامه. كـانت أمّها صادقةً ولم تُخطئ، لن يسامح كما أنّه لن يتركها! لن يتركها أبدًا .. المشكلة ليست في أن يتركها أو لا، فهي تتمنّى بملء حياتِها أن تبقى قربه، لكنّ سلطـان .. وكما قالت أمّها، سيحتقرها كما فعـل قبلًا، سيؤذي مشاعرها بالتأكيد، وسينتقم لتلاعبها به !!
ظهر على عينيها هذهِ المرّة اليأس دون أمـل، قطعَها اليأس من أيّ فكرةِ أملٍ وسلطـان الآن يُجيبها على سؤالٍ لم تُلقِه عليه، " هل تسامحني لأنني خدعتك "؟ هل يسامح؟ بالتأكيد لا، قالها، قالها بكل وضوحٍ الآن وأخبرها بما كانت تخافـه . . . شعَرت بجسدِها يذبُل، بحنجرتها عادَت تئنُّ لتشعر أن التهاباتٍ حارقـةٍ غلّفت أنينها الموبوءَ بإجابته، كيفَ عسايَ الآن أستقيم وأنت أريتني مستقبلِي معك من بؤرةِ كلماتِك؟ كيفَ أخضـع لقولكَ الآن وأشعر أنّني أنتهي من جديد، لآلاف المرّات ها أنا أجرب الموت اليوم يا سلطـان، لآلافِ المرّات وعفويّتك بالردّ على شيءٍ مضـى جعل المستقبـل كلّه يغشوه الظـلام . .
عقدَ حاجبيهِ وهو يرى رعشتها الغريبـة، عينيها الظاهرتين لهُ عبر النقاب، يغلّفهما حزن، حزنٌ عميق، حزنٌ أعمـق من أيّ وقتٍ مضى وكأنها تفقدُ شخصًا ما ، شخصًا عزيزًا على قلبها أو أنّه - الحياة - لها، . . . تحرّكت أقدامه ليكسرَ الخطواتِ التي كانت بينهما، الخطواتِ التي اختلقتها قبل ثوانٍ وعادَت تخلقها بشهقةٍ مهتزّةٍ وهي تراهُ يقتربُ منها، لكنّه وأد بقيّة ابتعادها حين مدّ يدهُ بإصرارٍ ليجذبها إليهِ من عضدها وتصطدمَ بجسدِه، رفـع كفّه الأخرى لينزع نقابها بهدوء، ومن ثمّ ثبّت أنظاره على عينيها الناظرتينِ إليه بخسارةٍ ما، ليلفظَ بخفوتٍ متسائل : يعني أفهم الحين إن الوضع فعلًا صار سيء عندك عشان تطلبين الطلاق؟
لا يكاد يقتنـع، لن يقتنع أصلًا وهي التي كانت تشتكِي خوفها من أن ينبذها يومًا، فما الذي تغيّر حين كانت عند أمّها؟ ما الذي تغيّر وما الذي حدث؟!! ... أشـاحت وجهها عنه لا تريد أن تقابـل عينيهِ بعد أن أجاب على مخاوفها بما يخيفها، لا تريد النظر إليه لتفضـح بكاء قلبها النازف أمامه، لا تريده أن يرى خيبتها ويرى حزنها، لا تريده أن يدرك شيئًا من انتهائها !
سلطان يُمسك ذقنها كي يرغمها على النظـر إليه، نطق : تعرفين تتصرفين مثل الأطفـال بس لمّا يتعلق الموضوع بكلام بين اثنين عاقلين لا !
غزل وشفتيها المضطربتينِ تُضاعف من موقفها الضعيفِ أمامه : ما تصرّفت زي الأطفـال .. بس .. بس هذا . . هذا اللي أبيه !
سلطان : بالأول تعلمي شلون تقولينها وأنتِ واثقة من اللي تبينه.
فغـرت فمها بصدمة، لكنّها سرعانْ ما ابتلعت ريقها لتهمسَ بغصّة : تلعثمي ما يعني إني مو واثقة من اللي أبيه !
سلطان بجمود : بالنسبة لي لا.
غزل بحدةٍ ترفـع كفّها لتُمسك بمعصمِه، تحاول أن تجعله يتركُ ذقنها وهي تلفظُ بعدائيةٍ حادة : طلقنـي.
سلطان يشدُّ وجهها نحوهُ ومقاومتها لا تأتي بفائدة : عطيني سبب مقنع بالأول.
غزل بقهر : كذا خلاص أبي أتطلـق .. ما أبي أظل معك وبس !
سلطان يبتسم بسخرية : ما تتصرفين مثل الأطفـال أجل؟! . . . وش صار عند امّك؟ لا شكلي جد بحرّم تشوفينها.
لم تتوقّع أن يُباغتها بهذا السؤال، تفاجأت لتُصيبها تأتأةٌ جارفـة ومن ثم تصمُت بخيبةٍ واستياءٍ وهي تُشتّت عينيها في الزوايا المُظلمـة، اتّسعت ابتسامتـه الساخرة، قبل أن يلفظَ بوعيد : ناوية على نفسها هالأم، هالمرة قرّرت تخرب بيتك.
غزل تُوجّه أحداقها إليه بسرعةٍ ومن ثمّ تُبعدها عنه وهي تهمسُ بنبرةٍ متداعيـةٍ مهتزّة : ماهو بيتي.
سلطان بلذعةِ صوتِه يسخر من أسلوبها الضعيفِ في الحديث : بالله؟ طيب ممكن نعرف يكون بيت مين؟!!
غزل بحرج : بيتك.
سلطان بجمود : ومين تكون زوجتي؟
أخرسها هذهِ المرّة، وجدّت نفسها تقبضُ كفيها وهي تُخفضُ أنظـارها للأسفل، تسقُط أحداقها على أقدامـه بينما صوتُه الخافتُ يصلها بسخريةٍ تتفاقم : لو فيك شويّة إصرار مثل ما توضّحين لي أقل شيء قولي زوجة من بعدي ! بس منتِ متخيّلة هالشيء . . . لا تسكتين لأنّك قاعدة تثبتين لي إنّ طلب الطلاق ما جاء من اقتنـاع تام منك، فيه شيء مضطرّك له وأظن أعرفه.
غزل بنبرةٍ ميّتة : سؤالك ما كان له داعي.
سلطان : يواكب أسلوبك الطفولي، عشان كذا بس.
ابتلعّت ريقها، أسدلَت أجفانها ومقلتيها تغصّانِ في دمعٍ انفجـر، لم يغلّف صفيحةَ عينيها بعد، لم يفعل حتى الآن شيئًا سوى أنّه مسّ مقلتيها بحرارتِه التي تُذيبها، جمّدت أحداقها على نقطةٍ واحدة/أقدامـه التي تكـادُ تتلاشى في الظلام، كفّه التي تقبِض على ذقنها لم تكُن كافيةً سوى لتثبّت وجهها إليه بينما عينيها تزيغان للأسفـل .. حاولَت أن تنطقها الآن بثباتٍ رغمَ إدراكها أنّها لن تستطِيع، حاولت أن تكرّر العزمَ في إجابتها، لكنّ صوتها اختنـق، خانها ولم يُساندها : مالنا حياة مع بعض.
سلطان يُجاريها : مين يقوله؟
غزل ترفع عينيها هذهِ المرّةَ إليه لتبتسِم بحسرة : أنـا ... وكل الماضي.
سلطان : ما يهمني !
غزل بصوتٍ يغصُّ في الأسى أكثـر وهي تدرك أنّ فهمـه لحديثها يقتصـر على الأمور الواضحـة لعينيه، الماضي المنحصر في خداعها الأول له، ومن ثمّ الاغتصاب بظنّه : أنا يهمني ، ما أقـدر أتأقلم معه.
تركَ ذقنها أخيرًا، حرّرها أو ظنّت ذلك، لكنّها ما إن تراجعَت نصفَ خطوةٍ حتى شعرَت بذراعه تُحيطُ خصرها فجأة، شهقَت ما إن ألصقَ ظهرها بالجدارِ القريبِ منهما، بينما وضعَ كفّه على فمها يكتمُ شهقتها، وعينيه تُضيئـانِ بلمعـةٍ في الظـلامِ الواهي، يلفُظ بصوتٍ واثِق : ومين قال أبيك تتأقلمين معه؟
أمسكَت كفّه وحلقها يتشنّج، أخفضتها عن فمها بينما همسَ سلطـان بخفوتٍ موضّح : أبيك تتجاوزينه .. معي ... لأنّي هالمرة أنا اللي أبيك.
اتّسعَت عيناها بصدمـةٍ من كلمـاتِه، شعرَت بقلبها يتوقّف للحظـة، بينما لم يُمهلها خمسَ ثوانٍ حتى تستوعِبَ معنـى ما قال، قطـع سلسلـة أفكـارها التي لم تنعقِد بعد بقبلةٍ ناعمـةٍ لشفتيها، تفاقمَت الصدمـة فيها أكثر، وهذهِ المرّة قلبها عـاد لينبض، بقوّةٍ أشــد. شعرت بالأدرينالين يندفـع في جسدِها وهي تُحيطُ عنقه بكفيها، يستجيبُ له جسدها رغمًا عنها، رغمًا عن عقلها وعن قناعاتِها وعمّا تريد، في هذهِ اللحظـة انحلّت قليلًا عن قرارها، لتعيشَ قبلته التي جاءت من فقـر قبلاتِه وقحطها، تعيشها ، من حقّها أيضًا أن تنعـم بالقليل، بالقليـل فقط قبل أن تكسَب وثيقة الابتعـاد، من حقّي أن أعيش فيما بعدُ على القليلِ من الذكريـات، كأحاديثِ الشفاهِ التي لا تنتهي، الصوتُ والقبلات، لا تكفيني لكنّها ستجعلنِي فيما بعد أقتادُ على الصبـر من بعدِك .. أدرك أنّ لا بقـاءَ لي هنا، من بعدِ تصريحك خاصّةً لا بقـاءَ لي .. وها أنا الآن أستجيبُ لك بملءِ شغفي ، لأنّ يومًا مـا سيأتي .. لا تُشرق فيه الشمسُ عليّ عبر عينيك.


،


يضعُ معطفـه القطنيَّ الأسـود على كتِفه بشكلٍ فوضوي، شعره الأجعد ظهر أكثر حدّةً للعيـان، عيناه جامدتـانِ لا تنمّانِ عن شيءٍ وهو يزفُر بضجرٍ ويتّجه للدرج، قميصهُ مُشعثٌ يُظهر أكتافـه القويّة، صعـدَ أولى عتبـاتِ الدرجِ ليتوقّف فجأةً ما إن أقبلَت إلين مندفعـةً لكنّها توقّفت ما إن رأته . . رمقها بجمودٍ بينما عيناها تتّسعان بحقدٍ وهي تراه أمامها في هذهِ الساعـة، لم تستطِع أن تمنـع نفسها من أن تضـع كفيها على خصرها في صورةِ هجومٍ مباشرة وتلفظَ من بينِ أسنانها بقهر : أخيرًا شرّفت؟
أدهم يُشيح وجهه وهو يميل فمه بضجر، تحرّك كي يتجاوزها وهو يهتف بنبرةٍ باردة : مو وقتك الحين.
إلين تستدير بعد أن تجاوزها لتمدّ يدها فجأةً وتقبضَ على عضدِه، لفظَت بعدائية : لا والله؟ بعد ما نقعتني بالمطبخ ساعة وما رجعت؟ * أردفت بقهر * الحين بسخّن لك الغداء وتآكله .. مو شغلي.
لم يستطِع أن يمنـع نفسه من ضحكةٍ عميقةٍ غرِقَ فيها، في خضمِ ضيقه تغسلـه بضحكةٍ لم يكن يريدها الآن لكنّها استطاعَت أن تخلقها فيهِ قسرًا .. استدارَ لتُخفض كفّها عن عضده، لكنّه سارعَ بإمساكها وهو ينطق بضحكة : تبيني أتغدّى بهالوقت؟
إلين بقهرٍ وكفّها التي ترتخِي في قبضتِه لم تحاول سحبها : ليه تقولي اطبخي لي شيء وتمشي؟ فوق كذا تصارخ بوجهي بوقاحة بعد !
أدهم يعضُ شفته ليَئِد بسمته : معليش ، بس من جدك تبيني أثقل على معدتي الحين؟
إلين ترفع حاجبها : تستاهل .. غصب عنّك تاكله الحين وقفتي ما تروح ببلاش.
أدهم : ههههههههههههه محد يغصبني ترى بس هالمرة عشان عيونك.
إلين باستياءٍ تُخفِي بِه إحراجها : طيب شرّف.
أدهم وهو يصعد ضاحكًا : الله يصبرني بس أبدل ملابسي وأجيك.
دخـل الغرفـة وهو يبتسمُ ويهزُّ رأسه بالنفي، تظنُّ أنّ القوة في وقاحةِ حديثها أو صوتها معه وأنها بذلك تظهر أمامه امرأةً ذات بأس .. فتـح الخزانـةَ وابتسامتـه تلتوِي، وبخفوتٍ همَس : الحمدلله وأنا شفت طفولتها قدام عيني يعني ما فاتتني * لينفجـر ضاحكًا بمزاجٍ " زان " *


،


اشتدّ ظـلامُ الليل، كـان كمَن انزوى في زقاقٍ مـا، غابَ ضوءٌ خافتٌ جـاءَ من حيثُ نقصـانِ القمر، أسنـدَ ظهرهُ لظهرِ المقعدِ وهو يبتسمُ ابتسامـةً لم يبتسِمها منذُ زمنٍ طويل، ابتسامةً لا تظهـر إلا معه هو من بينِ كلّ البشـر ...
هذا اليومُ استثنائي، لن ينسـاه، أبدًا! سيُخلّد لدى ذاكرة الأيـامِ الجميلةِ لديه، الأيـام التي شعر فيها أنّ روحًا تنبعثُ في جسدِه، روحًا غير روحِه هو ، فالبشـر لا يعيشون بروحٍ واحدة، يحملون أرواح من هم لهم حياةً أخرى. هكذا يرى الأرواح بالنسبـة له، إن أحبّ شخصًا فروحه تكون في جسدِه وإن مـات! ماتَ جزءٌ منه مُحـالٌ أن يعود، لكنّه يـا للعجبِ عـاد! عـادَ حين عادَ الميّت من مسمّى الممـات.
استدارَ ينظُر لمتعب الذي كـان يقودُ السيارة، يبتسـم، لا يستطِيع سوى أن يبتسم اليوم ويتجـاهل أيّ شيءٍ قد يعكّر صفو هذهِ الفـرحة ... نظـر لهُ متعب نظرةً خاطفـة، ومن ثمّ ابتسمَ رغمًا عنه وهو يعودُ لينظُر للطريق، لافظًا : بطّل هالنظرات .. طفّشتني.
شاهين يمطُّ فمه باستياء : توني لفيت أناظرك.
متعب : قبل ساعة نفس الجملة.
شاهين : قلتها قبل ساعة ، يعني قبل وقت طوييييييييل بالنسبة لفكرة مُستحيلة ، معجزة !
متعب بابتسامة : بديت أستحي.
شاهين : هههههههههههههههههههه اللهم إني أسالك من خيرها وخير ما جبلتها عليه وأعوذ بك من شرّها وشر ما جبلتها عليه.
متعب بحنق : شكلك مشتهي أبدّل خريطة وجهك.
شاهين يغرق في ضحكاته : وش أستحي ذي طيّب؟ تستاهل.
متعب : والله إنت اللي شوف وضعك نظراتك ذي ما تطمّن.
شاهين : وصخ وش تقصد؟!
متعب يضحك : أعوذ بالله من غضب الله.
شاهين : والله إنّي قايلها أوروبا خرّبت تفكيرك يبي لك إعادة تأهيل.
متعب : يا شيييخ أمزح والله من حقك يعني ميّت تخاف يكون قرينه جالس جنبك أو تتوهّم.
شاهين بابتسامة : أبد .. أجمل شيء إنّي ما أتوهم .. بس للحين مو قادر أصدّق قدام أكثر من سنتين .. كم يوم ما يخلوني أستوعب زين.
متعب : أنا يوم واحد يكفيني عشان أستوعب إنّي كنت عايِش بكذبة ، قدام هالسنين اللي ما اعتبرها شيء !
شاهين يرفعُ حاجبه : ترى كنت بتذبحني أنت والمعفن ذاك ..
ابتسـم متعب وهو ينظُر للطريقِ أمامه والسيّاراتِ التي تُضيء بنورٍ زائف : أكثر من شيء سويناه حدّد؟
شاهين باستياء : لك وجه تقولها بعد؟
متعب : ههههههههههههه وش أسوي .. وتراني اعتذرت وقلت لا تسامحني أنت اللي رفضت ، مالك حق تعاتب الحين.
شاهين : لا عاد الموت ما نسامحك عليه ..
متعب وقد أدرك قصده الآن، مرّر لسانه على شفتيهِ دون أن يفقد ابتسامته، وبخفوت : قالّي أدهم إنّه شكلك تعبان بشيء يومتها * كتم ضحكته ليُردف * ماهو ذنبي إذا فاجأناك وش يدريني؟
شاهين يضيّق عينيهِ بحنق : فاجأناك؟ قول صدمناك صعقناك ذبحناك.
متعب : ههههههههههههههههههه لا حاقد والله .. لا عاد تسوي فيها المثالي وتقول لا تعتذر ومدري وشو، صفّى قلبك من الحين.
شاهين يبتسم : تدري إنّه صافي من جهتك .. أقصى حقدي عليك يكون بسبب عصيري اللي أخذته قبل سنين بعد ما حطيته بالثلاجة.
متعب : مستواك الفكاهي في تدنّي ترى.
شاهين : للحين ما تجامل؟
متعب يهزُّ رأسه بالنفي : ما أعرف وأنت أدرى.
شاهين : ثقيلٌ قال صفني قلتُ ما فيك أصف . . .
متعب يقاطعه وهو يضحك : كل ما فيك ثقيلٌ خفّ عني وانصرف.
شاهين : تستاهل هالبيت والله ... أففف مو راضي تمشي لي من هنا * يُشير لحنجرته *
متعب باستفزاز : عاجبني الوضع .. إن شاء الله طول عمري ناشب لك هنا . . .
أردفَ وقد تبدّلت ملامح صوتِه فجأة : بسألك ..
شاهين يعقدُ حاجبيه وهو يوجّه نظراته نحوه بتوجّس، يخشى نقطـةً ما، سيصلان إليها عاجلًا أم آجلًا وتنقشـعَ تضاريسُ السعادة، ففي النهاية هناك الكثير ، الكثير الذي لن يمكنهما تجاهله للأبد ... بينما مرّر متعب لسانه على شفتيه وأحداقه تُظلـم للحظـةٍ بعد أن غابَت الأضواءُ المنكسرةُ عليها، ومن ثمّ عادَت لتُضيء وتمرّ على شفتيه اللتين تحركتا بكلماتٍ هادئةٍ ظاهريًا : تقدِر تتّصل على أمي الحين .. خاطري .. خاطري أسمع صوتها . . . اشتقت له.
تجمّد للحظـة، وعينـاهُ تضيقان، بينما ابتسامـةُ أسى ترتسمُ على فمِه وهو يدرك الفقد الذي عاشَه والحنينَ الذي يوجعه، همسَ بخفوتٍ متشتّت : أبشر.
متعبْ وعلى شفاهِه تظهر أطيـافُ بسمةٍ متلاشيـة، دار بسيارةِ شاهين التي يقودها بعيدًا عن الإشارة التي كانت خضراء، أوقفها على جانِب الطريق، ومن ثمّ استدارَ بكـاملِ جسدِه لتظهر لهفـةٌ عظيمةٌ على ملامحه، لم يفقد تلك الابتسامة، الشغوفـة والحزينة في آن، التحم الاثنينِ فيها فباتت شفّافةً متداعيـةً وقبضتيه يشدّهما ليُخفي رعشةَ انفعـاله، تنفّس بسرعةٍ مضطربةٍ وهو يهمسُ بصوتٍ أقربَ للرجـاء : بتحيي فيني جانب ثاني ..
شاهين بابتسامةٍ يتناولُ هاتفه الذي كان يستريحُ بينَ مقعديهما : ما أظن نايمة بهالوقت.
متعب بشوق : إذا على خبري فأدري.
شاهين يتّصل بِها، لم ينتظِر أكثر وهو يقرأ الشغف الذي اكتسـى صوته ليوجعـه، لم يتخيّل هو أن يسمعها الآن، يكـادُ يموتُ لسماعِ صوتها، انتظـر سنين، أشهرًا وأيامًا وهو يتلهّف للحظـةٍ كهذه، لذا فالأسطرُ تتلاشـى/تُمحى فلا يستطِيع تسطيرَ تعبيرٍ واحدٍ على شفتيه، على قلبه، لا يستطيع أن يصفَ مقدار الانفعـال الذي يكادُ يطيحُ بِه الآن شوقًا، كم نفقَت روحه قبلًا، أو كادت تنفق، وهو يدرك أنّه لا يحييها سواهم ، وإن كـان سبب الموت الأوّل شاهين، فها هي جزءٌ من روحهِ عادَت بعد أن تداعَت، والآن يريد أن يتصبّر بها، بصوتٍ أو رائحة، بأيّ شيءٍ من تفاصيلها.
أبعَد شاهين الهاتف عن أذنه وهو يفتح " السبيكر " كي يصله صوتُ الرنينِ المتواتِر دون أن يتوقّف، استمرّ وجسدُ متعب ينشدُّ لصوته، لن يتحدّث، سيهزمُ شغفهُ ويئِدُ صوته من أن ينطـق لها " ام متعب " بنبرةٍ لا تطالها أنّةٌ توجِع صدرها، سيقاومُ الأمواجَ التي تخبُّ فيهِ وإخبابُ بحرِ شوقِه قاتـل، سيقاومُ كلّ ذلك حتى لا يفجعها كما أفجع شاهين من قبلها وهو لا يدري، فإن كان شاهين احتمـل فهي لن تستطِيع، سيصرعها ... آه! كيفَ يقدر على المقاومـةِ بعد كلّ تلك السنين؟ كيف!
طـال الرنينُ حتى انقطـع، عقدَ شاهين حاجبيهِ ومعه متعب الذي لم تتلاشى لهفته وهو يلفظ : مرّة ثانية .. شكله بعيد عنها أو ما انتبهت له.
تحرّكت إبهامُ شاهين بربكةٍ كي يعيد الاتصـال، زفـر زفرةً حارّة، وقد أدرك في قرارةِ نفسه أنّها انتبهت لاتّصـالِه لكنّها تجاهلته، لازالت غاضبـةٌ منه، لازالت مستاءة، وربّما لو كرّر الاتصـال أكثر من مرّةٍ لردّت بصوتٍ منفعـل .. كي يدرك متعب في النهاية غضبها، وبالتأكيدِ سببه ! . . . انتظـر حتى انتهى الرنين، ومن ثمّ ابتلعَ ريقه وهو يضعُ الهاتفَ جانبًا لينظُر لمتعب بأسى وهو يبتسم ابتسامةً مهتزة : شكلها نايمة .. هالفترة قاعدة تخبّص بنومها ترى.
استرخَت ملامح متعب فجأةً بإحباط، بينما مرّر شاهين طرف لسانه على شفتيه، لا يريده أن يُـثار هذا الموضوع الآن، أن يُذكـر اسمها ، لا يريد أنْ ينفكّ هذا الجرح وينزف في لحظـاتٍ كهذه، أن يبدأ موضوع أسيل بالبزوغ، وهو حتى لم يرتوي من عودتـه .. يدرك أنّ كلاهما يتجاهل لبعض الوقت، يتناسـى أنّ امرأةً بينهما لأنهما مشتاقان، لأنهما يريدان أن يكرّرا أيامهما السابقـة، وكأنّ شيئًا لم يتغيّر، لا يريدان الوجع الآن وبؤرةً أو ثغـرةً أو شرخًا في علاقتهما ! .. بالرغم من كونِ هذا الشرخِ متواجد، يا للأسى! متواجدٌ مهما حدَث وإن تجاهلا أو تصنّعا أن لا شيء قائم، هذا الشرخُ خفيٌّ حتى هذهِ اللحظـة، هذا الشرخُ نبَت، ولن ينقطـع مهما حاولوا، أبدًا !
استدارَ متعب وهو يتأفّف، أسندَ مرفقهُ على فخذِه ليضع خدّه أخيرًا على كفّه وهو يلفظُ بحنق : حظّي معفّن.
شاهين بابتسامةٍ مصطنعـة : لاحق عليها.
متعب ينظُر إليه نظراتٍ قاتمـة، لينطق بنبرةٍ ساخـرة : متى؟ هذا هو السؤال، متى ينتهي كل شيء وأحضنها !
شاهين : الحين أهم شيء إنّك بخير ورجعت الرياض .. كل شيء بعدين يتسهّل.
أعادَ ظهرهُ للخلفِ وهو يُخفضُ كفّه عن خدّه، أسندَهُ ليغمضَ عينيهِ ويهتفُ بنبرةٍ ضائعـة : طفشت من هالوضع.
شاهين يصمتُ لبعضِ الوقت، ينظُر لأنوارِ لافتـةِ المطعـم الذي وقفوا قريبًا منه، قبل أن يبتسم ويلفظ بشفافية : وقفتك مخالفة ، غيّر الموقف.
متعب يعتدِل ليبدأ بتحريك السيّارة دون أن ينبس ببنت شفـة، بينما أردف شاهين بتساؤلٍ هادئٍ وهو لا ينظر نحوه، بل لازال ينظُر للطريق، يبحثُ في مكنوناتِ ما حدَث، منذ البدايـة يريد التفاصيل التي توجعه هو أيضًا، أن يشاركه المعاناة : شلون عشت بباريس؟
متعب بملامحَ جامـدة، لم ينظُر إليه وهو يردُّ بنبرةٍ تائهةٍ يصحّح له : شلون متّ.
شاهين يعقدُ حاجبيهِ وقد شعر بأحشائهِ تكتوي، همسَ مكرّرًا بخفوت : شلون متّ بباريس؟
متعب يبتسمُ بسخريةٍ لاذعـة : عادي ، كنت أقطّ نفسي بأي شغل وأعيش.
شاهين بانزعاجٍ نظـر إليه : تدري إنّي ما أقصد هالجواب !
متعب بضيقٍ وملامحه تتعجّن بكفوفِ الذكريات : ما أبي أذكر الموضوع .. لا تسألني.
شاهين باعتراضٍ حادٍ بعض الشيء : أنا أبي أعرف.
متعب : وأنا ما أبيك تعرف .. فاحترامًا لي ابلع لسانك وانسى الموضوع.
شاهين بذهولٍ من حدّةِ صوتِه المفاجئة : بيضرّك بأيش؟ تكلم يا رجّال وريح عمرك شوي ، شوي وأحلف إنّك ما حكيت لأحد عن كل شيء صار من البداية لهالوقت ، وإلا كان أدهم درى باللي صار لك قبل سفرتك وسببها.
أوقفَ متعب السيّارةَ في إحدى المواقف، أدارَ رأسه إليهِ دون أن يترك المقود، وبنبرةٍ غاضبـةٍ بشكلٍ مُفاجئ وكأنّ الأسئلةَ المتعلّقـةَ بهذا الجزء من حياتِه تغضبه : لا تحاتي .. حكيت ، سبق وحكيت لعسكري اليوم عشان أقايضْ دلائل عن براءتك.
رفـع شاهين رأسه للأعلى قليلًا وهو يزفر، أغمـض عينيهِ وصدرهُ يرتفعُ بنفسٍ عميق، يُهذّب صوته، وكلماته، ومشاعره التي صخبَت : لا تحكي عشان تقايض، أو عشان معلومات يحتاجها أحد ... احكي عشان تشارك غيرك وترتاح.
متعب بضيقٍ يكره أن يكون ضعيفًا إلى هذا الحد : مرتاح .. لا تحاتيني.
شاهين يعضُّ شفته السُفلى، يكادُ يجنُّ من تصنّعه، لكنّ غضبه لم ينعكس على صوتِه الذي هتف بهدوءٍ ظاهريّ : كونك عرفت إنّ مالي يد بالموضوع، وكونك ضحكت وسولفت معي ما يعني إنّك مرتاح.
متعب : هذا مفهوم الراحـة عندي.
شاهين يبتسمُ بأسى وهو يدير رأسه دون أن يبعده عن ظهرِ المعقدِ الذي يستندُ عليه، نظر لوجههِ الذي يوجّهه للأمـام، ليلفظَ أخيرًا : مفهوم ثُلث الراحة ، الثلث الثاني أمّي .. والثالث والأهم تقولي بكل شيء.
متعب بصوتٍ حادٍ رغمَ خفوته، يشدُّ على قبضتيه بانفعـال : لا تعصّبني ..
شاهين يمدُّ يده نحو البابِ كي يفتحه وهو يلفُظ بابتسامة : معصّب وانتهى الموضوع أدري فيك.
فتحَ الباب ليردف وهو ينزل : انزل عشان نتعشى .. وبطلّع منك الكلام بعدين.
زفـر متعب بيأسٍ وهو يمدُّ يده للبـاب، وينزلُ من الجهةِ الأخـرى.


،


في وقتٍ سـابق ، سابقٍ لأوانِ الانفجـارات، الابتعـادِ عن البرود – للحظاتٍ متشتّتة -.. مزيجٌ من العتمـة، والكثيرِ من بهاراتِ الجمود، السكون، النظـراتِ الباردة .. تنظُر لوجهه المكبّل ببسمـةٍ مـا، ربّما ابتسامةُ أسى، أو سخريةٍ من نفسه، من وضعهما، من أمرٍ مـا ، أو ربما كانت ابتسامةَ " اللا شيء " .. لم تتعرفْ على تلك البسمـة من كلّ ابتساماتِه التي تعرّف عليها قلبها قبلًا وبعضها باغتها فيها بخداعِه.
أمـالت فمها دون أن تنبُس ببنت شفة، بينما استدار إليها سيفْ بِدهـاليزِ الغربـةِ في شفاهِه، بتلك الابتسامةِ وبعنفوانِ العتب، وهو يلفظُ بخفوتٍ متسائلٍ بينما الدفتـر المُصفرُّ بجفافِ الخريفِ لازال قابعًا بسكونِ ألوانِه في يديه، والحبرُ الأسودُ اغتـال أسطره : يعني الحين أنتِ تحاولين تبنين في نفسك الشخصية الشرقية؟
ديمـا تنظُر لعينيهِ ببرود، شفتيها الجامدتانِ تباعدَت عنها رقّةُ المظهـر " عفويًا " حين تفغر فمها بربكةٍ في قُربه، ما إن تراه أمامها حتى تبهتُ كصبيّةٍ في بداياتِ الشغف، تبهتُ وكأنّها تحاول أن تصدّق أنّ هذا هو رجُلها، تراه كتمثالٍ إغريقيّ، أو ربّما سمـاء، تمتدّ، تمتدُّ بروعتها ولا تنتهي أبدًا.
كلّ ذلك كـان قبلَ أشهـر، والآن كلّه غـادر، ولم يتبقّى سوى جمودِ شفتيها/ملامحها/قلبها من بينِ أضلعها. أردفَت الجمود إلى صوتِها، لتهتفَ بنبرةٍ خافتـةٍ تداعـى فيها كلّ شيء عدا السخرية بحلّةٍ رقيقة : الكبرياء.
ابتسمَ دون تعبير، ومن ثمّ أعـاد نظراته للدفتـر، لتتّسع ابتسامته بشكلٍ تلقائي، ويهمسَ بحيرة : بالوقت هذا ! من قبل يعني ما فكّرتي بهالجانب الشرقي على قولتك؟
ديما تلمُّ شفتيها بتعبيرٍ باهتٍ عن الملل من هذا الحديث : صحينا.
سيف بسخريةٍ يرفعُ أنظارهُ نحوها : وحجّتك حملك؟ بكذا أنتِ ضعيفة وبس إذا بالنسبة لِك هذا هو اللي كـان لازم يخليك أقوى.
ديما بصوتٍ رقيقٍ أسعفـه الزيف : كـان تكدّس.
سيف يضـع الدفتر على الطـاولة، مسح على سطحِها وكانه يمسـح أثار الغبار (كلماتِها) التي تناثرَت في خضمِ كتابتها، يمسحُ أحجياتِ عينيها التي انسكبَت وهي تشرحُ حقدها، وحبها، وكل التجانساتِ المتناقضـة، يمسحُ المشاعر التي تساقطَت وهي تحاول أن تجعلها ثابتة ، فقط على الورق.
تحرّكت خطواتُه ليقتربَ منها ووجههُ هذهِ المرّةِ كـان أكثر جمودًا حتى من وجهها، ربّما لم يعُد يريد أن يصبر الصبـر بمعناهُ المعتـاد، يريد الصبـر ، لكنْ بطريقته، بطريقة سيف الذي يجعلها تنفجـر، بركانًا مليئًا بالحب، وحتى الحقد، والشغف وكلّ شيء! بطريقةِ سيف، الذي عشقته قبلًا .. يريدها بركانًا منفجرًا بكلّ مشاعرها، وليسَ خاملًا ، ليحترقَ هو أسفله.
وقفَ أمامها مباشـرة، أخفضَ وجههُ إلى وجهها المرتفـع يثقةٍ وكبريـاءٍ أعمـى، مرّر شفتيه على لسانِه، وهو يحفرُ نظراتهِ في عينيها، ليهمسَ أخيرًا وأمواجُ أحداقها تعصفُ بأهدابِها المنعكفـة، أمواجُها التي لا يراها، تجعلها خفيّة ، وهو لا يريد هذا الخفاء ، لم يعد يريد أن يصبر إلا على انفجـار : وأنا طفشت.
ديما ببرودٍ يلتوِي بها شفتيها : شيء متوقع لإنسان تعوّد على السمع والطـاعة.
سيف يتحلّى بالبرودِ كمـا تفعـل : صح!
ديما : لا عاد تمثّل الصبر يا حبيبي ، أنا صرت مثل ما تبي ، بسمعك وأطيعك ، وأنت كون بطبيعتك ... ما أظن الحب يمنعك ، ماهو من البداية عجز يمنعك؟!!
سيف وصدرهُ يذبُل باستفزازِها له رغمًا عنه، هتفَ من بينِ أسنانِه : بكون على طبيعتي .. يا حبيبتي.
ديما تتراجـع للخلفِ برفق : كذا تصير الحياة أحلى .. ملّيت من تمثيلك .. تقدِر ترجع مرتَك مثل ما تبي وتقدر ...
قاطعها سيف بجمود : طليقتي.
ديما تهزُّ رأسها بالإيجاب : طليقتك .. رجّعها عشان ولدك ترى ما يهمني ...
ابتسمَ بسخريـة ، وسرعـان ما انفجـر ضاحكًا ولم يستطِع منع نفسه، مدّ يده نحوه وهو يراها تنظُر لهُ بجمودِها ذاته، طوّق خصرها بذراعه، ومن ثمّ جذبها إليه لتصطدمَ بصدره، بينما يلفظُ صوتُه بتحدّي : ما يهمك؟ مثّلي إني ما أهمك يا ديما بكل شيء إلا بهالنقطة .. إلا بهالنقطة ..
ديما تبتسمُ ببرود : لا تكون واثق كذا.
قرّب وجههُ من وجهها، لتستقرّ شفاهُه أخيرًا على وجنتها، برقّةٍ قبّلها ليودِع إلى بشرتها تكذيبهُ لها، وتصديقه لرعشةٍ سرَت في جسدها ، الحقيقة التي تُظهرها ملامحها وجسدها حين يكون قريبًا منها ، هُنـا فقط .. تَصْدُق، وفي بقيّة التعبيراتِ اللسانية تكون كاذبـة، التعبيرُ الوحيد الذي كـان يدرك من خلاله أنها لازالت تحبّه ، مهما كـانت جامدةً وباردةً معه، ومن خلاله لازال ينتظر بأمل .. إلا انّه الآن فقدَ صبر الانتظـار، ويريد أن يبادر بآخر، بطريقته القديمة نفسها.
ضمّها إليه، ومن ثمّ لامـس بشفاهِه أذنها، هامسًا بخفوت : ودامك الحين تمشين عالسمـع والطاعة ، فأنتِ بتريحيني من شقـى كثير .. أوله رفضك لقراري الجديد! . . . * أردف بعد ثانيتينِ من الصمت * قبل بدايـة العام الدراسي الجديد .. احرصي إنّك تكونين ربّة بيت ... ربّة بيت وبس !
لم يفتْهُ تصلّب جسدها بصدمـة ، لم تكُن غبيّةً حتى لا تفهم قصده، لم تكن ساذجـةً حتى لا تنتفضَ مبتعدَةً عنه بحدّةٍ بعد أن دفعتـه عنها .. نظـرت لوجهه بصدمةٍ غاضبـة ، لتلفظَ ببهوتٍ غير مصدّق : ماني تاركة شغلي !
ابتسم ، كـانت ابتسامته باردةً لعينيها، لكنَها كـانت من وراءِ قنـاع البرود – منتصرة -، أوّل انفجـار، أوّل أسلوبٍ حادٍّ اشتـاقه، إن كـانت تركته بسببِ سيف القديم ، فستعودُ إليه من جديد .. كما هي، بديما ذاتها، وعن طريقِ سيف القديم ذاته!
ردّ عليها ببرودٍ وهو يرى شفتيها ترتعشان من انفعـالٍ بدأ يجري على جسدها من الرفضِ الغاضِب : عاد هذا اللي أبيه .. ومنتِ معارضة زوجك وإلا؟!
ارتعشَت كفوفها بصدمـة، واتّسعت عيناها أكثر وهي تفغر فمها ، لا يمكن ! ظنّت أنه قد تجاوزَ هذا منذُ زمنٍ بعيد، ولن يتجرّأ في يومٍ ما على التطرّق إليه مهما كـان قاسيًا ومهما عاد لطبعِه السابق ، ففي النهاية هو رضي بالأمر على مضض ، في الوقتِ ذاته الذي كـان فيه ببرودِه وقسوتِه.
صرخَت ولم تستطِع أن تقاومَ لحظةَ انفعالٍ وقهرٍ من قرارهِ الذي عاودَ يريد أن يضطهدها بِه كما كان سابقًا : ولا تحلم حتى بهالشيء!!! أنا حتى ما كنت مكمّلة سنة .. أي وقاحة تظن فيها إنّي بسمع لسخافاتك !
سيفْ يُميل فمه ببرودٍ وهو يرمقها بنظرةٍ متعاليـة : بتسمعين رضيتي أو لا، إذا كنت قبل سكتّ فهو بمزاجي ، والحين مزاجي رجـع وبغى إنّك تظلين ببيتك وتكونين زوجـة وأم وبس ... يا مـــــــيّ.
ارتعشَت بغرابـةٍ في بادئ الأمـر، شتّت عينيها باستنكـارٍ لهذا الاسم الغريب .. الغريب ! ... شهقَت بصدمةٍ فجأة وهي ترفـع كفّها إلى فمها، توسّعت عينيها حتى كـادَت محاجرها أن تلفظَ أحداقها دون تصديق ... هذا الاسم عاد! كيف؟ كيف؟! ... تقدّم إليها الاستيعـابُ شيئًا فشيئًا ، سيفْ الآن عادَ يريد أن يخنقها في هذا البيت، ألّا تعمـل .. كما أنّه عـادَ يناديها بالاسم القديم .. أو اللقبِ بالمعنـى الأصح !
عضّت شفتها ، وفي لحظةٍ خاطفـة، كـانت ديما التي ولّدت فيها الكبرياءَ الرقيقَ السابق والذي كـان يرفضُ هذا الاسم بعد استسلاماتٍ كثيرة تنهض، بعدَ مضيٍّ زمـنٍ منه ، لتستفيق في بادئ الأمـر ، وتتمرّد بعملها ، ومن ثمّ يتلاشى الاسم فجأةً، دون سابقِ إنذارٍ ربّما لأنها كـانت أقوى وقتها، وأرغمته بطريقةٍ غيرِ مباشـرة على الاحترام.
في لحظةٍ خاطفـة، انتفضَت حواسها، لترمقـه باحتقـار، وتتشنّج شفاهها بتمرّد ، لافظـةً بحنق : تخسي.
أمـال فمه بحدّة، نظراته الباردةِ كـانت تخفي تيّاراتِ الرضا ، الانتصـار بطريقةٍ لم يتوقّعها قبل الآن ، كيف لم يخطر على بالهِ أنّها لن تعودَ إلا بسيفَ القديم .. لن تعودَ إلا بهذهِ الطريقة .. أن تنفجـر بينهما تحدّيات ، أن يكون الباردَ المتعالي، وهي المدرّعـةُ بالتمرّد، المسلّحةِ بالحرّيةِ التي تريد .. والفرق الذي سيكون ، أنّهما كلاهما، يحبّان بعضهما ويدركان أيضًا .. فهذِ المرّة سينعكس كلّ شيء بشكلٍ إيجابي ، بعكسِ المرّةِ السابقة.
تحرّك مقتربًا منها، بينما رفعَت هي ذقنها بعلياء وهي ترمـقه بالاحتقـارِ ذاته، وقفَ ملتصقًا بِها، لم تكُن تفصل بينهما سوى خطوتينِ خلقتها هي حين تراجعت بصدمةٍ للخلفِ بعد أن دفعته، مرّر أحداقـه على تقاسيمِ وجهها الناعمـة، ومن ثمّ رفـع كفّه أخيرًا، ليقبضَ على ذقنها، ويرفع وجهها أكثر، لافظًا ببرودٍ أطلـق أنفاسه كزفـراتِ الجحيم الساخن ، مُذيبًا بشرتها وصاهرًا لخلاياها الباردة : شويّة احترام يا زوجتي العزيزة .. لا ، أبي كثير منه ، وهذا أمـر مني ، مرّة ثانية لو تقلّين أدبك صدّقيني ما بتشوفيني هادي مثل الحين.
عضّت شفتها بحقد، قبل أن يُغطّي نظراتها فجأةً بجلدِه الأسمـر، لم تعُد ترى شيئًا سوى جزءٍ من أنفـه وخدّه لقبلةٍ داعَبت أرنبـة أنفها الصغير، انتفـض وجهها مبتعدًا عنه بنفور، بينما أحـاطَ سيف كتفها وهو يلفظُ بابتسامةٍ باردة ويمشي لتمشِي معه قسرًا وملامحها لازالت باهتةً لا تصدّق الانقلابِ المُفاجئ الذي حدَث : تعالِي .. نسيت أورّيك مفاجئتي الخفيفة.


يُتبــع ..


كَيــدْ 21-07-16 11:27 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


أعـادَ ظهرهُ للخلفِ وهو يزفُر زفـرةً طويلة، لم يعتَد قبلًا أن يأكل في وقتٍ كهذا وغالبًا ما يكون عشاءه بحدودِ التاسعـة أو قبلها، نظـر لها وهي تقعدُ في مقعدٍ منفردٍ بعدَ أن أنهَت تنظيفَ الصحون، وضعَت ساقًا على أخرى وملامحها قد استرخَت وكأنّها في الحقيقةِ لم يُغضبها صراخـه في وجهها بحجمِ أنّه طلبَ منها أن تطبخ له شيئًا ومن ثم " سحَب عليها "، فهي كما يبدو قد اعتادَت تراشـق الكلمـاتِ العنيفةِ والنبرةَ الحـاد بينهما بعد أن تبنّتها قبله.
أمـالَ فمه وهو يلوِي ساقيه على بعضهما ويمدّهما فوقَ الطاولـةِ البيضاويّةِ بفوضويّة، لافظًا بصوتٍ كـانت ملامحُ العبثِ فيه غيرَ واضحـة : جيبي لي مويا.
نظـرت لهُ باستغراب : تقولي أنا؟
أدهم بسخرية : لا للجدار اللي وراك ، أجل لمين؟
لوَت إلين فمها بضيقٍ وهي تُخفض ساقها وتمرّر أحداقها على ساقيه بضجر، وبعناد : معليش مشغولة أدور لي على شيء أتسلّى فيه .. المويا ما يحتاج طبخ يجهلون فيه الرجال أمثالك أنت والمتخلفين.
رفـع حاجبه الأيسر، وقبل أن يردّ كانت هي تسترسل بوقاحة : وبعدين مو من الذوق ترفع سيقانك ذي على الطاولة كذا .. استغفر الله أنا ربي وش بلاني فيه ؟!!!
أدهم يبتسمُ وعينيه تُضيئان بمكر، نطـق باستفزاز : وأيش الأشياء الثانية اللي أسويها وما تعتبر من الذوق؟
ضيّقت عينيها وكأنها تتذكّر الأمور السخيّةَ بهمجيّةٍ كـانت تراها عليه، أمـالت فمها ومعه رأسها قليلًا، ودون أن تنظُر إليه كانت ترفعُ كفّها وتعدُّ بأصابعها بنبرةٍ متقزّزة : أول شيء ، دايم تطلع وتتركني بروحي وكأني أثاث عندك .. ثاني شيء * نظرت إليه بقهرٍ قبل أن تردف * أوقات تطلع من الحمـام من غير لا تغطّي صدرك .. قليل أدب . . .
كـاد يضحك في تلك اللحظـة، لكنّه تصنّع الجمودَ وهو يعدّل من ساقيه فوق الطـاولة، بينما عينيه تراقب شفتيها وهما تنفرجـانِ بشكلٍ يسحره، تحرّكهما لتتبايـن درجـاتِ وضوحِ الوشمِ الصغير بجانبهما، مُكمـلةً بحنق : ثالث شيء ، أسلوبك في اللبس ماهو عاجبني ... طول عمري أقول بتزوج لي واحد رزّة يكشخ بالثوب والغترة كثير بس أنت طفّشتني بملابسك.
أدهم يرفعُ حاجبيه وهو يردّ بتهكمٍ دون أن يرفع أنظـاره عن نعومةِ شفتيها : الحين هذا له دخل بالذوق العام يا الذكية؟
إلين تلوِي فمها قبل أن ترد ببساطة : لا بس ذوقك بعد ما يعجبني.
أدهم بسخرية : كملي بس كملي يمكن أتعدّل على يدك.
إلين تُكمل دون أن تبـالي بسخريته : رابعًا . . .
قاطعت كلمـاتها بصمتٍ مُفاجئٍ ما إن انتبهتْ لنظراته التي لم يرفعها أبدًا عن نقطـةٍ واحدة، اكتسَت الدمـاءُ ملامحها، ودون أن تشعر وجدَت نفسها ترفعُ كفّها لتغطّي فمها وهي تلفظُ بعصبيّة : الرابعـة يا وصخ نظراتك المعفنة هذي ... لا تقعد تناظر فمي كذا !
رفـع أدهم نظراته ببطءٍ إلى عينيها وهو يكتـمُ ضحكته، يحبّ استفزازها، يحبّ أن يراها تحادثه وتتكلّم بتفاوتِ مزاجيّتها، كـان يكره النفور الذي يراهُ كثيرًا حتى في محادثاتهما العابــرة، لكنّها الآن بدأت تسترسلُ في محادثاتٍ حادّةٍ كالعادة، ضجرة، تزيدها فتنـة، لكنّها محادثاتٌ تتخللُها حميميّةٌ مـا، وليسَت محض مواضيع يتناولها الغربـاءُ بينَ بعضهم .. محادثاتهما أصبحَت أكثر خصوصيّة، بينَ اثنين علاقتهما ليسَت مجرّد علاقـةٍ عابـرة، لذا هو يستمتع، يحبّها حتى وإن أغضبته.
أدهم بخفوتٍ بـارد، أبعدَ ما يكون عن البرود، لكنّه أراد في هذهِ اللحظـة أن يستفزّها أكثر : وش أبي بفمّك الموبوء بوقاحتك ذي ... نظرتي خاصّة لعنصر أنثوي فاتن .. ماهو لعنصر حيوي من ضمن الجهاز الهضمي وبس.
فهمَت إيحاءه، وتضاعفَت حمرةُ ملامحها لتضغطَ على شفتيها بكفّها قبل أن يكون بأسنانِها وهي تُدخلها للداخـل في صورةِ دفـاعٍ عنهما من هذهِ النظرات، منذ البدايـة لم تقصدْ مصطلـح " الفم " وتدرك أنّه فهمَ ما أرادته من قولِها، لكنّه تصنّع الغبـاء ليُحرجها وحسب. هتفت بصوتٍ يختنقُ بإحراجها وكفّها بعد أن يصطدم بِه : وقح!
أدهم بشفافيّةٍ فقدَت بسمتها التي كـان يُعتمها قبل أن تُضيء : مُغريـة ، بس الله كريم.
أشاحَت وجهها وهي تُغمضُ عينيها، وكمـا كان الخجلُ يشتعل فيها كـان الغضبُ أضعافًا لأنه ينجح بإضعافها بأن يسلك هذا الجانب الذي من الطبيعيّ أن تكون فيه متقوقعةً وليسَ كمثلـه، فهو رجلٌ في النهايـة.
زفـر زفـرةً طويلـةً متكاسلَة وهو يفرقع أصابع يديه، ومن ثمّ صلبَ ظهرهُ لينطق بكلماتٍ متباطئة : خلصتي تعدادك صح؟
لم تردّ عليه ولم تنظُر لهُ حتى، ليبتسم رغمًا عنه، وخجلها يُشعرهُ باللذة .. لكنّه أخفى مشاعره يسترسل في الحديث : أولًا ، إذا تقولين إنّ طلعتي الدايمة وتركي لك بروحك بالبيت مستفز ، وإنّك مثل الأثاث عندي ... فمن اليوم أنتِ والجدار واحد.
اتّسعَت عينيها بصدمـة، لم تستطِع أن تمنـع نفسها من توجيه نظراتها إليه وهي تخفض كفها عن فمها الذي فغرته غير مستوعبـة ما قال، بينما أردف أدهم ببرودٍ مستفزٍّ غير مبالي بنظرتها تلك : ثانيًا ... ممممم أطلع من الحمام بدون ما أغطي صدري؟
بدأت تهزُّ رأسها بالنفي بصدمة، وقد فهمَت تمامًا ما كـان يرمي إليه منذ البدايـة بأن طلب منها تعدادَ ما يستفزّها فيه .. العناد! فقط العنـادُ كي يستفزها أكثر كما تعانده دائمًا .. لكنّ أدهم لم يهتمّ بهزّها لرأسها، كتمَ ضحكته وهو يتقدّم بجسدِه للأمـام حتى يتحرّر من المساحـةِ الضيّقة، ومن ثمّ أخفضَ كفيهِ ليُمسك بطرفِ " تيشرته " ويرفعه أخيرًا مع قميصِه الداخليّ في لحظةِ اعتلاءِ شهقتها المصدومة، خلعه لتصرخَ رغمًا عنها وهي تُشيح وجهها جانبًا وتُغمضَ عينيها بغضب : وقــــــــــــــــــــــــــــــح ، وقـــــح وتعدّيت الوقاحة بمراحـل. الله ياخذني الله ياخذني أنا وش سوّيت بنفسي يوم وافقت على واحد حمـــار وهمجي مثلك أنا وش سوّيت بنفسي !!!!
هذهِ المرّة انفجـر ضاحكًا، لم يستطِع أن يكتم ضحكاتِه التي كـان يتحفّظ عن إبرازها منذُ البداية، غـرق فيها وهو يحاول أن يكمـل بقيّة ملاحظاتها ويعمـل بالعكسِ منها، لكنّه لم يستطِع، في حين لم تنتظر هي أكثـر وترى ما يضاعف غضبها، إذ وقفَت بحدّةٍ وهي تريدُ أن تذهبَ إليه وتضربه لكنّ إحراجها غلبَ إرادتها فاختـارتْ أخيرًا أن تهروِل وتصعَد تاركةً لـ " همجيته " أن تكون بعيدةً عنها وشتائمها لا تتوقّف حتى تلاشى صوتُها عن أذنيه.


،


دخـل منزله متأخرًا، كـان يهرب، يهربُ منه إلى أقصـى بقاعِ الريـاض، يهربُ بانفعالاتِه، بغضبِه، بقهرهِ والحرقـة التي تكادُ تفتكُ بِه ، يهربُ من المنـزل ومن أخته! وكأنّه خشيَ في لحظةٍ أن يهدرَ انفعالاتَه عليها، وهو داخليًا، يدرك أنّ أخته أنقى من أن تتساهـل في أمرٍ كهذا . . كيفَ وصلت الصورة لإبراهيم؟ صديقه - السابق - والذي يدرك أنّه دنيءٌ كفايـةً كي لا تسقطَ من ذاكرتِه ملامح امرأةٍ فاتنة ! .. لكنّ أخته طفلـة، طفلةً لم تتخطّى أعتاب المراهقةِ بعد، إلا أن نضجَها الأنثوي لا يوحِي بذلك، فكيفَ يستطِيع الآنَ جعله يمحي صورتها من عقله؟ أن يمنعه من تذكّر ملامحها بشكلٍ عابـر، من التفكير بها!!
احترقَ وهو يخطو على عتباتِ الدرجِ الثلاث، كيفَ وصلت الصورة ليديه؟ هذا هو السؤال الذي سيقلّبه على صفيحةٍ ساخنـةٍ اليوم، لن يستطِيع النوم، حرقـةً، غضبًا، وخوفًا على أخته ! . . زفـر وهو يتّجه لغـرفته، المنزل المتواضـع يغرقُ في الظـلام والهدوء، حمدَ ربّه لذلك فهو لا يريد أن يصطدمَ بأحدٍ الآن وتحديدًا هي. وصَل لبـابِ غرفته، وفي تلك اللحظـةِ ذاتها كـان صوتٌ ناعمٌ يصلُ مسامعه ليغمـض عينيه فجأةً بخوف، نعم خـاف عليها الآن منه!
أختـه بهدوءٍ ناعم، لا شيء يمرُّ كمـا يريد حتى في أبســط الأشياء كعدمِ التقائه بها : رجعت؟
نظـر لأقدامـه بصمت، بينما اقتربَت منه بعد أن كـانت واقفـةً عند بابِ غرفتها وهي تردفُ بحب : وش عندك تتسحّب مثل الحرامية؟ على بالك ما راح أحس فيك مثل كل مرة؟
سعد بهدوءٍ أقرب للرجـاء : ارجعي غرفتك لجين.
لجين تقفُ خلفه مباشرة، وضعَت كفيها على خصرها وهي تقطّب جبينها بدلال : شدعوى يا حلو ليه هالصوت المعصب؟
ابتسم رغمًا عنه، من بينِ الضغوطـاتِ يبتسم، رغمَ كونه الآن توقّع ألا يستطِيع ذلك أبدًا .. استدار على عقبيه ليقابلها بجسدِه بينما لفظَت بنعومتها الهادئةِ المعتادة : اليوم تأخرت كثير ، معقولة لهالوقت تشتغل؟
سعد باختنـاق، يشعر كم أنّه دنيءٌ كي يكذِب على عائلته بهذا الشكل وهم لا يعرفون ماهي أعماله تلك بالضبط : هذي الدنيا.
لجين بنعومة : يا فديتك ، منت مخلينا نحتاج شيء كل شيء تسويه عشاننا .. حتى أبسط الأشياء اللي أقولك بلاها ترفض إلا توفرها لي.
ضحكَ بخفوتٍ رقيقٍ وهو يضعُ كفّه الحنونـةَ على رأسها وقد أدرك ما تقصد : أكيد طبعًا ، ما يصير بنت وما عندك خرابيطكم ذيك.
لجين تضحكُ برقّة : تجيبها لي وتقول عنها خرابيط؟ والله جد كان ممكن أكتفي بمرطّب وواقي شمس وكم شغلة بسيطة، بس أنت تبالغ عاد.
مسَح على شعرها بحنان : محسستني إن الحـال صعب، الحمدلله ربي منعم علينا ومحنا عايشين بهالضيقة اللي تمنعك من هالأمور اللي تحبينها أكيد .. وبعدين أبيك تظلين حلوة .. أخاف يجي يوم وتصيرين شينة بعدين ترى أتبرّى منك.
لجين باختناقٍ تغصُّ بِه رغمًا عنها : بس ما أحب أشوفك تضغط على نفسك بهالشكل وترهقها عشاننا.
سعد بجدّية : أنا رجّال البيت ... كم مرة قلت لك لا عاد أسمع هالجملة منك؟
لجين تُشتت عينيها عن ملامحـه الهادئـة، والتي كـانت أكثر سكونًا في الظـلام، همسَت كي لا توقظَ العائلـة النائمـة في جحورِهم : بكرا تطـلع معي .. مالي شغل أبي أتمشّى وياك من زمـان ما تونّسنا مع بعض.
خفَت صوتُه ليخفضَ ملامحه معهُ حتى يقبّل رأسها أخيرًا : أبشري بعزّك يا أخوك.
بالرغمِ من كونِه في هذهِ اللحظـاتِ خائفٌ عليها، فتلك الصورة خلقت في نفسِه ذعرًا وتساؤلاتٍ جمّا ، لكنّه لم يستطِع أن يرفضَ لها ما تريد.
وحتى هذهِ اللحظـة، وبالرغم من تواتر الأشهـر ، وبالرغم من كونِه كثيرًا ما يرفض الأموال التي يقول لهُ سالم " انها من حقه " - هه - ، إلا انّه كـان مرّاتٍ يأخذها مقتضبًا، ليودعها في أيّ جهةٍ خيريـة ، حتى لا يُترف عائلته من مالٍ " حرام " ، لذا كلّ ما يريدونه .. يكون من فرطِ عرقه هو.


،


عـادَ للمنـزلِ في وقتٍ متأخرٍ للغـاية، لا تُسعفـه الكلمات ليصف سعادتـه المشوبـة بقليلٍ من الحزن، أو كثيرٍ ويتجاهله! حتى الآن يتجاهلـه ، يبتسم ، لازال يبتسم منذ ودّعـه أمام الفندق الذي يقطـن فيه، يُغيّب كل شيءٍ ماضي وكلّ شيءٍ سيكُون مستقبلًا لأجـل هذهِ الفرحـة التي جاءت من معجزة.
كيف سيقولها للنـاس ، معجزة ، معجزةٌ أعـادت أخي ، معجـزة ، أن عـاد من مسمّى ميّتٍ لحـي ، وسيصطبر حتى يكون ذلك علنًا ، المهم الآن أنه بخير ، وأن يبقى بخيـر بأيّ ثمن . . . دارَ في الصـالةِ لوقتٍ تائه، أغمـض عينيهِ بقوّةٍ وهو يتنفّس بعمق، يبتسم، يبتسم ، ويضحكُ ضحكـةً خافتـة ، يزفـر هواءً ساخنًا ومعـه حُزنُ عزاء، وحزن ضيـاع، وحزن سنين، يزفـر رحلاتِ الوحدة التي كـانت تسحقه، يزفـر أيّامًا ولحظـاتٍ تذَكّره فيها فأضنـاه الشوق .. الآن لن يشتـاق ذاك الشوق المحموم ، لأنّه عـاد.
تمتمَت شفاهُه بحمدٍ عميـق، الحمدُ لك يا الله حتى ترضى، الحمدُ لك يا الله بحجمِ السمـاءِ التي ترانِي الآن بحلكتها أدورُ بفرحٍ على ضريحِ الحزن، الحمدُ لك ملء الأرضِ التي تُطوَى تحت أقدامـي والآن أعشقها ، لأنّها لم تلتهم جسَده !! ... سجَد أخيرًا ، وعـاد يشكُر الله بعمقٍ ويحمده، استطـاع الآن أن يسجدَ ويبتهلَ بالشكر والحمد، وبالدعـاء ... فالآن لا يعكّر صفوهما شيء ، لكنّه يدرك في قرارةِ نفسِه ، وإن غلّف إدراكـه بالتجاهل ، أن هناك أشيـاءٌ كثيرة ، أمورٌ لا تنتهي بمحضِ سمـاحٍ وإدراك .. إلّا أنه بأنانيّةٍ لم يستطِع كبحها، تمامًا مثل متعب .. تجاهلا معضلة أسيل، لبعض الوقت.


،


وصـل إلى مسامعها صوتُ أذانِ الفجـر، تخترق الأصواتُ بنغماتِها وموجاتها ظـلام الغرفـة بينما الضوءُ الخافتُ يُحجب عن طريقِ الستائرِ المُعتمـة . . ومن بين موجـاتِ صوتِ المؤذنِ كـان صوتُ المـاء يتجانسُ معه إلى مسامعها، لتعضَّ شفتها ما إن أُغلِق مُعلنًا انتهاءهُ من الاستحمـام وسيخرج الآن لا محالة.
أغمضَت غزل عينيها بقوّةٍ وهي تحاول أن تُرخي جسدها المتشنّج بربكتها، لم تستطِع طيلة الليل أن تنـام، صوتُ أنفاسه المنتظمة بجانبها كـان يُرعشها، الانفعـالاتُ تهزّها وهي تلمحُ نفسها بعيدة، وآخر ما بينهما قبلـةً فقط، من بعدِها وجَدت نفسها تصدُّ وتحـاول أن تصيرَ أقوى، تحاول أن تغلّف شغفها بِه بإطـارِ عادةِ الفراق التي ما بدأت حتى الآن، تحاول أن تعتـاده، منذ الآن، وتكتفي بالذكرياتِ التي كانت.
فُتِح بابُ الحمام، بينما كانت هي قد هيّأت نفسها لخروجه ونظّمت أنفاسها كي تبدو نائمـة، نظـر لها سلطـان نظرةً خاطفـة، ومن ثمّ اقتربَ وهو يضعُ المنشفـة على كتفِه العارِي، وقفَ قريبًا منها لينسابَ صوتُه الرجوليّ الذي يهزّ أعماقها برقّتهِ وخفوتِه : غـــــزل ،
ارتعشَت أهدابُها في جُنح الظـلام الذي لم يكُن كافيًا ليُخفي تلك الرعشـة، ابتسمَ وقد أدرك تمثيلها، ومن ثمّ أردف بخفوتٍ دون أن يتطرّق لموضوع التصنع هذا في نومها : أذّن فجـر ، بمشي الحين للمسجد مو تنامين مثل ما تسوين غالبًا.
فتحَت عينيها ببطءٍ وهي تزفُر رغمًا عنها، بينما تحرّك سلطـان مبتعدًا، لا يريد أن يضغطَ عليها أكثر، لذا لم يردف شيئًا وهو يفتحُ الخزانـة ليخرج ملابسـه، عـاد للحمـامِ كي يرتديها، ومن ثمّ خرج في اللحظـة التي كانت هي قد أسرتْها أفكارها، بؤسها، ضعفها الذي تخاف أن يتفاقـم تجاهه ، لذا أوّل ما سمعَت صوتَ المفتـاحِ يُدارُ من يدِه كانَ صوتُها يتمرّد على حنجرتها هامسًا بخفوت : سلطـان ، تراني للحين مصرّة على الطـلاق.
تنهّد بهدوءٍ ويدهُ تستريحُ على المقبـض، أخفضها تدريجيًا، ومن ثمّ استدارَ بكامـل جسدِه دون أن يقتربَ منها خطوة، لامـس ظهرهُ البـاب، قبل أن يكتّف ذراعيه بصبرٍ وهو يلفُظ بجمود : وراي صلاة فجـر ، فلو بتكثرين حكي خليني أطلع الحين وبعدين أرجع لك.
ابتلعَت ريقها بصعوبة لتجلسَ وتوجّه أحداقها نحوَ هيئتِه التي كانت معتمـةً في الظلام، وبضيقٍ من استخفافِه بالموضوع : عامـل الموضوع بجدّية واللي يعافيك.
سلطـان يرفـع حاجبيه : وأنا جدّي صدقيني ..
غزل بأسى : أجل طلّقني.
سلطـان : ما اقتنعت بأسبابك.
غزل باختنـاق : مين قال إنّ هذيك السالفة هي السبب؟
كانت تقصدُ الاغتصـاب الزائف الذي تدرك تمامًا أنّه ظنّه الحائلَ بينهما، وكم يؤلمها ذلك أكثر! يؤلمها بحجم حقارتها ولؤمها.
سلطان بنبرةٍ متباسطة : ممكن نعرف أسبابك طيب؟ قوليها يمكن تقنعني !
أغمضَت عينيها وصدرها يضطربُ بعنف، أقسـى سؤال، والأقسـى منه إجابته، عليها قبل أن يكون على سواها ، أقسـى سؤال، وأقسـى تفسيرٍ قد يطلبه منها ، كيفَ تستطِيع قولها له؟ كيف؟!! .. همسَت بغصّة : ما أبي أقولها ، أفضّل ننفصل من غير لا تدري عنها.
سلطان يخفضُ ذراعيه عن صدرِه وقد احتدّت ملامحه بغضبٍ مفاجئ، ظهـر صوته إليها محذّرًا بحدّته : لأنّها تافهة ، ونابعة من أمّك صح؟ مافيه غير هالجواب ما جاك هاجس الطلاق إلا بعد ما شفتيها.
غزل تهزّ رأسها بالنفي : لا . . .
سلطـان يقاطعها بأن استدارَ للبـابِ وصوتُ الإقامـة يُعلنُ تأخّره اليوم عن صلاة الفجر، لفظَ بعجلةٍ وهو يفتح البـابَ لتسرقهما إضاءةٌ من الخـارجِ جعلت هيئته هذهِ المرّة واضحـةً لعينيها : ما تهمني إجابتك ... وسواءً كان لأمّك دور ، أو من عقلك الغبي ، فماني مطلّقك . . . قلتها لك، هالمرة أنا اللي أبيك ماهو أنتِ وبس.
ليخرج، وآخر كلمتين تجعلُ موقفها أكثـر غباءً " ماهو أنتِ وبس "، جملـةٌ تكفي ، ليوصل لها إدراكه بأنها داخليًا لا تقوى الفراق، بأنها داخليًا تريده، لكنّ كلّ شيءٍ ضدّها، المـاضي وضياعها.
همسَت بضعفٍ وهي ترتمِي للخلفِ على ظهرها وتنطلقُ الكلمات من حنجرتها بغصّة : وش يعني إنّك تبيني أنت؟ .. يا الله وش سوّيت؟ وش سوّيت وليه ما اخترت أبعد عنه لمّا خيّرني ... ليه كنت بهالأنانية لييييه؟


،


سلّم بعد الإمـام، ومن ثمّ استغـرق بأذكـار ما بعدَ الصلاةِ وعينيهِ تتحرّكـان ببطءٍ مراقبـةً المسجِد الذي يحتضن أفرادًا يمكنه عدّهم في أقل من عشـرِ ثوانٍ، نصفهم خرج بعد أن سلّم الإمـام مباشرة، بينما النصف الثاني كـان من هم أمامه، وكثيرًا ما يكون هذا المسجدُ خاويًا في صلاة الفجر بصورةٍ مؤسفـة.
نهضَ من قعودِه بوضعيّة التشهد الأخيـر الذي اعتـاد أن لا يعدّلها بعد السـلام، اعتـادَ فقط ، وهنـاك من هو مثله، شخصٌ علّمه بنفسه الكثير .. الكثير ليصبحا متشابهين شكلًا ومضمونًا في جوانِب عديدة ... ابتسَم ما إن اقتحَم تفكيره فجأة، كـان يخرجُ هو وآخرٌ كـان يعرفـه معرفـةً عابـرة كونه يسكُن معه في نفسِ الحي، نظـر له ذاك وقد كـانا آخر من في المسجد، ابتسم لهُ وهو يلفظ : من زمـان عنّك يا الشيخ.
وجّه نظراتَه نحوه وحديثه الفجائيّ معه طـردَ صورةَ " الشبيهِ به " ليبتسم ، وبرسميّةٍ هادئـة : أهلين بو محمد شلونك؟
أبو محمد يمدُّ يده كي يصافحه : زين متذكّرني.
انفرجَت ابتسامته أكثر حتى ظهرت أسنانه : تسيء لذاكرتي كذا .. بعدها قوية ترى.
أبو محمد يضحك : أمزح أكيد ما شاء الله عليك رجّال بثقافتك وتفكيرك محد يفكّر للحظـة إن عقله بيشيخ بهالوقت .. أنا متأكد إنّك حاليًا بمرحلة الفتوة العقلية وباقي بيطلع منك أكثر.
ضحكَ رغمًا عنه لمصطلحاتِه : شكرًا على الإطراء.
افترقـا بعدَ ثوانٍ قليلـة ، اتّجـه لسيارته وهو يدسُّ كفه في جيبه كي يخرجَ مفتـاح سيّارته ، وقفَ عند بابِ السائق مباشرة، ليستدير تلقائيًا حين سمـع صوتَ خطواتٍ تقترب، عقدَ حاجبيه حين سقطَت عينـاه تلقائيًا على الثوبِ الرمـادي، وقبل أن يتبيّن الملامح كـان تشوّشٌ عنيفٌ قد غشى عينـيه بعدَ ضربـةٍ شعرَ بها في مؤخـرة عنقه، ضربةٌ كـانت عنيفةً بقضيبٍ فولاذي، كـان مفتعلها يريد قتله بشكلٍ واضحٍ وضوحًا شديدًا، فهو أعـادها من جديد ، ضربهُ ضربةً أخـرى ، في نفسِ المنطقـة، وبقوةٍ أكبر ، وإن كـان في الأولى تشوّش وفقدَ اتّزانـه ، فالأخـرى كانت كافيةً ليشدّ على أسنـانه ويتأوّه بألـم ، ومن ثمّ يفقدُ وعيه ، في اللحظـة التي ارتفعَ بها القضيب حتى يهوِي من أجـل الضربة الثالثة والأخيرة لتودِي بروحه.


،


التاسعـة صباحًا.
وقفَ يعبثُ بجرسِ البـاب، رغمًا عنه كـانَ مرتبكًا بعضَ الشيء، يدهُ اليُسـرى تقبضُ على الهاتِف، بينما اليُمنـى وجدَت نفسها تطرق بأطراف أصابعها على الجدارِ بجانِب مكبسِ الجرس، ينتظُر لدقيقةٍ ردًّا، صوتَ خطواتٍ تقترب، لكنّه زفـر أخيرًا بعدَ أن كـان السكونُ هو الجـواب. عادَ يضربُ الجرسَ من جديد، مرّتين ، ومن ثمّ انتظـر قليلًا، ليصـل إليهِ صوتُ خطواتٍ حادةٍ أخيرًا، ابتعَد عن نطـاق البـابِ بحذر، يخشى أن تفتـح زوجته، لذا فمن الحيطةِ ابتعَد ، لكنّ صوتًا حادًا رغـم خفوتِه وصـل إلى مسامِعه متمتمًا بتذمّرٍ وحنق جعله يبتسم رغمًا عنه : مين التافه اللي يدق أبواب الناس بهالساعة؟
فتـح البـابَ بعدَ قولِه ذاك، ليُميل متعب برأسه وينظُر لوجههِ وهو يبتسم ابتسامةً تجلّت بها أسنانه : يعنِي ما عندك مشكلة ضيفك يسمع كلامك ذا؟
لاحظَ تجمّدَ ملامِح أدهـم، تصلّبها والبرودُ نشَر ذرّاتِه على أحداقـه ، ارتبكَ قليلًا وقد توقّع في هذهِ اللحظـةِ أن يُغلـِقَ البابَ في وجههِ ولا يستقبله، لذا تنهّد، ومن ثمّ رفـع كفّه اليُسرى التي تحمِل هاتف أدهم، وبهدوء : ما بعطيك إلا إذا استقبلتني مثل أيّ ضيف وضيّفتني.
أمـال فمـه للأسفـل بسخرية، ومن ثمّ ابتعـد عن البـاب وهو يلفُظ بصوتٍ عـالٍ بعض الشيء : طريـــــق . . .
ابتسمَ متعب وأدهـم يُشير لهُ بعينيه أن يدخـل، خطـا للداخـل، بينمـا أدهم يسبقـه ليصـل للمجلِس، وصوتُ متعب ينطـق بنبرةٍ عاديّةٍ متباسطـة يحاول بها أن يلطّف مزاجـه/حقده الذي رآه يلتمـع بشدّةٍ في عينيه : تصدّق توقعت ألاقي بيتك نفس مزاجك .. بس زين مرتّب.
أدهم بسخريةٍ لاذعـة وهو يفتـح باب المجـلسِ ليتركه مواربًا ويدخـل متعب من خلفِه ويركلـه بقدمِه وكانهما معتادانِ على ردّات الفعـل التلقائيّةِ هذِه : هه! قصدك إنّ مزاجي وصخ مثلًا؟
متعب يضحك رغمًا عنه : وش سوء الظن هذا؟ قصدي توقّعته ألوانه غريبة ، فوضويّة ، متداخلـه بشكل غريب ومجنون. الترتيب مو بالضبط أقصد فيه حوسة وصخ !
أدهم يرتمِي بجسدِه على الأريكـةِ العربيّة وهو يزفـر بضجر، بينما جلَس متعب أمامه على بعدِ سانتيمتراتٍ وصوتُه يصلـه غير مبالي : زين كنّا عند حسن ظنّك.
متعب بعبثٍ يستفزّه : تعترف إنّك مجنون؟
أدهم يغمـضُ عينيهِ وهو يعيد رأسه للخلفْ : أعترف إنّك غبـي .. تحاول تستفزّني وأنت تدري من غير محاولـة إنّي معصّب منك أصلًا !
متعب : يا شيـخ تراها مزحـة لا تصير حسّاس كذا !
أدهـم ببرودٍ وهو لا يزال بموضِعه، لم يفتـح عينيه وهو ينطـق : صح ، وعشاني جدّي بزيادة الله ياخذ أخوك عشان تذوق طعـم إنّ عزيز يوصلك خبر موته.
انتفـض متعب بغضبٍ مفاجئٍ ليقفَ وهو يصـرخ : أدهـــــــــم !!!
أدهم يفتح عينيه لينظُر نحوه وهو يضحك ببرود : شفيك؟ تراها مزحـة لا تصير حسّاس كذا !
عضّ متعب شفته بانفعـال، عاد ليجلـس وهو يزفُر ويتمتم بكلماتٍ ما لم تصِل مسامع أدهم واضحةً لكنّه توقّع أنه يشتمه. ابتسمَ بتشفّي، ومن ثمّ مدّ كفّه لافظًا : هات الجوال .. ليته كسّر راسه الحمار.
متعب بحدةٍ نظـر إليه، ليضحك أدهم بصخبٍ هذهِ المرّة ويلفظَ بنبرةٍ مستفزّة : يا ويلك ترميه .. يمكن تفقع عيوني بالغلط.
متعب بغضبٍ لم يستطِع أن يمنع نفسه من رميـه، لكنّ الرميـة لم تكن قويّةً كفايـة، وتلقّاها أدهم وهو يتوقّعها، ضاحكًا بصخبٍ متسلٍّ وهو يقلّبه بين كفيه يتفقّده بعينيه، لينطق أخيرًا : الحمدلله ما انكسـر .. رجّال حبيب أبوه.
متعب يمدُّ شفتيه بضجرٍ لتظهر أشبـه بابتسامةٍ مقهورة، رفـع أدهـم نظراته إليه، زفـر براحـةٍ وهو يضع الهاتف بجانبِه ويبتسم، أعـاد ظهره للخلفِ ليسندهُ بأريحية، وبنبرةٍ رقيقة : كذا انتهينا منك وصفي قلبي من ناحيتك ... باقي الورع أخوك.
متعب ينفخُ فمـه بحنقٍ منه وهو يُشيح وجهه عنه، وبضجر : تفاهموا مع بعض ، بس من غير لا تذبحون بعض مو ناقصني بعد.
أدهم يضحك بخبث : لا توصّي حريــص ... المهم مبسوط شكلك اليوم صح !
نظـر لهُ متعب بتكشيرة : وين مبسوط وأنت قدامي.
أدهم بابتسامةٍ صادقـة : بس عيونك فيها شيء مختلف .. على كرهي له واللي زاد الحين بس ما أنكر إنّي تمنيت إنه يكون صادق .. عارف بتزين نفسيّتك كثير.
تجلّت بسمـةُ راحةٍ على شفتيه، ولم يستطِع أن يمنـع نفسه من التنهّد براحـةٍ وهو يهمس : كثير بس؟
أدهم : أطربنـا .. شلون تأكّدت؟
متعب بتهكّم : بالأول يا قليل الذوق ضيّف ... لا مو طبيعي ما تعرف الذوق أنت؟
وقفَ أدهتم وهو يضحكُ بصخبٍ حين تواتـرت كلمته الآن مع إلين التي أسهبَت في وصف " قلّة ذوقه " البارحـة ، تحرّك خارجًا من المجلِس وهو ينطق : ما تستاهل .. بس عشان الذوق العام مثل ما تقول.


،


عـادَ لتوّه من مقابلـةِ عملْ، لم يكُن قد عـاد بعد الفجـر للمنزل بل قضى الوقت خارجًا حتى هذهِ اللحظـة ، يتمنّى الآن أن تكون أفاقَت من جنونِها، أن تدرك أنّ ما قالته أمّها - أيًّا كـان - لا يمتّ لمصلحتها بصلـة، فهي التي بقيَت في العتمـة، هل ستخرج الآن وتقول لها بأن تتركه وهي ترى أن في ذلك مصلحةً لها؟
أوقَف السيّارةَ وأطفأها وهو يسمـع صوتَ هاتفه يصيح على المقعدِ الذي بجوارِه، نظـر لهُ ليمدّ يده لهُ وينظُر لرقمِ عنـاد الذي أنـار بالشاشـة، ردّ عليه بشكلٍ تلقائيٍّ وهو يترجّل عن السيـارة، وبهدوء : نعم.
عنـاد بنبرةٍ رغمَ أنّه غمّدها بالجمود إلا أنّه كـان بازغًا لمسامِعه أن وراءها ماهو سيءٌّ ربّما ! : وينك أنت الحين؟
سلطـان يعقدُ حاجبيه وهو يُغلق باب السيارة، وبتوجّس : توني واصـل البيت .. وش فيه عندك شيء تبي تقوله صح؟
عنـاد يتنهّد بعمـق، قبل أن يلفظَ بصوتٍ حمـل نبرةً غامضـة : عمي سلمان.
رغمًا عنه تشنّج جسده، لا يستطِيع حتى الآن أن يسيطر على انفعالاتِه حين ينبعثُ اسمه من حنجرةٍ صاخبـةٍ بالأحرفِ التي يراها " نتنةً " ما إن تنطـق اسمه .. شتّت عينيه وملامحه تتصلّب بضيق، وبحدة : وش جاب هالطاري الحين؟
عناد يُغمـض عينيهِ لوهلـةٍ وصدرهُ ينتفـخ بأكسجينٍ اندفـع إلى رئتيه بانفعـال : . . . .


،


تنظّم ورود " التوليب " البيضاءَ وهي تنظُر لها بعتمـة، بقهرٍ في جنباتِ عينيها ، لن تُبالي، لن تُبـالي، ستبقى باردة ، لن يستفزّها باسم " مي " هذا .. لكنْ ماذا عن عملها؟ حسنًا .. هي لن تبالِي لكلّ ماقد يفعله، للمسمّياتِ التافهة وللأسلوب المتجبّر، لكنْ عند عملها لن تصمُت وستحاربـه كلبوةٍ شرسـة ، عملها هو أوّل منفذٍ كـان لتشعُر بحرّيتها من سيطرته، ولن تسمح لهُ بأن ينتشله منها.
ضغطَت على إحدى البتلاتِ بقوّةٍ دون أن تنتبه لنفسِها لتشهقَ فجأةً بعد أن شعرَت بتمزّقها .. جلدها رقيق ، كيفَ تمارسُ عليها قسوةً كقسوتِه؟! .. شدّت على شفتها السُفلى بأسنانها .. ولمَ لا؟ أليسَت باقـة الوردِ الكبيرةِ هذهِ هي مفاجأته البارحة؟ لمَ قد تبالي بِها؟
اجتذبَت إحدى الوردات دون أن تسيطِر على نفسها، تحرّكت مبتعدَةً عن الطاولـةِ البيضـاء ذاتِ الشكل البيضاويّ في غرفتهما ، انزوَت لأقربِ أريكةٍ منفردة، وبدأت أصابعها الناعمـة تفرّغ الاضطرابـاتِ والتشوّشات والغضبِ في بتلاتِ هذهِ الوردةِ التي كانت أشدّ نعومـةً ورقّةً من أن تحتمـل.
اقتطفتها ، بتلةً بتلـة ، ومع كلّ قطفةٍ كانت تتمتمُ بـ " وجــع " لكلّ الأوجـاع وله هوَ من بينها ! كـان سيفْ وجعها في الصبـا ، وحتى الآن ، تتجاهله وتبرُد أمام عشقِه ، لكنّه الآن عـاد ، ولا يهمها إن عاد ، لكنْ ليترك عملها واستقلالها بِه .. ألا يهمّها عودته كما كـان فعلًا؟
مرّرت لسانها على شفتيها ، اليوم ، تكتمـل السنة الرابعـة على زواجهما ، كيفَ نسيت ذلك ولم تتذكّره إلا حين قدّم لها تلك الباقـة ولفظَ بنبرةٍ باردةٍ بعض الشيء أنهما سيذهبان اليوم لمطعـمٍ ما ، أو أيّ مكـانٍ تشتهيه لهذهِ المناسبة، قدّم لها الوردةَ بعد أن تجاوزَت عقارب الساعة الثانيةَ عشرة ، وكـانت السمفونيّةَ الأولـى ... لأربـع سنينَ مرّت وهو زوجها ، ولأولى سنة ، كـان فيها يحبّها – وهي تعلم - ...
أربـع سنين ، مرّت أربـع سنين وهي مرتبطةٌ بهذا الربـاط ، ألذُ قيدٍ التفّ حول قلبها ، والأقسـى! من كـان يعلم أنّه حين تمرّ السنـة الرابعـة ، والثامنة والعشرون من عمرها ، ستأتِي محمّلةً بشيءٍ ما، بوخزٍ ما، بأمورٍ تداعَت .. وأخرى تبدّلت .. بقوانِين سحقتها ، وسحقَت روحًا في رحمـها ، لتسقُط هي من رحمِ هذه العلاقـة أخيرًا ، وتُولَد من جديد .. باردة ، أو تُتقنُ ذلك .. عاشقـة ، لكنّ عشقها كـان يؤذيها في المقام الأوّل ، لذا اختارته بحلّةٍ كالغيمِ الأبيـض، يعبُر سماواتِ الدنيا ، ولا يسقي أرضها.
أربـع سنينَ مرّت ، ليكون عمرها الآن أربعًا في عينيه، وثمانيةً وأربعينَ شهرًا في قلبه، وأيـامٌ لا تريدُ حصرها في رئتيه التي تنفّست عطرها كثيرًا، وساعـةٌ سيطُول إحصاؤها، في أذنيه التي استمعَت لنبرتها مرارًا .. أربـع سنينَ بتفاصيلَ حادّة، وناعمة في آن، أريع سنينَ بلحظـاتٍ تائهة في قبلـةٍ وعنـاق !
زفـرت وهي ترمِي ساقَ الوردة على الأرضِ بعد أن عرّتها من تاجِها، لوَت فمها، في اللحظـةِ التي فُتح فيها البـاب لترتخِي شفاهها تلقائيًا، دخـل وهو يمسحُ كفيه بمناديل اقتطفها من الحمـامِ الخارجيّ بعد أن غسـل يدهُ من مائِه حينَ دخوله.
رمقتـه ببرود، لن تتخلّى عن برودِها فقطْ لأنّه أصبـح مزعجًا فجأة! ستتعامـل كما المعتـاد، لكنّها لن تصمُت على عملها ، فقط هذا ما ستعترضُ عليه.
نظـر إليها نظـرةً خاطفـة، وسرعـان ما سقطَت أحداقُه على الساقِ المرميّةِ على الأرضِ والعاريـةِ من بتلاتِها وحتى تويجتِها التي عجنتها بكفٍّ منفعلـة، ابتسمَ رغمًا عنه، ومن ثمّ رفـع نظراته إليها ليجدها تشاغلَت بقمـاشِ الأريكة، تقبضُ عليهِ بطرفِ سبابتها وإبهامها وكأنها تحاول سحبه بشرودِها أو توتّرها فقط ! .. كتمَ ضحكته وهو يشعُر بنشوةٍ جديدة .. تقدّم منها بينما عيناهُ تتغلّفـان بسخريةٍ كمـا صوتُه : يعني ما لقيتِ غير تطلّعين حرّتك على هالوردة المسكينة؟
ديما تنظُر لهُ ببرود، قبل أن تقف ، وهي تهتفُ لعقلها " ماراح أهتم ، قلعته .. ماراح أهتم " .. لن يستفزّها ولن تتواني عن التعامُل معه بالأسلوبِ البارِد ذاته ... ابتسمَت بتململٍ وهي تعدّل قميصها الطوبيّ فوقَ بنطالها الأسود، وببرود : حرّتي؟ ليه ما تقول كنت طفشانة بس وجلسْت أتسلى فيها.
سيف بسخريةٍ لاذعـة : اووووه يا قاسية .. ماقد صارت على كثر ما تطفشين والورود من حولك.
ديما تهزُّ كتفها ببرود : بكيفك لا تصدّق.
سيف وقدْ قرّر أن لا يتخلّى عن التعامـل بأسلوبِ البرودِ ذاته حتى وإن ردّت عليه بنفسِ الطريقةِ التي تستفزّه : عسى بس فكّرتي تسمعين كلمتـي من غير عناد؟ طبعًا ما يفرق معي بس عشان نفسيتك.


،


دخـل المنزلَ بانفعـالٍ أعمـى، يتنفّسُ بقوّة ، يتنفّس نفسًا محمومًا، نفسًا عاليًا بعدَ الكلمـات التي سمعها من عنـاد .. يتنفّس باضطرابٍ أرعـش كفيه وجسدهُ كلّه .. وماذا في ذلك؟ ماذا فيما قـِيل؟ ما الذي يهم؟ مجرمٌ هو في النهـاية .. مجرم، قتـل والده ، فماذا يضرُّ في موتِه؟ ماذا يضرّ؟ ماذا يعنِي أن يمُوت؟ أن يغـرق في قبرٍ يغمّدُه بالعـذاب .. ماذا يعنِي إن مات؟! ماذا يعنِي إن كـان هو والدهُ الآخر ومات؟! .. ماذا يعني !!!
رنّ هاتفـه ، كـان عناد الذي اتّصل به ِمرّةً أخـرى، ردّةُ فعـل سلطـان كانت أن استمـع، فقط استمـع، دون أن ينطُق بشيء، بقيَ يغـرق في انفعالات، بقيَ يغـرق في الكثير ، في الكثير، وجسده رغمًا عنه كـان يرتعشُ وقتَ ذاك، يرتعدُ كطفـل .. عاد خمسّة عشر عامًا وأكثر بقليل .. ومات والدُه من جديد.
نظـر للهاتِف، أغمـض عينيهِ بقوّة ، أعـاد جسدهُ للخلف، أسندَ ظهرهُ على الجـدار، ومن ثمّ شدّ بقبضتـهِ على الهاتِف بين أصابعه، وهو يرفـع وجهه للأعـلى ، يُغمـض عينيه، ويشدُّ على القبضـةِ الأخـرى، يختنق، بعد أن حُشِر الهواءُ بعيدًا .. ليهمسَ بعمقٍ متداعـي، برجـاء، بألم، بوجعٍ رجلٍ كبُر ، ولا يليقُ أن يشعر بهذا الوجـع ، تجاهه هو .. الأبُ الثاني، والذي قتـل الأول : يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا رب !!!!


،



" أحبـك "
كـانت كلمـةً تكفيها، حتى تغرق فيه أكثـر، كـانت كلمـةً تكفيها، حتى تنخدِع بِه أكثر.
يا عظمـةَ تلك الليـالي بالنسبة لها في ذاكَ الزمـن حين تنتهي بصوتِه الرجوليّ الذي كان يستفزُّ فيها كلّ معالـم الشغفِ والدلال .. تذكر أنّها حين قـال لها أحبّكِ " بكَت " بصوتٍ لم يصلـه ومن ثمّ أغلقَت الهاتف .. لم تكُن أيضًا تبكي أمامه، كانت حينَ تحزنُ تحادثه بنبرتِها تلك، الحزينة، المنكسرة، تشتكي .. لكن لا تبكي، فهي كـانت خليلته، لكنّ بكاءها لم يكُن له خليلٌ إلا هي .. ووسادتها فقط .. تشعر أنّ البكـاءَ لم يخلق إلا ليكون سرًّا بينها وبين صدرها ، حتى أفشيتـُه أمامك .. يا سلطـان.

في لحظةٍ ما كيفَ بكيته؟ و - بكيتُ منكَ أنت -، أغَرِقتُ في هواهُ حتى أبكِي " خطبـة "؟ وتنحدِر شكواي بشكلٍ آخر، بشكـلٍ جعلنِي أتّصل بهِ في الليلـة التي أخبرني فيها والدي " سلطـان خطبك " وأتبعها بأنّ " مالها شور " بعد أن أقرأتهُ رفضها من ملامِحها التي صُدمَت، من ملامِحها التي صُفعَت صفعـةً أقوى من أيّ صفعـةٍ تلقّتها من كفّ أبيها، كـانت صفعـةَ لسان .. قاسية ، وأقسـى ... والآن لازالت كما هي، مع الكثير من اللذةِ المؤلمـة.
انحدَرت شكواها إلى مسامِعه، بكَت ، وبكَت ، وغرقَت في حزنها مطوّلًا ، ومن ثمّ مسحَت دموعها بعنفٍ وكرهٍ عميقٍ اغتالها تجـاه سلطـان النامي هذا، تذكر كيفَ كانت تشتمهُ بأكبـر بذاءةٍ حمَلها لسانها ، كيفَ دعت عليه .. بالموتِ غرقًا، أسفـل سيّارة، سقوطًا، قتلًا! فرّغت قهرها وغضبها منـه في دعواتٍ كثيرةٍ كـان ملخّصها " الموت بأبشع شكلٍ ممكن "، كيفَ تجرّأ ليخطبها؟ ويكون شخصًا - بطريقةٍ ما - كـان والدها متلهّفًا له !
اتّصلت بعبدالعزيزِ بعدَ أن خرجَت من مـاءِ عينيها قبل أن تغرق أكثر، وكـان من عادتـه دائمًا أن يردّ عليها بسرعةٍ تجعلها ترى حجم اهتمامِه بها - كما تظنّ - فتغرق في عشقِ هذا الرجـل أكثـر، لا أحـد كـان يهتمُّ بها إلا هو، لا أحدَ كـان لطيفًا معها إلا هو، لا أحـدَ كـان يُخرجها من قوقعـةِ حزنها إلا هو .. بالرغمِ من كونِ ما بينهما لم يتجاوز المحادثـاتِ العميقة، إلا أنّه كـان يشعُر بها .. يشعُر بها، وينكسـر صوته كلّما انكسرَت كلمـاتها فجأة، كلمـا باغتها الحُزن وظهـر أكثـر وجعًا على صوتِها، وكلمـا شعرتْ أنّ النسيمَ يشتدّ، يشتدُّ حتى بـاتَ زفـرةً غاضبـةً من الجحيم، عنيفـة، حارّة، أو باردةٌ حدّ الممات.
ردّ عليها يومذاكَ منذ أول رنين، لتغرقـه مباشرةً بصوتِها المُنكسـر، الحزينِ بعمـق، المتلاشي خلفَ ظلالِ الحيـاةِ العابسة : عبدالعزيز .. عبدالعزيز . .
عبدالعزيز ما إن بادرته بتلك النبـرة حتى عقدَ حاجبيه قليلًا وهو يُميل وجهه وكفّه السمراءُ كلونِ الصحاري تمتدُّ حاملةً سيجارةٍ أزهقَ ثلاثـة أرباعِها ليدفنـها أخيرًا في منفضةِ السجائر، لوى فمه وهو يدرك أنّ سمفونيّةَ شكاوي جديدَة ستأتيه من هذه - الفاتنة - وسيضطرّ لتحمّلها لساعةٍ أو أكثر .. لفظَ بنبرةٍ تصنّع فيها الاهتمـام : بسم الله عليك حبيبتي ، شفيه صوتك كذا؟ لا يكون الحيوان أبوك مرة ثانية؟
غزل ونبرته المهتمّة هذهِ تُخفّف من وطأةِ الحزن كمـا تُضاعفُ الانفعـال والغضَب ضدّ " سلطـان " لتجدَ نفسها تلفُظ بألمٍ حزين، وغاضبٍ في ذات اللحظـة : بيزوّجني ، بيزوّجنـي بغيرك .. اليوم تقدّم لي رجّال وأبوي واضح يبيه ... الله ياخذه ، الله ياخذه ويا جعله اليوم ينـام بقبره . . .

.

.

.

انــتــهــى ...

وموعدنا القادم الأحد إن شاء الله.

لا تقولون وين أهل بروكسيل! جايين بوقتهم ، كان عندي وقت شكبره عشان أضيف لهم موقف عابر بس ما أوافق مسألة الحشو هذي لمجرّد ظهور الشخصيات :" لهم ظهور بوقته، + التطورات اللي تخصهم بتكون متناغمـة مع تطوّرات أخـرى برياضنا، يعني رسمِي للأحداث يمشي على خط زمنِي معيّن، المفروض خلاص استوعبتوا هالشيء! – وحدة أهلكتها المطالبات بوجود شخصيات معينه بكل بارت – :( وسلامة قلوبكم اللطيفة () :$$

ودمتم بخير / كَيــدْ !



أبها 22-07-16 07:15 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
شكرا كيد والحمدلله إن المشكلة كانت في النت .
توقف القصص الجميلة ، أصبح هاجس يؤرقنا 😊


سلمان .. موته صدمه . وبتلك الطريقة البشعة
رغم أن سلمان قد اعترف بشكل غير مباشر لسلطان
أن له يدا في مقتل فهد ، إلا أنه يساورني شك أن الأمر
ليس كما نظن ..
هل هو بريء من انضمامه لعصابة كبرى ؟؟؟
لا بد أن من يحيكون تلك الجرائم حينما شعروا باقترابه
من الامساك بخيوط القضايا و بالاطاحة برؤوس
العصابة قرروا التخلص منه !!!

أدهم .. الحمدلله أن ردة فعله نحو متعب لم تتجاوز الحد
المعقول ، فردود أفعاله بالعادة عنيفة ..

شكرا كيد مرة أخرى .🍃🌸🍃

bluemay 22-07-16 12:05 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


_الـسـلام عـليكـم ورحـمة الله وبركــاته_


بارت خطير ..
موت سلمان هل ممكن يزيد من تأزم اﻷحداث؟!!

عندي شعور انه اتخلصوا منه بعد عرفوا انه بشتغل ضدهم .



غزل ورطت حالها .. وسلطان وضح انه متمسك فيها.



سيف والله وعرف يلعبها صح ويطلع سكونها لديما لوووول




أدهم متحلي بالصبر ﻵخر رمق.

والين احسها زودتها كتير ..



يسلمو ايديك يا قمر


متشووووقة كتير للقادم

لك ودي





سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْك


fadi azar 24-07-16 10:15 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
لا اعتقد سليمان توفى قد يكون في المستشفى بحالة خطر لانك لم يقول انه مات لا ادري ازا اعتقادي صح

كَيــدْ 24-07-16 11:31 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
-
-
-

صباح الخير ، نسيت أذكر هِنا إنّ الموعد بيكون على 5 أو حولها ،
بقت جزئية بسيطة مع المراجعة ،
ربي يسعدكم ويخلي هالعيون الحلوة :$

كَيــدْ 25-07-16 04:47 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورجمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


البارت صاخب بالمشاعر ، إن شاء الله ما تشوفونه قصير أحس طوّلت بكتابته :(

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(77)*2



انفعـل بشدّة، هذهِ المرّةَ شعرَ بالغضبِ منه كما لم يشعُر من قبـل. أعـاد الاتصـال مرّاتٍ ومرّاتٍ وهو يصرُّ على أسنانِه، كـان في بادئ الأمر يرنّ حتى يتوقّف، ومن بعدِ مرّتينِ أصبح يُخرسـه هو ، لا يريد الردّ ولا يهتمّ! .. لا ! يدرك أنّه يهتم، يدرك أنّه الآن يموتُ في صراعٍ ولا يحياه ! ... حكّ شفتهُ العُليا بصفّ أسنانِه السُفلى، أعـاد الاتصـال من جديد، وهو يقسِم في نفسِه أنّه هذهِ المرّة إن لم يردّ سيترجّل سيارته ويمضي إليه ، لكنّ سلطـان ردّ هذهِ المرّة، ردّ صارخًا بصوتٍ حمـل انفعالاتٍ كثيفةٍ وغضبٍ مـا ، غضبٌ جارف، وحزنٌ قديمٌ يعاد، ككلّ الأيـام : نعـــم ! أيش تبغاني أسوّي فيه مثلًا؟ خلّه يموت .. خلّه يموت الله لا يردّه.
عنـاد يزفُر مُهدّئًا انفعالاتِه هو الآخر، أغمـض عينيهِ لوهلة، ومن ثمّ عـاد ليفتح عينيهِ ويلفظَ بحزم : بمرّك الحين .. أنا في المستشفى عنده توني وصلت بس بجيك وأسحبك لهنا.
سلطـان بسخريةٍ حـاول أن يتسلّح بها صوتُه إلا أنّه غصّ في مرارةِ شعورِه قسرًا : بأي صفة؟ بصفة إنّه قاتل أبوي؟ وإلا بصفة إنّي ولد قتيله؟
عناد يتنهّد، وبهدوءٍ ظاهريّ : بصفـة إنّك ولد أخوه ... ومثل ولده!
عضّ سلطـان شفته بقهر، أغمـض عينيهِ بشدّةٍ وهو يُشيح وجههُ جانبًا، لازال يتّكئ على الجدار، ويتفحّص بعينيهِ بياضه، يراهُ سوادًا ، ويراه السوادُ مـاءً بأحزانِه ، عُكِّر ، وسيُضيفه تلوّثًا .. همسَ بمرارةٍ ساخرة : بكون خاين ، وغبي ، ونذل لو رحت له!
عناد بحدة : محد بيدري بصفتك هذي على قولتك!
سلطان بقهر : يهموني؟ أكيد لا ! .. وإن كان أيه فلا تنسَى إنّ الإشاعة صدّقها كثير .. مثل ما كنت أتمنّى ،
عناد بحدةٍ تحرّكت أقدامـه ونيتُها " باب المشفى "، يصرُّ في هذهِ اللحظـة أن يجلبه إلى هنا ولو زحفًا : بتجي .. واجب عليك تجي ... وأمّا عن موته فتطمّن ، للحين ما مات ..
سلطـان وشفتهُ السُفلى تميل بلذعة : أحسن وأحسن وأحسن ... هالموتة ظلم تجاه شخص مثله، ماراح يريّحني غير عقـاب .. عقاب يستاهله ، عقاب يتعذّب فيه قبل لا يموت .. بعدد الرصاصات اللي اخترقت جسم أبوي . . . . ما بروح له ، لا تحاول ولا تهمني نظرة الناس، لأني أبيهم كلهم يدرون، أبي العالم كلّه يعـرف .. إنّه اللي قتل أبوي !

لم ينتظِر أن يسمـع أكثر، الكلمـاتُ تستفزّه أكثر مما تفعلُ الأحداثُ المتناغمـةُ حولُه بنبرةٍ جلِفـة، بنبرةِ جفـاف، احتكاكٍ ربّما ! تشعلهُ بالقهرِ أكثر وتولّد فيه طاقـةً للحقد، ماذا يعني لو مات؟ ماتَ بسهولة ! ماذا يعني؟ غير القهر أكثر، لا حزن ... لن يكون هناك حزن، لن يشعُر تجاهه كما شعر في موتِ والده ، لن يبكِي على صدرِه، ولن ينـاديهِ بـ " يُبه " ويناجِي روحه بأن لا ترحل وتتركَه ، لن يحزن ولن يهتم، من هو؟ ليهدر عليه القليل من وقتِه ويكتئب؟!
أنهى الاتصـال في عُزلـةِ انفعـال، وترنيمةُ وجـعٍ تُخرس الكلمـاتَ عن الاسترسـالِ بحقدٍ كافٍ .. تحرّكت أقدامه وهو يتنفّس بقوّةٍ مُنفعلـة، سمـع ضجيجًا، مواءً من حيثُ تمكثُ سالِي ومعها قطّة غزل ، استطـاع أن يستنتج أنّها الآن نائمة ، ففي العادةِ لا تتركها إلى حينَ تنام أو تخرج . . .
مرّر لسانه على شفتيه، أغمـض عينيه ، وهو يهمسُ لنفسه " لو يموت عادي "! ماذا يعني أن يموت؟ فليذهب للجحيم!

من جهةٍ أخرى ، تتكـالب عليها ذكريـات ، تتساقطْ ، وكأنها الآن ينقصها مزيدٌ من الحزن ومزيدٌ من الانكسار!
بأي حقّ، جـاءَ ليصفعَ أمـلي الوحيد، والشيء الوحيد الذي أردْته بشدّة ، وأراه المُنصِف لي في دنيا كئيبةٍ كهذه، بأيّ حق؟ بأيّ حق !!
كـانت تلك حجّتها للكـره الأول، للحقدِ الأول ، كيفَ يجيءُ فجأةً ليبتُر حلمًا؟ بل طموحًا مُهلكًا لصدرِها الذي شبّ على النقصـان وحينَ جاءَ من يُكمـله يأتِي هذا الـ " سلطان " فيمحـق آمالها؟ . . . تنفّست بتحشرج، تجتذبُ ذرّات الأكسجينِ إليها، تُغمـض عينيها، بينما صوتُ عبدالعزيزِ يأتِيها حيرانًا، خافتًا، غامضًا! : بيزوّجك؟
غزل تبتلـع ريقها المتخثّرِ بكلمـاتِ والدها الثقيلةِ على مسامعها " مالك شور، وبتتزوجينه "! ، همسَت بغصّة : ما أبيه .. أبيك أنت ، ليه يجي الحين ليه يخرّب عليْ كل شيء؟ ... * أردفت بجنونٍ وضياعٍ كمَن فقدَ القدرة على التفكير * تقدّم لي ... مافيه شيء يمنعك الحين ، تعال يمكن ترضي أبوي أكثر.
من الجهةِ الأخـرى، ارتسمَت ابتسـامةٌ على شفتيْ عبدالعزيز، كانت ابتسامةً عابثـة، لا معنـى لها إلّا المكر .. همسَ بخفوتٍ وكأنّه يتحدّث بخطط عقلِه لا بإجابةٍ تُشفي صدرها : نتزوج? .. ليه لا؟
غزل تبتسمُ بغصّةِ فـرح، كمراهقـةٍ غَنّاها الحُب وحرّكها على إطـار " سذاجـة " ، على صراط دُنيـا ، فتداعَت إلى جحيمها مباشرة، أو لجنّةٍ خدّاعة! .. همسَت باختنـاقٍ وهي تضغطُ على فمِها فيختنقُ صوتُها أكثر : أحبك ، والله أحبك.

فتحَت عينيها بسرعةٍ وجسدها تسرِي فيهِ رعشـةٌ خافتـة وهي توجّه عينيها للبـابِ الذي فُتح، نظـرت بإجفالٍ لسلطـان الذي دخـل وبدخولِه قاطـع نمطَ تفكيرها من الاتزان في " ماضي " والإبحار على سطحِه ، أن تطفو ولا تغرق ، تقتنع أخيرًا أنّ كلّ شيءٍ حدَث وانتهى، وهي السبب! ومن ثمّ يبدأ عقلها بالإدراك، بالإيمان أنّ ما بينها وبينه انقطـع ، وبهذا تُصبح أكثر إصرارًا ! .. تحاول ، لكن هل ستنجح؟ . . . زمّت شفتيها بألمٍ وهي تُشيح بوجهها عنه، هل سأنجح؟ وأنا التي اختزلَت الإيمان فيك، كيفَ أرتدُّ بأن أبتعِد؟
نظـر لها سلطـان بصمت، وتعجّنُ ما بينَ حاجبيهِ يُخبرها أيّ مزاجٍ جـاءَ بِه لو أنّها نظـرت إليه، لكنّها كانت تصدُّ بعيدًا ، للجدار، تعدُّ خطواتِ عينيها عليه وتتشاغَل عن جلوسِه بجانِبها والذي أرعشَها أكثر واغتالَها بربكـةٍ قصوى.
في حينِ مـال سلطـان إلى قدميه كي يخلعَ حذاءه، بالرغمِ من استنكـاره لصحوتها الآن مقابـل هذا الخمولِ إلا أنّه صمت، فكّر بأنّ هذا السُكون لهُ علاقةٌ بقرارها الجديد .. وفضّل الصمتَ أكثر، فهو لا يريد المواجهـة بمزاجٍ كهذا قد يؤذيها بِه دون أن يشعُر.
بينما مرّت ثوانٍ قصيرةٌ في صمتٍ قبـل أن تعقد غزل حاجبيها، وكأنّ قلبها في هذهِ اللحظـة شعر بِه، أنفها اشتمَّ رائحـةَ حُزنٍ مـا ، يخفيه عن نفسِه ، ويُكذِّبه، لكنها شعرَت بِه .. كيفَ لا وهي التي ذاقتْ الحُزن بكلِّ فنونِه؟ .. أدارَت رأسها بحركةٍ تلقائيّة، نظـرت لظهرهِ الذي تصلّب ، يضـعُ كفيه على السريرِ بعد أن انتهى من عملـه الذي شعرَ أنّه طـالَ زمنًا بحجمِ ما تقيّأ انفاسَ خيبـات، انفعالاتٍ وحُرقةٌ ما تغشـى أحشاءه. ينظُر للأسفـل ، للأرضِ المُشبـعةِ بالجفاف، تجاعيد ، يراها الآن تُنقـشُ عليها بعد أن تسرّبت من قلبِه الجـاف، تُطبَـعُ على صفيحتها كنقوشٍ فرعونيّةٍ على أهراماتِ الأسـى، كأُهزوجةِ عراك، كطبولِ حرب ، ضجيجها يا الله لا يُحتمـل! هذا التوتر الذي تجلبه لا يحتمل !
نظـرت لهُ لوهلـة ، صمتت لكنّ الصمتَ تبرّأ منها أخيرًا بعد أن حرّك لسانها القلق : وش فيك متضايق؟
تشنّج جسدهُ للحظة ، توسّع بؤبؤه في حينِ انخفضَت أجفانـه ، قبـض كفيهِ على المفـرش، ومن ثمّ تنهّد وهو يسحبهما ليتقدّم بجذعـهِ للأمـام، لم يُرِدها أن تتكلّم الآن، ليسَ الآن تحديدًا . . . قـاومَ نبرةَ العُنفِ في صوتِه، والانفعـال الذي نمى على بسمتِه المهتزّةِ وهو يلفظُ بخفوت : ارجعي نامي .. مافيه شيء.
تضاعفَت عُقدةُ حاجبيها وهي تجلُس باستنكـارٍ هاتفة : تدري إنّي مو نايمة .. شفيك متشوّش؟
أغمـض عينيهِ وزفـر بعمقٍ وهو يشدُّ على قبضتيه فوقَ فخذيه، وبهدوءٍ ظاهريّ : ماني متشوّش ..
اقتربَت منه بقلق، قلبها انقبـض ونبرتهُ تجلبُ فيها أعاصيرَ من التوجّس ، هذهِ النبـرة التي يكتنزُ فيها الضيق، " سلطان متضايق "! جملةٌ كفيلة بأنْ تُحيل مشاعِرها لرمادٍ أمـام خشيتِها عليه. وضعَت كفّها على عضدِه ، لتهمس : سلطـــ ...
لكنّه قاطعـها فجأةً حين سحبَ عضدهُ بحدة، ومن ثمّ انكبّت ملامحه على كفيه، غطاها زافـرًا للمرةِ المائة ، هواءً ما ، مليئًا بغبـارِ مشـاعِره السابقة، المتّسخـة، والممرّغة في وحلِ الكره والأحقـاد .. صراع ، صراعٌ يعيشه الآن ويجعله يختنق، انفعالاتٌ تكـادُ تجعله ينفجـر في أيِّ لحظـة " عمي سلمـان .. شخص هاجمه بعد صلاة الفجر ، وهو الحين بالمستشفى وحالته ما أدري عنها "!! ماذا فعلت بِي تلك الجملة؟ ماذا فعلت؟ غير أنها خلقَت تناقضات، تضَادات ، شيءٌ ما ، ما بينَ ترقّبٍ بحزن ، وآخر بحقد ، أريده أن يموت وأن لا يموت ، أن يموتُ لأرتـاح، وأن لا يموت لأن هذهِ الطريقة في الموت بسيطةٌ تجـاه ما فعـل ، ولأنّني من جهةٍ أخـرى، لا أريد أن أحزنَ أكثر ! .. أكرهه ، نعم أكرهه ، وأتمنّى بحجمِ ما فعـل أن ينالَ عقابه، بحجمِ خداعـه لي ، ولأجل خمسـةَ عشرَ سنةٍ قضيتها في كنفِه مخدوعًا .. نعم أكرهه ، لكنّني الآن حزين ، حزينٌ جدًا!! نعم أكرهه، لكنّني الآن ، أتمنـى ألاّ يموت ، لأنّني لا أريد أن أفقده !
عضّ شفته بقوّة، كتـم آهةً مـُثقلةً بالوجع، ومن ثمّ أخفـض كفيه عن وجهه لينظُر للأعلى وهو يهمس بـ " يارب "! لم يعتد حتى الآن، كيفَ لم يعتد؟ ألم تكفيني هذهِ الأشهر حتى أستوعب؟ ألم تكفيني حتى أدرك أنّه بالفعـل مخادع؟ أم أنّ بضعةَ أشهرٍ أمـام خمسَة عشرَ سنةٍ لا تكفي؟ لا تكفي حتى يستوعب عقلي .. – أنّه ليسَ أبي -؟!!!
تنفّس بقوّة، وأحشاؤه يشعر أنها تحترق، حنجرته تجفّ، يشعر أنها صاخبـةٌ بكلماتٍ تريدُ أن تخرج ، لم تكن مجرّدَ كلمات! كـانت دعوات، دعواتٌ بأن يبقيه سالمًا ، بأن لا يموت ، بأن يحترق من تجرّأ على أذيّتِه ، ... يـــا الله !! كيفَ أفعلها؟ كيفَ أفعلها!!!
عند تلك النقطـة ، فقدَ نفسه! .. عند تلك النقطـة غرقَ في الصخبِ والضيـاع، شعر أنّه يخون أباه " فهد "، شعر بأنّه يحمـل كلّ الصفاتِ السيئةِ وقد اكتشف أخيرًا أن الأسبـابَ التي صنعها والتي لفظها لعناد كانت كاذبة، نيته لم تكُن في المقـامِ الأوّل أن يحضى بعقابٍ أشدّ، نيتهُ كـانت ... أن يبقى بخير! فقط .. أن يبقى الجزءُ الذي عاشَ معه بخير !! ليسَ سلمـان المجرم ، بل أبيه !
ابتسمَ في تلك اللحظـةِ بسخرية، ابتسامـةً مختنقـةً بانفعالاتِه التي انفجـرت أخيرًا وسرَت في بادئ الأمـر في رجفـة، أن يبقى أبوه بخير ، يعني أن يكون المجرم كذلك ... هل يقتنع عقله أنّهما شخصٌ واحد؟
بينما رجفـة الانفعـال التي اغتالته كـانت قد شعرت غزل بِها، شعرَت بحلقها يجف، باكتواءٍ في صدرها، وهي هذهِ المرّة تقبضُ على عضدِه بقوّةٍ وقد انفعلَت هي الأخرى من أوجِ انفعالِه ، من عدمِ الرضا بأن تؤذيهُ مشاعرُ بهذهِ القوة، بهذا الحزن ! .. في حينِ انحدَر صوتها بحدةٍ قلقّةٍ من حنجرتها لافظًا بتساؤل : وش صار عشان تكون بهالشكل؟ منت طبيعي !!!
سلطـان بصوتٍ لا تعبيرَ فيه، ينظُر للأمـام وقد باتَ كلّ الأمـامِ فراغًا ، جسدهُ رغمَ رجفتـهِ إلا أنه كـان جامدًا من الداخِل، كـانت مشاعِرهُ منتهكة، تائهة، ضائعةٌ في عينيّ الخيانة ! : ابعدي عني بهالوقت يا غزل.
ابتلعت ريقها رغمًا عنها، هذهِ الجملـة وهذا الصوتُ لا يأتيان من حنجرته إلا في حينٍ واحِد، حين يكونُ منفعلًا بدرجةٍ قد تجعله يؤذي من حوله، حين يكون منفعلًا بسببه هو .. بسبب سلمان !
تراجعَت للخلفِ بتوتّر ، لكنّها سرعـان ما نهرَت نفسها للحظـةِ التردد هذِه ، كيف تتركه هكذا دون أن تحاول؟! على الأقلِّ تحاول أن تخفّف عنه وإن خشيَت من ردّة فعله !! . . . عادَت لتقتربَ منه بإصرار، تعقدُ حاجبيها، تستقيمُ على ركبيتها، وتجثُو بجانِبه وتضعُ كفّها على كتفِه ، لتلفظ بخفوتٍ شديد : ما أقدر أبعد وأنا أشوفك بهالوضع !!
سلطـان بنبرةٍ مكتومةٍ وهو يشعر أن دفءَ يدِها يُشعله أكثر : هالوضع خاصـةً ما أبيك تكونين فيه بوجهي .. ابعدي عني !
غزل تمسحُ على كتفِه وبنبرةٍ ناعمةٍ تحاول بها أن تلطّفَ مزاجه : هالوضع خاصّةً أكره نفسي إذا صرت فيه بعيدة عنّك .. محد له الحق يسوّي فيك كذا ، لا أنـا .. ولا حتّى هو!
عند تلك النقطـة، لم يشعُر بنفسه إلا وهو يستديرُ إليها بقوّةٍ أجفلتها ، نظـر لها بنظراتٍ منفعلـة ، الآن استطاعَت أن ترى أحداقـه ، كانت مشتعلة! مخضّبةٌ بغضبٍ صاخِب ، ومزيجٌ من الحقد، والحزن، والكثير من الخذلان.. استطـاعت أخيرًا أن ترى مقدار الانفعـال الذي كان يكتمـه ، كـان يُخفيه في صدره ، والآن انفجر ! وأوّل عتباتِ الانفجـار، أنِ اقتربَ منها بشكلٍ مفاجئٍ أفزعها ، ورغمًا عنها خافَت وهي تتراجـع وعينيها المذعورتين معلّقةٌ بنيرانِ عينيه .. شهقَت بقوّةٍ ما إن دفعها من كتفيها ليسقطَ ظهرها على السرير! .. كـان يريد أن يفرّغ مشاعرهُ في أيّ شيء! في أيّ شيءٍ يستنفدُ طاقتـه الانفجاريّة، يريد أن يستعيدَ وعيهُ الشعوري ، ألّا يحزن لأجله ، ألّا يخاف عليه، وألّا يدعو لهُ بأن يبقى سليمًا ، يريد أن ينفجـر ، أن ينفجـر ، فهذا الصمتُ جعله يشعر بأشياء كاذبة، بأشياء لن تحدث ، كيفَ قد يبقى يحبّه؟ كيف؟
عند تلك النقطـة، لم يشعر بكفّيه التي حفرَت خصرها بعنف، بأنفاسِه التي تسارعَت والتهبَت أمام نحرها لتّذيبها بدأً من جلدِها وانتهاءً بعظامِها الذي تفتّت فجأة ، أظلمَت أحداقها ، ارتخَت كفوفها/تجمّدت وبرودةٌ قتلتْ مقدرتها على محاولَة دفعه عنها ، أفرجَت شفتيها ببهوتٍ وهي تشعر بِه يجتاحها بلمساتٍ حارقـة. كانت الصدمـة تلجمُ عقلها عن الاستيعاب وكأنّها لم تتوقّع أبدًا أن يأتِيها انفجـارهُ من هذا البـاب، أن يحطّمه دون بوادِر قدوم ، هكذا فجأة ، حتى أنّها فقدَت مقدرتها على الصد ، مقدرتها على المقـاومة . .
شدّها من خصرها إلى صدرِه وجسدها باتَ فجأةً كورقةٍ خريفيّةٍ جافّةٍ يستطيع النسيمُ تحريكها، فكيف بإعصارٍ كإعصارِه الآن! . . لم تكُن الرعشـة الخافتـة قد غادرتْ جسده، انتقلَت رويدًا رويدًا إليها، إلى جسدها الذي انتظـر للحظـاتٍ قليلة قبل أن ينفجـر فجأةً برعشـةٍ اجتاحتها ، شهقَت بهلعٍ وهي ترفعُ كفيها المرتعشتين بعد أن أدركت ما يحدث، أدركت انفجـاره، وأدركت أنّه غاضب .. غاضب ، وأراد ما يفرّغ بِه هذا الغضب ولم يجِد حوله الآن سواها ... سوى جسدِها !
وضعَت كفيها على كتفيه وهي تئنُّ بضعف، تنتفضُ كحمامةٍ بلّلها المطر، بللتها برودةُ قطرات، وابل ! كـان وابلًا وليسَ محضَ قطرات ، بلّلها بعنفِ سقوطِه من سماءِ القهر ... لا تريد ، لا تريد أن تُصيبه بنجاستها ، كلّ شيءٍ لا شيء! لكنّ نقاءه أكبـر ، أكبـر من أن تتقبّله وتلوّثه !! .. كان ليؤذيها كثيرًا أن يستخدمها كشيءٍ للتفريغ، لكنّ الأهم كان - هو ! هو فقط .. كيفَ تتركه يمضي فيما هو خاطئ؟!
حاولّت دفعـه بضعف، لكنّها لم تستطِع أمام قوّةِ جسدِه .. أغمضَت عينيها بقوّةٍ ودموعها فرّت رغمًا عنها، أحاطَت كتفه بإحدى ذراعيها، ومن ثمّ أمالَت وجهها إلى جانِب وجهه الملتصِق بعنقها، لامسَت بأنفاسها أذنه، وصوتًها المغروسِ في نبرةٍ كهلة اخترقَ فجوتها بخفوتٍ متداعِي، باختنـاق ، برجـاء : سلطـان اللي أعرفه .. أنقى من إنّه يفرّغ غضبه بهالطريقة وما يهتم لأذى غيره ...... أثق فيك ، أثق فيك ثقة الضرير بعصاه.


،


دخـل إليها في غمرةِ توحّدها بالهاتِف، كانت تحادِثُ هديل وتعدُها بأن " تحاول " القدوم إليهم اليوم، فهي لا تدرِي إن كـان أدهم سيوافق أم لا .. تجدُ نفسها رغمًا عنها ملزمـةً بالطاعة، مهما كرهته، مهما احتقرت بيئتها هنا، إلّا أنه حتى النهاية ، يُسمّى – زوجها -.
رفعَت رأسها ما إن سمعَت خطواتَه، عقدَت حاجبيها وهي تضعُ الهاتفَ جانبًا، وبتساؤلْ : مين جايّك بهالوقت؟
أدهم بإيجاز : صديقي.
إلين تقطّب ملامحها، تُميل فمها بانزعاجٍ وهي تمسحُ سطحَ الأرضِ بأقدامِها العاريـة : قلّة الذوق كانت عادة له واكتسبتها أنت منه وإلا العكس؟
ابتسم رغمًا عنه، لكنّه رفـع حاجبه الأيسر وهو يلفظ : أقول قومي لا أسمع حسّك .. مو من الذوق بعد تتعاملين مع ضيفْ كِذا.
إلين بانزعاج : وش تبي مني يعني؟
أدهم : غبيّة أنتِ وإلا وشو؟ قومي جهّزي الضيافة نعنبو بليسك وتقولين أنا السبب برسوبك؟
إلين تقفُ وحمرةٌ كسَت وجهها من شدّةِ حرجِها، وبحنق : وليه ما تقول عقلي طار مع الدراسة؟
أدهم : رقعي رقعي ..
إلين تنفخُ فمها بغيظٍ ومن ثمّ تتحرّك مبتعدةً باتّجاه المطبخ وهي تُتمتمُ بتذمّر : ثقيل دم أنت وصديقك المعفن ذا.
ابتسمَ دونَ تعليق، ومن ثمّ عـاد أدراجـه إلى المجلس.


،


" عسى بس فكّرتي تسمعين كلمتـي من غير عناد؟ طبعًا ما يفرق معي بس عشان نفسيتك. "
رمقتـه ببرود، وتلك الجملـةُ كـانت المفتـاحَ للثورانِ الذي تزعزعَ في صدرِها، وظهر بحلّةِ الانفجـار .. لا! لن تنفجـر، لن تنفجـر ، ستبقى كمـا هي ، ستبقى بالوضعِ الذي نتجَ عن تفاقُمِ بطشِه ، ما معنى العطـاءُ إن ردَّ عليه بالشحُّ في مشاعره؟ هو حتى لم يعترف، هو حتى لم تردعـه مشاعره! أبدًا . .
أشاحَت نظراتها ببرود، تنظُر للأرضِ نظرةً لا تعبيرَ فيها ، بينما تحرّك سيفْ دون تعبيرٍ حتى جلَسَ على الأريكـةِ المزدوجَةِ بجانِبها، وباستفزاز : تعالِي جنبي.
يدرك أنّها ستأتِي ، لأنّ أقـل من يومٍ لا يكفـي حتى تتمرّد، بالتأكيدِ ستعيشُ حالاتِ صراع، بأن لا تهتمَّ وأن لا تتأثـر ، وكـان توقّعه في محلّه .. انفرجَ فمه في ابتسامةٍ لم تفهمْ معنـاها وهي تقتربُ منه، تجلسُ بجانِبه دون أن ينبعثَ صوتُها بتعلِيق، تتوسّدُ حرارةَ جسدِه المنبعثـةِ منه ولا تلامسه، تضعُ كفيها على فخذيها، تنظُر لجانِب وجههِ الذي ينظُر للأمـامِ وابتسامةٌ ترتسمُ على شفاهِه بشفافيّةٍ انسكبَت من كلماتٍ خافتـة، من اختلاجاتٍ لم يلفظها حتى همسَت بتساؤلٍ جامد : وش تبي مني؟
ليلفظَ مباشـرةً وهو يوجّه نظراته إليها ببطء : كمّلنا أربع سنين.
ارتبكَت نظراتها رغمًا عنها، لكنها لم تُوضِح ذلك وهي تُشيحُ بأحداقِها عنه، لم تردّ عليه، بينما مدّ سيفْ كفيه ، ربّما بات الكبتُ عن مشاعرِه صعبًا بعكـس السابق، باتَ عائقًا أمـامَ بسمةٍ وراحـةٍ تكتنزُ فيه وتتشعّب ، باتَ يحبُّ أن يفضِي إليها بمشاعِره، أن ينطُق كلماتٍ تعني " أحبك " بطريقةٍ وأخرى. وضـع كفّه اليُمنى على ظاهرِ كفّها اليُسرى المستريحةِ على فخذها ، ليُردف بخفوت : عمرنا أربع ..
ديما بنبرةٍ باهتَة وهي تنظُر لكفّه التي خضعَت كفّها لها : أقل من نص سنة.
عقدَ حاجبيْه دون فهم، بينما رفعَت ديما عينيها إليه، لم تستطِع أن تكتُم السخريةَ في صوتِها، وهي تُردِف موضّحة : عمرنا كم شهر .. من يوم قلتها لي ، اللي قبل ما أشوفه عمر.
" من يوم قلتها لي " كـانت تعني مشاعِره ، أحبّك! .. أتـرى بأنّ البدايـة كانت هنـاك؟ حين نطقها؟ هل يعنِي الصمتُ أنّ الحيـاةَ لم تبدأ؟ أيُّ منطقٍ هذا !!
انبسطت عُقدةُ حاجبيه، لكنّ ملامحه كـان يظهر عليها عدمُ الرضـا ، لفظَ بجمود : ينطبـق هالمفهوم عليك وبس!
هزّت كتفيها بسخريتها ذاتها : مو مهم.
انعقدَ الصمتُ بينهما بعد جملتها البـاردةِ تلك، أمـال فمه بانزعـاج، ليقفَ أخيرًا وهذا الجوُّ الكئيبُ يخنقه ، لا يريد أن يغضبْ وهذا اليومُ في عينيهِ استثنائي، لا يريد أن يغضب !
تحرّك خطوتين فقط، وتلك لخطوتينِ كـانت كافية ، زمنُها الذي ولِد فيها كـان كافٍ لانفجـاراتٍ – هادئة -! لأنْ يتمرّد صدرها فجأة على العهود، لأن تنقضَ الوعودَ التي عقدتها مع كبريائها في يومٍ مـا ، لأنْ تخدعها عينيها في نظـرةٍ حزينة ، نحوه! وتغدر بها شفاهها بابتسامـة حسرة .. تفاقمَت حتى طالتْ صوتُها الذي لفظ .. بعدَ خطوتينِ – كافيتينِ – فقط : بمثل هاليوم ، في السنة اللي فاتت ... قدّمت لك باقة توليب أبيض بعد! وبخاطري كنت متأكدة، بيجي هاليوم من جديد ، ويكون ولدنا بيننا ، بسنته الأولى ، والرابعة لنا .... كانت الخطة قبل سنة يكون بيني يديني اليوم، ليه ماهو بين يديني اليوم يا سيف؟!


،


كـانت الأنفـاسُ بينهما هي العِمـادُ الأوّل للضجيج، ترتفع ، بانفعالاتٍ لا تهدأ ولم تكُن تريد هدوءً الآن ، ترتفعُ لأقصى مراحِل القسوةِ التي ضغطَت على صدرِه بعدَ همسِها الواهِن ، جعلته يبتعدُ ببطء، وملامحه تشحبُ وكأنّه استعـادَ وعيـه بعدَ غيبوبةٍ مرض ، ما الذي كـان يفعله؟ ما الذي شارفَ على ارتكابِه ! . . . ارتخَت كفوفه عن خصرِها، ليُسقطَها أخيرًا على السرير، ويبقى محاصرًا لها، بكفّيه، وبعينيه التي بقيَت معلّقـةً بوجِهها الباهِت، الغارِق في بحرِ عيون، هذهِ المرّة، العيون انفجـرت ، ليسَ حزنًا ممّا يصيبُ نفسها، بل بسببِي ! بسببي أنا !!!!
أغمـض عينيهِ بقوّة ، بينما كـانت أنفاسها تهدأ تدريجيًا، تنظُر لهُ بصمتٍ صاخِب ، رحلـة الشفاهِ تصرخ ، تصرخُ بصمت! تصرخُ بوجَع، بانهزام ، وإغماضـةُ أجفانِه تضاعِف من دمْعِها، من نزيفِ حنجرتها التي سكبّت كلماتًا مرتعشـة، واهنـة، تحمـل الرجـاء ذاته ، تحاول به أن تُخرسَ ألـم الذنب الذي تدرك أنّه اغتالَه الآن : لا تلومْ نفسك .. من البداية كـان لازم أسمع كلامك وما أقرّب منك.
ابتسَم بسخرية، وعينيهِ لازال يُغمضها عنها، يُخفِي الصخَب القائمَ فيهما بمجزرةٍ تكـادُ تلحقُ بهما معًا .. همسَ بنبرةٍ لا تعبيرَ فيها، وأصابعه تنقبضُ على المفرشِ الأبيضِ يفرّغ ما بقيَ من انفعالاته فيه : لا تبررين لي .. من البداية كان لازم ما أدخـل هالغرفـة وأنتِ فيها.
فتـح عينيهِ عند تلك الجملـة، وقبل أن تقرأهما كـان شفاهه تنخفضُ ليقبّل عينَها اليمنى، ويهمسَ مُردفًا بخفوتِ نبرته : آسف ... غزالـة.
ارتعشَت شفاهها وهي تقبِضُ كفّها فوقَ بطنِها، بينما ابتعدَ بملمَسِ شفتيه الدافئة عن عينيها، انتهى تظليل جسدِه لها ، عن شمسِ مآرِب للقـرب ، تتمنّى أن تبقى شاعرةً بملمسِ شفتيه على عينيها، على شفتيها ، على وجناتها ، تتمنّى أن يطُول العنـاق ، أن يطول! وينسى مسمّى الابتعاد، تتمنّى زخمًا لا ينفطِم بهمسةِ " غزالة " من فمِه .. تتمنّاه .. يا الله ما أقسـى أن تتمنّى شخصًا يتجاوزك، يتجاوزك بمراحل، ولا تستطِيع أن تظفر بمن هو أعلـى ، دائمًا .. الصعودُ على وتيرةِ التفاضل لن تنجح بِه ، ولن تنجح أمامه هو تحديدًا !
جلسَ سلطـان وانحنى للأرضِ يعودُ ليرتدي حذاءه بيدينِ منفعلتين، لم يستغرق ثوانِي حتى كان يمدُّ يده لهاتفه الذي كان على طرفِ السرير، ابتعدَ عنها بسرعةٍ نحو البـابِ دون أن ينطقَ بشيء ، ولم تملك هي أن تقول شيئًا له في هذهِ الأثناء.

خرجَ من الغرفـة ، في نفسِ اللحظـة التي كـان يرنُّ بها هاتفه معلنًا اتّصالًا آخر من عنـاد، تنهّد بوجـعِ الاعترافاتِ التي هزمته ، هزمته أخيرًا ، لن يستطِيع أن يكابـر أكثر على اهتمامِه بجانِب الذي عـاش في كنفِه طيلةَ تلك السنين ، ليس المجرم، بل الأب !
ردّ مباشـرةً عليه، وقبل أن يلفظَ عناد شيئًا كـان سلطـان يسدُّ مخارجَ أحرفِه بصوتِه الذي انبعثَ باستسلام، بيأس : مرنِي .. ما أظن بقدر أسوق الحين.
اتّسعت عينا عنادْ في بادئ الأمـر بصدمـة، ومن ثمّ أرخى أجفانه قبل أن يلفظ بشك : بتروح له؟
سلطـان يُغمضُ عينيهِ بخزي، يعاتبُ نفسه ، يعاتب ، لكنّ العتبَ يقضِمه بأسنانِ الاهتمـام رغمًا عن أنفه ، نطق أخيرًا مستسلمًا إلى رغبـةٍ برؤيتـه ، وأن يكون قريبًا ، قريبًا منه ، أن يكونَ بجانِبه ، ويدعو له .. يدعو له يا الله رغمًا عن كلّ شيء! : أيـه.
ابتسمَ عنـاد بصدمـة، لكنّه لم يملك الوقت الكافي للتفكير والتحليل، لفظَ بنبرةِ عجل : أنا قريب منك الحين.


،


" فيك شيء مختلف اليوم! "
نظـرت جيهان بعينينِ تائهتين للطبيبةِ التي قرأت بهتـان أحداقها بوضوح، شتت عينيها بربكة ، وهي تدرك أنّها لا تفعل شيئًا سوى الانسلاخ من غلافها أكثر وجعلها تقرأ اختلاجاتَها المضطربـة ببساطةٍ أكبـر.
ندى بهدوء : زعلانة ، وبنفس الوقت فيه جانب مبسوط فيك ... * بشك * شفتيه؟
ارتبكَت، وبدأت أحداقها تتشتّت في جوانِب بيضاءَ لم تشُبها رماديّةٌ كالتي تنهالُ على عينيها، همسَت بغصّةٍ وهي لا تنظُر نحوها، بصوتٍ يَحتدُّ بعض الشيء برفض، ان تدرك أنّها شعيدة! لأن جزءًا صغيرًا منها ارتوى برؤيته، وحزينةٌ أيضًا، لأنّه بعيد! : لو سمحتِ دكتورة ندى .. هذا ماله دخل بموضوع شغلك!
ابتسمَت ندى لتلفظَ دون أن تفقدَ بسمتها : شلون؟ وأنا مرّات من غير لا أسألك عنه تبدأين تحكين بنفسك .. وعلى فكرة ترى ما أذكر إنّي سألتك عن اسمه، أنتِ اللي قلتيه مرّة لي وأنتِ تتكلمين عنه ..
شعَرت بالحرجْ، انتبهت لأسلوبها الذي كـان فظًا معها ، ابتلعَت ريقها، ومن ثمّ وجهَت عينيها إليها لتهمسَ بأسفٍ كـان بعيدًا كل البعدِ عن الهدوء، كـان يصرخُ بألمٍ هادئ، بنبرة خافتـة، لكنّها تُزعجُ - العيـان - بموجاتِها التي تُشوّشُ مستحاثّاتِ الإنابة على فرحْ! : آسفة.
ندى ببشاشة : لأيش؟ مافيه شيء يستحق الاعتذار .. عمومًا يا حلوة خلينا بعيدين عن ذكر فواز ... وقوليلي أنتِ .. شلونك؟
رسمَ اسمـه بسمـةً في شفاهِها، وعبُوسًا في عينيها، تمايلَ حاجبيها وهي تُخفضُ نظراتها للأسفل، تتلاعبُ بأطرافِ أصابعها على ركبتيها، هامسـة : نص نص.
ندى : عشان يروح ربـع من النص اصلبي ظهرك وخلّي عيونك في عيوني وتكلمي وأنتِ تناظريني أنا.
رفعَت وجهها بتردد، ابتسامتها تلكْ كـانت ترتعدُ كأصابِع من الانهزامِ لفّها ريحُ شتـاء، تلاشَت أخيرًا حين وقعَت عينيها على عيني ندى، لتشتّتهما في النهاية دون شعور.
زفرَت تلك بهدوء، ومن ثمّ لفظَت : شويّة ثقة ، وبترتاحين.
جيهان بنبرةٍ متداعيةٍ بخفوتها : أمس لما كلّمتـه كنت حاطـة عيني بعينه.
ابتسمت ندى رغمًا عنها ما إن عادَ عقلها يبحرُ إليه لتتحدّث دون شعورٍ عنه، وبهدوءٍ تجاريها : بأي ظرف كلّمتيه؟
جيهان ترفعُ عينيها إليها، لم تستطِع أن تمنـع كفيها من الانقبـاضِ انفعالًا، ربّما الحديثُ بهذهِ الشفافيّة مع أرجوان لا يروق لها، أن تتعرّى من كلّ شيء! من كلِّ شيءٍ حدّ أن تعترفَ بأنها ضعيفة، وبأنها مخطئةٌ مثله، وبأنّها حتى الآن لازالت تريده ، لكنّ هذا الحديث، بات أسهل هنا! بطريقةٍ لا تعرفها بات أسهل : كنت معصبـة .. وأبي أقهره!
ندى وابتسامتها تتّسع حتى ظهر صفُّ أسنانها : يعني يبيلك بس تعصبين عشان تحطين عينيك بعين اللي قدامك؟
جيهان تُميل فمها بغضبٍ مكتوم، نظرت لما خلفَ كتفِ ندى مباشرة وهي تهتفُ بنبرةٍ حادة : دايم كنت أحط عيني بعينه .. لأنّه دايم يعصبني !
ضحكَت ندى بخفوت وهي تدرك أنّها فقط تبالغ : طيب ما يصير بس تحطين عينيك بعينه وقت ما تكونين معصبة ! بكل الأحوال حاولي ما تتكلمين إلا وأنتِ بهالوضعية ، عشان تثقين بنفسِك أكثر.
شردَت قليلًا إلى ملامِحه ، إلى ملامح البارحـة، وتضاريسِه التي لم تَكفِها الأشهر القليلـة حتى تتغيّر، لمَ تشعر أن أعوامًا هي التي مرّت وليسَ مجرّد أشهر؟! . . تاهَت نظراتها، وتنهّدت ، لتلفظَ أخيرًا بخفوتٍ تائه : أحـاول . . .


،


تلفُّ أصابِع يدها على عضدِ يوسف، شـاردة، تنظُر للأسفـل ، هذ الطريقُ طُبـِعَت عليه خطواتٌ عديدة، قد تكون من ضمنها خطواته ! . . زمّت شفتيها وصدرها ينتفـخُ بالأكسجينِ الموبوءِ برائحةٍ تلاشَت له ، لم تشمّها، لكنّها متأكّدةٌ من أنّ رائحته عبـرت هنا، وتنفّس في هذا المكان ! . . . يكفي! يكفي! .. تريد أن تصرخ .. يكـــــفـــــــــي !! ليخرج من عقلها، من قلبها ، تكفِي هذهِ الأشهر التي حملَت فيها ضريحَ راحتها على كفوفها عن سنين! هذا العـامُ كم تكرهه ، كم تكرهُ ولُوجَه في حياتِها .. عامُ حزن ! أيكفِي هذا المسمّى؟! عـامُ حزنٍ يا فـوازْ وأنا النبيّ الذي فقدَ في عامٍ اثنين ، أمّي وأنت .. أمّي وأنتَ فكيفَ أحمـل هذا الضريحَ ولا يكُون فوقي؟ كيف أحملُ ضريجَ راحتِي ولا يكون ضريحي أنا ! ليتَ الحزن يقتـل ، يريحنا من هذا العذابِ الصامت ، يكتفي عن إيصالنا لأطرافِ الموتِ وقبل أن نلامسه يجتذبنا بعيدًا عنه !
كـانت أقدامهم قد ترازنَت مع البـاب، وصلوا حيث المبنى، لكنّ يوسف توقّف فجأةً بربكةٍ ما ، عقدَت حاجبيها، كــانت تنظُر للأرضِ التي تضيقُ ولا ترى سوى ظلالهم ، لكنّها رفعَت نظراتها حينَ لحظَت وقوفه وحتى أرجوان التي كـانت تمشي على جانِبه الآخر ومعها ليان توقّفت وهي تنظُر جانبًا بصمت ! . . . ابتلعَت ريقها فجأة ، وتشتّت عينيها بإجفالٍ وهي ترى فواز يخطو نحو البـاب كي يخرج ، عـادت تنظُر للأرضِ وهي تتنفّس بسرعة، وكفّها دون شعورٍ شدّت على عضدِ يوسف ، ما معنى هذا الظهور وهو الذي لم تكُن تصادفـه لأشهرٍ في هذا المكـانِ رغمَ أنّه مشتركٌ بينهم ! .. شدّت على أسنانها بحنقٍ وهي ترفَعُ أحداقها بعدَ أن تذكّرت كلمـاتِ الطبيبة ، ألن تنظُر لعينيه إلا في حال الغضب فعلًا؟ .. لاكَت مقاصِد الطبيبةِ بأخـرى ، تربطُ كلّ المواضيع بهِ هو ! تولجـه في أدقّ التفاصيلِ التي ينبغي أن تتبنّاها لأجلها هي ، لأجلها هي فقط !
ارتخَت كفّها عن عضدِ يوسف الذي زفـر وهو يحاول أن يجعل تواجده عاديًا رغم أنه يدرك أنّه بعيدٌ جدًا عن هذا المُسمّى بالنسبةِ لها ، لكنْ في كلّ الأحوال كثيرًا ما سيحدثُ ذلك ، وعاجلًا أم آجلًا كـان الصدامُ ليأتي ! .. تحرّك وهو يتجاهـل فوّاز الذي لم ينظُر ناحيتهم منذ البدايـة وكـان هو بدورِه يتجاهـل النظـر نحوها بعكسِها هي .. والتي قرّرت في البدايـة أنّ نظرتها ستكون حادّة، قويّة، لكنّها لانَت رغمًا عنها ، وباتت تطوفُ في تقاسِيم وجهه بشغفٍ وشوق، تلك اللئيمةُ تلامسُ بعينيها وجهه كلّ يوم ، آآخ كم تتمنّى لو تحيط عنقها بكفّيها وتسحقه ! .. لحظة ، هل أصبَحت تعيشُ معه هنا؟ .. عقدَت حاجبيها بصدمةٍ عند تلك الفكـرة ، وارتحلّت أفكارها إلى تفاصِيل لم ترى أنّها وقحةٌ في التفكير بها ، لا شيء يثبت أنّها هنا ، ولا يعقل أن فواز يعيشُ في مكانٍ آخر ! ما الذي يثبت لها أصلًا أنها لا تعيشُ هنا؟! بالتأكيد فهو تزوّجها منذ أشهرٍ طويلة، وعدم رؤيتها لها هنا ليسَ بالضرورةِ يعني أنّها ليسَت معه ، تنام على سريره ، والتي نامَت هي عليه قبلًا !!! . . . تسارعَت أنفاسها فجاة، وغابَت ملامح فوّاز عنها حينَ حلّ الظـلامُ أمامها، لم تعد ترى شيئًا ، سوى أنّ أفكـارها تجسّدت لها ، تلك الجميلة اللئيمة! تنهضُ كل صباحٍ لترى عينيه، قد يكون نائمًا فتُمعـن في تأمّل ملامحه، أو مستيقظًا فترى إشراقها .. تلك اللئيمة يقبّلها كما كان يقبّلها هي ! أنثـاه الأولى ! يا الله!! كيفَ يحدث أن تكون أنثـاه الأولى وهي ، وهي ماذا!! . . . احمرّت ملامحها بغضب، ليسَ خجلًا ممّا توصّلت إليه بحجمِ ما كـان غضبًا ، قهرًا، غيرةً شعواء ، ستنفجـر ، ستنفجـر ... الخــائن!
لم تسمـع صوتَ ليـان الذي كـان يتمتم بكلماتٍ عديدةٍ لأرجوان عنه! مستنكرةً عبورهُ من جانِبهم دون أن يلفظَ بشيء، دون أن ينظُر نحوهم، ودون أن يستجيب لنداءاتِها حتّى! .. لم تنتبه إلى كونِهم وصلوا لبـابِ شقّتهم، كـانت تشدُّ على أسنانها وتتنفّس بقوة، شعـرت بها أرجوان ، وبالتأكيد شعر بها والدها .. لفظت أرجوان بحرجٍ محاولةً أن تنبّهها على انفعالاتِها التي ظهرتْ مليًّا أمامهم ولم تستطِع أن تُخفيها، الانفجـار الذي خشيَه يوسف منذ رأى فواز وهو يدرك أنّ ابنته بالتأكيدِ لم تتجاوز فواز حتى هذهِ اللحظـة : جيهــــان.
نظـرت لها جيهان بضيـاع، عقدَت حاجبيها وكأنها كانت غيرَ متأكدةٍ من كونِها نادتها، بينما قطّبت أرجوان ملامحها وهي تُشير لها بعينيها إلى والدها، وتلقائيًا ارتفعَت نظراتها إليه ، لترتبك ، وتخفضها تلقائيًا بألـم ، تغلغلَ فيها حدَّ أن تكون بهذا الوضوحِ أمامهم ، لا تستطِيع ، لا تستطِيع أن تسيطِر على نفسها أكثر !
شدّت قبضتيها ، متى تركت عضد والدها ! لا تدري !! . . . مشَت للداخـل بصمت ، لم تحاول أن تنظُر ليوسف حتى ، بل تحرّكت بخطواتٍ متّسعة .. إلى غرفتها مباشرة!

من جهةٍ أخـرى ، زفـر بهدوءٍ هو يدسُّ كفيه في جيبيه، يومين تتابعا رآها فيهما! ليكن صريحًا مع نفسِه أكثر ، هو من تعمّد رؤيتها له اليوم! ما إن انتبـه لهم يقتربُون من المبنى عبر النافذة حتى تحرّك نحو البـاب مباشرةً وبعجل ، لا يدري لمَ فعل ذلك ، لكنّه فقط ، أراد أن تصتدمَ عيناها بِه وإن لم ينظُر لها حتى ! .. لم يعُد يفهم نفسه ، لمَ فعل ذلك؟ أليُثير مشاعرها أكثر؟ ليجعل الحبَّ في صدرِها يُحفّز نفسه أكثر؟ أم لينظُر لها عن قرب وحسب؟ لكنـه لم يسقِط نظراته نحوها حتى !!!
مرّر لسانه على شفتيه، ومن ثمّ تمتمَ بحيرة ، يشتمُ فيها نفسه : وش اللي تبيه أنت بالضبط يا غبي !!!!


،


يتّكئ على الجدارِ الأبيضِ البـارد، يكتّف ذراعيه، وعينـاه البائستينِ تنظُرانِ لعنـاد الذي كـان يقفُ أمامه مباشرةً ويتحدّث مع رجل – عرفَ أنّه الشاهدُ على ما حصل -. يصله صوتُهما، رغمًا عنه كـانت حواسُّه منسجمـةً مع الحديث، بالرغم من ملامِحه الباردة إلا أنه كـان يُمعن في السمـع ليفهم ما يُقال كلمةً كلمة.
: للحين حالته نقدر نقول عنها مستقرة .. هذا اللي قاله الدكتور، بس بنفس الوقت ما نقدر نضمن إنّه ما يصير له شيء .. الضرب كـان على مؤخرة العنق بشكل مباشر، متخوفين من فكرة إنّ الضرر وصل للنخـاع، وممكن يتسبّب بأمور لا يُحمد عقباها.
صمتَ عنـاد قليلًا، بينما أغمض سلطان عينيهِ بقوّةٍ وهو يشدُّ على ساعديه، عضلاته تكاد أن تنفجـر، أصابعه تكاد أن تتحطّم من شدّةِ ما يضغطُ عليها .. كـان يريد أن يسأل، أن يعلـم بالتفاصيل ، لكنّ الكثير كـان يمنعه، وأوّله العزّة بوالِده ، أن يخونه لأجـل آخر " زائف "! يكفيه هذا الحد، لا يستطِيع أن يقوم بالمزيد، لا يستطيع !
لفظَ عنـاد بعد رحلـة صمتٍ دامتْ ثوانِي : الضرب كان بأيش بالضبط؟
: قضيب حديدي .. مرّتين .. والثالثة كانت بالطريق لو ما مسكته .. * ابتسمَ محاولًا تلطيفَ الجو * بس بالمقابل طبعًا حصّلت ضربه على كتفِي وقت ما كان يقاوم قبل لا يهرب.
ابتسم عناد بامتنان : تدري إنّ الثالثة هذي كـان ممكن تكون القاتلة؟ يعني لو طلع منها بخير، فالفضل يرجع لك بعد ربّ العالمين.
: لو صار له شيء لا سمح الله بلوم نفسي بعد .. كنت شايف اللي صار من أول ما وقف وراه ، بس بطئي ما خدمني.
وضـع عناد كفّه على كتفِه، شدّ عليها وهو يبتسم : مشكور .. الله يجزيك بالخير عاد تحمّل الإجراءات بتغثّك ..
ضحكَ الآخر : أدري .. هذا إذا ما جاء الشك حولي.
عناد بثقة : ماراح يجي .. متأكد.
: الله يسمع منّك.
شتّت عناد أحداقه لتسقطَ على سلطان الذي أشـاح وجهه مباشرةً بصمت، جمودهُ غريب! لم يكُن يدرك في ذاك الوقت أنّه ناتجٌ عن اكتشافاتِه اليوم ، ناتجٌ عن صدمتِه من ذاتِه ، بعدَ أشهرٍ طويلـة ، كـان فيها قد تأكّد من حلولِ الكره ، من حلولِ كلّ المشاعِر السلبيّة تجاهه ، تأكّد من احتقارِه له، من كرهه، من حقدِه ، واليوم من سقطَة! تـداعى كلّ شيء!!
اقتربَ منه عنـاد ليقفَ أخيرًا بجانِبه، وقفَ مثله تمامًا، اتكأ بظهرِه على الجدارِ وكتّف ذراعيه ، كتفه استشعرتْ تشنّج كتفِه بجانِبه ، جسدهُ كلّه كـان متشنّج ، لحظَ شدّه على أطرافِه ، على ذراعِه، حينها تنهّد لينظُر للأمـام ويلفظَ بهدوء : محد يقدر يلومك على شيء .. سواءً تمنّيت موته أو لا.
سلطـان ببرود، يُخفِي رعشـة نبرتِه، تداعِي الكلمـاتِ من شفتيه، يخفي كلّ مشاعره التي تكسّرت فوقَ سكّةِ ما حدَث له اليوم : ما يهمني بكلا الحالتين .. لو مات برتاح ، وبنفس الوقت لو ما مات بكون أسعد .. عشان يتعاقب بطريقة أقسى !
عناد بصوتٍ لازال يحتفظُ بهدوئه : احتمال كبير يصير ينشل وأقدر أقول بنسبة تتجاوز الـ 80% !
ابتلعَ ريقه بصعوبـة، وعقله راح يتخيّل سلمان بعدَ كل تلك السنين ، يفقدُ قوّته، صلابتـه التي اعتادَ عليها ، عقله راح يتخيّله مقعدًا ، ضعيفًا ، لا حول لهُ ولا قوّة! .. عضُّ زاويـة شفتِه السٌفلى بقوّةٍ حتى كـاد يُدميها، يعاقبُ نفسه بالألـم، لن يعودَ للصحوة سوى بالألم، بالمكابرة أكثر .. وهو ينطق بقوّةٍ حاقدة : قليلة عليه.
تنهّد عنـاد، ومن ثمّ أدار وجهه ناحيته، ليلفظَ بهدوء : تعال نجلسْ بمكان هادئ عشان تريّح عقلك شوي .. ماراح نعرف إذا بيصير له شيء إلا إذا صحى ، وواضح الوضع مطوّل.


،


في الليل ..
ألقـى نظرةً سريعةً على أمّه ، كـانت تجلِسُ أمام التلفـاز ، تبقى وحيدة ، لا تريد قربه كما توضّح له، ومن الجهـة الاخرى باتَ يخشى عليها فأسيل لم تعُد معها ، البارحـة تركها لساعاتٍ طويلة ، وبالرغمِ من سعادتـه إلا أنّه عندما اختلا بنفسِه ظلّ يلوم نفسه طويلًا ، لا يستطِيع أن يبقى معها طيلة اليوم ! ما الذي يجب عليه فعله بالضبط؟ أيحضر لها ممرّضةً أخـرى من بعدِ سوزان؟ .. عقدَ حاجبيهِ وهذهِ الفكـرة لا يستصيغها، وهي أيضًا بالتأكيد لن ترضى وستغضبُ منه أكثر فهذهِ رسـالةٌ بأنّ أسيل لن تعود! ... ابتسم بأسى، من قـال أنها لن تعود؟ عاجلًا أم آجلًا يجب أن تعود ، لكنّها ستكون زوجـةً لآخر ، ليسَ له !
تحرّكت أقدامُه قبل أن يخرج وهاتفه يُضيء باتّصالِ متعب الذي كـان يقفُ قريبًا من المنـزل، دسّه في جيبِه بعدَ أن أنهى الاتّصال، ومن ثمّ تابـع خطواتُه إلى أمه، وما إن وقفَ بجانبها حتى لفظَ بحنـان : حطيت لك العشى بطاولة المطبخ ، أدري عنّك ما كنتِ تبين تآكلين معي.
لم تردّ عليه، لكنّه لم يستسلمْ وهو يلفُظ بصوتٍ أكثر حنانًا : يا رب ما أهون عليك أكثر!
لم يجِد منها ردًّا حتى الآن، كـان يريد أن يتـابع، أن يقول لها " جايّك خبر حلو قريب " لكنّه وجدَ أن ذلك قد يكون خطأً، ليسَت الطريقةُ المُثلى في التهيئة ، ليسَت الطريقة المثلى! . . تحرّك مبتعدًا عنها بعد تنهيدةٍ طويلة، وهاتفه يرتفع من جديدٍ معلنًا اتّصال متعب مرةً أخرى، في اللحظـةِ ذاتها التي رفعَت فيها عُلا هاتفها الذي كان قد اهتزَّ بجانبها، انتظـرت حتى خرج شاهين، ومن ثمّ ردّت بنبرةٍ هادئة : السلام عليكم.

في الخارج، أوقفَ شاهين سيارته قريبًا من حيثُ كان يقفُ متعب الذي اقتربَ وفتح البـاب ليصعد ، وقبل أن يُلقي السلام استدارَ ينظُر لهُ بحدّةٍ وهو يرفعُ حاجبه الأيسر : ممكن أفهم حضرتك ليه قفّلت بوجهي؟
ابتسمَ شاهين وهو يحرّك السيارة : كنت أحكي مع أمّي.
لم يستوعِب أنّ لسانه في تلك اللحظـةِ قد " زلّ "، ارتبكَ مباشـرةً بعد ما قـالـه، بينما صمتَ متعب دون فهم، انهـال عليه الشوقُ بحمَمِه ما إن نطـق كلمة " أمّي " لكنّه بالمقـابل استغرب، أمـا كانت فرصـةً ليسمع صوتها؟ لمَ لم يرِد الردَّ عليه في تلك اللحظة؟
لم ينظُر شاهين نحوه وهو يشتّت عينيه بالطريقِ ويبتسم ابتسامةً كـانت مرتبكة، وبنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا حاول بها أن يشتّت عقله عن موضوعِ أمّه بالرغمِ من كونِه لن يستطيع مهما حدَث : ليه متلثّم؟
متعب يرفعُ كفّه ليفكّ اللثمـة بعد أن خرجوا من الحيّ الذي سكنَ فيه ، بعدَ دقـائق طويلةٍ تأمّل فيها المنـزل ، تأمّل فيها الزوايا، هل تصدّعت؟ هلْ بهتَ لونها أم تغيّر؟ هل تحرّكت زاويـةٌ نحوَ المشرِق حينَ ضلّ عنها؟ أم أخـرى نحو المغربِ حين استنكـرت الغيـاب، استنكرَت عدمَ سمـاع اسمه يتردّدُ فيها ، نحو المغـرب ، لأنها شعرت .. أنّه هناك !
أظهـر وجهه ومن ثمّ مسـح عليه بعد أن كـان تلثّم للحيطة، فإن لم تتصادم ملامحه مع أحدِ معارفـه القدامى في شوارِع الريـاض فبالتأكيد سيحدثُ في هذا الحي! . . . هتفَ بصوتٍ باهِت ، يتجـاهل الإجابـة عن سؤاله، ويباغتـه بسؤالٍ آخر، فاتـر، متداعِي : ليه ما تبيني أسمع صوتها يا شاهين؟
اتّسعت عينا شاهين بصدمـة، نظـر نحوه بسرعة، ومن ثمّ أعاد نظراته نحو الطريق، ليلفظَ باستنكارٍ عاتِب : رجعت تظن فيني سوء؟!!
متعب بصوتٍ احتدّ فجأة : لا .. بس وضّح لي ، أنت اللي لا تخلي ظنوني تروح للخطأ ! .. ليه ما كنت تبي ترد علي وأنت تدري إنّي أبي أسمع صوتها؟
شاهين بتبريرٍ كاذب : ما تمشي! تبيني مثلًا أفتح الخط وأظل ساكت قدامها؟ خطوة مفضوحة.
شعرَ بالغضب، أيظنُّ أنه غبيٌّ ليُملي عليهِ عذرًا كهذا؟ لم يكُن في هذهِ اللحظـات يظنُّ بِه سوءً بحجمِ ما استنكرَ وهو الذي يدرك أنّه متلهفٌ لسماعها! كان يستطِيع فعل أيّ شيء، فلمَ لم يحاول؟ .. لفظَ بصوتٍ غاضِب يتباينُ بألوانِ الغيظ : لا تتذاكى علي! أعرفك لو كذبت تظن ثلاث سنين بتخليني أجهلك؟
ابتسمَ شاهين رغمًا عنه بغيظ : اللي خلاك تصدّق فيني بيخليك تجهلني.
أدارَ رأسه إليه وصوته ارتفـع فجأةً بقهر : مو هذا موضوعنا .. وبعدين لا عاد تعاتبني وأنت قايل إنّك منت مهتم قبل! قولها وارتاح ، قول إنّك ما سامحتني وانتهى الموضوع بس بطّل تناقض نفسك بهالشكل البايخ!
شاهين وصوته يرتفـع هو الآخر : عن المبزرة متعب ! أنت شايف الظروف من حولك؟ لا تقعد تفسّر كل شيء على كيفك .. إنّي ما أبيك تسمعها ما يعني إنّي كذاب وإنّي . . .
قاطعه متعب بحدة : تعترف إنّك ما تبيني أسمعها يعني؟
شاهين يعضُّ على شفته، لم يردَّ عليهِ وهو يشدُّ بقبضتيه على المقود، لو تحدّث أكثر سيتضاعف غضبه، وربّما سيفضح الأسبـاب، أنّه لا يريد لاسم أسيل أن يلجَ الآن فتبدأ أحاديثُ لا يريدها ، لم يكتفِي بعد ، لم يكتفِي بعدُ من هذا الفـرح ، لا يريد للأحزانِ أن تبدأ، للنتوءاتِ أن تبرز أكثر فيتعرقلانِ فيها، لا يريد لكلّ ذلك أن يبدأ من جديد!
استفزّه أكثر صمته، وتأكّد من أنّه يخفِي شيئًا ، لم يفكّر للحظـةٍ أن يكون لأسيل دخلًا في كلّ ذلك ، لم يستطِع أن يتوقّع سببصا، لذا غضب أكثر ، فشاهين لن يضمر لهُ الشر، لكنْ لمَ؟ . . . هتفَ من بينِ أسنانه وجهلهُ يكادُ يجعله ينفجر في هذهِ اللحظـات : شاهين تراها قافلة معي ... ليه ما تبيني أسمع صوتها؟ وش بيصير وأنا أكيد مستحيل أحكي وأفضح نفسي بهالطريقة ، تراني أخاف عليها ويمكن أكثر منك بعد !
زمّ شفتيه، وقرّر عدمَ الردِّ أيضًا ، وفي تلك اللحظـة انفجـر متعب ، فتـح فمه يستعدُّ للحديث ، وهذهِ المرّة بصراخٍ غاضب، وليسَ بمجرّدِ صوتٍ يرتفـع .. لكنّ صوتَ هاتِف شاهين في تلك اللحظـة انقذه من تشابك الخيوط وربّما الضغط عليه حتى يجدَ نفسه يلِج في موضوع أسيل في النهاية ! .. رفعـه، بينما عضّ متعب شفته السُفلى وهو ينظُر لكفوفِه المنقبضَةِ على حجرِه بحنق، لحظَ هدوءَ شاهين الذي طـال ليرفعَ وجهها ويجده ينظُر للهاتِف باستغراب ووبعضٍ من الصدمة، استنكـر ، وعقَد حاجبيه وهو يلفظُ بحيرةٍ حادةٍ بعض الشيء : شفيك؟
شاهين يرفعُ نظراته نحو متعب وهو يمرّر طرفَ لسانه على شفتيه بربكة، هل يردّ؟ لكن لمَ قد تتّصل؟ هي لازالت غاضبةٌ عليه! لمَ قد تتّصل بِه؟ شعـر بالحيرةِ تغتاله، اتّصالها يعني أنها رضيت! لكن .. ماذا لو كانت تريد أن تتحدّث عن أسيل! .. كـان ليتمَّ الأمـر في المنـزل وليسَ بعدَ خروجه .. هل يردّ؟ لكن ماذا لو كـان حدثَ لها شيء !! ... عند تلك النقطـةِ أصابه الذعـر ، ووجدَ كفّه ترتعشُ بقوّةٍ وهو يوجّه نظراته نحو الهاتف، كاد يردُّ لكنّ متعب لم يمهله وهو يمدُّ كفّه بسرعةٍ خاطفـةٍ بعد أن زاوله الشك من صمتِه الغريبِ بعد الاتصـال ، نظر للهاتف في اللحظـة ذاتها التي ارتفعَت بها زجـرة شاهين الغاضبة والذي فقد صبره من تصرّفاته : متــــــــــــعـــــــــب !!!
شدَّ متعب الهاتف بغضب ، كانت هي ! هي!! .. سمفونيّة الصوتِ التي انتظـر سماعها، هي ! .. نظـر لشاهين بغضب، ومن ثمّ عـاد ينظُر للهاتِف، لا وقتَ للعتـابِ الآن، لا وقتَ للاستفساراتِ الفارغـة ، امّه اتصلَت ، والهاتف في يدِه ، ما الأجمل من ذلك الآن؟ من كونِه سيسمـع صوتها الذي اشتاقه، والذي غـاب ، غــاب لزمن ، غاب طويلًا ، طويلًا يا أمّي!
قرّر أن يُجيب ويضع شاهين في وجه المدفـع، أداره ظهره وهو يمسكُ كفّه التي كانت تريد أن تسرق الهاتفَ من يدِه ، ومن ثمّ أجـاب .. وكبّر الصوتَ مباشرة ، لينبعثَ صوتها ، ملهوفًا ، متسارعَ الأنفـاس ، ملهوفًا ، لكن ليسَ كلهفتِه ، متسارعَ الأنفاس ، وليسَ كمثلـه ، يكـادُ يكونُ قتيلَ اختنـاق ، يشهقُ بالهواءِ بطريقةٍ صامتة، لم تُسمـَع لها، لكنّه في تلك اللحظـة .. كاد يموتُ اختناقًا وحسب !
: شاهــــين . . .
ابتلـع شاهين ريقه بعد أن وصَل صوتُها إليه ، كـان غاضبًا ، لكنّه في المقابـل لم يملك حيلةً ليفعـل شيئًا، وجدَ نفسه محشورًا بالرد، وهو يتمنّى في داخلـه أن تكون اتّصلت عليه لسببٍ بعيدٍ عن أسيل ، ألا تلفظَ اسمها الآن ! . . ردّ بنبرةٍ كبتَ فيها غضبـه، لم ينظُر لردّة فعـل متعب بعدَ سماعِه صوتها، وهو يردُّ بخفوتِ صوته : نعم يمّه.
علا بصوتِها الملهوفِ والذي يتضاعفُ علوًّا بفرحتها : مرتك ، مرتك أسيل حـــــــــامـــــــل !!!

.

.

.


انــتــهــى


موعدنا القادم الأربعاء إن شاء الله ، وبإذن الله بيكون كبير في الكم وليس فقط بالمشاعر.

عاد ما نبي تحلطمـات على الوقت اليوم ، عيوني أحس بتطلع من محاجري من مقابلة اللاب :( -> مو أقول طولت بالكاتبة ؟:/


ودمتم بخير / كَيــدْ !


أبها 25-07-16 06:52 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
يعطيك العافيه يا كيد مافي قصور منك أبد ..

جزء رائع كالعادة ..

وكلنا لهفة لمعرفة ردة فعل شاهين ومتعب على
الخبر المفاجيء ( أسيل حامل ) !!!!
ومن قبلها كنا نريد معرفة الحكم الشرعي لمثل
حالة أبطالنا . ما هو حكم زوجة المفقود إذا ظهر
بعد مدة طويلة وقد حكم بوفاته وتزوجت بآخر ؟؟
طبعا في حالة كون أسيل حامل حقيقة ، سيكون
الموقف قد ازداد صعوبة وتعقيدا ،، وأرجو أن لا
يغير ذلك في العلاقة بين الأخوين .

سليمان .. لم يمت .. خيرة ، لعله حين يفيق يسرد
لسلطان حقائق خفيت عليه ، وتبين برائته .

شكرا كيد .🍃🌸🍃

كَيــدْ 27-07-16 06:18 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية.


بارت دسم دسم وأشوفه طويل ومن أقرب البارتز لقلبي :$ ، شبـه شامـل للشخصيات فـ إن شاء الله يعجبكم ويكون عند حُسن الظن ()

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

من أنت كيف طلعت في
دنـياي ما أبصرت فيا
فـي مقلتيك أرى الحياة
تـفيض يـنبوعا سخيا
وأرى الـوجـود تـلفتا سـمحا
وإيـماء شـهيا
ألـممت أحـلام الصبا
وخـلعت أكـرمها عليا
مـهلا فـداك الـوهم لا
تـرمي بـمئزرك الثريّا
أنا في جديب العمر أنثر
مـا تـبقى فـي يـديّا
عودي إلى دنياك واجني
زهـرها غـضا زكـيا
يـكفيك مني أن تكوني
فـي فـمي لـحنا شجيّا


* عمر أبو ريشة

(77)*3




خمسةُ أحـرف ، خمسةُ أرقامٍ من كلمـة ، خمسةُ مفاهيم ، راحة، سكينة، فرح، شوق، وحُب . . خمسـة ، يجتمعونُ في صوتٍ لم يتبدّل ، لم ينسـاه، ولن ينساه وكيفَ يقوى؟ كيفَ يستطِيع الانسانْ أن ينسى صوتَ أمّه، أن ينسى الصوتَ الذي كـان يسمعهُ وهو في منزِله الأول – رحمُها، كيفَ ينسـاه؟ وكيفَ لا يُغمـض عينيه الآن، ويعيشَ نشوةً من اشتيـاق ، لم أرتوِي، لم أرتوِي بعد .. تحدّثي أكثر ، كلمةٌ واحدةٌ لا تكفي ، " شاهين " وحدها لا تكفيني حتى أروِي عطشي إلى صوتِك .. تحدّثي أكثـر ، أسهبي في الإطـالة ، في التعمّق بثرثرةٍ ناعمـة، بثرثرةٍ لها قدسيّةٌ لم تمتلكها امرأةٌ قبلك ولا بعدك .. تحدّثي أكثر ، أكثر ! ولن أكتفي.
أعـاد رأسه للخلفِ باسترخـاءٍ وهو يبتسـم دونَ شعور، يتجاوبُ جسده كلّه مع صوتِها، لا يصدق أنه سمعه، بعد كلّ تلك السنينِ سمعها أخيرًا ، يا الله كيفَ يحتمـل فيضَ هذهِ المشـاعرَ الآن؟ كيفَ يستطِيع أن يبقى صامدًا، ولا يغشى عليه الآن من فرطِ الحبُور!
سمـع ردّ شاهين الباهِت " نعم يمّه " ليبتسمَ أكثر بتشفّي، لم يعلـم حتى الآن لمَ لم يكُن يريده أنْ يُحدّثها، لكنّه الآن يشعُر بانتصـارٍ ساذَج لأنّه في النهاية سمـع صوتها وهو لا يريد ..
: مرتك .. مرتك أسيل حامــل ..

كـانت الجملـة غريبة ، غريبةٌ بعض الشيء ! تلاشَت بِها بسمتُه، وعقدَ حاجبيه وكأنّ عقلـه لم يفهم ! لم يستوعب، لم يُدرك ما وراءَ تلك الكلمـاتِ التي جاءَت معترضـةً سيرَ فرحتـه واسترخاءه، عـادَ سنينَ للوراء، وكأنّه في تلك اللحظـة ، لم يكُن قد عرف أسيل ، لم يكُن قد تزوجها، وأحبها، ومن ثمّ فقدها! .. في هذهِ اللحظـة ، في خضمِ فرحتـه بكلّ ما يصير من حولِه بعد رحلـةٍ طويلةٍ على قافلـةِ البؤس، نسيَ ، أو تنـاسى ، أنّه أحب! وأنّ الكلمـاتَ التي لفظَت لشاهين الآن .. تعنيهُ هو أيضًا ! ثلاث .. همْ ثلاث ، اثنانِ لم يكفيا سوى للتنـاسى! فقط للتنـاسي لبعض الوقت ، تمامًا كما كـان يفعل شاهين ... تناساها، حتى جاءت تلك الجملـة .. غريبة! غريبةً بشكلٍ موجِع، بشكلٍ لا يطـاق ... لا يُطــــــــــــــــاق !!!!
في اللحظـة ذاتها ، وبعدَ أن حلّت تلك الجملـة ، كانت ملامح شاهين تشحُب بصدمـة ، اتّسعت عيناه وبياضُهما يسيرُ على خطِّ الحُمـرة ، شعرَ أنّ قلبـه توقّف للحظـةٍ خاطفـة، ومن ثمّ ارتفـعت وتيرة انقباضاتِه فجأة! حدّ أنه كـان يسمعها، يسمع النبضـات المتواتِرة مع شفتيه التي كـانت تتحرّك بصدمـة، تتحرّك دون استيعاب .. دون صوت : أسيل حامل !!!!!!!!
أسيل ... حامل ! ما معنى ذلك! .. ما معنـ ــى ! ... تشنّج كفّه دون شعور، جسدُه كلّه تشنّج، عدا أحداقه، والتي كـانت ببطءٍ تعبُر بدأً من كفيْ متعب المُمسكتينِ بالهاتف في هدوءٍ غريب، إلى وجهه ، والذي كـان مسترخٍ، ينظُر للأمـام .. بهدوءٍ أغرب!
لا يدرِي أين رحـل الأكسجين، لا يدري أينَ أصبـح ثباته، امتلاءُ جسدِه الذي أصبـح خاويًا فجأة، وهو ينظُر لملامح متعب الصامتة بصدمة ، لأنّه سمِع ذلك .. قبل أن يكون للخبرِ نفسه ... أنّ أسيـل حــــامل !! حاملٌ بابن أخيه، وهي زوجته؟ يا ثُقل تلك الكلمـة ، يا ثُقلها الآن لتجعله يغصُّ بها، لو أنّها جاءت قبل شهر، ربّما، بل بالتأكيد كـان ليطير فوق غيومٍ من السعـادة، لكن الآن ! الآن تحديدًا .. في خضمِ معارِكَ ضاريـة ، في ثلاثيّةِ الضيـاع ، الآن ... داخـل هذا المثلّث الذي جمعهم ولم تتطـابقْ أضلاعه في صورةِ أمـل ، منذ البداية وهو يدرك أنّ علاقةً ستُفقد، علاقتين ربّما ... لكن الآن ، كلّها ! بطريقةٍ بشِعة . . . يا الله ! لمَ حدَثَ كلّ ذلك؟! لمَ حدَث؟ لمَ جاءنا هذا الاختبـارُ بغتـة ، دون أن نقلّب أوراقًا تكفل لنا النجـاح، دون أن نسهر ليلةً ، نُمارس فيها طقوس المثابرة! .. لمَ جاءنا هذا الاختبارُ فجأة، ونحن ندرك في خضمِ الخوضِ أنّ أحدنا لن ينجح .. كلّنا يا الله ، لن ننجح!
ابتلعَ ريقه وهو يغمضُ عينيه بضيـاع، بعذاب، يتمنّى لو يقرأ عيني متعب التي كـانت تنظُر لشاشـة الهاتفِ بصمت، لكنّه لم يقوى، وكـان يدرك .. أنّه من الأساسِ لن يستطِيع قراءته! لن يستطِيع والصعقـةُ أفحمت عقله وتركيزه ، حتى أنّه ربما وإلى الآن لم يستوعب .. لم يستوعب لينفجـر بردّةِ فعلٍ طبيعية.
في حينِ كـان صوتُ أمّه يمضِي، عاتبًا، حادًا، غائبًا عن لهفـةِ متعب وشوقه، بعدَ أن أدرك رويدًا رويدًا ، متمهّلًا ، من هي أسيل ، وماذا يعني أن تكون حامل! بعد أن أدرك أنّها في فترةٍ مـا .. أصبحَت زوجة أخيه! .. غابَت لهفتـه ، حين غلّفه الذهُول، الصدمـة، وشيءٌ ما شعر أنّه انغـرسَ في صدرِه بحدّةٍ حطّمت أضلعه قبل أن تستقرّ في قلبه مباشرة! شيءٌ ما .. لوعَة ، وحرقـة، وعذابٌ لم يُجِد عقله شرحـه لأطرافِه التي ارتعدَت فجأة دون أن تتريّث حتى تنتهي كلمـات أمّه التاليـة : الحين مالك حق ، وبترجعها غصبًا عنك وماني مهتمّة للسبب اللي خلاك تتركها .. سامع! بترجع مرتك بغيت أو لا .. وإلا والله يا شاهين ، والله يا ولد بطنِي ما أرضى عليك إلى يوم يبعثون!!
عضّ شاهين شفته بقوّةٍ وهو يستمع لكلماتها تلك، عضّها بقوّة، وهو يرفـع رأسه لأعلى سلّمِ السقُوط! .. يسندُ رأسه للخلف، ويغمـض عينيه التي التهبَت ، يغمضها وهو يشدُّ بأسنانه على شفتِه أكثر حتى ارتوَت ألمًا وربّما جُرحَت .. لا يدري ، لا يدري إن جُرحَت، وإن نزفَت، لا يدري ، فهو الآن كـان يغوصُ في نزيفٍ آخر ، يغوصُ في نزيفِ الرجـاء .. لا تتألم! لا تتألـم ، ولا تكرهني أرجوك! لا تتألـم .. لا تشعُر بالوجِع الذي أشعر بهِ الآن أضعافًا .. أرجوك لا تتألم .... يا الله ما الذي فعلته أنا؟! ... بدأ يضربُ رأسه للخلفِ بقهرٍ وشفته السُفلى تكادُ تتمزّق ولم يشعُر بها في ضجيجِ آلامٍ أُخَرْ ، لا يكـاد يصدّق ما يحدث الآن ، أن يغـرق في موقفٍ كهذا ، أن توصدهما لحظـة ، لحظـةً كالآن أُطلقَت فيها من فوّهةِ أمّه طلقـة ... ما الذي فعلته يا أمّي الآن ! آآآآآه !!!
كـانت آهته تلك عاليـة ، عاليـة ، بعلوٍّ وصـل لمسامِع متعب الذي كـان قد أغلق الهاتِف بانكسـار ، شوقهُ لها الآن، جلَب في لحظةٍ قصيرةٍ ألمًا ، لهما الاثنين ، ألمًا .. لم يستطِع أن يُكمـل بها شوقه ويسمعها أكثر ! كـان قد أغلقه ، وهو يبتسمُ رغمًا عنه بحسرة، يتجاهـل الحرقـة التي أصابت معدته ، ويهمسُ باختناق : منتِ مهتمة لـي؟!!!
كـانت جملةً كفيلةً ليفهم ، ليفهم أنّ شاهين قد ترك أسيل ، وبالتأكيد منذُ علِم أنّه حي .. تشوّش عقله منذُ لفظَت " أسيل حامـل " لكنّه لم يحتـج الكثير من الذكـاء حتى يفهم ، شاهين تركها ، والآن ، هو بالتأكيد يعيشُ حالـةً تشابـه حالتـه ، يعيشُ وجعًا يشابـهه في الكثير .. وجعٌ مجملـه ضياع ! ما بيـن علاقتين ، كلّهما اشتركا فيها .. علاقتهما ببعضهما، والأخرى بأسيل! .. يا الله ما أقسـاه من تصادم ! ما أقسـاه !!!
ابتلـع ريقه باختنـاقٍ ما إن سمـع آهـة شاهين تلك، لم يكُن يقوى النظـر إليه، طـال صمتهما ، لكنّ الصمتَ كـان يُكسـر بتواتُر صوتٍ خفيف، جعله يعقدُ حاجبيه وكأنه أدركه ، لم يكُن يستطِيع النظـر إليه ، أن يلتقي بعينيه، لكنّه في النهاية استدار إليه بسرعةٍ بعد أن أدرك أنّه كان يضربُ رأسه للخلف ... بالتأكيدِ عقابًا !!
مدّ يدهُ بسرعةٍ ليضعَ كفّه خلفَ رأسه يمنعه من الاصتدامِ برأس المقعدِ والذي بالتأكيد لم يكُن مؤلمًا إلا أنّه ولَّد في صدرِه وجعًا كافٍ لأنّه رآه وهو يفعلها، يحاولُ أذيّةَ نفسِه لمـا حدث .. استوقفَت كفّه رأس شاهين من التراجـع للخلف، شعر بألمٍ أكبـر ما إن لامسَ برأسه حرارةَ يدِه ، تنهّد ، بل كـان كمن لفظَ هواءً بقوّةِ رجلٍ مُتعـَبٍ من الاختناق ، ومن ثمّ دفـع كفّ متعب للخلفِ برأسه، ليجعل ظاهرها يستقرُّ على المقعد، ومن ثمّ يسندُ رأسه على باطنها ، متنهّدًا من جديد، بخفوتٍ أقـل ، ومن ثمّ يستكنُ قليلًا ، دون أن يفتـح عينيه ودون أن تستكيـن أنفاسه، قبـل أن يلفظَ بخفوت، بيأس، بانكسـارٍ وحسرةٍ لمسـامعَ متعب الذي كـان يراقبهُ بصمتٍ بائس : آســــــــف !!
ابتسمَ متعب ابتسامـةً كانت بعيدةً جدًا ، بعيدةً عن هذا المفهومِ الميّتِ بينهما الآن ، كـان المصطلـح الأنسب أنّ شفتيه تقوّستا تقويسـةً منكسرة .. للأسفل! .. قبل أن يردَّ عليه بخفوتٍ تائه، لا تعبير فيه : بيجيك ارتجاج في المخ على هالحركة الطفوليـة ..
زمّ شاهين شفتيه التي كـانت إحداهما تشـارف على التورّمِ بعد أن عاقب نفسه فيها أيضًا وليسَ رأسه وحسب، فتـح عينيه ببطء، عينيه اللتين كـانت حمرةٌ تغزوهما بحزنٍ ونـدم .. وبخفوتٍ عميقٍ يكرّر اعتذاره، دون أن ينظُر إليه، ودون أن يُبعد عينيه عن الطريق .. والذي كـان توقّف على جانِبه .. لا يدري متى! : آسف ... آسف ... والله العظيم آسف!
تسللت ضحكةٌ خافتـةٌ من بينِ شفتي متعب ، كـانت بعيدةً كلّ البعدِ عن المـرح ، لكنّه حـاول ! حاول أن يُلاشي الألـم الذي يُعيثُ في صدرِه نزيفًا ، حـاول ، حاول أن يبتسم ، أن يضحك ، أن تلتمـع عينيه بغيرِ الحزن .. وهو يلفظها، بصوتٍ مرتعشٍ مُحبّ : ليه هالصوت الحين يا حمار؟ بتصير أب ... مبـ .. مبروك ، مبروك يا ... يا شاهين.


،


ساعدتها لتمدّد على السريرِ وآهةٌ تتسللُ من بينِ شفتيها من شدّةِ الوهنِ الذي يُصيبُ جسدَها، استلقَت على ظهرها، والبرودةُ تتسللُ من قدمِها العاريـة والتي خلعَت حذاءها قبل لحظتين من استلقائها، وضعَت ذراعها على عينيها، ومن ثمّ فغـرت فمها تتنفّس منه بإجهاد، بينما ابتسمَت أمّها وهي تلفظُ بحنان : بتصيرين أم؟ هالشيء ما يفرّحك؟
ابتسمَت أسيل دون تعبير، كيفَ لا تفـرح؟ أيُّ منطقٍ يحاكِي فكرةَ أن لا تفرح أنثـى بهذا الخبر؟ لكنّ هناك ما يعكّر هذا الفـرح، هناك ما يعكّر ابتسامتها الآن ويُظهرها بهذا البؤس! . . ردّت بصوتٍ خافتٍ مهتزّ : شلون ما أفـرح؟!
أمها بخفوتٍ حنونٍ وقد جلَست بجانِبها لتبدأ بالمسـح على شعرها برقّة، وبهدوء : طيب ليه ما أحس بهالشيء؟
أزاحت أسيل ذراعها عن عينيها، ومن ثمّ نظرت لأمها وهي تبتسمُ بأسى، لافظـةً باختناق : ما أبيها الحجة عشان يرجعني له!
امها بصدمة : ما تبين ترجعين له يعني؟
أسيل تزمُّ شفتيها بقهر، شدّت على بطنها وهي تنظُر لكفّها التي تمارسُ ذاك الشد، وبحدة : بحس بالقهر لو رجعني له عشان هالسبب .. إذا تركني فجأة ، فما أبيه يرجعني مضطر! ماني بهالرخص عشان يسويها فيني!
امها باستنكارٍ تعقدُ حاجبيها وكفّها توقّفت عن الهرولةِ بين خصلاتِها : وش أفهم من كلامك؟!
أسيل بثقة : هالحمل ما راح يخليني أكون حمل على أحد .. إذا وده يرجعني له ، فبيكون لي جهة بهالقرار ، وبردّ اعتباري قبـل .. مثل ما تركني بدون ما يوضّح أسبابه .. لازم يوضّح بالأول ، وعلى حسبها بقرّر !
تقطّبت ملامح امّها بشيءٍ من الغضب : بايعته؟
ابتسمت أسيل بعبرة، بالتأكيد لا ! لكنّها " مقهورة "!!! تشعُر بالامتنـانِ له ، على صبرِه ، على تحمّله منذ البداية وتغاضيه عن الكثير، تريدُ أن تكون في عينيه انسانةً تستحقُّ كلّ هذا ، وحاولت! من بعدِ كلماتِ ديما ذلك اليوم حاولت، لكنّ مكالمتهما الأخيرة جعلتها تبتئس، وشيئًا فشيئًا، شعرت بالقهرِ منه، لأنه يسكنها في كلّ هذهِ الحيرةِ ولم يهتمَّ بتفسيرٍ سريع .. لازال حتى هذهِ اللحظةِ صامتًا! ولن تسامحه على كلّ هذا الوقتِ بسهولة.
لم تردّ عليها، لم تكُن تريد أن تعترف بالنفي، ولا أن تقول لها " ايه " بهذهِ البساطة وتكذِب، أعـادت ساعدها إلى وجهها لتغطّي عينيها، ومن ثمّ لفظَت بصوتٍ خافتٍ حمل بعض الرجاء : تكفين يمه ، تعبانة شوي .. ما أبي نناقش موضوعي معه الحين!
تنهّدت امها بيأس، ومن ثمّ تراجعَت لتغلـق إنارة الغرفـة، وهي تلفظُ بهدوءٍ حازم : براحتك ، بس من بكرا الصبح بصحيك للفطور وتآكلين غصب وهالشيء بينطبق بكل الوجبات ، ما أبيك تطيحين علي مثل اليوم! زين قدرت أسندك لين ما وصلت للسيارة !
ابتسمَت وهي تتذكّر كيفَ أنها سقطَت فجأةً مغميًا عليها حين كانت تجلُس مع أمّها، حينئذٍ قامت والدتها بالإتصال بالسائق بفزعٍ ولحسن حظّهم كـان قريبًا، أسندتها بصعوبةٍ حيثُ كانت – شبه واعيـةٍ - ومن ثمّ ذهبتا للمشفى ، لتكتشفَ هذا الشيء الجميل ! . . مسحَت على بطنها بحنانٍ وابتسامتها تتّسع، وبصوتٍ رقّ تلقائيًا لفظَت : أبشري.
ابتسمَت أمّها دون تعليق، ومن ثمّ خرجَت وأغلقَت الباب من ورائها لتتنهّد أسيل وهي تمسحُ على بطنِها دون توقّف، لا تكادُ تستوعبُ أنّها الآن تحملُ روحًا عمرهُ شهرٌ ونصف ! الله ما أجمل هذا الشعُور، هي تحملُ طفلًا! طفلـها يسكُن رحمها الآن!! .. أغمضت عينيها بنشوةِ فرحٍ وهي تبتسمُ وتضعُ الكفّ الأخـرى مع تلك ، تصنـع لهُ درعًا ، وكأنها بذلك ، تحميه من أيّ شيء!


،


في وقتٍ سابق ، كانت عينـه قد اختارت النظـر الصامت ، ينظُر لها بعد أن انتهَت الفتراتُ التي تغاضى فيها عن التحديقِ بها ، لشفتيها المتحدّثتينِ بعتب ، لموجاتِ صوتِها التي تنبعثُ من بينها مُعتمـة ، ظاهرةً بشكلٍ كافٍ! لـ " ليه ماهو بين يديني اليوم يا سيف؟! " والتي أحرقتْ جزءً ليسَ هيّنًا من صدرِه، مزّقتْ زاويـةً من رئتيه، ليرتفـع صدره فجأةً وهو يحاول أن يجتزّ الأكسجينَ إليه ويجترّه !!
وجّهت ديما نظراتها لعينيه مباشرة، كـان لا يزال يقفُ أمامها على بُعدِ تلك الخطوتين، ينظُر لها بصمتٍ كئيبٍ قاطعته حين ابتسمَت بسخريةٍ وهي ترفعُ كفّها وتمسحُ على أنفها، لتُردِف بجفاء : لا ترد ، لأنّ ما عندك رد وعارفـة بتجلس تواسي وتقول بيجي ! بس أنا خلاص ما أبيه.
قسَت ملامحـه، استدارَ جسدُه بالكـاملِ إليها بعدَ أن كـان يُدير رأسه فقط، ظلّ ينظُر للحظـةٍ إلى عينيها الباردتين، الناظـرتينِ إليه بثقةٍ عميـاء، أيّ منطقٍ يجعله يصدّق أنها لم تعُد تريد أن تحظى بطفلٍ وهي تدرك أنّها تستطِيع! الحملُ المختلّ الذي كـان لن يمنعها، تدرك ذلك، فما الذي قد يجعلها ترفض؟ أن يكون ابنه مثلًا! أم أنّها فقطْ لم تعُد تريد طفلًا وحسب تحت أيّ ظرف !
استفزّه ذلك، أمـال فمه بقسـوة ، ومن ثمّ صلبَ ظهرهُ وهو يضـع كفّيه على خصرِه ويتنهّد بقوّة، لتُغـادره في تلكْ اللحظـة .. كلّ اللينِ الذي قد يكون بقي! أخـفض كفيه أخيرًا لتتدلّيا بجانِب فخذيه، ومن ثمّ ارتخَت شفاهه واستوَت عن ميلانِها، ليلفظَ أخيرًا بخفوتٍ صـارم : ماهو قرارك هالمـرة!
تشنّج عنق ديما لوهلـةٍ وهي تدرك أنّ هذا الصوتَ المتآمرِ على حرّيتها هو نفسـه الصوتُ القديم الذي لفظَ يومًا ما " ما أبي طفل الحين "! هو نفسـه ، الذي يريد فرض ما يريده عليها .. برزتْ عروقُ عنقها، لتقفَ فجأة، واعتراضٌ آخـر جاء على غير عملها ... لفظَت بنبرةٍ واثقةٍ وهي ترفـع ذقنها : لا .. هالمرة قرارك ماراح يمشي!
سيف بوعيد : مثل ما صار قبل وعاندتيني عشان تحملين من وراي؟ .. إذا قبل تمرّدتي عشان الحمل، فاليوم بتطيعين عشان الحمل بعد! وهذي الكلمـة الأخيرة بيننا بهالسـاعة.
ديما بسخريةٍ لاذعـة، لم تستطِع أن تكبـح انفعالها الذي غزا أصابعها وجعلها تفركها بفخذيها وهي تلفظُ بقهرٍ وسخريةٍ متداعية : وآخر كلمة بيننا طول اليوم .. الكلمة اللي بتكون عابـرة بس ، وبتمشي بعيد بعد ما تنتهي هاللحظة.
تحرّكت خطواتُ سيفْ إليها حتى وقفَ أمامها مبـاشرة، ابتسم باستفزاز ، ومن ثمّ انخفضَ وجهه حتى قابـل ملامحها مباشرةً ، ليهتفَ بخفوتٍ مُستفزّ : لا يا حلوة .. مو طول اليوم لأنّ يومنا هالمرة طوييييييييل .. طويل وبتضطرين تحكين معي للساعة 12 بعدها اختاري السكوت اللي تبينه ، اليوم .. ذكرى زواجنا !
أغضبتها نبرتهُ حين لفظَ آخر كلمتينِ بأسلوبٍ يخبرها فيه أنّها لن تعترض، أنّها ستهرولُ على مضمارهِ بالسرعةِ التي يريد، أنها ستضحك رغمًا عنها ، وتبتسم .. لهذا اليوم ! .. تراجعَت للخلفِ وهي تشدُّ على شفتيها بقهر، ومن ثمّ لفظَت الكلمـات وكأنها تبصقها بصقًا : تبطي هالذكرى الله لا يردها !
سيف يضحك رغمًا عنه وهو يُمسك عضدها ويسحبها لتكون قريبةً منه من جديد بعد أن ابتعدت، وبتسليةٍ مستفزّةٍ عابثةٍ بها لفظ : شلون الله لا يردها؟ أكيد ما تقصدين نموت ، وأدري إنّه مو الطلاق ولا كان ببالك باللحظة اللي قلتيها ... صايرة تقطين الكلام بدون تفكير ! ما كنتِ بهالغباء قبل وش صار!...
ديما بقهرٍ تحاول أن تُبعد كفّه عنها : من عاشر قومًا !!
سيف بابتسامةٍ مُغيظة : يعني لازم أخاف على نفسي لا تنتقل لي عدوى غبائك!
عضّت شفتها وغضبها وصـل إلى أوجه، لم تستطِع إطلاقًا أن تمـارس البرود الذي قرّرته أمامه، لم تستطِع وهزمها منذ الجولاتِ الأولى ببساطـة ! لفّت أصابعها حول يدِه التي تُمسك عضدها بقوّة، شعـر بها تكادُ تخترقُ جلدهُ بأظافرها دون شعورٍ من الغضبِ الذي تحاول أن تغلّفه بزيفِ جمودْ ، تركها ببطءٍ وهو يبتسـم ، لتتراجـع مباشرةً بشكلٍ تلقائيٍّ وصوتها الذي حاولت أن تُخرجه إليه هادئًا ، واثقًا .. كـان صارخًا بغضبٍ شديد : مانـي طالعة معك .. قلعتك أنت والذكرى السخيفة هذي * تحركت بانفعالٍ لتخرج وهي تُردف * ونشوف إذا قدرت تجبرني !

والآن .. كـانت تجلُس بجواره في السيّارة! تكـاد تشتعـل ، تكـاد تنفجر في أيّ لحظة ! تكاد تنفجر!! كيف أرغمها على الخروج؟ كيف استطـاع فعلها بهذهِ الطريقة ..
كـان يقود السيّارة وهو يبتسـم " بروقان "! إحدى كفيه على المقود، بينما الأخرى تطرق بأصابعها على فخذِه وهو ينطُق بغرورٍ لا يشابـه فيهِ سوى سيف – قبل أشهر : في النهاية ما قويتِ ترفضين طلعـة معي ... ما كنتِ بهالإصرار لأنّها معي في النهاية!
المتعجرف! المتعجـــــــرف !! أليسَ هو من سحبها وكاد يُخرجها دون عباءةٍ حتى ليرغمها على السير بإرادةٍ زائفة! لم يكُن ليفعلها بالطبع، تدرك أنّه مجرد ترويع، لكنّها طريقةٌ أربكتها كفايةً لتمضي معه.
نفخَت أنفها بقهر، ومن ثمّ نظرت للنافـذةِ وهي تلفظُ بنبرةٍ حاقدة : فوق منت دي ساد صاير نرسيس بعد!
سيف باستفزاز : نطمـح للأعلـى دائمًا ...
ديما : أففففف ! والحين روح أي مطعم وخلصني !
سيفْ يمدُّ يدهُ ليفتـح الاذاعـة وتتسلّل أصوات أحاديثَ لم يبالي أحدهما بمكنونِها ، نظـر إليها بابتسامةٍ جامـدةٍ وهو يلفظ : مين قال مطعـم؟ حجزت بأوتيل خمس نجوم ليوم استثنائي ،
عادَت تتأفف بمللٍ وضجر ، منفعلـة ، منفعلـة .. استطاعَ اليومَ أن يستفزّها فعلًا ويخرجها من برودِها هذا ، استطـاع أن يفجّر فيها بركانَها الخـامد .. ولم تستطِع أبدًا أن تصمد ليومٍ واحدٍ حتى !!


،


" ما صحى ، التحاليل للحين تقول المنطقـة ما تضرّرت "
ابتسمَ الطبيبْ حين رأى تعابير سلطـان التي استرخَت قليلًا وكأنه كان يشعُر ببعض الراحـة في تلك اللحظة، ليردف : بس ما أقدر أجزم ، أنتظر يصحى ونشوف الوضع .. كذا ما نقدر نضمن ، إضافة لأن سلامته من أي إعاقة أو مضاعفات نسبتها بسيطة جدًا ... ننتظر عالبركة!
أغمـض سلطـان عينيهِ ولازال يشعُر أنّه يحيا صراعـه ذاته منذ الصبـاح، رفـع رأسه قليلًا وهو يتنهّد، في حين نطـق الطبيب بكلماتٍ يخبرهما فيها أن مكوثهما لا طائل منه الآن ، ومن الأفضل أن يذهبوا إلى الغـد .. فهو يبدو غارقًا في غيبوبةٍ قصيرة ... أو لا يُعلم إلى متى أجلها !
ابتعَد الطبيب ، ليضـع عناد كفّه على كتفِه ، وبهدوءٍ مبتسـم : يلا نمشي.
سلطـان الذي لم يكُن يريد في تلك اللحظـة أن يذهب، كـان يريد أن يقول له " لا " لكنّه قاوَم بقوّةٍ خارقـةٍ لينظُر لعناد ويومئ برأسه في صمت .. يا للعار! يشعر بالخزي الذي لازال يمنعه من الاعتراف أنه يريد أن يبقى ، يا للعــار! فقدَ عقله ، فقده ، أو ربّما بقيَ منه القليل فقط، والذي منعه من طلبِ البقـاء !
شدّ على شفته السُفلى بأسنانه بغضبٍ من نفسه، تحرّك وعناد معه، ينظُر للأرضِ وهو يشعرُ أن عينيهِ تفقدان ماءها وتجفّان ، كيفَ تُصبـح " دائريّة " العيونِ حين نحزن؟ كيفَ تجفّ؟ ويتسرّب منها انتفـاخُ الرؤية؟ كيفَ تتضبّب الحيـاةُ فجأةً ولا شيء أمامنا يحجبها ، لا شيء كالدمع! لكنّها فجأةً ، تسرّب منها انتفاخُها ، وأصبَحت فارغة ، نحيلـة، خاويـةٌ التصقَت جدرانها ، لتسكُنَ في جمجمتهِ فجوةٌ لم تملأها عيون .. يسير للأمام ، وهو لا يرى كما يجب.
مرّر لسانه على شفتيه بضيق، يشعُر بانزعاجٍ لأنّ عينيه تغصّانْ، لأنّه شعرَ فجأةً ودون سابـق إنذار، بل بعدَ قناعاتٍ سقطـت وظنّ أنها كانت شاهقـة ، بعد أن قوّم عمادها الذي اكتشفَ أخيرًا أنه لم يكُن صلبًا كفايـة ، ليسقطَ كرهه الشاهق بزيفه أخيرًا . .
مُحرَج! محرجٌ من نفسه بدرجةٍ مؤذيـة ، محرَج .. ويشعر بالخزيِ يغتـاله .. لذا لم يستطِع منع نفسِه .. من أن ينخفضَ وجهه أكثر بقهر، وهو يشدُّ على أسنانِه بقوّة ، ليُرخيهما أخيرًا ، ويهتفَ محاولًا أن يظهر صلابـة كُرهه أمـام عناد ، بشكلٍ كان زيفه واضحًا له : لا تفهم جيّتي اليوم له غلـط . .
ابتسمَ عناد، وسرعان ما تلاشَت بسمته قبل أن يراها وهو ينظُر للأمام، وبهدوءٍ يجاريه : أيش بفهم يعني؟ طبيعي تجي حتى لو تكرهه
سلطـان بغيظٍ من نفسه : أكيد.


،


تخرجُ بصعوبـةٍ محضَة ، كـانت تخرج بصعوبةٍ من فمـه ، نطـق ما نطـق، وهو يدرك أنّه كـان يدفع الكلماتِ من حنجرتِه قسرًا، ويدرك أنه .. قالها بصعوبةٍ واضحـة، وبشكلٍ مفاجئ، صعـق شاهين ، حتى بالرغم من وصولها إلى مسامعهِ بتلك الاهتزازاتِ الكارثية التي أخبرته بوضوح، أنّه في تلك اللحظـة ... اختـاره هو! رغـم أنّه يتألـم !
اتّسعت عينـاه ببطء، بصدمـةٍ أثقلَت أحداقه المُحترقـة ونيرانٌ تأكلها منذ نطقَت أمّه بتلك الجملـة أمام متعب، أدار رأسـه بهدوءٍ كـاذب، بصمتٍ تحشرجَ بالكلام، بصراعاتٍ عديدة ، تُهلك المُرائي في مالِ العلاقات! أن يتمنّى ، يتمنّى وهو يدرك أنّه يطمـع بذلك .. يتمنّى أن تنضجَ كل العلاقاتِ ولا تحترق، أن تصلَ لأوجِ اللذة ، دون أن تُصيبها مرارةٌ ما، يتمنّى .. بكلّ طمـع ، أن ينـال الصفـاءَ فيها، أن تكون كما يريد ، رغم أنّه وضـع في مصرِفها مالًا قليلًا ، يريدها أن تعطيه ما هو أكثـر ، رغمَ فقرِه في العطاء! .. كيفَ يتمنّى الكثير؟ وهو سـرق الأكثر؟!
اصتدمت عيناه بعينيه، نظـر لعيني متعب الذي كـان يبتسمُ وهو يسحبُ كفّه من خلفِ رأسه ويضعها أخيرًا على كتفِه ، يشدُّ عليه بقوة ، ويُكرّر بصفـاء، يكرّر بصوتٍ اختـار أن يضحّي بأي حب ، لمَ يترك لامرأةٍ أحبها أن تكسـر ما كان يراه منكسرًا لسنين؟ كان هذا الكسرُ يجرحه كلّ يومٍ وليلـة ، وهو يتمنّى لو أنّه لم ينكسـر، يتمنّى لو أنه لم يجرّب يومًا ، أن يتعاوَن مع الأرضِ ضدّه، لينكسـر، ومن ثمّ يجرحهُ بشظاياه! ... كيفَ يرضى بأن تنكسـر سعادته الأولى، عائلته! بعد أن جُبرَت ، واختفَت كلّ شروخها؟ : مبروك يا شاهين ..
تنفّس شاهين بقوّةٍ وهو لا يزال ينظُر له بصدمةٍ لم تنقطـع ، لم يكُن متعب يحتـاج لتفكيرٍ طويل .. لخُطط ، ورسوماتٍ وخرائطَ توصله للطريقِ الصحيح، لم يحتج الكثيـر .. حتى يختـار أن يتركها له ، لم يحتج سوى لحظـاتٍ بعد مكالمـة أمه ، حتى يقولها له .. " مبروك! " ، يخبره بذلك ، أنّها زوجته هو! وأنّه سيصبـح أب ... وهو عمّ ابنه!
لم تكُن تضحية! لا يراها تضحيةً أبدًا .. فأسيل كُتبَت له هو ، وفي كل الأحوال لم يكُن ليُعيدها إليه ، لم يكُن ليفعلها أو ليفكّر حتـى ، بالرغم من كونِه قالها في لحظةٍ ما ، لفرطِ القهرِ والخذلانِ وحسب .. لكنْ أن يكون شاهين بريئًا ، شاهين لم يحاول في يومٍ ما أن يؤذيـه ... هنا لا مكان لميزانٍ حتى لأجل أن يرى كفّة من سترجح، شاهين ، أم أسيل! ... بالتأكيد لم يكُن يومًا ليضحّي بعلاقتـه بأخيه ..
شعـر بكفّ شاهين التي ارتفعَت لتستقرّ فجأةً على يدِه وتُخفضه، ينظُر لهُ بغرابـة ، وصدمة .. قبل أن يلفظَ بخفوتٍ متسائل، وكأنه لم يستوعب بعد معنى مباركته هذِه! : وش أفهم من هالحكِي؟!
متعب يسحبُ يدهُ وهو يميلُ فمه بضجر : تجيب الكآبة! افرح يا حلو افرح ، بتصير أب قريب وبصير عم بعد عمر طال ... اللي بعمري صاروا أجداد.
شاهين بهوانٍ وصدمة يضـعُ كفّه على جبينِه بعدَ ان أخفض رأسه لينظُر للأسفـل بعذاب، خفتَ صوتُه أكثر، خفَت في ظـلامِ هذا العذابِ الذي ينهشُ صدره والذنب الذي يكاد أن يبتلعه بعد أن قضـم منه الكثير : اللي بعمرك أبـاء! .. أباء !! بس .. بس أنا وش سويت ؟!!!
متعب بحدة : وش دخلك أنت بمسألة أكون أب أو لا!!!
نظـر لهُ شاهين بانفعـالٍ وهو يتمنّى في هذهِ اللحظـة أن يموت! أن يختنـق ، أن يتلاشى ويختفي : أنت فاهم قصدي! فاهمني فلا عاد تتغابـى.
متعب يبتسـمُ وهو يضربُ رأسه بخفّة ، وبعتَب : افرح!
شاهين يهزُّ رأسه بالنفي ، يهزُّ رأسـه وهو ينظُر لوجهه بألـم ، ليلفظَ بعد ثوانٍ طـالت .. طالتْ من نظراتِ الندم : مستحيل أرضى بهالشيء ! صعبـة .. صارت صعبة علي !
متعب بحدة : وش اللي مستحيل ترضى فيه؟
شاهين بصوتٍ ارتفـع فجأة، لم يستطِع أن يكتـم به الاسم أكثر، انفعـل ، بالرغمِ من كونِه قبلًا لم يكُن ليقدر، لم يكُن ليقدر أن يقول اسمها أمامه بعد كلّ شيء : أسيــــــــــــــل !!!
متعب بعينينِ تشتعلان، لفظَ بخفوتٍ ووعيد : شلون يعني؟
شاهين بقهر : ما أقدر ! ما أقدر أتخيلها زو .. زوجتي وأنت حي !
متعب بسخريةٍ لم يستطِع أن يكبـح كلماتِه تلك التي أوجعت شاهين أكثر : أهبل أنت؟ غبي؟!! يعني تفكر للحظـة إنّي برضى أتزوجها من بعدك؟ مرتك حامل! حامل بولدك وحتى لو ما كانت مستحيييل أفكر فيها .. خلاص هي كانت لك قبلي ... لا تخلي الكلام يطول بيننا بهالشكل ! خلاص كل شيء صار وانتهى.
وضـع شاهين كفّيه على رأسِه بخزيٍ وخجلٍ منـه ، لا يستطِيع احتمـال تلك الفكرة ، لا يستطِيع أن ينظُر لعينيهِ وكأن شيئًا لم يكُن .. صمت ، لم يستطِع أن يُجيبه بشيء ، كلامـه منطقي، كيفَ قد يقبـل بها من بعدِ أخيه؟ . . نظـر لقدميهِ وهو يعضُّ على شفتِه المتورّمة ، لم يبالي بالألم الذي كان يصرُخ فيها ، لم يبـالي بجسدِه الذي أصبـح فجأةً يؤلمـه دون أن يدرِي ما السبب! ربّما الضغطُ الكبير الذي تكالب عليه صنـع فيه هذا الألـم ، الصداع الذي يرقصُ ببطءِ خطواتِه رقصـة " باليه " مستفزّة، تغيظه أكثر من نفسِه!
متعب بهدوءٍ ينظُر للأمـام ، راحةٌ شعرَ بِها فجأة .. رغم الحُب ، والذي يدرك أنّه سيتلاشى رويدًا رويدًا .. أيّ منطقيةٍ قالت أن الحب لا يموت؟ كيفَ لا! إن اصتدمَ بجدارِ " تلاشي "! الحبُّ يموتُ إن اضطرّ لذلك .. ومن الحقـارة أن يبقى يحبّها ، لذا سيساندُ أعضاءه لتلفظَها بسرعة. لفظَ بتساؤلٍ هادئ : أكيد تدري بحكم زوجة المفقود؟
لم يردَّ عليه، كان ينظُر للأسفـل بصمتٍ أسـود، الظـلام ينتشـر في أحداقـه، لم تكُن ملامحه ذات تعبيرٍ واضـح ، كـان صامتًا .. صامتًا .. يشعر أنّه يغرقُ في بحرٍ أسود، لا قـاع له ، ولا خلاص !
أردف متعب بحزمٍ بعد أن وجَد منه هذا الصمت : أنت ما سوّيت شيء حرام عشان تستحِي منّي الحين! ارفـع راسك وناظرني.
لم يتحرّك أيضًا وكأنه لم يسمعه ، حينها تنهّد متعب بصبرٍ ليُردف : زواجك يُعتبـر صح ، وبرجعتي أنا اللي بختار .. يا ترجع لي أو أتركها لك ويبطل عقدي .. والشيء الأول مستحيل .. فبنروح بكرا للمحكمة ونتأكد من هالشيء بس بشوف أوّل الوضع وإذا انسمح لي * يقصد إذن عبدالله * ..
عمّ الصمتُ بعدَ كلامِه ، لم يجِد ردًّا من شاهين الذي كـان بنفسِ وضعِه ، يضعُ كفيه على رأسِه المُنخفِض ، ينظُر للظـلامِ أمامه، دون صوت ، حتى أنفاسهُ هدأت فجأة ، وكأنه في لحظةٍ ما ابتعدَ عن الانفعالات، وغـرق في تفكيرٍ عميـق ، غرِق في اختلاجاتٍ مُهلكـة، في أفكارٍ سحبتـه من شاطئ السكُون .. إلى بحرٍ من الضجيجِ الذي تجاوزَ موجاتٍ صوتيةٍ لا تُحتمـل! شعر أنّها تسحق أذنه، تمزّق طبلتها .. وتقضمُ حاسّةَ سمعِه!
تركـه متعب وهو يقدّر صمتـه، يدرك أنّه يعيشُ الآن في عذاب .. وكم آلمـه ذلك فوقَ آلامه التي يُخفيها .. موجع، موجعٌ جدًا ، أن يخوضا تجربةً كهذِه ، مهما اختـار فيها ما يراه صحيحًا إلّا أنهم لن يشفوا من كلّ ذلك سريعًا ! حتى وإن شُفـي هو، ولم يبقى ساقطًا لوقتٍ طويلٍ في حفرةِ ما حدَث ... لكن شاهين! يدرك أنّه سيبقى مُعذّبًا وقتًا طويلًا، وهو يفكّر في كلّ ما حدثَ وما يرى أنّه ذنبٌ وقوعهُ بِه!
طـال الصمت ، لعشـر دقائق، لرُبـع ساعة ، لثُلث ! كـانا فيها يقدّرانِ السكون الذي حلّ من الأصواتِ ولم يُحبّا قطعـه .. ربّما ستتمكّن الكثير من الراحة منهما في خضمِ السكون، ربّما!
لكنّ شاهين اختـار غير ذلك، اختـار عدمَ السكُون .. حين رفـع رأسه فجأة، ونظـر بعينينِ ملتمعتين للأمـام ، نظـر متعب إليه تلقائيًا بعد شعورِه بحركتِه العنيفةِ تلك، وقبل أن يقول شيئًا اندفـع صوتُ شاهين متسائلًا بنبرةٍ لا تُنبئ بشيء! : يعني هذا قرارك الأخير؟
عقدَ متعب حاجبيهِ باستنكـار ، وبتوجّسٍ رد : قلت لك .. مستحيل أرضى أسوي هالشيء!
شاهين بنبرةٍ حازمـةٍ وعينيه تلتمعـان أكثر : طيب .. بنسوّي اللي تشوفه صح .. ألغي عقدك فيها، وبكذا يظـل عقد زواجـي أنا ... اللي بنهيه مباشرة ، وأطلّقها !!!
اتّسعت عينـا متعب وصاعقـةٌ شعر أنّها سقطَت على رأسه ، ألجمه لوقتٍ قصير ، لكنّه سرعـان ما جمّع صوته الذي تبعثـر ليلفظَ بانفعـالٍ حادٍ غاضب : شـــاهيـــــــــن !!!
شاهين بحدةٍ مماثلةٍ نظـر نحوه ليلفظ : ما أقوى .. أنا بعد ما أقدر ... خلاص ما أقدر أتخيلها زوجتي وأنت عايش! ما أقدر!!
متعب بغضبٍ يكادُ يلكمه : وهي وش ذنبها من كل هذا؟ وش ذنبها عشان تتصرّف بهالحقارة!!!
شاهين بعذابٍ هزّ رأسه بالنفي : مالها ذنب ، مالها ذنب أبد .. بس ما أقدر ، بحتقر نفسي أكثر لو ظلّت بعصمتي ..
متعب بغضبٍ ارتفعَت كفّه ليضربَ بظاهِرها فكّ شاهين ، وبصرخةٍ بلغَت أقصاها في الغضب : ماني سامح لك !! منت مطلقها سامع؟ واحتقارك هذا بلّه واشرب مويته .. تعامل معه بنفسك هي مالها ذنب ولا أنا بقلبي شيء ضدّك.
شاهين يتراجـع بجسدِه للخلفِ وهو يعقدُ حاجبيه برفض : قلبك ماله علاقة بالموضوع .. بس أنا ما راح أرضاها ، ما راح أرضاها علينا كلنا ! أنت قرّرت إنك بتخليها لـي .. وأنا خلاص ما أبيها !
متعب باحتقار : ما تخيلك مقرف وحقير بهالشكل !
شاهين يبتسم بسخرية : قول اللي تبي تقوله .. بس ما أقدر أقبل هالوضع.
متعب بصرخة : مو تحبها أنت؟!!
كـاد يقول " وأنت أيش؟ " لكنّه خشيَ بذلك أن يجعله يغضب أكثر وتُصنـع فجوةٌ أخـرى غير التي بينهما ، لذا ردّ أخيرًا بحسرة : الحب ! الحب وش فايدته بهالأوضاع؟ يضيع .. والله العظيم يضيع!
متعب يبتسمُ بأسـى ، رفـع كفّه ليضعها على كتفه، ومن ثمّ لفظَ بخفوت : أنت اللي شايفه بهالشكـل .. شاهين تكفى! أقولها لك .. تكفى حاول معي ما تخلي الموضوع مشربك أكثر .. ما أبي تزيد هالسنين .. من بعد حقدِي ما أبيها تزيد بسبب مَـرَة! .. وبعدين ترى لمرتك حق بكل هذا ، شلون تطلّقها بهالشكل الحقير؟ خلها تختار طريقها معك مو مباشرة تختار البعد بهالشكل وأنتوا بيكون بينكم ولد قريب؟!
شاهين بغصّةٍ وهو يدرك أن الكلمـات التي يلفظها أقـرب للواقع، وليس مجرّد تخمين : وليه ما تقول تختار هي تظل مع مين؟ ممكن تختارك أنت!
متعب بغضبٍ من الأفكـار التي ينطُق بها : وقتها بفكّر إنك حقير ونقلت لها حقارتك .. اعذرني على الكلمة ، ما أقصد أسبها .. بس ما تسويها غير مكفّرة عشير! ومستحيل أرضى بمرة من هالنوع تترك أبو ولدها عشان شخص ما عاشت معه غير بفترة ملكة طويلة وبس! .. * ابتسم * بس صدّقني .. مرتَك أصيلة ، مشكلة لو ما عرفت للحين! مرتك أصيلة ومتأكدة ما تسوّيها.
أشـاح شاهين وجهه بألـم، كـان ينطُق " مرتك " باحترامٍ تامٍ له، ينطقها وكأنه لم يتزوّجها، ولم يحبّها يومًا! بينما زفـر متعب وهو يعُود لينظُر للأمـام ، وبحزم : انزل ، بنتبادل وبسوق عنّك ... لا تخرب اللي بقى من هالليلة وابتسم ، واللي يعافيك لا تنكّد علي أكثر!
لم يبتسـم، لكنّه مدّ يدهُ للبـابِ ليفتحه وينـزل ، ومن الجهة الاخـرى كان متعب قد فتـح بابه، حتّى يتبادلا ويُكمـلا هذهِ الليلـة معًا .. بكآبة! كـانت تغتالهما، حتى متعب بالرغم من كونِه كـان يتصنّع عكس ذلك وبأن الموضوع " عادي "!!!


،


تُحيطُ عضدهُ برقّة، تبتسِمُ بسعادةٍ مختلفة لا تذوقها إلا حين تكون معـه،لا تراه كثيرًا في المنزل، يخرجُ منذُ بداياتِ الصبـاح، ولا يعودُ إلا في الليل .. تشتاقهُ كثيرًا، وتشتاقُ الجلوسَ معه في دوّامةٍ عائليّةٍ متكاملـةٍ مع أمّها المُقعدة ، أخويها ، ويطُول الحديثُ ولا ينتهي ، لا ينتهـي إلا بعد أن تُرهَق عضلة لسانِهم!
نظـر لوجهها المُضيء بسعادةٍ ليبتسـم ابتسامةً خافتـة، وبرقّة : مبسوطة؟
لجين برقّةٍ ترفـع وجهها إلى وجههِ وتلفظَ بحب : لأنّي قبضت عليك.
سعد بحنان : ما عليه نهرب بكرا.
لجين تمطُّ فمها بدلالٍ ومن ثمّ تشدُّ على عضدِه وهي تمشِي معه في الحديقةِ الشبـه خاويـةٍ بعدَ أن أوقفَ سيارته على بعدٍ قليل، وبغنج : بدور على كلبشات وأقفل وحدة على يدي ووحدة أحطها بيدك وتظل طول الوقت بالبيت .. ما ينفع معك إلا هذي الطريقة.
سعد يضحكُ على أفكـارها : وش هالأفكـار الإجرامية؟
لجين : أيه أعجبك.
سعد برقّة : متأكدة بتطقّين 17 قريب؟
لجين بصوتٍ متدلّل : وبصير أصغر وتدلّعني أكثر.
سعد : ما عرفنا لك مرّة البنت العاقلة ومرة المطفوقة.
لجين : فصام.
سعد : بسم الله عليك !
ضحكَت لينظُر لوجهها وهو يبتسـم، وجهها الجميل ، والناضجِ أنثويًا رغم صغر سنّها، كيفَ يطمئن؟ كيفَ لا يخشى عليها ! .. تلك الصورة يجب أن يعرفَ كيفَ وصلت إلى يديْ إبراهيم .. ذلك الحقير! محالٌ أن يكون وجدها في ذاك المكان وحسب! .. يعرفه، يعرف نفسه الدنيئة .. اخخ !!!
رفـع يدهُ على رأسها، لتعقدَ حاجبيها باستغرابٍ وهي تنظُر له بحيرةٍ بعد أن زفـر زفـرةً طويلةً فرّغَ فيها الكثير من انفعالاته ، لا ! لم يفرّغ شيئًا! لم يفرّغ !!
مرّر لسانه على شفتيه، ومن ثمّ وجه نظراته نحوها من جديد، لم يستطِع أن يمنع نفسه من نطـق ما جـال في خاطرِه ، إبراهيم وتلك الصورة صنعوا فيه قلقًا كبيرًا عليها! : لجين ... أبيك من بكرا تتغطّين ... هالحجاب بروحه ما أبيه !
عقدَت حاجبيها باستنكـار، وبحيرة : بس هذا حجابي من يوم عرفت العباية علي! .. ليه فجأة صرت تبيني أغيّره؟
سعد بحزم : ما صار يعجبني .. * وبتبريرٍ لطيف * أنتِ صايرة تحلوّين بزيادة يوم عن يوم .. ما أبيك تظلين بحجاب وبس! غطّي وجهك كامل.
لجين بهدوءٍ متعقّلٍ وهي لا تقتنعُ بسببه : بس يا كثر المحجبات سعد! وحلوات بعد وبعدين أنا ما أتزين يعني ما راح أجذب الأنظـار حولي !
سعد بحدةٍ مفاجئة : مو بس التزيين يشد ... لجين أنا أبيك تتغطّين وبس ، لا تعصيني !
أومأت برأسها وهي تشعُر بغرابـةٍ في تصرّفاته اليوم : طيب .. إذا هذا اللي تبيه أبشر.
سعد بحزم : الحين ..
لجين ترفعُ حاجبيها باستغراب : الحين؟
سعد : أيه.
لجين : بس هالحركة بتشدّ أكثـر .. انتظر أقل شيء لين أركب السيـارة.
زفـر باضطرابٍ ليمسـح على جبينه، حينها لم تستطِع منع نفسها من النطق باستنكـار : شفيك؟ منت طبيعي اليوم !
هزّ رأسه بالنفيِ وهو يتنفّس بعمـق، ومن ثمّ أمسك كفّها ليجذبها وهو يلفظُ بشرود : لا .. طبيعي ، طبيعي . . . امشي نرجع البيت.

يُتبــع . .

كَيــدْ 27-07-16 06:19 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


نـزل من سيارةِ عنـاد وهو يحرّك يدهُ دون مبالاةٍ ظاهريًا في تلويحةِ وداع، كـان صامتًا طيلةَ الطريق وكأنّ الأحاديث تنسكبُ إلى نفسِه فقط، إلى صدرِه، إلى نقطةٍ واحدةٍ فقط، لتُخرسَ أفواهُ جسدِه كلّه، مساماتِه، عينيه، أذنـه التي فقدَت كلامها " السمـع " ولم يكُن يسمـع حتى بعض الكلمـات التي قالها عنـاد، ليدرك الآخر أخيرًا كيفَ أنه شردَ بعيدًا، وغـاب ، ومن ثمّ آثر الصمت وترك صراعاتِه في ظلماتٍ يعمهون!
ابتعَد عناد، بينما تحرّك سلطـان بخطواتٍ متكاسِلةٍ إلى البـاب، وصـل إليه، ومن ثمّ وقفَ فجأةً أمامه، بقيَ صامدًا بالوقوفِ أمامه وحسب، يتأمّل الصلابـة التي يمتلكها ، لمَ لم يكُن البشـر يومًا كهذهِ الجمادات؟ لا تشعر، لا تضعف، لا تحزن، ولا تتزحزحُ من موقفِها ، لمَ المشاعر؟ ألضعفٍ فقط؟ ألِخيبةٍ وحسب؟! . . . شدّ على أسنانِه بغضب، لمَ لم يثبُت على موقفِه فقط! فقطْ لمَ لم أكمـل مسيرةَ كرهي لهُ بصدق؟! كيف لا تكفيني صدمةٌ واحدةٌ حتى أكرهه! ماذا أنتظر؟ ماذا بعد!!
أشـاح وجهه عن البـاب، أدارَ جسدهُ كلّه، وكفّه دُفنَت في قبـرِ ملابسِه " جيبِه "، أخـرج منه مفتاحَ سيّارته، ومن ثمّ مضى إليها .. لا يريد أن يمكثَ في المنزل، بين جدرانٍ خرسـاء، تجعله يتعمّق في تفكيرِه أكثر، لا يريد أن يُقـابل أحدًا .. يريد أن يختلي بنفسه .. حتى إن تعمّق ... لا يؤذي غزل أو يؤذي من حوله!!
صعدَ لسيّارته، ومن ثمّ حرّكها مبـاشرةً بسرعةٍ متوسّطة، خـرج من الحيّ، وخلالَ لحظـاتٍ كـان يسير في طريقٍ لم يكُن مزدحمًا كفايـة ، فاستطـاع أن يُسـرع ، أن يُسـرع ، ولا يبـالي بوثيقةِ مخالفة! أن يموتَ مثلًا ، لا! ... لم يكُن يريد أن يموت، يريد فقط .. أن يرى ما قبـل الموت ، فلربّما كرِه في لحظاتِ صراعٍ مع الألـم من سبّب لهُ ذلك، ربّما ألـم المشاعِر لا يكفي، ويحتـاجٌ ألمًا جسديًا يغتـالُ كلّ حبٍ تجاهه!
أيُّ يأسٍ وضعفٍ مُثيرٍ للشفقـةِ هذا ؟!!! . . . شدّ على المقودِ بغضب ، قبل أن يجدَ نفسه رويدًا رويدًا، يُقلّل من سرعةِ السيـارة! .. هامسًا بحسرة : وش أسوّي أنا؟ مآكل بنفسي ليه؟ أحرق نفسي ليه !!! ..
ضربَ على المقودِ بغضب، ومن ثمّ صـرخ بشكلٍ مفاجئٍ مقهور : قلعتـــــــه !!!
أيؤذي نفسه بكلّ هذهِ الحيرة بسببه؟ يعتـرف ، يعترف .. هوَ يعنِي له الكثير ... يعترف ، ولربّما الضعفُ الذي فيه لأنّه لم يعترف لنفسِه بذلك! كـان كاذبًا مع نفسه، خادعها ، فانتقمَت بالضعف! .. نعم يُحبّه، يحبُّ الجزء الذي كان والده، يخافُ عليه، ولا يريد أن يُصيبه شيء .. والجانبُ المجرم ماذا يعني فيه؟ يكرهه بالتأكيد ، لكنّ الجانبَ الآخر ، والده ... يُقيّدهُ بطريقةٍ مؤذيـة !! . . ماذا يعنِي إن اعترفَ لنفسِه؟ أيعقل ألّا يثقَ بها أيضًا؟! . . سيعترفُ لنفسِه، ويتعايـش مع اعترافـه ، بأنّه يكرهه .. ويحبّه أيضًا .. فإن لمْ تكفِه هذهِ الأشهـر ليرى فيه فقط سلمان المجرم، فلا مانع من أن ينتظِر أكثر حتى يتلاشى والده .. سيكرهه كلّه! بعدَ أن يموتُ والده من عقلـه .. وليسَ روحـه ! . . ابتسمَ بسخرية .. رغمَ كلّ شيء ، لا يريده أن يموت الآن! ليسَ الآن وهو لا يزال يحبّه! ، ليمُت ، لكن بعد أن يحلّ الكره ، ولا يتألّم لفـراق !


،


تفـرك كفيها بتوتّر ، تنظُر للسـاعةِ حينًا وآخـر، تجاوز الوقتُ منتصف الليل بساعتين! ، تأخر! تأخّر كثيرًا بعد خروجِه بذاك الانفعـال، أيعقـل أن يكون أصابه شيءٌ ما؟ . . عضّت شفتها السُفلى بقلقٍ وهي تذرعُ الغـرفة جيئةً وذهابًا، ترفـع أحداقها للسـاعةِ المعلّقـةِ بالحائط، ومن ثمّ تزفُر بتوتّرٍ وتخفضُ نظراتها إلى قدميها لتتابعهما وهما يتحرّكـان بربكـة.
كـانت تريد أن تتّصل بِه، وكلّما شارفت على كبسِ رقمـه تتراجـع دون سبب ، فقط لاضطرابها الآن! . . جلَست على السرير وهي تقبـض على الهاتفِ بقوّة، ستتّصل ، ستتّصل وتطمئن .. ما بالها متردّدة هكذا؟!
انتفخَ صدرها بتنفّسٍ عميق، قبل أن ينخفضَ بهدوءٍ محاولـةٍ الاسترخاء حتى تهدأ وتتّصل .. نعم .. ستتّصل! . . نظـرت للشاشـةِ بإصرار، ومن ثمّ تحرّك إبهامها، دون أن تفكّر بالتراجع ولو للحظة! . .
بدأ الرنينُ يتتابع ، تنهّدت بربكـة ، وهي تنظُر للشاشةِ بصمتٍ وترقّبٍ تنتظـر بدأ الثوانِي في التحرّك دلالـة ردّه .. تصاعد الرنين .. تصاعد !!! .. لحظة !! . . عقدَت حاجبيها باستنكارٍ وهي ترفعُ وجهها ، كـانت تسمعُ الرنين ، خارج الغرفة !!!!
وقفَت متفاجئة ، سلطـان هنا !!! هذا ما يعنيه سماعها لرنينِ هاتفه، لكن ، لكن منذُ متى !! تحرّكت خطواتها بسرعةٍ نحو البـاب، في اللحظـة التي كـان فيها الرنينُ قدْ توقّف بعد أن أخرسته اصبع سلطـان، وضعَت يدها على المقبـض، ومن ثمّ أدارته لتجتذب البابَ إليها وتفتحـه ، بينما خطواتٌ خافتـة بدأت تسمعها بعد أن فتحَت البـاب، خطواتٌ كانت تخفُت أكثـر دلالـة الابتعاد!
عقدَت حاجبيها، ومن ثمّ تحرّكت لتخرج بعد أن كـانت تقفُ عند عتبـة الباب، بحثَت بعينيها في الممرّ ولم تجده وقد تلاشـى الصوتُ بعد إغلاقِ باب ! مما يعنِي أنه دخـل غرفـةً أخرى ! يعنِي .. يعنِي أنّه لازال غاضبًا ولازال مزاجـه سيئًا ، وبالتأكيد خاف عليها منه!!!
فغـرت فمها بضيق، كـادت تبحثُ بين الغـرف عن مأواه اليوم ، لكنّها تراجعَت احترامًا لرغبتـه ، كما أنّها لا تريدُ أن ترى في عينيهِ ذنبًا وندمًا تجاهها إن فـرغَ من ثباتِه . .
زفـرت ، ومن ثمّ تراجعَت للغـرفة ، ستنـام اليوم بعيدًا عنه، لن يكُون بجوارِها بعدَ أن اعتادَت! حسنًا .. ستكذِبُ على نفسها ، هذهِ الخطوةُ الأولى لتعتادَ البُعد !!


،


صبـاحٌ جديد، غُلِّف سماؤه بغيومٍ سوداءَ صخبَت بفستانِها المُعتـم، كانت بروكسيلْ تنتشي بالقطرات التي كانت تُربّتُ على أرضها ، خفيفـة، ناعمـة، رقيقةٌ تشبـه لمساتِ الفراشـاتِ المُختبئة خلفَ أوراقٍ باهتـة.
مطرٌ خفيفٌ كـان يلامـسه، يزفُر بضجرٍ وهو ينفُض البلل العالـق من على ملابِسه وكانّه بانتفاضةِ كفّه المنفعلـة سيجفّف ملابسـه بعد أن باغتـه المطـر ، لم يتهيأ حتى بمظلـه .. سُحقًا !!
وقفَ عند بابِ إحدى المقاهي المُغلقـة، كـان الوقتُ باكرًا لتُفتـح المحلّات والمقاهي في هذا الوقت، احتمـى بمظلّتها.. ومن ثمّ نظـر للسماءِ المتضبّبةِ برماديّةٍ شفافـة ، أفرجَ شفتيه قليلًا ، ليبدأ بالتنفّس من فمِه، يذُوق الهواءَ البـارد، ويشتمُّ رائحـة التُربة المخضّبةِ بالمطـر.
لم تمضـي دقائقُ وهو يقفُ هناك حتى توقّف المطر فجأة ، تنهّد ومن ثمّ عادَ يمشي في الشارِع الشبـه خاوي، سمـع صوتَ هاتِفه يرن، ليُخرجه تلقائيًا من جيبِه وهو يعلم من سيكُون المتّصل .. أمـال فمه، وبتسليةٍ " طرد المكالمـة "! ربّما يريد فقط أن يغضبـه اليوم ككلّ يوم، وكأن تسليته الوحيدة باتت في إغضابه !!
من الجهةِ الأخرى ، شدّ سعود على أسنـانه بغضبٍ من تصرّفـه، شعر أن " شياطينًا " توسّدت رأسه منذُ بداية الصباح، عـاد يتّصل بِه من جديدٍ ليجدَ الردّ ذاته من تميم " عدم الرد "! .. تمتم بغيظٍ ورأسه يكادُ يشتعـل : طيب ... طيب يا تميم !!
اتّصل للمرةِ الثـالثة، وهذهِ المرّة ردّ عليهِ بعد أوّل رنّةٍ وكأنه اكتفى من إغاظته، لافظًا بعبث : بونجوغ ، قود مورنينق ، بريفيت ، زدراستي ، هالو . .
صرخَ سعود بغضبٍ يقاطعه : انطـم يا حيوان ..... تقفل بوجهي هاه !!!
تميم بنبرةٍ مستفزّة : اللهم صباح خير ، صُبح ومطر ومعصب؟!
سعود بجمود : وينك؟
تميم ببساطة : نتفتّل بالحارة.
سعود : الله يلعنك!
تميم بوجوم : أستغفر الله !!
سعود بغضب : كفاية تستفزني أكثر! تميم لا تطلّعني من طوري ... للحين قاعد أتغاضى وللحين ساكت حتى على اللي سويته عشان يهرب بدر!!
تميم باستهزاء : أفا للحين حاقد؟
سعود بأمـر : تصرفت مع يوسف ذا؟
أمـال تميم فمهُ بضجـر : لا .. قلت لك ترى مالهم علاقة مباشرة فيك! .. أسلوب تصفية اللي تشك فيهم ما عجبني!
سعود : أدري فيك .. عشان كذا تبي تتصرّف أنت ! .. بس ما أثق فيك ...
تميم يبتسم : أفا سعود ليه كذا؟
سعود بحدّة : وش مهجدك للحين؟
تميم : أبد ماني هاجد ... بس ملل!
سعود بحزم : تتحرّك الحين سامع ! وإلا بتصرّف في الموضوع أنا ترى !!
تميم بملل : دامـه صار بيدي مستحيل أرضى يرجـع لك ، تطمّن ، بتأكد وبعطيك أدلّة إنهم مالهم دخـل .. غير كذا للأسف .. بنضطر نتّجه للتصفية المباشرة مثل ما تبي.


،


الشمسُ بدأت تُضيء الغـرفة المُظلمـة ، ينزاحُ الظـلام رويدًا رويدًا بتمهّل، الستائرُ غابَت قدرتها والسـاعة الآن تقتربُ من التاسعـة ، كـان قد نهضَ قبل ذلك بوقتٍ كبير ، قبيل الفجر بلحظـات، ذهب للمسجِد ليُصلّي ومن ثمّ عاد ليوقظها ونام ، والآن كـان قد نهضَ قبل ساعةٍ ونصفَ تقريبًا ليجدها نائمـةً من جديد.
يضـعُ يديه أسفلَ رأسه، ينظُر للأعلـى وملامحـه تستكينُ بضجر، جسدهُ خامـلٌ من طولِ ما ظلّ مستلقيًا على ظهـره .. أدار رأسه نحوها، تنامُ على جانِبها الأيمن – تواجهه! ملامحها ، كفّها اليُمنى تحت خدّها، يدُها الأخرى والتي تستقرُّ بجانِب رأسها على الوسادةِ في نومٍ ناعِم .. أدار جسدهُ على جانِبه الأيسرِ رغمًا عنه، يريد أن يتأمّلها بصمتٍ في نومِها الهادئ، يتأمّل فتنتها ، ويشعر أنّه يحترق بقربها بهذا الشكل! يحترق ، أيُّ رجلٍ يصمدُ أمام امرأةٍ مثلها؟ إن كـان دائمًا لا يظهر عليه افتتانه بها وتوقه ، إلا أنها حينَ تكون نائمـة قربه بهذا الشكل لا يستطِيع أن يكبـح نظراته الشغوفـة بها والتي لا تراها بهذه الشفافية في صحوتها . .
اقتربَ وجههُ منها ببطء، قبّل جبينها، ومن ثمّ انحدرَت شفاهه إلى وجنتها ليقبّلها ويطُول بقبلته هنـاك، الملمـس الذي يعشق! يُثملـه، كيفَ لامرأةٍ تحمل قطنيّةِ هذهِ الوجناتِ أن تمتلك لسانًا أشبـه بنصلِ السيوف! . . ابتسمَ تلقائيًا وهو يبتعدُ عنها بخفّةٍ ما إن شعر بها تتململ في نومها وتهمهم .. صنـع بينهما مساحـةً كافية وهو يدرك أنها لو رأته قريبًا منها بهذا الشكل أو شعرت بقبلاتِه الصباحيّةِ لها فستفزع وقد تعودُ لأسطوانةِ الغرفـة المستقلّة.
استلقـى على ظهرهِ وقد ابتعد بعدًا اعتادَت عليه، بينما تحرّكت إلين لتلفّ على ظهرها وأجفانها تتحرّك بكسل، أطرقَت رأسها حيثُ كان قبلًا، نحو اليمين، أي ما إن تفتح عينيها حتى تراه مباشـرةً .. وكان ذلك ما حدثَ فعلًا ، إذ ارتفعَت أجفانها ببطء، تُسدلها، ومن ثمّ ترفعها من جديدٍ باسترخائِها النَعِس، ابتسَم وهو يدرك أنّ رؤيتها لازالت متضبّبةً حتى الآن، أشـاح وجهه لينظُر للسقفِ في اللحظـةِ ذاتها التي أدركت ملامحه ، وبشكلٍ تلقائيٍّ كان جسدها يبتعدُ قليلًا وهي تعودُ لنغمضَ عينيها وتهمسَ بكسـل : الساعة كم؟
ما هذِه القسـوة الناعمة على قلبه؟ لا يحتمـل ، لا يحتمـل أن تمرَّ هذهِ البسمـة المثقلة بالنعـاس مرورَ الكرام ، همستها المُغمّسة في النعاس قاتلة! قاتلةٌ لقلبه !! . . زفـر بصمتٍ وهو يحاول أن يلملمَ روحه التي تبعثـرت داخلـه، أسندَ تعثّر صوتِه بسخريةٍ صباحيّةٍ خافتـة وهو يلفظ : فتّحي عيونك زين وشوفي الساعة بنفسك.
إلين بكسلٍ وهي تكادُ تعود للنوم : هممممم!
ستقتله! هذا ما تريد ، أن تقتله أو تقتل نفسها أخيرًا بشغفِه !! .. عضّ شفتـه بغضبٍ مفاجئٍ بسبب تأثيرها الصاخِب عليه ، بينما استلقَت إلين على جانبها الأيسر هذهِ المرّة وهي تلفظُ بصوتِها الناعِس بادئةً السمفونيّة التي لا تنتهي من الفظاظة : قوم خلاص .. ليه مناشبني حتى وأنت شبعان نوم؟
أدهـم يرفع حاجبه الأيسر، وبسخريةٍ مُستفزّة : شبعان نوم بس باقي ما شبعت منّك.
إلين تفتحُ عينيها مباشرةً ووجها يحمرّ، شعَرت بجسدِها يقشعرُّ تلقائيًا وبردّةِ فعلٍ عكسيّة، لفظَت بصوتٍ حادٍ حانق : لا عاد تربكني !
أدهم بعبث : أثاري الغزل يربكك؟
إلين بغيظٍ تمطُّ فمها : ماهو غزل ذا .. قلّة أدب بس !
أدهم يقتربُ منها بتسليةٍ وهو في داخلِه لا يريد استفزازها بحجمِ ما يريد الاقتراب أكثر .. لحظة! منذ متى كـان يتصرّف مع ما يريد بهذِه الطريقة؟ هو الذي كـان يفصـح بكلّ سهولةٍ بل ينـال ما يريده دون حواجز ، ما الذي تفعله بِه هذهِ الأنثـى الماكرة!!!
التصقَ صدرُه بظهرها بحنق، وفي تلك اللحظـة شهقَت إلين بذعر، بالرغم من كونِها شعرَت باقترابِه إلا أنّها لم تجد الوقت الكافي للهروب قبل أن يباغتها بذراعه التي التفّت حول بطنها وصدرِه الذي غزا بحرارتِه ظهرها . . . حاولَت أن تبتعدَ بذعرٍ وقلبها انفجـر بانقباضاتٍ صخبَت بصراخِ نبضاتها، لكنّ أدهم كـان قد شدّ بذراعِه أكثر وهو يلفظُ بنبرةٍ رقيقةٍ كـانت صادقـة .. إلا أنها مُستفزّة! : صباحي شمسك .. وصباحك هالأرض اللي تدور حول جاذبيّتك يا أميرتي.
إلين بصوتٍ خجول، غاضَب ، مُمتلئٍ بالنفور : ابعـد !!
أدهم يدفّن وجهه في شعرها ليستنشقَ رائحته بشغف، وبخفوت : لئيم هالبحر ..
إلين تًبعد رأسه عنه وقد بدأ غضبها يرتـفع أكثر وجسدها أيضًا بدأ بإرتعـاش التوتّر من قربـه! .. شدّت على أسنانها، وبحنقٍ باغتها بعضُ الرجـاءِ فيه : ابعد .. بقوم ..
أدهم يبتسمُ باسترخاء : مو كان ودّك ترجعين تنامين؟
إلين تحرّك قدميها وهو يدرك في هذهِ اللحظـة أنها ستحاول أن تركله وتبتعد، بينما كفيها كانت تضعهما على ذراعِه التي تقيّد بطنَها، تستعد لتغرسَ أظافرها في جلدِه إن تطلّب الأمر! .. لفظَت بغضب : والحين بقوم .. عندك مانع؟
أدهم بتحذير : لو ترفسين ، وإلا تقرصين أو تسوين أي شيء تقاومين فيه ببوسك .. سامعة!
تجمّد جسدها فجأة وتوقّفت عن التنفّس لثانيتين، حينها كتـم ضحكته المتسلّية ، ليُرخي ذراعـه، ومن ثمّ يتركها ويجلُس مبتعدًا عنها، لو بقيَ قريبًا منها أكثـر فسيجنّ ويُغرقـها في أمواجِ شوقِه وشغفـه.
انتفضَت إلين ما إن شعرَت بِه يبتعد، نهضَت بانفعـالٍ لتبتعدَ عن السريرِ برجفـةٍ ذعرٍ وغضب ، عدّلت قميصَ بجامتها وهي تستدِير لتنظُر إليه، بينما تمدّد أدهم على ظهرِه باسترخاءٍ وهو يضعُ كفيه خلف رأسه، وبهدوءٍ مستفزٍ – آمر - : دامك صحصحتي جوعـان ...
إلين تشدُّ على أسنانها بقهر، لازالت ترتعـش، ولازالَ وجهها محمرًّا من قربـه ذاك .. تراجعَت للخلفِ وهي تفركُ عضدَها الأيسر بكفّها اليُمنى بانفعال، وبقهر : وأنت كل وقتك جوعان؟
أدهم يبتسم بكسلٍ وهو ينظُر لها بعينينِ ناعستين : ما أقولّك إلا بوقت الوجبات الرئيسية ، فمانِي أكول.
إلين تشدُّ قبضتيها بقهر : على افتراضْ بطيعك من بعد حركتك هذي؟
أدهم يرفـع حاجبيه ببرود : تطيعيني؟ لهالدرجة تحسين بالإهانة بمسألة عادية مثل الطبـخ اللي ممكن أسويه لو أعرف له زين؟ ترى منتِ جاريتي ... زوجتي! وبعدين حركتي هذي ... * مطّ الكلمـة باستفزاز * حـــــــــــــلال ! وبيجي يوم وتكون أبسط شيء !
ارتبكَت ، وتشتّت أحداقها وأنفاسها تهتزُّ بين شفاهها، كـانت رسالـة ، رسـالةً هادئة، باردة، خطّها بحبرِ شفتيه على أسطِر الهواء .. رسالـةً تعني أنّه لن يصبر أكثر! لذا يريدها أن تتقبّله ، بشكلٍ أسرع ، فهو ما عاد يريد أن يقاومَ شغفه بها أكثـر، أن ينهضَ كلّ صبـاح، ويحترقَ بتأمّلاتِه لها ! .. الصباحات التي لا يُنقذه فيها سوى أن تنهضَ قبلـه .. فقط!
ابتلعَت إلين ريقها ، تدرك أنّها تطول برفضِه ، ربّما ظنّت لوهلةٍ أنّه يبتعدُ فقط لأنه لا يريدها .. ولأنها قبلًا ، لا تريده! لذا حرّكه الكبرياء وجعله يبتعد، لكنّ جملتـه الآن تُثبت أنّها أساءت الظن فقط .. فأدهم بالفعلِ ابتعد .. لكن لأجلها هي فقط! هذا ما فهمته من تصريحه الآن والذي يخبرها بوضوحٍ أنّه يريدها ، فإن لم يبتعد لأجل الكبرياء منذ البداية ، فهو ابتعدَ لأنه يريد الصبر، يريدها أن تتقبّله ... هل هذا ما كان بالفعـل؟ .. وهل .. وهل ستقوى على القبول؟!
تحرّكت بحركةٍ مضطربـة نحوَ الحمـام ، لا تدري ماذا تفعـل ، لكنّها تدرك أنّ رفضها له إن طلبَ بشكلٍ صريحٍ حقوقه يعني اللعن! كما أنها لن تنكـر أن نفورها الآن من ذاتها، ليسَ كالسابق، فنفورها قبلًا كان الماضي أساسه ، إلا أنها الآن وإن بقيَ الماضي بينهما ولو بشكلٍ بسيط لكنّها تخطّت أوّل عتبـة ، ورفضه لن يكون إلا من نفسها ، وليسَ رغمًا عنها ... هل ستتمكّن من القبول؟ هل ستتمكّن؟!!!
تنهّد أدهم بعد أن غابَت عن عينيه ، أغمـض عينيه بهدوء، ومن ثمّ شدّ قبضتيهِ أسفـل رأسه ، لا يستطِيع أن يكبـح رغبته بها أكثـر .. يريدها ، يريدها ... لكنْ بقبولها هي.


،


خـرج من الغـرفة بعد وقتٍ طويلٍ قضاه ينظُر للساعةِ حينًا وآخر ، يلتهمُ عقاربَها، وينتظـر قضاءَ وقت .. ربما يضمنُ من بعدِه أنّ صدره أصبـح هادئًا .. وعينيه .. وجسده كلّه، بالرغمِ من كونِه لم يسترخِي بنومٍ حتى الآن !!
عبـر في الممر، لتسقطَ عينيه على الغرفـة التي ما اقتربَ منها أبدًا، حتى في وقتٍ صلاة الفجـر ورغم شعورِه بالمسؤوليّة تجاهها لأنها غالبًا ما تنام في وقتها ولا تنهـض إلا أنه لم يحاول أن يوقظها، اكتفى فقط بالنورِ الذي رآه يتسلل عبر الفتحةِ أسفـل الباب ، وببعضِ الأصواتِ الخافتـة التي اخبرته أنها مستيقظة.
بينما في الداخـل ، كانت غزل تجلسُ على الأريكةِ أمام التلفازِ بعد أن وضَعت طبق طعام قطّتها على الأرضِ لتأكل، ظلّت شاردةً تنظُر للشاشةِ المُعتمـة والتي ينعكسُ فيها جزءٌ ضبابيّ منها، تنظُر لصورتها بإنهاك، بتعب! لازالت متخبّطة ، لازالت تضييع .. تضييع ولا تجدُ ظلًا لها !!
سمعَت فجأةً صوتَ خطواتٍ تعبـر ، أدركت مباشرةً هويّةَ صاحبها ، ومن قد يكون سواه؟ استقامَت بسرعةٍ ودون تفكيرٍ لتندفـع إلى الباب، فتحتْه بقوّة وعجلٍ تخشى أن يخرج قبل أن تقابله ، اصتدمت عيناها بظهره ، بينما توقّف سلطـان تلقائيًا ما إن سمـع صوتَ البـاب ، ودون أن ينظُر إليها أو يلفظَ بشيء .. عاد يخطو بعد خمسِ ثوانٍ فقط، لكنّ غزل أوقفته بصوتِها المهتزّ والذي لفظ : لحظـة !
عـاد ليقف وهو يغمضُ عينيهِ ويتنهّد، ربّما مزاجـه أصبح أفضل الآن ، لكنّه كان منزعجًا كفايةً ولا يريد رؤية أحد في هذهِ اللحظات! .. استدارَ ببطءٍ إليها، وما إن سقطَت نظراته الجامدة على عينيها حتى أشاحتهما تلقائيًا بربكـة .. بينما لفظَ سلطـان بهدوءٍ وبصوتٍ لا تعبيرَ فيه .. حاول أن يبتسم، لكنه لم يستطِع : وش فيه؟
نظـرت للأسفـل باضطرابٍ وهي تضمُّ ذراعها اليُمنى بكفّها اليُسرى ، لم تنَم .. طيلة الليلِ وبعد أن عـاد لم تنم .. ليسَ لشيء، سوى أنه لم يكُن بجانِبها ربّما! لا تدري .. لكنّها حاولت أن تنـام، ووجدَت نفسها تتقلّب فوقَ المفرشِ وتحاول جذبَ النومِ إلى عينيها .. لكنّها وجدَت نفسها فقط تجذب الأفكـار ، الكثير من الأفكـار التي تُربكها .. الكثيرَ من اللا وجود! كلّ شيءٍ لا تريدُ خلقـه من داخِلها، لا تريد الابتعاد ، لا تريد أن ينتهيا .. لكن كان لابد من ذلك .. رغمًا عنها .. لابدّ من الابتعاد!
همسَت بصوتٍ خافتٍ مرتبك : أبي أروح عند امّي.
لم ترى في تلك اللحظـة حاجبـه الذي ارتفـع بحدّة، ربّما تدرك أنه من الخطأ أن تُعيد فتح الموضوع في هذا الوقتِ تحديدًا وبعدَ مزاجِه السيء البارحة، لكنها لو انتظرت أكثر لربّما تراجعت ، ضعفت! لذا تفضّل أن تبقى في وضعيّة الهجوم ولا تتساهل!
سلطـان بجمودٍ أمـال فمه ليلفظَ أخيرًا متسائلًا بنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا : ليه؟
غزل بتوتّرٍ أكبـر من نبرتِه التي كان هدوءها أشبـه بهدوءِ ما قبـل العاصفـة ، لكنّها في النهاية لفظَت بصريحِ ما في عقلها بالرغمِ من رعشـة صوتِها : ليه يعني؟ أكيد لأني بستقر عندها.
زمجـر سلطان بغضبٍ مفاجئ : غــــــــزل !!! لا تستفزّيني بهالوقت تحديدًا .. وللمرة المليون ، لو حذّرتك بهالطريقة فالأفضل تسمعين .. ما أبي عنادك اللي أمس يتكرّر ... ما أبي أأذيك من غير لا أحس!
ابتلعَت ريقها بخوفٍ وهي تُخفِضُ وجهها، بينما تنهّد سلطـان يحاول أن يجعل أعصابه تتماسك، ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ حاول أن تكون هادئة : منتِ رايحة عندها .. هذا قراري وخلاص!
قـال كلماته تلك ، ومن ثمّ ابتعَد بخطواتِه بصمتٍ حتى غـاب حضوره .. فغـرت فمها وهي تتنفّس بربكـة ، ماذا الآن؟ هل كانت تتوقّع أن يوافق مباشرةً أصلًا؟ هذا إن سيوافق في وقتٍ آخر من الأساس! . . أغمضَت عينيها بقوّة وهي ترفـع رأسها للأعلـى ، تتنفّس بانفعـال ، وتتمتمُ بإصرارٍ أعمـى : حتى لو رفض ، حتى لو هدّدك ... لا تضعفين ، لا تضعفين ... اطلعي! اطلعي من حياته !!!
فتحَت عينيها اللتين اشتعلتا بإصرارٍ صاخب ، مرّرت لسانها على شفتها ، ومن ثمّ توجهَت للغرفـة حيثُ هاتفها ، وقد اختارت أخيرًا العصيـان .. ستخرج ، ستتّصل الآن بأمها وتطلب منها أن ترسلَ سائقها ، ستخرج! من حياتِه للأبد!!


،


يجلسُ بهدوءٍ وصمتٍ وأمامه جيهان التي تقاسمـه الصمت، شاردة، تبتكـر من هدوئها أفكـارًا لا تتركها كثيرًا، لا تتركها ليومٍ واحدٍ حتى تعودَ أقوى! . . تنهّدت بخيبـة ، هل ستبقى حزينةً كلّما رأته فجأة؟ كيفَ قد تعيشُ هكذا؟ ألم تقرّر أنها ستعيش؟ ستعانق الحيـاة بشكلٍ مختلف؟! إذن ما بالها؟ حتى وإن كانت تحبّه، هل ستبقى في كلّ مرةٍ تبتئسُ بهذا الشكل الفضائحيّ أمام الجميع؟ .
تنهّدت بشرود، ويدها تُدير " المصاص " في عصيرِ البرتقال، تصنـع موجـات، دوائرَ لا تنتهي، تمامًا كالدائرةِ التي تطوفُ فيها ولم تخرج منها حتى الآن ولا يبدو أنها ستخرج على حالِها هذا!
انتهبَت لوالدها يقفُ فجأةً وقد تبسّمت شفاهه، عقدَت حاجبيها باستغـراب، بينما تحرّك مبتعدًا عن الكرسي الذي يجلسُ فيه، تـابعته بنظراتٍ فضولية، قليلًا ما باتت تراه هذهِ الأيـام يبتسم، وبالتأكيد السبب هو ذاك الرجل الغريب! . . استنكرَت ما إن رأته يقفُ أمام رجلٌ ما ويصافحـه ، لحظـة ! هذا الرجل، أليسَ نفسه من أنقذَ أرجوان ذلك اليوم من اصتدامٍ أكيد!!
تقطّبت ملامحها باستغراب، بينما كانت أرجوان تبتسمُ وهي تشربُ من عصيرها، وبهدوء : ابعدي عيونك عنهم، هذا وأنتِ فضحتينا هذاك اليوم قدام أبوي لأن الرجـال ذاك كان مثبت عيونه علينا ولا وخرها !!!
أشاحَت جيهان وجهها بضيق، أسندَت خدّها إلى كفها، ومن ثمّ عادَت تتلاعب بالمصاصِ وهي تمدُّ فمها للأمـام بضجر، بينما أردفت أرجوان بحزم : وانتبهي على ردّات فعلك ... جوج إذا كنتِ متضايقة تكلمي معي لو ما تبين تتكلمين مع دكتورتك! ما يصير كذا انتبهي لتصرّفاتك لا تضايقين أبوي أكثر!!
جيهان بضجرٍ تحاول أن تخفي حزنها بِه : فكّيني.
رفعَت عينيها من جديدٍ إلى والدها الذي كـان يُديرها ظهره، هي فعلًا تُرهقه أكثر! ترهقهُ بحزنها .. ما الذي تفعله بالضبط يا الله؟!! . . تنهّدت بيأس، ونظراتها توّجهّت هذهِ المرّة لتدقّق بملامِح جوزيف/تميم الذي كان يبتسم وهو يتحدّث مع يوسف بفرنسيّةٍ مُتقنـة ، ظلّت تنظُر لوجهه ببرود، تتنقّل من عينيهِ الرماديتيْنِ إلى بشرتِه البيضاء، فمه الواسـع، العوارضُ البنيّةُ الشقراء المنتشـرة حول فكيه ... ضيّقت عينيها قليلًا، في حينِ تنهّدت أرجوان بيأسٍ منها وهي تلفظ : نظراتك وقحة! استحي على وجهك.
جيهان تبتسم بسخرية : أبي أتأمل الجمـال من حولي طيب! ... اوووه ماااي قاد والله من جد حلو!
أرجوان تبتسمُ رغمًا عنها، زمّت شفتيها كي تُخفي بسمتها، ومن ثمّ لفظَت : صايرة خفيفة بزيادة!
جيهان تلوّح بكفّها دون مبالاة : أيش خفيفة؟ الحق ينقـال والله وسيم مرة!
هزّت أرجوان رأسها بالنفي وهي تضحك : بتخربين علينا هالبزرة.
نظـرت جيهان لليـان التي كانت تستغرقُ في أكـل طعامها، وبسخرية : خليك منها ماهي حولنا.
أعادت نظراتها إليه، ومن ثمّ أمـالت فمها بتفكيرٍ وكأنها تحاول أن تحلّل من يكون من ملامحهِ وابتسامته!
أرجوان وقد بدأت تتضايق بالفعـل : جيهان ترى مصّختيها! نزلي عيونك عنه.
جيهان بجدّيةٍ نظـرت نحو أرجوان نظرةً خاطفـة ومن ثمّ أعادتها إليه : تصدقين ، أحس هالرجال من نسل مسيلمة الكذاب!
أرجوان : نعم!!!
جيهان : مدري بس أحسه من النوع اللئيم واللي ما ينعرف له!!
أرجوان بسخرية : بالله فكينا من إحساسك هذا!
جيهان بامتعاض : دحدري ... بس ما شاء الله على أبوي أنتِ تطيحين بالمشاكل وتشوفين الحلوين وهو يتعرّف عليهم بعدين ويعقد صداقات.
أرجوان بتصحيح : ما شاف ذاك يوم طحت بالبحيرة يا فالحة.


،


دخـل للغـرفةِ ومن خلفِه إبراهيم، لا ينكـر أنّه اليومَ يسيرُ قربـه على مضض، لا يدري كيفَ لا يزالُ صامدًا حتى هذهِ اللحظـة ولم يمزّق عنقه بين يديه .. اتّجه إبراهيم لمعطفـه الذي كـان على الطاولـة، ارتداهُ وهو يزفُر بإرهـاقٍ ويلفـظ : آآآخ جوعان ... * نظر لسعد ببساطةٍ وكأن شيئًا لم يكُن * شرايك نروح مطعم قريب.
سعدْ بكرهٍ واحتقارٍ وهو يدير ظهره إليه : شكرًا .. ما نتشرّف أكيد.
إبراهيم يضحك باستفزاز : اوووه معصّب .. كله عشان الصورة؟ ترى قايل لك مدري من وين جاتني.
نظَر إليهِ سعد بنظراتٍ ناريةٍ يكاد أن يُحرقه، بغضب، لازال يتواقـح، رغمَ كلّ شيءٍ لازال له القدرة على الحديثِ بهذا الشكل! .... غضِب، لكنّه صمت، ولم يقُل شيئًا حتى الآن!
تحرّك إبراهيم دون مبالاةٍ كي يخرج ، تجاوزَ البـاب، في اللحظـة التي تحرّكت فيها أحداقُ سعدْ إلى المكانِ ذاتِه التي حمـل منها إبراهيم تلك الصورة، لا يسعه التفكير! لا يستطيع استخراج فكرةٍ منطقيّةٍ واحدة غير أنّه هو من ثابـر ليحصل عليها، يستحيل أن يشكّ بها ، يستحيييل !!!
عقدَ حاجبيهِ فجأة، تنفّس بقوة ، وهو ينطُق في نفسه " لا " !! لا ! ليسَ مرّةً اخرى ، ليسَ من جديد!! لا !!! . . تحرّك بصدمـة، وهو يرى شيئًا ما مُلقى على الأرض، انحنى بجسدِه بربكـة، يبتلعُ ريقه بتوتّر ، ومن ثمّ يمدُّ يدَه .. ببطء .. ليحمـل ما كان مُلقى قريبًا من نفسِ المكان الذي حمل منها إبراهيم الصورة السابقة.


،


" شاهيـن "
أغمـض عينيهِ بقوّة ، زفـر بعمقٍ هواءَ صدرِه الملوّث .. لم يستطِع الهرب، كـان ينوي الهرب ، ينوِي أن لا يلتقي بها حتى أنه عـاد إلى المنزل بعدَ منتصفِ الليلِ بوقتٍ طويلٍ كي لا يتصادمَ معها . . لكنْ كـان للقدرِ رأيٌ آخر، وهاهي تتصادم معه الآن!
استدارَ بهدوءٍ ظاهريٍّ إليها، ملامِحه منهكـة، الهالاتُ وجدَت طريقها أسفل عينيه، لم يعُد يستطِيع النوم جيدًا، مُرهق ، والوجـع أيضًا يسحبُ إشراقـة عينيهِ ليبقى يحيا في هذا الغروبِ المُهلك.
نظـرت لهُ علا بحدّةٍ غاضبـة، وقفَت أمامه، ودون مقدّماتٍ صرخت بغضب : وش قصّتك أنت؟ وش قصّتك صاير تهرب منّي كذا !!!!
شاهين بإرهاق : مشغول يمّه .. مشغول.
علا بانفعـالٍ خشيَ عليها منه وهو يراه كيف يزحفُ إلى جسدها النحيل فتنتفض : مشغول؟ تكذب علي !! تعلمت تكذب علي !!! ... وش قصتك يا ولدي .. هذا وجه واحد توه سامع بخبر حمل زوجته؟!
ارتدّ للخلفِ بألم، شتّت عينيهِ وهو يتنهّد بضعف، بينما تقدّمت علا إليه بعد الخطواتِ التي صنعها، وضعَت كفّها على صدرِه لتضربه بغضبٍ وتُردف : منت مبسوط هاه ! أنت طبيعي؟ طبيعي وإلا فيك شيء !!! * بحسرةٍ وحُزنٍ مفاجئ * فيك شيء .. فيك شيء منت ولدي اللي أعرفه!!
شاهين برجاء : يمّه . .
عُلا تهزُّ رأسها بالنفي : حسبي الله على ابليسك وبس .. ما أقدر أتحسب عليك .. بس حسبي الله على ابليسك يومك ما خليتني أفرح بهالخبـر .. يومك مضايقني بهالشكل يا ولد بطني!!
شعرَ بألمٍ في صدرِه .. يكفي ، يكفي أرجوكِ ! يكفيني ألمـي ، لا تُضاعفيه .. أرجوكِ لا تُضاعفيه !!! . . أغمـض عينيهِ بقوّة، لا يستطِيع أن ينظُر لعينيها، لا يستطِيع أن ينظُر لها .. يخشى أن يفضح كلّ شيء .. يخشى أن يُخبرها بالأسبـاب فيقتلها !!!
بينما زمّت علا شفتيها بقهر، هزّت رأسها بالنفي ، تتنفّس بقوّةٍ منفعلـة ، لتلفظَ أخيرًا بيأسٍ منه ، لا تدري ما الذي حدَث له، لكنّها يائسةٌ منه وكفى : اذلف .. اذلف لشغلك اللي شايل همه أكثر من مرتك .. وأكثر منّي أنا ... أمّك !!!


،


توقَف باستنكارٍ وهو يعقدُ حاجبيهِ ما إن سمـع صوتَ سعد الذي كـان يناديه .. وقفَ في الممرّ ومن ثمّ استدار إليه ببطءٍ مستغرب، وبتساؤل : تناديني؟
سعد يقفُ أمامه وهو يبتسم ابتسامـةً مقتضبـة، ابتسامةً غريبة .. غريبةٌ جدًا! : أيه ، مو كنت تبينا نروح مطعم قريب؟
إبراهيم يرفعُ حاجبيه دون تصديق : تبي تروح؟
سعد : أيه .. اكتشفت إنّي جوعان بعد.
هزّ إبراهيم كتفَه باستغرابٍ وهو يميل فمـه، ومن ثمّ تحرّك ليهرولَ سعدْ ويصبح مجانبًا لهُ بالضبط، يسيرانِ معًا .. ليخرجا أخيرًا من المبنـى ، اختـار سعد أن يقودَ هو بسيّارتِه .. ومن ثمّ ابتعدا يبحثـانِ عن مطعمٍ معا كي يأكلا فيها فطورًا متأخرًا.
سعد بهدوءٍ يسأله : أي مطعم تحب.
إبراهيم بالرغمِ من كونِه كان مستغربًا موافقتـه الخروج معه، منذ زمنٍ طويلٍ لم يخرجا سويّةً ، منذ خلافهما قبل أشهرٍ عديدة .. لفظَ بهدوء : أي زفت أهم شيء نفطر.
سعد : ممم .. مطعم شعبي عادي؟ تراه حلو ومتعوب على أكله.
إبراهيم دون مبالاة، كـان جائعًا ويريد أيّ شيء : اللي تشوفه.
أومأ سعد بثقة : راح يعجبك ...
قـاد سيّارته لعشـر دقائق تقريبًا، وصلا لجهةٍ كـان فيها تجمّع الناس قليل/شبه معدوم، البيوتُ تكادُ تلتصقُ ببعضها في ضيقٍ مُزعج ، كـان حيًّا من إحدى الاحيـاء القديمة والتي لم تتلاشى بعد.
عقدَ إبراهيم حاجبيه وهو ينظُر حوله باستغرابٍ من هذا المكان ، وبتساؤل : وين هالمطعم؟ مو قاعد أشوف غير الخرابة.
سعد يبتسم ابتسامةً هادئـة، كـان فيها هالةٌ مـا ... كـان فيها ظلام، وقهر ، وغضب! . . أوقفَ السيارةَ بهدوء، ومن ثمّ نظـر لإبراهيم بابتسامتِه تلك، لافظًا بنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا، حملَ خلفها أعاصيـر .. أعاصير لا تريد أن تتوقّف : ممكن بالأول نتفاهم عشان شغلة؟
إبراهيم بتوجّس : نتفاهم؟
سعد يفتـح باب السيارة بهدوء : إذا فيه مرجلـة وواثق من حالك انزل ... بسألك كم سؤال.
إبراهيم يبتسم بغيظ، شدّ على أسنانه بحنقٍ لافظًا بوعيد : رجعنـا !
سعد بوعيدٍ أكبر : وبننهي كل شيء .. كل شيء اليوم ، بصفّي حسابي معك!
إبراهيم بانفعالٍ من تحدّيهِ له فتـح البابَ بغضبٍ ونزل، صرخَ غاضبًا : تهددني؟ أنا تهدّدني يا الورع؟!!!
سعدْ يلتفُّ حول السيارةِ من الأمامِ حتى وقفَ أمامه على بعدِ ثلاثِ خطوات، زلزلَ صوتُه الغاضبُ المكـان الخاوي ، شعـر بأنّ صداهُ يرتدُّ إلى صدرِه فيغضب أكـثر ، يشتعلُ أكثـر : من وين تجيب صور أختي؟ .. من وين يا حقيييير!!
ارتفـع حاجبُ إبراهيم وهو يبتسمُ بسخرية : صدّعت راسي بأختك هذي .. إذا هذا هو موضوعك السخيف اللي مأخر بسببه فطوري أكثر فاذلف!
كـاد يبتعد، لكنّ صوتَ سعد اوقفـه حين كرّر سؤاله بصوتٍ أكثـر قوّةً وغضبًا : من وين قاعد تجيب صور أختي يا إبراهيم ... من وين؟!!
في تلك اللحظـة بالضبط، مالت ابتسامـةُ إبراهيم بلؤم، راقَ لهُ هذا الاحتراق الذي يسمعه في صوتِه، ملامحه التي تهترِئ بغضب، راقَ لهُ أن يقهرهُ أكثر، أن يستفزّه أكثـر .. لذا لفظَ بكلماتٍ وقحـةٍ كانت كالوقودِ لنيرانِه : أختك جميلة بزيادة يا حلو .. فطبيعي أطمـع فيها وأدوّر صور لها . . . وقريبًا .. قريبًا بإذن الله بنحظى بالأصــــل . .
شدّد على كلماتِه الاخيرة بفجور ، وعند تلك اللحظـة بالضبط، ارتفـع صوتُ سعد في صرخـةٍ منفعلةٍ لفظَ بها اسمـه بكلّ كرهٍ وبوعيدٍ أعمـى .. حينها تراجـع إبراهيم للخلفِ وهو يضحكُ بصخبٍ متسلّي ، برضا بغضبِه .. أردفَ باستفزازٍ وهذهِ المرّة كـان يعنيها .. لفظها بكره ، وقد ملّ أخيرًا منه، ملّ من تساهله معه حتى الآن : تدري؟ زوجة سلطـان الحلوة ذيك .. هذاك اليوم خربت علي ليلتي .. بس بحصّل تعويض ، بحصلها بأختك يا سعد ... صدقني هالمرة حطّيتها براسي !
اقتربَ منه سعد وهو يتنفّس بقوة ، يتنفّس بجنون ... يكادُ في هذهِ اللحظـة أن ينفحـر كفقّاعةٍ وصلَ الضغطُ فيها حدوده، وصل الكُره فيها حدوده .. يُشعله ، بهذهِ الكلمات يشعله أكثر من الصور التي رآها .. لا يصدّق! كيف قد يتخيّل بأن شخصًا كهذا قد يؤذيها؟ يؤذي البريئة التي لا علاقـة لها بشيء؟ كيف؟ كيف؟!!
عند تلك النقطـة، كـان يقتربُ من إبراهيم وهو يلفظُ وجسدهُ يرتجفُ من فرطِ الغضب، يرتجفُ من الانفعـال الذي احمرّ به وجهه : تتوقّع بسمح لك! تتوقع بخليك تضرها بهالبساطة؟
إبراهيم يُميل فمه بسخرية : أنت ما قدرت تحمي حالك من مجرّد انضمام لعصابة مثل هذي .. بتقدر تحمي أختك من ا غ ت ص ا ب!!!
كـان ينطقها كلّ حرفٍ على حدةٍ بوقاحةٍ وصلَت إلى حدودها بل تجاوزت معناها بمراحل! أدرك إبراهيم من اقترابه المُندفـع أنّه قرّر المواجهـة رجلًا لرجـل كالعادة، حينها اعتدلَ بوقفتـه في وضعيّةِ هجومٍ وهو يهتف بثقة : تعال يا حبيبي .. تعال !
في تلك اللحظة، لم يتردّد سعد .. من دسِّ كفه أسفـل معطفـه ، حتى يُخرج أخيرًا السكّين الذي حمله دون شعورٍ قبل أن يخرج من الغرفـة وبعد أن وجدَ تلك الصورةَ الملقيّة على الأرض .. أخرجها ، لتتّسع عيني إبراهيم بصدمـةٍ ويتراجع وهو يصرّ على أسنانه : تبي تذبحنـ . .
لم يستطِع أن يُكمـل كلمتـه تلك وهو يرى اندفـاع سعد إليه بجنونٍ ليشهقَ دون أن يتداركَ نفسه ليتحاشاها وهو يصـرخ : لا لا لااااا يا مجنـــــــــ آآآآآآآآآآآآآآهــــــــــ
ارتفعَت صرخـة ، خرجَت من حنجرةٍ شقّها ألمٌ جسديّ صارخ، اخترقت السكينُ بنصلِها الحاد أسفـل صدرِه مبـاشرة . .
ارتفعَت صرخـة ، انبثقـت معها حُمـرة الدمـاء ، ومن ثمّ وقعـة ، ارتطـم بها هذا الجسد على الأرض التي طوتها حرارةُ الشمسٍ وأذابَت الدمـاءَ أكثر . .
تأوّهـات ، عيونٌ جحظَت بألمها ، ألمٌ لا يحتمل! لا يُحتمـل، تحشـرجُ روح ، نزاعاتٌ مع الموتِ الذي زحفَ بسرعةٍ إليه ، صدمـة ، واستفـاقةٌ من الغضـب .. في وقتٍ متأخر .. متأخرٍ للغايـة ..
حشرجـات، وزوجين من الأعين هذهِ المرة جحظَت .. إحداهما بألمِ النـزاع مع الروح ... والآخر بصدمـة .. بصدمـة .. وهو يرى الدمـاء التي خُلقَت أمامه .. دمـاء إبراهيم ... الذي قتله!!!
تراجـع للخلفِ بصدمةٍ وهو يُسقطُ السكين الذي كـان ملطّخًا بالدمـاءِ بعد أن سُحب تلقائيًا من جسدِ إبراهيم حين سقطَ على الأرض، كـان سعد يقبـض بأصابعه عليه بقوّة .. لذا لم يسقُط مع جسدِه، بل بقيَ في يدِه ، والتي تلوّنت أطرافها بحُمرةِ دمـه . . . سقطَ ذاك النصـل أخيرًا ، في اللحظـة التي كـان فيها ينظُر للجسدِ الذي استقرّ ميّتًا .. بعينينِ مصدومتين . . لقـــد ... لقـــد قتله !!!

.

.

.

انــتــهــى

وموعدنا خلاص صار ثابت ، مافيه داعي بكل مرة أكرره
بكل أحد وأربعاء إن شاء المولى ، وإذا فيه تغيير ببلغكم بنفسي ()


ودمتم بخير / كَيــدْ !


أبها 28-07-16 06:48 AM

شكرا كيد على الجزء الرائع ..

ابراهيم .. استغفر الله يستاهل ما جاه..انسان قذر
لكن للأسف سعد سيفقد بذلك حياته أيضا ،،
وسيتيتّم إخوته من بعده ، وما استفاد شيئاً إلا أنه اتبع
شيطانه وغضبه .. ليته أبلغ عن تلك العصابة
واستراح من شرّهم .

شاهين .. مشاعر الندم والخجل من أخيه ستلازمه
طوال عمره كلما رأى ابنه أو ابنته .
لكن أرجو أن يتجاوز متعب تلك الصدمة فعلا
ويتناسى المرحلة التي جمعته بأسيل ..
ربما بزواج وحب جديد .

شكرا مرة أخرى كيد
بانتظارك .🍃🌸🍃

fadi azar 28-07-16 04:22 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 31-07-16 12:47 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


يا المدينه يا شوراعها الحزينه تذكرينه...؟
كان فارس خطوته كانت رزينه..
ماعرف للقصر حارس..!
يوم شالك بيدينه وأختفابك
مايفرق بين صعبه وبين لينه..
كان فارس..
يكسر بدرعه ظروفك..
يصد بحروفه حروفك..
كل همه كان شوفك..ولآ سرحتي تسرحينه..!
كان في بحرك يسافر..
مايبي يوصل مدينه
قطع شراع السفينه
مايبي يوصل للاخر
ويوم كان الجو ماطر
شاف في موته..سراحه...
كان يغرق مبتسم...يحمدالله ويسأله
مايعلمه السباحه..!
بس كان الموج شاطر..
ورجعه لك ياالمواني بلآ شراع ولآسفينه...
يا القوافي يا معانيها الحزينه تذكرينه..
كان شاعر..لوسكت حرفه يهينه..
يغتصب جرحه يمينه..
كان حالم شاف واحه..
حس بعد الهم راحه..
كل همه تظللينه..
ويقطف من العود تينه..
ويوم شاف الماء تعثر..
كان وده يشربك..
مادرى أنك تشربينه..
صار في كل القصايد هو القصيده..
صار شعره للبعيده يكتبه..
وقام من حلمه..
عرف انه غفى في مكتبه..
وفي يدينك دفتره..
بكل سهوله تشققينه..!
يا المدينه !


* لـ " صاحب الذوق الرفيع "


(78)*1



كـان ينظُر إليه، بعيونٍ اتّقدت بالصدمـة ، ما الذي فعله؟ ما الذي فعله؟ لا يمكن ! هل قتلـه الآن أم أن كل شيءٍ مجرّد حلم؟ أنا أحلـم ، انا أحلـم .. لم أفعلها ، لا لا لم أقتله !!
تراجـع للخلفِ وهو يبتلـع ريقه، ينظُر لهُ وهو يُمنّي نفسه أنّه سينهضُ لا محالة، سينهض، لقد فقدَ وعيه فقط، أو ربما لم تدخل السكين لكنّه يتصنّع العكـس، يمثّل أنه مات لكي يُصيبه بالذعر ومن ثمّ يتعقّل عن العراكـات الدائمة، كان فقط يستفزّه، يمثّل ، ونجح !
بقيَ ينتظـر، يترقّب، سينهض بعد قليـل، سينهض! . . . أنفاسُه تتسـارع، ينتظـر عودة أنفاسِ إبراهيم، يكذّب الدماء وينتظـره كي يفتح عينيه، ينتظـر، لا يمكن أن يكون قتلَ نفسًا .. قتَل نفسًا! .. لا يمكــن !!!
تأوّه أخيرًا بانهيارٍ وهو يُميل بجذعه للأسفـل ، فغر فمه، شعر بلوعةٍ من منظـر الدم الذي كان على الأرض .. الدم ، على ، على يدِه!!
لم يشعُر بنفسِه إلا وهو يستدِير بسرعةٍ عن جثّةِ إبراهيم، يتقوّس، ويضـع كفيه على بطنِه ليتقيأ أخيرًا بلوعـة ، من منظِر الـدم، ومن منظر الضيـاع، ضيـاع من؟ هو .. أم عائلته!
رفـع رأسه وهو يغمـض عينيهِ بقوّةٍ ويتأوّه كجريحِ حرب، يا الله ما الذي فعلته؟ كيف فعلتها؟ كيف انصعْتُ لاستفزازاتِه الوضيعة ودمّرت حياتِي! .. كـان لا يبالي، لا يبالِي كيفَ قد يعيش! لكن أنا! أنا لا أعيشُ لنفسي .. أعيشُ لهم ، فكيفَ فرّطتُ بِهم هكذا؟ ..
أخفضَ رأسه وهو يمسحُ على فمِه، ينظُر للأرض بتشويش، يشعر أنّه سيفقدُ وعيه في أيّ لحظـة، لكنّه قـاوم، واستدار بأمـل .. قد يكون حيًّا، قد يكون .... تحرّكت أقدامه وقلبه يتصاعدُ بوتيرةِ نبضاتِه، يكـاد أن ينفجـر، لكنّه كـان يقمـع كلّ انفعالاتِه باطنًا، إلا أنه لم يستطِع أن يسيطرَ على أنفاسِه وهو يقتـرب منه، يقتربُ من هذا الجسد الذي لُطّخت ملابسـه بلونٍ أحمـر يُثير في النفسِ الكثيرَ من التخبّطات .. اقتربَ منه، وهو يهمسُ بصوتٍ متحشرج، يهمسُ بأمل، يهمسُ بتضرّعٍ إلى الله : يا رب .. يا رب إنّي أسألك .. أسألك ....
غصّ في دعواتِه وهو يجلسُ بجانِبه باضطرابٍ لا تُسعفه الكلمـاتُ في رجائه، رفـع يده التي لم يكُن يدرك أنها تنتفضُ بقوّة، مدّها، ليضعها على جانِب عنقه، ينتظـر استشعارَ نبضةٍ تمرُّ على أطرافِ أنامله، .. يا رب! ... ابتلعَ ريقه وهو يهزُّ رأسه بالنفي، هناك نبض، هناك نبضٌ لا أستشعره، بالتأكيد هنـاك .. سحبَ يدهُ من عنقه بسرعةٍ وهو يصرخُ بآهاتٍ صاخبـة، لم يكُن يشعُر بنفسِه، كـان يصرخُ كأسدٍ وقـع في مصيدةِ الموت، يصرخُ بصخبٍ منهـار ، ويدهُ الأخرى ترتفع، يُمسك بها معصَم إبراهيم اليُمنى، ومن ثمّ بأختها يستشعرُ عروقه ، بأطرافِ أناملها نفسها ... هناك نبض، بالتأكيد هناك نبض! لمَ لا أشعـر بِه .. هناك نبض، أنا متأكدٌ بأنه حي !!
همسَ بانهيارٍ وهو يُبعد يديه عن معصمِه لتسقطَ كفّه دون روحٍ على الأرضِ المتلحّفةِ بالتربة : لا لا هو حي .. أنا متأكد ما مات .. مستحيل أكون ذبحته !!
أخفـض رأسه، يريد أن يتأكد من مواضِع النبض كلّها، يريد أن يستشعر جسدهُ كلّه، لربّما هناك نبضـة، نسيَت المرورَ على معصمـه، نسيَت عنقه، لربّما هنـاك نبضـة .. خانته!
وضـع أذنه على صدرِه ناحيـةَ قلبه، أغمـض عينيهِ وهو يتنفّس بسرعة، صدره يرتفـع ، نعم صدرُ إبراهيم يرتفعُ بأنفاسٍ هادئـة ، وهناك نبض!
لم يكُن يدرك في ذاك الوقتِ أنه دخـل في حالٍ هستيريّةٍ من الأمـل، بات يتوهّم أنه ينبـض، أنّه يتنفـس ، نعم يتنفّس! يتنفّس ولم يمُت !!!
رفـع رأسه وهو يزفـر بانفعـال، نعم يتنفّس ، سيضـع كفّه قربَ أنفه وسيشعر بِه يتنفّس .. نعم !! .. ابتسـم بيأس، يأس، في داخلـه كان يقبـع في بصيصِ أمـل، لكنّ ملامحـه، عضلاتُ وجهه، جسده ، كـانت تدرك كلّ شيء! تدرك أنّه فعلًا ... مـــات !!
وضـع كفّه قريبًا من أنفـه، أغمـض عينيهِ يستغرقُ في التركيز، وكأنّ عيونه ستمنعـه ، نظره لملامِحه المستكينة، عينيه المغمضتين ، شفتيه المنفرجتينِ قليلًا وعلى زاويةِ فمه خطُّ رقيقٌ من الـدم، كأنّ عيونه إن نظـرت لكلّ ذلك، ستجعله يتشتّت أكثر ، ليدرك أخيرًا .. في غمرةِ تشوّشه : أنّه ميّت! ولا أمــل !!!
هذهِ المرّة، لم يُسانِده الوهـم ، اتّسعت ابتسـامته ، وهو يهمـسُ برجاءٍ منكسر : مو كذا يا إبراهيم .. مو كذا! قوم نتهاوش .. بس لا تدمّرني كِذا !! ليه تستفزّني بأختي؟ ليه تتصرّف بهالحقارة؟! محد يسويها .. محد يتجرأ يوصل لهالنقطة إلا مجنون .. تهدّد أخو بأخته؟ ... قــــوووووم ، قوووووم بس لا تسوّيها فيني بهالشكل !!
كـان يناجيه ، ليسَ لشيء، سوى لأجـل نفسِه ، عائلتـه ، انهـَض ، انهـض لأمزّقك، لأقطـع لسانك الذي تجاوَز وتجرأ بكلماتٍ وقحـة ، انهـض ... لكن لا تمُت !!!

من جهةٍ أخـرى ، كـان يراقبْ، وشفتيه المبتسمتين تنفرجان ليزفـر أخيرًا هواءً حارًا ، يبتسم ، وأخيرً تمكّن مما يُريد !!
رفـع هاتفـه من جيبِه، اتّصل برقمٍ محدّد، كان ينتظـر منذُ زمنٍ أن يتّصل بِه ، انتظـر لحظـةً حتى جاءه الرد ، ومن ثمّ رفـع رأسه وملامـحه تتجمد، بينما عيناه تلتمعـان بمكر ، وصوته الواثـق ينبعثُ لأذن السامع ، لافظًا بهدوء : السلام عليكم . . . ودي أبلّغ عن جريمة قتل.


،


كان يسيرُ في رواقِ المشفـى والبيـاضُ لا يُصبـح مستفزًّا إلا حينَ يرتبـط بالمرض، الموت، لا يُصبـح مستفزًا إلا في لحظـاتٍ كهذِه. زفـر وهو يتّجه للغـرفة التي يعلم أنّه فيها ، وقفَ عند بابِها، ليعقدَ حاجبيه مباشرةً باستنكـارٍ حينَ وجدهُ مفتوحًا .. تجمّد نفسُه للحظـة ، وتوقّف لثانيتينِ مضطربتينِ فقط ، قبل أن تتحرّك أقدامـه ويقتحـم الغرفـةَ بهدوءٍ ظاهريٍّ بينما ملامحـه جامدةٌ بزيف . .
تصلّب جسدهُ فجأةً حينَ وجدَ الغرفـة خاويـةً إلا من ممرضةٍ كـانت تتحرّك فيها ولم يكُن عقله المتشوّش في تلك اللحظـة قد ميّز ما كـانت تفعله، لكنّه في النهاية لملمَ بعثـرته المضطربـة من هذا الخواءِ المفاجئ، وحين انتبهَت إليه الممرّضة سيطـر على جمودِ نظراته ليلفظَ بهدوء : Where is the patient that was here?
الممرضـة بهدوء : I don't know but I think that he has moved
أومأ دون إجابـةٍ لفظيـة، ومن ثمّ تحرّك، مبتعدًا ، قرّر أن يذهبَ للاستقبالِ كي يسأل عن غرفته الآن والأهم عن الطبيبِ الذي أشرف عن حالتِه كيْ يسأله عن حاله وماذا يعنِي أن يكُون نُقل؟ هل هو بخير الآن؟ .. أم رُبّما يكون قد نُقـل ... توقّف بصدمةٍ في مكانِه وفكرة أن يكون نُقِل لـ " ثلّاجةِ الموتى " نزعته من هدوئه الكاذب، لا لا .. لو أنه نُقِل هناك لكانوا قد اتصلوا بِه .. لكن ربّما نُقل قبل لحظـاتٍ من دخولِه ولم يجدوا الوقت حتى الآن؟ .. زمّ شفتيه وهو يتنفّس بانفعـال، قرّر أن يسأل ويتأكد قبل أن يأخذه الانفعـال بغتـة ويفضحه ، لكنّه ما إن تحرّك حتى جاءه صوتٌ قريبٌ جعله يتوقّف في مكانه : سلطان النامي صح؟
تصلّب في مكانه، لكنّه سرعـان ما تداركَ نفسه واستدارَ للصوتِ القادِم من الخلف، عقدَ حاجبيهِ وهو ينظُر للشـابِ الذي كـان يرتدِي بنطالًا من الجينز و " تيشيرت " أبيض، استغرب، في البدايـة كان يظنّ أن الصوتَ لطبيبٍ سيخبره عن حالِ سلمان أو يقول له " مات "! لكنّه شكّ قليلًا لهيئته وهو يلفظُ بهدوءٍ مستنكر : نعم! أي خدمة؟
الشاب ابتسم : يعني أنت هو سلطـان! * لاحظَ نظراته المتوجّسة ليلفظَ بتداركٍ وهو يضحك * لا تحاتِي ماني صُحفي.
سلطـان بجمودٍ مستغربٍ ضحكـته دون سببٍ وكلماته : صحفي !
الشاب : أيه يعني لا تحاتي نشبتي لك .. بس يعني كنت أبي أرضي فضولي ... هو من جد الإشاعـة اللي تقول إنّ عمك سلمان هو نفسَه قاتل أبوك؟
ارتفـع حاجبي سلطـان متفاجئًا من مباشرتِه في السؤالِ ببساطةٍ ودون تردّدٍ أقـرب للوقاحـة! لكنّه لم يصمتْ أمامه قليلًا بل بادرهُ بسؤالٍ بارد : أنت وش تظن؟
ردّ الشابُ وهو يُحرّك أحداقه للأعلـى بتفكير : مممم أتوقع إنها كذبـة.
سلطـان يُديره ظهرهُ بهدوءٍ ليتحرّك مبتعدًا وهو يجيبه بإجابةٍ مختصرةٍ باردة : توقّع العكـس.
سمـع جملـةً مصدومـةً من خلفِه بزغَت من فمِ الشابِ الذي كـان عمره يناهزُ بدايـة العشرين : يعنـي ماهي مجرّد إشاعة؟
هذهِ المرّة لم يُجبـه، بل تجاهلهُ وابتعد، هذا ما يُريده ، أن يصدّق النـاس، أن يعلـم الجميعُ بأنّ كل شيءٍ حقيقةً وليس مجرّد إشـاعة ، ربّما يعلـم ذاك الشـابُ أنّ سلمـان هنا في هذا المشفى ، وقد يستنكـر الآن قربه منه، ربّما سيحتقره، سيقول " كيفْ يهتم وهو قاتل أبوه "، نعم .. – كيف -؟!! ليحتقـره ، ليحتقره العالمُ أجمـع .. هو نفسه ، يحتقرُ ذاته .. ويسأل :كيــف؟!!
اتّجـه للاستقبـال ، سأل عن سلمـان وعن غرفته الحاليـة ، استطـاع أن يعلـم أنّه نُقـلَ بعد أن نهـض ، نهض!! .. تنفّس باضطراب، ومن ثمّ ابتعـد متّجهًا للغرفـةِ التي يقطـن فيها الآن بعد أن علِم أيضًا عن غرفة الطبيبِ المشرفِ على حالتِه .. وفي كلّ خطوةٍ كـان يُقنـع نفسه ، أنّه سيكرهه .. عمّا قريب .. سيكرهه!! . .
وصَل للغـرفة ، وضـع كفّه على بابِها، ومن ثمّ فتحـه في اللحظـةِ التي كان فيها صوتُ الطبيبِ نفسه الذي كان في الأمـس يتحدّث : أيـوا .. رجعنا نحلل من جديد ونتأكد .. آسفين صار فيه غلط.
تصلّبت كفّه، تنفّس بقوةٍ وهو يغمـض عينيه .. أي أنّ الضـربة كانت مضرّة! سيحدثُ لهُ شيء! ربّما سيُصابُ بالشلل، سلمـان سيُصبـح مُقعدًا!! وقد تكون الضربـة في رأسه وليس عنقه .. وقد .. وقد تكون أصابت مراكِز في عقله .. ارتفعَت أنفاسه عند تلك الأفكـار، لكنّه زمّ شفتيهِ وهو يُثبّط من عزيمتها، شدّ على أسنانه بغضبٍ مُفاجئ، لا تفسيرَ له – بالنسبةِ له -، ومن ثمّ تحرّكت خطواته ليدخـل هذهِ المرّة بهدوء كـاذب .. كاذِب! كلّ ردّاتِ فعلهِ اليومَ كاذبـة ، لم يعُد يجيد التمثيل حتى على نفسِه.
وجَد الطبيبَ يقفُ عندَ السرير " من جهةِ رأس سلمـان " ولم يكُن هناك أحدٌ معه في الغـرفة، عقدَ حاجبيه باستغراب، ليدرك عقله في سرعةٍ خاطفـة .. أنّه يتحدّث معه! مع سلمـان!!! انفعل صدرُه ، وبجانِب الغضبِ من المجهول غضِب الآن لمجهولٍ آخر ، لا يعلـم ، لا يعلـم ما هو ! لكنّه فقط غضب! لتتحرّك خطواتُه من جديد، ويقتربَ منهما في حينِ لم ينتبـه أحدهما لدخولِه حتى الآن.
أردف الطبيب بهدوء : انزلاق غضروفي .. إن شاء الله شيء سهل يعني لا تحاتي.
سلمـان بصوتٍ خافتٍ ورغـم الفتورِ فيه إلا أنه كان يحتفظُ بصلابته : متأكد؟ رجولي ما أقدر أحركها.
الطبيب : لا سليمة .. بس من خمول جسمك.
كـاد سلمـان أن يقول شيئًا لكنّه صمتَ متفاجئًا وهو يرى سلطـان من خلفِ الطبيب ، تجمّدت نظراتهُ على ملامِحه ، على عينيهِ التي كـان بريقها جامدًا/باشتعال! كـان ينظُر له ، بنظرةٍ باردة، وغاضبـة في ذاتِ اللحظـة ، كيفَ كانت تلك العيون تملك كل تلك التناقضات! لم يكُن نفسهُ يعلم ، وهو ينظُر نحو الطبيب الذي انتبـه إليه، ليهتفَ بتساؤلٍ جامِد : شلون الوضع؟
الطبيب : أووه أهلين زين جيت كنت بتّصل عليك بعد شوي . .
سلطـان دون اهتمام : سمعتك تقول عنده انزلاق !
الطبيب بهدوء : أيه .. بس لا تحاتي الوضع بسيط ما راح نلجأ لجراحة على الأرجح .. الحين بنعطِيه أدوية بيمشي عليها ، ولو حس بآلام زايدة بظهره بنشوف وقتها الوضع لو يحتاج شيء ثاني ، احمدوا ربكم الضربتين رغم قوّتها ما سبّبت له اللي خفناه ، رحمة من ربّ العالمين . .
أومأ سلطـان بصمت، وعينيهِ دون شعورٍ كانت تتّجه بنظراتِه الحامدةِ ذاتها إلى سلمـان الذي كان ينظُر له، رأسه يستريحُ على الوسادة، ورغمَ شحوبِ ملامِحه، إرهاقـها، إلا أن ابتسامةً مُستفزّةً كـانت ترتسمُ بصورةٍ واهنـة على شفتيه.
تجمّدت ملامحه أكثر بغيظ، يستطِيع التحكّم بمزاجـه من أبسطِ تفاصيله! يستطِيع أن يغلّفه بالغضب، بالانفعالاتِ التي تُظهِره أمامه أنّه مجرّدُ طفلٍ لا يستطيع التحكّم بنفسِه وبغضبِه !
لفظَ الطبيبُ بكلماتٍ هادئةٍ يتحمّد له لسلامته، ومن ثمّ تحرك كي يخـرج ، لتنطلـق كلماتٌ مبحوحةٌ من بينِ شفتي سلمانْ ما إن أُغلِق البـاب : مو كأنك مهتم عشان تجي؟
سلطـان بهدوءٍ ظاهريٍّ سحبَ الكُرسيّ القريبَ ومن ثمّ جلسَ بجانِب السرير، لن يُمكّنه منه، من أعصابه، من صوتِه، من ملامِحه ومن كلّ شيء! .. لن يمكّنه من استفزازه . . . لفظَ بنبرةٍ جامـدة : أيه مهتم.
سلمـان بسخريةٍ مبطّنـةٍ بنبرتِه الهادئةِ والمُرهقة : ما يصير! بعدين تندم للحظة الضعف والتهور هذي!
سلطـان بثقة : لحظة الضعف من أمس؟ صدّقني لو ما أبي أجيك كنت أقل شيء ما كررت زيارتي نفس أمس .. كنت على قولتك استوعبْت لحظـة الضعف والتهور هذي!
صمتَ سلمان للحظـة، دون أن يفقدَ بسمته المُستفـزة، ودون أن يُشيح بعيونه الباردة عنه، بِه شيءٌ غريب! وكأنّه اليوم أكثـر تحكّمًا بأعصابه .. أكثر ثباتًا وحتى إن كـان في الداخـل منفعلٍ بدرجةٍ ما إلا أنه ليسَ كالعادة يكادُ أن يشتعل !!
لفظَ سلمان بهدوءٍ بعد رحلـة صمتٍ قصيرة : عندي فضول كافي عشان أسألك وش اختلف عن قبل !
سطـان يكتّف ذراعيه وهو يُعيدُ رأسه للخلفِ ليسندهُ ويستطِيل عنقه المتيبّس من ليلةٍ كـان فيها يعيشُ صراعـه، اعترافاتِه لنفسِه، يتقلّب .. دون أن ينام! . . أغمـض عينيهِ ببرودٍ وهو يهتفُ بصوتٍ لا تعبيرَ فيه : ما اختلفْ شيء .. غير إنّي صرت صادق مع نفسي بس !
سلمـان وابتسامته تتّسع : فيه توضيح أكبر؟
فتحَ سلطـان عينيهِ لينظُر نحوهُ ويعدّل جلسته وهو يلفظُ بكلمةٍ قاطعـةٍ باردة : لا !
رفـع أحدَ حاجبيه بطريقةٍ مستفزّة : ليه جاي؟
سلطان بتشديدٍ بارد : قلت لك مانِي موضح لك.
سلمان : أها أجل تفاصيل صدقك مع نفسك له ارتباط بجيّتك لي .. واهتمامك !!
كيفَ وقـع في فخّه ! حتى وهو أصبـح أكثر سيطرةً على نفسِه إلا أنه استطـاع أن يوقعه في فخّ كلماتِه !!! ... لم ينفعـل ، فقطْ وجّه نظرةً محتقرةً لهُ ومرّرها من رأسِه إلى قدميه ، ليلفظَ بسخريةٍ مُرّة : جاء اليوم اللي تصير فيه الضعيف بيننا !
سلمان يتنهّد بإرهاقٍ وهو يُغمضُ عينيهِ ويوجّه ملامحه للأعلى، ردّ عليه دون مبالاةٍ بمحاولةِ استفزازِه له : تعترف إنّك كنت دايم الأضعف قدامي؟
سلطان يبتسمُ باحتقارٍ لذاتِه قبلًا : قررت أكون صادق مع نفسي خلاص .. أيه للأسف ، بس اليوم يختلف الوضع!
سلمان : يختلف لأنّه وضع إجباري .. ما أذكر من قبل كنت مواجهك وأنت لا حول لك ولا قوّة؟ في كل الأحوال أنا الرابح يا سلطان .. تتحداني باختلاف الأوضاع الصحية الحين؟
سلطان بتحدي : تظل مسألة قوة وضعف .. تحت أي ظرف!
سلمان يفتحُ عينيهِ وينظُر نحوهُ بعينينِ فيها من الصلابةِ ما هو بعيدٌ عن ضعفِ جسدِه الآن : تحت ظرفْ خسارتك دايم . . هذا هو الظرف الوحيد! لأنك الحين أضعف بمراحـل ، تعبي ما يعني ضعفي قدامك !
لم تهتزّ صلابتـه أمام كلمـاتِ سلمان، بل أرخى من ذراعيه المتكتّفين أمام صدره وهو يبتسمُ بسخريةٍ ناظرًا في عُمق عينيهِ لينطق : اختلاف قناعات بس !
سلمان بابتسامةٍ لا تهتزّ : تعلّم تبدّل قناعاتك هذي.
اهتزّت نبرته في آخر كلمـة، أغمـض عينيهِ بقوّةٍ وهو يشدُّ على أسنـانِه وألمٌ شعـر بِه يعبُر في ظهرِه وإلى أقدامه ، تنفّس بهدوءٍ وهو يحاول أن يُرخي جسده، ملامحهُ المتعجّنـة بألم، بينما راقبـه سلطـان بصمت، تتلاشى ابتسامته رغمًا عنه ، ويبقى في هذهِ اللحظـاتِ يتفقّد ملامحه وحسب، في لحظـةِ غيابِ أنظـار سلمان يتفقّد الألـم الذي رآه يسري على وجهه .. مرّر لسانـه على شفتيه، صدقـه مع نفسِه يعني أنّه يعترف الآن ، بأن ضعفـه لا يروقه! لا يحبّ ألمـه ، ولا يحبُّ أن تتغضّن ملامحـه الشبيهةِ بِه من وجَعٍ جسديٍّ جاءهُ غدرًا . .
وقفَ فجأة ، ومن ثمّ زفـر وهو يتحرّك مبتعدًا عنه لافظًا بنبرةٍ هادئـة : بنادي لك الدكتور . .
ضحكَ سلمـان ضحكـةً خافتـةً مُرهقـة رغمَ ألمِه ، وبسخرية : لا من جد مرة طلعت مهتم يعني ما كنت أتوهم !
سلطان بحدةٍ ساخرة : مسكين لو تحاول تستفزّني ..
سلمان دون أن يفقدَ ضحكته التي كانت تضاعفُ ألمه الجسدي : ما أحاول .. أنا بس مستغرب يا الله إنّ هالبرّ يطول . .
تجاهل سلطان كلماته التي كان يعنِي بها " أنا أبوك " وخرج دون أن يردّ عليه، بينما عادَ سلمـان ليُغمـض عينيهِ دون أن يفقدَ بسمته وهو يغرق في تفكيره ، هناك شيءٌ مختلفٌ فيه اليوم ، لم يكُن يتوهّم ذلك !


،


تنـاولَت كوبَ المـاء من يدِ أمّها علّه يُطفئ نيرانها التي تكادُ أن تحيلَ كلّ ما فيها إلى رمادٍ عدا قلبها، تقتلها، دون أن توقفَ نبضَ قلبها الذي يقتادُ على حُبّه لا الدمـاء .. جسدْ، يخلقُ جسدًا لا يملك أطرافًا، هيئةً مادّية، ملامـح ، يخلقُ فيها جسدًا مكونًا من قلبها وحبّه .. فقط!
شرِبَت الماءَ دفعـةً واحدة، ومن ثمّ زفـرت لتغصَّ فجأةً بالهواءِ الذي شعرت بِه يرتدّ، ابتلعَت ريقها، وهي تُدرك أنّ امها التي لم تشرح لها شيئًا سوى أنها قالت لها في الهاتف " ارسلي لي سواقك " تكـادُ تنفجـر الآن تريدُ تفسيرًا . . رفعَت وجهها المُحتقنِ بالحُمرةِ نحوها، حُمرةَ انفعالٍ محضة، ومن ثمّ همسَت باختناقِ نبرتِها المرتعشـةِ تنفِي ما تظنُّ أنه جـالَ في عقلها : ما طلّقني للحين.
لم تُخطئ في ظنّها، إذ عقدَت امّها حاجبها ومن ثمّ تنهّدت بقلّةِ صبرٍ وهي تتحرّك لتجلسَ أخيرًا بجانبها وتلفظَ بيأس : وليه أجل جيتي؟ هو يعني قرّر معك الطـلاق بس مو الحين؟
ابتسمَت غزل بحسرة : لو فكّر بهالطريقة مستحيل يسفهني فجأة وما يجيبني بنفسه لهنا! ..
امّها بشك : أجل جيتي وهو ما يدري؟
أومأت تُجيبها دون الكلمات، حينها أغمضَت امّها عينيها وهي تلفظ بنبرةٍ تبهت : ما وافق؟
غزل : لا ..
زفـرت زفـرةً طويلةً مُشبعـةً بالقلقِ قبل أن تفتحَ عينيها وتنظُر لها نظرةً ذات معنـى : بيجي ..
ارتعشَت كفُّ غزل وهي تُخفضُ نظراتها، تشدُّ بقبضتها على الكوبِ الزجاجيِّ ولو أنّها تملك قوّةً كافيـةً لربّما سحقته ومزقت باطِن يدِها .. تُدرك ذلك، تدرك أنّ ما فعلته سيستفزّه ، تدرك أنه لربّما سيغضب، فهو دون أن تفعل ما فعلت الآن " هربها " غاضب، فكيفَ إن عـاد للمنزلِ ولم يجدْها؟ .. ستُشعـل غضبه أكثر، تُدرك ذلك .. لكن ماذا عساها تفعل غير الهربِ قبل أن تضعفَ أمامه أكثر؟
همسَت بنبرةٍ يائسـة، تشتاقهُ منذ الآن : أدري .. بس ما عندي خيار غير هذا، أواجهه بشكل مباشره.
لم ترفـع نظرتها إليها، بينما كـانت أمّها صامتـة ، لم تردّ عليها وهي تُرجع ظهرها للخلفِ وتُغمـض عينيها تحـاول أن تجدَ حلّا يجعلها تخرجُ من حيـاةِ سلطـان دون خسائر أكثر من قلبها ، دون أن تخسر روحها أيضًا، الرغبـة النصفِ باقيةٍ للحيـاة.
طـال الصمتُ بشكلٍ مقيت، وغزل تغرقُ في أفكـارٍ عديدة، مُعظمها لو أسمعتها لأمّها لظنّت أنها جُنّت .. أفكـارٌ لا تدري من أين جاءتها، لكنّها فجأةً ومن فرطِ الذنب، الندم، الحسـرة ، جالَت بعقلها !
فتحَت أمّها عينيها، ومن ثمّ نهضَت ببؤسٍ وهي تتنهّد بعجـز، لا تملك أن تقدّم شيئًا سوى أن تنتظـر، سوى أن ترى ما سيحدُث بعدَ أن يجيء سلطـان ، وربّما غاضبًا! .. لفظَت بصوتٍ حاولَت جعله يبتسـم : أفطرتي اليوم؟
رفعَت غزل وجهها نحوها، ومن ثمّ هزّت رأسها بالنفي، لتتّسع ابتسامة أمّها البائسةِ أكثر، ومن ثمّ تردف : بخليهم يحضّرون لنا شيء خفيف قبل وقت الغداء.


،


ترتدِي عباءتها بهدوءٍ ظاهري، تلفّ طرحتها بآليّةٍ في حينِ يأتِيها صوتُه من خلفِها يتحدّث في هاتِفه بهدوء، حمَلت حقيبتها في اللحظـة التي أنهـى اتّصالـه ونظـر لها مبتسمًا بهدوء باتَ يستفزّها : مشينا؟!
ديما تصدُّ عنه وهي تحاول أن تكون لا مباليـة ، حسنًا ، لقد بدأت تستوعبـه، لذا لن تقـع في فخّ استفزازاتِه من جديد .. أومأت ببرودٍ ليسيرَ حتى وقفَ بجانبها، مدّ يده كي يمسكَ كفّها بتملّك ، ومن ثمّ نظـر لعينيها التي كانت تنظُر لكفّه المتشابكـة مع كفّه ببرودٍ ظاهريّ ، وبخفوتٍ يستفزّها : أمسك كفّك عشان ما تظل روحك بضياع.
رفعَت عينيها مباشـرةً إليه وقد انفّضّت البرودة فيها واشتعلَت باستسلامٍ أمام النرجسيّة التي يمارسها، زمّت شفتيها بحنق، لن يستفزّها، لن يستفزّها ، حـاولت أن تتحلّى ببرودتها ذاتها وهي تلفظُ بنبرةٍ أكثـر نرجسيّة : وإذا كنت الضياع وأنا الملتقـى؟
سيفْ يبتسـم بتسليةٍ وهو يخفضُ وجههُ إليها ليهمـس بخفوتٍ وعشق : أضمّك عشان تضيعين فيني وألاقي نفسي فيك.
صدّت بوجهٍ يحمرُّ غيظًا : مُراهق!
ضحكَ بعبث : أجمل مُراهقـة والله!
تأففت بضجر ومن ثمّ تحرّكت وهي تسحبُ كفّها من يدِه وتلفظ : يلا نرجع البيت ، تراني طفشت من هالمكان.
سيف بغرور : طفشتي وإلا عشقتيه؟
حرّكت كفها دون مبالاة : مو قلت لك مراهق؟ بعطيك على قد عقلك وأقول عشقته.
ضحكَ رغمًا عنه وهو يتحرّك ويمدُّ يدهُ ليُسكِن يدها من جديدٍ في كفّه ، وبرقّة : عن نفسي عشقته.


،


دخـل للمنـزل ، مُتخبّطًا ، يتقفّى آثـارِ الانتهـاء، لقدْ انتهـى ، كفّه هذِه تلطّخت بدمـاءِ بشريّ، تلطّخت بجريمةِ قتـل ، لقد انتهى هذهِ المرّة حرفيًا، كلّ ما حدثُ لهُ الآن يُثبت أنّه بالفعـل صار مجرم، تخبُّط القتل الأول، الرجفـة، الضيـاع والتشوّش الذي يعيثُ في عقله جـفاف! جفافًا حدّ أن دماغه تجعّد وتكوّم على مركز الإدراك.
ترنّحَ وهو يمشِي، لا يدري كيفَ جاء، بأيّ جنون؟ بأيّ عقلٍ ذهب؟ بأيّ إدراكٍ زالْ؟ كيفَ جاء بحالتِه هذِه! الدماء التي على يدِه غسلها من أقربِ صنبورٍ كـان هناك، كيفَ تحرّك وأدرك عقله أنه يجب عليه غسله؟ لا يدري! فقط غسلـه، ومن ثمّ ابتعَد ، ابتعَد تاركًا تلك الجثّة في موضعها ... دون أن يدري ما الذي يجب عليه فعله.
توقّف فجأةً قريبًا من البـاب، نظـر للأمـام ببعثـرة، ما الذي أفعله هنا؟ كيف ، كفَ جئت؟ كيفَ دخلت بهذِه الجرأة، بل ، بل بهذا الضيـاع؟ . . ماذا لو رأى أحدٌ الآن شكله؟ الدمـاءَ المُبعثرةِ بجفافِها على ملابسه، كيفَ تملّكت منه الصدمة حتى ضاع بهذا الشكل؟
عضّ شفته وهو ينظرُ من حولِه بتخبّط ، تراجـع للخلف، نعم الصحيح أن يتراجـع ويذهب وأن لا يعود هنا ... لا لحظة كيفَ لا يعود؟ الصحيحُ أن يذهبَ لبضعِ ساعاتٍ ويتصرّف بأمر هيأته، نعم نعم .. لكن تلك الجثة؟ هل يجبُ أن يبلّغ عنها ، ومن ثمّ يسلّم نفسه؟ ... لا لا كيفَ ذلك؟ لن يسلّم نفسه ، وأيضًا لن يبقى هكذا .. يجبُ أن يسلّم نفسه ...
" آآآآخخ " ، خرجَت من بينِ شفتيه خافتـةً وهو يواجـه بوجهه البـابَ كي يخرج .. ركّز ، ركّز يا سعد ركّز! يجبُ أن تفكّر جيدًا ، استعِد عقلك كي تفكّر جيدًا!! .. شدّ على أسنانِه بإصرارٍ وهو يفتحُ الباب، سيمضي بعض الوقتِ خارجًا كي يستعيدَ وعيه كما يجِب ومن ثمّ سيدرسُ ما فعل، وما حدث، وما سيحدث! سيدرسُ ذنبه من كلّ جوانِبه، فما حدَث قد حدَث ... هو الذي سمـح للشيطانِ أن يتغلّب عليه، لا ينكر ذلك، أنّه خطّط على أذيّته قبل أن يخرجا، وإلا ما كـان أخذ معه تلك السّكين ، خطّط لذلك، ولا يدري كيفَ فعلها فعلًا! كيفَ تحكّم بهِ الغضبُ وقتها .. ماذا يُفيد الندم؟
كـادَ يخرج، لكنّ شهقـةً جاءت من خلفِه جعلت جسدهُ يتصلّب وعينيه تتّسعان بذعر، كـانت لجينْ التي صُدمت في بادئ الأمـر لرؤيته، ففي العادة لا تجدُه في هذا الوقت، تداركَت نفسها بعدَ شهقتها تلك حين انتبهَت لهُ يكـاد أن يخرج وكأنه .. يهرب! أسرعت بخطواتها إليه وهي تلفظ : لحظة لحظة .. والله ما تروح هيييييه يا أخ يا وسيم !
أمسكَت بهِ من عضدِه بسرعةٍ قبل أن يخرج ومن ثمّ سحبته وهي تنفخُ فمها بحنق : تعال وش فيه هربان كذا؟ سعد !!!
عقدَت حاجبيها باستنكارٍ وهي تشعُر بهِ يحاولُ أن يسحبَ نفسه منها بضعف، يكادُ أن ينهار، لذا كـان ضعيفًا بشكلٍ أصابها بالذعـر ، شدّت على عضدِه دون شعور، وبدأت تمرّر أحداقها على جسدِه تلقائيًا بخشية وكأنّها تتفقّد إن كان بخيرٍ أم لا ! لم ترى ما يجلبُ الرعب، ربّما لو كـان يقابلها بجسدِه لاختلفَت رؤيتها .. ابتلعَت ريقها بربكة، ومن ثمّ ابتسمَت وهي تلفظُ باهتزاز : خوّفتني حسبي الله على ابليسك .. شفيك مو من عوايدك تجي بهالوقت؟ بتتغدى معنا؟
سألته ذاك السؤال باضطراب، وكأنها كـانت تشعر، تشعُر أنّ لصمتِه ذا سببًا ، سألتهُ بصوتٍ مرتبك، وقلبها دون سبب! كـان ينبـض بقوّة .. بقوّةٍ تعنِي أن مصيبةً ستقوم!
كان يتنفّس بسرعة، ينظُر للأسفـل، أمام البـاب المفتوح، بينما كـانت لجين تُمسك بعضدِه وتدسُّ جسدها خلف البـاب، يتنفّس بسرعة ، ومرارةٌ تتضاعف، تتضاعف، حلقهُ شعـر بكتلةٍ فيه تتضخّم ، يا الله ما الذي فعلته؟ ما الذي فعلته؟ كيفَ أضعتهم معِي؟ لم أكُن أنا وحدي المعنيّ بالأمر، فكيفُ تصرّفتُ بهذا التهوّر؟ كيف؟ كيفَ فعلت ذلك ولم أفكّر في تلك اللحظـة، قبل أن أ .. أقتله! لم أفكـر بهم !!!
أغمـض عينيه بقوّة، رغمًا عنه ، رغمًا عن الصمت، رغمًا عن الكبتِ أمامها .. سقطَت دمعة! لحيـاتِه التي ضاعت، لحياتِهم التي ضاعت قبلـه ، للذنب ، لأنه مجرم، لكـل ما حدَث ، لكلّ الجنون .. سقطَت دمعة! بعد أن ذابَت انفعالاتهُ في عينيه، ومن ثمّ شدّ على شفتِه السُفلى بأسنانِه بقهر، في اللحظــةِ ذاتها التي حملَت فيها لجينْ قوّةً غريبةً جعلتها تسحبُه بقوّةٍ وهي تلفظُ بانفعالٍ وغضبٍ مفاجِئ : ســــعـــــــــد !!!!
حركتها تلك كانت كافيـة، ليتحرّك جسدهُ قليلًا، وتظهرَ الحمرةَ التي كـانت على ملابِسه من الأمـام .. شهقَت بقوّةٍ وشعرَت بجسدِها يهوِي في الفراغِ وهي تتراجعُ للخلفِ بذعر، لكنّها ودون شعورٍ اندفعَت فجأةً لتقتربَ منه ولا تبالِي بأنها تقفُ أمام البـاب، أمسكَت كتفهُ بكفٍ ترتعدُ ومن ثمّ أدارته بقوّةٍ ليُصبـح مقابلًا لها تمامًا، بعينيهِ التي كانت منطفئة، يُغمضها، بملامِحه التي كانت معتمـة، وأسنانه لازالت تطِئ على شفتِه! .. ابتلعَت ريقها بصعوبـة، ومن ثمّ بدأت تمرّر كفيها على كتفيه، لا تدري كيفَ خرج صوتها، كيفَ استطاعَت أن تخلقَ الكلمات، كيفَ استطاعت أن تتفقّده بكفينِ مذعورتين، وتهمس : وش؟! .. وش صــااار!!!
فتـح سعدْ عينيهِ ببطء، مدّ يدهُ بتلقائيّةٍ إلى البـابٍ ومن ثمّ باستسلام .. أغلقه! .. لم يرد مباشرة، بينما أردفَت لجين بنبرةٍ مختنقةٍ شارفَت على البُكـاء : أنت بخير صح؟ بخير يا سعد صح؟
ابتسَم سعد بأسـى، ودون شعور، كـان رأسه يتحرّك بالنفي، كـان يجيبها ، بأنّه ليسَ بخير، ليسَ بخيرٍ أبدًا .. كيفَ قد يكون كذلك بعد كلّ ما حدث؟ كيف!!
شهقَت من جديد، ودموعها سقطّت فجأةً وهي تلمحُ الرطوبـة على خدّه الأيسـر من دمعةٍ وحيدة، أخفضَت نظراتها على جسدِه تريد أن تعرف من أين جاءَ الدم! من أين جـاء : وين؟ وين مجروح؟ شلون وأيش صار؟!!
سعدْ بصوتٍ ميّتٍ يُمسكُ كفيها ليبعدها عنه : مانِي مجروح!
لجين ترفـع وجهها الملطّخ بدمعِها إلى وجههِ وهي تلفظُ بلهفةٍ قلقة : طيب من وين جاء هالدم؟!
أغمـض عينيهِ من جديد، في اللحظـة التي وصلَ فيها صوتُ أمّهما المُرهـق من الداخل ببحّةٍ مهترئِة : لجين وينك؟
حرّكت لجين أحداقها نحو الصوتِ بضيـاع، بينما انخفضَ سعدْ بوجههِ ومالَ إلى جبينها وهو يفتحُ عينيه، قبّلها بحنان، ومن ثمّ همـس بصوتٍ لا يدري من أي منطقٍ جـاء، لا يدري كيفَ يصدّق كلماتِه ، كيفَ قد تكون واقعًا؟! لكن ماذا عساه؟ ماذا عساه غير التشوّشِ والاستسلام أخيرًا! : انتبهي لها .. آسف .. بس انتبهي لها ولأخوانك ..
اتّسعت عينـاها بصدمـة، تراجَعت وكأنه صفعها بتلك الكلمـاتِ التي تعنِي الكثير .. نظـر بعينيهِ لعينيها المُهتزّتين، زفـر بأسى، بينما كـانت هيَ تنظُر لهُ بصدمة، وشفتيها تتحرّكـان ، دون صوتْ، لا تملك نبـرة، لا تملكُ موجاتِ شرحٍ كافٍ عمّا تريدُ قوله، شفتيها تتحرّكان، تسألانِه بصوتٍ نُحـِر ، ليفهم جيدًا ما كـان السؤال ، ويكون ردّه السـريع .. بالصد!
كان سؤالها " وش صار؟ " .. ما الذي حدث؟ لمَ يقول لها هذِه الكلمات؟ لمَ يُرعبها؟ ما معنـى ما يقول؟ ما معنـى ما يقول غيرَ أنّه سيغيب؟ أين سيغيب؟! وكيفَ يفعل ذلك؟!!
تنفّست بسرعة، ومن ثمّ بدأت أحداقها تعودُ لتتفقّد ملابسـه، لا تريد أن تستوعِب بأنّه تورّط في عراكٍ ربّما، بكلّ الاحتمالات، لا تريد أن تفكّر في خياراتٍ عديدة، لا تريد أن تصـل لإجابةٍ ربّما تُرعبها! .. لكنّها رغمًا عنها وجدَت نفسها تعودُ لتسأل ، وصوتُ أمّها المُستنكـر غيابها يعودُ للمناداة : وش صار؟ .. سعد وش صار شفيك منت على بعضك !! .. من وين هالدم!!
عـادَ ينظُر لها بيأس، ومن ثمّ تنهّد بحسرة، وهو ينظُر لملامِحها القلقـة ، في النهايةِ سيعلمون ، سيعلمون .. يدرك أنّه منذ قتله وبعد الاستفاقةِ قد دخـل في بدايةِ الصراع، يدرك أنّه قد بدأ في هذهِ المرحلـة، ومن ثمّ ستتوالى عليه مراحـل ما بعدَ الجريمةِ هذِه ، ونظرًا لشخصيته التي لم تتخيّل يومًا أن تمارسَ شيئًا كهذا، سيتحدّث! سيسلّم نفسَه .. هذا ما سيصير، بالرغم من كونِه في هذهِ اللحظـاتِ لم يكُن يفكّر بذلك، ولم يصِل بعدُ لتلك النقطـة.
لم يشعُر بنفسِه ، وهو يقولها لها، لم يشعُر بنفسِه ، وهو ينطُق لها جريمتـه ، ويضعها في وجْهِ مدفـع الإدراك : آسف يا عمري ... ضيّعتكم ، ضيّعتكم معِي . . . * ابتلعَ ريقه، ليردفَ بصوتٍ خافتٍ مختنق * تحكّم فيني الغضب ، وبلحظـة منه ذ .. ذبحت ....
تنفّس بانفعـال، ومن ثمّ ودون شعورٍ بتحرّكاته، بكلمـاتِه .. كـان يضمّها إلى صدرِه بحنان، وكأنه بذلك يودّعها ! : ذبحت صديق قديم لي يا لجين .. بلحظة غضب .. قتلته!!!
تسللت لمسامعهِ شهقتها المصدومة، وكأنها لم تستوعبها أوّل ما نطقها " ذبحت " ، لم تستوعبها إلا الآن وبعدَ تكراره !! .. تصلّب جسدها، وعينيها المتّسعتين تنظُران لما خلفَ كتِفه بفـراغ، لا تستوعبُ ما تسمـع ، ما معنى أن يكون " قتل "؟ ما معنى ذلك؟ هل دائمًا يعنِي أنّه سينتهي؟ أنه ضـاع! أنّه .. أنّه سيموت !!! .. ما معنـى أن يكُون قتَل؟ ما معنـى أن يكون أخاها قتـل شخصًا في لحظةِ غضب !!! ... بهتت ملامحها، بل شحبَت حدّ أن الدمـاءَ غادرَت وجهها وباتت مصفرّةً لا حيـاةَ فيها، عينيها جفّتا ، فقدَت أجفانها – رفرفتها – وبقيَت مرتفعـةً عن أحداقها الموبوءةِ بجفـافٍ آلمها ، حتى أغمضَت أعيُنها دون شعور .. وبكَت فجأةً دون صوت !!!
عقلها المصدوم ، والغير مصدّق ، والذي يظنُّ أنها سمعَت خطأً، أو ربما حلمًا، أو ربما وهمًا .. كـان يدرك، تحتَ أنقاضِ مشاعرها المتخبّطة، أن القتـل في النهاية ، والذي لا يليقُ بسعد، سيُنهِي حياته كما أنهى هو من قبلـه حياةَ بشري! .. سعد لا يقتـل ، نعم ، لا يقتـل أحدًا .. سعدْ لا يقتـل ، نعم! هناك خطأ ، هناك وهمٌ ظلّلته ظلال الحقيقة، هنـاك شيءٌ خاطِئ .. فسَعد لا يقتل !!!
همسَت بأفكارها تلك بنبرةٍ مختنقـةٍ مهتزّةٍ وجسدها الذي كان متصلبًا لم يرتعـش حتى الآن من هولِ ما سمعَت : ما تسويها .. أنت أنقى من إنّك تسويها.
ابتسـم سعد وهو يشدُّ بأجفانِه على عينيه المُلتهبـة بالحمرة ، يا الله لقد خسِر ، لقد خسِر من دنيـاه ومن آخرته الكثر .. لقد خسِر ! .. لفظَ بصوتٍ باهتٍ لا تعبيرَ فيه : غلطتِي بتقدير مين أكون ... أنا قاتل! قاتل !!
بدأ جسدها بالانتفـاض فجأة، ابتدأ من كفيها ، ومن ثمّ سـرى ، إلى أن وصـل لكامـل جسدها، لكامـل خلاياها .. حتى لسانها الذي لم يستطِع الصمود بثباتٍ ليردّ على كلماتِه المؤكدة!
سعد بصوتٍ منهزم : أستاهل اللي بيصير .. أستاهل .. أنا شلون سويتها؟ شلون قتلت نفس شلون؟
كـانت تهزُّ رأسها بالنفيِ بصمت، دموعها تتساقـط بهدوءٍ صاخِب، ملامحها فاتـرة، لا تصدّق .. لم تصدّق بعد ما قـال ، لم تصدّق!!
في تلك اللحظـةِ خـرج صغيرٌ في التاسِعة من عمرهِ وهو يناديها بصوتٍ ملول ، امّها تناديها منذُ دقائق وهي لم ترد، رآهما في تلك اللحظـةِ ليعقدَ حاجبيه باستغرابٍ بادئ الأمـر ، وقبـل أن يتّجـه إليهما كـان صوتُ البـاب يعلُو بطرقٍ من الخارج . .


يُتبــع ..


كَيــدْ 31-07-16 12:50 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


قبل الظهيرةِ بقليل ، أغلقَت الهاتفَ بعدَ أن أنهَت مكالمتها مع هدِيل، صعدَت نحو الأعلـى ببعضٍ من التردد، منذُ الصبـاح وهي تتحاشاه، تتهرّب منه بصورةٍ واضحـةٍ بعد أن أفصـح أنّه يريدها ، يريدها عاجلًا ام آجلًا! ولا تعلـم على الوجـه الصحيح ما حدوده في " آجلًا "!
تتقدّم خطوةً وتتراجـع خطوتين، يجبُ أن تذهبَ إليه ، يجبُ أن تحادثـه ، فهو يبدو حتى الآن لا يعلـم وتخشى أن تقول له ويرفـض، لذا قد تحتاج لأساليب تطولُ في الإقناع! زفـرت وهي تُتمتم لنفسِها بأن تمضي ، سحقًا .. سحقًا !! كانت تقول بأنها ستكون قويّةً كفايـةً بعد أن تكون قربه ، أين ذهبَت كلّ تلك القوة؟
عضّت شفتها بحنق، ومن ثمّ نفخَت صدرها بأكسجينٍ زاحمَ هواءها الموبوءَ بالربكـة ، تحرّكت وهي ترسـم على وجهها الإصرار ، وحين وقفَت أمام الغـرفة زفـرت وجدّدت هواءها من جديدٍ لتمدّ يدها للبـاب وتفتحـه ، كـان أدهم في تلك اللحظـة أمامَ حاسوبه، الغـرفة شبه مظلمةٍ عدا من نورٍ قليلٍ من أبجورةٍ بجوارِه .. عقدَت حاجبيها باستغرابٍ وهي تتحرّك نحوه، لازالت متردّدةً بعض الشيء، لكنّها تجرأت واقتربَت منه ، بينما كـان هو قد أدار رأسه إليها بعدَ أن شعر بها عن طريقِ الضوء الزائدِ عن حاجته والذي تسلّل من البـاب.
أمالت فمها باستغراب، وبتساؤلٍ هادئٍ لم تستطِع أن تمنع فضولها : تحضّر جِن؟
ابتسمَ أدهم وهو يرفعُ حاجبيه باستفزاز : ترانِي بكبري جن عاشق !
إلين تُميل فمها دون رضا بوصفِه ذاك : مارد وأنت الصادق.
أدهم يهزُّ رأسه موافقًا : صح.
إلين باستفزاز : أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق.
أدهم : ومن فتنتك.
أطبقَت فمها وصمتت بتشتّتٍ ليبتسـم ، كـان يتوقّع أن تبقى تتهرّب منه لأجلٍ غيرِ معلوم، لذا استغربَ مجيئها إليه! هتفَ بهدوءٍ مستفسر : كنتِ تبين شيء؟
إلين ووجهها يحمرُّ من الانفعـال ، لمَ يخلق فيها هذا الاضطرابَ ببساطـة؟ كيفَ يتجرأ أن يجعلها مرتبكـةً منذُ الصبـاح، تغفو على أسنانِ المجهول! تتوه وتتشتّت لأنه فقط أفصـح عن نواياه بما يحقّ له! . . عضّت شفتها بحنق، هذهِ هي المشكلة ، ما يحقُّ له!!
لفظَت بوجومٍ ونبرةٍ مختنقـةٍ من غيظِها : معزومين عالغداء عند اهلي اليوم .. شكيت إنّك ما تدري فقلت انبهك من بدري.
أدهـم يوجّه عينيه للحاسوبِ وهو يومئ دون مبالاة : كنت أدري من أمس.
فغـرت فمها بصدمة ، ومن ثمّ أطبقته وهي تلفظُ بريبة : تدري من أمس؟
أدهم وأصابعه تتنقّل بين مفاتيح الحاسوب : أيه .. علّمني ياسر.
كشّرت بامتعاض : وما كنت تبي تقولي يعني؟
نظر لها باستنكـار : وأنا وش يدريني إن الأخبار ما وصلتك ماهو أنتِ أربعة وعشرين ساعة متواصلة معهم !
إلين بحنق : عاد بعض السوالف تكون عند الرجاجيل قبل الحريم .. كنت قدّرت هالشيء !
أدهم وقد بدأ يضجر : ما كنت أدري بهالنقطـة .. شكرًا نبهتيني ..
إلين بقهر : أنت مريض نفسي أكيد! أصلًا مين يجلس بهالظلام غير المرضى النفسيين ..
أدهم ببرود : هذي طقوسي .. مثل ما أنتِ تحبين تذاكرين فوق السرير ... إلا أخبار امتحاناتك؟
إلين فجأةً ارتبكَت وخفتَ صوتها باهتمامٍ قلِق : خلاص الأسبوع الجاي.
أدهم باستغرابٍ أدارَ جسدهُ عن طاولـةِ المكتب ونظر إليها ليلفظَ وكأنه استوعبَ نقطةً ما : هو مافيه قبل الامتحانات محاضرات؟ ما أشوفك تداومين !
إلين : إلا بس المادتين اللي أدرسهم خلصناها برمضان فما فيه داعِي نداوم.
أدهم : همممم ..
إلين لم تستطِع ان تمنـع فضولها : وش تسوي؟!
أدهم ينظُر للحاسوب وهو يبتسـم لهذهِ الأحاديثُ العابـرة ، إلا أنها في نفسِه لا تكون كذلك ، لا تكون لأنها تنطقها من فمِها، بصوتِها الناقوسيّ الذي ينسـابُ كخريرِ نهـرٍ عذب . . لفظَ بابتسامةٍ رقيقة : بعضَ الأشغـال المعلقة .. خلاص انتهت إجازتي وبرجع أداوم لشغلي .. عاد يا كثر إجازاتِي أتوقّع بنفصل قريب.
إلين بيأس : وتقولها بكل فخر؟
أدهم ببساطة : أبد .. أساسًا بستغنِي عنّه قريب .. ببدأ بمشروع قريب لي أنا وواحد من ربعِي إذا ربّي سهّل.
إلين بفضولٍ بدأت تسأله عن مشروعهِ هذا ، لتغـرق الغرفـة الشبـه مُظلمـةٍ بأضواءِ الأحاديث الهادئـة، الدافئـة، والتي كـان نورها ينبعثُ من أطرافِ شُعلـةِ شغفٍ وفضـول ، يبتسـم ، هذهِ الشفـاه لا تبتسمُ بهذهِ الشعلـةِ إلا حين يكونُ رفيقها بتلاتٍ ناعمـة ، ذاتَ شموخٍ وكبرياء مثل الزهـرةِ التي أمامه.


،


عـادَ من بؤرةِ اللا استواء! كـان ينظُر قبـل لحظـاتٍ إلى ملامِح سلمـان المسترخيةِ في نومِه بعدَ أن هُدِّئ ألمـهُ الجسدي، الاعترافُ مثلمـا جعله يحتقر نفسه جعله أشدّ صلابـةٍ أمـامه، ربّما ضعفُه السابق يعزوه إلى تشوّشِه ! لم يكُن يعترفُ بانّه لا يكرهه، وكـان يخالفهُ قلبـه ، فلا يجدُ لنفسِه إثباتًا غير أن يغضبَ منه ويبصقَ عليه بكلماتٍ حادةٍ يُثبت فيها أنّه يكرهه! أما الآن فها هو يدرك قبل كلّ شيءٍ ما في داخلـه، يعترفُ بِه، فلا يعيشُ مصارعًا نفسه قبل أن يُصارِع سلمان.
خرجَ من المشفى والساعـة تقتربُ من الظهيرة، صلّى في المسجِد، ومن ثمّ بدأ يتنقّل من مكانٍ لآخر، يحاول أن يُضيع ساعـة الوقتِ ويُسرّع منها ، يتمنّى لو يتمكّن قبل كلّ شيءٍ أن يمضِي بالوقتِ حُقبًا حتى يتجاوزَ أزمانًا وينتهِي من كل هذا، . .
بقيَ يتجاوزُ مسافاتٍ وكيلو متراتٍ حتى صلّى العصـر أيضًا، ومن ثمّ قرّر أن يعودَ للمنـزل، استطـاع مزاجـه أن يستقرّ الآن، لذا قرّر أن يعود، وإن تحدّثت غزل عن ذاك الموضوعِ من جديد – موضوع الطلاق – سيكون أكثر هدوءً ورويّةً معها ولن ينفعـل.
وصَل للمنـزل بعد وقتٍ قصير، دخـل وهو يمرّر يدهُ على رأسه والهواءُ الذي في صدرِه يزفُرهُ متثاقلًا حارًا يُلهبُ شفتيه ويُذوّبهما ، أزاحَ شماغـه عن رأسه ومن ثمّ تحرّك مباشـرةً نحو عتبـات الدَرج، اتّجه لغرفتهما وليسَ للغرفـة التي قضـى فيها ليلته الطويلة والتي لم يستطِع فيها أن ينام! .. فتـح البـاب ودخـل وهو يمرّر أحداقه على زواياها ، لم تكُن فيها ! . . تنهّد ، ومن ثمّ اتّجـه للخـزانةِ حتى يبدّل ملابسـه، ربّما من الأفضـل أن ينـام ولو لساعتين ويترك غزل الآن .. لتوّه أدرك أنّ رأسه يكادُ أن ينفجـر من الصداع !
أخرج ملابسَه البيتية، ومن ثمّ اتّجـه للحمـام ، لكنّه ما إن فتح الباب حتى تصاعدَ في أذنِه صوتُ طرقةٍ على البـاب، عقدَ حاجبيه وتراجـع وهو يرمـى ملابسـه على طرفِ السرير ، لمَ قد تطرق الباب ولا تدخل مباشرة؟ .. اتّجه للبـاب ليفتحه، وكما توقّع لم تكُن غـزل بل كانت سالِي! أمـال فمه باستغراب، بينما ارتبكَت سالِي وهي التي كانت تريدُ أن تكلّمه منذُ رأته يدخُل لكنّها كـانت متردّدةً قبل الآن ! . . سألها بصوتٍ هادئ : وش فيه؟
سالي بربكةٍ تنظُر للأسفـل : ماما غزل يقول أعلم حق إنت ...
صمتَت ولم تُكمـل ، حينها تصلّبت ملامحـه قليلًا ، لم يكُن مخطئًا بغرابـة موقفهما الآن ! نفسُ الوضـع الذي أخبرته فيه قبل أشهرٍ عن تخطيطِ غزل من خلفِه! حينَ كانت الحدودُ وقتها كبيرة، حين كـان بشكلٍ صحيحٍ " في خضمِ اتفاقهما " وكان لها الحيّز الكافي في غرفـةٍ مستقلّة .. لذا استغربَ وقوفها الآن أمامه وكأن غزل واقعـةٌ في " تخطيطٍ ما "!!!
هتفَ بنبرةٍ حادة : دامها قالت لك تعلميني أنتِ فهي طلعت؟!!!
هزّت سالِي رأسها بارتبـاك، حينها شدّ على أسنـانه بصبرٍ وأغمـض عينيه، ما بالها مع تصرّفاتها اللا متعقلة هذهِ الأيـام؟!! .. أشـار برأسه أن تذهبَ وهو يفتحُ عينيه، ومن ثمّ تراجـع للغرفـة ، لا يحتاج تفسيراتٍ عديدة ليفهم أين ذهبَت، بالتأكيد قرّرت أن تتمرّد بما أنه لم يوافق على الطلاقِ ورحلَت بنفسِها إلى أمها ، ما الذي حدثَ لتتّجه لهذِه الخطوة بهذا الشكل المُندفـع؟! .. اتّجـه للطـاولةِ التي رمـى عليها مفتاحَ سيارته لحظـة دخوله، حمله ومن ثمّ خرج مباشرة وهدفهُ كـان غـــزل !!


،


في جهةٍ أخـرى ، ابتسَمت بحبٍّ وهي ترفـع " قوزال " إليها من على الأرض، كانت تتمرّغ برأسها على ساقيها العاريين أسفـل بنطالها القصير، تتمرّغ بدلال، وتشعُر فيها أنّها تشتمُّ من عطرِه الكثير ، تمنّت لو أنها استطاعت أخذَ كلّ التفاصيلِ التي جاءت منه، التفاصيل التي لا تراها سخيفةً أبدًا، لا تبهت، لا يتلاشى حضورها في قلبها ، الملابس التي اشتراها لها، الحقائب، والكثير من الذي لا تُجيدُ الأرقـام حصرها !
جنونٌ أن تبدأ بكلّ تلك الانتفاضاتِ من الشوق! جنون !!.. هذهِ الانتفاضات تعنِي أنّني وصلتُ لأقصى مراحِل الشوق، كيفَ ذلك وأنا لم أبتعد سوى بِضع ساعاتٍ وحسب؟ لم يمرّ يومٌ وأنا أشتاقك فكيفَ وصل بي الشوقُ لأوجِه؟! .. في تفاصيل صغيرةٍ أذكرك، في " قطّةٍ " أفضيتها إليّ يومًا، في ابتسامةٍ تأتِي شفاهي وأدرك أنها جاءت منك بعد أن خلقتها، في نظرةٍ يائسةٍ للحيـاة ، لأنّ لا حيـاة تكفلُ لي فرحـةً من بعدِك.
شعرَت بأمّها تجلُس بجوارها، ابتسمَت ببهوتٍ وهي توجّه أنظارها إليها، ابتسامتها الباهتة تعنِي أنها لم تعتدْ بعد، لم تعتدْ أن تكون امّها قربها ، لا تستطِيع أن تصدّق حتى هذهِ اللحظـة ذلك! لكنّها في هذهِ اللحظـاتِ تحيا ما يكفِي لعدمِ التفكير بهذا الآن.
ابتسمَت أمّها وهي تمدُّ يدها لتمسـح على ظهرِ القطّةِ التي تصلّب جسدها وكأنها لا تريدها ، لفظَت بخفوتٍ حنون : ليه اخترتِي لها هالاسم بالضبط؟
غزل تهزُّ كتفيها وهي توجّه انظارها للقطـة ، وبهدوءٍ تائه : ما أدري .. يمكن لأنها جميلة بزيادة !!!
امها بضحكة : هذا سبب؟
غزل بابتسامة : بس جاء ببالي وقتها.
امها بشرود، لم يُعجبها أنها تحتفظُ بهذهِ القطة وهي ذكرى من سلطـان، لكنّها لم تستطِع أن تعترض على ما تريد ابنتها : ممممم.
غزل ترفـع وجهها إليه، ملامحها غطّاها القليلُ من التردّد وهي تلفظُ بتساؤلٍ مرتبكٍ وتُشتّت عينيها : ممكن أسأل عن شيء؟
ابتسمَت امّها بحنانٍ وشغفٍ والأحاديثُ باتت تعشقها إن كانت ستطُول بينهما : اسألي حبيبتي ..
غزل بتردد : ليه طلقك؟
فترتْ ملامـح امها فجأة وأثلـج صوتُها في حنجرتها فانقطـع اتّصـال الأصوات، شعرَت غزل بجمودها بجانِبها ، حينها رفعَت رأسها بخوفٍ وهي تلفظُ بتلعثمٍ مذعور وتتداركُ ما قالت : آآ .. آسفة خلاص ... اعتبريني ، اعتبريني ما سألت . .
مرّرت أمها عينيها على ملامِح غزل، وابتسمَت بأسى ، ليسَ من السؤال بحجمِ ما كـان بسببِ ردّةِ فعلها الآن لأنها صمتت في لحظـةِ بهوتٍ من سؤالٍ باغتها .. ابتلعَت ريقها بصعوبـة، ومن ثمّ رفعَت كفّها لتضعها على كتِفها وهي تلفظُ بخفوت : ما عصّبت منك .. بس فاجئني السؤال ...
تراجعَت للخلفِ وهي تمرّر لسانها على شفتيْها، وبهدوءٍ ونبرةِ امرأةٍ قويّةٍ لم يكسِرها خذلانُ رجـل : ما تهمنـي أسبابه اللي ما ذكرها أصلًا !! فجأة وصلتني أوراق الطلاق ، وتدرين وش كان شعورِي وقتها؟ الراحة .. بس الراحة!!
قوّست غزل شفتيها للأسفـل وعينيها تُظلمانِ بحزنٍ مرير، لو أنّها مثل أمّها ، تتجاوزُ سلطـان ولا تُجـرح بنصل فراقه؟ لو أنها مثلها .. قد ، قد ترتاح؟! .. أفرَجت شفتيها بعذابٍ وهي تتنفّس من بينهما بتعرقـل، بتحشرجٍ يهوى اختناقها، يهوى أن تصـل لأوجِ الاختنـاق، ومن ثمّ يمدّها بأكسجينٍ في غضونِ ثانيتين، لينقطـع من جديد!! . . كيفَ تعقدُ مقارناتٍ بين سلطـان ورجلٌ كوالدها؟ كيفَ تُسيء لهُ بهذهِ الطريقة ولا وجـه تشابـه بينهما! لن تستطِيع، لن تستطِيع أبدًا أن تتجاوزه، هذهِ الدائرةُ التي تطوفُ في خطوطِها لذيذة! لذيذٌ أن تحبّه حتى الممات ، لذيذٌ هذا العذاب .. لا تريد أبدًا أن يزول ولا تريد أن تتجاوزه إطلاقًا !!
أردفت أمها وهي تبتسمُ بأمـل، تمسـح على خدِّ غزل برقّةٍ وتهمسُ لها بحنان : البيت هذا كان مسجّله باسمي من فترة، شكله كان مخطّط ويمكن أشفق على سنيني معه للحظة !! بس للنهايـة ، أنا ما أبي أعيش على ذكرى منه ، عشان كذا أخطط أبيعه بس بعد ما تتطلقين من سلطان، أبي نبدأ من جديد بعيد عن أي ذكريات قديمة هنا ... شرايك؟
نظـرت غزل لها بعينينِ ضائعتين، كلماتٌ كثيرةٌ تغزوها، تكاد أن تخترقَ حصنها/شفتيها وتمضِي إلى مسامع امّها التي سترفـض بالتأكيد ما يجول في عقلها .. الفكـرة المجنونة! والتي تدرك أنها خطـر ، أنها خطرٌ عليها .. لكنّ جزءً كبيرًا منها يحترق، يتألّم لصمتِها !!
هتفت امّ غزل وكأنها شعرَت بها وبرغبتها في الحديث : تبين تقولين شيء؟
نظرَت غزل لعينيها لتومئ دون شعور، حينها ابتسمت امها وهي تشدُّ بكفها على خدّها وتلفظَ بحنانٍ صافي : قولي .. لا تترددين يا عمري.
غزل بضياعٍ وهي توجّه أحداقها لزاويةٍ بعيدة، لزاويـةٍ غيرِ مرئيـة، لزاويةٍ تحشُر أحداقها فيها وتسحقها، لجزءٍ مُظلمٍ يقتـل ضوءَ الصبـاحِ في روحها : أفكّر .. أفكّر أعلمه بكل شيء ..
تسللت شهقـةٌ من أمّها ، لتبتلعَ غزل ريقها بتوترٍ ودون أن تنظُر لها أردفت بصوتٍ مرتعش، دون أن تُغـادر تلك الزاويـة ، التي تغرق فيها ، وتغرق أكثر : غلظت كثييير .. غلطت بحقه كثير ، ولو طلعت من حياته كذا بغلط بحقّه أكثر ، لازم يدرِي يا يمه ، مثل ما كذبت عليه ومثل ما خدعته .. لازم يدري ... ويكرهني !!

*

لازالت تذكـر ، ليلةً دخلَت فيها غرفتها تبكِي، هذهِ المرّة ، وفي تلك الليلـة ، كـانت قد بكَت، قبل أن تدخـل غرفتها حتى! استسلمَت للدموعِ أمام البـاب ، وسقطَت ، بينما وجنتها ملوّنـةٌ بآثارِ صفعـةِ ما قبل دقائق ، لأنها فقط ، وقفَت في وجهِ والدها ، وصرخت لأول مرةٍ أمامه " ما أبــي أتزوجه "! وكـان زواجها بِه – خلال يومينِ – فقط . . جلسَت على السريرِ وهي تضعُ كفّها على وجنتها وتبكِي بحزنٍ وانهزام ، كيفَ يريدها أن ترتبطَ بهذا الرجلِ وقلبها مرتبطٌ بآخر؟ كيف؟!!!
مدّت يدها للهاتِف الموضوعِ على الكومدينة، ابتلعَت ريقها بغصّةٍ والتهابُ وجنتها لا تشعُر بهِ الآن ، جسدها من الداخِل يحتـرق، لذا كلّ احتراقٍ خارجيٍّ كان لا يعنِي لها شيئًا أبدًا !! اتّصلت بِه هو ، لا أحـد سينقذها من كلّ هذا إلا هـو !!
ردّ عليها بعد رنّتين فقط ، ليندفـع صوتُها المبحوحُ إليه بنبرةٍ مهزومـة : لمتى؟ تأخرت كثيير عبدالعزيز تأخرت .. زواجي بعد يومين متى ودّك تتصرف؟!
عبدالعزيز بهدوءٍ جاد : توني واصـل من السفـر ، بكرا بالضبط راح ننتهي من كل هالسخافة !!
غزل بأمل : وش بتسوي؟!
عبدالعزيز : تثقين فيني؟
غزل باندفاعٍ ودون تفكير : ما أثق بغيرك حتى نفسي!
عبدالعزيز : أبيك بكرا تطلعين معي.
قطّبت ملامحها بربكةٍ مُفاجئة وهي تشتت عينيها باستغراب : بس أنا ماقد طلعت معك من قبل!
عبدالعزيز بثقة : عادي .. سبق وشفتيني من بعيد .. هالمرة تجرئي على اللي بعده .. بنتعشّى مع بعض بمطعم وبحكي معك بالموضوع أفضل!
غزل بترددٍ وخجل : ما يصير على الجوال؟
عبدالعزيز ويدرك أنها لن توافـق بسرعة ، فهو لأكثر من مرّةٍ طلبَ أن يخرجا سويّةً فترتبك وترفض، لفظَ بحدة : منتِ واثقة فيني بعد هالشهور وإلا أيش؟
غزل بخوفٍ من أن يغضب منها : لا لا .. بس يعني مترددة لأني ماقد سويتها..
عبدالعزيز : هالمرة لازم تسوينها .. عشان مصلحتنا * برقة * من متى اللبوات تخاف وتتردّد؟
ابتسمَت بحبٍ وحين يذكر " لبوة " فهو يريدها أن تكون أقـوى ، يريدها أن تكون شرسـة، لا تنكسـر ولا تخافُ شيئًا . . همسَت بنبرةِ المعميّةِ في غياهِب حبّه : طيب بفكر ..
عبدالعزيز بحزم : ردّي الحين .. تدرين أصلًا إنّي جيت قبل سفري بيوم وطلبتك من أبوك بس رفض حتى ما قال مخطوبة أصلًا؟
شهقَت بصدمةٍ وهي تضعُ كفّها على فمها : شلون؟ ما قال لي ولا انت قلت !!
عبدالعزيز : ما حبيت أتكلم وقتها .. فقرّري الحين بنتكلّم بكرا وإلا لا؟ عندي طريقة تخليه يوافق غصب .. بس بشرط تكونين قويّة وتقررين توقفين بوجهه بدون خوف ... تخافين وأنا معك؟!

" تخافين وأنا معك "؟
كـانت مفتـاح السرّ ، لتمضـي إليه بملءِ سقوطِها! .. في اليومِ التالِي وقبل يومِ عقدِ قرآنها بسلطان التقيـا حيثُ قرّر هو، دخلَت وهي ترتعشُ بخوف، لم تشعُر بالخوفِ والتردّدِ من " المرّة الأولى " إلا حين غادرَت المنـزل بعذرِ أنها ستذهبُ لإحدى الصديقاتِ القليلات والتي كانت علاقتها فيهنّ فاتـرة، باردة لأنها أقربُ من الالتزاماتِ التي وقّعت عليها لعلاقـةِ والدها بأبِ تلك ، وعلاقة أمّها بأم الأخـرى ، كانت صداقةً فاتـرة لا تعرفها جيدًا إلا في أوقاتٍ قليلةٍ كالتسوّق والتذرّعِ بها كعذرٍ للخروج وبعض الترفيهاتِ – المملّة -!
اتّجهت للطـاولة التي أخبرها قبل وصولها وحين كانت في السيارة عن رقمها، جلَسا، كانت تعلمُ أنّ طريقه كان مزدحمًا لذا سيتأخر قليلًا، وضعَت حقيبتها جانبًا، ومن ثمّ ضمّت كفيها ببعضهما البعض وهي تزفُر وتحاول أن تُهدّئ من انفعالاتِها ، اهدأي ، لا داعـي لهذا الاضطراب ، اهدأي إنّه عبدالعزيز .. عبدالعزيز الذي تثقين بِه أكثر من أيّ شخصٍ آخر في حياتِك !!
تنفّست بهدوءٍ وهي تقنـع صدرها المُضطربَ بانقباضاتِ قلبها الموبوءِ بالربكـة، مرّت دقائق قليلـةٌ قبلَ أن تشعُر بجسدِ اقترب، كانت كاذبـةً بأنها لن ترتبك، لن تخاف، إذ ما إن شعَرت باقترابِه واشتمّت رائحـةَ عطرٍ رجوليّ نفاذه حتى شهقَت وانتفضت بخوفٍ لتقفْ بجسدٍ تصلّب ! ابتسمَ عبدالعزيز وهو يجلسُ على الكرسيّ المقـابِل لها، لفظَ وهو ينظُر لوجهها الظاهـر مباشـرة : اجلسي .. مقدّر خوفك بس اهجدي حبيبتي لا تفضحينا.
ابتسمَت بارتعاشٍ وهي تجلس، تشعر أن صوتَ نبضاتِ قلبها يصِل كلّ الجالسين ، لم تكُن في يومٍ ما قريبـةً من رجلِ بهذا الشكل! حتى عبدالعزيز لم تراه سوى مرتينِ أو ثلاثٍ ومن مسافاتٍ بعيدةٍ بعدَ أشهرٍ طويلـةٍ من التواصـل بالهاتِف والرسائل، بعد أن عرفتـه عن طريقِ إحدى برامـج التواصـل الإجتماعـي ، كانت المرّة الأولـى مجرّد حوارٍ بسيط " كتابي " ، سمحَت بما هوَ أكبـر ، حتى انصاعَت أخيرًا لمشاعـر لا تدري كيفَ اغتالتها رغـم كونِها في ذاكَ الوقتِ كانت تحتقر الرجـال أجمـع ، كيفَ وقعت! لا تدري !!
هتفَ بصوتٍ ثابتٍ واثـق وهو ينظُر بجرأةٍ لعينيها العسليّتين لتشتّتهما بتوتّر، يتأمّل ملامحها دون أن يُشيح أحداقها للحظـة : شلونك؟
غزل بتوترٍ وخجلٍ دون أن تضعَ عينيها على وجهه الذي تتمنّى لو تتأمّله من هذا القربِ الآن لكنّ ربكتها وخجلها يمنعانها، تنظُر لكلّ شيءٍ حولها، الجالسينَ في الطاولات، النـادل الذي يقتربُ منهما ، مرّرت لسانها على شفتيها وهي تهمسُ بصوتٍ خافتٍ مضطرب : بخير ..
عبدالعزيز بابتسامةٍ رقيقة : ما ودّك تسأليني عن حالي؟
غزل بخجل : شلونك؟
عبدالعزيز : حتى لو ما كنت بخير أنا الحين بأتم خير !
صمتت ولم تستطِيع أن تُجيب وهي تغرقُ في خجلها وحُمرة ملامِحها، عضّ شفتهُ وملامحها ظهرت لهُ أكثـر براءةً وجاذبيةً لعينيه، كـان ينظُر لها بشغفٍ وفجُور ، بنظراتٍ لم تكُن تنتبهُ لها وهي تركّز بأحداقها على كفيهما المضطربتين فوقَ فخذيها.
وقفَ النادِل في تلك اللحظـة قريبًا منهم، استدارَ إليه عبدالعزيز بعد أن وصـل إليه صوته، التوى فمه بابتسامةٍ باردة، ومن ثمّ لفظَ بهدوءٍ وثقة وهو يرمِي إليه نظراتٍ ثاقبـة : عصير برتقال .. اثنين * أدار رأسه إلى غزل ليردف برقّة * ممنوع تقولين لا لأنك تحبينه .. أبيك تروقين قبل لا أطلب العشاء.
أومأت دون اعتـراضٍ ليبتعد النادل عنهما ، شابكت أصابعها ببعضها ليسندَ مرفقهُ على الطاولـة ومن ثمّ خده على كفّه ، يغـرق في تأمّل ملامِحها الصاخبـة بجمالها الحاد والبريء في آن واحد، لا يدري كيفَ تجتمع حدّة الملامح مع براءتها! كيفُ تُفضـى هذهِ البراءة فقط من الضيـاع الذي يشغُر أحداقها ، من ضعفها واهتزازها !
همسَ برقّة : أحب هالجمال !
رفعَت رأسها إليه بنفضةٍ وهي تفغـر فمها بضياع ، وبتشتّت : هاه !
ضحكَ بصخبٍ لتتضاعفَ حمرة ملامحها وهي لا تدري لمَ يضحك! عضّت شفتها لتُخفـض وجهها، حينها لفظَ بتسليـة : وأحبك كثر ما تبلمين !
غزل بحرجٍ : خلاص عبدالعزيز !
عبدالعزيز : أيه قلتِ شلونك؟
زمَت شفتيها بحرجٍ وهي تدركُ أن نبرته هذهِ كانت نبرةَ غزلٍ لا يقصِد بها تكرار السؤال وتفقّد أحوالها من جديد . . لفظَت بخفوتٍ مرتبكِ بالخجـل : اترك عنك هالكلام .. خلنا ندخـل بموضوعنا مباشرة.
عبدالعزيز بمكر : لهالدرجة مستعجلة؟
غزل ترفـع وجهها إليه لتتبدّل نظراته بسرعةٍ بعيدًا عن المكـر والشغف، لفظَتْ بألمٍ مفاجئٍ وغضبٍ خافت : أحر ما عندي أبرد ما عندك!! أقولك زواجي بكرا !! وأنت ولا همّك !
عبدالعزيز بجدّية : مين قال ما همّني؟ بس مو حاب أشوفك بهالشكل! روّقي كل شيء ينحل وأوعدك بكون أن بكرا الزوج مو سلطان ذا.
التمعَت عيناها بسعادةٍ وهي تُفرجُ شفتيها بلهفـة : بكرا؟!
عبدالعزيز بابتسامةٍ رقيقة : أيه .. تثقين فيني؟
غزل وتكرّرها كلّما كرّر سؤاله .. دون تردّدٍ تُجيبه : ما أثق في أحد غيرك .. حتى نفسي !
عبدالعزيز بخفوتٍ لا يُظهِر ما يُبطـن : أيه كذا .. أبيك تثقين فيني دااايم يا عمري ..
ابتسمَت غزل بغرابةٍ من نبرتِه التي جالَت على كلمتِه الاخيـرة، إلا أنها كانت لا تزال مرتبكـة، خجِلة، لذا صمتت وهي تنظُر لقدميها وابتسامتها الناعمـة لازالت ترتسمُ على ملامِحها . .
مرّت لحظتينِ قبـل أن يصـل فيها النادل بكوبي العصير ، وضـع كوبَ غزل أمامها وكذلك عبدالعزيز ومن ثمّ مضى بعد أن أشـار له بكفّه بأن يذهب ، ابتسَم وهو يلفظُ برقّةٍ ويرفـع كوبه ليرتشفَ منه : روّقي .. وراح أبدأ أعلمك وش الخطـة عشان أصير أنا العريس بكرا.
ابتسمَت لهُ بحبٍّ وهي تتناولُ كوبها وترفـعه إلى فمها لتشربَ منه، كـانت تشعُر بالسعادةِ في هذهِ اللحظـة، ثقتـه في الحديثِ جعلتها تشعُر بأملٍ أضـاءَ كلّ ظلامِها ، تشعُر أنها تشعُّ في بحرٍ من الحبُور ، فقط معه .. هذهِ السعادة فقط معه ، لا تستطِيع أن تجِد الوصفَ الكافي لها سوى أنّه باتَ الجانبَ المضيء في حياتِها ، الجانبَ الذي يكادُ يمحقُ كلّ ظـلام . .
وضعَت كوبها بعد أن شربَت منه النصف، ومن ثمّ همسَت بنعومـة متلهفـة : يلا علّمنـي وش بتسوي؟ ما اتخيل أبوي يغيّر قراراته بس أثق فيك.
عبدالعزيز وأصابعهُ تطرقُ على كوبِ عصيرِه الذي شربَ منه القليل : إذا تشوفين أبوك ما يغيّر قراراته أجل أنا مستحيل أتراجـع بشيء أبيه ! .. وأنا أبيك أنتِ!
غزل بربكةٍ تُخفضُ نظراتها المُحرَجةِ عنه، وبنبرةٍ معترضـة : خلاص اترك هالحكِي .. خلنا بالأهم ..
عبدالعزيز بخبث : يا حلو اللي تستحي !
غزل بانزعاجٍ ترفـع وجهها إليه مقطّبًا : عبدالعزيز بطّل هالأسلوب! مالك داعـي والله !
عبدالعزيز : ههههههههههههههههههه خلنا بس نتزوج بعدها نشوف إذا بتمنعيني أتغزّل فيك مثل ما أبي.
غزل وموضوع " الزواج به " بجعلها تضيعُ اكثـر وترتبك، غرقَت في خجلٍ صاخبٍ أكثر مما كانت غارقـة، ولو أنّ بعدَ قاعِ محيطِ هذا الخجلِ مساحةً لشغرتها ، لم تردّ عليه وهي تعضُّ شفتها السُفلـى بشغفٍ للحظـة التي تكون فيها زوجتـه .. بينما أردفَ عبدالعزيز بجدّيةٍ ماكـرة ما إن رآها تُرخِي عضّ شفتها السُفلى فجأةً وحاجبيها ينعقدانِ باستغرابٍ تجـاهَ أمرٍ مـا : تدرين حبيبتي .. خطّتي مثل ما قلت يبيلها وقفة منّك أنتِ بعد .. بتسوّينها من غير تردّد؟
رفعَت رأسها إلى وجههِ وهي تعقدُ حاجبيها بتشوّشٍ دون أن تفهمه، وبنبرةٍ فاتـرة : أكيد.
عبدالعزيز يبتسـم وعينـاه الجريئتانِ تعبـرانِ ملامحها ، هذهِ المرّة بوضوحٍ أمام نظراتها، دون أن يُبطنها ودون أن يتردّد حذرًا من أن تكشِف مآربـه ، هذهِ المرّة ، طالعـها برغبـةٍ عارمـة وهو يُفرجُ شفتيه ، ويفضِي إليها بخطّته .. ينطقهـا بكلّ فجور .. لتتّسع أحداقها المُرهقـة فجأة ، وتشهق ، ومن ثمّ تقف بصدمةٍ ولم يمكثْ وقوفها سوى ثانيتينِ حتى جلسَت بعجزِ ساقيها المنتفضتين ، وببهوتٍ تكذّب ما سمعت : أيش قلت؟
عبدالعزيز ببرودٍ يبتسم : اللي سمعتيه يا حلوة.
ارتعشَت شفاهها من نبرتِه الفجّة، من نبرتِه التي امتلأت برغبـةٍ جسديّةٍ بها وحسب ، نبرتـه هذه ، والتي لم تسمعها قبلًا !! .. هزّت رأسها بالنفيِ بضعف ، لتهمـس بتكذيب : ما سمعت صح انا ؟!
عبدالعزيز : إلا ..
غزل بلعثمـةٍ غيرِ مصدّقة : تبيني .. تبيني أنـا . .
لم تستطِيع أن تُكمـل الجملة وملامحها تشحُب ، تنفّست بسرعةٍ وهي تسندُ ذراعيها على الطـاولة بينما جسدها شعرَت بِه ضعيفًا ولسانها مُثقلٌ بدرجةٍ لم تجعلها ترفـع صوتها في كلماتِها المُبعثـرةِ تلك وكلماتها الآن : لا .. أنت من جدك هذا هو حلّك؟ تبينا نغلط عشان نحطه بالأمر الواقع؟
عبدالعزيز بسخرية : نغلط؟ لا حبيبتي ماهو غلط .. وبعدين وحدة مثلك وصلت لهالحد تتردّد عند هالشيء البسيط؟
صُدمت من نبرتِه ، ماذا يقصد؟ ماذا يقصد!! هل يقصد بنبرتِه تلك الاحتقار؟ يساويها بإنـاثٍ كُثر ، يقصدُ أنها رخيصةٌ حدّ أن تصـل هنا، أن تقضي جزءً كبيرًا من وقتها في محادثته، أن تجلسَ معه الآن .. فلمَ قد تتردّد في استرخاص " جسدِها " أيضًا وبيعه له؟!!
شعرت بالصدمـة تتكالبُ عليها حدّ أنها شعرَت بالغثيـان، لا تصدّق ، لا تصدّق !! لم تستطِع أن تلفظَ شيئًا وهي تقفُ ببهوت، تقفُ بانهزامٍ لا تكـادُ أن تستوعبَ معانِي كلمـاتها المحتقرةِ لها .. ماذا يعني ذلك؟ هل بالفعـل نيته الزواجُ بها؟ أن يضـع والدها أسفل هذهِ المقصلةِ ويجعله يوافق عليه رغمًا عنه ويتخلّى عن فكرة زواجها بسلطان! هل هذهِ نيته فعلًا؟ أم أنه كـان يهدف .. فقط! لنيلِ جسدِها ومن ثمّ تركها !!
لا .. لا !! عبدالعزيز لن يفعلها ، ربّما يمزح ، ربّما هي تتوهّم ذلك .. لن يقترح عليها اقتراحًا رخيصًا كهذا لأجل أن ينالها !! . . تحرّكت أقدامها دون أن تردّ عليه بشيء ، كـانت أقدامها مثقلـةً بشكلٍ غريب ، لم تكد تتحرّك خطوةً حتى شعرَت بحاجةٍ للجلوس، لكنّها عاندَت حاجتها تلك وأكملتْ سيرها في حينِ كـان هو يتابعها بمتعـة ، تريد أن تهرب ، تريدُ أن تهربَ لصدمتِها بما سمعَت حتى أنها لم تنتظِر لحظاتٍ كي تحلّل أو تسأله وهي تجلسُ أمامه ، لا تريد أن تصدّق ما قاله، تريد فقط أن تبتعد، حتى تكتشِف أنها تائهةٌ في كابُوس .. وستستيقظُ منه حين تسير!!
تسلّل الثقـل شيئًا فشيئًا من أطرافها إلى كامـل جسدِها ، ترنّحت بضعف، ورأسها أصبـح ثقيلًا، عينيها تشوّشتـا لا ترى من حولها كمـا يجِب .. شدّت على كفيْها بضعفٍ وهي تحاول أن تتماسك، لكنّها لم تستطِع ، لم تستطِع وهي تميلُ بجسدها ساقطـة ، لكنّ ذراعيه كانت أسرع، أمسكها وأسندها عليه بعد أن اندفـع إليها لحظـة إدراكه بأنها ستسقطُ الآن لا محـالة ، تأوّهت بغيـابِ وعي ، أغمضَت عينيها، ومن ثمّ فتحتهما بثقلٍ تحاول أن تقاوم .. ما الذي يحدثُ لها! ما هذا الضعفُ المفاجئ ...أنّت بضعفٍ وصوته وصلَ إليها مخضّبًا بالكثيرِ من الإزعـاج المتداخِل حولها، صوته المذعور .. أو المتصنّع لذلك! : طريق لو سمحتوا .. زوجتي تعبانة . .
لا ، لا .. ليستْ زوجته! ليسَت زوجته .. لم تصبح بعدُ زوجته .. ما الذي يقوله؟ ما الذي يفعله بالضبط !!! . . فتحَت فمها تريد أن تعترض ، تريد أن تقول " ماهو زوجي " لكنّها لم تستطِع إخراجَ صوتها بينما كـان هو يُسيّرها ويسندها إليه دون أن تشعر هي حتى بحركتها ... ما الذي يفعله؟ لمَ .. لمَ كذب وقال أنّها زوجته !!!
أنّت من جديدٍ بضعف ، وكتفها كـان في تلك اللحظـة ، يغرقُ أكثر إلى صدرِه ، لم تشعُر بشيءٍ حتى دفئه الذي اقتربَت منه بهذهِ الطريقة لأول مرّة ، لم تشعُر بشيء ... وهي تغيبُ تمامًا عن وعيِها !

بعدَ وقتٍ طويـل ، طويلٍ جدًا ! .. لا تدري كم سـاعةً مرّت ، فتحَت عينيها بثقلٍ والصداعُ يكادُ أن يسحقَ رأسها الغارقِ أسفل أطنانٍ من الجبال! هذا ما شعرت بِه من شدّةِ الضغطِ عليه ، .. حرّكت رأسها بضعفٍ وهي تتأوّه بألم ، عينيها المتشوّشتين لم تدرك بعدُ المكـان الذي كانت فيه ، أغمضَت عينيها ومن ثمّ فتحتهما مرارًا وتكرارًا حتى استطـاعت الرؤيـةَ جيدًا ، مرّرت لسانها على شفتيها الجافتين ، ومن ثمّ عقدت حاجبيها بإجهادٍ وهي ترى المكـان الغريبَ الذي كـانت فيه .. غـ .. غرفة؟!!
حرّكت رأسها بغرابـةٍ نحوَ صوتِ الهاتفِ القادمِ بجوارِها ، كان على الكومدينة !! .. رفرفت بأهدابها وهي تدرك إدراكًا جديدًا .. هي نائمةٌ على السرير! .. متى نامت في هذا المكان الغريب؟
صريرٌ كـاد أن يشقَّ رأسها نصفين ، توقّف صوتُ الرنينِ وهي تنظُر بضيـاعٍ للفـراغ/ للسقف، لا تدري ما الذي تعيشهُ بالضبط، لكنّها بالتأكيد واقعـةٌ في آثار ما بعد النوم ، عقلها نعِس، وصداعها هذا يخبرها أنها نامتْ بعدَ جهدٍ، بالتأكيد ستستوعبُ ما يحدثُ بعدَ قليل .. فقط لتسترخِي قليلًا !
لم تكَد تفكّر بذلك حتى عادَ صوتُ رنينِ الهاتِف يتصاعدُ بعد خمسِ ثوانٍ من توقّفه، عادَت توجّه نظـراتها إليه، ومن ثمّ وبثقـلٍ واستسلامٍ مدّت يدها نحوه ، من سيتّصل بها ؟ .. من غيابِ الإدراك لم يخطُر في بالها عبدالعزيزِ حتى! .. لم تفكر من قد يتّصل بها .. بل مدّت يدها بضيـاعٍ إليه، أمسكَت بِه، لكنّ يدها تجمّدت فجأةً حين سقطَت نظراتها على ذراعِها العـاري ... لحظة! كانت ترتدِي بلوزةً حمـراء ذاتَ أكمامٍ طويلةٍ قبل أن تخرج ، فمتى بدّلت ملابسها! ... تخرج !!! .. عقدَت حاجبيها أكثر، استطـاعت أن تتذكّر أنها كانت ستخرج ، إلى أين؟!
تضاعفَ صداعُ رأسها، وقبـل أن تسحَب الهاتف كانت تفكّر ، متى بدّلت ملابسها؟ . . انزلقَت نظراتها عن ذراعها لتتفقّد دون اهتمامٍ ما لبسَته بعْد تلك، فقط من بابِ محاولة التذكّر ولو قليلًا .. تشوّشها هذا غريب ، لم يحدُث أن نهضَت من نومها بهذا الشكـــ . . . شهقَت بقوّةٍ وصدمـة ، وكفها المُمسكـة بالهاتِف ارتخَت وتحرّكت فوقَ الطاولـة لتدفـع الهاتف دون تركيزٍ ويسقطَ على الأرض .. جلَست بانفعـال ، وفي سرعةٍ خاطفـةٍ كان قلبها يتصاعدُ بوتيرةِ انقباضاتِه وهي ترفعُ اللحـاف إلى صدرها ، نظـرت للأمـام بصدمـة ، تتنفّس بسرعـة ، تكـادُ تموتُ الآن وهي تسترجـع في صورةٍ خاطفـةٍ ما حدثَ قبل أن تنـام .. لا ، ما حدثَ قبل أن تفقدَ وعيها !!! .. الغرفـة الغريبـة ، وهي ... وهي !! ماذا حدّث؟؟؟ لا يمكن !! عبدالعزيز!! لا يمكن !!!
شهقَت من جديدٍ بصدمةٍ وهي تهزُّ رأسها بالنفي ، تكـادُ محاجرها أن تلفظَ عينيها .. لا يمكن! لا يمكن !! لم يفعلها بي .. لم يفعلها بي ... لم يفعلها بي يـــا الله !!!
لم تشعُر بنفسها في تلك اللحظـة وهي تبكِي ! سقطَت دموعها دون انتظـار ، وأحداقها المصدومة تنظر للأمـام غيـر مصدّقة بينما الهاتف يعود للصـراخ .. دون توقّف، لا يمكـــن .. لا يمكـــن !!
من الجهةِ الاخـرى ، شدّ على أسنانِه بغضبٍ وهو يضربُ المقودَ ويزفُر بانفعـالٍ لافظًا بحدة : هذي شفيها ما ترد؟! وججججع ما صحت للحين !
كادَ يُغلـق باستسلام، لكنّ صوتها جـاءهُ فجأة ، صوتها المكلومِ ببحّةِ ضعف ، بانهزام ، صوتها الذي كـان يغرقُ في أنينٍ غير مصدّقٍ وهي تهمـس بتساؤلٍ مجروح : ما غدرت فيني .. صح؟!
عبدالعزيز يلوِي فمه بضجرٍ وقد ملّ من التمثيلِ أخيرًا ليظهر على حقيقتهِ بعد أن حصـل عليها : يووووه فكينا من تصنّعك هذا ! .. خلاص أعرف نوعيتك عارف إنّك الحين مبسوطة بس مسوّية فيها العفيفة الطاهـرة .. خلاص ارتاحي من اليوم كسرت الحاجز اللي مخليك متردّدة ، في المرات الجايـة بتكونين واعيـة! الحين بس اطلعي من الفندق وارجعي لبيتك ، سلّمي المفتـاح للرسيبشن بينتهي موعد الحجز بعد نص ساعة.
لا تصدّق ، لا تصدّق ما تسمع !! .. لا يمكن أن يكون عبدالعزيز ، لا يمكن !! .. ابتلعَت ريقها بصعوبـةٍ وهي تهمسُ بغصّة : في .. في المـ ـرات الجاية !!
عبدالعزيز بجدّية : خلاص يا غزل تراني ملّيت من تمثيلك هذا! خلاص اعترفي لنفسك قبل لا يكون لي إنّك بغيتِي هالشيء بس اللي مخليك متردّدة هو إنك بنت.
وضعَت كفّها على جبينها لتصـرخ دون شعورٍ بانهيـار : حقييير ... حقيييييييييير .. هذا اللي كنت تبيه من البداية! لا يا ربي لااااا مو معقول شلون استغليتني !!
عبدالعزيز يتأفف بضجر : ما استغليتك! من البداية أنتِ اللي عطيتيني المجـال ، لا تتصنّعين العفة وأنتِ من جنبها !
وضعَت غزل كفها على عينيها، لا تريد أن تصدّق ، عبدالعزيز الذي أحبّته! عبدالعزيز !!! .. لم تستطِع أن تمنـع دموعها من السقوط، لم تستطِع أن تمنـع صدرها من البكـاءِ في اللحظـةِ التي كان يُردف فيها بتسلية : بكذا أبوك ماراح يزوّجك ، بس معليش كذبت عليك بسالفة أكون الزوج بكرا هههههههههههههه .. * أردف بشغفٍ ماكر * لقانا الثاني متى بيكون؟ هالمرة مثل ما قلت بكامـل وعيك . . لا تحاتين !!
لم تستطِع أن تستمـع له أكثـر ، تشعر أنّها تتمزّق ، تهوِي إلى شظايـا ، كانت تعيشُ في خدعـة! كلماتُه الآن تعنِي أنّه لم يحبّها يومًا ، نبرته الآن تعنِي أنّه لم يُرِدها هي بذاتها .. بل أراد جسدها !!
أغلقَت الهاتفَ لتصخَب في بكاءٍ منهار ، لم تبكِي يومًا كما الآن ، لم تبكِي يومًا كلحظـةٍ كهذِه انكسـرت فيها ، خُدعَت .. كان يخدعها .. كان منذ البدايـة يخدعها ليحظـى بجسدها بكلّ دنـاءة !!
لم تبالِي بالوقتِ الآن والذي تجاوزَ منتصَف الليل ، لم تهتمّ إن كـان أحدٌ سينتبه لغيابها ، لن ينتبه أحد! لذا مكثَت لوقتٍ طـال .. تبكِي ، وتعزّي نفسها ، بينمـا رسالـةٌ وصلَت إليها ، رسالـةٌ حمَلت توضيحاتٍ ناعمـةٍ منه ، حملَت كلمـاتٍ استفزّتها للبكـاءِ أكثر ( كنت محاتيك وأنتِ نايمة عشان كذا كثّرت اتصالات .. تأخرتِ بنومك وخفت ينتبهوا أهلك لغيابك مع إنّي ما أظـن .. ترانِي مهتم لتفاصيلك كلها! وما اكتفيت منّك للحين )
" يــا الله !!! " .. أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تعضُّ شفتها السفلى ، يا الله! يا الله ما بعدَ هذا الكسرِ آخر! لا يُمكـن أنّها تحيا واقعًا، لا يمكن !!
أخفضَت رأسها وهي تبكِي بشدّة ، تضمُّ الهاتفَ إلى وجهها المحمرِّ وتصرخُ بآهاتٍ متتابعـة ، بآهاتٍ تخبـر عقلها أنّها انتهَت ، بآهاتٍ تئدُ الجبـال! تسلـخ جلدَ المعانِي عن المصطلحات فتتوه ولا يُجادُ تفسيرها .. لقَد انتهَت الآن بكلّ ما تعنيه الكلمـة من معنى! انتهَت !!!

كانتْ الليلـةُ التاليـة هي ليلـة عقدَ القرآن، لا تدري كيفَ عادَت للمنـزل بعد أن اتّصلَت بالسائق وكيفَ لملمَت نفسها قبلًا! .. كيفَ واجَهت امّها التي استنكَرت تأخرها وسألتها بنبرةٍ باردةٍ حين رأتها " طالعة لهالوقت؟ " ومن ثمّ زفـرت وقلّبت عينيها دون رضـا لتذهب .. دون حتّى أن تنتبه لملامحها الشاحبـة ، دون أن تنتبه لعينيها الميّتتين ، دون أن تنتبه لانكساراتها .. دون أن تنتبـه ، لأن غزل فقدَت نفسها حرفيًا !!

لا تدرِي كيفَ تمّ عقد القرآن ، تذكُر أنها فقط كانت تُسيَّرُ كآلةٍ نفدت وقودها وسيّرها من حولها ، زيّنتها أيادي ، وكانت تخضـع لكلّ التوجيهات ، وقفَت في ليلةٍ مخضبـةٍ بالضياع وأجابت على الزواج .. دون أن تشعـر " بالموافقـــــة "!!!

*

عيني امّها كانت تنظُر لها بصدمـة ، لم تكُن تعنِي ما سمعَت ! .. نعم لم تكُن تعنِي ذلك !!! . . هزّت رأسها بالنفي ، وصوتُها الباهتُ يلفظُ بجنونٍ مُرتاب : ما قصدتيها!!
غزل بانكسـارٍ تشعُر أن روحها تتمزّقُ دون أن تفقدَ شعورها بها ، دون أن تفقدَ اتّصالها الحسيّ بأجزائها ، تحترق، ليندلعَ الألـم أكثر! : قصدتها .. أيه قصدتها .. لازم يدري ، أنا وش قاعدة أسوي فيه شلون اطلـع بهالطريقة بدون عقاب؟ شلون تبيني أعيش وأنا غارقـة بهالمعصية! .. مالِي كفارة غير إني أحكِي .. ويكرهني!!!
امها بغضبٍ مفاجئ : نعم !! أنتِ مجنونة! مجنونة !! ..
لم تردّ عليها وهي تضعُ كفّها على فمها ، بينما أردفَت أمّها بجنون : أنتِ تدرين إنّك بس بتقهرينيه؟ ما تدرين شلون قهر الرجـال شين؟ مو بس كره .. بينقهر وبيطيّن عيشتك .. وممكن فوق كذا توجعينه !
زمّت شفتيها بألم ، وقبـل أن تردّ كـانت خادمـةٌ تدخُل للغـرفةِ بهدوءٍ وتلفظ : آم سوري بات زوج ماما غزل فيه اجي.
توقّف نبـض قلبها فجأة ، وقبـل أن تستوعب ، كـانت امّها تقفُ بحدةٍ وحـزم ، وتتّجـه للخـارج .. لتواجهه!!

.

.

.

انــتــهــى

أدري البارت كان منحصر على شخصيات معينة دون البقية وممكن يطلع لكم كانه " قصير " بس نفس عدد الصفحات المعتادة بالوورد ، .. أتوقع إنه دسِم ومن البارتز المنتظرة عمومًا مو؟ :$*


ودمتم بخير / كَيــدْ !


أبها 31-07-16 04:47 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
شكرا كيد على الجزء ..
رغم أنه مشبع بالحزن ..والألم .

سعد ..آلمني جدا مشاعر الصدمه
والتيه والتخبط التي حلّت به .. أجدتِ يا كيد .
الغضب لا يأتي بخير . وغالبا ما يفيق الإنسان منه
بعد فوات الأوان ..وبعد أن تصيبه الحسرة والندم على
ما قدمت يداه ..
لا شك أن سالم هو من كان يراقب الحدث ثم
أبلغ عن الحادثة ..

الحزن امتد ليشمل ذكريات غزل المؤلمة ..
ليت كل فتاة تدرك أن ما من رجل يتعرف على
امرأة لا تحل له إلا وله مآرب خبيثة
من وراء ذلك التعارف ،،، إلا من رحم الله.

شكرا مرة أخرى كيد
بانتظارك .🍃🌸🍃

ضَّيْم 31-07-16 09:30 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

يختي ليش عندي أمل إنّ غزل للحين بنت "/
وللحين ديما منرفزتني ياربيه :|
نبي بارت هدية ياكيد قبل ننهبل :frown:

fadi azar 01-08-16 01:51 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل حزين جدا سعد خصر حياته بسبب الغضب وغزل خصرت شرفها ببحثها عن الحب والامان الغير موجود في بيتها

كَيــدْ 03-08-16 10:38 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(78)*2




كـان ينظُر عبـر النافذةِ للشـارع وهو يبتسـم، راحـة ، راحـة ، وسعـادةٌ لا يسعهُ وصفها ، ماذا يعني أن نحزن؟ إن كان الفرح سيجيء بشكلٍ أشد؟ ماذا يعني أن تنطفئ في عيوننا أنوارُ موانئ ، وتتوهَ سفينتنا، متناسينَ أن ضوءَ الصبـاح أقوى ، وسيجيءُ لنا هُدى. ماذا يعنِي الوجـع؟ غير أنّه لا تعريفَ له، نكـرة، وكلمةٌ لا إعرابَ لها في قواعِد نحوِ الحيـاة التي لم تثبتْ يومًا على حـال، لكن كـان لنا أن نُثبِت في أنفسنا شيئًا، حينَ نؤمن بِه ونكفـر بالآخر.
ثبّت الستارَة وهو يتمتمُ بخفوتٍ وصوته بات " رايق " كما لم يكن قبلًا : خلّك .. اليوم خاطري أتأمل هالزحام بدون ما ينتقـل لصدري.
كـان سعيدًا، كمـا لم يكُن قبلًا ، الآن باتَ يعرفُ ما موضعه، باتَ يعلـم ما يُريد، باتَ يعلـمُ كيفَ يعيشُ بالضبـط، بعضُ العرقـلاتِ التي ما زالت قائمـةً ستنتهي قريبًا، وستنتهي بسلام، نعم بسلام ، يا الله يسر كلّ ما بقيَ أمامي كي أعيش! فقط أعيش .. لم أعد أطالبُ بالسعادة فقط أريد أن أعيش – معهم -.
مرّر لسانه على شفتيهِ واستدارَ نحو البـابِ ما إن سمـعه يُطـرق، تحرّكت أقدامـه وهو يبتسـم، هذهِ المرّة لم يعُد يتضايقُ إن جاء إليه، ربّما لأنه هذهِ المرّة ممتن! ممتنٌ له لأنه ساعـده في تبيّنِ الحقيقة وفي هذهِ الراحـة.
فتـح البـاب، لتُطـالعه عيني عبدالله ويبتسـم بهدوءٍ للسعادةِ التي يراها تعانـق عينيه، دخـل ليلقي السلام ومن ثمّ يُردف : من يومين وأنت مبسوط ... عساها دايمة.
متعب بابتسامةٍ يُغلـق الباب : وعليكم السلام ... الحمدلله ربنا كان كريم معي.
عبدالله يجلُس في المقعدِ الذي اعتادَ الجلوسَ عليه : شايف؟ لأنك بس تحكي للي حولك وللي تثق فيهم.
ضحكَ متعب وهو يتّكِئ بكتفيه على البـاب، نظـر لهُ عبدالله وهو يبتسم، لا يذكر أنه ضحك مرةً أمامه! أو ربما فعلها لكن ببهوتٍ عبـر سريعًا فلم يرسخ في ذاكرته! .. لفظَ متعب بابتسامةٍ وهو يكتّف ذراعيه : ترى ما كنت أثـق فيك!
عبدالله بعتبٍ خفيفٍ وهو يبتسمُ لابتسامته : أفا!
متعب بتشدِيد : كنت! .. الحين أنا ممتن لك .. وما أعرف شلون بالضبط بقدر أشرح لك وش كثر أنا شاكر لك!
عبدالله : لا تشكرنـي .. بس اوثق فيني لين ينتهي كل شيء .. لا تسأل متى ينتهي ولا تسأل عن التفاصيل .. بس ساعدني.
متعب يعقدُ حاجبيه وهو يلفظُ بجدّيةٍ وذراعيه يُخفضُهما عن صدرِه : أبشر بس بأيش بالضبط وأنا قايل لك كل شيء؟
عبدالله يقفُ بهدوء : أبيك تمشِي معي عشان نآخذ تفاصيل أكبـر منك ، الرقم القديم اللي كنت تتواصـل فيه مع سالم للحين معك؟
متعب باستغرابٍ يعقدُ حاجبيه : أي محفوظ بجوالي القديم بس ماقد فتحته من مدة طويلة ، حتى شريحتي اللي قبل مع إنّي أدري إن الخدمة أكيد انفصلت عنها بس محتفظ فيها.
ابتسمَ عبدالله : ليه ما رميتهم؟ خصوصًا الشريحة وأنت تدري ما راح تفيدك بشيء!
هزّ متعب كتفيه دون درايـة ، لا يدري ، نعم لا يدري .. هو فقط أراد أن يحتفـظ بها، أن يحظـى بشيءٍ كـان لهُ منذُ اللحظـة التي لا يعلـم أمدها لكنّها كانت معه هنا! شيءٌ عاشَ معه في الرياض، وعاشَ في ميونخ، وعاشَ في باريس! شيءٌ عاشَ معه تضاريسَ ثلاثـةِ بُلدان، بالرغمِ من كونِه كـان يخشى أن يفضحـه هاتفه بطريقةٍ أو أخـرى، لكنّه لم يحبّ أن يرميه.
اكتفـى بتلكَ الإجابـةِ الحركية " هزّ كتفِه " لتتّسـع ابتسامـةُ عبدالله وهو يتحرّك نحوه لافظًا : خلنا نمشـي ، معليش يمكن تنغثّ شوي وتضطر تعيد القصة من جديد عشان يتسجّل كلامك .. تحمّل الاجراءاتْ لين يخلص كل شيء.
فتـح متعب البـاب بترحيب، ربّما لو قال لهُ ذلك قبل أيـامٍ لغضِب وانفعـل، لكنّه الآن يرحّب بأيّ شيء في سبيلِ راحـته، لفظَ بهدوءٍ وهو يخرجُ برفقتـه : بس نخلص من كل هذا بفتح معك موضوع مهم.
عبدالله يعدُ حاجبيه بتساؤل : اللي هو؟!
متعب : بعدين أقولك ما أبـي أشغلك ...
أنهـى جملته في اللحظـةِ التي تصاعدَ فيها رنينُ هاتِفه، ابتسـم وهو يخرجه من جيبِه وكأنه كان يعرفُ من هو المتّصل، ألقـى نظرةً سريعةً على عبدالله الذي أمال فمه بشك، ومن ثمّ وجّه نظراته للشـاشه، ليرفضَ مكالمـة شاهين! . . عبدالله باستغراب : ماهو أخوك ذا؟
متعب وقد بدأ يطرقُ بأصابعهِ في كتابـةِ كلماتٍ سريعةٍ كي يرسلها إليه : إلا ..
عبدالله : ليه ما ترد؟
متعب يرسـل رسالته التي تضمّنت " ماني راد لين تفكّر بالموضوع كويس * يقصد موضوع طلاقه لأسيل * " ومن ثمّ يدخـل الهاتف في جيبه بهدوءٍ وينظُر ناحيـة عبدالله لافظًا ببساطة : ما أبي أرد عليه.
عبدالله دون تصديق : متهاوش معه وأنتوا مالكم كم يوم ملتقيين؟
كتـم بسمته : ما عليك خلافات عائلية.
هزّ رأسه بالنفيِ وهو يبتسـم : الله يجبـر على قلوبكم ..


،


كـانت تقف ، قبـل أن تستوعبَ ابنتها نصفَ الكلماتِ التي قيلت ، تقفُ بحدّةٍ والاستيعابُ بالتأكيد سيكون أسـرع لديها من تلك التي تعيشُ اختلاجاتِ عشقِها له . . نظـرت لها بنظراتٍ حادة ، ومن ثمّ شدّت قبضتيها ، وهي تلفظُ بصوتٍ محذّر : ما راح تحكين له شيء! يعني فوق ما ربّي ساترك رايحة تفضحين عمرك بنفسك؟
نظـرت لها غـزل بضيـاع، وكأنها حتى الآن لا تكـادُ تستوعبُ مقدارَ هذا الوجـع في صدرِها، هذا الوجـع لم يكُن كوجِعها بعبدِالعزيز، أبدًا لا يجيءُ وجعها السابق كالآن! ذلك الوجـع خلقه عبدالعزيزِ فيها، بينما هذا هي! ، هيَ من فعلته بنفسِها وهي من أوصلت نفسها للفقدِ القاتـل هذا ، عبدالعزيز هو من ظهـر أخيرًا بقنـاعِ الكذبِ وهو من خذلها، لكن سلطان لم يكُن يومًا يُجيدُ التمثيل وكان نقيًّا، كـان صادقًا ، لذا وجعها بفقدِه لن تكون الدواوين كافيةً لشرحـه، لن تكون الأبجديّاتِ كافيةً لتترجمه.
نظـرت لأمّها بتيهٍ وهي تراها تبتعدُ عنها خـارجـة ، ربّما عقلها لم يكُن قد استوعبَ كما يجبُ أنّ الخادمـة قصدت " سلطان "، لم تستوعب كما يلزمُ لينتفـض قلبها في انقباضاتٍ تحمـل اسمه، بل كـان قد توّقف لثانيـة، ومن ثمّ عـاد ينبـض بصورةٍ طبيعيةٍ دلالـة اللا استيعاب.
خرجَت وهي تلفظُ بكلماتٍ محذّرة : لا تطلعين .. إذا استلزم الوضع بناديك أنا وتصرّين على قرار الطلاق! إذا مو عشانك عشانه هو ، بكلا الحالتين هو بيطلقك، بس طلاق وهو ما يدري عن شيء أفضـل من العكس واللي بيقهره وبس!
لم تردّ عليها ولم تُشِح بنظراتها عنها وهي تنظُر لها بتيه ، غابَت عن عينيها، بينما كانت غزل قد غرقَت في فكـرةٍ واحدةٍ استوعبتها بعدَ لحظـاتٍ لتشهقَ وهي تقفُ منتفضـة : جــاء!! .. مثل ما كنت متوقعة جاء !!
عضّت شفتها بربكةٍ وهي تتنفّس باضطرابٍ التحقَ بقلبها ، تحرّكت أقدامها نحوَ البـاب ، لكنّها عادَت وتراجعَت للخلفِ بتوتّر ، هل من الأفضل أن تترك امها تحادثه وحدها ولا تتدخل؟ هل هذا هو الصحيح؟ هل تذهبُ وهي لا تعلمُ ما الذي قد تفعله بالضبط وتخشى أن تستسلـم بعد أن تضعف؟!! .. لا لا ! إذا لم تصبح أقوى الآن وتصرّ على ما تريد فستضعفُ كلّيًا إن عـاد .. هل تخبره الآن بالحقيقة؟ أم .. أم تتبـع ما قالته أمّها!! .. ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ ومجيئه يُشعرها بالوجـع ، مُتمسّكٌ بها!! كيفَ أجرمت هكذا بحقه؟!
تحرّكت بحزنٍ مريرٍ للبـاب ، خرجَت بقدمين متوتّرتين ، وصـل إليها صوتُهما ، صوتُ أمّها ، ومن ثمّ صوتُه .. أغمضَت عينيها بعذاب ، كيفَ يعبُر صوتك ولا يستفزّ جوارحِي إليك؟ . . عضّت زاويـة شفتِها السُفلى، بينما مسامعها يُداعبها صوتُه الذي كـان جامدًا، لكنّها كانت تدرك من خلفِ ذاك الجمودِ غصبًا! : يعنِي طلعتِ بحياتها من جديد عشان تخربين بيتها؟!
ام غزل بثقةٍ وعلياء : تدري إنّ الحياة بينكم مستحيلة .. ما أتوقع رجّال بيرضى بهالعيشة ، فلا تمثّل هالشيء وتبتلي فيه بنتي!
صمتَ سلطان، بينما ملامحـه كانت تقسو، تقسو بشدّة ، عينيه تنطفئان أكثر مما كانت، بينما قبضتيه يشدّهما وهو يلفظُ بنبرةٍ خافتـة، أشبـه بفحيح الأفعـى : قالتها لك؟!
ام غزل تقفُ أمامه مباشرةً بثقةٍ عميـاء وبملامح صلبةٍ لم تهتز، لن تسمـح بالمزيد من الدمـار لها، إنْ كان أحمد فعلها وكذَب عليها منذ بادئ الأمـر أن سلطان قد علِم بكلّ شيءٍ وقرّر سترها لسنـةٍ مُقرّرًا إنهـاء حياتها لما لا تعلـم فهي لن تسمح بالمزيد، لن تسمح! ، لفظَت بنبرةٍ هجوميّةٍ حـادة : أي قالت لي كل شيء .. وعرفت إنّ مصيركم الطلاق ، والأفضـل يكون بأسرع وقت.
لم تتبدّل ملامحه عدا من ابتسامـةِ سخريةٍ تراءت في عيني غزل التي اتّكأت على إطـار البابِ وهي تنظُر لهما، تبتلع ريقها بصعوبة، وأحداقها تعبُر ملامحه بتمهّل، تدرُس مقدار غضبـه، تحاول قراءةَ الانفعـالاتِ التي تلاشَت من عينيه وسكنَت أسفلِ جلدِه، لم تجدْ سوى تلك الابتسامـةِ الصاخبةِ بحدّةِ المزاج، وربّما كان الآن يُخفي غضبه منها هي تحديدًا، فأمّها أفصحَت لهُ عن معرفتها بكلّ شيءٍ حتى الذي لا يعلمه!
زمّت شفتيها بارتبـاكٍ ما إن لفظَ بخفوتٍ أرعشَ جسدها : كلامِي معها هي .. بعدين بتفاهم معها على شغلة إنها قالت لك بكل شيء ... على أي أساس تثق فيك؟
انتفضَت ام غزل بغضبٍ لتلفظَ بعلوٍّ حاد : لا تدق بالحكي! .. أنا امها في النهاية!
سلطان بسخرية : ما أبي أقول كلمة تجرحك في النهاية أنتِ الكبيرة هنا ... وينها غزل؟
ام غزل بغضبٍ لم تستطِع أن تُلاشيه من صوتِها ، جملته التي تعنِي تقصيرها طيلة السنين استفزّتها، لذا كان صوتها حادًا وهي تلفظُ بتحدّي : قلتها أنا الكبيرة هنا وكلمتي اللي راح تمشي ، غزل ماراح تقابلك.
سلطان يرفعُ حاجبًا ببرود، تنهّد بقلّةِ صبرٍ بينما كانت غزل تتراجـع حتى لا يلحظـها وهي تتنفّس من بين شفتيها المنفرجتين توتّرًا ، أردفت ام غزل بجمود : معليش بس تفضّل ، انتهت الزيارة.
سلطان يُميل فمه بسخرية : زيارة؟
زمّت غزل شفتيها وحنجرتها تصدأ، باتت تذُوق مرارةً كالعلقم وأسلوب امها في الحديثِ معه لم يُعجبها .. لفظَ سُلطـان بهدوءٍ موضّح : أبيك تعرفين شيء واحد يا عمتِي ، جيتِي لهنا مالها علاقة بمصطلح زيارة أبدًا ، تدرين إنه من حقي أطالب بزوجتي اللي طلعت من بيتها بدون شوري تطلع الحين وتمشي معي ..
فتحَت ام غزل فمها تريد قولَ شيءٍ لكنّ سلطـان قاطعها بنبرةٍ حادةٍ ينظُر لها بعينينِ تلتمعان وعيدًا : سبق وقلتها لها ، أسلوب البزارين هذا ما ينفع! ممكن لو إنها ظلت ببيتها وحاولت معي بقتنع وممكن في النهاية أعطيها الطلاق ، كل شيء كان ممكن بس هالأسلوب بالذات ما أحبه ولا يمشي معي .. عشان كذا لو كان فيه نسبة 1% تحصل على الطلاق الحين صارت صفر! هي تبيها من الله عناد ولعب أطفال؟ لها هالشيء!
فغرت غزل فمها بصدمـة، كتمَت شهقـةَ اعتراضٍ خافتـةٍ وهي تتقدّم لتخرجَ من ملاذِها الذي يخفيها عنه ، لا يمكن ذلك، لن تسمح بأن يستمرّ الوضع بهذا الشكـل ، إن كان هنالك نسبةٌ ضئيلةٌ بالفعـل لتحصل على الطـلاق فيجب أن تكون الآن ، إن كان هناك نسبةٌ لردّ اعتبـارِه الذي استباحته دون أن يعلـم فسيكون الآن ، إن كـان وجعُ ابتعادِي قاسيًا فالأقسـى أن أكون قريبةً منك، تهديني من عواطِفك ما تستطِيع وأنا لا أستحق، إن كنتُ أحبّك يا سلطـان فأنا لن أرضى أن أكون لكَ بقايا لا تلتئم! أنا جُرح، شرخٌ عبـَرتْ من خلالِه قذارةٌ لن تُمحـى ، أنا انهزامٌ وأنت نصرٌ فكيفَ يرتقي ما هو أدنى لما هو خير؟ لا أستطِيع ، ولن أستطِيع يومًا أن أتسلّق سلّمك . . غصّت بالوجـعِ وخطواتُها أصبَحت بوضوحٍ خافتٍ لهمـا ، جعلتهما يستشعرانِ تواجُدها ليُدار رأسهما إليها مباشرة ، عضّت امها شفتها بغضبٍ ما إن رأتها، بينما ابتسمَ سلطـان بقسوةٍ وهو يكتّف ذراعيه إلى صدرِه ويلفظ بسخرية : شرّفتي يا هانم؟
تحشرجَ الأكسجين في حنجرتها دون أن يصِل إلى رئتيها، شتّت عينيها بربكةِ الكلماتِ التي تزاحمَت مع الهواءِ لتخرجَ خافتـةً رغمَ محاولتها أن تكون أكثـر ثقة : طلقنــي ..
سلطان بصبرٍ ضغطَ بسبّابته وإبهامه أعلى أنفه وهو يغمضُ عينيه ويتنهّد لافظًا : يا صبر أيوووووب !!!
غزل برجفـة : ماهي لعبة أطفـال مثل ما تقول ، أنت خيّرتني قبل وأنا ما اخترت الصح . .
سلطان يقاطعها بسخريةٍ وهو يفتح عينيه ناظرًا لها : اختبارات الثانوية لا رسبتي فيها تنعاد .. بس اختبارات الحياة لا ! تعرفين هالشيء وإلا؟ ضاعت فرصتك في الطلاق لما اخترتي عكسه يومتها ، لا تتلاعبين معي أكثر! مزاجـي اللي زان صدقيني قاعد يشين حاليًا أكثر وأكثر ... بطّلي هاللعب أفضل لك يا غزل!
ارتعشَت شفاهها لتتراجـع للخلفِ بربكة ، وباختناق : لو قلت لك أسبابي بتطلّق؟
اتّسعت عينا أمها بصدمـة ، هزّت رأسها بالنفيِ وهي تنظُر لعيني غزل التي نظرت نحوها نظرةً خاطفـةً ومن ثمّ أشاحتها ، بينما رمقها سلطـان دون مبالاة وصبره فعليًا يكادُ أن ينفد، في حينِ كانت غزل ترتعش ، رعشـةً لم تطَل صوتها ، كـان صدرها يشكِي دهاليـزَ انتمَت إلى صدرها، يشكِي هذا الظـلام الأبكـم الذي ما حادثها يومًا لتدرك من كلماتِه لمَ اختارها .. لم اختارها هي؟ لمَ كانت الخاسرةُ دومًا، المنهزمة دومًا، المستسلمة دومًا، الانتهاء! لمَ حملَت كل تلك المصطلحات التي تعنِي نفسها ، تعنِي أنها لم توجَد في الدنيا فائزةً بعينيه! لمَ حين جاءها كانت مزدحمةً بسواه، ولمَ تأخر؟ ككلّ مرةٍ تغوصُ في وحلِ هوانِها ، لمَ تأخرتَ عنّي يا سلطان ، لا ! لمَ تأخرتُ أنا عنكَ وكنتُ في الخلف ، كنتُ وراءك بأميـال ، كنتُ بعيدة ، بعيدة ، قذرةٌ ولا أستحقُ أن ألامـس ظهرك حتى!
أردفت ، بصوتٍ كـان صافيًا من رجفـةِ الانهزامِ بعكسِ أطرافها ، بصوتٍ لم يكُن مهتزًّا/كان فقط هو الخسارةُ بذاتها! الخسـارةُ الممتلئةُ بثقتِها في الوقوع : لأني ما أستاهلك .. ما تستاهل وحدة ما كان أول رجال بحياتها أنت !


،



" كلامك صاير قليل ، غريبة لا تكون للحين تعبان؟ "
ابتسمَ بوداعـةٍ وهو يقولها لعبدالله الذي كان جالسًا بعيدًا بعضَ الشيء، ابتسامتـه كانت مستفزّة ، لكنّ عبدالله ابتسم على مضضٍ وهو يردُّ بنبرةٍ باردة : سلامتك ، بس ما عندي شيء أقوله.
وقفَ ياسِر وهو يبتسم : أجل أنا بخليهم يحضرون قهوة من جديد وأنتوا دوروا سوالف ما حكيتوا مع بعض كثير من بعد الغداء.
خرجَ وأدهم يتابعه بعينيه، نظـر إلى عبدالله بعدَ خروجهِ ليبتسم من جديدٍ ابتسامةً بريئةً – أبعدُ ما تكونُ عن البراءة - وهو يهتف : غريبة ما سألتني عنها؟ كل مرة أقابلك تقعد تحذّرني وكأني وحش وبذبحها.
عبدالله ببرود : لأنك تدري إنّك لو فكرت مجرد تفكير تأذيها بقطّع لحمك وأرميه للكلاب ..
أدهم يكتم ضحكته : أفا أفا!
عبدالله بحزم : انثبـر ، واحترم نفسك معي ! أنا مضطر أتقبلك لأنك صرت زوجها وأنت بالمقابل مجبور ، مو بس مضطر .. مجبور تحترمني !
مطّ أدهم فمـه بضجرٍ وهو يتراجعُ بظهرهِ للخلفِ ويلفظَ بتهكّم : يقولون كثر الهواش دليل المحبة.
عبدالله بسخرية : الله لا يجيبه لي من حب .. هذا اللي ناقص !
أدهم باحباط : لااا تكفى إلا أنت أبي أحبك !
عبدالله بغضب : أدهم اعقــل وإلا والله ... * زفـر ليردف بصوتٍ هادئٍ ظاهريًا * ما عندك مشكلة لا جاك عيال بعدين يكونون بقلّة أدبك؟
كاد يبتسم لتلك الفكـرة " العيال " لكنّه كتم بسمته وهو يلفظُ بتهكّم : الحين أنت تبي تنصح تروح تغلط؟ امحق والله !
عبدالله : للأسف لا جيت بنصح بالمعروف ما أحصل فيك شيء يحمّس.
أدهم بضجرٍ يسندُ مرفقـه على ركبتِه ومن ثمّ خده على كفهِ ليلفظَ بملل : أكثر كلمة طلعت من راسي .. " قليل أدب " !
ابتسمَ عبدالله رغمًا عنه في لحظةٍ لم يكُن يريد فيها أن يبتسم ، رفـع حاجبه وهو يلفظ : دام أحد قايلها لك قبلي فانتبه لهالنقطة ترى ما أقولها كره لك!
أدهم : لا ترى اللي قايلينها ناس من وراك .. الله بس على التوريث ذا!
عبدالله دون فهم : مين تقصد؟
ابتسمَ أدهم دون أن يذكر لهُ الاسم ، حوّر الموضوع ليسأله بمزاجٍ هادئ : كيفك؟
عبدالله بسخريةٍ وذهول : الله بس !!
أدهم يضحك بخفوت : والله من جد ما عطيتني فرصة من أول تقز فيني وكأني مجرم! كل ما جيت بسألك أحس إن صوتي لا طلع بيرتد لي مثل السكين ويقطع راسي.
عبدالله يُميل فمه بهيئةٍ ساخرة : اوووه طلعت تخاف؟
أدهم بتحدي : ما انخلق اللي أخاف منه !
عبدالله ببرود : الحمدلله طيب.
أدهم يعتدل في جلستـه ، مدّ يدهُ ليتنــاول كأس الشاي ، ومن ثمّ ردّ بهدوء : عاد بهالسن بتكثر عليك الجلطات وممكن سكتات قلبية و . . .
صمتَ ولم يتابـع حين لحظَ اتّساع عيني عبدالله بصدمة ، شعر أنه قال شيئًا خاطئًا فتنحنحَ بحرجٍ وهو يضـع الكأس ويُردف : قصدي يعني لازم تنتبه لطبيعة أكلك ..
لم يستطِع الإكمـال من ضحكةِ عبدالله التي صخبَت في المكـان ، حاول أن يخفِي حرجه بعقدةِ حاجبيه، وبـ " نرفزة " لفظ : وش اللي يضحك إن شاء الله؟
عبدالله يصمتُ دون أن تبتعدَ عنه آثارُ ضحكتهِ في احمرارٍ طفيفٍ زحفَ إلى ملامحه ، ضيّق عينيهِ وهو يلفظُ بضحكة : لا الله يسلمك بس لا عاد تحاول تكسب أحد.
أدهم بانزعاجٍ أمـال فمه ، انزعجَ من حرجِه أمامه ومن ربكتِه لذا لفظَ بوقاحة : لا تصدّق عمرك محد يستاهل أحاول مجرد محاولـة أكسبه.
هزّ عبدالله رأسه بالنفيِ يأسًا منه وهو يهتفُ بسخرية : اهجد بس وامسك لسانك وهالشيء يكفي . .
زفـر ادهم بامتعاضٍ وهو يحمـل هاتفه من جانِبه ويتجاهلُ الحديثَ الباقِي معه متشاغلًا به، بينما ابتسم عبدالله .. حسنًا لا يملك سوى أن يتقبّله ، وضحكته اليوم وابتسامته معه تُثبت أنه بدأ فعلًا بذلك .. لا يُملك سوى تقبّله ومحاول تغييره إن لزمَ الأمـر.

من جهةٍ أخـرى ، عقدَت حاجبيها باستنكارٍ وهي تُخفِض هاتفها إلى جُحرها هاتفـةً بنصفِ ابتسامةٍ سارّة : الله! ومين سعيدة الحظ هذي؟
هديل بحيرةٍ وهي تبتسم : ممم باقي ما قرّرنا ، بس أتوقع ماراح يبعدُون عن بنات عماني ..
تصلّبت ملامح إلين فجأةً حين جالَ بخاطِرها " رانيا "، هل يُمكن أن تراها في يومٍ ما زوجةً لياسر؟ بالتأكيد لا تتمنى لها الشر، لكنّها في الـقابل تتمنّى لياسر من هي أفضل! مرّرت لسانها على شفتيها بضيق، ليسَت حقودة! ليست حقودة ، لكنّها لا تستطيع أن تحتمـل فكرةَ زواجها بالشخصِ الذي ظنّت بها سوءً معه!
لفظَت بنبرةٍ فاتـرةٍ حاولَت بها أن تبتسم : طيب خالك يوسف؟ أرجوان ماهي متزوجة وحتى جيهان تطلّقت حتى قبل لا يتم زواجها بولد خالك الثاني.
تقطبت ملامح هديل بضيق : تصدقين؟ كنت أتمنى لو يتزوج أرجوان أو حتى جيهان .. بس مدري جيهان مستحيلة ، ممكن أرجوان وبكلم امي وأبوي وحتى هو بنستشيره.
ابتسمَت إلين بصدق : أي طبعًا كلمته هي الأهم .. يا رب تكون أرجوان من نصيبه مافيه أحلى منها خَلقًا وخُلقًا بين قريباتك.


،


يكرّر الاتصـال مرارًا وتكرارًا وعقلـه يكادُ أن يُجن! منذُ ساعاتٍ وهو يحاول أن يتّصل بِه دون ردّ، في بادئ الأمـر كان يرد عليه بأن يُنهِي الرنينَ بملء أنامله! غضب، خصوصًا أنه أرسل لهُ توضيحًا شاغرًا باستفزازٍ كافٍ " ماني راد لين تفكّر بالموضوع كويس " ، أغضبته تلك العبارة ولم تجعله يتوقّف عن الاتصـالِ به ، لكنّه فيما بعد أصبـح يرنّ ويتوقّف دون إجابةٍ أو حتى بترِ رنين!! اضطربَ قليلًا ليرسلَ إليه رسالةً بلهجةٍ حادةٍ فوق الأسطرِ الزائلة " إذا كنت تشوف اتصالاتِي وما ترد يا ويلك! " لكنّه أيضًا لم يكُن يرد، ليرسل إليهِ أخيرًا بقلقٍ جرفـهُ مع أمواجِ الخشيـةِ دون قاربِ نجاة " طمّني أنت بخير؟ " .. لا يُمكن أن يكون أصابه شيء! يعلـم ويدرك جيدًا أن كلّ شيءٍ لم ينتهِي بعد، وأن متعب لم يخرج من دائرةِ الخطـر حتى الآن، لذا كان من الطبيعيّ أن يقلق الآن ، أن يخافَ من فكرةِ فقدِه من جديدٍ وهو الذي لم يظهَر سوى منذُ أيـامٍ قليلـة! لربّما لازال جزءٌ من عقلـه يفكّر أنه يحيا بعضًا من الأحـلامِ حدّ أنه في لحظـاتٍ ما ينظُر إليهِ مطوّلًا دون تصديق ، لذا ففكرةُ أن ينهضَ ويكتشفَ أنه في حلم، فكرةَ أن يُصيبه شيء! حريٌّ بها أن تُصيبه بالجنون !!!
مرّر لسانه على شفتيه بتوتّرٍ وهو يعُودُ ليتّصل به، يجلِس في الصالـة بعدَ أن مرّت ساعاتٌ على غداءٍ باردٍ برفقـةِ أمه التي اعتصَمت هذهِ المرّة الغضب، لم تكُن تنظُر إليه وكأنها كانت تعلّق بقيّة أمالِها في الرضا بعد أن يسمع بخبَرِ حمـلها، فكان ردّه صادمًا جدًا لها، ردّه الذي كـان بعيدًا جدًا عمّا توقعته.
لم يجِد ردًّا، حينها وضعَ كفيه على رأسه بعدَ أن ألقى الهاتفَ جانبًا ، هو بخير ، بخير ، نعم بخير .. يحاول الآن ألّا يلِج معمعـةَ التصدِيق بأنّه ليسَ بخير ، نعم ، لن يصدّق ظنونَه ويغرقَ في وجَعِ الموتِ من جديد .. نعم ، نعم !!! هو بخير ولم يمُت من جديد!!
من جهةٍ أخـرى ، عـادَ للفندِق بضجرٍ وإرهاقٍ بعضَ الشيء ، مكَث وقتًا وهو يسردُ تفاصِيل باتت مملّةً بعضَ الشيء وليسَت موجعةً وحسب! رمـى جسدهُ على السرير، وضـع ذراعـه على جبينه ومن ثمّ أغمـض عينيهِ بإرهـاق، يشعُر برغبـةٍ بالنومِ تتسلّل إلى عينيه، كـان قد سأل عبدالله عن الموضوعِ الذي يريد الانتهـاء منه سريعًا " أسيل " وجاءه الرد بأن ينتظـر قليلًا، سيحاول أن يتمّم كل شيءٍ بسرّيةٍ أو ينتظرا لبعض الوقت، لكنّه يريد الخيـار الأول، لا يريد أن يتأخر الموضوع فتتضاعفُ حساسيّته في نفسِ شاهين ، هو لن يُوضـح إن كان ما حصل يضايقه أو لا ، لا ينكر أنه متضايق! أنّه تمنـى أن يعود .. وكلّ شيءٍ كما هو! لكنْ الآن رغمًا عمّا تمنـى اختـار ماهو صحيح ، وما يريده الآن ! أمنياته القديمة خضعَت لليوم ، هو لا يريدُ شيئًا أكثـر من أمّه وأخيه ، لذا لن يبـالي بشيءٍ آخـر الآن وسيُضمـر مشاعرهُ وسينسى أنّه يومًا ما أحبّها !
في خضمِ تلك الأفكـارِ الصاخبـة، والذي شعـر بِها تُنشئ صريرًا حادًا في أذنيـه ... نام!


،


كم من الاستفزاز الذي تملكه الكلمـات؟ ربّما ما هو أكبر من الأفعـال حتى!، النبرةُ المتحكّمة بوتيرةِ الانفعـال، الشفاهُ حين تتحرّك وينأى عن متلقّي الكـلامِ الهدوء ... هذا ما حدث وهو يقتـرب منها وقد انفجـر بالشكلِ الكافي حتى يُصيبها بالرعبِ وتتراجع! .. لم يكُن يحتاجُ المزيد ، لم يكُن يكفيه هذا العنـاد حتى تستفزّ انفعالهُ أكثر بعد أن أصبـح هادئًا قبل أن يعلمَ بخروجها/هربها، ومن ثمّ يتحكّم بهدوءٍ زائفٍ وهو هنا! .. لكنْ كانت كلماتها الأخيرة الحدودَ التي تجاوزَ الهدوءُ بها أقصاه!
تراجعَت غزلْ بخوفٍ ما إن رأته يندفـع إليها، لم تكَد تلفظُ بشيءٍ ما حتى شعرَت بقبضتِه تشدُّ على معصمِها ليسحبها نحوه ومن ثمّ يلفظُ بغضبٍ ناريٍّ وعينينِ اشتعلتا كأتونٍ كافٍ ليحرقَ غابةً مخضرّةً ويحولها إلى رمادٍ أسود! : وش هالوضاعة؟ أنا كم مرة قايلها لك ... كم مرة قايلها يا غزل؟ بأي وقاحة قاعدة تستفزيني وتكررين هالموضوع الحقيييير!!!
فغَرت فمها بذهولٍ دون أن تفهـم ما يعنِي، كانت تريد أن توضّح أكثر، لكنّ الرعب عقدَ لسانها وهو يردفُ بغضب : مصرّة تقللين من نفسك قدامِي دايم؟ .. أنتِ أيش بالضبط؟ مثيرة للشفقـة ، فاشلة! ما تعرف قيمتها بهالعالم ، متوقفة عند نقطة وحدة ومطبّ واحد وللحين طايحة فيه وما رضيتي توقفين ! .. لأي حد وصلتِ من اليأس؟
حاولَت أن تسحَب معصمها ببهوتٍ وتبتعد ، تبتعد! قُربها منه بهذا الشكـل أرعبها بطريقةٍ أو أخـرى، صوتُه الحـاد والذي جعلها تدرك أيّ إدراكٍ جال في عقله كان يُصيبُ ظلالـها بالبهوت ، شعرَت باستقامتها تهترئ، وصوتها يتناقـص بل يتلاشى! .. حتى حينَ جاءت باعترافٍ كـان اعترافها مزدحمًا بالخلل! قالت " ما تستاهل وحدة ما كان أول رجال بحياتها أنت ! " لتجيء المعـاني متوقفـةً عند نقطةٍ واحدةٍ ككلّ التفسيرات ، عند تلك الليلـة ! تشعّبت كذبتها حتى في الحقيقةِ المحضـة ، يُحسِن ظنّه حتى الآن أو هي من تجرأت في الكذبِ حتى غُرسَت جذوره في تربـة الحقيقةِ والوقائع الصادقـة . . كيفَ تصرّ أن تقلّل من ذاتِها إن كـانت هي دونَ قيمةٍ من الأساس! يُؤلمنـي هذا الظن ، لم أكُن واللهِ مجبرةً على فقدِ عفّتي ، كنت أنا الخطأ! أنا من انسَاقت إلى ذاك الطريقِ الوعِر ، لم أكُن مجبرةً وأنا اخترت! قالها لـي ، قالها لي قبلًا بملء الصوتِ الذي يُرعشنـي كلّما تذكّرته وأشعر بسببِه باحتقارٍ أكبر لذاتِي " ، لا تتصنّعين العفة وأنتِ من جنبها "، وأنا من خسرَت نفسها بملء إرادتها ! لذا لا تُحسن الظنّ أكثـر ، لا تحسن الظنّ أكثـر لانّني منذ البداية كنتُ .. – دون قيمة -!!
هزّت رأسها بالنفي ، لمَ لا تقول شيئًا؟ لمَ لا تستطِيع أن توضِح له أكثر؟ لم لا تقول " فقدت نفسي قبل تلك الليلة ، كذبت عليك! " لمَ لا تقولها؟ .. فتحَت فمها بملءِ ما تستطِيع ، كيفَ تُنطَق الكلماتُ إن التوى اللسـان وخذلنا؟ لمَ تخذلني الآن حين تشجّعت؟ لمَ لا تبزغُ يا صوتِي من بؤرةِ الحقيقة؟ ألا أُجيد إلا الكذب؟ .. يا الله اجعلني أقولها! أريد أن أقولها! أريد أن أكره نفسي أكثر ويكرهني هو .. يا الله ساعدني! ساعدني على القول ، ساعدني على الاعتراف ، على الانهزام ، على خسارتِه يا الله .. ساعدنِي على نفادِ حياتي بسرعة !
لم تستطِع ، لم تستطِع .. حاولت أن تتكلّم ولم تستطِع ، تلاشَت الرؤيـة أمام عينيها ولم ترى في تلك اللحظـة ملامحه ولا ملامح امّها التي كانت قد وقفَت خلفهُ وهي تلفظُ بكلماتٍ ما غاضبـة ، لم ترى شيئًا ودموعها تسقُط بقهر ، تسقُط قهرًا على لحظةٍ كهذِه ، كلّ شيءٍ لا يسير كما تريد! لا يسير كما هو صحيح! .. تساقطَ دمعها ، شدّت قبضتيها بقوّةٍ وأحداها كانت معلّقةً في الهواءَ بسببِ يدِه التِي تقيّد معصمها ، اجتذبها سلطـان بهدوءٍ مفاجئٍ لتحطّ على صدرِه كحمامةٍ لم تجِد غصنًا يحملها وجاءَ هو ربيعًا مخضرّا انسدَل بأغصانِه ، أحاطَ خصرها بإحدى ذراعيه، ومن ثمّ رفـع كفّه الأخرى ليمسـح دموعها وهو يلفظُ بصوتٍ لا تعبيرَ فيه : جيبي عبايتك وامشي معي.
هزّت رأسها المدفون في صدرِه بالنفي ، لا تريد ، تريد ذلك ولا تريد ، .. شدّ على خصرها بحدةٍ وهو يكرّر بنرةٍ محذّرة : جيبي عبايتك وامشي معي.
لا لا لا .. هذا لا يصح! ذلك زائف ، أنا زيفٌ لم يرتقِي يومًا لحقيقتك ، لا يصحُّ أن نكون سويّةً ، لا يصـح .. أن تحتضنني الآن ، وتمسح دمعي .. وأنت غاضبٌ مني! لا يصحُّ أن أعيش تناقضاتِك برقّتها وخشونتها على هلاميّتي .. لا يصـح ، أنا زيفٌ وأنت حقيقة!!
حرّك كفه التي كانت تمسحُ دمعها ليُمسك رأسها من الخلفِ ويثبّته عن الهزّ بالنفي ، وبغضبٍ مكتومٍ يحاول ألا يُظهرهُ أكثـر : يكفي! اعتراض ثاني .. عناد ثاني ... ووالله ما بتشوفين مني شيء يرضيك! تراني قربت أوصل حدودي منك يا غزل ، وأتوقع ما ودك تشوفيني أتجاوز هالحدود !
ابتلعَت ريقها بألم ، وعـادت دموعها تسقُط من جديد ، وهي تهمسُ بصوتٍ يختنـق حين يرتطمُ بصدره أكثر مما هو مختنق : حرام شخص بنقاءك أكون أنا زوجته !!
ابتسـم بعصبيةٍ وهو يهمس : وام عيالي بإذن اللي جابك بحياتي !
تشنـج جسدها ، وفي لحظـةٍ خاطفـة ، كانت هذهِ المرّةَ تنفجـر ببكاءٍ متحشرج ، دفنَت وجهها في صدرهِ بقوّةٍ وكانها تُخبّئ وجهها الممرّغ بالذنبِ في ملجأ الكفاراتِ أجمـع ، هامسـةً باختناقٍ وألم : حــرااام ، حــرااام والله حـــــرام.
سلطـان يمسحُ على شعرها بهدوءٍ وهو يهمس بحزم : شششش .. لا تحرّمين اللي أحلّه الله .. الجمـال المُباح خصيصًا ما أرضى يُحرّم علي بيوم .. فلا تتجرأين وتقولينها !
غزل برجاءٍ تريده أن يصمت : سلطــان أرجوك !
سلطان بغضب : يكفي .. كم مرة لازم أفهم عقلك الغبي إنّي أنا اللي أبيك وأنا اللي متمسّك فيك فوق بزرنتك المزعجة هذي ! تراك قاعدة تزعجيني بس في سبيلك أصبر.
غزل برجاءٍ عميق : ما يصير .. والله ما يصير !
أبعدها عنه قليلًا ليثبّتها من كتفيها بكفيه ، وبحزم : يلا جيبي عبايتك وحيوانك المزعج مثلك وامشي قدامي.
هزّت رأسها بالنفي من جديدٍ وهي تغمـض عينيها برفضٍ وإصرار، لكنّه هذهِ المرّةَ صرخَ بغضبٍ وصبـرٍ نفد : امـــشـــي دام النفس عليك طيبة !!
ابتلعَت ريقها وهي تفتحُ عينيها ، ورغمًا عنها وجدَت نفسها تتراجـع للخلفِ وهي تشهقُ ببكـاء ، تشهقُ الخسـارة ، في كلا الحالتين ، في قربه وبعدِه ، لم يكتبْ لها أن تفوزَ بشطرِ قصيدةٍ غنّته في أبياتِها وكانت هيَ تسكُن الفراغ في المنتصفِ ما بينَ الشطرين!، لم يُكتب لها أن تحظـى برُبـع رغيفٍ وصل إليها من يدِه في خضمِ فقر الابتسامات ، كـانت تبتسم! لكنّ كلّ الابتساماتِ معه لم تتكوّن في غِنا، لم تتكوّن في تخمةٍ تغنيها عن بقايا ابتساماتٍ من بعدِه ، لم أكُن يومًا سوى منتصف! أنا خطأُ الامتزاج ، لم أُنصِف الأبيضَ والأسودَ في تجانسهما يومًا ، لم أكُن برماديّةٍ مستويةٍ وانسكَب الأسودُ في زواياي لذعـةً أكبـر ، أنا النهاياتُ يا سلطان لم أحظى يومًا ببدايةٍ مسرّة ، كيفَ لبشرٍ أن يُذيّلَ في قائمةِ السعادة؟ الجزء الذي لن يكون سعيدًا أبدًا رغـم التحاقِه بالاسم ذاك ! لأنّني بعيدة! بعيدةٌ جدًا انتهَت السعادةُ قبـل أن تقاسمنـي بقايا! .. لم أكُن يومًا اللون المعنيّ في التنسيق وانسكبتُ سهوًا، لم أكن يومًا النوتة المقصودةَ في السمفونيّة وانزلقتُ من أصابِع العازف " غلطة "، لم أكن يومًا البيتَ المُختار وانتفضتُ على الأطـلالِ اختلالًا .. أنا زيفٌ خُلـق من رحمِ التعاسة!
ابتعدَت ، بينما مرّر سلطـان نظرةً حادة ، كـانت مباشرةً تتّجه لامها التي كانت تراقبُ في زاويـةٍ بعيدة ، في زاويةِ حسرة!

يُتبــع . .

كَيــدْ 03-08-16 10:40 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


اقتربَ من حيثُ يقطُن وهو لازال يسيرُ معه ، أطـالوا في المطعـم، ما بينَ أحاديثَ عابـرةٍ وأخـرى ، في النهاية استأذنَ للعودةِ من أجلِ بناتِه واتفـق أن يلتقِي بِه بعدَ ساعاتٍ أُخَر.
الساعـةُ شارفَت المساسَ بالتاسعـة، كـان قدْ وقفَ أمام بابِ المبنـى وهو يبتسـم لهُ بهدوءٍ ويشكـره : استمتعت كثيرًا بالحديثِ معك .. وشكرًا من جديد على مساعدتك تلك.
ابتسمَ لهُ تميم وهو يومئ برأسه، دخـل يوسِف وتلاشى عن عينيهِ بينما ارتفعَت عينا تميم بهدوءٍ حتى استقرّت على النافذةِ التي كـان الضوءُ يتسلّل عبرها ، كـانت مفتوحـةً والستائُر الشفافةُ تكادُ تغادِر الغـرفةَ هربًا إلى البلكونةِ التي زاحمها الضيقُ في مساحةٍ صغيرة ، أمال فمه ببرود ، ومن ثمّ أخفضَ رأسه ليمشِي وهو يدسُّ يديهِ في جيبي معطفِه ، ينظُر للأسفـل بنصفِ شرودٍ جعله يصتدمُ بجسدٍ أمامه ويُكمـل سيره متجاوزًا لهُ وهو يلفظُ بصورةٍ عابـرةٍ ودون أن ينتبـه لكونِه تحدّث بلغته الأم : معليش.
نظـر نحوهُ فوّاز وهو يعقـدُ حاجبيه ، ومن ثمّ أمالَ فمـه وهو يبتعـد عنه ، وما إن اقتربَ من البـابِ حتى ارتفعَت أنظـاره هو أيضًا للنافذةِ المفتوحـة، تضاعفت عُقدةُ حاجبيه ، هذهِ الغـرفة على ما يظنُّ أليسَت غرفـة نومها مع أرجوان؟ ... مرّر لسانه على شفتيه وهو يتنهّد ، وبخفوت : منك لله يا الشوق! أنا وش قايل وبأيش قاعد أخربط؟ مو اتّفقنا نحاول ننساها؟! ما أشوف قلبي يحاول !
عضّ شفتـه بحنقٍ وهو يُكمـل سيره ، بينما اختبأ جسدهـا خلفَ الجدارِ وهي تضـع كفّها على صدرِها ، تتنفّسُ بحدةٍ وتغمـض عينيها بقوّة ، الوضع غير طبيعي! لما باتت تراه كثيرًا وإن كـان بصورةِ لمحـةٍ ترسـخ في عينيها ولا تغيبُ حتى تنام !!
نظـرت لها أرجوان بعد أن رفعَت رأسها عن الكتابِ باستنكار : شفيك؟ خلّصتي قز؟!
جيهان بقهرٍ من بينِ أسنانها : انطمي !
أرجوان تُميل فمها بسخرية : الحين ماسكة قلبك بسبب الوسيم اللي مع أبوي؟
رأيتُه ورأيت أوسـم الرجـال في عيني ! .. كانت تلك الإجابـة التي لامسَت شفاهها لكنّها لم تخضع للقول ، لا أحـد بالتأكيد سيأتِي أعلى مرتبةً منـه في عينيها ، في كلّ شيء !!! عضّت شفتها ، ومن ثمّ تحركت بهدوءٍ كي تُغـلق النافذة لكنّها قبـل ذلك تاكدَت من كونِه لم يعُد في الأسفـل، تخشى أن تتصادَم عيونهما فتنبثق الأشواق بملء ما تستطِيع !


،


تقلّب فوقَ السرير والصحوةُ تشارف أن تغزو عينيه ، فتحهما ببطءٍ وهو ينقلبُ على جانبِه الأيمـن ، مكثَ لثوانٍ قليلـةٍ قبل أن يرى أمامه بوضوحٍ وأوّل ما سقطَت عيناه كان على النافذةِ المتباعدةِ ستائرها ، عقدَ حاجبيه بنعاسٍ وهو يغمضُ عينيهِ مرارًا ويفتحهما ، كان الليـلُ يتحدّاهُ بسواده الحالك ... انتفـض جالسًا فجأةً وعينيهِ تتّسعـان، نام حتى هذهِ اللحظة دون أن يشعر !!! .. لم ينتظـر ثوانٍ حتى يقفَ بسرعةٍ ويتّجه للحمـام بينما هاتفه الذي كـان قد سقطَ من جيبِه في نومِه سقطَ الآن عن السرير حين نهـض بعجلـة ، دخـل للحمـام ليمسحَ وجهه ويتوضّأ ، خرجَ بعدَ وقتٍ قصيرٍ ليصلّي ما فاته وهو يستغفـر نومهُ عن الصلاةِ دون شعور ، مرّت دقائـقُ طويلة قبل أن يجلـس على السريرِ وهو يتنهّد بخمولٍ يزحفُ في جسدِه ويستحوذُ عليه .. تذكّر هاتفـه ليبحثَ عنه بعينيهِ على السرير، لم يجدهُ ليعقدَ حاجبيه وهو متأكدٌ من كونِه كان في جيبِه إلا أنه لم يشعُر بِه لذا بحثَ بأحداقه على الكومدينة ، سقطَت أنظـاره عليه على الأرض .. زفـر وهو ينحنِي إليه ويحمـله ، وجدهُ مغلقًا ليتمتم بضجر : كان فيك شويّة شحن !!!
لوى فمه بضيق، ومن ثمّ مدّ يدهُ ليأخذ الشاحن من على الكومدينةِ ويوصله، انتظـر قليلًا ليفتحـه ، وفي خلالِ لحظـاتٍ كانت عيناه تتّسعـانِ بصدمةٍ وهو يرى الكمّ الهائلَ من المكالمـاتِ وبعض الرسائل التي وصَلت إليه .. كلها كـانت من شاهين !!!
اتّجـه للرسائل ببهوتٍ ليفتـح آخـر رسالةٍ وصلَت إليه من بينِ أكوامٍ من شبيهاتها ليجدَ المكتوب فيها " الله يحفظك ، الله يحفظك "!! .. ضربَ جبينه وهو ينزل للأسفـل حتى وقعَت اصبعه على رسالةٍ سابقـةٍ أرسلها لهُ قبل صلاةِ العصر بوقت " طمّني أنت بخير؟ " .. فهمَ الآن لمَ نفدَ شحنُ هاتفِه رغمَ أنه بقيَ فيه القليل ، يبدو أنّه اتصـل بهِ حتى نفد !! .. كان يتّصل بِه منذُ ساعاتٍ طوالٍ والآن الساعـةُ تقتربُ من العاشرة!! ... اتّصل بِه مباشرةً وهو يدركُ جيدًا القلـق الي سكبـه في صدرِه ، كـان يقطّب جبينه بقلقٍ هو الآخر وهو يفكّر بحالتـه الآن .. لم تكتمـل رنّتين فقط حتى جاءه الردّ سريعًا بصوتٍ صارخٍ غاضب : أنت ويييييين ما ترد؟!!!
متعب بربكةٍ بعض الشيء : معليش والله .. كنت مخلي جوالي سايلنت وبعدين نمت شكله تقفل وقتها.
كـان شاهين قبل اتصاله هذا ينزلُ عتبـات الدرجِ وحين وصلَه الرنين ردّ مباشرةً وتوقّفَ في منتصفـه ، ارتعـش بانفعالٍ بعدَ كلمـاته تلك ، ومن ثمّ ودون شعورٍ كانت ساقاه قد فقدَت قوّتها ، ساعاتٌ مرّت وهو يتخيّل ماقد يكون حدَث له كي يتّصل بِه ولا يرد ومن ثمّ ينطفئ هاتفه فجأة! ساعاتٍ عاشها في صراعٍ وهو يتخيّل أن يفقده من جيدٍ بعدَ أن عـاد من الموت ... جلسَ على الدرجِ بهوان وكفّه الحاملـة للهاتِف ترتعـش، شدّ عليها وهو يشدُّ على أسنانه بغضب ، وبراحـة ، وباطمئنـانٍ لم يظهر وهو يلفظُ بحدةٍ غاضبـة : وين أصرفها ذي؟ تبي تجبرني يعني أرجعها وإلا شلون؟ تتوقّع بأسلوبك الحقير هذا بتريحني في النهاية؟ لمّا تشككني إنك متّ من جديد بتكسب؟ ما بتكسب إلا موتي!
متعب بهدوءٍ يحاول أن يُهدّئه : تعوذ من ابليس لا تكبّر الموضوع ...
قاطعـه شاهين بغضب : أكبـر الموضوع؟ أنت مستوعب إنه ما مر إلا كم يوم شلون تبيني أتقبّل سالفة تموت من جديد يا متعب وأنا باقي أتمنى ما أكون بحلم؟
متعب بتفهّم : آسف وحقك علي .. خلاص مرة ثانية ما بخليه سايلنت وبيكون قريب مني بس اهدا شوي.
مسـح شاهين على وجههِ وهو يحاولُ تهدئة قلبـه المنفعـل منذ وقتٍ طويل، تنفّسَ بعمقٍ وهو يمرّر لسانه على شفتيه الباهتتين ، ليلفظَ بعدَ لحظـاتٍ بصوتٍ لازال منفعلًا قليلًا : وينك؟
متعب بهدوء : في الفندق.
شاهين : تعشيت؟
متعب : لا.
وقفَ شاهين بقدمينِ خاملتين ، شعرَ أنه يشدُّ على عضلاتِه بقوّةٍ في وقوفِه ويُجهدها لكنّه قاومَ وهن جسدِه وهو يقف ويلفظ : بمرّك الحين ونطلع نتعشّى.
متعب يقطّب ملامح بضيق : لا مو بخاطري توني صاحي من النوم ومالي خلق.
شاهين باعتراض وهو يتحرّك نازلًا : متعب بــد . . . . * بصدمـة توقّف فجأةً مردفًا ببهوت * يمـــــــــه !!!
تجمّد جسدهُ بصدمةٍ وأنفاسه تعرقلَت بينما تصلّب جسدُ متعب من الجهةِ الأخـرى دون استيعاب، لفظَ بتساؤلٍ وشك : شفيها امي؟!
شاهين يفرجُ شفتيهِ بارتباكٍ وهو يرى نظرتها الغريبـة تلك : أ .. هذا ، هذا خويّي ... اسمه متـ ، متعب . .
نظـرت لهُ ببرود، لكنّه كـان يعرفها جيدًا ، كان يدركها أكثر من نفسِه، لذا لمـح نظرة الحزنِ تلك وهي تشيحُ بوجهها عنه وتبتعدُ دون أن تنبس بشيء !
زفـر شاهين وهو يغمـض عينيه، براحـةٍ وبدونها! تلك النظـرة المجروحة لسماعِها اسمه شعر أنها قتلته! عائد ، ابنكِ عائدٌ فانتظـري !
ابتسـم بلهفةٍ وهو يخطو نحو البـاب، يتلهّف لفرحتها التي سيمهّد لها قبلها كي لا تصدمها بدرجةٍ قد تقتلها ، يتلهفُ لأن تُعـاد الأيـام الخوالي ويجتمعوا ثلاثتهم في منزلٍ واحد . .
عقدَ حاجبيه فجأة ، هل يمكن أن يجتمعوا فعلًا ومن بينِ المعضلات واحدةٌ لم تحل؟!
زمّ شفتيهِ بضيقٍ وهو ينتبه لسؤال متعب القلق عن امه ، ليردّ بكآبة : لا تحاتي ، خفت من كونها سمعتني بس.


،


علّقت عباءتها ومن ثمّ تمطّت بإرهـاق ، تشعُر برغبـةٍ عارمـةٍ بالنوم، جسدُها واهِن ، أرادَت في تلك اللحظـة أن تستحمَّ قبـل أن تنـام لكنّها لم تستطِع سوى أن تبدّل ملابسها وتفرّش أسنانها ومن ثمّ تستلقي وهي تتناولُ الكريم المرطّب في اللحظـةِ التي كـان فيها أدهـم في الحمـام، خرجَ وهو يجفّف شعره ولا يرتدِي سوى بنطالِ بجامتـه ، في تلك اللحظـةِ كانت توزّع المرطّب على ساقِها اليُسرى وما إن شعرت بخروجهِ حتى أخفضَت بنطـال بجامتها بسرعةٍ وتوتّر ، تصنّع أنه لم يرَها حتى لا يُحرجها ، بينما كـانت إلين تُشتّت عينيها بربكةٍ لم تكُن فقط من ساقِها المكشوفة بل من مظهرهِ الذي أصبـح هو الدائـم حين خروجه من الحمـام ، لفظَت بصوتٍ لم تستطِع أن تُزيحَ عنه الخجلَ والغضب : لا تطلع لي كذا كم مرة أقولها لك وتعاند؟!!!
نظـر أدهم نحوها وقد بدأت توزع ما بقيَ من المرطّب على ذراعها من الربكـةِ دون أن تنظُر نحوه حتى ، أمـال فمه باستفزازٍ ليلفظَ محاولًا إغاظتها : قلتيها .. عناد ، أنتِ تذكرين فقرة اعترافاتِك بعيوبي وقلة ذوقي؟ من بينها هالشغلة، وأنا قرّرت أسوي كل شيء عكس ما تبين.
إلين بحنق : مُستفز !!!
أدهم بانتصـار : يسعدني اعترافك واستسلامك السريع .. عقبال الاستسلام من كل النواحي . .
إلين تنفخُ فمها بقهر : تبطي.
أدهم يرمي المنشفـةَ على أقربِ كرسيٍّ ومن ثمّ يمرّر أصابعه بين خصلاتِ شعرِه التي لازالت مبلّلةً بعض الشيء، اتّجـه للسريرِ حيثُ وضـع على أحدِ طرفيه قميصَ بجامته، وببرود : طبعًا هالشيء بيختلف حسب ظنّي مع النوم نفسه مع إنّي ما أحب أنام وأنا لابس القميص أحس تطلع الحرارة من راسي بس عشانك كله ولا تهونين.
إلين تنظُر للناحيـة الاخـرى، كانت تشعُر بالربكـةِ من شعورِها باقترابِه، لفظَت بتهكّمٍ وأصابعها تتلاعبُ بطرفِ قميصها الزهري : شكرًا على الذوق يا كذّاب ..
جلسَ أدهم على طرفِ السرير وهو يرتدِي قميصه ويلفظ بعتب : شدعوى ! ليه كذاب بس؟
إلين دون أن تنظُر له : هالغرفـة متى آخر مرّة غيرت أثاثها؟
ابتسـم : أول شيء ناظريني ترى لبست .. ثاني شيء تبين تغيرين فيها؟
نظـرت نحوهُ بتردد، وقعَت عينيها على عينيهِ الملتمعتينِ بمشاعِر صاخبـةٍ لتشتّت أحداقها مباشـرةً بربكـة ، وبكلماتٍ مُرتجفـة : لا بس أبي أعرف.
أدهم يُجاريها : لها أكثر من سنتين.
أمالت فمها بسخريةٍ وهي تعودُ لتنظُر نحوه : ما شاء الله؟ كيف كنت تنام بسرير مزدوج بروحك ما كنت تحس بإحساس إنك ممكن تثق فيه وتتقلب لين تطيح عالأرض؟
نظـر لها دون فهمٍ بادئ الأمـر ، لكنّه سرعـان ما انفجـر ضاحكًا بعدَ استيعابِه لما تقصد ، كانت تقصدُ كلماته لها في أولى أيامهما حين تعذّر برغبتـه في نومِها بجانِبـه مرةً .. لفظَ بنبرةٍ متسلّيةٍ من بين ضحكاته : كنتِ مخليتها بخاطرك من يوم جيتي؟ ليه ما قلتيها بوجهي من زمان !!
إلين بحنق : كذا ما جاء في بالي أقول بوجهك إنك كذاب وسامج ومالك داعي أبدًا إلا اليوم!!
أدهم بوداعـةٍ وملامحه تسترخِي : عاد كنت بس أبي مخدر والله !
إلين : يا مكثرها بالصيدليات وبكل مكان بس أنت قليل أدب هذا اللي فالح فيه.
أدهم : ااااخ يا قلّة الأدب محتاجها الحين والله !
احمرّت ملامحها لتتراجـع للخلفِ قليلًا وهي تفغـر فمها بخوفٍ من أن يكون يريدها الآن ! لم تردّ عليهِ وهي تغـرق في خوفِها الذي طغى على خجلها، بينما ابتسـم أدهم بلؤم ، وبرقّة : لا تخافين ما آكل ترى !
إلين بتوتر : الطفيليات تاكل البشر بمعنى الأكل؟
أدهم بتلاعبٍ وهو يقتربُ منها : ممم أنتِ وش تشوفين؟
تراجعَت للخلفِ وهي تلفظُ برعشـةٍ خافتـة : ما تآكل بس تأذي!
أدهم يرفعُ حاجبه الأيسر : الطفيلي اللي قدامـك يحبك هذا الفرق.
ابتلعَت ريقها بصعوبـة ، وبغصّة : لا عاد تقولها !
أدهم يُميل فمه : وليه إن شاء الله؟
إلين : لأنك كذاب.
أدهم بحنان : أقدر أغيّر كل هالنظـرة من عيونك الجميلة هذي.
إلين برفضٍ تهزُّ رأسها بالنفي : ما أبيك تغيّرها.
مدّ يديهِ ليُمسكَ معصميها ، حينها انتفضَت بصرخـةٍ مكتومـةٍ وحاولَت سحبهما برجفـة إلا أنه شدّها إليه وانحنى بوجههِ أخيرًا ليلامـس جبينها بشفتيه، شعـر بارتعـاشها الخائف ، كان يدرك خوفها من اقترابه والذي أظهرته لهُ منذُ أوّل ليلـةٍ في انفعـالٍ عنيف ، لازال يذكُر تلك الرجفـة التي صفعتـه بها وكأنها كانت على مشارِف موتٍ وهو القاتل! .. شدّ على معصميها وهو يقبّل جبينها مرةً بعدَ مرّة ، بينما همسَت هي برجفةٍ وخوف، بنبرةِ رجاء : لا تجبرني ... الله يخليك لا تجبرني عليك بهالطريقة !!
أدهم برقّةٍ وحنانٍ وأنفاسه الحـارةُ تشعر أنها أذابَت بشرتها : مستحييييل أسوّيها فيك ... تدلّلي يا أميرة ، تدلّلي وتغلي علي الدلال ما انخلق إلا لك ..
إلين بضعف وقلبها تشعر أنه يكادُ يخرجُ من أضلعها بعد أن يحطّمـها : لا تنام وأنت غاضب علي !
ابتسـم على براءةِ تفكيرها وهو يشدّها إلى صدرِه : أحد يزعل من نجلاءة العين؟
إلين بربكـةٍ وكأنها تستغلّ لحظـاتِ وداعتـه ورقّته بعيدًا عن صفـة العناد : ولا عاد تناديني بهالاسم .. لو تحبني جد ولي مكانة بقلبك لا توجعني فيه !!
ضحكَ بخفوتٍ وهو يحيطها بذراعيه ويضمّها لصدرِه، أسندَ ذقنـه على رأسها ومن ثمّ أغمضَ عينيه وهو يهمـس بحنان : أبشري ، ولو إنّي ما أحب إلا هو .. أحس فيه إنك لي وبس !
إلين وأنفاسها تخترقُ قميصه وتُصيبُ بشرته مباشـرةً في مقتل! يشعُر أن خلاياهُ تهترئ ما إن تصفعـه بحرارةِ كلمـاتها الباعثـة للحمم : الواقـع إنّي لك .. للأسف !
أدهم : ههههههههههههههههههه عطيتك وجه وتماديتي !!
أبعدَها عنه وهو يبتسـم ، وضـع كفّه على شعرها القصير ليداعبـه برقّةٍ ويُردف : يلا يا أميرتي نامي الحين .. بشوف لمتى بتخليني أصبر على تغلّيك ..
إلين تبتلعُ ريقها بحرجٍ وهي تُشيح وجهها دون رد، اتّسعت بسمتـه وحُمرةُ وجنتيها كانت كالزهرِ الذي دائمًا ما يراها فيه .. مرّر لسانه على شفتيه ، بينما اعتدَلت هي حتى ابتعدَت عنه بصمتٍ مضطرب ، ومن ثمّ سحبَت اللحـاف لتتمدّد أخيرًا وهي تُديره ظهرها ، محاولةً بتـر هذهِ الانفعالاتِ التي تكادُ تقتلها بالنوم!


،


قبـل ساعاتٍ طـوال ، وبفترة النهار . . . دخلَت للمنـزل بصمتٍ كئيب، كانت تسيرُ أمامه وعينيه تشعر أنها تخترقها كسهمٍ حـاد، ضمّت كفها اليُمنـى بالأخـرى ، وخطواتها تسارعَت رغمًا عنها بربكـة . . . يا الله لمَ عادَت؟ لمَ تعودُ للنقطـةِ ذاتها دون أن تتجاوزَه؟ هل هذا قدرها؟ أن تبقـى معلّقـةً بذنبها هنا؟ أن تبقَى تشدُّ الرحـال إليه ونيتها أن تشدّها عنه؟ بعيدًا ، بعيدًا جدًا ، كيفَ تعود قبل أن تبدأ رحلتها وتكتشفَ دائمًا .. أن الهدفَ واحدٌ وهو سلطان لا سواه!
لم تنظُر نحوه حتّى ، بينما كان هو يضعُ صندوقَ القطّة التي نسيتها في السيارةِ من اضطرابها ، فتحها ومن ثمّ ابتعدَ ليتركها بحرّيتها في حين انطلقَت هي مباشـرةً نحو المطبـخ وكأنها اعتادَت تواجد سالِي هنـاك . . اتّجهت غزل للدرجِ مباشـرة ، وما إن صعدَت عتبتين حتى كان صوته الصامت في مسيرةِ قدومهما يبزغ من حنجرته بنبرةٍ جامـدة : وين رايحـة؟ ورانا حكي ما خلص للحين.
توقّفت وهي تضعُ كفّها على " الدرابزين " وتشدّها باضطـراب، أخفضَت رأسها للأسفـل ، بينما كفّها الأخـر ترتفعُ لتفتح نقابها بهدوء ، دون صوتٍ ودون أن تحاولَ حتى مجرد المحاولة بالرد !
سلطـان يُردفُ بقسوة : الغريب في الموضوع إنّك تجرأتي وحكيتي لأمك عن الموضوع كامـل ... شلون قدرتي؟ يعني مو من حلو العلاقة !
غزل بغصّةٍ انتفـض صوتها أخيرًا بالرد : لا تجرحني بهالموضوع !
سلطان بحدّة : تدرين إنّه مو هذي نيتي ! هذا مجرّد واقـع.
استدارَت بطءٍ وهي تقوّس شفتيها للأسفـل : وهالواقع يجرحني !
سلطان بأمر : لا تبكين !
غزل وكأنها كانت تنتظـر أمـره ذاك حتى تنسكبَ دموعها، رفعَت كفيها ليسقطَ نقابها من إحداهما التي كانت تسترخِي في الفـراغ ، غطّت وجهها بهما ، وانتحبَت بخفوتٍ وصوتها المختنـق يأتيه منكسرًا بالحسرات ويختنق أكثر باصتدامه بكفوفها : ما أقـدر .. ما أقدر على غير البكاء !
تنهّد بصبر ، ومن ثمّ تحرّكت أقدامـه ليصعدَ الدرجاتِ الفاصلـة بينهما ، أخفضَت كفيها بسرعةٍ ما إن أدركت صوتَ خطواته المقتربةِ منها ، وقبـل أن تستوعبَ شيئًا شعرَت بنفسها معلّقةً في الهواء بذراعيه اللتين حملتاها ، اتّسعت عينيها الدامعتينِ ببهوت ، في حينِ تحرّك سلطـان للأعلـى ، متّجهًا لغرفتهما وعيناه تنظُران للأمام مباشرةً حتى دون أن تنخفضا إليها وهي بعكسِه تمامًا ، كـانت تنظُر لهُ من الأسفـل ، تنظُر بنظرةٍ متشوّشةٍ بالدمـع لذقنـه ، للظـاهر من وجهه ، تنظُر لتفاصيله التي تُشعرها بالانهزامِ أكثر .. أنها صغيرة! صغيرةٌ بشكلٍ حقيرٍ كي تحظى به!!
وصَل للغـرفة، أخفضها أمام البابِ كي يستطِيع فتحَه ، تحرّكت كي تبتعدَ قليلًا عنه وهي تمسحُ دموعها بظاهِر كفّها اليمنـى إلا أنه ما إن شعـر بها تبتعدُ حتى مدّ إحدى ذراعيه وطوّق بها خصرها ليلصقها بِه بحزم، عضّت شفتها بضعف، كـان يتحكّم بسيرها ، بحركتها ، يُسيّرها معـه إلى السرير ، وما إن وصـل حتى مدّ يديه إلى طرحتها ليفتحها ومن ثمّ يرميها بإهمـال ، وأخيرًا انزلقَت كفوفه ليمسّح بها على خديها الغارقتين بالدمـع ... كل ذلك، كان بصمت! وكـان بالملامح الغاضبـةِ ذاتها ، كان بعينيه الجامدتين ، بنظراته الحادة ، بشفتيه المُطبَقتين بقسوةٍ وجفـاء ، كلّ ذلك ، كان بحنان! حتى قبلتـه الأخيرة ، لعينيها اليُمنى ومن ثمّ اليسـرى ، ومن ثمّ صوته اللافـظ بنبرةٍ باردةٍ لا تعبيرَ فيها : فصخي عبايتك وبدلي ملابسك وانزلي وراي .. ويا ويلك يا غزل لو تمر عشر دقايق وما أشوفك !!

والآن ، كـانت تجلسُ بجانِبه على الأريكـة ، بعدَ ساعاتٍ أرغمها فيها أن تبتعدَ عن خلوتها في الغـرفة ، عن خلوتها مع الحزن ، مع أفكـارها السوداويـة ، أجبرها على الجلوسِ معه ، على العشـاء ، كـان لا يبتعدُ إلا لأجل الصلاة ومن ثمّ يعودُ وكأنه تفرّغ تمامًا لها !
لم تفهمه كما يجب ، لكنّها أدركت أنه تجاهـل ما فعلت بمحض إرادتـه ، وأنه بطريقةٍ ما ... لم يردها أن تبكِي أكثر! أن تفكّر أكثر، لذا منعها من البقـاء بمفردها في الغرفة.


،


في الصبـاح ، وضعَت كفها على جبينِ أمّها وملامـحها الشاحبـة كئيبـة ! شحوبها يُخبر النـاظرَ إليها كم من الإرهـاقِ تكابدَت طيلـة الليل الذي سهرَت فيه ، زمّت شفتيها بألمٍ وهي تمسحُ على جبينِ والدتها التي كانت تئنُّ بوجـع وتهمـس باسمـه بشكلٍ متقطّع .. يا الله! ما الذي حدثَ في ليلةٍ وضُحاها؟ ما الذي حدَث وكيف انقلبت حياتنا رأسًا على عقب؟!!
وضَعت رأسها على كفّها المُستريحةِ على جبينِ والدتها ، بينما صوتها المختنـق من ساعاتِ البكـاء يهمسُ بانكسـار : لا تروحين أنتِ بعد .. تكفيني يمه .. لا ترووووحين !!!
أنّت والدتها بضعف، وبخفوتٍ تناجي اسمه : سعد ! سعد وينه ؟!!!!!
لجين ترفـع رأسها لتسقطَ دموعها بحسرةٍ وهي تهمس : مشغول يمّه مشغول.
فتحَت والدها عينيها بضعفِ أجفانِها لتنظُر لها بتشويش، وبرجفـة : متى بيجي؟
لجين ودموعها تتساقط أكثر : قريب .. قريب . .
وبالرغمِ من كونِها كانت تنطقها بثقةٍ لمسـامع أمّها ، إلا أنها كانت تدرك في قرارةِ نفسها بأن ذلك لن يحدث! لن يعُـــود!!!


،


تنـاولت تفاحًا وهي تبتسـم بإشراقةٍ هذا الصبـاح، تشعُر أنّها سعيدة ، أنّها اليومَ بالرغـم من كونِ ما سبّب الحزن لها لم يعُد كما كان إلا أن شيئًا أضفـى لها السعادة الكُبرى اليوم . . حملَت السكّين لتقطّع التفاحـة وهي تدندنُ بسعادة، لم تكُن امّها قد استيقظت حتى الآن . .
نـافذة المطبخِ مشرّعـة ، يتسلّل منها ضوءُ الشمسِ بدفئه ، يُنعشها أكثر وهي تتناول الصحن الذي قطّعت فيه ومن ثمّ تجلسُ على كرسيّ الطاولـة وهي تتناولُ قطعةً كي تأكلها، بينما يدها اليُسرى كانت تمسحُ على بطنِها بحنـان ، لا تسعها السعادة ، سيأتيها طفـلٌ لم يبالي بِه والده! لا يهم ، لا يهم!! لن تعكّر صفو سعادتها هذا الصبـاح .. حسنًا ماذا ستسمّيه؟ . . ابتسمْت بسعادة ، لو كانت فتاةً ستسمّيها " راما " ، تحب هذا الاسم كثيرًا ، أما إن كـان صبيًا . . مممم . . بهتت ابتسامتها قليلًا، لكنّها لم تتلاشى ، قد يفكّر شاهين بأن يسميه على أخيه الراحل " متعـب "، وهي بالمقابل لن تمانع وسترحّب بتلك الفكرة ! . . لحظة، شاهين حتى لم يتّصل بها ويَشرح لها مقدار سعادته! بأيّ حقٍ تُهديه حقّ أن يسميه ؟!
كشّرت بملامحها بغيظ، ومن ثمّ همسْت بحنقٍ منه : ماله حق ... اللي يسوي بأمك كذا ماله حق يسميك حتى لو كان أبوك ... صح؟
ابتسمَت بانتصارٍ لأفكـارها ، ومن ثمّ تناولَت قطعةً أخرى وهي تَعِدُ الجنين بأن يصبح غذاؤها أفضـل لأجله، كـادت تُنهِي ما أمامها قبل أن يرنّ هاتفها الذي كـان بجانب الصحن، نظرت لهُ وهي تبتلع مافي فمها ، ومن ثمّ مدت يدها لتعقدَ حاجبيها ما إن رأت المتصل، لكنّها سرعـان ما شهقت بفرح ... فـــواز !! كانت تحاول أن تتّصل بِه البارحة ولم تجد منه ردًا، لم تستطِع حتى الآن اخباره ورفضت أن يكون ذلك برسالة !!
ردّت بدلالٍ وهي تلفظ : يا القاطع !!
ابتسمَ فوّاز من الجهةِ الأخـرى ببهوت : اشتقت لك !
أسيل بغنج : علينا؟!
فواز : قصدك إنّي كذاب؟
أسيل : مع مرتبـة الشرف، منت متّصل لله وراك شيء.
لم يستطِع أن يبتسم لما قالت حتى! بل كـان متجهّمًا بضيق، متجهّمًا بخسرانٍ وهو يلفظُ بخفوت : كنت بقولك شيء.
أسيل تضحك برقّة : شايف شلون أفهمك؟ حتى أنا بقولك شيء حلو .. بس بالأول قول وش عندك.
لم يبالي بما كانت ستقول! الآن هنالك ماهو أهم ، هنالك ماهو أهـم بكثيرٍ من كل شيء! يجب لها أن تعرف بعودةِ متعب، صمتُ شاهين حتى هذهِ اللحظة أمامها ربّمًا اعتمادًا عليه فهو ضعفَ بما فيه الكفاية مع متعب، لذا ترك لهُ إخبارها ، ترك له هذا الحمل الثقيل !!
عضّ شفتهُ بضيق ، بينما أمالت أسيل رأسها باستنكارٍ وهي تلفظ : وشو؟
فواز بخفوت : أسيل ... عرفتِي ليه شاهين تركك فجأة؟
عقدَت حاجبيها فجأةً وابتسامته تلاشَت ، ماذا يقصد بتلك النبرة؟ هل يعلـم هو السبب! هل .. هل أخبره شاهين ولم يخبرها هي قبلًا؟ لكن كيف يكون فواز بهذا الهدوءِ وهو يقولها بعد أن غادره الانفعال !!!
ابتلعَت ريقها بربكة، وبخفوتٍ متسائل : لا ... ليه تقولها وكأنّك تعرف؟
فواز بخفوت : لأنّي أعرف !
أسيل تشدُّ على الهاتفِ برعشـةِ كفيها انفعالًا، وبتساؤلٍ حاد : قوله .. يمكن يبرد قلبي وأعرف موقعي من الإعداب بكل هذا !!
فواز بحيرة : بتتحملين اللي بقوله؟
أسيل بتوجّس : فواز وش فيه؟ شاهين فيه شيء تعبان أو شيء من هالكلام ؟!!!!
فواز : لا ..
أسيل : أجل !!!
ابتلـع ريقه بربكـة، أغمـض عينيه وهو يدفـع الكلمـاتِ دفعًا، يدفعها حتى خرجَت إليها مختنقة، متوتّرة، تكادُ تغرقُ ولا يُسمـع مناجاتها : شاهين تركك ... لأن ، لأنّ متعب ... طلع حي ... ماهو ميّت، ماهو ميّت يا أسيل!!

.

.

.

انــتــهــى


ودمتم بخير / كَيــدْ !


أبها 04-08-16 12:10 PM

شكرا كيد على الجزء ..

تطور العلاقة بين عبدالله وأدهم
ومن قبلها بينه وبين إلين أمر ملحوظ و طيب

أم سعد ولجين .. كان الله في عونكم ،

أم متعب .. يقولون قلب الأم دليلها ،، هل ستشعر
حقا بعودة متعب مع تغير شاهين في الآونة الأخيرة؟

فواز ..أخطأ في إخبار أسيل في تلك الفترة
عن عودة متعب .. دون أن يمهد لها الطريق
سيفجعها الخبر حتماً ..

شكرا كيد مرة أخرى ..بانتظار ابداعك 🌸

fadi azar 04-08-16 09:18 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 07-08-16 10:53 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات.

المدخل اقتباس من الجميلة سلطانة :$ ، بقلم " قيس عبدالمغني " + اللي مرسلين لي من زمان اقتباسات للأبطال ارجعوا ارسلوها لي خاص معظمها ضاعت مني وقبل كل بارت صرت أحتاس وأدور :(

،

أنا هنا
على يسارك وأنت ذاهبة لتقبيل رجل آخر لايحمل ندوباً على وجهه..
أنا هنا على يمينك وأنت ترتدين أبتسامتك التي أمتدحتها منذ قرون لعدة دقائق..
يمكنك أن تتوقفي عندي
يمكنك للحظات أن تقفي أمام قصيدتي الأخيرة كي تتفقدي من خلالها مسودة جمالك..
أنا هنا
في الجهة المقابلة للوردة التي ستتجاوزينها لأنها لاتعني لك شيئاً..
أنا هنا
بجوار الليل المستسلم لنعاسك
الراضخ لزجاجات عطرك وأحتفالات سريرك.
أنا هنا
على يسارك وأنت عائدة من خيبتك الجديدة
يمكنك أن تركني قلبك أمامي كي تستريحي قليلاً
أنا هنا
خلفك تماماً
بلا كبرياء أو مكابح
لذا
أياك أن تتوقفي
قد أرتطم بك
أو أدهسك
أو
ربما
أسوأ من ذلك
قد تجدينني أمامك
.


(78)*3



يقلّب أوراقَ كتـاب ، يجلسُ في منتصفِ السريرِ كخواءٍ امتلأ بمكنونيّتِه الفارغـة ، يقرأ كلمتينِ فيجدهما فجأةً تغرقانِ في بياضِ الصفحاتِ وتتلاشى حروفهما ، يزفُر بضجرٍ وملل، ومن ثمّ يضـع الكتابَ جانبًا وينظُر للأعلـى بفراغ . . ملل! مللٌ يكادُ يقتله ، ما الذي تغيّر ليضيّق عليه فراغـه بهذا الشكل؟ منذ أوّل مرةٍ انتقـل بها عمله هنا واختار هو ذلك بمحضِ إرادته - هربًا - كـان يقضي لياليه دون هذا الملل، يجِد كتابًا فيونِس عليه خلوته، يحفظُ من القرآن ما يستطِيع ويجدُ أنّه يستطع! الآن باتَ لا يستطيع الحفظ ، تدخل آيةٌ لعقلـه وأخواتُها تقفن عند بابِ الحفظِ لا يقدرُ على استيعابهنّ فيتوقّف ، لم يعُد يجدُ في فراغهِ امتلاءً بكِتاب! ما الذي تغيّر؟ وقتها كـان يعيشُ خلوته ويملأها حتى قبل أن يتعرّف على فارِس أو أحدٌ ما يمضي الوقت معه ، والآن ماذا؟ هـل فكرةُ " الفراق " فعلت بِه كلّ هذا الخواء؟ كـان قبل سنةٍ ونصفَ تقريبًا يدرك أنّها لـه ، حتى قبل أن يتزوّجـا وبعدَ تلك الزيجـة بطريقتها الفوضويّة والتي عجّل بِها بقدرِ ما يستطِيع كي لا يحدثَ شيءٌ مـا ويوقفها ! يخشـى الأقدار ، يخشـى أن تأخذها منه عنوة ، استطـاع التعايشَ حتى في لحظـاتِ تشوّشـه بعد ابتعاده .. والآن ماذا؟ فكـرةُ الفراق القهريّ شلّت بعضَ تعايشه !!
زفـر بضجرٍ وهو يُميل برأسه قليلًا لتسقطَ على النافذةِ وأصواتٌ خفيفةٌ في سقوطِ مطرٍ يصطدمُ بزجاجيّةِ النافذَة ، ابتسـم دون تعبير ، هذا المطر ما يعنِي غيرَ الوقوفِ تحتَ مظلّةٍ من عنصرٍ مهترئ، - مُصنّع -، هل يرضيك أن نحتمي منك وأنت طبيعـةٌ بتصنيعٍ أجوف؟ هل يرضي هذا الحبّ الذي جـاءَ في غمضةِ إرادةٍ أن أحتمِي بِه بافتعـالِ " فُراق "؟ . . ابتسَم بسخرية، ومن ثمّ نهـض نحو النافذةِ التي تناءت عنها ستارتُها ، وقفَ أمامها ينظُر للأجواءِ الصباحيّةِ والسماءُ الملبّدةُ بشيءٍ من سوادِ الغيوم، أمالَ رأسه اخيرًا ، ومن ثمّ وضعّ جبينه على برودتها ، هامسًا بابتسامةٍ ميّتة : اللهم صيّبًا نافعًا .. ونسيان!
أليسَ هو من كـان يدعو لهذا الحبّ بالخلود؟ في خضمِ مطر، بينَ الأذانِ والاقامة، في ساعاتِ استجابـة، يدعو بملءِ الخشوع، فهل ستتضاربُ هذهِ الدعوةُ الباهتة مع أدعيتِه السابقة؟
عضّ زاويـةَ شفتِه وهو يزفـر ليتضبّب الزجاجُ بحرارةِ أنفاسِه في دائرةٍ عمياء، ابتعدَ ليتّجه لهاتِفه، يجبُ أن يترك التفكير فيما مضى ويفكّر بالأهم من كلّ هذا .. أسيل! .. كان قدْ قرّر أن يخبرها اليوم ، منذُ ساعاتٍ وهو يحاول أن يستعدّ ، سيمهّد لها الموضوع قبلًا ، نعم ، نعم !! لن يصدمها بِه ، يجب أن يمهّد لها قبل أن يقولها لها " متعب حي "!!
اتّصـل بها باضطراب، كيفَ لا يضطربُ إن كـان سيُخبر أنثى ضعيفةً بحقيقةٍ تكسـر الصخرَ الأبيّ؟ فكيف بها !!. . حكّ شفتيه ببعضهما ، جـاءهُ ردّها الناعم ، العاتِب : يا القاطع !!
ابتسـم ابتسامـةً باهتـة، يلومُ نفسه على الكثير ، على تباعده ، على نأيه ، لكنّه صدقًا أصبـح يحبّ أن يمكثَ وحيدًا قليلًا حتى يستقرّ بحياةٍ واضحـةٍ بعيدًا عن تخبّطاتِه .. ردّ عليها بخفوتٍ حنون : اشتقت لك!
أسيل بغنج : علينا؟!
فواز : قصدك إنّي كذاب؟
أسيل : مع مرتبة الشرف ، منت متّصل لله وراك شيء!
لم يستطِع أن يبتسم ، ابتسامةً صافيـةً بإيجابيّاتٍ بيضاء ، ابتسامـة أسى ، نعم ، لم يتّصل " لله " ، لم يتّصل لأنه اشتـاق، لأنه يريد أن يضحك وهو يخوضُ في الحديثِ معها ، لم يتّصل لشيءٍ زهريّ يجلبُ السعادة بل اتّصل ومن خلفِ فمه كلمـاتٌ رمادية ، لا يعلـم حقيقةً إن كـانت رماديّةً أم لا ! لا يدري هل هذا الأمـر يجلبُ الفرحَ أم لا! لربّما لو جـاءَ دون أن تكون أسيل مرتبطـةً بشاهين لفرح! لكنّ هذه المعمعـةَ تُهلكُ تفكيره ومشاعره . . . لفظَ بنبرةٍ باهتة : كنت بقولك شيء.
أسيل تضحك برقّة : شايف شلون أفهمك؟ حتى أنا بقولك شيء حلو .. بس بالأول قول وش عندك.
ماذا ستقول؟ بالتأكيد ليسَ أهم ممّا عنده ! .. لم يُبـالي وهو يعضُّ شفتـه وهذا الحمل " إخبارها " يشعر أنه يثقلُ كاهله ، في حين لفظَت أسيل مستنكرةً صمته : وشو؟
فواز بهدوءٍ يحاول أن يتدرّج في إخبارها : أسيل ... عرفتِي ليه شاهين تركك فجأة؟
شعرَ بارتباكِها الذي صمتت بِه للحظتينِ قبل أن تلفظَ بتوتّر : لا ... ليه تقولها وكأنّك تعرف؟
فواز : لأني أعرف.
هذهِ المرّةُ اضطربَت أنفاسها انفعالًا رغمَ أنها حاولت ان تخفي انفعالها ذا! ، لفظَت بنبرةٍ هجوميّةٍ وقهر : قوله .. يمكن يبرد قلبي وأعرف موقعي من الإعراب بكل هذا !!
فواز : بتتحملين اللي بقوله؟
ابتلعَت ريقها بربكـة، لم تحبّ نبرته تلك ، هتفَت بخفوتٍ وتوجّس : فواز وش فيه؟ شاهين فيه شيء تعبان أو شيء من هالكلام ؟!!!!
فواز : لا ..
أسيل : أجل !!!
أغمـض عينيه وهو يتنفّس بهدوءٍ كاذب، كان يحاول أن يكون هادئًا ، يحاول! وهو يخشى في لحظةِ انفعالٍ أن يصدمها صدمـةً تئدُها ، ابتلـع ريقه ، لن يرتبك ، لن ينفعـل، لن يقولها مضطربًا ولن يقولها بطريقةٍ تجعل الحقيقةَ قاسية/صادمة، سيقولها بهدوء .. لن ينفعل !! .. لفظْ ، وصوتُه وكلماتهُ التي اندفعَت قسرًا عاندت مآربـه ، حاول أن يقولها بهدوء ، أن يتحدّث برويـة ، أن يمهّد أكثر ، لكنّه أخيرًا قالها بصورةٍ طائشـة ، وكأن هذا الحمـل لم يعدْ يستطِيع أن يحملهُ ثانيةً أخرى ، قالها بصورةٍ منفعلة : شاهين تركك ... لأن ، لأنّ متعب ... طلع حي ... ماهو ميّت، ماهو ميّت يا أسيل!!
ما الذي فعله !! ليسَ هكذا ، ليسَ هكذا !! .. زمّ شفتهُ بقوّةٍ وهو يشدُّ على أجفانه ، ما الذي كان يقوله لنفسِه قبل أن يتّصل؟ سيمهّد للموضوع ، فماذا فعل؟! بينما هي لم تقُل شيئًا ، لم تقُل شيئًا وهي تعقدُ حاجبيها وكأنها لم تسمـع كما يجب ، لم تستوعبْ ما قـال أو ربّما " متعب وحي " لا يتوافقانِ في الحديث ، لذا أمالتْ رأسها وملامحها تشحبْ وقد فقدَت التركيزَ لوهلـة !
في حينِ تنهّد فوازْ ، حسنًا لقد قالها وانتهـى الامـر ، قالها ووصلَت الكلمـاتُ بقوّتها إليها . . ارتبكَ من صمتِها ، وظنّ أنه صمتٌ افتعلتهُ الصدمـةُ فيها ، لذا ارتبكَ أكثر وخافَ عليها ، ليلفظَ أخيرًا بحنانٍ محاولًا تخفيفَ الحقيقةَ بثقلها : اسمعي حبيبتي ، أنا مثلك تفاجأت بس هذي إرادة الله .. هو فعلًا حي ما مات .. كان هالسنين عايش برى بروحه ومضطر لهالشيء، فهذا .. فهذا السبب اللي خلّى شاهين يتركك وبدون ما يعلمك ، مو تقليل منك بس غصب عني قاعد أعذره ، أنا عجزت أستوعب هالفكرة فشلون هو ومتعب أخوه؟! فوق كذا .. فوق كذا متزوجك وهو حي!! . . . * أردف بتوتّرٍ من صمتِها * أسيل .. أسيل تسمعيني؟
من الجهةِ الأخـرى ، كانت لا تزل تنظُر بغرابـةٍ للصحنِ الذي قطّعت فيه التفاح الأخضـر، تعقدُ حاجبيها ، وتبهتُ نظراتها ، أصابعها كانت تتحرّك على إحدى قطـع التفاح بغرابـة ، ماذا يقول؟ لم تفهم ! لم تستطِع أن تفهم ، ماذا يقول الآن؟ ما دخـل اسم متعب في أن شاهين تركها فجأة؟ .. عادَ الاسم! عاد الاسمُ من جديد ... كيومِ أمرها أن تستعدَّ لتبتعد! كـان شاهين يتكلّم ، ويقصدُ بطلاسِمه متعب ! والآن فواز ، يقول شيئًا ما ويذكر اسم متعب ... يقول شيئًا ما !! ما كـان هو؟!
ابتلعَت ريقها ، ورجفـةٌ مرّت من أصابعها إلى كفيها رويدًا رويدًا وبتمهّل ، فغـرت فمها ، لتهمسَ ببهوتٍ وهي تبتسم ابتسامةً تهتزّ : وش كنت تقول؟!
زمّ شفتيه ، أدرك من سؤالها هذا أن غرابـة ما قاله لها جعلها تتشوّش وتتناساه بسرعة ، عضّ باطِن خدّه ، ومن ثمّ لفظَ بجدّية : أسيل ركزي معاي .. شوفي أنا ما كنت أبي أصدمك بالموضوع بس هو كان لازم يوصلك بطريقة راح تصدمك في النهاية ... مركزة؟
أسيل بتشوّشٍ وضياع : أنا معك .. بس وش كنت تقول بالضبط شفيه متعب الله يرحمه؟
مسحَ على وجههِ وأقدامهُ بدأت بالسيرِ جيئةً وذهابًا ، وبكلماتٍ يشدّد عليها : وين جالسة الحين أنتِ؟
أسيل تبتلعُ ريقها وهي تقبضُ كفّها المرتجفة محاولةً اسكانها، لمَ ترتجف؟ ما بالها؟!! . . شتّت عينيها باضطراب، ومن ثمّ همسَت ببهوتٍ وهي تتطلّع لخزائن المطبخِ بتشتت : في المطبخ.
فواز : أمي وينها؟
أسيل لا تدري ما يريد بأسئلته : نايمة.
فواز : متأكدة؟ قومي شوفي إذا صحت أو لا.
أسيل باستغراب ونبرتها بأت بالارتجاف : ليه؟
فواز الذي كان يريدها في ذلك الوقت أن تكون بجانِب أحد، لم تستوعبْ حتى الآن ما قالته، وحالة الركودِ والهدوءِ المضطربِ هذا جعله يخشى انفجارًا قريبًا ، لذا أراد أن تكون قريبةً من أحدٍ ما وليسَت بمفردها .. لفظَ بحزم : روحي بس شوفيها.
أسيل تنهضُ بتوتّرٍ لتخرجَ من المطبخ ، اتّجهت للدرجِ مباشرةً وهي تلفظُ باستنكار : ممكن تكون نايمة تبيني أزعجها؟
فواز : إذا نايمة صحّيها.
أسيل باستنكارٍ أكبر احتدّ صوتها وتغضّنت ملامحها : فواز وش فيه؟
فواز : مافيه شيء بس اطلعي لها الحين .. أبي أكلمها.
أسيل التي مازالت تُكمل سيرها : كلمها إذا صحت.
فواز بحدّة : أبي أكلمها الحين روحي لها وأنتِ ساكتة.
أمالت فمها باستغراب ، ماذا قال؟ قال متعب ماذا؟ وما علاقة متعب في ابتعادِ شاهين؟ .. لمَ .. لمَ مازالت ترتجف؟ بل لمَ تتضاعفُ هذهِ الرجفـة وتغتـال جسدها تنكيلًا !! . . شعَرت بقليلٍ من الدوارِ إلا أنها اكملتْ سيرها ، قلبها ينبـض بقوّةٍ لشيءٍ قـاله فواز وسمعته أذناها ، لكن ما الذي قاله ؟! هيَ سمعته ، لكن لم تعُد تدري ما هو !!! . . وقفَت أمام بابِ الغرفـة، كادت تضربُ البـاب إلا انها تراجعَت وفتحته مباشرةً بهدوء، خشيَت أن تكون نائمـةً وستزعجها ، بالرغمِ من أن فواز قال لها أن توقظها إلا أنها أيضًا لم تحبّ أن تزعجها !!
مرّرت نظراتها على الغـرفة لتبتسمَ وهي ترى أمّها جالسةً على السجادةِ بعد أن أنهت صلاةَ الضحـى ، شعرت بها من فتحها للبـابِ لتلتفِت وتبتسم ، لازالت تعيشُ نشوةَ السعادة من خبرِ حملها الذي تتمنّى أن يتغيّر بِه الكثير من نفسيتها، لذا أشرقت ملامحها ما إن رأتها ولفظَت : يا حلو هالصباح .. ادخلي حبيبتي ادخلي.
دخلَت أسيل بحرج، وبخفوت : صباح الخير يمّه ، معليش لو أزعجتك بس فواز يبي يحاكيك.
ام فواز بابتسامةِ لهفـة : لا والله أي ازعاج من وجهك او صوته؟! جيبيه جعلني فدا عيونه.
تقدّمت أسيل إليها وهي تلفظُ بامتعاضٍ منه : هاه هذاني عندها احمد ربك حصلتها صاحية .. شيلــ . .
فواز يقاطعها بهدوء : خليني بالأول أكمـل كلامي معك !
توقّفت أسيل وهي تمدُّ فمها : هاه وش تبي؟
فواز : أنتِ وش سمعتي من كلامي أول؟
أسيل بتشتّتٍ تلاشَى الاسترخاء عن ملامحها، مرّرت أحداقها بزاويا الغرفـة بضياعٍ وهي تلفظُ بغرابة : مدري!
فواز : عن مين كنّا نتكلم؟
أسيل باضطراب : عن .. عن شاهين !
نظرت لها ام فواز وهي تعقدُ حاجبيها بتوجّس، لم تنظُر لها أسيل بينما فواز يلفظُ بهدوء : ومين غيره؟!
أسيل تحاول أن تلملمَ في عقلها ما قاله ، تضاعفَت رعشتها وهي تلفُظ بنبرةٍ مهتزّة : م .. متعب.
فواز بتروّي : وش قلت لك عنه؟
أسيل نظرت لعيني امها التي كانت تنظُر لها مباشرة، بدأت شفاهها بالارتعاش ، بدأت أهدابها تخفقُ تشتّتًا .. وصوتها يلفظُ بضياع : مدري !
فواز يحاول أن تصِلها الحقيقة بصورةٍ مبسّطةٍ هذهِ المرّة ، دون انفعال، دون عجلة ، يحاول أن يقولها بشكلٍ أفضـل ، بشكلٍ أشدّ وضوحًا وأخفّ صدمة إلا أنه كان يدرك بأن صدمتها ستكون عنيفة : قلتلك .. متعب مو ميت ! متعب يا روحي طلع عايش وكان مضطر يظلّ برى السعودية طول هالفترة بس هو رجع قبل وقت قصير ، وبسبب هالشيء تركك شاهين لأنك من الأساس ما كنتِ أرملة!!!
ابتلعَت ريقها ، وهذهِ المرّة، شعرت أن النبضاتِ تعالَت .. وضعَت كفّها على صدرها ، تضغطُ على قلبِها علّه يهدأ ، .. هذهِ المرّة ، استعادَت كلماته الاولى ، واستوعبَت ما قاله ! .. استوعبَت بعدَ الضمور ، استوعبت ما السبب الذي كان يجعلها ترتجف ، والآن أكثر !!
شعَرت بحنجرتها جافـة ، بعينيها تغيبانِ خلف الضبـاب ، تحرِّكُ أحداقها دونَ هُدى ، إلامَ تنظر؟ لا تدري ، كانت ترى فقط تشوّشًا من حولها، ماذا يعني " مو ميّت "؟ كيفَ يحدثُ ذلك؟ .. كيف !!!
أفرجَت شفاهها، لم تعلَم الآن ما كان شعورها ، فقط ، كـانت تتوهُ بين غيومِ التشوّشِ والضيـاع ، حاولت أن تقول شيئًا ، ولا تدري جديًا ، كيفَ استطاعت !! : فــ .. فــواااز!! ...
تنفّست بانفعال ، ماذا؟ ماذا تريد أن تقول؟ الكلمـات تصلُ فمها وتُعلـن انتفاضـةً على الاستواء، لذا كانت تردفُ بتخبّطٍ رغمَ محاولتها أن تتّزن : شلون؟ .. وش ... أنت وش ، قاعد تقول؟!
أغمـض عينيه وتوقّفَ في مكانِه وهو يتنهّد بحسـرة ، استشعـر تخبّطها ، لكنّه كان مُطمئنًا بعض الشيء لتواجُدِ أمّه أمامها، لم يكُن يريد أن يقول لامه شيئًا في الحقيقة، أرادها أن تكون جاهلـةً بالصدمـة التي ستحلّ على أسيل حتى تستطِيع أن تتصرف! لم يُرِد أن يفاجئهما كلتاهما.
لفظَ بنبرةٍ هادئـةٍ والحمـل شعرَ أنه أزاحه، الآن سيستطِيع أن يتكلّم بوضوحٍ أكبـر دون أن ينفعـل : اهدي شوي حبيبتي ، لا تنفعلين طيب؟ .. ولا تفكرين بأي شيء أنتِ حاليًا اهدي واستوعبي الفكرة شوي شوي ، كل شيء ممكن .. مافيه شيء مستحيل حتى ضياع شخص لسنين ورجعته بعد موت !!
لم تدري في تلك اللحظـة أنّها كانت تهزُّ رأسها بالنفيِ وهي توسّع عينيها دون تصديق ، لم تدري في تلك اللحظـة أن مقلتيها كـانتا قد فتحَت أبوابهما لملحٍ مُذاب ، لم تدري في تلك اللحظـة ، ما مشاعرها !! .. سوى أنّ جسدها انتفض لتك الفكـرةِ وأقـامَ مظاهراتٍ على هذا الضيـاع ، كانت ترتجف ، رجفـةً أصبحَت واضحةً لعيني أمها التي ذعرت واندفعَت إليها ، كـانت شفاهها تثقُل ، ملامحها تذبُل ، كـان الشحوبُ يتضاعف ، وصواعقُ تصيب جسدها وتحرقها .. كانت في تلك اللحظـة توجّه أحداقها للأمـام بفراغ ! .. بينما صوتها مات ! ولم تستطِع أن تبعثـه من لحدِ الصدمة.
وقفَت ام فواز بصدمـةٍ بجانِبها وهي تسحبُ الهاتف الذي لا تدري كيفَ مازال حتى الآن في يدها ومثبّتًا على أذنها ، وضعَته مباشرةً على أذنها لتلفظَ بصوتٍ مرتفعٍ حاد : وش فيه وش قايل لها؟!!
فواز بنبرةٍ متفاجئة : يمه !!
ام فواز بغضب : وش قايل لأختك؟
فواز بذعرٍ شدّ على الهاتف : صار لها شيء؟
ام فواز : للحين ما صار !
تنهّد براحـة وهو يغمـض عينيه ، فتحهما بعدَ لحظتينِ ليردفَ بتوضيح : ما أقدر أقولك حاليًا بس أبيك الحين جنبها ، خليك معها لين تستوعب اللي قلته لها بعدين اتّصلي علي لو ما قالت لك بنفسها .. هالفترة خاصـةً كوني جنبها.
ام فواز بغضبٍ تكادُ تنفجـر وهي ترى أسيل التي كانت في وضعها ، تنظُر للفراغ، لازالت تهزُّ رأسها بشكلٍ أصبـح طفيفًا وعينيها ذرفتا الدمـع أخيرًا : لا بتتكلم الحين ... أنت مجنون عشان تقول شيء يصدمها بهالشكل ؟ أختك حامل يا فواز ما علّمتك هي والا شلون؟
فواز بصدمـة : حـــامل !!!
ام فواز بانفعـال : أيه حامل يا شاطر .. لو صار لها شيء فبيكون السبب . . .
لم تكدْ تُكمـل جملتها حتى انتبهَت لأسيل تضـع كفيها على بطنِها فجأة .. انتفضَت بذعرٍ واندفَعت إليها وهي تلفظُ بصوتٍ مذعور : بسم الله ، بسم الله شفيك تحسين بشيء ؟!
أسيل وعيناها تجحظان أكثر ، تكادُ محاجرها أن تلفظَ أحداقها وأنفاسها ترتفع بجنون : بطني .. بطني يمه آآآآآه ..
شهقَت بذعرٍ والهاتفُ فجأةً لم يعُد في يدِها ، لا تدري أين غاب، لم تهتم، ولم تستمِع في تلك اللحظـةِ لصوتِ فواز الذي كان يعلو مناديًا بقلقٍ وذعر .. أمسكَت كتفيها بخوفٍ وهي تهتفُ بصوتٍ تائهٍ متشتّت : وش تحسين فيه بالضبط .. وش ... آه يا ربي بشوف السواق ..
حاولت أن تبتعدَ عنها لكنّ أسيل كانت قدْ تشبّثت بها وهي تبكِي ، ألـم ، ألـمٌ لا يطـاق .. تشعر أنّ أحشاءها تتمزّق ، تشعر أنّ صوتها يرحلُ خلفَ نبرةِ البكـاءِ الذي اعتلى فجأةً بقوّة ، وضعَت رأسها على كتِفها وهي تتأوّه بعذاب ، كيفَ يكون ذلك؟ كيَ يكون حيًا؟ كيفَ يجلبون معجزةً - مستحيلة -؟! هل يمزح معها؟ .. لا ! لا .. ما هذا الجنون؟! .. يا الله كيفَ يحدثُ ذلك؟! وبكائي عليه سنين؟ اشتياقي؟ حبّي الذي مكثَ في صدري؟ .. كلّها ماذا كانت تعنِي؟!
ارتفعَت آهاتها الباكيةُ وهي تغرسُ أظافرها بقوّةٍ في جلدِ أمها ودون شعور ، كانت تشعُر بالألمِ ينتشـر في جسدِها ، أقدامها ثقلَت ، لم تعدْ تستطيع الوقوفَ وهي تصرخُ بعذاب وتشتّت ، تصرخُ بضيـاعٍ ما بينَ ما قيل ، وبين ألـم الجسدِ الآن : شلوووووون؟؟ آآآآه يمه بموووووت ... شلون يقول حي؟!!! شلوووون؟ .... بطنـي .. آآآه بطني . .
أغمضَت عينيها بقوّة وصرخـةٌ باسمها من بينِ شفتي أمها تسللت إلى أذنها ببطء ، تصاعَد الألـم حتى لم تكُن تشعر في تلك اللحظـةِ أنها ستحتمل أكثر ! ، وكـان ذلك ما كان فعلًا ! .. إذ غابَت في تلك اللحظـاتِ عن الشعورِ بعدَ الألـم الذي وأد بقيّة الوعيِ فيها ، ثقـل جسدها فجأة ، ولم تستطِع أمها في تلك الأثنـاءِ حملها لذا سقطَت جالسَةً على ركبتيها وأسيل معها ، هتفَت بجنونٍ وهي تهزّها : أسيــل!! أسيل بنتي تسمعيني ؟!!!
لم تجِد ردًا، حينها شهقَت وهي تتنفّس بقوةٍ وتشتّت ، حرّكت عينيها تبحثُ عن الهاتِف حتى تتّصل بالسائق وتخبره أن يجهّز السيارةَ لحينِ تُلبسها عباءتها وتتمكن من إيصالها للسيارة .. سقطَت أنظارها على الهاتف الذي كان يرمزُ للدقائق التي تحدّثت فيها أسيل مع فواز ، لم يكُن قد أغلق ! .. لم تهتمّ له وهي تمدُّ يدها لهُ وتنهي المكالمة! ومن ثمّ بدأت بانفعـالٍ تبحثُ عن رقمِ السائقِ لتتّصل به ، خمسُ رنّاتٍ لم يردّ فيها ، وكان انفعالها وخوفها في تلك الأثنـاءِ لا يتّسع للانتظـار ، تركت التفكير بِه كخيارٍ للانقاذ ، هي أصلًا لن تستطِيع حملها من الأعلى للأسفل بسهولة! لذا اتّجهت دون تفكيرٍ لتتّصل بشاهين ، لم يطُل الرنينُ لثلاثٍ حتى جاءها الردُّ بصورةٍ متردّدةٍ من شاهين الذي لفظَ بتوجّس : أهلين عمتـي ..
ام فواز بانفعـال : مافيه وقت للكـلام تعال بسرعة ..
انتفضَ شاهين واقفًا وعينيه تتّسعان بذعر : وش فيه وش صار؟
ام فواز بنبرةٍ متحسّرة : أسيل .. أسيل طاحت علي .. تعال تكفى ما أدري وش أسوي.


،


خرجَ من البيتِ مسرعًا، لم يفكّر بشيء، لم يهتمّ لشيءٍ في تلك الأثنـاء وكان قلبـه وحدهُ من أمـره في تلك اللحظـاتِ أن يُسيّر ولا يُخيّر ، صعَد سيّارته بعد أن أغلـق دون أن يهتمّ بالكثيرِ من التفاصيل، المهم أنّها في تلك اللحظـة لم تكُن بخير! وهذا يكفي كيْ يُثير في صدرِه كلّ معالِم الجفـاف، أن تَشّقق بهِ أرضُ جمودِه وتتناثرَ قناعاتهُ شظايا.
لم يستغرق أكثر من عشرِ دقائق إلا وهو يقفُ أمام المنزل، نزل وهو يتّصل بأم فواز لتردّ عليهِ مباشرةً ويلفظ : أنا عند البـاب.
ام فواز بصوتٍ ذاهب الأنفاس : جايتك.
وقفَ أمام البـاب وهو يسمعُ صوتَ خطواتِها المنفعلـةِ عبر الهاتف ، وبتساؤلٍ قلقٍ لفظ : ما صحت؟
ام فواز بحسرة : لا ، أساسًا ... * ابتلعَت ريقها قبل أن تردف * أساسًا قاعدة تنزف ! أخاف يكون اجهاض!
تجمّد في مكانه ، شعرَ بالألـم من تلك الفكـرة ، أن يخسـر تلك الروح التي كانت دليـل اجتماعهما تحتَ سقفٍ واحد ، الروح التي لم تُنفخ ولم يفرح بها بعد !! .. عضّ شفته ، حاول أن يصلبَ صوته وهو يلفظُ بتدارك : لا تهتمين لهالنقطة الحين ، المهم تكون بخير.
فتحَت البـابَ في تلك اللحظـةِ وهي تتنفّس بسرعة ، رأى دموعها التي كانت تغطّي ملامحها التي خطّت السنينُ فيها معالمـها ، أدخـل الهاتف في جيبِه بعد اغلاقِه ، ومن ثمّ تحرّك بعجلةٍ ودموعها أخافته أكثر : وينها؟
ام فواز التي كانت تعدّل طرحتها حول وجهه وقد ارتدَت عباءتها استعدادًا قبل وصوله ، تحرّكت قبلـه كي توصـله ، صعِد الدرجات .. هذهِ الخطوات ، كـانت كخطواتٍ قديمةٍ على نفسِ المكـان ، يومها صعَد لغـرفتها ، بعدَ " النوتيلا " التي جعلتها تُحرجُ منه ، وتهرب ! ... ابتسَم بحسرةٍ على تلك الأيـام التي كان يخوضها في شدٍّ وجذب ، لذيذ!! كان كلّ ذلك لذيذًا في عينيه ، كـان بالرغمِ من استفزازها لهُ يعشـقُ اللحظـاتَ السريعـةَ بينهما ، اللحظـات التي كانت من شدّةِ فتنتها على قلبِه تُسكـره حتى وهو غاضِب ، تسكرهُ وهو في كامِل قواه العقليّة . . تحرّك وهو يئدُ بسمتهُ بزمّه لشفتيه ، كيفَ ابتسم في تلك اللحظـةِ تحديدًا لذكرى " لم تكُن واللهِ عابرة "؟ كيفَ ينسى؟ وهو الذي كان في تلك الأيـام يسرقُ اللحظـاتِ بينهما من خزانـةِ جفافها وصدّها ، حتى استفزازها لهُ كان يحبّه ، كـان استفزازها لي دائمًا ما يتعلّق باسمك يا " متعب "! كيفَ تريدني الآن أن أتغاضـى وأُكمـل معها؟ تغاضيتُ سابقًا لأنّك ميت ، والآن !! ماذا عساي أفعـل وكيفَ تريد مني أن أتقبّلها زوجةً لي وأنت حي؟
وقفَ أمام ام فواز التي فتحَت بابَ غرفتها ودخلت ، دخـل من ورائها ، حينها وجَد أسيل قد حاولَت امها حملها حتى استطاعَت وضعها على السرير، عباءتها تغلّفها بفوضويـة ، وجهها شاحِب ... و ، ودماء !!
شعر بقلبِه يعتصـر ، لا يمكن أن يذهب! هو بخير .. نعم بخير !! . . العـالمَ من حولِه باتَ مغشيًّا بالظـلام ، لم يسمـع صوتَ امّ فواز وهي تحادثـه والغرفـة أصبحَت خاويـةً من كلّ شيءٍ عداهما ، اقتربَ بخطواتِه منها ، يستغرقُ في تأمّل ملامحها ، يا الله كم اشتاقها ! ، كم اشتـاق !!
كم كـان الوقتُ في تلك اللحظـاتِ قاسِي، لم يكُن يستطِيع أن ينظُر إليها بعدَ غياب ، أن يستشعِر وطء غيابها كيفَ يكون ، لم يكن يملك الوقت! لذا نسيَ مشاعره في تلك اللحظـة ، وحمـلها بخفّةٍ ومن ثمّ اتّجه للبـابِ وهو ينظُر لوجهها الغائب عنه ، لعينيها المتلحّفتينِ بأجفانها، لأهدابِها التي يشعر أنها تناقصَت كثافة! نعم ، حتى أهدابها يعرفُ كثافتها ... كم بكيتِ حبيبتي حتى أثقلتِ بصيلاتَ أهدابك فسقطَت واحدةً تلو الأخرى، كم بكيتِ؟!
انحنى بوجهه إليها ، لم يستطِع أن يمنـع نفسه في تلك اللحظـة ، من أن يودِع لعينِها اليُمنـى قبلةً من شفتينِ ألهبتهما الأشواق ، اشتاقَت بشرتها ، اشتاقَت عيونها ، اشتاقَت أن تلامِس دفئها ويغرقَ بين خلاياها ، قبّلها متناسيًا كلّ القرارات ، عينيكِ دستور حكمٍ أقمتِه وثرتُ كشعبٍ عليه .. هذا هو الحال فقط! . . . همسَ وصوتُ خطواتِ امها التي كـانت تسيرُ خلفهُ يصِل مسامعه ، بصوتٍ كـان سرًّا بينهما ، لم يسمعه سواهما : بكون بخير ، أنا متأكد بيزين حالك .. وأكون بخير !


،


رمـى الهاتفَ على السريرِ وهو يشدُّ على أسنانه ، ماذا فعل؟ يا الله ماذا فعـل؟ .. لمَ لم يخبروه حتى الآن أنها حامـل؟!! كان ليصمت! كـان ليصمت !!! . . عضّ شفتـه بغضبٍ وهو يرفـع وجهه للأعلـى ويهتفُ بعمق : يا رب احفظها .. يا رب احفظها !!
لن يغفر لنفسِه إن حدثَ لها شيءٌ أو لجنينها ، لن يغفر أبدًا .. يا الله ليته صمت أو تركها تقول ما كانت تريد قوله ، نعم ، بالتأكيد كانت تريد أن تخبره !!
مرّر أصابعه بين خصلات شعرِه بقهرٍ ومن ثمّ تحرّك بعد أن أخذَ هاتفه ، خـرج مباشرةً من الشقّةِ متناسيًا حبيباتِ المطر، كـان قبل أن يتجاوزَ بابَ المبنى يحاول أن يتّصل بهاتِف أمه وهاتفِ أسيل إلا أنهما لم تردّا عليه ، خرجَ لتلفحـهُ بعضُ القطراتِ الخفيفة ، لم يهتمّ للتي سقطَت على خدّه مباشـرةً ببرودتِها ، كان جامدًا ، لم يبـالي بانحدارِها إلى نهايةِ فكّه على بشرتِه التي يشعُر أنّها ضحلَت بالجفاف . .
شدّ علة قبضتِه المُمسكةِ بالهاتِف في جيبِه ، إلهي احفظها ، ما الذي فعله يا الله !!! . . زفـر ، ومن ثمّ أخرج الهاتف ليُعـيدَ الاتصـال بِأمّه ويجدَ منها عدمَ الرد ، أغمـض عينيهِ والقطراتُ توقّفت عن الهطول، ماذا الآن؟ سيظلّ حبيسَ هذا القلق والتخبّطِ حتى متى؟! . . هزّ رأسه بالنفي ، ستكون بخير ، نعم ستكون بخير .. ما باله قلقٌ هكذا؟ هي ربّما فقط ظلّت صامتـةً من الصدمـة ، لكنّ ما سمـعه قبل أن تُنهي أمّه الاتصال لم يكُن يقُول ذلك!!
قرّر أن يمرّر الوقتَ قليلًا ، لن يظلّ حبيسَ قلقه . . رفـع هاتفه ليتّصل بفارِس ، إن كان أصابها شيءٌ فأمه لن ترد الآن ، وإن كـان لم يصبها شيءٌ فأمه ستتّصل بعدَ قليلٍ لتصرخ في وجههِ بغضبٍ لأنّه تسببَ لها ببكاءٍ حادٍ أو صدمـة ، نعم ، سيحدثُ الأمـر الثاني ، لذا سيخرجُ مع فارسْ حتى يمرّ الوقتُ سريعًا ومن ثمّ تتّصل هي أو يتّصل هو !!
ردّ عليهِ فارس بعدَ لحظتينِ ليلفظ : يا صباح الخير.
فواز : أهلين ، وينك فيه؟
فارس : طالع أفطر ، شرايك تجي نفطر سوا ما بعد طلبت.
ابتسمَ فواز بضيق : احسبني معك ... أي مطعم؟

من جهةٍ أخـرى ، أنهى الاتصال ليوجّه نظراتهُ لجنان التي نظرت لهُ بانزعاجٍ وعتبٍ وهي تلفظ : ليه عزمته؟
فارس بمكر : وش فيها؟
جنان : فاااااارس!!
فارس : اشش لك فترة ما شفتيه المفروض تنبسطين.
كتّفت ذراعيها بغضب : منت صاحي ، لا تخليني الحين أتركك وأرجع البيت؟
فارس يضحك : افا افا !! والله ما قصدت شيء يعني ما فكرت برفضك قلت دام ما عندي غير زوجته وش فيها لو جلس معنا؟!
أمـالت فمها بضيق ، هل يجبُ أن تراه حتى حينَ تهربُ من التفكيرِ به !! .. صدّت بوجهها وهي تسندُ ذقنها على كفّها ، ومن ثمّ مرّت الدقائِقُ الطويلة قبل أن يدخُل فوازْ وهو ينظُر لهاتفـه منتظرًا اتصالًا من امّه بعد أن أرسل لها " طمنيني عن أسيل "! ، رفـع عينيهِ بشكلٍ تلقائيٍّ يبحثُ عن فارس ، وما إن رآه حتى صُدمَ من الجهـةِ الأخـرى وهو يرى معه جنـان ، لم يكدْ يفكّر بشيءٍ أو يتدارك نظراته تلك حتى سمـع صوتَ رنينِ هاتفِه ، تأهّبَت حواسـه له ، ومن ثمّ رفعـه .... أمّه !!!


،


خرجَت من غرفـةِ أمّها وهي تتنهّد وتمسـح على خدها بأسـى ، كانت قد نامت هذهِ المـرةَ دون هذيـان باسمـه .. يا الله ما الذي حصل تحديدًا؟ لا تكـادُ تصدّق ولا تريد التصديق ! لا تريد ذلك !! لا يمكـن أن يكون سعدْ فعلها ، ربّما سوء فهم .. نعم ، سوءُ فهم !! ربّما تشاجـر معه فقط وفقدَ الوعي وهو بدورِه ظنّه مات! لكن ماذا عن الدماء!! وماذا عن استدعائهِ بتهمةِ القتـل هذه! ، إلهي !! إلهـي اكتبْ لكلّ هذا الخلاص بسلام ، أنا أثق بأنه لم يفعلـها ، سعد لم يفعلها .. نعم !!
ازدردت ريقها بعبـرة ، يتراءى أمامها أن يحاكم بالقصاص! يُبتـر رأسـه ... لا ، لا !! .. سقطَت دموعها ، ودون شعورٍ بدأ صوتُها ينتحب ، يا الله لا تكتب ذلك! لا تكتبْ أنْ يرحـل بهذهِ الطـريقة ، يا الله فليخرج من كلّ ذلك سليمًا من أيّ ذنب !
وضعَت ظاهرَ كفّها على فمها ودموعها تتساقـطُ فتشقُّ خديها كمعبـرِ نهرٍ يمدُّ الشلالاتِ المالحـة ، كيفَ يختلطُ مسمّى الملوحـةِ مع مصطلـحِ " نهر "! كيفَ قد تتلاعبُ الأبجديّات مع الحقيقة وأنت حقيقةٌ بيضـاء ، كيفَ تُدنّس؟
سمعَت في تلك اللحظـةِ صوتَ البابِ يُطـرق، انتفضـت لتندفـع إليهِ بسرعةٍ وهي تشهقُ ببكاءٍ وتمسحُ دموعها، لفظَت برعشـةٍ من ورائه : مين؟
ليصلها في تلك اللحظـةِ صوتُ عمّها المُرهـق والغاضبِ في آن : أنا عمك.
ارتعشَت شفاهها وهي تفتحُ البـاب بسرعةٍ ليدخـل ، وما إن خطى خطوتينِ حتى استقبلته بسؤالٍ يفيضُ بحرارةِ آلامها : وش صار؟
نظر لها عمها بيأس : وش بيصير يعني؟
ابتلعَت ريقها بربكـة ، وبصوتٍ مرتجفٍ لفظَت : ما يسوّيها!!
وكأنّ الضغطَ الذي كان عليه منذ البارحـة ولّد انفجارًا حارقًا الآن ، انفرجَت شفاهه بصرخةٍ غاضبةٍ منفعلـة : إلا سوّاها .. سوّاها الحمـار وطيّح وجيهنا ..
تراجعَت للخلفِ وهي تضعُ كفّها على فمِها ورأسها يتحرّك بالنفي، عادَت دموعها تسقُط أكثر ، يا الله لا يمكن ! لا يمكن !! ماذا يعنِي هذا؟ أنّه انتهـى ، وأنّه سيرحل ، أنّها لن تراه من جديد ولم يعُد في حياتها من اسمه " سعد "؟ . . أردفَ عمّها بغضب ، رغمًا عنه خفتَ صوته بالرغمِ من كونِه لم يكُن يريد أن يُهدِّئه ، خفت بحسرةٍ وأسى : ما حاول ينفِي التهمـة بالعكس أكّد إنه قتله واعترف ان السلاح كان سكين ! هو نفسه اللي كان قرب الجثّة ، اعترفْ إنه هو حتى قبل لا يرفعون البصمات عنه .. وين وصل؟ وش اللي خلاه يقتلـه؟ ما قال شيء غير إنها لحظة غضب !! ... يا الله وش هالولد الحمار الله لا يردّه .. فضحنا الله لا يردّه !!
ضغطَت على فمِها أكثر وصوتُها يرتفـع ببكاءٍ مستوجـع .. كيفَ وصـل بنا الحـال إلى هنا؟ ما معنـى هذا الاختبارِ يا الله؟ أن أفقدَ أخـي ، بأقسى طريقةٍ ممكنة !! أفقدهُ وهو مدنّسٌ بذنب !! .. كيفَ فعلها؟ كيفَ يقوى نقيٌّ مثلـه على فعلها؟

يُتبــع ...

كَيــدْ 07-08-16 11:10 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


،


وقفَ أمامَ النافِذةِ وهو يتحدّث بنبرةٍ باردةٍ مع الشخصِ الذي يتواصـل معه في الهاتف : انتظـر كم يوم بس لين تتطمّن إنّ الاجراءت المتعلّقة فيك انتهت ، وبعدها تسافر سامع! لا تستعجل .. من الأسـاس مافيه خوف دامه بنفسه معترف إنّه القاتل ، بس الحذر واجب.
من الجهةِ الأخـرى : سم طال عمرك.
سالم بهدوءٍ يبتسـم بانتصـار، كان هذا هو الشخص الذي جعلـه يدخُل الوضـع كشاهِد " الذي بلّغ عن الجريمة " بالرغمِ من كونِه هو من اتّصل ، لكنّه جعل هذا الآخر في النهاية ينيبُ عنه بعدَ أن علّمه ما يقول، لم يكُن ليتهوّر ويظهـر ، يحبّ عملـه هكذا ، في الخفـاءِ ودون أن يعرفَ أحدٌ وجهه ، والآن ، من بينِ كلّ من عرفوه وجهًا لوجهٍ بقيّ سعد .. وسيموت عمّا قريبٍ بالتأكيد " في قصاص " في حينِ لن يتجرّأ ويعترفَ أنه تورّط معهم ، ومن الجهـةِ الأخـرى ... بقيَ متعب !!
استدارَ بسرعةٍ ما إن سمـع صوتَ البابِ يطرق، أخفضَ الهاتفَ بعد أن أنهى المكالمـة ، ومن ثمّ لفظَ بهدوء : ادخل.
دخـل سندْ بهدوءٍ وهو يبتسم : آسف ما قصدت أشغلك ، بس بغيت أسأل عن ابراهيم وسعد ! من أمـس طلعوا بدري واليوم ما جوا .. غريبة !!
سالم بنبرةٍ هادئةٍ لا تنبئ عن شيء، جلسَ على كرسيّه وهو يتنهّد باسترخاءٍ وراحـة : خلاص ماراح يجون مرة ثانية.
سند يعقدُ حاجبيه باستغراب : ليه؟
سالم : استغنيت عن خدماتهم.
سند يرفع حاجبيه دون تصديق : بعد كل هذا؟!!!
سالم بنبرةٍ حادة : لا تدخّل نفسك بأمور مالك فيها !! .. الحين اسمع عندي لك موضوع يهمّك وأعتقد بيعجبك.
سند بتوترٍ من بعدِ نبرتِه تلك : وشو؟
سالم يبتسم بمكر وبنبرةٍ مغريـةٍ يستميله بها أكثر : أول شغل بتكون طرف فيه .. صفقة أرباحها تتجاوز 60 ألف .. وبتكون لك منها نسبة 30% كمكافئة لو نجحت فيها.
التمعَت عينـا سند بطمـع ، وكانت ملامحـه في تلك اللحظـة مرحّبةً بما سمـع .. بكلّ سعادة!


،


دخـل للمطبخِ وهو يتثاءب ويضعُ كفّه على فمِه ، اتّجه للثلاجـةِ كي يتناولَ من الماءِ ويشرب، في تلك الأثنـاءِ كانت إلين تجلسُ على كرسيّ الطاولـةِ المستطيلة، تُمسك بينَ كفّيها كتابًا وما إن رأته حتى ارتبكَت وهي تُخفـض وجهها قليلًا . . ابتسم وهو يغلقُ بابَ الثلاجـةِ ويلفظَ برقّة : صباح الخير.
إلين تقلّب الصفحة التي كانت تقرأ فيها ببطءٍ مرتبكٍ ودون أن تنظُر تجاهه لفظَت بخفوتِ صوتِها : صباح النور.
أدهم باستنكارٍ يبتسـمُ وهو يرى الكتابَ الذي تُمسك بِه بين يديها : في المطبخ!!!
رفعَت عينيها إليه بينما أصابعها تمتدُّ لكوبِ القهوة التركية ، وبهدوءٍ ذا مغزى : طقوسي.
رفـع حاجبه الأيسر بخبث : ما ينفع في الظلام بعد؟
إلين تردُّ بسخريةٍ وأحداقها تتحرّك بينَ الكلماتِ التي تنزلقُ عن أسطرها في عينيها : هذي طقوسك أنت .. لو بتبناها بشتري كتاب مُشعّ.
أدهم : هه ما تضحك.
رفعَت رأسها إليه ، ورغمًا عنها ابتسَمت وهي تعقدُ حاجبيها بانزعاج : يا الله صباح خير ما تعرف تجامل.
أدهم بمشاكسة : أعرف إنّي جوعان.
إلين بضجرٍّ تقطّب ملامحها : يا صبر أيوب.
أدهم يكتّف ذراعيه : قولي شيء بعد ! شكلك مفطرة قبل لا أصحـى ، أصلًا وش مصحّيك وأنتِ نومك ثقيل؟
إلين وعينيها تتّسعان دون تصديق : مين اللي نومه ثقيل؟!!!
أدهم : نومي خفيف أدري عن نفسي باستثناء حالات معينة لو كنت تعبان أو لي فترة ما نمت ... بس مين اللي لو شلته وهو نايم ما حس! ولو بسته بعد ما حس ولو ظليت الصبح كامل أتأمله بعد ما حس !!!
ارتبكَت ، واشتعلتْ عيناها بصدمةٍ اختلطَت بخجلٍ جرفها في شهقةٍ صامتـةٍ من صدرِها الذي ارتفـع في نفسٍ مضطرب ، وضعَت الكتاب الذي كانت تقرأ منه على الطـاولة ، شدّت على إحدى أطرافِه بينما يدها الأخرى تنسلّ بعيدًا عن الكوبِ الساخِن والذي تسلّلت حرارته عبر جلدها وأضافت لملامحها اشتعالًا أكبـر لتهمسَ ببهوت : ما ينوثق فيك !!!
أدهم بعبثٍ يُميل فمهُ وهو يتّكئ بكتفِه على بابِ الثلاجـة : قلتِ لي مرّة لو سويت لك شيء بتحسين فيني .. نومك خفيف صح!
إلين بشفتين ترتعشـان ، ارتفـع صوتها غضبًا وانفعالًا بينما ملامحها المحمرّة تتجعّد بغضبٍ وهي لا تكادُ تصدّق جرأته : أنت اللي خبيث وحيوان !!! شلون تجرّأت ؟!!
وقفَت وهي تقبضُ كفيها بقهر ، كلمـاته الآن نسفَت الثقـة التي ولّدها ناحيتها البارحـة وبعدَ كلماتِه التي أخبرتها أنه سيصبر على نفورها ، أنه لن يرغمها على قربه أبدًا !! ... نعم ، لم يكُن يُرغمها ، لكنّه كان يستغفلها في المنـامِ ويسرقُ من الليـل لحظـاتٍ لا تدري كيفَ كان تعمّقه فيها !!
اندفعَت إليه وخطواتُها كانت كقرعِ طبولٍ جوفاءَ تضربُها هي تحديدًا ، وقفَت أمامه لتردفَ بصوتٍ حادٍ غاضب : يا كذّاب ! كلامك كلّه طلع كذب ... قولي لأي حد وصلت وأنا نايمة هاه! لأي حد!!!
أدهم يتأمّل وجهها باستمتاعٍ وهو يرى الغضبَ الذي ينقشُ فتنـةً أكبر على تضاريسِها الناعمـة ، بقيَ يتطلّع بها ببرودٍ أغاظها أكثر ، لتردفَ أخيرًا من بينِ أسنانها : أدهم يــــا ابليـــــــــــــس !!!
أدهم بابتسامةٍ باردةٍ متسلّية : أفا يا الجان؟
إلين بقهر : والله مافيه جان إلا أنت !!
أدهم : عفوًا؟ أنا ترقّيت لإبليس.
إلين بنبرةٍ تختنـق بقهرٍ من استغلالِه ساعاتِ نومها قبله : شلون؟ والله وثقت فيك !!
ارتخت ملامحـه قليلًا و " الثقـة " حينَ لفظتها شعرَ أنّها تجيء ككلمـةِ " أحبك "! . . ابتسمَ رغمًا عنه ، يا الله مسكينٌ أنا ! أيُّ شفقةٍ تجعلينني أشعر بها لشغفي لتلك الكلمـةِ حتى أستشعرها بأخرى؟ أيّ شفقةٍ تجعلينني أشعر بها تجاه نفسي؟!
رقّت ملامحـه ، ورحمَ الغضبَ الذي كان يسطَع في أحداقها، قرّر أن يريحها ويرحمَ نفسه " لأجل الثقة " ، حصوله عليها يعنِي الكثير ، كيفَ قدْ يفرّط بها بكلّ تلك البساطة؟!!
رفـع كفّه ليضعها على شعرها برقّة ، حينها انتفضَت وحاولت أن تتراجـع وهي ترمقـه بغضب، إلا أنه رفـع كفّه الأخرى ليمسك بها كتفها ويلفظَ برقّةٍ وحنان : ما سويت لك شيء تطمنـي .. هي كلها أقعد أتأمل الشمس بمخباها .. بس!
بترَ جزء القبلات ، لم يفضّل قولها لها الآن تحديدًا كي لا تنفجـر وتنفجـر معها الثقـةُ وتقتلها . . في حينِ نظرت له إلين بشكٍّ وهي تلفظُ بنبرةٍ لازالت مختنقـةٌ بينما الاحتقانُ لم يغادر ملامحها : شلون بصدقك؟
أدهم بابتسامةٍ بسيطة : مثل ما وثقتي فيني من كلامي أمس !
إلين تبتلـع ريقها بربكـة : للأسف أبي أثق فيك هالمرة بعد !
أدهم بابتسامةٍ تتّسع : يعني؟
إلين تزفـر بيأس : صدّقتك.
أدهم يمسحُ على شعرها وهو يلفظُ باستفزاز : برافو طفلتي.
تراجعَت للخلفِ وكفيها ترتفعانِ لشعرها كي تعدّله وهي تلفظُ بانزعاج : ما تتعدّل .. طس عنّي أشوف ، ووش يبي كرشك الموقر أخ أدهم؟


،


تنظُر للأعلـى بملامِح هادئـة ، لم تكُن هادئـةً في الحقيقة ، لكنّها كـانت بطريقةٍ ما ، ميّتة ! لذا كان الهدوءُ فيها قسرًا ، لم يكُن خيارًا ، ولم تكُن من ملحقـاتِ هذهِ اللحظـةِ أن تموت ! لا أحـد يختـار هذا البؤس، يأتِي قسرًا فيخلّد في النفـس ميتةً صُغـرى ... ستُخبره ! نعم .. ستُخبره وتتحمّل ما سيجيئها ، ستخبره !! ستوضّج له هذهِ المرّة بصورةٍ أكثر وضوحًا ، لن تقول ماهو ناقصٌ فيذهبَ تفكيرهُ لتلك الليلـة ... نعم ، ستخبره !!!
تجمّد جسدها فوقَ السريرِ وتصلّب باضطرابٍ ما إن سمعَت صوتَ البـابِ يُفتـح ، كـان بابُ الحمـام بعد أن خرجَ منه وهو يمسـح وجهه بمنشفةٍ صغيرةٍ وذراعـيه مبلّلتين بالمـاء .. ابتلعَت ريقها بربكـةٍ وهي تثبّت عينيها للأعلـى لا تريد أن تنظُر إليه ، كيفَ تريدُ أن تخبره وهي حتى لا تستطِيع النظـر إليه الآن؟
وضـع سلطـان المنشفـة على أقربِ أريكةٍ بهدوء ، ومن ثمّ نظـر نحوها بصمت ، بعينينِ جامدتين يدقّق النظـر في ملامحِها المتشنّجة والتي كانت توجّهها للأعلـى دون أن تبدّل وضعيتها التي تجمّدت بِها بربكـة . . تنهّد ، ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ حازمـةٍ وصوتٍ محذّر : ما أبي الدراما اللي أمس تتكرر ! لو تطلعين من غير شوري لا تلومين إلا نفسك ..
لم تردّ عليه ، حينها تحرّك بصمتٍ تجاه البـاب وهو يردف مكرّرًا بتحذير : لا تطلعين ولا تعقدين آمالك على أمّك .. مافيه شيء يستاهل !
ابتسمَت بحزنٍ مريرٍ وسخريةٍ لاذعـةٍ من نفسٍها بعد أن نطـق تلك الجملة ، سمعت البابَ يُفـتح، لتلفظَ مباشرةً مانعةً خروجه : ما تشوف إنّك مستصغر الموضوع بزيادة ؟
أدار رأسه إليها ببطءٍ دون كامـل جسدِه الذي كان يقابـل الباب ، وبهدوء : من حقّي أختار أرضى أو ما أرضى .. وكوني رضيت فيك فهذا يعني إنّ الموضوع صغير بعيني ! أما عن ناحيتك فلازم تتعاملين مع نفسيتك وتصغّرين الموضوع بعينك بعد!
ابتلعَت ريقها من قسوةِ كلماتِه التي لا تليقُ بكذبتها ، لو أنّه فعلًا أصابها ما كذبَت ، فهل يرى أنّ تلك الجملـة منه صحيحة؟ أم أنّه يقصد الآن هذهِ القسـوة حتى يردعها من أيّ عملٍ متهوّر !! . . لفظَت بحشرجة : بقولك عن شيء.
استدارَ هذه المرّةَ بكامل جسدِه وهو يرمقها باهتمام : وشو؟
فتحت فمها ، ستخبره ، نعم ، يجب أن تخبره وترتاح من هذا الذنب .. ماذا سيحدثُ بعدَ إخبارِه؟ أيتركها وحسب؟ أم ماذا !! .. أيتركها كورقةٍ جفّت بعدَ أن بتـر غصنها الماءَ الموصولَ إليها؟ كيفَ أكون ورقةً في اللحظـةِ التي تكونُ فيها شجرةً باذخـة ، وأنا بالنسبةِ لك لا شيء! .. موضوعةٌ في أعلى غصن، على طرفِه ، لا يصلنـي ماؤك! .. هل هذا ما سيحدثُ لي يا سلطـان؟ هل فعلًا أرحّب بهذا السقوطِ الأجوف؟ أن أسقطَ من غصنِك دون أن أستثير الوجودَ وأزلزله؟ هل هذهِ أنا؟ - لا شيء -!!
عضّت شفتها بألم، أخفضَت رأسها لتنظُر لحجرها ، ظهرها يستقيمُ على ظهرِ السرير، وروحها منكسرة! . . تنهّد سلطـان بصبر، ومن ثمّ نظر لها بحزمٍ ليلفظَ بتحذير : لا تبكين .. ولا تفكرين كثير !
غزل بنبرةٍ مكبوتة : أبي أبكي وأبي أفكر أكثر وأكثر.
سلطان : مو بهالطريقة ! أنتِ بدل لا تسندين نفسك قاعدة تكسرينها أكثر !
رفعَت عينيها إليه ، ابتسمَت بحسرة ، تلك الابتسامةُ التي تظهرُ ألمًا من مخاضِ السعادة ، من مخاضِ الحياةِ معك يا سلطان ! .. بنبرةٍ يائسةٍ لفظَت : أنت اللي علمتني أبكي !
سلطان بنبرةٍ حازمة : علّمتك تكونين قويّة ، لو البكاء بيقوّيك أبكي! .. بس إذا بيخليك ضعيفة كذا لا !!
غزل بانكسار : وش القوّة لو كنت بخسرك؟ وش الضعف لو كنت بظل جنبك طول عمري؟ .. ما يتوافقون ، ولأني قاعدة أعيش الخسارة أنا ضعيفة!
سلطان ويجدُ في حديثها ما هو أكبـر ، عقدَ حاجبيه دون رضا ليلفظَ بتساؤل : وش اللي مضعفك لهالحد؟ وش اللي مخليك تخسريني أصلًا؟
غزل تبتلعُ ريقها وهي تشتّت نظراتها عنه، وبغصّة : أنا !
سلطان بتشدِيد : اذبحي نفسك أجل.
تحرّك بعدَ جملته الساخـرةِ تلك كي يخرج، حينها ابتسمَت وهي تهتفُ بخفوت : ما تخاف أسوّيها؟
استدارَ إليها بعدَ أن التفتَ وهو يعقدُ حاجبيه باستنكار : نعم !! لهالدرجة وصلتي؟
غزل بأسى : لأني أحبك أنا ولا شيء! وش يجيب الثرى للثريا؟ إنت فوووق ... أنا ويني عنّك؟
أردفَت وهي تمسحُ على خدها دمعةً وهمية، باتت تشعُر بدموعٍ كاذبةٍ حتى ولو لم تبكي! : تعرف الجملة اللي تقول " مالي ومال النجوم دام القمر عندي؟ " .. جملة غبية .. تدري إنّي قمر بس وأنت نجم؟ القمر ولا شيء .. لأنه بس يعكس ضوء النجوم .. مو لأنها بعيدة نقول صغيرة ، يكفي إنّها رغم بعدها واضحة .. إنت كذا! بعيد عني بس واضح وأكبر مني بكثير .. أنا أيش؟ مجرّد شيء مُعتم وفارغ وماله وجود من غير ضوء نجم !
صدّت عنه أخيرًا وهي تُغمـض عينيها، بينما كانت نظراته الصامتـة تنظُر إليها دون تعبير .. ما الذي يفعله لها تحديدًا؟ لم يعُد يعلـم ، لم يعُد يفهمها ويفهم حزنها إطلاقًا !! ما الذي قلّب في عقلها قراراتها؟ هل السبب أمها وحسب؟ .. هل يمكن أن تأثّر بها إلى هذا الحد !!
ازدادَت التجعيدةُ ما بينَ حاجبيه نتوءات، تحرّكت أقدامهُ بهدوءِ خطواتِه نحوها، جلَس على طرفِ السريرِ بجانِبها لتبتلعَ ريقها وترفع ركبتيها إلى صدرها بصمتٍ ومن ثمّ تحيطهما بذراعيها دون أن تنظُر نحوه حتى .. رفـع كفّه ليضعها أخيرًا على شعرها بهدوء .. مشّط خصلاتها التي تشابكَت رغمَ نعومتها ، كنعومةِ الأهدابِ التي تشابكَت بفعلِ الاملاحِ التي تسقُط بثراءٍ من عينيها، وصلَت كفّه إلى خصرها لتسترخِي هناك ، بينما رجفةٌ أصابتْ خلاياها ، جعلتها تدفن وجهها بين ركبتيها وتلفظَ بعذاب : روح ! ما أستاهلك ... ما أستاهلك ! مع إنّ هالشيء بيحرقني ، بيقهرني ... بس اللي تستاهلك وحدة أنقى مني ... أنا ، أنا حقيرة !
عضّت شفتيها بعدَ كلمتـها الاخيرة، تلك الكلمـة التي كانت كافيةً لتُغضبـه .. شعرت بِه يُمسك بها من كتفيها ويرفعها قسرًا ، أدارها إليه لتقابله بملامحها ، فغرت فمها وهي تنظُر لوجههِ بينما ركبتيها انخفضتا لترتاحا على السريرِ بعدَ إدارته لها إليه والتي آلمتها . . لفظَ سلطان بحدةٍ وهو ينظُر في عمق عينيها مباشرة : خلصتي كلامك أستاذة غزل؟
غزل تبتلعُ ريقها ، وبرجاء : سلطان تكفى !
سلطان بحدّةٍ يقاطعها : إذا اللي تبينه موشح من الجُمـل الغبية على قولتك ... فمالي ومال النساء دام الغزال عندي؟
ارتعشَت شفاهها، وهذهِ المرّة سقطَت دمعةٌ من عينها اليُسرى .. هزّت رأسه بالنفي ، تحشرجَ صوتها ليخرجَ إليه باهتًا بذهول : يا الله !! .. ما يصير والله ما يصير !!!
سلطان بغضب : رفعتي ضغطي بهالكلمة ، وش اللي ما يصير؟!
غزل وتشعر أنها تُخرج الكلمـاتَ قسرًا : تستاهل وحدة أفضل مني .. ما يصير ، ما يصير أكون زوجتك وما يصير تتمسّك فيني !!
سلطان من بينِ أسنانه لفظَ بغضبٍ وهو يتركُ كتفيها ويبتعدُ بنفاد صبر : الله يغثّ العدو !! * استدارَ فجأةً ليردفَ بصوتٍ ارتفـع بتحذير * مو إنتِ اللي تحددين مين اللي تناسبني ومين اللي ما تناسب !! ومو إنتِ اللي تجين الحين وتقرّرين عن حياتنا بعد ما خسرتِي هالفرصـة .. ومو إنتِ .. مو إنتِ يا غزل اللي تقرّرين إنّك الثرى ! إنّك قمـر معتم على قولتك ... بالنسبة لي إنتِ شيء أكبـر ، وهذا قراري بعد ما خسرتي مثل ما قلت الفرص كلّها .... تعقّلي ترى بديت أفقد صبري منّك !


،


يقفُ أمام ملامِحها المسترخيـة ، ها هو الزمـن يُعيدُ نفسه ، ها أنا أقفُ أمامك كما وقفتُ يومًا ، في هذا الصندوق الأبيض! في أجواءٍ مشابهةٍ يا أسيل وقفتُ أمامكِ ذاتَ يوم ، جئتُ بكِ أنا إلى المشفـى في تواتُرٍ مشابهٍ في الأحداث إلا أنّ الظـروف كانت مختلفة ، يومها .. يومها كانت استثاراتٌ تفيضُ بي في شكٍّ وتلفحُ فيّ نفورًا ، والآن لم يعُد هناك شك! قتِل الشكُّ باليقين .. واليوم أنتِ فعلًا ، لستِ ملكِي أنا فقط !!
أغمـض عينيهِ بأسـى ، وتراجـع للخلفِ حتى جلـس على الكرسيّ بجانِب سريرها ، كيفَ يصفُ شوقهُ وهو باتَ يراهُ محرّمًا؟ كيفَ ينظُر لها بعينِ الشغفِ ومشاعـرهُ تفيضُ وتقتله هو ! .. تقتلهُ بلذعةِ الحقيقة ، كيفَ يجلسُ قريبًا منها، عينيهِ تطوفانِ في ملامِحها الشاحبـة ، ورغمَ ذلك .. يراها ألم! .. ألم ، ألمٌ أنتِ ، لم يجدْ بين قائمـةِ الأدويـةِ مُسكّنًا ، ألمٌ سيبقى دائمًا ، كيفَ أتجاوزكِ وأنتِ وجعٌ مزمن؟ قولي ، كيفَ أغضّ الطرفَ عن أجفانكِ الآن وأقاومُ شوقي رغمَ أنّني أدرك أنّه لن يرتوِي أبدًا . . ما الذي أفعله الآن؟ ما الذي أفعله بالنظـر إليها؟!!
عضّ شفته وهو يقفُ ويمرّر أصابعه بينَ خصلاتِ شعره، تنهّد بأسـى ، ومن ثمّ تحرّك ينوِي الذهـاب ، لن يحتمـل أن يراها أكثر ، لن يحتمل ! .. قرّر أن يخرج ، ويرحـل من المشفـى ومن ثمّ ينظُر لطريقةٍ أخـرى حتى يعودوا ما إن تستيقظ ، يتحدّث مع السائق !! .. لا لا يستطِيع أن يفعـل ذلك ، لا يليقُ أن يتركهم بعد أن وصـل إلى هنا ! يا الله !!! . . شدّ على أسنانِه بغيظ ، في تلك الأثنـاء كانت ام فواز تجلسُ في مصلّى النساءِ بعدَ أن تجاوزا صلاةَ الظهر ، في البدايـة صلّى هو في المسجدِ وبقيَت هي معها، وما إن عادَ حتى ذهبت هي للصلاة، لم يصتدموا بحوارٍ طويل، كلّ الأحاديث بينهما كانت سطحيةً وتتعلّق بحال أسيل وحسب !
وقفَ عند البـاب، وضـع يدهُ على المقبــض وترددٌ يصيبه ، لا يريد أن يذهب ! ويريد ذلك .. يريد أن ينظُر لوجهها إلى أجلٍ غيرِ معلوم .. ولا يريد ذلك ! يريد أن يبقى .. أن يبقى وحسب !! .. لا ! لا يريد ذلك!!!
أغمـض عينيه بقوّة ، كل الإراداتِ اغتالها ، البقاءُ أو عدمـه ، نسفها بقرارٍ واحد .. الهرب! الهربُ من كلّ شيء ، لذا قرّر أن يخرج، ليسَ لأنه لا يريد البقاء ، لكن لأنه يريد الهربَ من هذا التخبّط ! .. أدار المقبـض ، في اللحظـةِ ذاتِها التي وصـل إليهِ فيها صوتُ أنينٍ جـاءَ من ألمِ صدرها ، تجمّدت يدهُ على المقبضَ دون أن يجذبَ البابَ ويخرج ، شدّ على أجفانِه وصدرهُ يرتفـع بأنفاسٍ متعثّرةٍ بأساه .. بأيّ قدرةٍ استطاعَت نسفَ القرارِ الاخير؟ القرار الذي نسفَ ما قبله / القرار الذي كـان لأجل نفسِه ، ليكتشفَ الآن ، أن زوالـه ، كان لأجل نفسِه أيضًا ! .. لأجل شوقه ، لأنه إن هـرب منها ، فمعنى الهروبِ إليها !!
استدارَ ببطءٍ وملامحـه تُظهـر انفعالاتِه ، نظـر إليها، تفتـح عينيها ببطء ، تفغـر فمها بألم ، ارتفعَت كفّها برجفةٍ وضعفٍ إلى بطنها بشكلٍ تلقائي ، تأوّهت بألم ، ليندفـع مباشرةً إليها وقلبه ينقبـض لملامِح الوجَع فيها ، وقفَ بجانِب رأسها ، ومن ثمّ انحنى بوجهه إلى وجهها وهو يهمـس بوجعٍ مماثـلٍ لتغضّن ملامحها التي يعشق : سلامتك .. سلامتك يا وجعي !
حرّكت رأسها بضيـاع ، كانت تشعُر بجفافٍ حادٍ في فمها ، تفرجُ شفتيها وتتنفّس من بينهما فيتضاعفُ الجفاف أكثـر، سقطَت عيونها على ملامِحه القريبـة ، أنّت وهي تعودُ لإغمـاضِ عينيها ، بينما ارتفعَت كفّ شاهين بألمٍ تغلّب على شوقِه الملتهب، وضعَها على عينيها المُغمضتين ، ومن ثمّ همـس بعمقٍ وخشوع : اللهم ربّ الناس ، أذهب الباس ، واحفظ لي عيونها !
كـان يدرك في تلك اللحظـاتِ أنّها لم تستوعبْ ما حولِها كمـا يجب، لذا كانت ساكنـة ، متألمـة ، لم تقُل شيئًا وربّما لم تنتبه كما يجب أنّه - شاهين -!! . . . انحنى أكثر إليها ، ولم يستطِع أن يمنـع نفسه من تكرارِ قبلته ! .. قبّل جبينها ، وجنتها البارزة بعد أن رفـع كفّه عن عينيها ، قبّل المساحـةَ التي تؤمّن لهُ القليلَ من السكينةِ والطمأنينـةِ في ملامِحها ، استراحَت كفّه على شعرها .. لا يستطِيع أن يحتمـل النظـر إليها وهي في إغمائها ، فكيفَ إن فتحت عينيها ونظـر لأحداقها ، كيف إن التهبَت أشواقه أكثر بانكسارِ هدبها لوعكةٍ اغتالتها .. يا الله كم اشتاقها خلال تلك الأيـام! كم اشتاقها ، يؤلمـه أنْ يشتاق ، ويؤلمه أكثر أن يلقاها من جديدٍ فيقبّلها بملء أشواقـه ، يؤلمـه ، أن يعودَ إليها ملاذًا من وجعٍ وأن تولّد فيه وجعًا أكبـر ... لا يستطِيع أن يتوقّف عن تقبيلها والنظر إليها بتصوّر ملامح متعب ! لا يستطِيع أن يُقيّد هذا الانفجـارَ الآن بذنبِه !!
همسَ وهو يحطُّ بجبينه على جبينها كـ - شاهينٍ - حطّ على عشّه ، على موطِنه ، على الأرضِ التي تسقيه حياة : وحشتينـــــــي !! غصب عن هالوجـع ، وضِعف هالوجـع الحين .. وحشتيني !
عادَت لتفتح عينيها ، تفغـر فمها، تريد أن تقول شيئًا! تريدُ أن تتحدّث ، تريد أن تُطلـق سراحَ صوتِها الذي سُجِن خلفَ قضبانِ الجفاف ... تريد أن تسأله ! .. ماذا حلّ بابني!! .. وكأنها في هذهِ اللحظـة ، أدركَت في غمـرةِ خمولِها وضعفها، أن تواجدها هنا كـان لألمٍ ارتبطَ بطفلها ، ألمٍ كـان عنيفًا على جسدها والآن مشاعرها ...
حاولت أن تتكلـم ، واستطاعَت أخيرًا أن تعربَ عن خشيتها بنبرةٍ مبحوحةٍ جرحَت حنجرتها : ال .. الجـــ ... الجنـ ين !!
تخلخَلت أنامله خصلاتِ شعرها ، بينمـا تنهّد صدره ، وهو يقبّل وجنتها بعمـق ، بمواساة! ومن ثمّ يهمـس بأسى : معوّضة !
شعرَ بوجهها يتشنّج ، برودةٌ تسلّلت إلى جلدها ، انسحَب الدفءُ الباقِي فيها ، لم تشعُر بنفسها إلا وشهقـةُ بكاءٍ تتسلّل من بينِ شفتيها ، ارتفعَ وجهه مباشـرةً وهو ينظُر لها ببؤس ، في حين انفجرت عينيها بحدّةِ السهامِ التي غُرسَت في صدرِها الذي لم يفرح كما يجبُ بعد ، كـانت قد بدأت تهتمُّ بطريقةِ أكلـها ، لم تمرّ ثلاثةُ أيامٍ حتى منذُ عرفت عنه فكيفَ غادرها بهذا الشكل؟ يا الله ! يا الله ما هذا الألـم ، لم أفرح كما يجب، فلمَ رحـل !!!
رفعَت كفّها المرتعشـةِ لتغطّي عينيها وتبكِي بفقد ، بينما بقيَ شاهين ينظُر لها بصمت ، ماذا كانت مشاعره حينَ علِم أنّ الجنينَ فُقِد؟ كـان خوفُه عليها هي أكبـر ، لكن بالمقابـل ، لا ينكـر أنّه شعـر بأنّه فقدَ جزءً منه ! .. شعـر بحزنٍ أخفاهُ سريعًا باهتمامِه بها هي تحديدًا دون أن يبالي بأيّ شيءٍ سواها !
مرّر طرفَ لسانِه على شفتيه ، مدّ يده ليُريحها على وجنتها وهو يهمـس بحنان : أسيـــ . .
قاطعتـه بحدّةٍ حين أدارَت وجهها عنه وصدّت ، وبنبرةِ بكاءٍ من بينِ شفتيها ، بصوتٍ هجوميٍّ حـاد : أنت السبب .. أنت السبب !!!
شاهين دون فهم لفظَ مستنكرًا : خلاص بعدين نتفاهم .. الحين أنتِ بس ارتاحي.
أسيل تنظُر نحوه لتصرخ بغضبٍ في وجهه : ما أبـي أتفاهم معك ... اذلف من وجهي !! عرفت خلاص ليه تركتني بهالشكل الرخيص ! عرفت كل شيء يا شاهين !
غصّت ، واختنـق صوتُها بعذابٍ وهي تُردفُ دون تصديق ، بصوتٍ باهِتٍ خافت : شلون يطلـع عايـش بعد هالسنين؟!
أجفـل ، واتّسعت عينـاه بصدمـة ، كيفَ علِمت؟ فواز !! فواز .. لا أحد يعلمُ سواه ، لمَ أخبرها؟ نعم كـان يريده أن يخبرها هو .. لكن الآن !! أيعقل أن يكون سبب إجهاضها هو هذا!!
ارتبَك ، وتوتّر حلقه لتتحرّك تفاحـةُ آدم في انزلاقٍ متوجِّع ، ماذا يعني؟ ها هـي أصبحَت تعرفُ أن متعب حي ، زوجها هي ... حي !!
تجـاهل الوخـز الذي كـان يشعُر بِه يستحوِذ على جسده ، اقتربَ من السريرِ خطوةً لا يدري متى ابتعدها ، ومن ثمّ همسَ بنبرةٍ مختنقـة : أسيـــلـ ....
قاطعته من جديدٍ وهي تحاول أن تسحبَ جسدها بعيدًا بنفور ، ترتعش ، تنظُر لهُ بأحداقٍ تلتمـع من بلّوراتِ الدموع ، وينتفضُ صوتها في حنجرتها بقهرٍ وحقد : لا تقرب .. ما أبيك! ما أبيك تقرب مني ولا أبي أشوفك بعد اليوم !!!
تصلّب جسده ، ورغمًا عنه ، ارتدّ للخلفِ وهو يبتسـم ، يبتسـم بحسرة ، يبتسـم بخسران ، لمَ هذه الابتسامـة وهو الذي كـان يدرك منذ البداية أنّ هذهِ ستكونُ إجابتها؟ لمَ هذهِ البسمـة؟ وهو يدرك منذ البدايـة .. أنها لن تكون له بل لمتعب !!
همسَ بنبرةٍ منهزمة ، بابتسامةٍ لم يتلاشى شبحها، بملامِح استرخت ، بشكلٍ بعيدٍ كلّيًا عن معنى الاسترخاء الداخليّ : اخترتيـــــه؟!!


،


قبل ذلك بساعات ، ظهرت على ملامِحه العتمـة ، أغمـض عينيهِ بقوّةٍ وهو يستمـع لكلماتِ أمّه عبر الهاتف : بتدخل حاليًا غرفـة العمليات عشان التنظيف . . . الله يسامحك! الله يسامحك وش قايل لها؟!
اختنقَت كلماتُها بحسـرة ، لم تُضِف شيئًا ودموعها سقطَت ، كـانت فرِحَة ! ولم تكتمـل فرحتها بل بُترت من أطرافِها .. فتحَ عينيه وهو يُميل فمه بأسى ، هل هو من تسبّب بفقدِه؟ يا الله !!! .. لم يجِد ما يقوله، شعـر بقبضةٍ تعصرُ قلبـه ، لا يكـاد يصدّق أنه تسبّب في مقتلِ جسدٍ صغيرٍ قبـل أن تُنفـخ فيه الروح ! . . عضّ شفته ، واندثـر ثباتُ صوتِه في حينِ لم يجِد ما يقول سوى : آسف !
ماذا يقول؟ ليته لم يقُل لها ! ليته انتظـر حتى تتحدّث هي قبلـه !! . . أغمضَت امه عينيها بقوةٍ وأسى، وبحسرة : وش نسوّي بأسفك؟ * أردفت وكأنها تدفعُ الكلمات دفعًا * إرادة الله ... بس وش قلت لها بالضبط؟
فوازْ يُشتّت عينيه وكتفٌ اصتدمَت بكتِفه ومن ثمّ مضَت لوقوفِه في مكانٍ خاطئٍ قُربَ بابِ المطعـم ، لم يتحرّك وهو يلفظُ بخفوت : سلامتها ، اعتذري لها بالنيابة عني ... وقولي لها بتّصل عليها بعدين .. ما كنت أدري إنها حامل !
لم يعلمْ ما يقول أكثر ، لذا أغلقَ وهو يزفُر بعمقٍ ويشدُّ على أسنانِه بقهر ، حيـن جاءَ يُريد وضـع حلولٍ لضياعِها ، أضاعها أكثر! كرِه نفسـه ، سبّب لها الآن ألمًا آخر ، فقدَت الجنين بسببه ! .. بسببه !!!!
تحرّك ينوِي الخروج، نسيَ سبب قدومه ونسي أنّ فارِس ينتظـره ، خرجَ من المطعـم بضيقٍ ينبشُ سكونه ، ابتعدَ عن بابِ المطعـم خطوات، ليتوقّف فجأةً ما إن شعـر بكفٍّ على كتفِه وصوتُ فارس يأتيه مستنكرًا : فواز !
استدارَ فواز ببطءٍ إليه ، عقدَ حاجبيه باستغرابٍ إلا أنه سرعان ما ابتسـم بتشوّشٍ حين استوعبَ سبب قدومه ، وبنبرةٍ باهتـة : آآه أهلين نسيت إنّي دخلت المطعم عشان نفطر سوا.
فارس يعقدُ حاجبيه باستنكار : شفتك كنت تكلم وانقلب وجهك ! عسى ماشر؟!
فواز بضيقٍ يرفعُ يدهُ ليضغطَ على أعلى انفِه بسبابتهِ وإبهامه : الشر ما يجيك ... بس أختي أجهضت.
فارس بأسف : اووه معوضة إن شاء الله ... خيرة.
أومأ دون أن يضيفَ شيئًا، بينما ابتسمَ فارسْ محاولًا تخفيفَ جدّةِ مزاجِه وهو يحيط كتفه ويسحبه باتجاه الباب : يلا عاد تراني طالب لك أنت وخشّتك ذي ... وين تبيني أصرف اللي طلبته؟!
ابتسـم فوّاز دون تعليق ، ومن ثمّ دخـل معه للمطعـم ليتّجها للطـاولةِ مباشـرة ، جلسَ في الكرسيّ الذي كـان بجانِب فارس ، وأمامه ، كانت تجلسُ جنان التي شتّت عينيها عنه بربكة !
ابتسـم فواز بهدوءٍ ظاهري : كيفك جنان؟
جنان بخفوتٍ مضطربٍ تنظُر لكلّ ما حولها سواه : الحمدلله.
لم يُضِف شيئًا ، لم يكُن يريد أن يُطيل في الحديثِ معها فيحرجها أمام فارِس أو يوضِح مقدار عدم التوافق بينهما ، مرّت لحظـاتٌ طويلـةٌ والأحاديثُ تغرقُ في عمقها بينه وبين فارس ، يحاول أن ينسى ضيقه ، يحاول أن يغادرَ الحقيقةَ التي افتعلها ، أنّه تسبب في موتِ جنينِ أخته ! يحاول أن يستوعب أنه جعلها الآن حزينة !! . . كانت الأحاديثُ تشمله وفارس فقط، لم تكُن جنان تشارك بالكثير ، كانت صامتـة ، تشردُ في كوبِ عصيرها ، تبحثُ عن انعكاسٍ شفّافٍ لها ، تبحثُ عن شيءٍ ما .. كبسمة ! وعدمِ ضيقٍ في هذهِ اللحظـات.
انتهوا من الأكل ، وقفَ فارِس وهو يبتسم ويلفظ : يلا انتهت العزيمة يا أخ .. المرة الجاية عليك .. ما نبي نطوّل أكثر برى البيت ، هنا مفترق طُرق.
ابتسمَ فواز دون تعبير : طيب أقدر أطلب منك طلب؟
فارس يضربُ صدرهُ بقبضته : عطيتك.
فواز : هههههههههههههههه اهجد ترى الطلب أختك .. بخطفها كم ساعة.
عقدَ فارسْ حاجبيه باستغرابٍ بينما اشتعلَت حواسُ جنان التي نظرت مباشرةً إلى فواز بعينينِ تتّسعان توجّسًا ورفضًا، تجاهل فوّاز نظراتها وهو يلفظُ بهدوء ناظرًا لملامِح فارس المستغربـة : بدل ما أقضي وقتي بروحي ودي أتمشى معاها .. إلا لو عندك مانع أطلع مع زوجتي !
ارتبكَ فارس قليلًا وهو يوجّه أحداقه لجنانْ التي تكادُ تهزُّ رأسها بالرفضِ في صورةٍ صريحة ، شعـر بالحرج، لذا لفظَ بحيادية : إذا جنان ما عندها مانع !
فواز بتداركٍ قبل أن تلفظَ جنان باعتراضٍ ما : ما تفشليني صح؟
قالها وهو يوجّه نظرةً إليها مع ابتسامة ، حينها توتّرت واضطربت وهي تُخفضُ رأسها وتشدُّ على أسنانها بغيظ ، واللفظُ الصريحُ لـ " لا " وأده بأسلوبِه الماكِر هذا.
ذهبَ فارسِ وهو يودّعهم بعد أن أعلنَت جنان بصمتِها عدم الإعتراض، أسنـدَ فواز مرفقيه على الطـاوله ، ومن ثمّ وضـع كفّه على رأسه ، أغمـض عينيه وتنهّد ، ليردفَ بخفوت : جنان لو أقول لك اوثقي فيني بتثقين؟
مرّرت طرف لسانها على شفتيها بربكةٍ وهي تُخفضُ نظراتها المستغربـة عن ملامِحه المُرهقـة ، وبربكةِ صوتِها المجنون في رفضِه لهذه الخلوةِ بينهما : ليه؟
فواز يفتحُ عينيه وهو ينظُر لها بعينينِ مرهقتين ، ابتسمَ بأسـى ، تمنّى في هذهِ اللحظـةِ لو يشارك أحدًا ، من قد يشارك ، غير زوجته التي يحاول البدء معها ونسيان جيهان؟ : أختي أجهضت اليوم.
عقدَت جنانْ حاجبيها ، وبتيه لا تدري لمَ يخبرها ، ولا تدري بمَ ترد! : الله يعوّضها.
ضحكَ ضحةً خافتـةً ساخرةً من حالِه ، لتبتلع ريقها بربكة مستنكرةً ضحكته ، بينما لفظَ فواز وهو يركّز بأنظارِه على عينيها ، ويلفظَ بابتسامة : بلاش مجاملات.
جنان بحرجٍ حرّكت أحداقها للأعلى وملامحها تتشنّج بربكة، همسَت ببحّة : وش تبيني أقول يعني؟
فواز بنبرةٍ جامـدة ، لا مشاعر فيها ، لا تعبير ، ولا شيءَ يوضـح لها مقدارَ ألمه ! علمَت فقط .. أنه يتوجّع ! : تدرين إنها أجهضَت بسببي؟
ارتفَع حواجبها بتفاجئٍ لتهتف ببهوت : أنت؟ شلووون؟!!
فواز بأسى : بغبائي طبعًا ...
لم يوضِح لها أكثـر ، لكنّها في تلك اللحظـة ، ورغمَ أنّها لم تكُن راضيتةً عن جلوسهما معًا .. إلا أنها تعاطفَت معه أخيرًا لتسترخي ملامحها ، ابتسمَت بمواساةٍ لتلفظَ بهدوءٍ ورقّة : ما راح تكرهك.
ابتسم لمحاولتها الناعمة في مواساتِه ، نظـر لعينيها اللوزيتين لينطق : هي أكيد ما راح تكرهني .. بس أحس إنّي متضايق !
جنان بنعومة : خلاص هذا اللي ربي كاتبه لها ... وش بيفيد ضيقك يعني؟
امتدّت يدهُ إليها ليضعها على كفّها المستريحة على الطاولة بهدوء ، لحظَ تشنّجها وارتباكِ ملامحها ، وما إن شعر بها تحاول سحب يدها بهدوءٍ حتى شدّ عليها وهو يلفظُ بنبرةٍ متشدّدة : لو أطلب منك تثقين فيني .. بتثقين؟
جنان تبتلعُ ريقها بربكـة ، لا تدري ، لكنّها في تلك اللحظـة ومع تعاطفها تجاهه شعرت أنها تريد أن تثق : أ ... أظن أيه.
وقفَ فواز وهو يبتسـم بصفاءٍ ويدهُ مازالت تُمسك بكفّها يريد أن يستحثّها للوقوف .. بينما صوتُه ينطق بابتسامة : أجـل تعالي معي . .


يُتبــع ..


كَيــدْ 07-08-16 11:20 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


تقفُ عند النافذَةِ وهي تسندُ ذقنها على كفّها ، تحرّك طرفَ سبّابتها على طرفِ الكوبِ الذي يشعُّ ببياضٍ يتضاربُ مع سوادِ القهوة، تنظُر للسمـاءِ بضجـر ، دخَلت أرجوانْ وهي تطوِي وشاحًا لها حولَ ذراعيها ، وبضيق : ادخلي وإلا لفي شعرك .. شفيك طالعة كذا؟
جيهان دون مبالاة : ماني طالعة لا تبالغين محد بيشوفني .. وراي مساحة البلكونة بعد.
أرجوان باستنكار : الحين أنتِ تتأملين وشو بالضبط؟ صايرة تجلسين عند النافذة كثير.
جيهان بسخريةٍ من حالِها : أنتظر يمر وأشوفه.
اتّسعت عينا أرجوان بصدمةٍ من اعترافها الصريح : جيــهااااان !!
جيهان تحرّك كفها التي كانت تمرّ بسبابتها على الكوب في الهواء دون مبالاة، تركت الكوبَ على طرفِ النافذة، ومن ثمّ ابتسمَت باستهزاء : أمزح شفيك صدّقتي؟!
أرجوان بحدة : لا ما تمزحين !! .. يعني بتظلّين كذا تبكين على أطلاله؟!
جيهان بنبرةٍ لا مبالية : هه ، أبكي على أطلاله؟ هو اسمه بكا وإلا موت؟!!
عقدَت أرجوان حاجبيها ، لم تعتدْ هذهِ الصراحـة منها في مشاعرها بشكلٍ عميق ، غالبًا ما تتحدّث بإيجاز ، لا تتعمّق في وصفِ شوقِها ومشاعرها تجاهه . . رقّت ملامحها بعطف ، اقتربَت منها لتقفَ من خلفِها مباشـرةً وتضعَ كفّها على ظهرِها، وبرقّة : أنتِ حتى ما تحاولين تنسينه على فكرة! حاولي وارتاحي !!
جيهان بابتسامةٍ شاردة : تدرين إنّي ما أبي أحاول أصلًا !
ابتسمَت أرجوان ابتسامةً تكادُ أن لا تُرى : واضح إنّك من فئة الناس الغير صاحية .. هذول اللي يحبون يتعذّبون بالحب.
جيهان ببؤسٍ وبعض الحقد : للأسف .. بعكس الحيوان ولد عمّك ... الله ياخذها وياخذه .. الله ياخذ قلبه الكذّاب قال يبي يبدأ من جديد قال !
أردفتْ بصوتٍ احتدَّ بحقد : سراقة رجاجيل وهو بعد مشفوح ومسوي لي فيها مثنى وثلاث ورباع جعل يطقها بالثالثة.
ضحكَت أرجوان رغمًا عنها وهي تخفضُ كفّها عن ظهرها وتنطق بضحكة : يعني منتِ منقهرة لو تزوّج الثالثة بعد؟
جيهان تُدير رأسها إليها بشكلٍ هجوميٍّ واندفاع : بنقهر بس أبيها هي بعد تنقهر ... الله ياخذ بنات حوّاء أجمع إذا ما بتطيح عيونهم الا عليه ... خلّصوا الرجاجيل يعني؟!!
أرجوان : هههههههههههههه وشلون تبينه يقهرها بالثالثة وأنتِ تبينهم يموتون؟
جيهان تزمُّ شفتيها وهي تَعودُ لتنظُر للشـارعِ عبر الفراغاتِ الممكنة، وبخفوت : تراني غبيّة ، مثيرة للشفقة على فكرة !! كلّه منه الله لا يوفقه معها ..
لم تنطُق أرجوان بشيءٍ ردًا على كلمـاتِها تلك، بينما تنهّدت جيهان بضيقٍ وهي ترفعُ الكوبَ وترتشفُ منه، تنظُر للشارِع بعينينِ فارغتينِ ببرود ، ونظراتها ... كانت في تلك اللحظـةِ تصتدمُ بما كـان كافي .. ليئدَ البقيّة الباقيةَ من تعقّلها!

في الأسفـل ، فركت كفيها بعدَ أن سحبَت يمينها من يدِه ، مرّرت لسانها على شفتيها بربكةٍ وهي تبتلعُ ريقها ، ومن ثمّ وجّهت أنظارها لملامح فواز لتلفظَ برجفة : تبيني أدخل شقّتك؟
فواز بثقة : خليك واثقة مني ... لو أقولك محتاج هالوقت أحد معي بتجين؟ .. مصدّع فوق كذا ضايق خلقِي من حال الشقة محتاسة شوي وأبيك تساعديني فيها ...
كان يريد بذلك خطوةً أخرى لحالٍ أفضـل ، لا ينكر أنّه أرادَ فعلًا أن تساعده ، على استرخاءٍ بعيدًا عن التشنّجاتِ التي تصيب روحه ، لكنّه بالمقابـل كان يريد أن يخطو خطوةً للأمام بشكلٍ أقوى.
توقّفت خطواتُ جنان وشفاهها ترتعشُ باضطراب ، تراجعَت خطوةً للخلفِ وهي تهزُّ رأسها بالنفي ، لم تقتنع بعذره ، لا تستطِيع ، لا تستطِيع أن تثقَ بِه إلى هذا الحد !! .. لفظَت بنبرةٍ ترتعشُ بخوف وتردّد : لا لا أنت مجنون! شلون تبيني أدخل شقتك كذا؟ منت صاحي أكيد وراك شيء!
ابتسمَ رغمًا عنه من أفكارها : وش سوء الظن هذا تشوفيني حيوان همجي وإلا شلون؟ والله والله والله ما أبي منك غير اللي قلته مع شويّة تقدم بعلاقتنا .. هذاني حلفت ثلاث ما تبين تصدقيني؟
جنان برفضٍ حاد : وأنا ما أبي تقدّم !
فواز برقّةٍ يحاول أن يستميلها : طيب بس عشان السبب الأول ، حلفت لك ما راح أغدر فيك .. بس ساعديني بالشقة واجلسي معي شوي .. لهالدرجة ما تثقين فيني؟
فركت كفيها ببعضهما وهي تزدردُ ريقها وتلوكُ الربكـةَ في فمها بكلماتٍ مرتجفـة : محسسني إنّ لنا سنين نعرف بعض ! ترى كلها كم شهر وما تأهل عشان نثق ببعض ... ما أعرفك زين.
فواز بثقة : طيب الحين بتعرفيني !
جنان بتوجس : ما أثق فيك !
فواز يضحك : يا بنت الناس والله ما آكل لا تبالغين ... وبعدين ما يكفي إنّي حلفت؟ من حلف لكم بالله فصدّقوه ،
شتّت عينيها وهي تنفخُ من فمِها هواءً مرتجفًا ، لم يمهلها لترفـض أكثر ، أحاطَ كتفيها ومن ثمّ جذبها معه إلى بابِ المبنـى في اللحظـة التي انتبهَت لهما عيونُ جيهان ...
غير معقول ! غير معقول!!! ... كانت عينـاها تتابعـانِ المكانَ الذي كانا يقفانِ فيه إلى حيثُ اختفيا ، هي ! هي .. هيَ زوجته !! جنان !!!!
تراجعَت للخلفِ بصدمةٍ وصدرها شعرت بأنّ وخزًا أصابه، قلبها اعتصـر بكفِّ المنظـر الذي رأته الآن ، بحجمِ ما كانت تقفُ أمام النافذةِ لم ترهُ إلا مرتينِ تقريبًا ، فلمَ وقفَ معها القدر اليوم تحديدًا لتراه ، لتراه معها ! مع التي أحرقت فؤادها حين شاركتها به !! . . ابتلعَت ريقها بصعوبـة ، رفعَت كفّها لتضعَها على حنجرتها ، كـانت قطراتُ القهوةِ التركيّةِ تنسكب ، الكوبُ يحطُّ متمدّدًا على طرفِ النافذةِ وانسكبَ ما فيهِ بشكلٍ منسابٍ على الجدار ، ككحلٍ أسود! .. كعينيْ امرأةٍ بكَت حبًا وامتلأت وجناتها بالسواد ، كيفَ ترتسمُ اللوحـةُ أمامها الآن عوضًا عن وجهها؟ لم تبكِي ، لكنّ النافذةَ بكَت بدمعٍ مرّ ، بدمعٍ أسودٍ شقّ الجدرَ كشلالٍ موبوءٍ بالأحزان . . كانت تضغطُ على حنجرتها وهي تشعر بها تعتصرُ وتتمزّق ، عقدَت أرجوان حاجبيها باستغرابٍ وتوجّسٍ وهي تلفظ : شفيك؟
يا الله يضحك معها! رأته الآن يضحكُ لها ! .. هذهِ الضحكـة التي تنقصنِي الآن وسرقتها منّي ! لمَ رأيته بهذا الشكل؟ لمَ رأيته أخيرًا معها وأنا التي كانت لمجرّد التفكير تجنّ! . . حاولت أن تبتلعَ ريقها ولم تقدِر ، اختنقَت أحداقها بالتهاباتِ الحمرةِ من القهر ، شعرت بأنّ كلّ ما فيها ثقيلٌ وبـأن سوائل جسدها تغادرها ، جميلة ! جميلةٌ جدًا! حتى وإن لم يكُن يحبّها فلمجردِ النظـر لملامحها سيبتسم ! .. لقد كان يبتسم لها ، كـان يضحك ... يا الله ما هذا الوجع الذي اعتصرَ قلبي! .. تسكُن معه هنا ! أو ربّما فقط جاءت معه وستذهب ! .. وإن يكُن ، هي ، هي دخلَت نفس المكان الذي تشاركت فيه لحظـاتٍ مع فواز . . . عضّت شفتها بألم ، بينما كفّ أرجوان استراحت على كتفها بقلقٍ وهي تلفظُ بنبرةٍ حادة : جيهان وش فيييييك؟!!!
جيهان بغصّة ، صوتها اختنق ، خرجَ منفعلًا ، مرتحلًا خلفَ أكوامٍ من الجفاف ، خرجَ خافتًا، خافتًا يكادُ أن لا يُسمـع : فـ .. فواز ... معها ... يضحك معها!!!
أرجوان دون فهم : مين؟!
جيهان وصوتها انفعلَ فجأةً دون أن يرتفـع قيدَ أنملة : الحقيييييييييرة .. آآخ يا قلبي ، أحس بوجع ! معه ، كانت معه وجات لهنا ! .. آآآه يا ربي ليش شفتهم لييييش؟!!
تراجعَت أرجوانْ للخلفِ وهي تفرجُ شفتيها قليلًا وقد فهمت ، تقصد زوجـة فواز الأخرى! رأتهما !!!! . . لم تعلَم ما تقول ، إلا أنها فتحَت فمها لتلفظَ بنبرةٍ باهتة : طنشيهم ! جيهان مو معقول ما تشوفينهم مع بعض بيوم ! بتظلين تقهرين روحك كذا!
كانت كمن لم تسمعها ، شدّت على شفتِها بأسنانها بقهر، واضطربَ تنفسها لتلفظَ بحقد : حلوة ! مرررة حلوة يا أرجوان !! إذا أنا أشوفها كذا ! هو شلون يشوفها؟
أرجوان بحدة : جيهان !
جيهان تتذكر كلمات الطبيبة التي تحدّثت مرةً عن " الجمـال " في العيون ، لم تشعُر بنفسها وهي تنطُق بقهرٍ وحقدٍ اختلطَا بخيبتها : يا رب قبّحها بعيونه ... يا رب قبّحها بعيونه ، يا رب لا تكتب لهم التوفيق! يا رب ما يحبها !! شلون أصلًا يحب وحدة تناظـر برجال متزوج! حيوانة ... حيوووووااااااانة !!
تحرّكت بقهرٍ ودون هدى لا تدري أين تتّجه ، لكنّها كانت تتحرّك جيئةً وذهابًا بضياعٍ وهي تردف بنبرةٍ تختنق أكثر : هي معه الحين .. دخلت المكان اللي كنت فيه قبلها !! يا الله ما عندها كرامة هذي ما تحس على عمرها الوصخة !! ...
أرجوان بضيقٍ تقتربُ منها : بطلي تسبينها بهالشكل .. جيهان !
جيهان تنظُر إليها ليرتفعَ صوتها فجأةً بغضب : اتركيني من مثاليتك !! انقلعي من وجهي ماني رايقة لنصايحك.
أرجوان بنبرةٍ غاضبة : جيهان وبعدين؟ يعني إيش بتستفيدين يوم إنّك تسبينها وتفوز عليك يوم القيامة بأخذ حسناتك؟ هذا اللي تبينه؟
جيهان تعضُّ شفتها بقهرٍ وعيونها تحتقن، هزّت ساقها بضغطٍ يكادُ يفجّرها ، ارتفعَت كفوفها لتتخلخل بها شعرها المفتوح وتلفظَ بحشرجة : تاخذ حسناتي بعد!!! ... الله ياخذها الله ياخذها كل شيء بتاخذه مني يعني مو كفاية أخذته هو الحيوان الثاني؟!
ضحكّت أرجوانْ في لحظةٍ لم تكُن تريد فيها أن تضحك، حينها نظرت جيهان إليها بقهرٍ لتردفَ بانفعال : الله ياخذك معهم .. انقلعي من وجهي انقلعــــي !!
أرجوان تعضُّ شفتها لتكتم ضحكتها ومن ثمّ تلفظ : أنتِ سامعة نفسك بالله؟ اهدي يا بنت خليهم يطقّون فوق.
جيهان تشهقُ فجأةً كمن استوعبت أن ما يفصلُ بينهما طابقٌ واحد ، هي في الأعلى !!! .. ابتلعَت ريقها بقهرٍ ومن ثمّ لفظَت بتفكيرٍ يضيق أكثر : يطقّون فوق! الحيوانة ذي فوقي أنا !!! .. فوق ما دخلت نفس المكان اللي عشت فيه هي فوقي أنا !!! * أردفت بملامح تشتعل * ما يصير أروح لها وأنتف رموشها ما يصير؟!!!
أمسكَتها أرجوان وهي تدرك أنها قد تفعلها فعلًا ، تدرك أنها مجنونةٌ حينما يتعلّق الأمـر بفواز ، لذا جذبتها معها لتجلسَها على السرير وتلفظَ بحدّة : جنّيتي أنتِ؟!
قوّست جيهان فمها، صوتُ أنفاسها يتصاعد ، نظرتها تشوّشت بضبابِ الدموعِ التي سيطرت عليها ولم تسمـح لها بالسقوط ، هي معه ! .. نعم ، هيَ معه ! يبتسم لها ، يضحك معها ، يُمسك يديها .. كما يحيط كتفيها كما فعـل قبل قليل! ... هي معه بعد أن تركني!


،


طرقَ البابَ طرقتينِ ومن ثمّ دخـل للغرفـة بهدوء، عقدَ حاجبيه ما إن رأى عنـاد متواجدًا ، توقّف لثانيتنِ ومن ثمّ أكمـل سيره وهو يلفظُ بهدوءٍ وكأن سلمـان ليس هنا! : متى جيت؟
عناد ينظُر نحوه ويبتسم : مالي وقت ، من نص ساعة تقريبًا.
سلطان ببرود : همممم.
وقفَ بجانِب عناد دون أن ينظُر لسلمان المُتمدّدِ حتى أو يبالِي بنظراته الباردة نحوه، نظـر لهُ وهو يلفظ بنبرةِ شك : اهتمامك فيه ترى ما يعجبني !
عناد يرفـع حاجبه وهو يبتسـم دون تعليق ، لم يملك الوقتَ الكافي للردْ حتى جاءَ صوتُ سلمان يسبقه باستفزاز : مثل اهتمامك أنت؟!
سلطـان ينظُر نحو سلمان بجمود ليردُّ دون مبالاة : هذي مختلفة ... اهتمام قهري.
سلمان بمكر : قهري شلون؟
سلطان : نفس اهتمامك فيني طوال سنين وأنت قاتل أبوي وكارهه !
سلمان وفمه يميلُ للأسفـل ببرود ، لفظْ : أها الموضوع كذا .. أفهم إنّي أساسًا أهمك!
سلطان يبتسمُ ابتسامةً لا معنـى لها : لا تحاول تقنعني إنّي وقتها كنت أهمك! محدْ بيحب ولد شخص قتله.
سلمان بنبرةٍ مستفزّة : يمكن حسيت بالذنب وقررت أرضي ضميري بتربيتك.
سلطان يرفعُ حاجبيه بتعجب : ترضي ضميرك؟ عجيب والله.
سلمان وشفاههُ تمتدُّ في ابتسامـةٍ هادئة : يبه سلطان ! ترى عاجبني إنّك صاير هادي وما تنفعـل مثل قبل زي الأطفال .. فلا تخربها الحين.
كان يدرك أنّه يحاول استفزازه بكلمـة " يبه " لكنه لم يبالِي بها وهو يسحبُ الكرسيّ ويجلسَ عليه، وبهدوءٍ وهو يكتّف ذراعيه : تطمّن من هالناحية * وجّه نظراته إلى عناد الذي كان يتابعهم بصمتٍ ليُردف * متى قال الدكتور بيطلع؟
عناد بهدوء : ما حدّد للحين.
أومأ برأسه بصمت ، بينما حرّك عنادْ رأسه وهو يمسّد عنقـه المتصلّب ، تحرّكت أقدامه ليلفظَ بصوتٍ هادئ : اعذروني مضطر أمشي ... انتهت زيارتي السريعة.
خرجَ دون أن يُضيفَ شيئًا، حينها عمّ هدوءٌ غريب، مرّر سلطان طرفَ لسانِه على شفتيه ، ومن ثمّ لفظَ ببرود : شلونك اليوم؟
سلمان بهدوءٍ يريد أن يعلـم إلى أين سيصل تحديدًا : الحمدلله طيب بشوفتك.
سلطان يبتسم بسخرية : يا بختي !
سلمان بنبرةٍ خفتت فجأة : لوين بتوصل يا سلطان؟!
سلطـان يُعيدُ ظهرهُ للخلفِ ليُغمـض عينيهِ أخيرًا وهو يكتّف ذراعيه ، وبخفوتٍ لا يدري ما سيصل إليه أيضًا : أنا نفسي ما أدري.
سلمان : يعني وش أفهم من تصرفاتك الغريبة هاليومين؟ ماني متخيّل إني مو قادِر أفهمك هالمرة!
ابتسمَ بانتصار : كويّس .. فيه تطوّر بهالناحية ..
أغمـض سلمان عينيهِ وبعضُ الآلام عاودته ، عضَّ طرفَ شفته وهو يلفظُ بنبرةِ ألـمٍ خافتـة : وش قصّتك ما تجي إلا ويرجع لي الألم ، لا واضح دعواتك قويّة.
اعتدَل سلطـان وهو يفتحُ عينيهِ وينظُر نحوه بنظراتٍ حادة : للأمانة تستاهل ... إن شاء الله أردى من كِذا قريبًا.
رفـع حاجبه الأيسر وهو يلفظُ بسخرية : ليه - قريبًا - بالتحديد؟ ليه ما يكون الحين؟!
فتـح فمه كي يردَّ بكلماتٍ مستفزّة ساخـرة ، لكنّ الهاتفَ في تلك اللحظـةِ اعتلا ليقاطـع حديثهُ قبل أن يبزغ.


،


نظّمت الكُتبَ في الأدراجِ جيدًا وقد انتهَت من ترتيب المكان الذي كان يعيشُ في فوضى صارخة، وجّهت نظراتها نحوه وهي تعقدُ حاجبيها باستنكار : شقتك محتاسة مرة .. من متى ما رتّبتها؟!
حكّ فواز عنقه بحرجٍ وهو يبتسـم : مو بالعادة تكون كذا .. بس هالأيام أخلاقي زفت ومالي خلق لشيء.
جنان تبتسمُ بهدوء ، رغمًا عنها كانت قد كشفَت شعرها أمامه، لم يعُد بمقدورها أن تغطّيه أكثر بما أنها وصَلت إلى هذا الحد! لذا فتحته وهي تعتمدُ قسمـه في أن لا يتمادى معها، رتّبت لهُ جميع الغرفْ بمساعدته ماعدا غرفـة نومِه التي لم يتجرّأ هو حتى أن يطلب منها مساعدةً في ترتيبها.
عدّلت الوشـاح من حولِ كتفيها، ومن ثمّ لفظَت وهي تقاومُ رغبـةً في مطّ ذراعيها ، لم ترِد أن تصبح بكامـل بساطتها معه ، لذا دلّكت ذراعها المتصلّبةَ بيدِها الأخـرى وهي تلفظُ بهدوء : يلا خلّصنا وانتهت فترة الأجواء المسالمـة بيننا ... برجع البيت.
ابتسمَ فوّاز وهو يرتمي بجسدِه على الأريكـةِ العنابيّة : شدعوى محنا بحرب والله! خليك شوي . .
جنان تعقدُ حاجبيها بضيق، ارتفعَت كفوفها لتُمسكَ بوشاحِها الملقِي على كتفيها ومن ثمّ ترفعهُ لتغطّي بِه جزءً من شعرها البُندقي، وبوجومٍ لفظَت : خليك قد كلمتك ، كان الاتفاق أجي أساعدك بترتيب البيت بس.
فواز بنبرةٍ هادئة : وقلت أبي تتحسّن علاقتنا شوي ! .. ومتضايق !
جنان بحن : ماني مهرّج عشان أرفّه عن ضيقك.
فواز يبتسم : ومين قال إنّك مهرج!
جنان بحدة : وش تبي مني بعد!!
فواز يشير لها كي تجلس بجانبه : تعالي ما راح آكلك .. ودي نسولف شوي مو معقول بعد الشغل تبينا نطلع مباشرة!
جنان باعتراض : إذا ما فيك حيل أنا بطلع بروحي ما فيها مشكلة.
فواز يتنهّد بصبر : مو عن ما فيني حيل .. بس اجلسي شوي وبنمشي.
تحرّكت على مضضٍ لتجلسَ أخيرًا بجانِبه بينهما مساحـةٌ كافية كي لا تشعـر بحرارةِ جسده، التفتت برأسها إليه لتنطقَ بضيق : هاه جلســـــ . .
بترتْ كلمتها بشهقةٍ عميقةٍ ما إن انحنى نحوها ليضـع رأسه أخيرًا على حُجرها، تجمّد جسدها بصدمة ، لم تستطِع حتى أن تنتفضَ مبتعدةً وهي توسّع عينيها وتنظُر لوجههِ الذي كان يقابلُ ملامحها من الأسفلِ وهو يغمـض عينيهِ باسترخاءٍ ويهمسُ ببساطةٍ وكأنه لم يقُم بشيء خاطئ! نعم ، خاطئ! : مسّجي لي راسي.
بقيَت تتطلّع بِه بصدمة ، لم تستوعب جرأته ، لم تستوعبْ كيفَ تمادى واقتربَ منها بهذِه البساطة .. مرّت ثوانٍ وهي تُريح كفيها المرتخيانِ ببهوتٍ على الأريكةِ من حولها، فتـح عينيهِ بهدوء لينظُر إليها وهو يبتسمُ ويردف بصوتٍ خافت : ترى ما كفرت ..
جنان بنبرةٍ متثاقلـة ، شعرت بالغصّة من هذا القرب لتلفظَ أخيرًا بعبرة : بديت تتمادى.
فواز يعودُ ليُغمض عينيه بهدوءٍ دون أن يفقَد ابتسامته : تبالغين.
جنان بغضبٍ اشتعـل في صوتِها فجأة : ما أبــالغ ! إنت تدري إنّي ما أبي هالزواج ... فواز حرام عليك والله حرام! أنا وش ذنبي؟ يعني تبي تبدأ من جديد ابدأ مع غيري أنا ما أبيك وندمت على اللحظـة اللي وافقت فيها بعد ضغط أبوي علي بالحكي.
فواز بنبرةٍ متباسطة : مو ذنبي إنّك واقفتي تحت ضغط ! المهم وافقتي ومسألة تطلعين من حياتي بهالسهولة صعبة!
جنان بكبتٍ ينطفئ الغضبُ من صوتِها فجأةً لتلفظَ بأسى : ومو ذنبي إنّك تبي تبدأ من جديد معي ! مو ذنبي إن المحاولة تجي على راسي.
فتحَ عينيه لتسقطَ أحداقه على ذقنها الذي تمرّد عليه خطُّ استواءٍ في وادٍ عميقٍ من المنتصف فاشتعلتْ حرارةً وذابَت عنها العظـام لتظهرَ منقسمـةً نصفينِ بإغراء، وبهدوء : مشكلتك زواجي الأول؟
جنان بأسى : مشكلتي إنّي اللي خرّبته !
فواز بنبرةٍ تهدأ أكثـر وكأنه أمسى الآن في عالمٍ آخر : أتمنى أنساها !
جنان دون شعورٍ منها ارتفعَت كفّها لتستقرّ أناملها بينَ خصلاتِ شعره ، تحرّكت كسفينةٍ تائهةٍ في محيطه وهي تهمسُ بابتسامة أسى : شقد كنت تحبها؟
فواز بخفوت : أحبها من كانت طفلـة .. أتوقع هذا جواب كافي عشان يقولك مقدار حبي لها اللي ماله حد.
جنان تعضُّ شفتها ومن ثمّ تلفظُ بابتسامة : بغار منها على فكرة !
فواز بضيقٍ مفاجئ : آسف .. ما قصدت أقلل من احترامك بذكرها.
جنان بصدقٍ وابتسامتها تتّسع : لا شدعوى لا تصدّق نفسك ما راح أنقهر على فكرة أو أغار منها ! .. بغار من حبّك لها ، أتوقع كل بنت تتمنّى مثل هالحب.
فواز دون استيعابٍ لكلماتها : ما تشوفيني حقير وأنا أحكي عنها بينما إنتِ اللي زوجتي!!!
جنان تضحكُ ضحكةً قصيرةً خافتـة : زين إنّك تدري عن نفسك!
فواز بوجوم : وتقولينها بوجهي كذا!
جنان بتحدي : مثل ما تتكلّم ببساطة عن زوجتك قدامي ! وينا فيه؟!
فواز يتنهّد بنفادِ صبرٍ وحبّه لها يشعر أنّه يعذّبه حدّ أن يلامسَ الموتَ ولا يتّحد معه : ساعديني أنساها.
جنان بثقة : لا ... ومستحيل أفكّر بهالشيء ..
فواز يبتسمُ وهو يغمضُ عينيه : منتِ صاحية .. وحدة بمكانك كانت بتغار وتحاول بأي طريقة تنسّي زوجها غيرها.
جنان : عشان مين إن شاء الله؟ شخص ما أبيه!!
ضحك : أقل شيء احترميني تراني قاعد معك.
جنان " بتريقه " : طيب إنت احترمني ولا تذكرها عشاني قاعدة معك.
فواز بخفوت : نصير ربع؟ اعتبريني صديق أقل شيء .. مو زوج !
جنان بسخريةٍ مريرة : شلون أصرفها ذي؟ تبينا نلعب على بعض يا فواز ! احنا زوجين حتى لو سمّيناها صداقة .. لعبة مالها معنى !
فواز بجدّيةٍ عادَ ينظُر لوجهها : إذا محنا قادرين نتقبّل هالفكـرة ، أو نقول أنتِ تحديدًا مو راضية تتقبلين فحاولي تخلينها صداقـة ..
جنان تريد أن ترتاح ، تريد فعلًا أن ترتاحَ من هذا الشدّ والجذب ، لفظَت بأسى : بتظلْ صداقة؟ شيء مستحيل !
فواز بثقة : لوقت بس .. لين ما تعرفين أنتِ وش تبين بالضبط ، يمكن يجي يوم وتتقبلين مصطلح زوج وقتها بنبدأ من جديد.
جنان بنفورٍ من تلك الفكـرة : تفكر إنّي برتاح وأنا عارفة إنّك طلقت مرتك بسببي؟
فواز بيأس : يا الله بنرجع لهالموضوع !! كم مرة قلت لك مالك دخل فيه؟
جنان باستفزازٍ ساخر : ما تبي نخلي المصطلح أخوان أفضل؟ الصداقة بين الجنسين ما تجوز.
فواز بصبر : لا حول ولا قوّة إلا بالله !! .. أقول صدّعتي راسي الحين غصب عنّك بتمسّجين لي .... استهدفي الفروة ليه تلعبين بشعري؟ عجبك وإلا أيش؟!
احمرّ وجهها فوقَ حُمرته ، لم تكُن قد استوعبَت أنها كانت تمرّر أصابعها بين خصلاتِ شعره ، ضربته على جبينِه باحراج ، وبحنق : سامج!!
ضحكْ : خلاص معليش بس ارحميني.


،


في جهةٍ أخـرى ، كـان يقفُ قريبًا من بابِ المبنـى ، ضـاعَ بينَ الزحـام فلم يلتقطْهُ فواز بعينيهِ أو ينتبـه لهُ هو حتى ! .. يتّكئُ بكتفيه على الجدارِ بينما عينيْ بدر تنظران إليه وهو يتنهّد بيأس. لفظَ يوسف بحزم : شفيك متصل فيني بعد يا بدر؟ قد قلت لك آخر مرة في المطعـم ما أبي منك مساعدة ، أنت بس خلّك بعيد .. عندك أشغال ومدري وشو شيء ما يهمني أهم شيء لا يقرب صوبنا.
بدر بدق : ماراح يقرب منكم شيء .. تطمّن ، أنت بس اوثق فيني وبأمّن لك حماية كــ . .
قاطعها يوسف بغضب : بدر وبعدين! سبق وتفاهمنا بهالموضوع ، ما يحتاج كل هالبلبلة بس تبعِد وتبطّل تتصل وتطلب مني أقابلك وبينحل كل شيء !
بدر بانفعـال : لا ما راح ينحل ، * تذكّر تميمْ ليُردف بغضبٍ ناري * أنت تدري أصلًا وش اللي يصير من حولك ... هذاك الـ ...
قاطعه صوتٌ جاءَ مندفعًا وهو يلفظُ ببساطـة : أووووووه جوزييف !
استدارَ يوسفْ مباشرةً لصوتِ تميمْ الذي جاء إلى مسامعهم، عقدَ حاجبيهِ قليلًا ومن ثمّ ابتسمَ وهو يلفظُ بعد اقترابِه منه : قلت لك انطقها يوسف ، وليس جوزيف !
تميم بمكرٍ يبتسم وهو ينظُر لبدر : لا يهم ..
نظـر لهُ بدر بعينينِ اشتعلتا كرهًا ، بينما كـان تميمْ يقابلـه بنظراتٍ باردة ، محذّرة !! لفظَ وهو يوجّه عينيهِ إلى يوسف : من هذا؟!
يوسف دون مبالاةٍ يبتعدُ عنهما : لا يهم ... وأنت ! دائما ما أجدك حولي .. ألا ترتاح من التجوّل؟
ابتسمَ تميم بوداعـة : أعيشُ قريبًا من هنا.
أشار يوسفْ بكفّه مودعًا ليدخـل عبر بابِ المبنى، حينها وجّه تميم عينيه إلى بدر مباشرةً وهو يبتسم ، ليلفظَ بخفوت : وش كنت بتقول؟
بدر بازدراء : كنت تتسمّع؟
تميم : ما أقدر أثق فيك.
بدر : وش بتستفيد من كل هذا؟ أنت تدري إنّ ماله دخـل .. ليه تضرّه؟
أمال تميم فمه ببرود : يمكن ما أبي أضره !
بدر باحتقار : الناس ماهم لعبة عندك أنت وشايبك ..
تميم ببرود : أووووه ذكّرتني شايبي من أول يتّصل وأنا ولا معبـره ، الحين معصّب.
تحرّك كي يبتعد ، حينها ارتفـع صوتُ بدر باستخفافٍ مستفز : روح يا كلب سعود وعبده ! هذا مقامك.
ابتسمَ تميم ابتسامةً باردةً وهو يغيبُ عن عينيهِ دون أن يبـالي بما قال ، لفظَ قبل أن يذهبَ بتحذير : انتبه يا حلو .. انتبه ولا تعلّمه ، صدّقني وقتها بينتهي بسرعة !!
زفـر بدر بحنقٍ واستفزاز، ابتعد ، سيقتله! يريد أن يقتله!!، يشعُر أنه يريد أن يُشعـل هذهِ البلدةَ بعودِ ثقابٍ لا يقتـل إلا المفسدين ، أن يتخلّص من سعود ومن معه بشكلٍ غير قانونيّ إلا في دستورِه ويرتاح كلّ من يريد أذيّتهم !!
أخـرج هاتفه من جيبِه بانفعـال ، ومن ثمّ بحثَ بين الأرقـام على رقمها هي ... غادة ! يا الله كم يشتاقها هي وحسام.


،


" اخترتيه؟ "
سؤالٌ باهِت ، لم يكُن في الحقيقةِ سؤال ، كـان إقرارًا ، وكان إدراكًا !! .. كان يعلمُ أنها ستختاره ، أرادَ هو ذلك منذ البدايـة، ولم يكُن ليوافقَ على عودتها إليه ، لكنْ لمَ هذا الوجع الذي استوطَن صدره؟ لمَ هذا الاعتصـارُ الذي التوى بِه قلبه؟ لمَ هذا الاعصارُ الذي لفحَ وجههُ وطردَ أيّ معالمَ للسكُون .. لمَ هذا الألم يا الله ! لا يريدها ، لم يعُد يريدها ، ولا يريد أبدًا أن يعودَا معًا حتى وإن أحبها ، لن يحتمـل فكرة أن تكون لهُ ومتعب حي ! .. لكنْ لمَ تألّم حين قالتها له " ما أبيك "
كانت ابتسامته تنكسرُ أكثر، بينما ملامحها تصدُّ عنه بحقد، عيونها تبكي ، تذرفُ الدمـع أكثـر حسرةً من فقدِه ، فقدته ! فقدته وهي التي لم تفرح بِه كما يجب ! لم أفرح ، لم أحكِي لك قصصًا بعد وأنا على مشارِف النوم ، لمْ ألامسك بكفّي ، وأشكو إليك جهلي ! لمْ ألتزمْ بغذاءٍ صحيٍّ كما يجب ... لمَ رحلت الآن وقبل أن تُنفـح فيك الروح؟
عضّت شفتها بقهر ، بألم ، وكلمته المتسائلةُ تلك اخترقَت مسامِعها كصريرٍ تكرّر صداهُ وأزعجها ، شعرتْ بالحقدِ يكبُر أكثـر ، استدارَت إليه ببطء ، ارتفعَت أحداقها إليه ليرى في تلك اللحظـة الاشتعـال الذي نما في عينيها وكبُر ، كبُر ليعقدَ حاجبيه دون أن يفقدَ بسمةَ الخيبةَ تلك ... لم ينتظِر أن يسمـع الجواب ، فضّل أن يذهب ! لن يحتمـل أن يسمعها منها ، وربّما تدرك هي في تلك اللحظـة ، أنّ إقرارها سيقتله ! وقد تفعلها بعد أن رأى في عينها نظرة الحقدِ تلك . . تحرّكت خطواتهُ وهو يشدُّ على أسنانه ، لم يُضِف شيئًا ، بينما كانت هي من خلفٍه تحترقُ وتذوبُ بنيرانِ قهرها ، هو السبب ، هو السبب في فقدانها له ! لو أنّه منذ البدايـة أخبرها ، لو أنّه لم يتجاهلها ويتركها بهذهِ الطريقةِ المقلّلة منها ، لو أنّه أخبـر فواز عن حملها وهو بالتأكيد يدرك معرفته ! .. ما أدراها هيَ لتحذّره من القولِ في حينِ كان هو يدرك الاثنتين ... لم يفرح بِه ، نعم ، لم يفرح بِه ولم يبالي لكي يخاف ، أراد لهُ السقوطَ ومغادرة رحمـها ، ماذا رآه؟ هل احتقره؟ هل يراه ابنًا من علاقةٍ خاطئة؟ ماذا كان تفكيره؟ هل كرهه وأرادَ لهُ أن يرحـل قبل أن يأتي؟... لأن ، لأن متعب ، حي !!!
ابتلعَت ريقها ، أخفضَت رأسها وهي تشدُّ المفرشَ بقبضتيها ، هتفتْ من بينِ أسنانِها بقهر : اخترته !!!!!!
توقّف في تلك اللحظـةِ حين جاء صوتُها إليه ليمنعه من الخروج ، شدّ على المقبـض بقوّة ، واتّسعت ابتسامته ، هل تلك نبرةُ استنكار ، أم جوابٌ على تساؤلِه الذي كـان إقرارًا ! .. يا للسخريـة !!!
أغمـض عينيه ، وقرّر أن يتجاهـل آلامه ، ويخرج قبل أن تُكمـل وتوضّح !! .. لكنّ صوتها كان سابقًا لهُ قبل أن يتحرّك حتى ، لفظَت بنبرةٍ باردةٍ متحسّرة ، فيها الكثير من الحقد! : . . .


،


خرجَ من المشفـى بعدَ تلك المكـالمةِ الهاتفيّة ، اتّجه بشكلٍ مستعجلٍ لسيّارتِه ... من اتّصلَ بِه كان عمُّ سعد !!!
سعد ! .. صعدَ سيارته وهو يحرّكها وملامحه تتغضّن باستنكار ، قـال له أنه متهمٌ في جريمة قتلٍ وقُبـِض عليه البارحة ! صحيحٌ أنّه شعرَ بالعطفِ عليه، استغربَ ما فعـل ، فسعد كان يبدو مسالمًا بدرجةٍ كفيلةٍ كي لا يقتل حشرة! فكيفَ بإنسان !!
قـال له عمّه أيضًا ، أن سعد طلبَ منه أن يقابله ، أن يطلب رؤيته الآن في زيارةٍ سريعـة ... ماذا يريد منه؟!!

.

.

.

انــتــهــى

+ أعتذر من الجميلة اللي طالبتني بالآسك بأكثر من موقف لأدهم وإلين ، كنت تاركة مساحة لموقفهم بضيفه بعد ما أراجع بقية المواقف مباشرة بس لما شفت الساعة صار 11 ونص وأنا ما خلصت مراجعة كنسلته :( نعوّضكم بالجاي :$


ودمتم بخير / كَيــدْ !


أبها 08-08-16 02:19 PM

شكرا كيد على الجزء الرائع

فواز للأسف خبص الدنيا فوق تحت ...
أسيل .. كان الله في عونك .. أمر صعب جدا ..
فقد الجنين ..ثم صدمة عودة المفقود .😞

سعد .. هل سيتمكن من تحذير سلطان والاعتراف
بتخطيط سالم قبل أن يتمكن سالم من اغتياله ؟؟

بانتظارك باذن الله .
🍃🌸🍃

fadi azar 08-08-16 11:17 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل جميل جدا

هلا ال خليفه 09-08-16 02:41 AM

صراحه مبالغه في مثاليه سلطان
مره شخصيته مع غزل ترفع الضغط

كَيــدْ 09-08-16 12:05 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هلا ال خليفه (المشاركة 3654887)
صراحه مبالغه في مثاليه سلطان
مره شخصيته مع غزل ترفع الضغط

أبدًا مالها دخل بالمثالية، هو مجرّد صار يبيها ومتمسك فيها مالها دخل المثالية هنا!
لو إنّ الموضوع صاير لها قبل لا تتزوجه وكان يدري ويبيها هنا نقول فيه شيء مبالغ فيه وغريب، بس هو يشوف إنّ اللي صار لها بسببه خصوصًا إنه في بيته ومن جهة ثانية ما يشوف إنها غلطانة ، في البداية حسّ بالذنب ، وتدريجيًا تقبّلها والحين متمسك فيها وين المثالية بالموضوع؟
إذا عن صبره معها فهو من زمان صبور وحليم من قبل لا يعرف وقفتها ما أبوها، مافيه شيء تغير.

كَيــدْ 10-08-16 08:56 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


-
-

مساء الخير، إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية.
أعتذر منكم جميعًا عن جزء اليوم، مضطرّة أأجله لبكرا لعدمْ جاهزيته ،
وحابة أنوّه إنه في مواقف مهمة مرتبطـة فيه خصيصًا، فتأجيلها للبارت اللي وراه بيعمـل خلل ممكن ما تنتبهون له كونكم القراء وأنا الكاتبة، :*
أخيرًا كونوا على ثقـة إنّ الجزء إذا بأجله يوم يومين فهذا يعنِي إنّي أبيه على أكمـل وجه ، مو عن تقاعس مني.

شكرًا لكم :$ ()


كَيــدْ 12-08-16 05:55 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


في البداية شكرًا لكل اللي تفهّمني وللي قالوا لي أجليه أكثر للجمعة ، بس للأسف ما كنت أقدر أأجل أكثر من وقت - ما بعد منتصف الليل للفجر -
من أولها أنا مأجلة البارت يوم زيادة - للخميس - عشان فيه أجزاء مهمة ما كان ودي أبترها وما وصلت لها، بس صار إنه بعد ما أعلنت التأجيل بسناب والآسك - انحذف كله اللي كتبته امس مع اللي قبله - يعني البارت كامل :( فوق كذا زيادة يوم بالتأجيل بتأثر على جزء الأحد اللي قرّرته كتعويض شامل عن هذا.
اللي ما ودها تقرأ بارت تنقصه بعض الشخصيات تجمع بارت اليوم مع الأحد " بعد بكرا " لأنه ماراح يرضيها، رفضت انزله الأربعاء عشان نقص - الأهم - بس لما انحذف كامل اضطريت أأجل مواقف روتينية وبعضها مواقف لها وقعها مثل حضور " أدهم & إلين / سعود / سلمان ... الخ " وركزت بالأهم اللي بتعرفونه اليوم.
ما أقول البارت قصير وخالي تمامًا من الأحداث!، بس يعني طوله متوسط ورُبما ما يرضي البعض منكم. تمنيت بصراحة يكون من البارتز الواو اللي دايم بعد ما أنزلها أكون مبتسمة وأتلهف للأراء، بس حدّني الموقف اللي كانوا متابعيني بسناب شايفينه - عشان محد يكذبني - وصورت لهم سنابة وانا احاول افتح الوورد ويقولي غير موجود والطلاسم اللي طلعت لي مع تغيير صيغة الملف.
^ واضح إنّي كثرت حكي :$ رجعت ثرثارة السموحة :P ، قراءة ممتعة وأرجع وأكرر اللي ممكن ما يرضيها بارت اليوم مع انه من البارتز " المُنتظرة " تجمعه مع بارت الأحد.

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات.

مطـر.. معـلق .. بنـصف السـما .. لا ينـهمـر.. ولا يرتـفع ..
وكل ما بغـينا نجـتمع.. تحـت المصابيح الزرقـا.. يطيح منه رذاذ ..
اما انـهمـر فرقا .. و الا تـقـطع وصـل .. يا مـاطـر الليـل ..
لا تاقـف بوسـط الـسـما ..
لك هـالـشـوارع .. انما تـكـفيـك.. سـاعـه .. سـاعـتيـن ..
بنـشـيب وحـنـّا واقـفين.. تحت المظله .. ماهو خـوف من البـلل ..
لكن حـنيـن .. للمصابيـح الزرقـا.. ولليلةٍسـمراء.. سـماهـا صافيه..
ومـوعـد لعـيونهـا..
والله غـرفنـا دافـيه..
ولهـا شـبابيـك وسـتايـر..على البـروق .. لكن .. زهـقـنـا بيـوتنـا ..
واللي يخـليـك .. اما انهـمـر.. والا ارتـفـع ..


* المميّز : بدر عبدالمحسن


(79)*1



صبّت من العيُونِ فقدًا، سكبَت من الأجفـانِ حُمرةَ شفقٍ يعنِي المغيب، داعبَت بالهدبِ الهواءَ واهتزّ بجزيئاتِه ليشعُر بربكتِه من حولِه وهو يتوقّف بخطواتِه عن المسير ، عن الخروجِ الذي قرّره ، وصوتُها الملغومُ باختناقٍ وحشرجةِ فقدٍ يجيئُه بنبرةٍ مقهورةٍ حاقـدة : اخترته؟! .. بالنسبـة لك الوضع اختيار؟!!!
عقدَ حاجبيه، ومن ثمّ شدّ على قبضتيهِ وهو يستدِيرُ ببطءٍ إليها ، نعم! الوضعُ ليسَ اختيارًا ، من يخيّر في الحب؟ هي مسيّرة ، مسيّرةٌ بعينينِ أصابهما عمـى الحُب ولم تبالي ... يا الله لم يكُن تفكيرها بأن تحبّ سواه مؤلمًا كما اليوم ! لم يكُن مؤلمًا!!!
زمّ شفتيهِ بوجَع، ومن ثمّ نظـر بعينينِ فارغتينِ إلى وجهها الشاحب، والذي كـان رغمَ شحوبِه وتعبِه متشنّجًا مشدودًا بحقد ، ابتسمَ دون حياة ، ومن ثمّ همسَ بصدقٍ ورغمَ صِدقه إلا أنه كان يدفـع الكلماتَ غصبًا : ماني واقف بطريقك ، تطمّني.
رفَعت أسيل ذقنها وهي تعتدلُ كيْ تجلسَ وحركتها تلك آلمتها لكنّها تجاهلت الألم وهي تلفظُ بحدة : الحمدلله على سلامة متعب.
شاهين دونَ أن يفقدَ ابتسامته الخالية من الحيـاةِ تلك : الله يسلمك ... قرّة عينك.
أسيل بسخرية : قرة عينك أنت وخالتي ، أنا ما يهمني !
اتسعت عيناه بصدمة ، لم يستوعبْ معنى ما قالت وملامحـه تبهُت كمـا نظرةُ عينيه التي ثبتت على شفتيها وهي تردفُ بكبرياءٍ وبنبرةٍ شامخـة : إذا اختفـى من غير لا يهتم فيني أو حتى وش بيكون مصيري ... فبظهوره أنا اللي ما راح تهتم !
تصَلّب جسده ، وأجفانهُ تتّسعُ بفعلِ مـا سمِع، لحظَت نظراته المستغربـة ، بالتأكيد كان متأكدًا من أنها ستفرح، وهي التي لم توضِح لهُ يومًا عن حُبٍ تجاهه! بالتأكيد يجب أن تكون غارقةً حتى الآن في بحرِ عشقِه ، لذا رأى أنّ مستقبلَ ما بعدَ معرفتها سيكُون في الفـرح ، واللهفـةِ له !! . . . زمّت شفتيها بألم، انشدّت كفها على بطنِها ورغمًا عنها سقطَت دموعها باختنـاق، كانت تشعُر بالوجِع يُترجَمُ في تضخّمٍ صلبٍ في حنجرتها حتى اختنقَت بالأكسجينِ لتشهقَ شهقةً تجتذبهُ بها إليها وكفّها تشدّها أكثـر ، خذلان ، خذلان .. خيبةٌ تقتُلها ، خيبةٌ تغرقُ فيها ولا تجدُ من ينقذها ، كلاهما خذلاها ! كلاهما كسراها .. كيفَ فعلاها بِها؟ كيفَ تلاعبَا بها بهذهِ الطريقة؟ كيفَ يكون حيًا ، ولم أملك الفرحَ الآن .. لأنّ الخذلان كان أكبر! كيفَ فعلتها بِي ، وغادرت لسنين ، دون أن تبالِي حتى بلمحـةِ وصيّةٍ بالانتظـار! لا تهمّ الأعذار، لا تهم! تركها لسنينَ حزينةً بِه .. على شيءٍ لم يحدُث! امتصّ منها رحيقَ السعادةِ وفي النهايةِ ماذا! حيْ!! طيلةَ هذهِ السنينِ حيٌّ ولم يبالِي بامرأةٍ ترمّلت خداعًا! لم يُبالِي بمصيرها !!!
شدّت على شفتِها السُفلى بأسنانِها، أغمضَت عينيها لوهلـة ، ومن ثمّ فتحتهما بانكسارٍ تنظُر بهما لكفّها على بطنِها الذي فرغَ منه، رفعَت وجهها رويدًا رويدًا إلى شاهين وهي ترى نظراته التي لم تكُن مصدّقةً لما قالت ، لم يستوعبها كما يجب! .. ابتسمَت بسخرية ، لم تكُن بسمةً في الحقيقةِ بل كان انكسارَ شفاهٍ تقوّست .. لفظَت بنبرةٍ باهتـة منكسرة : كان حي ! حي!!! .. شلون؟ شلون يكون حيْ؟ وأنا لسنينْ أبكيه؟ ما كنت أبكيه كنت أنكل بروحي لأني كنت ميتة! ميتة وتعذِّب نفسها بس ... وفي النهاية حي !! بعد كل هذا حي! وهو بكل لا مبالاة كان عايِش بمكان ثاني ولا هو مهتم إنّه ترك وراه مـره بمسمّى أرملة! كنت رخيصة عنده .. ما كنت أهمّه! كنت ولا شيء .. وهنت عليه بينما أنا نفسي هانت قدامي عشانه!!!
زمّت شفتيها بألم ، عيناها رغم انكسارها إلا أنها كانت تنظُر لشاهين بقوّة ، كـانت مجروحة ، مجروحةً كأنثـى أسدٍ خذلها ، ولم تضعف بل كانت حاقدة ، وحقدُها " قوّاها "، أردفَت بخفوتٍ متحسّرٍ وهي هذهِ المرّة تبتسمُ بصدق، تبتسمُ ابتسامةً لأجـل ملامحها التي تشقّقت أشهرًا لأجلـه في عبوس، لأجـل فمها ، الذي ظلّ متقوسًا لأجلـه طيلة مرحلةِ تعاستها : ليت الله ما ردّه ، أو مات هناك ... بدل لا أحسْ بهالوجع أضاف وينكسر بعيوني .. ليته ظل ذكرى وما صار خيبة!
انفرجَت شفاهه، وابتعدتا في زفـرةٍ مصدومـة ، لم يستوعِب ردّها ، لم يستوعِب وجهة نظرِ الحُزن في عينيها ، لم يستوعب أنها ما فرحَت بِعودتِه! أنها ، أنها تتمنّى لو أنّه مات ... مات !!! .. تشنّج فكّه ، ورغـم تشوّشِ أفكـارِه إلا أنه همسَ بنبرةٍ خافتـةٍ خرجَت من حنجرته كمعارضـة على ثورانِها بدعوةٍ تجاهه : لا تقولينها!
أسيل ترفعُ إحدى كفوفها بينما الأخرى لازالت معلّقةً حيثُ كانت ، - بطنِها - .. أعادَت خصلاتًا من شعرها الذي أشعثته فوضى الساعاتِ الماضية، ثبّتتها خلفَ أذنها ، وهي تردُّ ببسمةٍ متوجّعة : من حقّك تفرح فيه ، ومن حقّي أزعل وأنتقم لنفسي بكلامي ! .. أتمنى لو إنه ظـل ميت .. بغضّ النظـر عن كونك مبسوط ، ورخِصت بعينك ... مثله تمامًا!!!
مرّر طرفَ لسانه على شفتِه السُفلى ومن ثمّ شدّ بأسنانِه عليها وهو يضيّقُ عينيه ، وبخفوتٍ يبرّر لها : ما رخصتِ!
أسيل بنبرةٍ ارتفعَت فجأةً بقهر : إلا ! رخصت بعيونك .. كم لك راميني بدون لا تعطيني سبب؟ وأكيد طبعًا كنت مبسوط برجعته .. بس أنا أيش؟ مجرد لعبة بينكم ، هو تركني وراح من غير حس ، وأنت سافرت بفرحتك فيه ورميتني وراك بدون لا تبرر ... مين تظنون نفسكم؟ مين تظنوني بيديكم؟ لك حق تفرح ، وله حق يتركني .. بس مو بهالطريقة! مو بهالطريقة اللي استنفَدْت فيها أكثر من سنتين وكمّلت إنت من وراه بهالأيام .. عطوا قلبي خبر ، لا توجعونه بهالطريقة ! لا توجعون قلبي بهالطريقة !!!
تنفّس بشدّة ، ومن ثمّ ودون سابِق إنذار ، اقتربَ بخطواتِه منها بعدَ أن رآها ترفعُ كفّيها إلى وجهها لتغطّيه وتنخرطَ في بكاءٍ دامِس! دون سابِقِ إنذارٍ أيضًا ! بكاءٍ تشرحُ به انكساراتِها منهما وخذلانها، بكـاءٍ عن أخٍ له/بكاءٍ آخر، كـان يعاشِر روحها لأيـامٍ طويلة ، أيامٍ طويلةٍ جدًا، رأيتُ فيها بتلاتِي تنهمرُ بذبول، فكيفَ أستطيع الآن إدراكَ أنّ الندَى لم يكُن جافًا، لكنّه كان - مُجافيًا -، كيف أدرك ذلك بهدوءٍ ودون ألم؟ .. جلَسَ بجانِبها ، بعيدًا عن كلّ الأحداثِ من حولهما، وفي عالمٍ آخرَ اقتادتهما وحدتهما الآن إليه .. نعم ، وحيدين ، وحيدين وإن اجتمعنا ، وحيدينِ لأنّنا لسنا لبعضنا .. وبعيدًا عن هذا العـالم ، عانقها ، متناسيًا ، متغافلًا ، مسيّرًا إليها بصورةٍ عميـاء ، شدّها إلى صدرِه حين شعرَ بِها تُحاول أن تبتعدَ بنفور، دَفن وجهها مع كفوفها التي تغطّيه في كتِفه، نشجَت بخفوت، بينما مسحَ هو بيمينهِ على شعرها، هامسًا بصدق : ما ترخصين .. ولا تهونين بقلبي ... بس لما تتخيّرين بين الحيـاة والموت بتختارين أيش؟ بتختارين الحياة يا أسيل !
ارتخَت كفوفها لتبتسمَ بخيبةٍ وخذلان، ينتقصها ، هذا كلّ ما يعنيه، لم تكُن شيئًا أكبر لديه ومن قبله متعب! أخيه !!! . . همسَت بغصّةٍ ساخـرة : أنا موت بالنسبة لك وهو حياة !
ليسَت عادلـة ، تدرك أنّها ليسَت عادلةً حينَ تُخيّره بينها وبينَ أخيه ، لكنّهما زرعا في صدرها ألمًا من حجمها الضئيل لديهما ، زرعا فيها قهرًا ، لذا خيّرت بطريقةٍ غيرِ مباشـر ، كي تتألم أكثر!
أغمـض شاهين عينيهِ وهو يشدُّ رأسها وكأنه يريدها أن تدخُل لأضلعه ، بِعمقٍ متحسّر : ما قلت لك اخترت الحياة اللي هي متعب وما قلت لك أنتِ موت! أنتِ حياة ومن قبلها موت لذيذ! ، تضادات بعالـم ثاني بعيد عن عالمنا ، حياة بيضاء! وموت لذيذ .. هالعـالم أكبر مني، أكبر من إنّي أعيشه وهو بكلْ حالاته حلو! .... آسف لقلبك!
أسيل بسخرية : ومتعب؟!
شاهين بأسى : متعب الحياة اللي ما أقدر أتخلى عنها! .. لا تظلميني بهالأسئلة! أنا مو أناني بس وش تتوقعين؟ هذا أخوي يا أسيل مستحيل بيوم من الأيام أدرجه بخيارات حياتي لأنه قطعة مني.
عضّت أسيل شفتها السُفلى بقهر ، وضعَت كفيها على كتفِه ، ومن ثمّ دفعته عنها وهي تشهقُ بشهقـةِ بُكاءٍ مريرة ، عيناها تعلّقت بعينيهِ وهي تشتعـل ، تشتعـل خيبةً منهما ، ما ذنبها هي من كلّ هذا؟ ما ذنبها إن كـان متعب فعلها بِها قبلًا ليضطرّ شاهين الآن أن يتخلّى عنها لأجله! ما ذنبُها من كلّ هذهِ التجربةِ الظالمـةِ لها! ما ذنبــها !!!
أسيل بألم : ما تنلام ... أدري صعبـة عليك، وأتوقع متعب بعد تفكيره كذا .. صعِبت عليكم ، هالحياة كلها صعبَتْ علي بعَد!!! ... بس الله لا يسامحكم خصوصًا هو!
شاهين بجزع : كان مجبور على غيابه.
أسيل بابتسامةٍ مستهزئة : ليته انجبر طول عمره ولا رجع! ... الله لا يسامحه !!
لم يجِد شيئًا يردُّ بِه عليها ، لا يملك كلمةً تُنصِف مشاعرها المُستباحة، يدركُ شعورها، ومن الظـلم أن يلومها ، لذا ابتعَد عنها ووقف، قرّر أن يذهَب دون أن يودّعها حتى، لكنها لم تكُن قد انتهَت ، لفظَت بنبرةٍ منكسرةٍ تتساءلُ بكلمـاتٍ ينسلخُ منها الوضوح في معمعةِ الاختناق : وش مصيري بينكم؟
شاهين يهزُّ رأسه بالنفي دون أن ينظُر إليها : لا تسأليني ، ردّي بيجرحك.
أسيل بابتسامةِ حسرة : ماني منتظرة منكم الجـرح أكثر من كِذا! .. عشان كذا أنا أنسحب بأكبر خسائر ... خسرت الجنين اللي كرهتَه واحتقرت وجوده !! الجنين اللي كنت مبسوطة فيه ، وميّتة الحين عشانه رغم الحقيقة وكل شيء!
نظـر لها وهو يعقدُ حاجبيه باعتراضٍ على كلامتها ، وبجزع : لا تحكمين على مشاعري من عقلك وتضرّين نفسك وبس! مين قال إنّي كرهته واحتقرته؟
أسيل بقهرٍ تضـع كفّها على فمها وتضغطُ على بطنِها بقوّةٍ حتى شعرت بالألـم : اعترف إنّك ما فرحت لما عرفت إنّي حامـل ... قولها عادي ما بقى لك شيء توجعني فيه غير هالكلمـة!
تنهّد شاهين بيأسٍ وهو يضغطُ على صدغيهِ بإبهاميه ، وبنبرةٍ خافتـة مُرهَقة : يكفي أسيل!
أسيل بصوتٍ يحتدُّ أخفضت كفّها عن فمها لتستقرّ على ذقنها : الجواب إيه .. أدري ، أدري فلا تسكت لأنه واصلني وخالص!
شاهين يشتّت عينيهِ عنها بضيق : إيه .. ما فرحت فيه .. شيء طبيعي بهالظروف وغصب عني! بس هذا ما يعني إنّي أول ما أجهضتيه ما زعلت !
أسيل باستخفاف : أووووه ما نسيت إنّه ولدك في النهاية!
شاهين بتعبٍ يُغمـض عينيه : يكفّي يا أسيل ! شلون تبيني أفرح وأنا وصلني الخبر ومتعب جنبي ! حتى لو ما كان جنبي .. شلون تبيني أفرح ، وزوجتي ... ما كانت أرملة .. مطلّقة ... عزباء بشكل عام! شلون أفرح وأنا عارف إنّ المصير ما بيكون وردي بيننا! شلون وأنتِ زوجـة أخوي .. اللي عايش!
عضّت شفتها بألم ، أغمضَت عينيها ، بينما اختنقَت كلمـاتهُ واضطرّ للصمتِ أخيرًا .. شدّت على أسنانها، والحقيقةُ لو أنها جاءت في زمنٍ آخر ، كانت لتكُون الحقيقة الأجمـل ، كانت لتكون فرحتها الكُبرى ، لكنّها الآن لم تشعُر سوى بالخذلان! بالضياع ، لم تتمنّى سوى " ليته كان ميت وما رجع "!
بعددِ الأشهـر التي قضتها حزينةً لأجلـه ، تتمنّى لو أن موتهُ كان وهمًا، لو أنّه كذبـة ، هاهي الآن تتمنّى لو كان حقيقة! ليته مات ، ولم يرجـع ! ليته لم يجرحها بهذهِ القسـوة ، ليُكمـل شاهين من بعدِه نثر الملحِ على جراحها .. ما ذنبي أنا من كل هذا؟ ما ذنبي؟!!
همسَت بصوتٍ مجروحٍ يئنُّ بملحِ كفيهما : ما أبي أضيف شيء من الكلام .. لأنّي بهاللحظة صدّقني بدعي يرجع للموت! غصب عنـي ... كرهته وكرهت طاريه! . . روح شاهين ، ما أقدر ألومك على ردّة فعلك ، فلا تلومني على كرهي لكم !!


،


انتظـر لوقتٍ طويلٍ قبل أن تبدأ ساعاتُ الزيـارة ، كان قد اتّصل منذ البدايـة بمن قد يسهّل عليه أمر اجراءاتِ الزيارة ويتجاوزها بسرعـة .. وصـل للمكانِ المطلوب ، التقـى بمن كان قد اتّصل بهِ ليصافحه ويبدأ بحديثٍ روتينيٍّ معه ، ومن بعِده سأله ذاك : ممم اسمه سعد حمدان اللي تبي تزوره؟
سلطان بهدوء : أيه ، عاد لا تقول مقدر أزوره!
بمداعبة : لا تقدر ولو ما تقدر أنا أخليها غصب.
سلطان بابتسامة : تسلم.
تحرّك ليتحرك معه سلطان ، وبتساؤل : وش صلتك فيه؟
سلطان : زمالة في الشُغل.
عقدَ حاجبيه : يعني ماهو قريب منك ليه مهتم تزوره!
سلطان الذي لم يكُن نفسه يعـلم لكنّه لم يحب إحراج عمّ سعد الذي أخبره بإصرارٍ أن سعد لا يريد سوى أن يلتقيه : ما أقدر أقول مجرد زميل .. يعني بيننا اللي يستاهل أزوره.
هو بأسف : ما أدري يعني وش أقول .. أنقهر لما أشوف مثل هالشباب يتورطون بجرائم تنهي حياتهم ! .. خصوصًا إنّه كان من المُتّهمين اللي ما حاولوا ينفون حتى ! كان من البداية معترف بكل ندم باللي سواه وما احتجنا نرفع البصمات أو شيء، وكالغالب السبب لحظـة غضب ... ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب .... ضاع مستقبله عشان لحظة وبس!
كان سلطان يستمع باهتمامٍ وهو يسير معه، وصلا للغرفـة المخصّصة لزيارةِ السجنـاء ، فتح لهُ الباب وهو يلفظ : تفضل .. كنت مخليهم يجيبونه قبل وصولك.
سلطان بامتنان : مشكور ما تقصر يابو محمد.
ابو محمد : انت تامر يا سلطان.
دخـل سلطان لتصتدمَ عينـاهُ بسعد الذي نظـر لهُ بهيئةٍ صامتة/بائسة، ألقـى السلام بهدوء، ومن ثمّ تقدّم منـه ليجلسَ أخيرًا بينما تحرّكت شفاهُ سعد دون صوت ، رادًّا على سلامِه، اعتدلَ فوق الكرسيّ بهدوءٍ وهو ينظُر لملامحِه الشاحبة، هالةُ سوادٍ تُحيطُ عيناه، كان من الواضِح أنه لم ينَم ليلته كما يجب، كيفَ عساه أن ينام؟ وهو سكَن بين جدرانٍ جديدةٍ لم يعانقها بعينيه من قبل، خلفَ قصبانٍ من الفولاذ، وبلباسٍ لم يكُن له! لم يتوقّع أبدًا أن يصِل إلى هنا سريعًا، نعم! كان يتوقّع أنه سيأتِي هنا وهو الذي تورّط مع سالم .. لكن ليس بهذهِ السرعة، بهذهِ الطريقة، بوصمةٍ تعني الموت ، وليس هناك من عودة!
مرّر سلطان طرف لسانه على شفتيه ومن ثمّ لفظ : احترامًا لك ما راح أخوض بأسئلة ما تخصني ولا بتكلم عن موضوع وصولك لهنا ... ندخل في الموضوع مباشرة وش سبب رغبتك في شوفتي؟
سعد يبتسمُ بحسرة : بالأول تعرف مين الشخص اللي ذبحته؟
سلطان باهتمام : ما كنت قد سألت ... أعرفه؟
سعد : أيه ... إبراهيم، نفسه اللي كان يشتغل عندك.
عقدَ سلطان حاجبيه وصمَت دون أن يُلقِي كلمـة، ظنّ سعد أنه قد نسيَه، لكنّ سلطان لم ينساه، ليسَ ممّن اعتاد نسيان الأشخـاص الذين عرقلوا من وقتِه الكثير، لذا لفظَ بعد برهةِ صمتٍ بأسف : كنت تقدر تكون أكثر حِلم قدامه ، أعرفه مُستفز ، بس وش الفايدة اللي طلعت منها في النهاية؟
ابتسَم سعْد بأسى : استفزني بأختـي ، وأعتقد مقصدِي واضح لك.
كشّر سلطان بتقزّزٍ وقد فهمَ من نبرتِه ما يعني، شتّت عينيه لوهلةٍ بتفكير، ومن ثمّ أعادها إليه ليلفظ : كنتوا ربع؟
سعد : تقريبًا بس صار بيننا خلاف قبل شهور.
سلطان يومئ برأسه وهو يلفظ : هذا الموضوع اللي جايبني عشانه؟ ما أتوقع !
سعد يتنهّد بربكـة، لم يكُن الموضوع سهلًا ليقُوله، لكنّه مضطر، لذا تشجّع وهو يزرعُ في عينيه الثقـة، إن تزعزعَت ثقته فلن يملكَ سوى التكذيب من سلطان وقد تتّجه التهمـة مباشرةً نحوه! لذا رفـع ذقنه قليلًا بثقةٍ وهو ينطق بنبرةٍ ثابتةٍ لم تهتزّ : أكيد مو هذا الموضوع اللي طلبتك عشانه .. بس يتعلّق فيه.
سلطان يرفعُ حاجبه الأيسر وهو يلفظ بتساؤل : شلون يعنِي؟
سعد بذاتِ النبرةِ الواثقة : الشيء اللي خلى أعصابي تضييع قدام إبراهيم هو تهديده لي بكل وقاحة إنّه يضر أختي ... والسبب زوجتك!
اتّسعت عينا سلطان بانفعـالٍ وهو يقفُ بقوّةٍ جعلت الكرسيّ يترنّح للخلفِ ويسقط ، ارتبكَ سعد رغمًا عنـه، وهو يرى على جبينِه خطوط الغضب، يرى نارًا اندلعَت في زوايا عينيه وملامحه تصلّبت بشكلٍ جعله يدرك أنّه الآن لربّما يستعدُّ لتحطيم عنقه! لذا تداركَ ثقته التي تزعزعَت والربكـة التي هاجمته ليلفظَ بصوتٍ منفعـل : خلني أكمـل كلامي بالأول!
سلطان ينظُر له بحدّةٍ غاضبـةٍ وهو يقبضُ على كفيه، لفظَ من بينِ أسنانِه بحدّة : كمّل ، وبشوف وش آخرتها معك ..
رفـع اصبعه بتحذيرٍ ليُردف : لا تتخيّل مجرد تخيّل إن تواجدك بهالمكان يعني فرصـة لك تتواقح وتتجاوز حدودك !
سعد بهدوءٍ لازال يُحافظُ عليه : تطمّن بهالناحية.
لم يجلِس، بل بقيَ واقفًا في مكانِه وهو يرفعُ ذقنه ويلفظَ باحتقار : كمّل.
سعد بنبرةٍ متّزنـة : بصريح العبارة ، إبراهيم قال إنه بيضر أختي .. تعويضًا عن زوجتك اللي تركها بسببي قبل شهور .... أنا اللي تواجدت بذيك الليلة ، ووقّفته !
اتّسعت عينا سلطان بصدمةٍ ودون فهم، لم يستطِع الربط بين كلمـاته كما يجب، يقصدُ زوجته هو! غزل ، لكن ما المعنى من " تركها " و " أنا اللي تواجدت " وأوقفه !!! . . تشوّش عقله دون فهم، لذا لفظَ بتوجّسٍ وارتيابٍ وقلبه بدأ ينبضُ بانفعالٍ وكأنه خشيَ أن يكون قصده تلك الليلة تحديدًا، بالرغم من كونِ كلماتِه لم تتطابق مع الأحداث كما ينبغِي : شقصدك بالضبط! ما فهمت.
سعد يعقدُ حاجبيه قليلًا، كان يظنُّ أنه يعلَم بأنّ رجلًا ما جاء بعد إبراهيم وأنقذ زوجته، بالتأكيد هي تدرك ذلك، لذا ظنّ أنه يعلمُ بالقصة كما هي في عقله فزوجته كانت لتخبره بكلّ شيء على الأرجح!، استنكر استفساره ، لكنّه لفظَ بتوضيحٍ متروّي : قبل أكثر من ثلاثة شهور ، الليلة اللي تهجم فيها رجال على بيتك .. و ، ومرتك ، كان هو ... إبراهيم.
تصلّبت ملامحـه أكثر، تـابعَه بصمتٍ وهو يرى الأعاصير التي كـانت تولّد في عينيه، كان صامتًا بهدوء، الهدوء ذاته الذي يزخمُ بالضجيج ، الهدوءُ الذي يعنِي عاصفـةً هوجـاء ..
انخفضَ سلطان بجسدِه للأرض قليلًا، أمسك بالكرسيّ ليرفعه ويثبّته ومن ثمّ جلسَ وهو ينظُر لهُ بغضبٍ كارِه ، لقدْ وصَل لمن فعلها! وصـل إليهِ أخيرًا .. كـان هو ، سعد !!! لقد وصلَ إليه ، وصَل لمن فعلها ، وصـل لمنْ تجرّأ على زوجتـه وامتهنها .. أيقتله الآن! أيسحقُ عنقه ليثأر!!
رفعَ وجههُ بغضب، قرأ في ملامِح سعد الثقة، لكنّه لم ينصـع لها وهو يلفُظ بوعيد : كان أنت !!!
سعد بهدوءٍ مؤكد : أنا اللي أنقذتها.
سلطان بسخريةٍ وهو يقبضُ على كفيه فوق فخذيه بعنف، في هذهِ اللحظة كان كلّ ما تمنّاه هو أن يلتهمَ ملامحه بقبضتيه ويرسمَ عليه خريطةَ غضبـه، وجده، كـان هو! لكن كيفَ أحالته الظروف للعثورِ عليه في مكانٍ كهذا !!! شدّ على أسنانه بقهر، ومن ثمّ لفظَ بصوتٍ ساخِر : أنقذتها؟! ما توقعت تكون غبي لهالدرجة !!
سعد الذي كان يتوقّع تكذيبًا منه بطريقةٍ أو أخرى، لفظَ بصوتٍ لم تهتزّ نبرته حتى الآن : قبل لا تحكـم بكذبي ، عندك طريقة سهلة عشان تتأكد .. أكيد زوجتك بتكون عارفة ولو شوي عن الفرق بينه وبيني .. عقلها وإن ما كان واعي يومتها بشكل كامل بس كان متنبه ولو شوي ممكن لوجه إبراهيم أكثر ولو مجرد لمحة! فتأكد منها وخلها تعلمك وصف اللي تهجــ . .
قاطعه سلطان بصوتٍ قويٍّ لا يدري كيفَ قاومَ أن يصرخ في وجهه حتى الآن : يكفـي ... لا تستغلّ المكان وموت إبراهيم أكثر! ... كان أنت! * من بينِ أسنانه * أنت يا حقير؟! أنت اللي تجرأت تدخل بيني وتسوّيها؟!!
ارتبكَ سعد قليلًا، لكنّه بقيَ ينظُر إليهِ بثباتٍ وهو ينطُق نافيًا تلك الفكرة : كنت حاط ببالِي إنّك تكذبني وتظنّ هالظـن .. بس أيش مصلحتي من الكذب تحديدًا بهالوقت؟
سلطان بغضب : هذا هو ... أيش مصلحتك من الكذب؟
سعد بهدوء : من الصدق! هذي هي الفكـرة ، أيش مصلحتي من إنّي أعلّمك! ما قلت لك لله ومو عشان أقهرك بالموضوع ! أكيد لي مصلحة ، بغيتك تدري إنّه أنا اللي أنقذتها .. عشان تكون ممتنّ لي وتساعدني.
سلطان بسخرية : أساعدك بأيش بالضبط؟ لا تحلم كثييييير !
سعد يبتسم : ما أبي منّك تطلعني من هالمكان طبعًا.
سلطان يريد أن يعلـم إلى أين سيصِل : ووش تبي إن شاء الله!!
سعد بثقة : أهلي .. مالهم أحد من بعدِي غير عمّي ، هو اللي بيكون الوالي عليهم، ماراح أطلب منّك شيء غير منطقي وأبالغ! بس هو شُغله بسيط وزين راتبه يكفيه هو ومرته وعياله الست، عشان كذا أبيك تأمّن له شغل عندك ما يخليه يفكّر للحظة يهملهم بعذر المصاريف.
ابتسمَ سلطان باستخفاف : تبيني أساعدك على أساس كذبك؟!!
سعد يعدّل له : على أساس صدقي .. ما أدري ليه مصرّ لهالدرجة إنه أنا اللي سوّيتها .. أكيد عندك علم بكل اللي صار ليلتها! زوجتك ما اغتصبها إبراهيم ، ما سمحت له! كنت أدري إنّه حاقد عليك وممكن يضرّك بأي شكل من الأشكال عشان كذا لما لاحظت إنه يدور حول الحي اللي تسكن فيه شكّيت فيه وظليت ألاحقه لين الليلة ذيك ..
شدّ سلطان بكفيه على ركبتيه وحديثهُ بهذهِ البساطةِ استفزّه، أشعـره بالغضب ! حديثهُ عن - زوجته - يُشعل فيه نيران الغضب ، كلّ ذلك كذب! نعم ، كيفَ يصدّقه! كيفَ يظنُّ أنه قد يصدّقه ، لم تُخبره غزل بشيءٍ كهذا، حالتها النفسيّة ، مظهرها .. كلّ ذلك يُثبت كذبه !! .. كيفَ يتجرّأ أن يتلاعبَ بِه بعد أن تجرّأ على ما فعله بِها !!!
نهضَ بعنفٍ مُنفعـل، يكاد في هذهِ اللحظة أن يقتله ، سيقتله! سيفعلها ومن ثمّ يُصبـح بديلًا عنه خلف القضبان، سيفعله ويقتله !!!!
عند تلك النقطـة تراجع للخلف، قرّر أن يذهبَ قبل أن يفعلها بِه ويُنهِي حياته البائسة تلك! وصل عند الباب، ليوقفه سعد بصوتٍ هادئ واثق : تقدر تتأكد قبل يا سلطان ، اسأل زوجتك .. يمكن تتذكّر الملامح ... ملامح الشخص اللي تجرأ عليها .. إبراهيم !


،


خرجـا وأصابِع يدهِ اليُمنى تتخلخلُ أصابعها، نظـرت إليهِ من زاويـة عينيها ليضحكَ وهو يشدُّ عليها بعنـاد لافظًا بتسلية : صداقة !!
جنان بامتعاض : لا تصدّق نفسك كثير.
فواز : ههههههههههههههههه وش هالغرور ما ودك تعطيني وجه يعني؟
ابتسمَت رغمًا عنها : والله بصراحة يعني ما أبي.
فواز يبتسم وهو يرفعُ عينيه للسماء : شكلها بترجع تمطر ، شوفي السما كريمة وأنتِ بخيلة ! ليه يعني وش عندك مو عند السما؟
جنان بنبرةٍ خافتـةٍ وهي توجّه عينيها للأعلـى : أفضّل ما أرد، بنرجع للشد والجذب من جديد.
توقّف عند بابِ إحدى المحلّاتِ التي عكسَ زجاجُ نافذتها الواسِعة أجسادهم، انسلّت أصابعهُ من أصابعها ليسير نحو البابِ وهو ينظُر إليها ويبتسم : ماني متأخر.
عقدَت حاجبيها باستغرابٍ بينما ابتسامةٌ خافتـةٌ تظلّل شفاهه، أومأت بهدوء، بينما غابَ فوّاز عنها لتعُود أحداقها للارتفـاع نحو السمـاء، لتأمّل الزرقـة الملبّدتِ بسوادٍ فاحِمٍ في أجـزاء متباعدة ، غابَت الشمـسُ وراءَ إحدى الغيوم، في حينِ غابَ ذهنها لبعضِ الوقت، غابَت ابتسامتُها معه ، لا تدري أين سينتهي هذا! هل تغامـر بهذا الشكـل وتُقامر بالجفاءِ والصد في سبيلِ بعض الراحـة؟ ما النتيجة التي ستكُون؟
تنهّدت بهدوء، وفي لحظـةٍ انتفضَت ما إن شعَرت بكفّه على كتفِها، عقدَ حاجبيه ما إن نظرت نحوهُ بعيُونٍ متفاجئةً وكأنها لم تكُن في هذا العالِم فأفزعتها كفّه، نطقَ بتساؤل : شفيك وين رحتي؟
ابتسمَت جنان وهي تُخفضُ نظراتها لكفّه التي حملَت مظلّةً زرقاء : أبد سرحت شوي ... * أردفت وهي تعقدُ حاجبيها * ليه المظلّة؟
فواز يُمسك كفّها ليسير وهو يلفظُ ببساطة : احتمال ينزل المطر من جديد عشان كذا خذيتها للحيطة.
جنان تقطّب جبينها بانزعاج : ليه وحدة مو ثنتين؟
فواز يمازحها بشاعريّة : بنـشـيب وحـنـّا واقـفين.. تحت المظله .. ماهو خـوف من البـلل لكن حـنيـن ..
أردف برقّةٍ مازحـة : أبي أجرّب هالحنين ... تحت مظلّة واحدة!
ارتبكَت قليلًا لتُخفـِض نظراتها عنه وهي تمرّر طرف لسانها على شفتيها، أكملَت سيرها دون كلمةٍ أخرى، بينما ابتسمَ فواز وهو يلفظ : ترى أمزح لا تتحسسين.
جنان بنبرةٍ باهتةٍ دون أن تنظُر إليه : ما تحسّست ، بس مرة ثانية لا تجرّب الغزل معي!
فواز برقّة : تبشر عيُونك باللي تبي.
لم تردّ عليه بينما سقطَت أنظارهُ على محلٍّ للقهوةِ والحلوى، لفظَ بهدوء : بدون ما أبغى ... قهوتك أيش؟
جنان تتنهّد بيأسٍ وهي تُدرك أنّه لن يتراجـع : فرنسيّة سادة.
توجّها نحوه، لتمرّ دقائقُ قصيرةٍ قبل أن يُكمـلا سيرهما وكلٌّ منهما يحمِل قهوته، ارتشفَ منه رشفةً ومن ثمّ نظر إليها ليُردف : درستي جامعة؟
جنان تنظُر إليه نظرةً خاطفـة لتُعيد نظراتها نحو الطريق وتنطق : ما درست بكالوريوس .. دبلوم إدارة أعمال ووقّفت .. ما كان لي خلق وقتها بصراحة.
فواز يعقدُ حاجبيه : وش هالطموح الميّت! طيب دام مالك خلق ليه درستي دبلوم من الأساس؟
جنان تهزُّ كتفيها لترفـع الكوبَ إلى شفتيها وتلامسها أنفاسُ القهوةِ بحرارتها بينما أنفاسها هي تتسلّل إليها كيْ تزعزعَ الجزيئات الساخنـة فيها وهي تلفظ : بيني وبينك ما كنت حابة تفكيري وقتها ، فقلت أسلك لعمري وبعدها أكمل بكالوريوس.
فواز : ما عندك أي نيّة الحين تكملين؟
ارتشفَت رشفةً صغيرةً ومن ثمّ ردّت : ما أتوقع.
صمتَ فوّاز ولم يُضِف شيئًا عن دراستها، أكملا الطريقَ حيثُ منزلها الذي لم يكُن بعيدًا بأحاديثَ أخرى انسجما فيها ورآها بها تبتسمُ مرّات، ودّعها ، والمظلّة التي اشتراها لم يحتَجها في خضمِ تواجدها ، لكن وقبـل وصوله بقليل ، عـاد المطر يتساقط، والسمـاءُ تبكِي، بزرقتِها الشاحبـة، بغيابِ الدفء عنها ، بتظلِيل الغيومِ لها لتُغيّب شحوب زرقتها أكثر ، رفـع وجههُ قليلًا وهو يفتـح المظلّة، لكنّه لم يرفعها مباشرة، بل نظـر للسماءِ قليلًا بصمْت، انسكَبت القطراتُ على ملامِحه، أغمضَ عينيه بينما إحداها لامست شفاههُ ليتذوّق عذوبتها بلسانه في اللحظة ذاتها التي غطّى فيها رأسـه بالمظلّة عن بقيّة القطرات وأكمـل طريقه للداخِل.

في جهةٍ أُخرى ، كـانت تستمع لاصتدام القطراتِ بنافذتها، عينيها مغمضتان، لم يكُن هناك ماهو متأهّبٌ من حواسها سوى السمـع، كانت تفقد الاحساس بما حولها وشفاهُها تتحرّق دون أن تذوق بلسانها الصوت! : ما يهمني ، ما عاد يهمني ، ما عاد يهمني !!!
تأوّهت بقهرٍ ووجَعٍ رغمًا عنها، هذهِ المرّة بزغ صوتها، جلسَت، بعد أن فتحَت عينيها، واستعَادت حاسّة النظـر ، نظرت للنافِذة بصمتٍ كئيب ، لم تعُد تريد أن تقفَ أمامها! لم تعُد تريد أن ترى المزيد بعد الاحتراق الذي اندلَع في قلبها اليوم ، كانت لمجرّد التخيلات تحترق ، فكيفَ بالواقع؟ أن تراهما معًا !! ماذا بعد الاحتراق؟ بعد أن تنتهي لرمـاد، ماذا بعد يا فوّاز لم تفعله بِي؟


،


بحثَ عنها بعينيهِ بعد أن عاد للمنزل، كان يُدرك أنّ الأخبار ستكُون وصَلت إليها بالتأكيد، لذا تأخّر في عودتِه حتى تخفّ وطأة لأسى عليها والذي سيكُون قد أجّج غضبها منه.
وجدَها تجلسُ في الصالة، مرّر طرف لسانه على شفتيه ومن ثمّ اندفعَ إليها وهو يلفظُ بخفوتٍ مضطرب، مُتألّم : يمه.
استدارَت علا إليه في تلك اللحظـة مباشرة، كانت لربّما هادئـةً أو تملكُ بعض الهدوء، لكنّها ما إن رأته حتى توسّعت أجفانها ونهضَت واقفةً وهي تلفظُ بحسرة : بدري ، كان ما جيت.
تنهّد ليرفعَ كفّه ويمرّر أصابعه بين خصلاتِ شعره، وبأسى : دريتِ؟!!
عُلا وعينيها تشتعلان بالغضب الذي اختلطَ بالحُزن : لا طبعًا ، منتظرين بنفسك تجي وتعلّمني ما يدرون إنّك بس فالح تعاند وترفع ضغطي !
شاهين بجزع : بسم الله عليك.
عُلا بنبرةٍ تنفجـر : اذلف ، اذلف يلا جيب مرتك ... والله ما تروح حسرتي على الجنين كذا!! روح جيبها جعلك اللي ماني بقايلته يا قليل الخاتمة !!
اقتربَ منها وملامحه تتعجّن، يخشى عليها من الغضب الذي يمارسُ تجاعيدهُ على ملامحها التي شاخت، يخشى على حنجرتها إن ارتفـع صوتُها أن تنشرخ، يخشى على صدرِها أن تتفتّت أضلُعها من القهر ، لذا اقتربَ منها وهو يُفرج شفتيه ويرفـع كفيهِ علامـة " اهدأي " بينما صوتُه يتسلّل عبر الجزيئات إلى مسامعها : عيوني . .
صرخَت علا تقاطعه : حبّتك القرادة ... لا تحاول تكلّمني لين ترجعها ، والحين تروح وترجعها !!
لم يبالي بكلماتها وهو يُمسك كتفيها بحزمٍ ومن ثمّ يخفض وجهه ليقبّل رأسها، وبرجاءٍ عميقٍ وهو يستنشقُ رائحـة شعرها المُخضّبـة بعبيرٍ لن تستطِيع امرأةٌ أن تحمله : يمــه ، يا ام متعب ، تكفين !
صمتَ للحظةٍ وهو يستمـع لصوتِ أنفاسها المُنفعلة بغضبٍ والتي لم تهدأ حتى بعد أن ناداها " ام متعب " .. أردفَ بخفوتٍ يرجوها أن لا تقفَ في وجهِ قراراته : يوم أصريتي من قبل أتزوجها ما رفضت بالعكس رحّبت بالفكـرة ، بس غلط! غلط والله العظيم ما تركتها لأنّي مو قدّ المسؤولية أو ماني رجّال وبس ألعب بموضوع الزواج! * زفـر بكبتٍ ليُكمـل باختناق * يمه خلاص أنا حرمتها علي ... أسيل محرمة علي ليوم الدين ومستحيل أرجعها لي.
شهقَت بصدمةٍ وهي تدفعُه وتتراجعُ للخلفِ لتنظُر له بملامِح باهتة، وبنبرةٍ مصعوقة : حرمتها عليك!! تحرّم حلال ربّك يا مسود الوجه!!
عضّت شفتها، ومن ثمّ أغمضَت عينيها لا تصدّق ما وصلَ إليه ابنُها ، وبقهرٍ أردفت من بينِ أسنانِها : إذا الموضوع كذا بس! أجـل أنا يحرم علي أذوق شيء لين ما تكفّر عن كلمتك وترجّعها.
اتّسعت عيناه، تجمّد للحظـةٍ غير مصدّقًا لما قالته، لكنّه سرعان ما اقتربَ منها وهو يلفظُ بانفعـال : يمّه واللي يعافيك كفاية تتحكمين بمصير حياتي ... أنا أدرى إنّ هذا اللي لازم يصير ، لا تصرين علي وتأذين نفسك على شيء ما يستاهل!
عُلا بسخريةٍ غاضبة : ما يستاهل !
شاهين برجاء : والله لو تدرين وش السبب بتعذريني ... بس تكفين لا تضرين نفسك ! مو معقول يعني بتتركين الأكل! ما يصير . .
عُلا بحنق وكلماته الملقاة بين الحديث تستفزّها : بعذرك !!
شاهي يحيطُ وجهها بكفوفه وهو يلفظُ بابتسامةٍ حنونة : شيء بيفرحك .. أنا متأكد شيء بيفرحك بشكل أنا خايف عليك منه !
عُلا لا تريد أن تقتنعَ بحديثه، لفظَت بسخرية : بيفرحني إنّك محرم زوجتك عليك؟
تنهّد وهو ينحني ليقبّل وجنتيها أخيرًا ، ومن ثمّ بخفوت : بيفرحك ، أنا من قبلك كنت بموت بسببه !
ظلّت تنظُر له بحدّة، لم تبالِي بما قال وهي ترفعُ كفيها لتنزع يديه عنها بحدّة، ومن ثمّ ابتعَدت دون كلمةٍ أخرى ، بينما زفـر شاهين وهو يتمتمُ بخفوت : تبي تستفزني وتقنعني بس .. مستحيل تضرب عن الأكل !


،


بعدَ المغرب بقليل، تنـاولت عباءتها بعد إغلاقِها للهاتِف مباشـرة، كانت كفوفها منفعلـةً وهي تحملُها وتتّجه للبـاب كي تخرج للصالَة التي يجلسُ فيها سيف، وجَدته ينظُر للتلفازِ على إحدى قنواتِ الأفلام، انتبـه لخروجها ليُدير رأسه في اللحظـة التي كانت تقتربُ بخطواتها منه، رفـع حاجبه الأيسر باستنكارٍ وهو يراها تستعدُّ للخروج، وبنبرةٍ كبتت الغضب من مظهرها دون حتى أن تُخبره : على وين إن شاء الله؟
ديما تقفُ قُربه وهي تلفُظ بعجلة : خذني عند امي.
سيف بملامحَ تعجّنت باستخفاف، أمـال فمه، ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ لا مبالية وهو يعُود للنظر إلى التلفاز : منتِ رايحة .. رجعي عبايتك وانثبري.
لم تكُن تملك الوقتَ للشدّ والجذبِ بينهما، لذا تنهّدت لتلفظَ برويّة : أختي أجهضت اليوم وما دريت عنها إلا تو ، اترك العناد الحين ووصلني واللي يعافيك.
نظـر لها سيف عاقدًا حاجبيه وهو يقفُ مباشرةً لافظًا بضيق : سلامتها شلون أجهضت؟
ديما تضعُ مافي يدها على الأريكةِ لتبدأ بارتداء عباءتها ومن ثمّ طرحتها وهي تلفُظ : ما أدري شلون بالضبط ما سألت عن التفاصيل للحين.
سيف يتّجه للغرفـة حتى يأخذ هاتفه ومحفظته : بدخل الحمام وأجيك ماني ماأخر.
أومأت بصمت، ومن ثمّ جلسَت على الأريكة وهي تبتسمُ بسخرية، ليسَ على شيءٍ سوى نفسها، ما معنـى أن تحمـل كلتاهما نفس الأقدار؟ وتخسرا حلمًا حملته كل امرأةٍ في رحمها الفارغ! حلمًا حينَ نُفخَ فيهما أُجهضَ ولم تمخضا فيه كما تمنّتا! أخفضَت رأسها قليلًا لترسُم على الفـراغ مكنونيّةَ حسرةٍ تحوّرت بها بسمتُها للأسفـل، ربما لم يُكتَب لهما أن تتحقّق الأحـلام كما تُرغَب، أن تنكسِر عند أولى بوادِر التحقيق، وتسقطا في عرقلـة الطريق، لكنّ السقوط في الأحلام لا يعنِي النهوض دائمًا! لا يعنِي أنّنا دائمًا سنكُون أقوياء، نحنُ إنـاث، نخسَر مُهجةً حينَ نخسرُ حلمنا في جنينٍ تكوّن في رحمِنا وإن كـان بضعًا من أيام.
رفعَت رأسها بانفعـالٍ ما إن سمعَت صوت خطواته، وقفَت وهي ترسُم على ملامحها الجمودَ كي لا يلحظَ مشاعرها، تحرّك نحو البابِ وهو يلفُظ " مشينا " بهدوء ، نعم سيكُون هادئًا، لن يشعُر، لن يسمـع مضخّة الضحيجِ فيها، سيكُون هادئًا، لن يستشعِر الأنامـل التي التفّت حولَ حنجرتها وقبضتها، السنابِل التي نبتت في صدرِها من - غيظ -.
تحرّكت تتبعه بصمت، دون أن تقُول شيئًا ، ودون أن تُظهر لهُ العواصِف التي ألهبَت حواسّها في احتراق.


،


تسكُن على سريرها بملامِح شاحبـة، عينـاها تعانقانِ السقفَ الخاوِي من تعاويذِ الخطوطِ البارزة، كان صافٍ/فارغًا مثل قلبها الذي لم تكُن تعلم مافيه الآن، لم تكُن تعلمُ ما شعُورها في هذهِ اللحظـات وأذناها تستمعـان لصوتِ رنين هاتفها الموضوعِ على الكومدينة دون أن تبالِي به، يتكرّر ، وقد كانت تُدرك أنّ المتّصل هو فواز كونها رأت اسمه في أوّل مرةٍ اتّصل ولم تبـالي، وكان اتّصاله الآن يتكرّر بإصرارِه . . تدركُ أنّه الآن يشعُر بالذنب، لا دخـل له! ليس هو السبب، هو لم يكُن يعلم بأمـر حملها، ربّما لو أنها انصاعَت للرسائِل من قبل وأخبرته بكلماتٍ لما قال لها، كانت تريد أن تخبره بصوتها، وليتها تسابقَت معه على إخباره قبل أن يُخبرها هو! . . ابتسمَت بسخرية ، وتبقى جاهلـة! لا ، جيدٌ أنّه أخبـرها، فشاهين على ما يبدُو أخذته الفرحة بأخيه، ولم يبالي بها إطلاقًا ، جيدٌ أنه أخبرها، وليته أيضًا لم يُخبرها! . . أغمضَت عينيها وهذهِ المرّة غادرها الفراغُ لينقبضَ قلبها بآلامه، لا تدري ما الذي كان الأفضل، بالتأكيد لم يكُن فقدها للجنين!
ابتلعَت ريقها بصعوبة، ومن ثمّ حاولَت أن تجلُس بصعوبةٍ أشدّ، تريد أن تريحه الآن من عذابِ الضمير، تُدرك أنّه الآن يتقلّب على جمرِ الذنب ، لم يكُن أنت ، كـان هو، بل هُما معًا! لم يكُن الذنبُ ذنبك يا فواز بل ذنبهما الذي نُقِش على جبينهما وعلى أنانيّتهما! لا يهمّنِي سببُ الغيـاب، ولا السببُ الآخر لصمتِ شاهين! لا يهمّني أنه كـانَ فرِحًا، وأنّه الحيـاة التي لا يريد فقدها بعد أن عاد .. هه! قـال أنها حياةٌ وممات ، في عالمٍ آخر أكبَر منه ، هل ظنّ أن كلمـاتهِ مواساة؟ ألَم يُدرك فقط أنّه زرع فيها حقدًا أكبر تجاهما؟
مدّت يدها للهاتِف، ابتسمَت ابتسامةً ميّتة وهي تنظُر لاسمه، تنفّست بعمق، ومن ثمّ رفعَته لأذنها بعد أن ردّت وهي تهمسُ برقّة مُرهَقة : أهلين حبيبي.
سمعَت صوتَ تنهيدتِه العميقة، أغمـض عينيه من انفعالاتِ صدرِه ليلفظَ أخيرًا بخفوت : أسيل! * مرّر طرف لسانه على شفتيه ليردفَ بأسف * الحمدلله على سلامتك.
أسيل بابتسامةٍ حزينة : الله يسلمك.
فواز يفتحُ عينيهِ لينظُر للظـلامِ المُظلّل بأنوارِ المكان الصفراء والتي تُعتمُ شيئًا فشيئًا في مناطِق أُخَرْ، يجلسُ في إحدى المقاعِد العامّة في حديقةٍ مـا. تقدّم بجسدِه للأمامِ ليسندَ مرفقيهِ على ركبتيه، ومن ثمّ لفظَ بخفوتٍ متأسّي : ما عندِي شيء أقوله ... بس ، آسف.
أسيل بنبرةٍ تهتزّ، حاولت أن تكون ثابتـةً إلا أنها تداعَت على أنقاضِ مشاعرها وتحطّمت أكثر وهي تنطُق كلماتها بزيفٍ بارز : ما ألومك .. منت السبب بكل اللي صار، نيّتك كانت تخليني على برّ الوضوح ، عشان كذا ما ألومك.
فواز لا يدري ما يقُول، نبرتها كسرَت نظراتِه وجعلتها تنأى عن الثبات، توجّهت للأسفَل لينظُر لأقدامِه وهو يهمسُ بأسـى وقهرٍ من نفسِه : مخنوق ، ماني مصدّق إنّك أجهضتي بسببي أنا !!!
أسيل تعقدُ حاجبيها لتلفظَ بحدةٍ واهِنة : منت السبب ، محد كان السبب بكل اللي صار إلا شاهين . . . و ، * أردفت باختناق * و .. متعب !
صمتَ فواز للحظـةٍ وهو يقطّب جبينه، وكأنّ اسمـه حين جـاء أربكَه، لازال يربكهُ التفكِير بِه، سنواتٍ كان في عدادِ الموتى، والآن حضورُه في عدادِ الربّكة! في عدادِ الغرابـة والمعجزات ، لذا كان يرتبكُ كلّما فكّر بِه، والآن حينَ لُفِظَ اسمه.
سحبَ شفتهُ السُفلى لفمِه بصفِّ أسنانِه العلويّة، رفعَ عينيهِ للسماءِ السوداءِ ليتنهّد بعمق، ومن ثمّ أغمـضهما، ليهمِس أخيرًا بنبرةٍ متسائلةٍ بتردّد : وش اللي تفكرين فيه الحين؟
أسيل وقد فهمتهُ جيدًا، ابتسمَت بسخريةٍ من كلّ شيء، لم تتوقّع يومًا أن ينهضَ متعب للحيـاةِ ولا تفرح حتى! .. لم تفرح! في خضمِ كلّ ذلك ، لم تفرح ، هل مات من قلبها؟ أمْ أنّ حزنها على فقدِها، ومن قبـل على زيفِ ما عاشته لم يجعلها تفرح به!! لا تريد ، لا تريد أن تفـرح ، لا تريد أن تتخيّل للحظة، من بعدِ سنينَ بكَته فيها ، أنّه كان حيًا، ولم يهتمَّ لقلبها أو لهويّةِ أنها زوجته!!
ما الذي تفكّر بِه الآن؟ لا تفكّر بشيء ! انعقَد القـرار ، في اللحظـةِ ذاتها التي كانت فيها أمام شاهِين ... لم تعُد تريد شيء!!
همَست بنبرةٍ لا تُنبئ بشيء، تمنّت لو تقولها لهُ بكلّ شفافية، لكنّها فضّلت في البداية أن ترى أين سيصلُ القطـار من كلّ محطّاتِ الأسى! : ما أدري ، عقلي حاليًا مشوّش.
فواز يبتسمُ وهو يُعيد رأسه للخلفِ حتى أسندهُ على طرفِ المقعد، وبنبرةٍ خافتةٍ يكرّر : آسف ، آسف أسيلي !
أسيل بمداعبـة : اصص بس يوم إنك تعرف تعتذر روح لبنت عمّك ورجعها لك . .
عقدَ حاجبيه باحتدادٍ مفاجئ، كـاد يرفعُ صوتهُ بغضبٍ عليها، لكنّه في النهاية لفظَ من بينِ أسنانِه بكبت : أسيييل اعرفي وش تقولين مالي وجه أعصب عليك وأضايقك أكثر.
أسيل تُدرك أنّها في هذهِ اللحظـاتِ على كفّةٍ ترجحُ أمامه ولا يستطِيع أن يتعامـل معها بطبيعيّتِه نظرًا للذنبِ الذي يراه اقترفه في حقّها، لذا استغلّت هذهِ اللحظات وهي تلفظُ بمكر : عادي عندك لو تزوّجت من بعدَك؟
زمّ شفتيهِ ونظراته تشتعل، اعتدلَ في جلستِه، كـان قد صدَق مع نفسِه قبلًا وربّما أمامها حين رآها تتبّع والدَها الذي كان مع ذاك المدعوِّ بدر، لذا كان الآن يكذب، ليس على أحدٍ سوى أسيل : أكيد ، أنا وهي انتهينا تتوقعين يعني يومي طلّقتها ما فكّرت إنها بتتزوج؟ شيء بديهي.
ابتسمَت أسيل، كانت ابتسامتها تلك تتّسع، لم تُخطِئ أذناها في التقاطِ نبرتِه المكبوتةِ وكأنه كان يُخفي غضبه ويُلاشِي لمحة الكذب، لذا لفظَت باستهزاء : أجل يا رب يا رب إنّك تكتب لها بداية حياة جديدة بأقرب وقت مثل ما بدأت من جديد ... بعد ما يصير تجلس بلقب مطلّقة وقت طويل.
احمرّ وجهه بغضب، تمنّى لو أنها الآن أمامه ليخنقها!! كيف تتجرّأ على الدعوة عليه بهذهِ الطريقة!! نعم! لم تكُن دعوةً لجيهان، بل كانت دعوةً عليه هو .. أن يغـرق في بئرٍ من الاحتراقِ ليسَ لهُ قاع .. أن يسقُط من صراطِ الحياة إلى - جهنّم -!
لم يردّ على ما قالته، بل شدّ على أسنانه وهو يُشتّت أحداقه بتشوّشٍ حادٍ لما حوله، وبنبرةٍ كتمَ فيها الحدة : ما ودي أشغلك أكثر ، السموحة منك على اللي صار ... وبالنسبة لشاهين وأخوه بتفاهم معهم وأشوف وش وضعهم ، وأنتِ قرارك هو اللي بيصير ، طيب؟!
أسيل بحبٍ تبتسم : أكيد يا بعدي .. لا تضايق نفسك بالموضوع ترى والله مو شايفة إنّك السبب.
فواز بهدوء : مع السلامة ... * ليردف قبل إغلاقه * لا تحقدين على متعب ... كان مجبور.
تقلّصت حنحرتها، أسدلَت أجفانها دون أن تُغمض عينيها وهي تهزُّ رأسها بالنفيِ وكأنّه كان ليراها، أنهى الاتصـال لترمِي الهاتفَ جانبًا بشكلٍ مُباشر، ومن ثمّ تعود لتتمدّد على السرير، رافعـةً ذراعها لتغطّي بها عينيها ، وهي تُتمتمُ بشفتينِ شاحبتين : ماني عاذرته، ماله عذر ، وش الشيء اللي يجبره يتركني بهالشكل؟ شيء غير إنّي رخيصة بعيونه ! أيه، كنت رخيصة بعيونه وبعيون شاهين ... كلهم ، كلهم ما اهتموا لي !!
تنهّدت بحشرجة، لن تبكِي، لن تبكِي! لا يستحقّان ، لا شيء يستحقُّ أن تبكِي عليه، سوى فراغ رحمها ! . . عند تلك النقطةِ تحديدًا تقوّس فمها بألـم ، كادت تبكِي لكنّ البابَ الذي طُرق جعلها تتنحنحُ باختناقٍ ومن ثمّ تُزيج ذراعها عن عينيها وهي تلفُظ بنبرةٍ هادئة ظاهريًا : تفضلي يمّه.
فتِح الباب، حينها ابتسمَت تلقائيًا بعد أن أطلّت عليها ملامحُ ديما التي نظرَت لها بضيقٍ وأسف.


،


خرجَ من المنزلِ بعدَ وقتٍ قصيرٍ من صدامِه في الحديثِ مع امّه ، كان متعب قد اتّصل بِه يريد أن يلتقي به، خرَج وصعدَ سيّارته ومزاجـه اليومَ سيء، ساءَت أكثـر بعد لقائه بأسيل ومن ثمّ الحديثُ الأخير مع امه ، مُشتاقٌ لها، لكنّ شوقه هذا يعذّبه أكثـر ، آلمـه أكثر أن التقى بِها لتزجّ أمامه بالحديثِ السيء/بالدعواتِ على متعب! .. لم يكُن ليفرح أبدًا بهذا الحقدْ الذي يفتعـل الدعواتِ في حقّه ، لم يكُن ليفرح أنها لا تريده بحجمِ ما ضايقه أن تتمنّى له الموت! بعدَ أن عـاد ، كيفَ عساه يحتمـل فكرة موتِه من جديد! . . لا يلومها ، لا يستطِيع لومها وهي التي لا تعلـم ما الذي حدثَ بالضبطِ ليغيب ، لا يلومها حتى لو علِمت! ربّما جرحها منه كبير ، وأكمـل هو رشَّ الملحِ من فوقِه !
أوقفَ سيّارته في المكان الذي اتّفقا أن يلتقيا فيه، ابتسَم ابتسامة شاحبـةً ما إن رآهُ يتكّئُ على إحدى عوامِيد الإنارة، أوقفَ السيارةَ بجانِبه ، ومن ثمّ أنزل نافذته ليلفظَ بابتسامةٍ مازحـة : شكلك غلط .. مرة غلط ما أبي أقول وش تشبه بالضبط بتعتبرها استهزاء ومصخرة بحق هالفئة عشان كذا اركب السيارة وأنا ساكت.
متعب ينظُر لهُ بسخريةٍ وهو يلتفُّ حول السيارةِ ليفتحَ الباب المجاورَ لهُ ويلفظَ بتهكّم : وصلني الاستهزاء اللي تقصده، بس ما عليه احمد ربّك وبطّل هالاستهزاء الواطِي.
شاهين يحرّك السيارةَ وهو يقطّب جبينه بانزعاج : شفت؟ عرفت إنّك بتفهمها استهزاء ، خلاص آسفين سحبنا التشبيه.
متعب بهدوءٍ يغيّر دفّة الموضوع : شلونها أمّي؟
ارتبكَ شاهين قليلًا ما إن وصَل إليه سؤاله، مرّر طرفَ لسانه على شفتيه اللتين جفّفتهما الكلمات التي كان بِها يرجُو أمّه التفهّم دون أن تقتنـع بما يريد ، تأخّر بالردّ عليهِ ليوجّه متعب نظراتهُ نحوه باستنكارٍ في اللحظـةِ ذاتها التي هتفَ بها شاهين بنبرةٍ شاحبـة : طيبة.
متعب بريبة : وجهك وصوتك ما يقولون هالكلام! ... لا يكون صاير لها شيء !!!
قال جملته الأخيرة بذعرٍ ليبتسمَ شاهين وهو ينظُر ناحيتهُ لافظًا : بسم الله عليها لا تتفاول ... بس يعني زعلانة مني شوي.
متعب يبتسم بسخريةٍ واستخفاف : يمه يا الدلوع !!!
شاهِين الذي لم يكُن يريده أن يعلَم سبب " زعلها " ، رفـع حاجبه الأيسر وهو ينظُر لهُ بحدةٍ ليغرقَ متعب في ضحكةٍ وهو يُشيح وجهه عنه، لم يكُن ليخبره ، ولم يكُن ليُعلمه أيضًا بما حدَث اليوم ، أن أسيل أجهضت بعدَ أيامٍ قليلةٍ من معرفتها لحملها ... أنّه تضايق على فقدِه .. ولم يفرح بوجودِه كما ينبغِي أن يكون !


،


تجلسُ أمام الحاسُوب ، أصابعها تتنقّل بينَ منشورٍ وآخـر ، اشتـاقت لهذهِ الصفحـة التي لم تستطِع حتى الآن إغلاقها ، الصفحـة التي تزاحمَت بغزلٍ تجاوزَ المائة لسنينِ تواجدها .. ابتسمَت لتلك الذكريات .. منذُ المراهقـةِ وهي تخطّ الكلمـاتَ على أسطُرِ العشـق الذي انتهى ما إن بزغَ ضوءُ الحقيقة ،
" من بابِ الجمال ، ذا العينان البنّيتان "
ضحكَت دون شعور ، ومن ثمّ تمتمَت بابتسامة : يا ربي يا المُراهقـة! المشكلة ذي كتبتها ومالها حتى سنـة .. كانت أيام جميلة والله !
: وش الأيـام الجميلة هذي؟!
ارتبكَت ما إن سمعَت صوتَ أدهـم الذي دخـل الغـرفةَ وهو يتثاءب مُردفًا : يا ذا النوم مو طبيعي بس عشان إجازتي خلصت رجـع يخاويني حسبي الله ..
تحرّكت أصابعها باضطرابٍ تحاولُ أن تحذفَ الصفحـةَ وهي تنظُر لوجههِ بربكـة، وبنبرةٍ متوترةٍ تحاول أن لا تجعله ينتبه لها : أيه ... هذا طبعًا اللي نومه خفيف .. مثل ما تقول !!
لحظَ صوتها المُرتبك وكلماتها المتعثّرة ، حينها ركّز بنظراتِه عليها في اللحظـةِ نفسها التي حذفَت بها النافذةَ المفتوحـة على صفحتها في " الفيس بوك " ، رفـع حاجبه بارتيـاب، ومن ثمّ اقتربَ منها وهو يلفظُ بتساؤل : شفيك وش كنتِ تشوفين وخلاك مرتبكة كذا؟
إلين بغضب ، تحاول أن توضـح لهُ مقدار سوءِ ظنّه لكنّ غضبها الآن كـان وحدهُ فاضحًا لكونِها تُخفِي أمرًا ، انطبـق عليها " بغَت تكحّلها عمتها " : نعم !! .. وش بشوف يعني وش تقصد؟
أدهم هذهِ المرّة شكّ بدرجةٍ أكبـر من صوتها وكلمـاتِها وغضبها العنيفِ وكأنها تحاول أن تدافـع عن شيءٍ ما تُخفيه ، جلسَ بجانبها ليسرقَ الحاسُوب من حُجرها وهو يلفظُ بحزم : إذا ما تشوفين شيء غلط على قولتك فوريني أتأكد بنفسي.
إلين بذعر : أدهم جيب اللاب والله ما كنت أشوف شيء غلط ... جيبه وبلاش سوء الظن هذا.
أدهم دون اقتناعٍ فتحَ نافذةَ تصفّحٍ جديدةٍ ليتّجه للسجلّ مباشرةً وهو يلفُظ بحزم : ما تشوفين شيء غلط ومرتبكة كذا؟ طيب خليني أتأكد قبل لا تطيحين من عيني.
إلين بقهرٍ تبتلعُ ريقها : كلٍ يشوف الناس بعين طبعـه ... كنت فاتحة صفحة بالفيس ما كنت أشوف خرابيط مثل ما تظن ، شكلك أنت اللي متعود على هالخرابيط!.
ابتسمَ أدهم باستفزازٍ غاضِب : ما يمنـع أشوف هالصفحة وش فيها ! .. وإذا خرابيط على قولتك فأنا أعرف أتصرف معك صح ... بغنيك بالحلال عن الحرام أكيد.
فهمَت ما يرمِي إليه ، حينها احمرّت ملامحها بقهر ، اختنقَت وهي تراه يدخُل صفحتها المُمتلئة بخواطِر غزل لـ " ياسر " ، أرادَت في تلك اللحظـةِ أن تبكي ، وهي ترى عينيهِ تطوفُ على الكلمـات ، بينما الصفحـة التي ابتدأت بلقبٍ ما كـانت معلوماتِها تكفِي ، جامعتها، عُمرها، قسمها .. كلّها معلوماتٌ أخبرته ، أنها لها هي!


،


كـانت منبطِحةً على السرير، تدفُن وجهها في الوسادةِ الناعمـةِ التي خُضِّبت بأنفاسِها الحارّة، لفحةٌ من أنفاسِ الجحيمِ الذي يدنو إليها ويتناءى عنها ، صورةٌ من الصمتِ الذي أخرسَ الحديثَ المُشبـع بترهاتِ السعادةِ المُفرطـة .. تستشعرُ ملمـسًا هدبيًا على ذراعِها العاري ويطولُ ليصِل كتفها ومن ثمّ يعبُر إلى ظهرها .. ابتسمَت في لحظةٍ لم تُرِد فيها الابتسام ، وبخفوتٍ متضايق : قوزال فارقيني والله ماني رايقة لك.
ماءت القطّة لتعبُر من فوقِها هذهِ المرّةِ إلى الجهةِ الأخـرى، حينها ضحكَت لا تدرِي لمَ! ربّما لأنها أرادَت فقط أن تضحك! .. جلَست لتمدّ يدها إليها ومن ثمّ تدفُنها في حجرتها وتبدأ بمُداعبتها وهي تضحكُ مع تحرّكاتِها ، تمرّر أصابِعها بين شعيراتِها البيضاءِ الناعمـة ، هل تشتكِي إليها الآن؟ هذهِ المرّة عن التردّد، عن الخوف، عن رغبتها في الحديثِ لتجدَ نفسها في النهايةِ تبتلعُ الكلمـاتِ لا تقوى على قولِها ، تبتلعها ، لا تقوى على إثارتها بحرارةِ شفاهها فتتباعَد جزيئاتُ هذا الخوفِ وينتشرَ في الهواءِ - دخانًا لا رائحة له، لا وجود! .. هل تستطِيع قولها له؟ أن تعترفَ بسوءاتِها التي لم ترتضي خداعها بِه.
زمّت شفتيها ومن ثمّ تنهّدت بحشرجةِ أنفاسِها ، وبخفوتٍ مختنق : تمسّكه فيني قاعد يذبحني أكثر! .. شايفة شلون هو أبيض وأنا سيئة ! .. فوق كل شيء ما شاف إنّي معيوبة وما أستاهله!!
عضّت شفتها هذهِ المرّة بقوّةٍ وهي تغمِض عينيها، شعرت بالألـم يطوف عليها وهي تضغطُ بأسنانها وكأنها تفرّغ غضبها من نفسِها في قطعةٍ من جسدِها - القذر -!! .. ستخبره ، هذهِ المرّة يجبُ أن تخبره، لأجله هو ، وكي تضـع اعتبارًا له .. يجب عليها أن تتشجّع هذه المرّة وتخبره !!!
تنفّست بانفعـالٍ تحاول أن تصلبَ إرادتها الموبوءةِ بتردّدها ، ربّما خائفة، لكنّ الخوفَ لا يعنِي شيئًا ، ليسَ هو ما يمنعها من الحديثِ بحجمِ ما كان السبب الأول " ضخامـة ذنبها " الذي تشعّب في أشهـر ، لذا أن تتجاوزَ مرحلـة الصمتِ في أيامٍ لن يكون سهلًا !!
سمعَت صوتَ البـابِ يُفتـح ، انتفضَت بذعر ، رغمَ أنها كانت غالبًا ما تستمع لخطواتِه قبل حضورِه إلا أنها غفلَت عنها هذهِ المرّة بسبب خوضِها في تفكيرها - بِه، وبذنبها في المقام الأول ، ارتبكَت حنجرتها بينما ارتخَت أسنانها عن الضغطِ على شفتِها السُفلى ، نظَرت للأسفـل باضطراب، بينما كـان سلطـان ينظُر إليها بتمهّلٍ وقد قرّر أن يتأكد منها ، هو .. سعد ، نعم! كـان سعد الذي استغلّ موتَ إبراهيم ليرمِي التهمـة عليه! لا تفسيرَ لذلك ، غزل أخبرته بوضوحٍ أنّها قدْ أُمتنهَت تمامًا حينَ رأى مظهرها ، وحالتها النفسيّة تكفي للتأكيد! .. وإن كانت حالتها مرتبطـةٌ بوقوعِ مصيبتها في تواترِ وقتٍ لا يسمـح لها أن تستوعبَ فالأيـام كفيلـة ، لذا هو كاذِب .. يدرك هذا! وليتأكد أكثر سيحاول جعلها أن تخبره ملامِح أو جزءً من ملامِح من فعلها ، والذي سيكون سعد ، نعم ، ستتطابقً الأوصافُ معه.
اتّجـه للسرير ، لم يكُن يمتلك الصبر الكافي لينتظـر ، جلَس بجانِبها ، ومن ثمّ بهدوءٍ مدّ يدهُ ليحمـل القطّة من حُجرها ، لم يكُن بالعادةِ يُلامسها إطلاقًا ، لذا توتّرت وهي ترفعُ وجهها إليه وكأنّ غرابة ما فعـل جعلها تتوجّس ، أخفضَ جسدهُ ليضعَ القطّة أرضًا ، وتلك سارتْ مبتعدةً لتجولَ حيثُ تريد بينما ارتفعَ جسدُ سلطان لينظُر لغـزل بهدوءِ نظراتِه المتّزنـة . .
اضطربَت نظراتها ما إن وقعَت على عينيه اللتينِ حملتا أسئلةً ما ، أشاحَت وجهها بربكـة ، ومن ثمّ همسَت بنبرةٍ تهتزُّ بموجاتِها على جزيئاتِ الهواء : تبي تقول شيء !
ابتسمَ سلطـان ابتسامةً زائفة ، لم يكُن يريد أن يوتّرها أو يُخيفها أو حتى يعبثَ بنفسيّتها أكثر ! .. لذا مدّ يدهُ نحوها ليُمسكَ كفّها ويضغطَ عليها بمساندةٍ ما ، ارتفعَت أحداقها إليه باستغراب، في حينِ اتّسعت ابتسامته هذهِ المرة بصدقٍ وهو يلفُظ بحنان : بفتـح معك موضوع وبسألك سؤال .. أتمنى ما تنزعجين أو حتى تخترب نفسيتك ..
ابتلعَت ريقها بربكـة ، موضوعٌ وسؤال! ماذا تحديدًا! . . أومأت دون صوتٍ وهي تنظُر لملامحه الهادئـة والمسترخيـة لتشعر أنّها تسترخِي في المقابـل ، في حينِ لفظَ سلطان بجدّيةٍ رقيقة : بسألك عن هذيك الليلـة تحديدًا ...
لم تكُن تحتاج توضيحًا أكثر بـ " أيّ ليلة؟ " فعقلها أدرك مباشرةً أي ليلـةٍ من يومٍ قصَد ، أفرجَت شفتيها رغمًا عنها ، بهتت عسليّة عينيها وهي تُشتّتها عنه باضطراب ، في حينِ لحظَ سلطان اضطرابها ليشدّ على كفّها أكثر وهو يهمـس بحنان : لا تتوترين ولا تنفعلين ... بسألك الحين مو حاب أأجل زيادة ... اهدي!
كان أمرًا ناعمًا/حازمًا يجمـع كلّ التضادّات ، أمرهُ هذا جعل حلقها يتشنّج ، صوتُها ينطفئُ في حنجرتها ، إلا أنها أومأت أخيرًا وكأنها لم تعُد تجيد الكلام ، ليردفَ هو بعدَ صمتٍ قصير : أبي أعرف إذا للحين تتذكرين ملامح .... ملامح الشخص اللي تجرأ عليك يومتها.
اتّسعت عيناها بصدمـةٍ من سؤاله، تثبّتت أحداقها على عينيهِ مباشـرة دون اهتزازها ... ملامح!! .. بالتأكيد تتذكّرها ، تتذكّرها وإن كانت في تلك اللحظـةِ في وقتٍ لا يسمـح لها أن تستنسخَ ما كـان أمامها ، استطـاع أن ينغـرس في جدرانِ ذاكرتها من لمحـةٍ واحدةٍ ما إن دخـل للغرفـةِ وأفزعها بتواجُدِه العنيف ، لم تنساه! ولم تنسلخْ ملامحه عن عقلها . . ابتلعَت ريقها بربكـة ، لكن ، لمَ يسأل؟ لمَ يريد معرفـة ملامِحه !!
ابتلعَت ريقها بصعوبـة ، ومن ثمّ همسَت بتساؤلٍ مضطرب : لـ .. ليه؟!
سلطان بنبرةٍ ثابتـة ، لم يُرِد إخبارها أنّه قد يكون وجَده ، بل بالتأكيد وجدَه ، نطق : اوصفيه إذا تتذكّرين شيء .. حاولي ، أكيد شيء بسيط .. لونه شيء يلفت النـظر بوجهه !
اللون ربّما يكفِي ! هذا ما فكّر بِه ، اللونُ إن قالت " أبيض " فهو سعد .. نعم ، هنـاك فوارقُ بينهما ، سعد يميلُ للبيـاض ، بينما إبراهيم أسمـر بدرجةٍ كافيـةٍ كي يُلمحَ من نظرةٍ عابـرة ، لذا كان اللون يكفيه !
شتّت غزل عينيها في زوايا الغرفـة بربكـة ، لمَ لا تستغلُّ الفرصـة الآن؟! ربّما هذهِ فرصةٌ جاءتها من الأقـدار، رسـالةٌ أن تستغلّ اللحظـة الآن ، أنّها إن لم تتحدّث في هذا الوقتِ تحديدًا فلن تستطِيع في آخر! .. ابتلعَت ريقها ، ومن ثمّ سحبَت كفّها عن يدِه ، نظَرت لمفرشِ السرير السكّريّ وهي تتمتمُ دون صوت ، نعم .. فرصتي ! فرصتـي !!
وضـع سلطـان كفّه على كتفِها وهو يلفظُ بحزم : غـزل .. بس اللون ، قولي وش كان لونه تحديدًا وهذا يكفيني.
رفعَت كفّها لتُزيحَ كفها عن كتِفها ، أدرات ظهرها إليه وهي تبتلعُ ريقها بصعوبةٍ مرارًا وتكرارًا ، اللون ... أسمر! .. كـان أسمـر ، وكان هنـاكَ صوتٌ آخر ، صوتٌ جـاءَ في لحظـاتِ موتٍ بطيء ، صوت الذي استلّه منها ، صوتٌ آخـر ... لم يكُن واحدًا ، يريدها أن تقول له لون مَن؟! .. لم يكُن واحدًا !!
أخفضَت ساقيها عن السرير إلى الأرض ، تشبّثت بطرفِه وهي تحاول أن تتشجّع ، ستقولها له ، نعم .. ستقولها الآن !!! .. حكّت شفتيها ببعضهما وهي تقفْ ، استدارت إليه بكامِل جسدها وهي تقبِضُ كفّها أسفـل صدرِها ، ابتلعَت ريقها من جديدٍ وكأن حنجرتها تتعمّد الجفافْ كي تستلقِي الكلمات فيها دون أن تستطِيع العبور ، كي تلتصـق الأحرف بِها ولا تتمكّن من دفعِها ! ..
رفعَت نظراتها نحوه ، أفرجَت شفتيها بتوتّر ، لتهمـس أخيرًا وهي تشعُر أنّ صوتها باهِت ، أن صوتها لا يساندها بقوّةِ نبرته، أنها لا تمتلك الثبات فيما تقول : كـان .. كان أسـ أسمـر ... وعلى خدّه ... جرح ... و ، و ...
صمتت وهي تتنفّس بقوّة، بينما اتّسعت عينا سلطـان بصدمـة ، أسمـر ! أسمرٌ وليسَ أبيض، لا ، هناك خطأ ، كيفَ تصِف الآن إبراهيم وهو متأكدٌ أنه سعد !! . . نهضَ من السريرِ ليدُور من حولِه ومن ثمّ يقتربُ منها بانفعـالٍ ليقفَ أمامها مباشـرة، ذعرت لتتراجـع للخلف، لكنّه ثبّتها من كتفيها وهو يحاول أن ينطق بهدوءٍ إلا أن صوته جاءَ حادًا : متأكدة؟ متأكدة أسمر وبخده جرح!!!
غزل تُغمـض عينيها بقوّةٍ وهي تهزُّ رأسها بالإيجاب ، نعم ، نعم كان أسمرًا ، بيما الآخر .. الآخر !! لم ترى ملامحـه !! . . فتحَت عينيها برعشـةِ شفتيها ، رفعَت وجهها إليه ، لتهمسَ أخيرًا بصوتٍ مرتعشٍ خائف : كان أسمـر ... الثاني .. الثاني ما شفته ، بس ، سمعت صوته !
سلطان وعيونه تتّسع دون استيعاب : الثاني !!!!!
بدأت أنفاسها تتسارع ، نعم ، استطاعت ، استطاعت أن تخبرهُ بجزءٍ من الحقيقة، كـانا اثنين من دخـلا بيته ، ليس واحدًا ، ليسَ واحدًا!! .. استطاعَت أخيرًا أن تلفظَ بوادِر الاعتراف ، ستُكمـل ، نعم ، ستُكمـل وتقولها !!
شدّ سلطـان كفيه على كتفيها بانفعـال، لم يفهم كما يجِب ، كيفَ تقول اثنين ! لم يكونا اثنين ، لم تقُل لهُ ذلك سابقًا ، فكيفَ تقول أنّهما اثنينِ الآن !!! ... لفظَ بنبرةٍ مستنكرةٍ منفعلـة : شلون يعنِي اثنين!!
غزل بكفين ترتعشـانِ رفعَتهما لتضعهما على كفوفه ، شعرَت بالخطرِ من ملامستِه لها ، لذا حاولت أن تُزيح يديه عنها لتنزلقا تلقائيًا رغمَ أنه كان يشدُّ عليها ، وكأنه في تلك اللحظـة كان منفعلًا فلم ينتبـه لشيء .. أخفضَت نظراتها للأسفل ، ومن ثمّ ابتلعَت ريقها للمرةِ التي لم تعلمْ كم كانت ، لتهمسَ بصوتِها الخافتِ والمرتعشِ ذاته ، بل كانا يزيدينِ حضورًا فيها! : اللي جوا كانوا اثنين ... مو .. مو واحِد ، في البداية دخـل الأسمـر ، بس جـاء واحد من بعده . . .
رفعَت عينيها إليه، اهتزّت أحداقها ، لم تشعُر بالدمـع الذي تكوّن في لحظـة ، لم تشعُر بسقوطِه السريعِ على خديها، لم تشعُر برعشـةِ شفاهها وصوتها ، وهي تكمـل بكلماتٍ جمّدت ملامحـه وجعلته واقفًا كالتمثـال أمامها دون حراك : جاء واحد من وراه ... ومنعه من اللي كان بيسويه فيني ... أ .. أنقذني .... منه . .
تراجَعت للخلفِ بعدَ أن قالتها ، رفعَت يدها اليُمنـى وجسدها يرتعـشُ بصورةٍ عنيفة ، مسحَت على خدّها الأيمـن بظاهِر كفّها ، هاهِي اعترفَت بجرمِها الأخير، هاهيَ اعترفَت بالحقيقة، هاهيَ اعترفَت بما كـان ، نعم .. استطاعت ، استطاعتْ أخيرًا أن تخبره ، لم يحدثْ لها شيء! ، لم يكُن أكثر من هجومٍ فشـل ، لم يكُن أكثـر من محاولةٍ لم تنصـع له ووقفً القدرُ في صفّها ليأتِي ذاك أخيرًا ويوقفه ، استطـاعت .. نعم .... استطاعت !!
مسحَت دموعها ، لكنّها كانت تسقُط أكثر بصمت ، رفعَت أحداقها تحاول أن ترى وجهه ، ولم تستطِع ، لم تستطِع ، كانت عيناها مظلّلتانِ بغيومٍ شفّافةٍ تكدّست على بعضِها حتى أصبحَت ذاتَ كثافةٍ تكفِي لأن تُلاشي صورته ، لم تستطِع أن ترى وجهه ، والذي كان في ذاك الوقتِ متجمدًا، لم يُظهـر شيئًا ، بل كـان صامتًا كجسمٍ مُصمَتٍ لا حراكَ له .. بينما أقدامـه ، ودون شعور ، كانت تقتربُ منها ببطء ، صوتُه لم ينصَع لصمتِ ملامحـه ، بل خرجَ إليها ، دون تعبيرٍ واضـح، جافًا ، صلبًا ، دون تعبيرٍ واضِح ! : شلون يعني؟!
صدرها كان يرتفـع بسرعةٍ مذهلـة ، استشعرَت اقترابَه منها ، لذ ارتدّت للخلفِ بتعثّرٍ وخوف ، نظرت جانبًا بالرغمِ من كونِها لم تكُن تستطِيع رؤيتهُ حتى ، تمسحُ دموعها فتعودُ للسقوطِ ونبرتها ترتفعُ بكلماتٍ ضحلة : يعني .. يعني ما صار لي شيء .. ما اغتصبني! ... يعني .... يعني كذبت !!
سلطـان بنبرةٍ قويّةٍ اشتدّت فجأةً بغضبٍ وهو يقتربُ منها أكثر : كذبتِ!!!!
تراجعت أكثر حتى اقتربَت من الجدار، وبخوفٍ أغمضَت عينيها لتنهمرَ دموعها أكثر وهي ترتجفُ بألم : أيه.
سلطـان بنبرةٍ خفتت ، بعينينِ التهمتهما نارٌ لم تراها : شلون !!!
التصَق ظهرها بالجدار ، في اللحظـةِ ذاتِها التي لفظَت فيها بألم : كذبت ... لأني أبي أظل قربك !
ارتفعَت كفوفه إليها ، ضغطّ على كتفيها بهما دون قوّةٍ كبيرةٍ لكنّها تأوهت وكأنها تشعُر بحرارةٍ تنسلُّ منه وتُشعرها بغضبـه ، تريد أن ترى وجهه ، لكنّ الوضوح تلاشى ، تريد أن ترى تعابيره ، لكنّها لم تقدِر ، لم تقدِر بينما لفظَ هوَ بتساؤلٍ خافتٍ يمتلئ بقسوةٍ لم تعهدها في صوتِه حتى حينما علِم بخداعها لهُ قبلًا : تظلين قربي بهالكذبة!! ... ليه؟ ليه كذبتِ بالضبط؟!
عضّت شفتها بقّوة ، يا الله ساعدني لقولها ، ساعدني لقولها ، يا الله ساند صوتِي ، مدّه بالثبات ، نعم أريد أن أقولها لهُ وأرتـاح من عذابِي الآن! .. عذابِي الذي أدرك أنه لن ينتهِي ، لن ينتهِي وكـان بذرة! حتى الآن كـان بذرةً لم تكبـر ولم تنضج ، عذابِي من قبلك يا سلطـان لم يكُن شيئًا وأدرك أن القادِم هو ثورةُ العذابِ أجمـع ، أريد أن أقولها ، وأرتـاح من بذرةِ العذاب! أريد قولها ، لأجدَ من هذهِ الدنيـا ثباتًا حتى وإن كانت الحقيقةُ تعني غضبه، وتعني وجعًا مزمنًا لا ينتهي ! .. تريد أن تنهِي هذهِ المرحلـة وتغلقها، لتبدأ بالمرحلـة الأخـرى .. عذابُ غضبِه !
ابتلعَت ريقها ، وجّهت أحداقها إلى ملامِحه ، وأريد أن أراك ، أراكَ الآن ، قبـل أن تدرك كلّ شيء ، أريد ان أرى وجهك أخيرًا .. قبل أن يذهبَ في فنـاءِ دمعـي .. كيفَ ثارَ علي البكـاءُ من جديدٍ واختارَ تظليلَ وجهك! .. كيفَ ثارَ علي ولم يقف بجانِبي ... كلّ شيءٍ ثـار معك ... سلطانِي! حتى مسمّاي معك ، سيثور ، وسأنسى منذ الآن ، أنّني كنتُ في يومٍ ما - غزالتــــك - !!
: لأني ... ما كنت بنت ... من قبل لا أتزوجك.
عندَ تلك النقطـة ، شعرَت بكفوفِه تشتدُّ بقوّةٍ على كتفيها ، شعرَت بعظامِها تكادُ أن تتحطّم .. لتشهقَ بقوّةٍ دون شعور ، دون شعور .... سوى بالألم !!

.

.

.

انــتــهــى

موعدنا نفسه إن شاء الله بيوم الأحد ببارت تعويضي عن بارت اليوم ، عاد إن شاء الله يعجبكم بما إنه منتظَر :$ طبعًا كنت كاتبة كلامي قبل البارت من قبل لا أشوف المطالبات بأدهم وإلين والزعل :$ فأضفتهم آخر شيء قبل التنزيل وعجزت أعدل كلامي فوق . .
+ جميلاتِي بالآسك أعتذر، من جات قُرب 5 وأنا مقفلة التنبيهات عشان ما تربكني ، قلت لكم ساعة بس تأخرت الضعفين ، السموحة جميلاتي :(

ودمتم بخير / كَيــدْ !

أبها 12-08-16 07:12 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
شكرا كيد على الجزء الرائع ..

غزل والاعتراف المنتظر ..
اعتقد أن سلطان سينهار بعد هذا الاعتراف
وسيفقد الثقة بالجميع ، بعد أن فقد ثقته بعمه
وهو أقرب الناس إليه ..

بانتظار بقية الأحداث .
شكرا .🍃🌸🍃

كَيــدْ 14-08-16 09:59 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 







-
-

السلامُ على الجميع وعلى من انضمّ معنا :$
إن شاء الله تكونون بألف خير وعافية :$
البارت العنيف اللطيف الصادم الغريب :p قربت يعنِي أخلصه، فيه مواقفْ مو حابة أأجلها للثاني يعني ضروري تكون ضمنه ومع عيوني اللي تتنقل للساعة وتراجع وتكتب بنفس الوقت أدركت إنها بتوصل 12 وأنا ما خلصت :( أقل شيء كمراجعة - مع إنه مو بس مراجعة! - ، فيه تطورات وفيه أحداث لازم أدرجها كنت أمنّي نفسي ينزل قبل 12 بس أتوقع بينزل حدود 2 الصبح - الحين تجيني الحلطمة الآسكية - :(
بس ما عليه بتعذروني مع البارت وبيرضيكم من كلّ النواحٍي بما أن فيه شخصيات بتبرز بثلاث مواقف أو بموقف طويل. إن شاء الله تجي حدود 2 وهو نازل ، ما أحب أحط ساعة معينة لأنه بالغالب تمر وأنا محتاسة بما أنّي أبدأ تنسيق البارت قبلها بشوي فتمر الساعة وأنا ما أرسلت وتنهمر علي الحلطمات ، دقيقة تمر ويجيني " هييييه مرّت دقيقة وينك " لوووول ، والله بدون مبالغة كثير يكون باقي نص ساعة وأشوف " وصلنا الساعة كذا وينك؟ " مدري يعنِي ساعتكم غلط وإلا عيونكم تقلّب الأرقام بكيفها؟
كثرت هذرة على هالساعة ، نطمـع بانتظـار بدون تذمّر أسعدوني بفكرة " صرنا نثق فيك " مو معقول مرت أكثر من سنتين وللحين تقولون نخاف ما تكملينها؟! إذا هانت الرواية علي بتهون هالسنتين وزيادة؟ أكيد لا ما أضيّع وقتي على دلـع وشغل ماني ضامنة نفسي فيه ! .. فوق كذا صارت لي علاقات قويـة من الرواية ، تطمّنوا لو اختفيت فجأة بتلاقون السبب من هالعلاقات ...

أخيرًا هذا سنابي أحطه مرة ثانية بعد ما حطته الجميلة روعة النسيان

Hind-180


كَيــدْ 15-08-16 12:56 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


بارت عنيفْ بصراحة حتى أنا خفت من عنفه :$ بس بنفس الوقت فيه تشويق ولطافة :*
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلا عانقت القدر، بقلم : كَيدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


لا تطلبي الغفران في محرابي
كل الذي قد كان‏..‏ وهم سراب
كفنت وجهك في عيوني‏..‏ فاهدئي
لا تسأليني الآن عن أسبابي
أحرقت خلفك ذكريات مرة
ومحوت رسمك فوق كل كتاب
لا تطلبي الغفران في محرابي
كل الذي قد كان‏..‏ وهم سراب
كفنت وجهك في عيوني‏..‏ فاهدئي
لا تسأليني الآن عن أسبابي
أحرقت خلفك ذكريات مرة
ومحوت رسمك فوق كل كتاب
داري دموعك واستريحي لحظة
أنا لا أصدق أدمع الكذاب
هذي الدموع الكاذبات تناثرت
مثل السهام تغوص في أعصابي
هذي الظنون الجارحات رأيتها
بين الضلوع تحوم بالأسراب
حزني عنيد‏..‏ فاتركيه لحاله
ما أثقل الشكوي من الأحباب


* المعجزة : فاروق جويدة


(79)*2



وكأنّ السمـاءَ لفظَت من سوادِها ليلًا في الصدور ، الليلُ لم يكُن من حولِهما ، لم يكُن مهزومًا بإضاءاتٍ فارغـة ، كـان فيها ، في عينيها اللتينِ نزفتا بألمٍ وهي توجّه نظراتها لملامحه، في شهقتِها المتألّمة ، لم تكُن تراه، لم تكُن ترى ملامحه ، لكنّها شعـرت عبرَ كفيه القاسيتينِ الغضبَ الذي طـافَ في وجهه . . . كأنّ السمـاء الليلـة ، مخضَت من العتمـة غضبًا!
شعَرت بِه يقتربُ منها فوقَ اقترابِه وهو يشدُّ على كتفيها أكثر حتى تحوّلت شهقتها لآهاتٍ وهي تستشعِرُ قبضتيهِ اللتينِ تقسوانِ أكثر، تستشعِرُ ضغطه على عظامِها الرقيقة، شعرَت أنّه يكـادُ يحطّمها ، شعرَت أنّ غضبه الصامتُ يحكِي عبر أكتافِها، عبر أنفاسِه التي ألهبَت بشرتها بحرارةٍ لا تتفكك، لكنّها رغمَ ذلك، رغمَ الغضب الذي يستحوذُ عليه، رغمَ ألمِ عظامِها ، لم تحكِي شيئًا! نفدَت كلماتُها في خضمِ ظلامِ الليل، نفدَت حُججها ، لا تملكُ شيئًا! انتهى الكـلامُ عندَ منفذِ الحقيقة، لا تملكُ شيئًا لتقوله أمامه، وهي الآن راضية! راضيـةٌ عن عذابٍ سيُتخمها به، راضيـةٌ واللهِ عن تقلّباتِه الآن وعمّا سيفعـل ، لهُ الآن كلّ الحقّ في معاقبتها، لهُ الآن كلّ الفُرَصِ في سلخِ جلدِ البسمـةِ عن شفتيها ، البسمـة التي تتولّد بفعـل عينيه!
اقتربَ وجههُ من وجهها أكثـر لتشيحَ ملامحها المرتجفـةِ عنه وهي تشعُر بأنفاسِه تحرقها، أذابَت فكّها ، لم تخرجْ من إطارِ حرارتها التي تُرعشُها أكثرَ بشعورٍ قاتِلٍ بالوجَع ، هذا الألـم ، لم يكُن فقطْ ألمًا جسديًا، هذا الألـم الجسدي ، كـان رغمَ شعورِها بِه ، لا شيء! أمـام شعورِ الانهزامِ والخسارةِ والدونيّة!
همسَ سلطـان بصوتٍ لا تعبيرَ فيه ، صوتٍ مشدود، متشنّج ، غاضِب ، بينما في تلك اللحظـة، لم يكُن يملكُ في جسدِه كلّه سوى الغضب، التقزّز ، الاحتقـار ، الرغبـة في قتلها! : تلاعبتِ فيني! ..
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، أغمضَت عينيها بقوّةٍ دون أن توجّه وجهها نحوهُ ودموعها تتساقطُ أكثر، لم تحاول هذهِ المرّة مسحها .. هذهِ المرّة ، لم يعُد هناك من سيمسحها لها! .. أماتت كلّ حواسِها، إلا مسامعها التي كانت تلتقطُ كلماتِه التي تترجّل نبرةَ الغضبِ ومن ثمّ تمرّرها عبر منافِذَ خيبةٍ إلى قلبها المُنقبـض بقوّةِ انفعالاتِها مباشرة : استغفلتيني! ... من البداية ... استغفلتيني!!!!
ارتفعَ صدرها بقوّةٍ أكبر لينخفضَ بهوانٍ ونبرته التي كـانت تنخفضُ بوتيرةِ الصوتِ كـانت ترتفـع بوتيرةِ الغضبِ في المقابل، شد كتفيها بقوّة ، صوتُه لازال لم ينفجـر، لم يكُن قد انفجر! كـان خافتًا ، خـافتًا ، وانفجر! بعدَ أن شدّها من كتفيها إليه بقوّةٍ ليصرخَ بوجهٍ احمرّ من الانفعـال، يصرخُ صرخـةً شعَرت بها كسهمٍ صوّب لملامحها مباشرةً فتشوّهت! : شلـــووووووون تتجرأين؟؟!!! شلووووون !!!
شهقَت ما إن دفعها جانبًا لتسقطَ للأرضِ بقوّة ، تأوّهت من ألمِ وركِها واصتدامِها بالأرض، بينما تحرّك سلطـان بانفعـال، يكادُ في هذهِ اللحظـة أن يقتلها، تحرّك بانفعـالٍ نحو الطاولةِ القريبةِ منه، سيقتلها لا محالة! سيقتلها !!! ... لذا ما إن سقطَت عينيهِ على مزهريّة الوردِ الزجـاجيّة حتى حملها بالوردِ الموضوعِ فيها، رماها بقوّةٍ نحوها لتسقطَ بجانِبها متناثرةً شظايـا وقطراتِ ماء! تمدّد الوردُ الزهريّ بجانِبها وزحفَ الماءُ على الأرضيّة، بينما أخفضَت هي رأسها بعد شهقةِ فزع ، نشجَت بخفوت، وقلبها المذعورُ في تلك اللحظـةِ كـان ينبِض بشدّةٍ حتى شعرت أنه سينفجرُ ويخترقُ أضلعها ليسقطَ أمامه مصروعًا ، زمّت شفتيها بوجـع، لم تفتحَ عينيها، لكنّها شعَرت بشيءٍ آخر يسقُط بجانِبها لترتجفَ أكثر ، ما الذي يفعله؟ لمَ لا يجيء إليها هي ! ويفرّغ غضبه فيها! هي من أخطأت ، هي من فعلت بِه ذلك وليسَت تلك الجمادات ، تريدُه أن يأتِي إليها هيَ ليئدَ روحها ، لا أن يُشبعها من ثورانِ غضبِه حولها!
شهقَت لتفتحَ عينيها المتضبّبتانِ ما إن شعرَت بَكفيه ترفعانها بشدّة ونستلّانها من الأرض بعنف، ثبّتها أمامه لينطقَ من بينِ أسنانِه بغضب ، بقهرٍ وهو يكادُ أن يحطِم عظامَها ومن ثمّ يستخرج منها روحها ليناثرها شظايا كما حدّث لبيتِ الوردِ الشفاف ، أن يفعـل بها نفسُ ما فعـل بالجمادَات! : هذا السبب .. هذا السبب اللي خلاك تقرّرين الطلاق! هذا هو يا غزل هاه!
هزّت رأسها بالإيجابِ دون صوتٍ ودون أن تفتحَ عينيها، حينها ابتسمَ بسخريةٍ مريرة، في حينِ كانت عيناهُ كأتونٍ مشتعلٍ تكادُ النارُ أن تتجاوزهما وتذهبُ إليها فتحرقها، نطقَ بصوتٍ رجـع لخفوتِه القاسي : وأمك معك! .. تدري !!!
لم تكُن تعلمُ هل كان يسأل أم يقرّر واقعًا ، لكنّها اعتبرته سؤالًا، وكانت إجابتها أن هزّت رأسها بالنفي وهي تبكِي بنشيجٍ خافت! .. لم ترِد إشعاره بالقهر أكثر، أن يرى أن تلاعبها بِه امتدّ إلى أمها ، لم تُرِد أن تضاعفَ شعوره بالاستغفـال ، لذا كذبت!
سلطـان بغضبٍ حارقٍ يحرقه هو قبل أن يحرقها : وأبوك؟!
هذهِ المرّة صدقَت، هزّت رأسها بالنفيِ أيضًا ، نعم ، والدها لم يكُن يعلـم، أليسَت هي من كذبَت عليه وقالت أنّ كلّ ما علمهُ كان كذبًا؟! ... لذا .. صدقت!
عضّ شفتـه بقهر ، تنفّس بانفعـال ، ظلّ ينظُر لها بعينينِ تزيّنهما الانفجـارات، يتضاعفُ غضبـه أكثر! نعم .. كـان يتضاعف ، كـان يشعُر بجسدهِ كالنـار ، دفعها عنه بقرف ، ومن ثمّ وبصرخةٍ ارتفعَ بها صوتهُ لفظ : اذلفي من وجهي ... بذبحك ، ثانية زيادة أشوفك فيها قدامِي وبذبحك !! .. روحي ... * بصرخةٍ أكبر جعلتها تنتفض * روحي من وجهي يا حقيييييييييييييرة !!
تراجعَت للخلفِ بتعرقـل ، ضمّت كفيها لصدرها ورعشـةُ شفاهها كانت أضعافًا لجسدِها كلّه ، هذهِ المرّة ، رأته ... رأت ملامحه ، رأت وجهه الذي لم يكُن وجهه! .. رأت ما فعلته بهِ الآن ، الغضبَ الذي ولّد احمرارًا في تقاسيمه ، رأت أمامها ... شخصًا مقهورًا ، محتقرًا ، ومطعونًا من جهةٍ أخرى!!
تحرّكت لا تدري إلى أين ، لم تفهم بالضبط أين كان يريدها أن تذهب ، لكنّها ودون هدَى ، اتّجهت للبـاب، فتحَته بكفينِ مرتعشتين ، تديره ظهرها وهو كذلك ، خرجَت ، ووصلَ إلى مسامِعه .. صوتُ البابِ الذي أغلقَ بخفوتٍ لا يُشابِه ما يحدثُ فيهما من ضجيج ، رفـع وجههُ للأعلـى قليلًا ، شدّ على أسنانه ، ومن ثمّ تمتمَ بقهرٍ من بينها : استغفلتني !!!!
كـانت تستغفله !! .. كانت براءتها في عينيهِ زيفًا ! .. كـانت منذ البدايةِ كذابة! .. من قبـل أن تتزوّجه ، كانت قذرة!!! . . شدّ على قبضتيهِ أكثر ، وعينيها المشتعلتينِ بغضبٍ لم يُغمضهما وهو يتمتمُ بشفتيه كلمـات .. كانت دون صوت ، يتمتمُ بوعيدٍ أجوف !
في حينِ كانت غزلْ بعدَ خروجها قد اصتدمَت عيناها بسالِي التي كانت تقفُ خلفَ البابِ مباشـرة ، منذ متى كـانت تقف؟! .. ارتبكَت سالِي ما إن رأت عيناها تشتعلانْ بحزنها ، لم تكُن في تلك اللحظـةِ تملكُ مقوّماتِ التفكيرِ بأحدٍ ما ، أن تغضب ، لذا نظرتْ إليها بصمتٍ رماديّ ، ومن ثمّ تحرّكت بصمتها ذا .. بعيدًا .. نحو غرفةٍ أخرى !!
دخلَت للغرفـةِ التي سكنتها معه قديمًا ، الغرفـةِ التي اخترقها ذاك الرجُل وتهجّم في ليلةٍ تشبه هذهِ الليلـة عليها ، سوداء، ليسَت فقطْ بسوادِ سمائها ، بل بسوادٍ من روحها ، سوادٍ من قلبها ، ليسَت فقطْ ظلامًا من مُحيط، بل ظلامًا من نفسِها! .. لم تشعُر أنها جاءَت في مكانٍ خاطئ، بل شعرت! لكنّها كانت ضائعـة ، لم تكُن لتدخـل هذهِ الغـرفة ، لكنّها دخَلت ، لأنها الأقربُ إليها ، ولأنها تكفِي ، لتُغيّب فيها شعورًا ، وتشعِرها بالألـم أكثر !!
استلقَت على السرير، شعرَت بقشعريرةٍ تُصيبها ، نشجَت بأنينٍ خافتٍ وهي تفركُ عضدَها وكأنها تشعُر بجلدها يزحفُ فيه الجرب من تواجِدها هنا !! .. مسحَت دموعها بظاهِر كفها ، تشعُر بالغربـة ، هاهيَ أخيرًا أخبرته بكلّ شيء ، لكنّها الآن ، تشعُر بالغربة! .. عضّت شفتها السُفلـى وهي تحرّك أحداقها في زوايا الغرفـة بخوف ، خائفـة ، هذا الخوفُ الذي يتسلّل إليها بسرعةٍ يُخبـرها أنها ستفقدُ الأمان بفقدِها له .. جلسَت برعشـة ، رفعَت ركبتيها إلى صدرها لتحيط ساقيها بذراعيها ومن ثمّ تدفُن وجهها بينهما ، تريدُ لجسدها أن يتوقّف عن هذهِ الرعشة، تريد لدموعها أن تتوقف، لخوفِها أن يضمحلّ! تريد أن تشعُر بالأمـان! .. هيَ قامت بالخطوةِ الصحيحة، الخطوةِ التي تفقدهُ فيها ، نعم ، لمَ تتألّم الآن ووجعها بخداعِه كان أكبر؟ .. أخبرته ، أخيرًا أخبرته ، سيشعُر بالقهر ، سيكرهها ، سيحقدُ عليها ، لكنّه في المقـابل .. سيتخلّص من نطفةٍ سوداءَ جالَت في حياتِه ... نعم ، سيتخلّص من قذارتها !! ..
مرّرت لسانها على شفتيها ، أغمضَت عينيها، في هذهِ اللحظـةِ شعرت بنفسها تعودُ لما قبل مجيئها إليه ، حينَ كانت تجلسُ في غرفتها وحيدة إلا من آلامها وخوفها وعدمِ الأمان ... ابتسمَت بسخرية من نفسها ، لا تدري كيفَ ابتسمت ، لكنّها ابتسمت! .. لتنقشـع ابتسامتها سريعًا ، ومن ثمّ تتقوّس ... وتعودُ للبكـاء!
الدرسُ الأخيـر منه ... كان أن لا تبكِي! ، لمَ لا تتوقّف الآن؟ قال لها آخر مرّةٍ أن لا تبكِي إن كان البُكـاءُ سيضعفها ، لمَ لا تتوقّف الآن!! .. زمّت شفتيها بقوّة ، دفَنت وجهها في ركبتيها أكثر ، لا تبكي! ، كفى بُكاءً ، كفــى !! ها أنتِ فعلتِ ما كان صائبًا ، لمَ البكـاء! ... آهٍ يا الله أنا أبكيه هو !! .. لا ، لا ، سأنتهي من دموعي ، يجبُ أن تكون نفدَت .. لن أبكِي ، لن أبكِيه! لكننّي سأعزّيه نفسي!
شدَت على أسنانها ، لكنّها وفي لحظةٍ سريعـةٍ انتفضَت لترفعَ رأسها ما إن سمعَت صوتَ البـابِ يُطبـق بقوّة ، صوتُ بابِ - غرفتهما !
ابتلعَت ريقها ، هل خرج! . . أخفضَت ساقيها ، ومن ثمّ مسحَت على أرنبـةِ أنفها ، ابتعدَت عن هذا السريرِ الموبوء ، ومن ثمّ اتّجهَت للبـاب .. لم تكُن تدري ما الذي قصده بأن تذهب! لكن من البديهيّ أن لا تستطِيع وقتها الخروجَ وهو أمرها أن تختفي في " ثانيـة " ، والآن بما أنه خرج ، ستعود للغرفـة لتتّصل بأمها حتى تأتِي ، ومن ثمّ ستذهبُ من حياتِه ... لتُريحه للأبد !
خرجَت من الغـرفةِ وهي تمسحُ دموعها ، اتّجهت للبـابِ الآخر وعيناها المرتبكتينِ تبحثُ عنه بخوف، وصَلت للباب ، ومن ثمّ فتحته لتدخـل ، كـان هاتفها لا يزال على الكومدينة ، الأرضُ مبلّلةٌ بماءِ الورد ، تتناثـر بزهريتها الباهتـة بجانِب الموضِع الذي سقطَت عليه ، وبجانِبها ، كـان هنـاك زجاجةُ عطرٍ محطّمـة ، إذن كان الحطامُ الثانِي لعطـر ، لم تشتمّ رائحتـه في زحـامِ روائحِ الوجع!
مرّرت لسانها على شفتيها ، مرّرت أحداقها لترى فوضَى بجانِب التسريحة، لم تسمعه وهو يفرّغ الباقي من غضبِه على ما وجَد من جمادات، ععضّت باطن خدّها بضيقٍ وألم، ومن ثمّ اتّجهَت للكومدينةِ لتأخذ هاتفها ، لكنّ مواءً جاءَ من خلفِها جعل جسدها يتصلّب فجأة! .. استدارَت ببطء، ومن ثمّ عقدَت حاجبيها بحسرة ، وهي ترى قطّتها تنزوِي في زاويـة، كـانت خائفـةً على ما يبدُو منذ اللحظـةِ التي رمى فيها سلطـان تلك المزهرية لتفرّ في زاويـةٍ وتتابـع المشهدَ بفزع.


،


ارتفعَت عيونهُ لأعلـى الصفحـة بعدَ أن قرأ بضعَ منشورات، نظرةٌ للشريطِ العلويّ كانت كافيةً ليدرك أنها لها عبر الصورةِ التي اختبأت ، صغـرت ، وكأنها كانت تريد أن تصغر أكثر كيْ لا يكتشفها ، لكنّ تطابقها مع الصورةِ التي تكبّرت أمامه كان كافيًا ، ولم يكتفي! . . كـانت إلين تنظُر لهُ من الخلفِ وهي تبتلعُ ريقها، في حينِ ذهبَت عيناه دون اكتفاءٍ بذاك الدليل كيْ ينظُر للمعلومات ، العمر ثلاثةٌ وعشرون بعد أن كبرت عامًا ، اسمُ الجامعـة ، قسمها ، نعم صفحتها !!!
ابتسمَ بسخريةٍ وهو ينزلُ للأسفـل ويعودَ لقراءةِ ما كتبت ، وبنبرةٍ كـانت تصلها بسخريتِها لفَظ : يؤرقنـي يا حبيبي أن القُرب بيننا محال ، ينسحبُ من عيوني النوم لأسهر في لوعةِ هذهِ الحقيقةِ الموجعـة.
تضاعفَت حُمرةُ ملامحها ، شتّت عينيها بحرج، بينما وجّه أدهم نظراته الساخـرةَ إليها ليُردف : أثاري زوجتي كاتبة وأنا ما أدري ! ... نقدر نعرف - حبيبي - ذي لمين ترجع؟
ابتلعَت إلين ريقها بصعوبـة، لم تنظُر لهُ وهي تردُّ بكلماتٍ مرتجفـةٍ ونبرةٍ كاذبـة : مين قالك إنّ الكاتب لازم يقصد في كتاباته شخص بعينه؟
أدهم يرفـع حاجبًا باستخفاف، ترتفعُ حمرة الغضبِ في عينيهِ وكفّه القاسيـةُ تُطبـق الحاسوب بقوّةٍ لتنتفضَ في مكانِها في اللحظـةِ التي لفظَ فيها بصوتٍ حادٍ كوقعِ المدفع : والله؟ طيب لازم يعنِي تكون عيونه بنيّة؟ " لهُ من الرفقِ ما يكفي كي لا يتذمّر من مُصابِ من يأتيه متوجّعًا "؟ .. دكتور هوّ مو؟!
لفظَ جملتـه الأخيرةَ بنبرةٍ أقسـى ، تلاشَت منها بوادِر السخريـة ، في اللحظـةِ التي كـان يقرأ فيها كانت صورةُ ياسِر تجيئهُ تلقائيًا ، منذُ قرأ " ذا العينيانِ البنيّتان " حتى رآه أمامه وكأنه كان ينقصـه المزيدَ من الحضورِ بينهما! .. كان فقطْ قد رآه في تلك الكلمـة ، ومن ثمّ كـان رابطًا كي يفهم من جملةٍ أخـرى ، أن المعنيّ " طبيب "! .. هوَ ياسِــر ! هذا ما أخبرته نفسه ، وأثبتته عيناها اللتين نظرتا إليه بذعرٍ وهي توسّعهما وتفغـر فمها بينما ملامحها تحمرُّ بحرجٍ وربكـة ... شدّ على أسناه بغيظ، ومن ثم أزاحَ الحاسُوبَ عن حُجره ، لم تقُل شيئًا ولم تنظُر نحوه وهي تشتمُ نفسها داخلها ، لمَ لم تُغلق الصفحة؟ لمَ انتظرت حتى رآها وفهم ببساطة؟! . . شعَرت بالحرجِ أمامه، لم تستطِع أن تنظُر لهُ حتى بينما تحرّك أدهم بانفعـالٍ وحدّةٍ مفاجئةٍ جعلتـها تنتفضُ وتنظُر لهُ رغمًا عنها من زاويـةِ عينيها باضطراب، رأتـه يبتعدُ فجأة، رفعَت حاجبيها باستغرابٍ وهي تراهُ يتّجه للبـاب .. ومن ثمّ يخرج!!
خرج! ، لم يقُل شيئًا وهي تدرك أنّه فهمها بالتأكيد! .. لم يعرف أنه ياسِر - هذا ما ظنّته - لكن يكفِي أنه علِم بأنها تقصدُ شخصًا بعينِه . . ارتفعَ صدرها في نفسٍ ملتهبٍ مضطربٍ لينخفضَ بربكـة ، ما الذي حدَث! لقد ، لقدَ علِم فعلًا أن هنـاك من في قلبها! .. ظنّ هو أن هناك من في قلبها ، هيَ لفظتـه منه كرجلٍ منذُ أدركت الواقـع ، لكنْ هو ! ... ابتلعَت ريقها ، هذا ما كان ينقصها ، لم يُكمـلا يومًا حتى في ومضـةِ الصُلحِ هذه!!


،


تقيّأت وجعًا ، كـان جسدُها الذابـل يصرخُ بألمِه وهي تقفُ عندَ المغسلةِ وتتقيّا لتشعُر بألمٍ ينتشِر في منطقةِ البطنِ تحديدًا ، بين ثانينِ وأخرى تتسلّل آهةٌ من صدرِها ، آهـةُ خيبـة ، ووجَع ، وألمٌ لا ينفكُّ من جسدِها . . غادرت ديما قبل لحظـاتٍ فقط، ربّما لم تصِل لبابِ السيّارةِ حتى! بينما انتظـرت هيَ فقط حتى خرجَت ، لتُثـار معدتها فجأة ، وتندفـع للحمـامِ بجسدٍ خامِل/يحتضر!
ربّما كانت إثارةُ الوجَعِ من كلمـاتِها الطويلـةِ معها، من استرجاعـها للخذلان، من العُقَدِ التي ذرفَت منها دموعَ صدرٍ خُذل، من الصوفِ الذي حاكتـه وغزلتهُ بقايا شكوى، بل هما من حاكاها ودّمغا فيها لونًا أسود ، من أنانيّتهما!

في جهةٍ أخـرى ، صعَدت للسيـارة ، بمـلامِح شلّها البهوتُ بعدَ أن طـالَ الوقتُ في غياهِب الحديث، أغلقَت البابَ بهدوءٍ يعنـي البهوتَ فقط، دون حتى أن تلقِي السلامْ! .. حرّك سيف السيـارةَ ليلفظَ بهدوءٍ مُتسائلٍ وهو يوجّه نظرةً سريعةً إليها : شلونها؟
لم يبدُو أنها سمعته ، كانت تنظُر للأمـام بفراغ ، كيفَ يكون حي! .. ماهذا الجنون! ..كيفَ ذلك؟! .. كانت تقلّب الموضوعَ في عقلها والذي تلتـه لها أسيل باختصارٍ - طال! ، تلتهُ لها بنبرةٍ مُرهقـةٍ بفتورِها الجسديّ ومن جهةٍ أخـرى بفتورٍ آخر داخـلي، كـانت ترى في كلماتِها الألـم ، لم ترى الفرح! لم ترى شيئًا أو حتى مشاعـر خاصّةً لأجـل حقيقةِ العودة ، كـان قهرها هو الطاغـي ، لم تهتمّ لشيء!
عقدَ سيفْ حاجبيه باستنكـار ، ظنّ بأنها تتجاهله! .. لذا لوى فمه بغيظٍ وصمت مُكملًا طريقـه . . مرّت الدقائقُ القصيرة قبل أن يصلا ، نزلَت بآليـةٍ من السيارة ، بينما تبعها سيف بملامِح صامتة، جامـدة، دخلت وهو من خلفِها، كـان المنزلُ مظلمًا باقترابِ الوقتِ من الحاديةَ عشرة والنصف، أمّه نامَت بالتأكيد قبل وقتٍ قصير.
تابعها بعينيه وهي تصعد، تحرّك من خلفِها، وصَلت قبله لبابِ الجنـاح وكأنها في تلك اللحظـة تعيشُ عالمًا وحدها، كأنّها لم تكُن تشعُر بِه وهي تغرقُ في تفكيرها وفي ذهولها وفي المعجـزة التي لازالت حتى الآن لم تصدّق حلولها! فتحَت الباب، دخَلت ومن ثمّ دفعَته ليتراجَع سيف مباشرةً بغضبٍ أكبر حين كـاد يُغلق على وجهه مباشرة! وبحنق : هذي شفيها !!
فتحَ الباب بحدّة، ومن ثمّ وبنبرةٍ غاضبـةٍ لفظَ بوقعٍ جعلها تفزع وتنتبه لهُ أخيرًا/تستوعب تواجده! : ممكن أعرف يا ست الحسن والدلال ليش متجاهلتني بالطريقة الوقحة هذي !!!
عقدَت حاجبيها وهي تنظُر نحوهُ ببلاهة، وكأنها فعلًا لم تكُن تستوعب أنها صعدت السيارة، وقضَت دقائق وهو الذي كان يقود، وأنها نزلت ومن ثم دخَلت وهو معها! كانت تمشي بآليةٍ فقط وعقلها غائب!
ديما بملامِح غائبةٍ ببلاهةٍ استفزّته : هاه !
شدّ سيف على أسنانه بحنق، ومن ثمّ اقتربَ منها وهو يلفظُ بصوتٍ حاول أن يجعله هادئًا : وين عقلك؟
ديما تعقدُ حاجبيها قليلًا بعد جملته المُستهزئة : معك يا قلبي هو وين يقدر يغيب عنك؟
رفـع حاجبًا وابتسمَ رغمًا عنه بينما تحرّكت هي دون مبالاةٍ كي تبتعدَ عنه، لم يستطِع أن يكتمَ بسمته تلك، لكنّه تبعها بعينيهِ وهو يلفظُ مواريًا تسليته بنبرةٍ متسلّطة : ما خلصت كلامي!
تأففت، لكنّها سرعـان ما أغرقَت نفسها في الجمود ما إن استوعبَت ما تفعله، ما بالها باتت تعودُ كما كانت معه رويدًا رويدًا!! . . لوَت فمها وهي تستديرُ إليه ببطء، نظرت لهُ بعلياء، وبابتسامةٍ باردةٍ مستفزّة : تفضّل كمل يا بعلي العزيز.
اقتربَ منها وهو يُميل فمه قليلًا كي يقتـل ابتسامته، وبجمود : مرة ثانية لا تعطيني ظهرك وأنا أكلمك .. أعتقد هالكلام كان ضمن النصوص القديمة مسرع ما نسيتيه!
ديما : اوووه تقصد مورثات فرعونية ما أعرف هالنصوص الهمجية في الحضارة الحديثة.
سيف هذهِ المرّة لم يستطِع التحكّم بشفتيه، ابتسمَ رغمًا عنه، وبتساؤل : أنا المقصود بالفرغون وإلا أنتِ؟
ديما بسخرية : ما يبيلها !
سيف بهدوءٍ يغيّر مجرى الحديث : شلون أختك؟
انطفأت السخرية من عينيها بشكلٍ مُفاجئ، عمّ على ملامحها الضيقُ وهي تُشيح بوجهها وتلفظَ بنبرةٍ فاترة : بخير.
سيف يتنهّد بضيق : متأكدة ما تبيني أتفاهم مع شاهين بنفسي؟
نظـرت لهُ ديما وهي تبتلعُ ريقها، هذهِ المرّة لا أحد ، لا أحـد قد يتجرّأ على الإصلاح بينهما ، الموضوع أكبر ، تشابكت الخيوطُ حتى بات فكاكها منهم مستحيلًا.
هزّت رأسها بالنفي، تشعر أنّ الصداع لن يرحمها في هذهِ الليلـة من بعدِ ما سمعته، بينما مدّ سيف يديه ليجذبها من خصرها نحوه ومن ثمّ يقبّل وجنتها كي يواسِي الضيقَ في عينيها، وبخفوت : الله يصلح حالهم ويعوّضها.
ديما بنبرةٍ ميّتةٍ وهي تحاول أن تبتعدَ عنه بصورةٍ هادئـة : آمين.
ابتعَدت عنه ، تريد أن تختلِي بنفسها قليلًا وتعودَ للتفكير، تريد الخلوة للحظاتٍ قصيرةٍ على الأقل ، لكنّ سيف لم يسمـح لها وهو يُمسكها من معصمها ويُعيدها إلى أحضانِه لافظًا بنبرةٍ متكاسلة : من النصوص الفرعونية بعد ما تعطيني ظهرك .. حتى لو خلّص كلامي!
أغمضَت عينيها بضجرٍ وهي تُحاولُ أن تحرّر جسدها من حِصاره، وبضيق : مالي خلقك ابعد.
سيف باستفزاز : نص ثالث ، لو بغيتك قريبة مني ما تبعدين تحت أي عذر.
رغمًا عنها بدأت تستغفر من فرطِ الغيظ وهي تشدُّ على أسنانها، حينها ضحكَ وهو ينحنِي إلى وجهها ليودِع شفتيها قبلةً سريعة، ومن ثمّ بنبرةٍ فيها الكثير من الاسترخـاء : على فكرة ، الحضارة الفرعونية ما كانت تضطهد المرأة!
ديما بقلّةِ صبرٍ وهي تمسحُ على شفتيها بعنادٍ طفولي : متأكد؟
سيف يقبّل ظاهر كفّها التي تغطّي فمها بتمرّدٍ ومن ثمّ يُردف : يؤمنون إنها مُكمّلة للرجل ولها مكانتها ، وأنا أؤمن إنّي اكتملت فيك.
ديما بخفوتٍ من خلفِ كفّها : وأنا نقصت معك.
سيف يبتسم بغرورٍ كان ولازال يستفزّها : النقص اللي يندرج تحت قائمة الكمال.
قلّبت أحداقها وهي تحاول أن تمدّ نفسها بالصبر، يستفزّها! لازال سيف القديم يستفزّها وإن حاولت المقاومـة ، لكنّها لن تخضـع ، لن تجعلـه يفرحُ بهزيمتها.
عند تلك النقطة، كـادت أن تخفضَ كفّها لتلفظَ بردٍّ يستفزّه في المقابـل، لكنّه سبقها بأن أمسكَ كفّها ليُخفضها، ومن ثمّ ثبّت وجهها بقبضتهِ من فكّها بينما ذراعه الأخرى تُحيط خصرها وتُلصقها بِه ... ليسرقَ من شفتيها قبلـةً أخيرًا، ويُخرسَ كلماتِها التي كوّنتها في فمـها في مواجهـةٍ خرساء.


،


ضربَ سطحَ المكتبِ بغضبٍ وهو يشدُّ على أسنانه : شلون يعني!!!
نظـر له أحمد بقليلٍ من الربكـة : هذا اللي صـار ، طلعَت معه من سنين ، واضح إنّ فهد خباها ببيته هو قبل لا يموت ، من بين كلّ الدلائل كان هو تحديدًا عند سلمان.
سعود ينظُر لهُ بغضبٍ أعمـى، وبقهر : اقتلوه قبل لا نتورّط بسببه .. اقتلوا هالحيوان وإلا ما بتشوف إنت خاصـة خير .. كل شيء صار بسببك! كانت شغلتك قبل هالسنين تذبح فهد وتآخذ منه كل شيء! في النهاية ما نجحت ...
عادَ يضربُ المكتب بقوّةٍ أكبر وهو يصرخ : كلكم أغبياء !! كلككككم .. والله ما يردني عنكم شيء لو ما مشى الوضع مثل ماهو مفروض ، طول هالسنين ناس دخْلت السجن وتورطت عني، ناس ماتت وناس ولدت ، ما انكشفت ولا مسكوا لي دليل تجون أنتوا تخربون كل ما بنيته !!!
اقتربَ من أحمد الذي بقيَ يقفُ وهو ينظُر لهُ بصمت، أمسكَه من ياقة قميصه ليقرّبه منه بغضبٍ ويردف بنيرانٍ تشتعل من أحداقه : سنين واسم الرازن مستور في السوق كَلافِتَـة بيضاء ، ما انكشف سوادها إلا قبل 15 سنة .. والسبب بعد كان أنت !!! فهد ما طلع لنا إلا بسببك !! من بعدها بدت المشاكل ، كل سنة تمر لازم ينمسك واحد من رجالي وتخترب على صفقة أو أي مصيبة بسببك أنت والحمـار الثاني ، محمد كـان يتدرب تحت يد سالِم ، وفي النهاية انمسك بكل بساطة بعد ما عطيته مكانة عندي! فيصل الحمار الثاني كان يمشي ورى أوامر سالم ، وفي النهاية انمسك أول ما تحرّك !!! .. والحين متعب اللي ابتلينا فيه بسبب سالِم بعَد رجـع للسعودية حي وأكيد محمي بسبب سالم !!!! والزفت الثاني سلمان جاء من وراك .. مثل ما جانا أخوه من قبل . .
دفعَه عنه بقهر ، ليترفعَ صوته بشكلٍ أكبر وهو يصرخ : كل اللي فشلت فيه بسببكم ، وما أستبعد إن العملاء اللي تعاملت معهم آخر الصفقات انمسكوا بسببكم أنتوا بعد !
عدّل أحمد ياقة ثوبه وهو يتنهّد بصبر، وباعتراضٍ حادٍ بعض الشيء : آخر شيء منّك ، اللي قبل غلطي وغلط سالِم ، بس لا تنكر إن الصفقات الأخيرة ما كان يديرها غيرك! مو غلطنا إنّك مخلي تميم يتصرّف فيها ... هو وش يعرّفه؟ ممكن بعد ينمسك هو بأقرب وقت ... لا تدخّله بأشغال كبيرة ماهو قدّها .. خلّه يتعلم زين وحبّة حبّة بيصير خبير.
سعود بسخرية : ودّك تقارن تميم فيك أنت وسالم؟! تميم ذكي بالفطرة عكسكم، مستحيل ينمسك بسهولة ، مثل ماهو أساسًا لاعب بحسبتي أنا يهون عنده أي شيء ثاني ... لا تتكلم عن شيء ما تفهمه يا أحمد !
أحمد بقسوة : مو كأنك معطيه أكبر من حجمه؟
سعود : صدّقني أنت وسالم اللي عطيتكم أكبر من حجمكم ، تميم مثبت نفسه من غير تدخّل مني .. يعرف شلون يتصرّف زين.
من خلفِ الباب ، ابتسمَ تميم بسخريةٍ وهو يتّكئ بظهرهِ عليه ويكتّف ذراعيه ، استمـع لكلامهما منذُ البداية، كـان لا يبالِي بالأعين التي تمرُّ من الخدم، يدرك أنّ البعضَ منهم مكلّفون من سعُود بنقل محريـات ما يحدثُ في المنزل ومنه هو تحديدًا! لكنّه لم يبالِي وبقيَ يستمع.
ابتعَد عن البابِ بهدوء، رفُع هاتفه من جيبِه، بينما أحداقـه تنظُر للأمام بثقةٍ بينما شفاههُ تبتسم . . اتّصل برقمٍ مـا، انتظـر حتى أجاب ، ليلفظَ أخيرًا بهدوءٍ آمر : تستطِيعُ البدأ من الصباح .. الساعة العاشرة والنصف ، في الوقتِ ذاته الذي يغادرون فيه العيادة .... هذا وقتك !


،


كـان يسيرُ دونَ هدى ، لم يُغـادِر سيّارته منذُ ساعات ، يسيرُ في الشوارِع ويكرّر النظـر للمنـازل، يشدُّ الرحـال في أصقاعِ الظـلام، ويشدُّ من ملامِحه خيطًا جديدًا من الأفكـار التي تحوّر وجهه وتبدّل تعاليمه، أمضـى وقتًا طويلًا ، ما بينَ فكـرةٍ وأخـرى ، واحتراقٍ وآخر .. يسترجِع الكلماتَ التي لفظَتها برعشـةِ نبرتها ، الاعتـراف ، الحقيقـةَ القذرة! .. يسترجِعُ صوتَها الخائفَ وهي تقولها، عيونها، أهدابُها التي كـانت تنعكفُ بهوان، بشرتها التي شحبَت وكأنّ الحقيقـة امتصّت منها لونها ، كـــانت كاذبة! وهو الغبيّ الذي صدّقها منذ البدايـة، كانت كاذبـة ، وجهها اليومَ بتقلّباتِه أخبـره جيدًا أنّها أتخمتـه بكذباتها، أنها خادعت، مكرت، وتلاعبَت بِمـا يكفِي لتنسحَب الألوان من وجهها وهي تقولها . . أينَ ذهبَت تلك البراءة؟ فجأةً وبشكلٍ صادِم ، انطفأت! .. لم يكذِب سعد، لمْ يكذِب ، والآن رغمًا عنـه .. هو ممتن! لم يكذِب سعد عليـه ، أنقـذَ أنثـى ، كانت قذرةً منذ البدايـة ، واستغلّته كما يجب! .. منذُ تلك الليلـة ، كـان ذنبي زائفًا! هكذا فقط يا غـزل ، كـان منذُ البدايةِ زائفًا وأنتِ تجيدينَ انعاشـه في كلّ لحظـةِ تذكير . . ابتسمَ بسخرية . . استرجَع اللحظـاتِ التي كـانت تقولها فيها " سامحنِي "! ألِقذارتكِ الأولى؟ أمْ لكذبَتك! .. كانت تنعتُ نفسها بكلّ شيء - واقِع -، تنعتُ نفسها تمثيلًا، لتجدّد في كلّ مرةٍ ختـم بقائها . . كـان غبيًا! .. كـان غبيًا ، ساذجًا ، كطفـلٍ تلاعبَت بِه، كـان غبيًا .. يا الله كيفَ تجرأت؟ كيفَ تجرّأت بتلك الطريقةِ القذرة!! وكيفَ كان بتلكَ السذاجـة؟!
شدّ على أسنـانِه بغضبٍ وقهرٍ يتجدّدانِ فيه منذُ ساعاتٍ ولا يتوقّفان ، ستندم ، ستندمُ على كلّ شيء! ، على كلّ لحظـةٍ ابتسمتْ فيها بألمٍ وكان ألمها لا يكفي! لا يكفيه الآن سوى أن يراها تغرقُ فيما هو أكبـر .... هي لم تتألم بعد، لم تتذوّق حتى الآن ، معنى أن تتوجّع بصدق! .. سيبتُر زيفها، وتمثيلها ، بصدقٍ أكبـر!
ضاعفَ من سرعةِ السيـارةِ وابتسامتهُ تنطفئُ فجأةً بوعيد ، يلتهبُ صدرُه بكلمـاتٍ كثيرةٍ يجدُ عنها تعبيرًا هو - الصمت -، كم مرةً ابتسمَ لوجهها الممرّغِ في وحلٍ قذر؟ كم مرّةً لاطف قلبها الوضيع بنبرةٍ حنونة؟ كم مرّةً عانـق جسدها المتّسخ! كم مرّةً لوّث نفسه! .. كم مرّة !!!!
تنفّس بانفعـال، وجههُ يتجعّد بتقزز، شعـر بالقذارةِ تغلّفه، كم مرةً تألّم ، وشعـر بالذنب ، لأجـل عينيها؟ .. كم مرّةً ، كم مرةً ... أرادها! . . رفَع كفّه اليُمنـى ، ضغطَ على فمِه وأجفانهُ لا يُسدِلها ، بقيّ يتطلّع للأمـامِ بغضب، بقهر ، بقيّ يتطلـع للأمـام بفراغ ، كلّ ما فيه باتَ فارغًا ... عدا رغبتـه الكبيرة بإيلامها .. وردّ اعتبـاره! ، بمعاقبتها ، لأنها كانت قذرة ورخيصةً منذ البدايـة ، لأنّ براءتها .. كانت زائفة ، ولأنها في لحظـاتٍ ما ، حرّكت فيه شيئًا ، ليتمسّك بها ، ويُتوقَ إليها !!!

يُتبــع ..

كَيــدْ 15-08-16 01:02 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


،


أرغمتـها على النهوضِ لتأكلَ معها شيئًا ، لم تأكل منذُ جاءَت ، انزوَت في غرفـةٍ وقالت لها بكلّ وهنٍ أنها تريد فقط النوم ، لا تريدُ شيئًا سواه، تريد أن ترحـل لعالمٍ آخـر وتريحَ رأسها من تفكيرهِ الطويل، تريحُ جسدها من آلامِ استباحتـه، لم تبكِي ، درسه الأخير كـان ألا تبكِي إن كان البكاءُ سيضعفها ، لذا لن تبكِي! .. نفدَت دموعها وهي هنـاك، بين الجدرانِ التي تصبّغت بألوانِ رائحـتـه . . . حاولَت أن تنامّ واستطاعَت تحت طنّ التقطّعِ الذي أثقلها بنهوضٍ ومنام، بالإرتعاشِ فجأةً لتنهضَ وتنظُر من حولِها وكأنها لم تصدّق بعد أنها اعترفَت له، وأنها انتهت من حياتِه! وأنها عادَت إلى منزلها القديم ، لا تشعُر فيه بالأمان!
نزلَت للأسفـل وهي تفركُ عينيها المنتفختينِ رغمَ أنها لم تنَم كما يجب ، كان نومها متقطّعًا والآن طـارَ بعدَ أن أرغمتها أمها على النزولِ لتأكـل شيئًا ، هذا الانتفـاخً لربّما كـان من ترسّب الملحِ أسفـل أجفانها، بقايا الدمـع الذي قاومته ومنعتْ بقيّته من النزول!
جلسَت على الكرسيّ من خلفِ الطـاولة، نظـرت للطعـامِ أمامها بمعدةٍ لا تريدِ شيئًا، كـانت تشعُر أنها ستفرّغ ما في معدتها - الخاويـة بعد لحظـاتٍ فقط وهي ترى الطعـام أمامها، لكنّها قاومت شعورها، ومدّت يدها قسرًا لتبدأ بالأكـل بشكلٍ واهِن ، تقضمُ اللقمـةَ وتلوكُ منها مرارة، تبتلـعُ صديدًا لتهضم فيما بعدُ انهزامًا، كأنها مخلوقٌ بينَ الحيـاةِ والممات، لم تكُن تحتاجُ للأكـل سوى روتينٍ فقط!
كـانت امها تتابعها وهي تسندُ مرفقيها على الطاولَة ومن ثمّ ذقنها على كفيها، تنظُر لها بعينينِ ضيّقتين، ومشاعـر حزينـة، أرادَت في هذهِ اللحظـةِ سؤالها عن تفاصِيل ما حدَث، لكنّها خشيَت أن تستثيرَ آلامها ولا تكمـل طعامها، لذا صمتت حتى رأتها قد انتهت وكادَت تقف ، تداركت لتلفظ : اجلسي حبيبتي أبي أتكلم معك.
نظرت لها غزل دون تعبير، إلا أنها جلَست أخيرًا لتنظُر لوجهها بصمتٍ مُنتظـرةً الحديثَ الذي تدرك ماهيّته ، نطقَت بعد وهلةِ نظـرٍ لوجهها : ضرّك؟
كـانت تدرك فقط ، أنــه علـــم! ، اتّصلت بها غزل ، وأخبرتها بجملةٍ واحدة " سلطـان درى بكل شيء " ولم تُردِف توضيحًا آخرَ بل طلبَت منها المجيء وحسب، وحينَ أصبحَت معها، لم تقُل شيئًا سوى أنّها تريد النوم! تريد النومَ في غيرِ ميعادِه ، كلُّ الأحداثِ كـانت في غيرِ ميعادِها، اللقاء كان في غيرِ ميعادِه ، والفـراقُ كان في غيرِ ميعاده ، لا شيء يخضعُ لوقت ، التقيتُ بكِ حينَ لم أرِد، وحين رحـل منّا الوقت، وافترقتُ عنك حينَ لم أرِد ، وبعدَ أن خضـع الوقتُ لتخوضَ في دمِي وكلّ خليّةٍ فيّ . .
ابتسمَت دون تعبير، نظـرت للأسفـل ، لا تنكِر أن جانِب جسدها وعظامها لازال يؤلمـها من دفعه لها، أن كتوفها لازالت تحترق ، لكنّه لم يؤذيها! .. رغمَ ذلك، هو لمْ يؤذيها! هي من آذتـه ، وهو رغـم كلّ شيءٍ لم يخنقها انتقامًا لما فعلته بِه ولخداعِها! . . هزّت رأسها بالنفي، حينها زفـرت امها براحـةٍ ومن ثمّ لفظَت بحزم : ما راح يمسّك بشيء ، ماراح أسمح له!
مرّرت غزل لسانها على شفتيها ، عيناها لا تنظُرانِ لها بل للأسفـل ، في حينِ أردفَت امها بنبرةٍ متسائلة، فيها الكثير من الترقّب واللهفـة : ما طلّقك ، كذا بس تركك تطلعين!
تشنّج وجهها، في تلكَ اللحظـاتِ كانت منهارة، رأت قبل أن تغيبَ عن عينيهِ وجهه الغاضِب بعد أن غادرت أحداقها ضبـابةَ الدموعِ وخفتت ، كـانت منهزمـة، تكادُ أن تموت، تحتضر ، ولو أنه لفظها في ذاك الوقت .. لربّما أدركت الموت حينها!
لم ترد، بل رفعَت كفيها لتمسَح بإحداهما على خدّها وفمها يتقوّسُ في انكسـار، الأخرى مرّرتها على كتفِها الذي لازال يلتهبُ ببشرتِه، هل انتهيا عندَ ذلك الحد؟ هل سيتركها فعلًا؟ قد تكون توقّعت أن يفترقا بل جزمت بذلك، لكن لم تعتقدْ أنه سيتركها من البدايـةِ دون أن يُذيقها ويلاتِ ما فعلت! . . ارتبكَت قليلًا ، أخفضَت كفيها لتضمّهما ببعضهما ، في حينِ مرّت لحظـاتٌ طويلـة ، لم تصِل الإجابـة فيها إلى امها سوى بصمتٍ أوضحـه ، تنهّدت ، ومن ثمّ وقفَت مبتعدَةً عنها ... في اللحظـةِ ذاتها التي تصاعَد فيها رنينُ هاتِف غزل الموضوعِ على الطاولـة . . أدارتْ جسدها إليها بسرعةٍ وتوجّس، بينما نظرت لها غزل بضيـاع ، وكأنها في تلك اللحظـة شعرت .. بل أجزمت ، أن لا أحدَ سيتّصل بها إلا هو !

قبل لحظـاتٍ قليلة .. دخـل للمنزلِ وهو يمرّر أنامله بينَ خصلاتِ شعره، وجههُ متصلّب ، عينيه معتمتـانِ بدرجةٍ قاسيـة . . لم ينظُر من حولِه وهو يتّجه للدرجِ مباشـرة كي يصعَد، كـان في تلك اللحظـةِ لا يفكّر سوى بها!! ، اتّجه مباشـرةً نحو الغرفـةِ التي سكناها معًا، فتـح البـابَ ومن ثمّ دخـل، بحثَ بعينيهِ عنها ليجدها خـاويـةً منها، عقدَ حاجبيه بارتيـاب، ومن ثمّ تحرّك بجمودٍ مبتعدًا بعد أن ألقى نظرةً سريعةً على بابِ الحمـامِ المفتوح، لم يكُن يعلـم أيّ غرفـةٍ اتّجهت إليها بعد أن أمرها بأن تغربَ عن وجهه وقتذاك، نزلَ بخطواتٍ واسعـة، وبصوتٍ صلبٍ نادى على سالِي لتجيئه في لحظـاتٍ سريعـة ، وقفـَت قريبـةً منه لتلفظَ بارتباك : نعم بابا سلطان.
وجه سلطـان نظراتٍ جوفـاءَ إليها ليرفـع حاجبه بجمودٍ ما إن رآها تحمـل قطّة غزل بين يديها! .. لم يبالِي بها وهو يلفُظ بتساؤلٍ بارد : وينها غزل؟
ارتبكَت سالِي لتخفضَ نظراتها مباشـرةً عن عينيهِ اللتينِ أرعبتها في قسوتِها ، ابتلعَت ريقها، لتتضاعفَ حدّةُ ملامحه تلقائيًا وهو يلفظُ مكرّرًا بحدة : وينها غزل؟
سالي بكلماتٍ متقطّعةٍ من ربكتها وخوفها من أسلوبِه الغريبِ عنها : شِي وِينت!
انتشـر لونُ أكثر قتامـةً في عينيه، نبـضَ فكّه بغضب، وصوتهُ خرجَ خافتًا إليها، قاسيًا : طلعت! .. مع مين؟
سالِي دون أن تنظُر إليها : ماما.
زمّ شفتيهِ بغضب، ومن ثمّ ابتعدَ عن سالِي وهو يهزُّ رأسـه بوعيد، لافظًا بقسوةٍ واحتقارٍ لم يصِل لمسامِع سالي : أكثر .. زيدي فُرص موتك عندي أكثر وعصّبيني فوق الحدود اللي تجاوزتها !
أخـرجَ هاتفـه من جيبـهِ وهو يبتسـم بعصبيّةٍ بالغـة، ومن ثمّ ودونَ انتظـار ، اتصـل بها !

مدّت غـزل يدها للهاتِف أخيرًا ، كـانت أصابعها ترتعش! لذا حملته وهي تشعُر أنها ستُسقِطه لا محـالة .. ازدردَت ريقها، ونظـرت للحظـاتٍ طويلةٍ لاسمـه المُشبـع بغنـج التملّك في ياءٍ أتبعته أحرفَه، أغمضَت عينيها بقوّة ، ماذا يعنِي اتّصـاله؟ ماذا يعنِي؟ هل سيقولها لها " أنتِ طالق " وينتهيا من هذهِ المرحلـةِ أخيرًا؟ أم أنه اختـار العذابَ بقربه؟! اختـار شيئًا آخـرًا .. يلائمُ ما فعلت! .. كـانت قد وضعَت جميعَ الخياراتِ في عقلها . . هاهوَ اتّصـل ، بعدَ أن رحلَت ، وتركت كلّ شيء! .. كـانت قد قرّرت الاحتفاظَ ببعضِ تفاصيله، لكنها لم تستطِع! شعَرت بوقاحتِها إن فعلَتها ، لذا تركت كلّ شيءٍ حتى تذكارهُ المتلخّصَ في مخلوق/قطـة ! .. لم تستطِع أن تسيرَ بحسبِ خطَطها ، أن تتبنّى من الأشهـر التي كـانت بينهما تذكارًا ملموسًا يحمـل شيئًا منه، أن تشتمّ رائحتـه في الملابِس التي اقتنتها معـه ، لكنّها لم تستطِع! لم تستطِع في النهايةِ أخذَ شيء!
لم تنظُر لأمها التي اقتربَت منها وهي تلفُظ بصوتٍ مرتبك : هو؟ إذا هو لا تردين .. طنّشيه!
لم يبدُو أنها قد سمعتـها، لم تكُن لتتجاهلـه بعدَ كلّ ما فعلت ، سترضى بما سيكتبهُ لها لديه، لذا ردّت! ووضعَت الهاتفَ على أذنها في اللحظـةِ التي شدّت فيها أمها على الطـاولةِ بكفينِ غاضبتين وهي تهمسُ بحدّةٍ من بينِ أسنانها : غـــــــــزل!!
تجاهلتها غزل ، وهي تهمسُ بصوتٍ مرتبكٍ مرتعـش : نعم.
سلطـان بجمودٍ وأقدامهُ تصعدُ عتباتِ الدرج : وينك؟
غزل ونبرتهُ أشعرتها بالاهتزازِ أكثــر، شعَرت أنها خاويـة، أنها تمتلكُ طبيعةً رخويّة، حتى صوتها كان باهتًا وهي تهمسُ برعشـة : عند .. عند أمي.
سلطـان باحتقارٍ غاضب : متأكدة؟ الرخيصات أمثالك ما يِصْدقون مع أنفسهم عشان يصدقون قدام أزواجهم !
لفظَ " أزواجهم " بسخرية، لكنّ تلك السخرية ، لم تكُن مؤلمـة ، بحجمِ كلمـاتِه الأولى، والتي جعلتها تشهقُ بنفسٍ متحشرجٍ دون صوت، ارتفـع صدرها بقوّةٍ متألمـةٍ وعيناها تتّسعان، لا تستطِيع استيعابَ كلمتـه، الرخيصات !! . . ابتلعَت ريقها، لا تلومه، لا تلومه على إدراجه لها ضمنهم ، نعم ، هيَ كذلك ، هي قذرة حين أرخصَت نفسها!
لم تستطِع أن ترد، شعرت أنّ تلك الكلمـةَ قد غصّت بكلماتِها في حنجرتها فلم تستطِع الردّ وهي تُغمـض عينيها، تستشعرُ بوادِر بكـاء ، ربّما لم تكُن لتستطِيع منعه! . . لفظَ سلطـان بصوتٍ حادٍ انفجـر بغضبٍ وهو يقفُ بعدَ أن وصلَ للطـابِق الثاني، يسندُ كفّه على " الدرابزين " ويردفَ بسلطةٍ غاضبة : 10 دقايق ، 10 دقايق بس ولو ما شفتك خلالها قدامـي لا تتخيلين وش بسوّي فيك! .. مثل ما طلعتِ بدون شوري الحين ترجعين غصب عنك.


،


دخلَت لغـرفـةِ النومِ بصورةٍ مرتبكـة، كـان يتجاهـل الاحتكاكَ معها بصورةٍ واضحـة، لم يحادثها ولم يحاولْ إستفزازها على غيرِ العادة! . . ابتلعَت ريقها بتوتّرٍ وهي تُشيحُ بوجهها عنه، كـان مستلقٍ على السرير، هاتفهُ بيدِه يتسلّى بِه، لم ينظُر لها رغم شعورِه بدخولها ورغمَ أن هذا الشعورَ بِها أثارَ غضبَه! ، لازال غاضبًا ، منذُ قرأ تلك الكلمـاتِ ومنذُ استنتـج منها هويّةَ من قصدته بـ " حبيبي "! .. تجاهـل أنّه في الحقيقةِ أخوها بالرضـاع، هي تحبّه! تحبّه ، في النهاية كانت تحبّه !! ربّما كـان سابقًا ، قبل أشهرٍ عديدةٍ نظـرًا لتاريخِ آخر منشور، لكنّها كانت تحبّه وكفى !!
سمـع صوتَ اغلاقِها الهادئ لبابِ الخزانـةِ بعد أن أخذَت ملابـس نومها، استفزّه الصوت أكثر ، لا ، يجبُ أن يخرجَ قبل أن يفقدَ أعصابه ويقتلها من الغيظ!! . . تحرّك وقد نوّى الخروجَ بالفعـل ، إن بقيَ معها أكثـر فلنْ يستطِيع السيطرةَ على نفسِه أمامها، لذا ابتعَد عن نطـاقِ شعورِه بها، وصـل للبـاب ، في اللحظـةِ ذاتها التي كـانت فيها تستدِيرُ إليه بربكـةٍ وتلفظ : أدهم !
توقّف أمامَ البـاب، تشنّجت شفاههُ وهو يقبـض كفيه بحدة ، وبنبرةٍ باردةٍ دون أن يستديرَ إليها حتى : نعم !!
وضعَت ملابِسها على أقربِ مقعد ، لم تدرِي لمَ نادَته ، نعم ، يجبُ أن تتحدّث معه! يجبُ أن تتحدث ، لن تتركَ لظنونِه الذهابَ للبعيد، هي المُخطئة! كـان يجبُ عليها أن تقتـل آخـر بقايا حبّها القديمِ لياسر، كـان يجبُ أن تُخفـي كلّ دليلٍ على وجودِ هذا الحب! اقتربَت منه بتردّد، ستتحدّث معه، يجبُ أن تبرّر له، في النهايـةِ هو لم يتصرّف معها بطريقةٍ سيئةٍ بل تجاهـل الخوضَ في ذلك ، لكنّها تدركُ جيدًا ، أن أفكارهُ لم ترحمـه وأنه غاضب! لكنّه رغـم ذلك لم يؤذِها حتى بلسانِه!
مرّرت طرفَ لسانها على شفتيها اللتينِ شعرت فجأةً بجفافٍ ينتشِرُ فيهما، وقفَت خلفَه ، ليشعـر بحرارةِ حضورها، بحرارةِ جسدها القريبِ منها، ويتصلّب جسده أكثر ! .. استدار مبـاشرةٍ ليبتعدَ عنها قليلًا وهو ينظُر لوجهها بنفور! .. كاد يتجاهلها ويمضي، لكنّه قرّر السمـاع لها أخيرًا .. ماذا ستقول له مثلًا؟! .. نطقَ بنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا استطاعتْ استنباطَ التشنّج الغاضِب فيها وزيفَ هدوئه : وش تبين؟
إلين ترفـع كفّها لتقبضـها بقوّةٍ أسفـل صدرها ، وبنبرةٍ مرتبكـةٍ لفظَت كلماتٍ متقطّعةٍ من اضطرابها : آآآ .. صفحتي .. صفحتي اللي بالفيس . . .
صمتت وهي تعضُّ شفتها السُفلى بقهرٍ وتشتّت عينيها عنه ، ما بالها الكلماتِ تخونها؟ ما بالها !!! . . أعـادت نظراتها لوجهه، يجبُ أن تتحدّث ، لن تتركَ لأفكـاره أن تظلمها، يجبُ أن تتحدّث فمن حقّه في النهاية أن تبرّر بعد أن علِم! .. تصلّبت الكلماتُ من جديدٍ خلفَ شفتيها بعدَ أن رأت نظرته المستخفّةِ والمحتقرةِ في آن ، شعرت بالقليلِ من الانفعـالِ الغاضِب ، لكنّها تنفّست بسرعةٍ وهي تلفظُ أخيرًا بنبرةٍ مكبوتة : لا تسوء ظنّك فيني !!!
أدهـم يُميلُ فمـه باستخفافٍ ساخـر، تسلّل من بينِ شفاهِه تعبيرًا صوتيًا ساخرًا بـ " هه " أغاظتها لكنّها قبضَت على كفيها وصمتت! . . وببرود : ليش بسيء الظن؟ ممكن توضحين!
إلين بصبرٍ تبتلعُ الكلمـاتَ المتمرّدة وتُزيحُ رغبتها في إغاظته بعيدًا ، ليسَ في هذا الأمر! قد تسمحُ بما ترغبُ في كلّ شيءٍ إلا هذا! . . لفظَت بصوتٍ مشدودٍ ونبرةٍ لازالت تحتفظُ بهدوئها : خلنا أعقـل من كذا! ، ما أبـي أستفزك بهالموضوع لأنه يمسني أنا شخصيًا! .. عشان كذا بوضّح لك قبل لا تفكّر فيني بسوء ظن وأنت أتمنى ما تتعامل مع الموضوع بهالاستخفاف!
أدهم دون مقدّماتٍ لفظَ بتساؤلٍ باردٍ فاجئها : أيش اسمه؟
اتّسعت عيناها بذهولٍ وهي تنظُر لوجهه بعد أن باغتها بسؤاله، ارتبكَت، وارتفـع صدرها في نفسٍ مضطربٍ وهي تُجيبه على سؤالٍ آخر لم يطرحهُ على مسامعها : ما أحبه بهالوقت .. كان حُب قديم والله! .. ونسيته من زمان.
أدهم رغمَ أنه يدرك من هو، لكنّه أرادَها هي أن تقول، أرادها قبل أن يلفظها ويقولها رغمًا عنه بأسلوبٍ جارِح! أسلوبٍ يخبرها عن قذارةِ الحبّ الذي اختارته! .. تقدّم ببطءٍ منها، لتُثبّت أقدامها أمامه وهي تنظُر لهُ بثباتٍ تحاول أن لا تهتزّ أمامه فتُلقى عليها تهمةٌ " مصيبة "! .. لفظَ بخفوتٍ بعدَ أن كـاد جسدهُ يلتصقُ بها وحرارةُ غضبِه انتقلَت مباشرةً إليها : متى نسيتيه بالضبط؟ وليش؟!
إلين بهدوءٍ ظاهريٍّ لازالت تُجيب على أسئلةٍ أخـرى : كان حب نظيف .. هو حتى ما يدري!
أدهم ويُعيدُ سؤاله الأول بعدَ أن استفزّته كلماتها : أيش كان اسمه؟
إلين بغصّة : لا تحتقرني لو قلته!
أدهم يبتسـم بسخريةٍ وهو يدركُ تمامًا لمَ رجتـه بذلك " لا تحتقرني ! " .. لأنه كـان حبًا قذرًا ، وتدرك بنفسها ذلك! . . شعرَ أنه سينفجـر أخيرًا، سينفجـر ، لذا مدّ يديهُ ليُمسكـها من كتفيها ويُنهي الاقترابَ الكبيرَ بما هو أكبـر ، ألصقها بهِ لتشهقّ بفزع، بينما صرخَ هو بغضبٍ وانفجـارٍ أحاط بِه مسامعها لتُغمـض عينيها بقوّةٍ ذعرًا : عارفـــة نفسك! .. عارفة إنّ حبك له وصخ وتقولين حب نظيف!! شلون؟ شلون تسوينها يا نجلاء!!! .. قوليها ، برّري لي قبل لا أحتقرك أكثر! .. شلون حبيتيه هوّ تحديدًا!!!
اتّسعت عيناها بصدمـة، ارتفعَت أحداقها نحوه ببطءٍ مذهول، يعرفه! ، يعرفه! .. كلماته أخبرتها أنه يدرك هويّته ! .. ابتلعَت ريقها بصعوبـة ، اهتزّت نظراتها بصمت، لم تمتلك ما تقول أخيرًا بعدَ أن أدركت من كلماتِه ونظراته المحتقرةِ معرفتـه بهويّةِ من قصدَت بكلمـاتِ الغزل، بينما شدّ أدهم على أسنانِه أكثر، انحنى بوجههِ إليها ، ليلفظَ بغضب، واحتقـار، وقهرٍ يُلهبُ أضلعـه ويُرمدها : شلون حبيتيه؟ احكِي .. احكِي لأني أبي أسمع منّك مثل ما تبين ... يرّري يا نجلاء برّري!
عضّت شفتها السُفلـى، شعرَت بالخجـل لتُشيحَ بأحداقها عنه وهي تتنفّس بقوة، الآن يجبُ أن تبرّر فعلًا، يجبُ أن تبرّر بعد أن أخبرها بكلماتِه أنه يعلمُ من هو ، يجبُ أن تبرّر لأن صورتها أمامه اهترأت كونها أحبّت " أخـاها "!! .. لم تنظُر نحوه من إحراجها، لكنّها استطاعَت أخيرًا أن تولّد من صمتِها صوتًا ، وتدفـع الكلمـات المضطربـةَ قسرًا لتصلَ إلى مسامعه مشبعةً بالحـرج : ترى .. ترى والله ما كنت أدري ... إنه .. إنّه أخوي !
ابتلعَت ريقها بصعوبـةٍ بعدَ آخـر كلمـة، حينها ارتدَّ وجههُ للخلفِ قليلًا دون أن تفقدَ ملامحه تشنّجها وهو ينطُقُ بصوتٍ جامِدٍ قاسي : شلون ما تدرين؟ ما تمشي هذي.
إلين دونَ أن تستطِيع النظر إليه، لم تجِد تبريرًا قد يصدّقه ويُحافِظ على صورةِ عائلتها أمامه سوى هذا : ترى ما درينا عن سالفـة الرضاع إلا هالسنة ، امي كانت مرضعتني بس شاكّة بعدد الرضاع عشان كذا ما أخذت فيها بسبب الشك ، بس فيه شاهدة أثبتت لنا إنّ الرضاع تام * تقصد أميرة *
كانت قد كذبَت في هذهِ القصّة، لكنّها لم تجِد سوى هذا ، قدْ يصدّقها أو لا ، المهم فقطْ أن يدرك بأنّ حبها القديمِ لياسـر لم يكُن بالقذارةِ التي يتخيّلها! . . صمتَ أدهم دون لأن يعلّق بشيء، كـان ينظُر لها بصوةٍ مُظلمـة إلا أن كفّه كانت تشتدُّ على كتفيها بقهرٍ وتملّك ، نظـرت نحوه هذهِ المرّة متجاهلـةً شدّه عليها، وبربكـة : لا تظن فيني سوء ولا تلومني على حب قديم ، كنت محترمـة حدودي في النهاية! ياسر ما شاف جزء من شعري إلا بعد ما تقبّلت الفكرة الجديدة وإنّه أخوي ، وأول ما دريت مباشرة وبشكل تلقائي طلع من قلبي وظل كأخ بس .. مستحيل أرخص نفسي بأي شكل كان! فلا تتهمنِي زور . .
لم يقُل شيئًا أيضًا، حينها ابتلعَت ريقها وهي تحاول أن تبتسمَ بينما صوتُها يلفظُ بنعومةٍ مرتبكـة : هاه برّرت لك مع إنّك نقضتْ بالعهود وناديتني نجلاء ، بس بمشّيها هالمرة ... رضيت الحين؟
أدهم بجمود : لا !
إلين تعقدث حاجبيها بضيق وهي تشعُر أنها اليومَ لا تملكُ حجّةً لتتمرّد ، وبتساؤلٍ متغنّجٍ رغـم اضطرابِ صوتها : هاه وش بقى بعد عشان يرضيك !
أدهم يخفِضُ وجهه إليها قليلًا وهو يهمسُ بقهرٍ وغيرة : حبيتِ! .. الفكر في النهاية إنّ قلبك حب غيري؟
إلين بربكـةٍ ابتلعَت ريقها قبل أن تلفظَ واقترابهُ منها بهذا الشكلِ يضاعفُ رعشـة قلبها : لا تصير ظالم بهالشكل! لا تلومني على حب كان نظيف في النهاية .. قلبي الحين مافيه أحـــ . .
قاطعها بقبلةٍ عميقةٍ لشفتيها أخرسَت بقيّةَ كلمـاتِها، اتّسعَت عيناها، تجمّد جسدها، بينما صدرها شهـق شهقةً مصدومةً لم تستوعِب بعدُ قبلتـه ، لم تكَد تستوعبُ حتى حرّر شفتيها دون أن يبتعدَ، بل بقيَت أنفاسهُ تقبّلها، وجههُ يحجبُ عنها الرؤيـةَ سوى إليه ، همسَ في اللحظـةِ ذاتها التي كـانت فيها تغرقُ في بهوتِها دون أن تستوعِب ما حدَث : ما رضيت .. ولا برضى ، بنسّيك كل حب قديم لك حتى لو قلتِ بلسانِك نسيته ، بنسّيك إنّك بيوم ملك قلبك غيري .. بنسّي لسانك يتذكّر إنّ فيه حب قديم كان بقلبك وبخليه يذكرني أنا وبس!
إلين بصدمـةٍ وجسدها المتصلّب يريد أن يبتعدَ عنه دون أن تستطِيع الحراك! : أدهـــم !!
أدهم بنبرةٍ شدِيدةٍ يجذبها إليه من جديد، يُحيطُ خصرها بقوّةٍ بعدَ أن انزلقَت كفوفه عن كتفيها : اشششش .. ما يرضيني ، ما يرضي أضلعي غير تدثّرين فراغها بكلمة أحبّك، ما يرضي عيوني غير الله لا يحلّل لحظـة فيها كرهتك ! .. تقولينها أنتِ .. لأني دعيت على كل اللحظـات قبلك ، يميتها الله بقربك !!
شهقَت مرّةً أخرى وعيناها تتّسعانِ أكثـر ، غابَ شعورها وهي تغرقُ في قبلةٍ أخـرى كانت تتلُو من بينِ شغفها " أحبّك "! .. يقولها لها ، أنتِ النساءُ كلّهن، وكلّ النساءِ لا أحد! .. يقولها لها في قبلـةٍ ، إنّي أحبّك بقصيدةٍ تُجيدُ التمرّد حتى يفقدُ العقـل فهمَ أواصِر قافيتها ، فهمَ طلاسِم العِشقِ في أشطرِها ، إنّي أحبكِ أنتِ ، حتى " أحبّك " لا تفقـه استيعابَ حجمِ صوتِي وملء فمِي الذي يذُوقُ في هذهِ اللحظـةَ قبلةً أودِعها شفاهُك!
وضعَت كفيها على كتفيه بضعف، أرادَت في تلك اللحظـةِ بشعورٍ ضعيفٍ أن ترفضـه، أن تمتنـع ، لكنّها في النهايـةِ لم تستطِع، لا تدري أينَ غابَ نفورها ، لكنّها ببساطِة ، لم ترِد في تلك اللحظـاتِ تحديدًا ، أن تستمرّ بنفورِها ورفضها! . . أحاطَت عنقهُ بكفيْن ترتعشانِ خجلًا وتردّدًا، أغمضَت عينيها باستسلام، وهي تُقنـع نفسها في هذهِ اللحظـة ، أنها فقطْ لا تريد الامتنـاع، خوفًا من الله!
في حينِ ابتعدَ عنها أدهـم قليلًا وصدرهُ يرتفعُ وينخفضُ بانفعـال، نظـر لوجهها المُحمرّ وهو لا يستوعِب موقـع كفيها خلفَ عنقه! .. ابتسـم، وأحداقُه تُبحـر فوقَ أهدابِها المُنسدلة، انخفَضت كفّه عن خصرها لتستقر أسفـل ركبتيها ، بينما الأخرى داعبَت شعرها القصيرَ قبل أن تلامـس عنقها ، ومن ثمّ يرفعها بينَ ذراعيهِ إلى أحضانِه ، هامسًا من بينِ خصلاتِ شعرها بعشق : الله حسيب هالفتنة !


،


توقّفت السيـارةُ أمـامَ المنزِل، كـانت تفرُك كفيها بربكـة، تنظُر لهما وفمها بجفافِه شعرت أنها لم تعُد تستطِيع إفراز اللعـاب ، نظـرت عبرَ النافـذةِ للمنـزلِ بربكـة، ومن ثمّ حرّكت رأسها لتوجّه نظراتها هذهِ المرّة إلى أمها وعينيها الظـاهرتين عبر النقابِ كـانت تشرحـانِ لأمها مدى رعبـها وخوفها من النزول، عضت ام غزل شفتها ، ومن ثمّ صدّت بقهرٍ وهي تلفظُ بحدّة : ما تسمعين شيء ! .. عشانه ما تسمعين شيء! .. مين هو؟ وش بيفيدك حبّك له الحين؟ بيشفع لك!!!
غزل بخيبةٍ وانكسـار : يا ليت !
نظـرت لها امها بغضبٍ لتصـرخَ أخيرًا وهي تكادُ تبكي مما آلَ إليها حالها : الحب مو كل شيء ! مو كل شيء .. كنتِ تقدرين تضغطين عليه أكثر ، شوفي حبك له وش بيسوي فيه! .. كان فيه داعِي تعلمينه؟ ما كان بيدري وما كان بينقهر مثل الحين .. وش استفدتِ؟ لا أنتِ ارتحتِ ولا هو .. هذا اللي تبينه؟!
غزل بضعفٍ مدّت يدها نحو مقبـض البابِ وهي تلفظُ باستسلام : أبي أعاقبْ نفسي لأني ما لقيته قبل لا أضيع !
فتحَت البـاب، بينما أغمضَت أمها عينيها لتنسدلَ من إحداهما دمعـةٌ وهي تقبضُ على ركبتيها بقوّة .. تسأل الله في نفسِها أن يليّن قلبـه ! .. تدرك أنّ ما سيكُون الآن أمامها ليسَ سهلًا، لكنّها لم تستطِع إقناعها، حاولَت .. ولم تستطِع، كـانت طيلـة حياتِها بعيدة ، فكيفَ تقتربُ منها الآن وتكون لها كلمـةً تسيّرها؟!

تحرّكت غزل باتّجـاه البـاب ، مرّرت لسـانها على شفتيها بربكـةٍ واضطراب، ضربَت الجرس بيدٍ ترتعـش، بينما نظراتُها توجّهت لسيـارةِ أمها التي لم تتحرّك بعدُ بخشيةٍ وقلق، رفعَت كفها وهي تبتسمُ باهتزازٍ وكأنها كانت لترى بسمتها! .. أشارت لها بالوداع ، تريد بذلك أن لا تبقى واقفـة أكثر ، بينما في اللحظـةِ ذاتها التي حرّكت فيها كفّها ، كـان البـابُ من ورائها يُفتح!
توقّف قلبها للحظـة ، لكنّها في النهايـة استدارَت ببطءٍ وهي تبتلـعُ ريقها بصعوبـة ، سالي ، لم تنم ، نعم .. حتى الآن لم تنم! .. كانت تمنّي نفسها أنها سالِي ، ستواجهه عاجلًا أم آجلًا ، لكنّها من الجهـةِ الأخرى خافت المواجهـةَ بهذهِ السرعة! .. تصلّبت كفوفها ما إن رأته هو ! يقفُ أمامه ويبتسمُ ابتسامـةً باردة .. ابتعدَ عن البـاب حتى يتركَ لها الدخُول وهو يلفظُ بصوتٍ ساخـر : قولي لأمك إنّك بالحفـظ والصون .. أمّك هي وإلا غلطـان؟
كـان يقولها بسخريةٍ وصَلت إليها معانِيها جيدًا ، عضّت باطِن خدّها وهي تبتلـع غصّتها وتُسكـن دمعها من إهانتِه الواضحـة واستخفافِه بِها ، أطبـق البابَ بقوّةٍ جعلتها تنتفـض، ومن ثمّ تحرّك ليتجاوزها ويسبقها وهو يلفُظ بصوتٍ كـان أكثر جمودًا وانحسرت عنه سخريته : الحقيني ... أتوقـع باقِي لك عندي اعتبار بسيط يخليني أحاسبك ورى عيون الناس.
كـان يقصِد أن المكـان قد تراهما خلاله سالِي إن جاءَت صدفـة ، ارتبكَت وارتعشَت شفاهها ، اعتبار! .. سخريةٌ أخـرى تدركُ منها أنّه لن يتركها ببساطةٍ دون عقاب ! . . تبعتـه رغمًا عنها وهي تخلـع نقابها لتفضـح وجهها الشاحِب، صعـد لتصعـد من خلفه ، كـان يتّجه لغرفتـهما، ارتبكَت أكثر بعد أن تأكدَت من ذلك حينَ وقفَ أمامَ بابِها .. توقّفت دون شعور ، بينما أدار سلطـان رأسه ما إن شعرَ بوقوفها ، وبملامِح صلبـةٍ قاسيةٍ نطق : ليه وقفتِ؟
غزل بخوفٍ شتّت عينيها عن وجههِ الغريبَ عنها عدا من يومٍ شبيـهٍ كشفَ فيه خداعها ، لكنّه الآن كان غريبًا أضعافًا! كان غريبًا .. مُرعبًا !! . .
تحرّكت بقدمينِ ترتعشـان، اقتربَت منه، بينما سبقها سلطـان بعد أن تأكَد بأنها تتبعـه ، دخلَت، ليلفظَ مباشرةً بأمرٍ وهو يُديرها ظهره : قفلي البـاب.
ماذا يريد! ماذا يريدُ منها !! .. شعَرت برعبها منه يتصـاعد، إلا أنها أغلقتـه بانصيـاع ، ومن ثمّ استدارَت إليه ، في اللحظـةِ نفسها التي استدارَ فيها هُو ، لم تمتلك الوقتَ الكافِي لتلتقطَ أنفاسها، لتفكّر بخطوتِه الأولـى ... حتى شعرت فجأة ، بصفعـةٍ قاسيةٍ جعلتها تسقُط أرضًا ، صرخَت بآهةٍ متألمـة ، إثـر سقوطِها بنفسِ الطريقةِ السابقةِ ليزدادُ ألمُ جسدِها أضعافًا ، وإثر الصدمـة ، لأن سلطـان ، صفعــــــــــــها !!!
سلطـان بقسوةٍ ينظُر لها باحتقارٍ وهو يلفُظ : هذي عشانك طلعتِ من دون شوري ، وعشانك تأخرتِ في وصولك .. 13 دقيقة وأنا قايل 10!!!
لم تسمعـه ، لم تسمعه ، لم تسمعه !! .. كـات تنظُر للأرضِ بصدمةٍ وهي تستندُ على ساعديها ، سلطـان صفعها! ، صفعها ، بعدَ أشهرٍ وللمرّة الأولـى ، سلطـان الذي قال يومًا بأنه لا يعترفُ بضربِ النسـاء، احتقر والدها لأنه خلّد في ظهرها آثارَ عنف ... صفعها ! . . أفرجَت شفتيها ، كـانت تنظُر للأرضِ ببهوت ، حتى بعد أن امتدّت يدهُ ليُمسك معصمها ويوقفها رغمًا عنها ، كـانت تنظُر للأرضِ ببهوت ... وتنقُش بعينيها المنكسرتين ، المتوجّعتين ، الخائبتين ، كلمـاتِ عزاء! ... لقد ، لقد فقدته !!!
ثبّتها سلطـان أمامه ، رغـم كونِه كـان يشعُر بالقرفِ من ملامَسةِ جسدها ، نظـر لوجهها الذي كـان ينظُر للأسفـل ببهوت ، ومن ثمّ لفظَ باستخفافٍ واحتقار : الله أكرمنـي يوم إنّي رفضت أطلقك .. أجل تتلاعبين فيني وتستغفليني وبعدها تروحين بكل بساطة؟ تكملين حياتك .. وتبدأين من جديد على حسابي أنا !!
لم تنظُر إليه، بل ظلّت ترمـش بأهدابِها التي حملَت دمعـةَ خيبـة ، لقد فقدته! ، فقدته بما فعلت ، الآن سلطـان لم يعُد هو! ، تسبّبت بمقتلـه ، ليجيء آخـر .. لا يُشبهه!
ابتسمَ بسخريةٍ وهو يدركُ صدمتها ، أمسكَ ذقنها بحدّة ، ومن ثمّ رفـع وجهها إليه لتقابله ، وبتهكّمٍ مستخف : تذكرين يا غزل؟ .. قلت لك مرّة مستحيل أتعامـل بالضرب مع إنسان ، لأن هالشيء كبييير .. وما يليق بالبشر! .. تذكرين؟ اليوم تعاملت معه .. يوم طلعتِ على حقيقة البهائم !!
شعرت بغصّةٍ تتضخّم ، لا ، لا .. لا يُمكن ، لا تريدُ ذلك! .. ما الذي فعلته! يا الله ما الذي فعلته! .. كانت تدرك أنّه قد يعاقبها بـأيّ طريقةٍ حتى وإن لم تتخيّلها ، لكنّها وحين أدركت ماهي .. لم تحتمل! . . سقطَت من عينها دمعـة ، لم تكُن لأجـل نفسها ، بل لأجله! لأجـل فقدها ، لأجـل الملامِح التي تبدّلت، لأجـل الوجه الذي حطّ على وجههِ الذي انشطـر ، وجهه الذي لا يُشبهه! ... نظـرت لعينيهِ مباشـرة، بحسرة ، بوجـع ، ومن ثمّ ابتسمَت بانكسـار وعزاء ، وهي تهمسُ بصوتٍ يختنق : قلت بعد .. ما يتعامـل فيه رجّال !!!


،


في الصبـاح - التاسعـةِ والنصف.
خرجَ من شقّته وهو يرفَعُ هاتفـه ليتّصل بها ، ابتسمَ بعدَ أن جاءهُ صوتها بعدَ لحظـةٍ قصيرةٍ ناعسًا : نعم ..
فواز بمداعبـة : للحن نايمة يا كسولة.
مرّت ثانيةٌ صامتـة، قبل أن يسمـع صوتَ شهقةٍ واحتكاكِ جلوسِها العنيفِ على السريرِ وهي تلفظُ بصدمة : من وين جبت رقمـــي !!!
فواز بسخرية : جبته من العصفورة من وين يعني؟ زوجتي طبيعي بآخذ الرقم من أخوك!
فغـرت جنان فمها بصدمـة ، ظلّت تنظُر للأمـامِ بعيونها الناعسـة، بينما أردفَ فواز وهو يُكمـل سيره كي يخرجَ من المبنـى : وبعدين لهالساعة نايمة؟ خافي الله يا بنت!
جنان تشدُّ فجأةً على أسنانِها وهي تعقدُ حاجبيها بغيظٍ لتهتفَ أخيرًا بانفعـالٍ وغضب : أنت اللي وش تبي هالساعة ، وش تبي ممكن أعرف؟! وبعدين لا تقول زوجتي ماهو احنا بس أصدقاء!
ضحكَ رغمًا عنه ووجههُ لُفـِح من نسيمِ الصبـاح البارِد : خلاص سوري ما بعد تعوّدت على مسمّى أصدقاء.
جنان تعودُ لتتمدّد على السريرِ وهي تلفظُ بنبرةٍ ساخـرةٍ تختلطُ مع نعاسها : في النهاية اللي جاب هالفكرة الغبية وجهك!
فواز بوجوم : افا وش قلة الأدب هذي؟
جنان تبتسم : عادي أنت ترى صديق مو زوج عشان أعطيك اعتبـار.
فواز بسخرية : والله! الحين الصديق ماله اعتبار!
جنان : لا مو عن كذا بس الصديق تختلف الميانة معه عن الزوج .. مستحيل زوجي بقوله حمار بس صديقي أيه!
فواز : ما شاء الله وأنا مين أكون !
جنان : هههههههههههههه قلت لك ما تمشي بس ما صدّقت .. شوف أنت اللي طرحت الفكرة وضعت من أول يوم.
فواز بانزعاج : بمرّك الحين .. خليك جاهزة.
شهقَت وابتسامتها تتلاشـى بفزع، جلَست بسرعة، وقبل أن تعتـرض .. كـان هو يُغلق الهاتف! . . الوقح! ، الوقح!!! من يظنّ نفسه؟! تنفّست بغضبٍ وهي تزيحُ ما بقيَ مُلامسًا لها من المفرش ، وبقهرٍ غاضب : واضح والله إنّي عطيته وجه بزيادة وتمادى ! .. وقــــح !!!


،


خرجَت من العيـادةِ باكرًا على غيـر العادة، هرولَت إلى يوسِف لتطوّق عضدَه وتلفظَ بابتسامةٍ ناعمـة : اليوم أكلنا الحمدلله بمسمى فطور مو غداطور.
يوسف يضحكُ وهو يضـع كفّه على رأسها : وش فيه الغداطور وبعدين كذا أنتِ تفطرين مرتين!
جيهان تبتسمُ بحب : عادِي نغيّر الروتين اليوم ... عاد والله طفشت يبه من جد خلنا ندخـل معهد نتعلم انقلش كويس مو معقول نعرف فرنسي قبل الانقلش!
يوسف : شيء طبيعي طفولتكم كانت هنا وأكثر ناس انسجمتوا معهم يتكلمون الفرنسية.
جيهان : بس فشلة يووووه ... وش ذا الانقليزية يوم أتكلم فيها احسني بنغالِي جاي يتكلم عربي .. معليش دخلنا معاهد مو معقول كذا حتى الجامعة الله ياخذها ما فادتني !
يوسف الذي كان يرفضُ تلك الفكـرة ، هو خائفٌ عليهن من مراتٍ قليلةٍ يخرجن فيها ، فكيفَ بساعاتٍ في معهد! دون أن يكون قربهن !! .. لفظَ بنبرةٍ هادئـةٍ يحاول أن يجاريها حتى تترك التفكير بالموضوع : أفكـر.
أرجوان التي كـانت تستمـع بصمت ، لفظَت أخيرًا بعتبٍ هادئ : بطلي تزنين جوج .. هو رفض الجامعة بكبرها بيوافق على معهد!
جيهان بخيبة : أدري إنّه يسلك لي .. عاد ودّي أروح للمعفـن ذاك و . .
صمتتْ ما إن ضربتها أرجوان بمرفقها لتنتبـه لما كانت تقول ، اتّسعت عيناها وهي تردفُ بربكةٍ ووجهها احمر : ودي أروح للمعهد من غير لا تدري . .
عضّت أرجوانْ شفتها وهي تُغمـض عينيها وتهمسُ داخلـها " غبيّة ، غبية !! " بينما لم تجِد جيهان ما تقول فصمتت بحرجٍ في اللحظـةِ ذاتها التي لفظَ فيها يوسف من بينِ أسنانه بغضب : جيهــــــان !!!
جيهان بسرعةٍ تسحبُ يدها من عضدِه وتنظُر له بخوف : أمزح والله أمزح لا تصدق عاد!
يوسف بحدة : امشي قدامي .. كلمة ثانية أنتِ وياها وبعلمكم شلون تحكون انقلش من غير معاهد حتى . .
جيهان بغباء : ههههههههههه تسوي فينا خير والله.
يوسف بغضب : جيهـــان !!
تأففت أرجوان من سذاجتها، بينما لفظَت جيهان بحرجٍ ووجهها يحمرُّ بشدة : والله أمزح فديت راسك .. خلاص مانبي معاهد ولا جامعات كله ولا تعصب.
سـارَ من غيرِ أن يُضيفَ كلمـةً أخرى، بينما نظرت جيهان ناحيةَ أرجوان التي وكزتها في خصرها ومن ثمّ أشارتْ باصبعها حول رأسها علامـة الغباء .. لوَت جيهان فمها بغيظ، ومن ثمّ نظرت ناحيـة ليان التي كانت تسيرُ وإحدى كفيها تُمسك بيدِ والدها بينما الأخرى تحمـل مثلّجاتها التي تكادُ أن تذوب .. لفظَت بكلماتٍ دون صوت : الله لا يسامح هذاك الزفت! * تقصد بدر *


،


بقيَت مستلقيـةً على بطنِها لوقتٍ طويـل، ذقنـها يستريحُ على الوسادةِ الناعمـة ، بينما عينيها دونَ تعبيرٍ تنظُران للفـراغ ، كفيها تضعُ يمناها فوقَ ظاهِر يسراها أمام رأسها ، وتغرق ، في تفكيرٍ لا تدرِي أين وصَل تحديدًا! .. ماذا حدَث؟ ماذا يعنِي ما حدَث؟ تقبّلها! عدمَ شعورها بأيّ نفورٍ وعدمُ رغبتها بالابتعـادِ وكأنها شعرت بينَ أحضانِه بالأمان! شعرَت بأنها تسبـحُ في عالمٍ آخر! .. لطالمـا كانت تفكّر منذُ الوهلـةِ الأولـى أن العلاقة الزوجيـةَ ستكون مزعجـةً إن كـان الطرف الآخر أدهم .. لكنّها رغمًا عنها ، لم تشعُر ولو للحظةٍ بالرفـض عدا قبل أن تُحيطَ عنقه، حتى رفضها ذاك كان كاذبًا/هلاميًا! .. رغمًا عنها ، شعرَت بالأمـانِ وهي بينَ يديه ، هزمها برقّته وحنانه وجعلها تستقبلـه بكلّ حرارة !!
احمرّ وجهها بحرج ، أليسَت هي من كـانت تقول بأنها تشعُر بالتقرّف من قربِه! والآن ماذا! .. انعقدَت بينهما الهدنـة حتى تبدأ بتقبّله ، وفي النهايـة لم تمرّ على هدنتها معهُ يومٌ إلا وهي تستقبـل أحضانه دون اعتراض!! .. غبية ، غبية .. الآن ماذا! أظهرت لهُ عكـسَ ما قالتْ وظهرت بموقفٍ غبيٍّ وحسب !
انتفضَت ما إن شعـرت بدفءِ جسدِه وثقلِه على جسدها، قبّل كتفها برقّة ، بينما أصابعه أحاطَت عضديها مستندًا بهما وهو يهمـس مباغتًا في أذنها بتساؤلٍ هادئ : هاه! .. باقي عقلك أو لسانك يذكر إنّك كنتِ تحبين أحد بيوم!
توقّفت عن التنفّس للحظـة، دفنَت وجهها في الوسادةِ بعدَ أن تضاعفَت حُمرتهُ التي شعرت بأنها زحفَت إلى بياضِ عينيها حتى! ، لم تستطِع أن تجيب أو حتى تفكّر بالإجابـة ، كـان خجلها منه أكبـر حدّ أن كفيها كانتا ترتجفان ، لكنّه ابتعدَ ببساطـةٍ ليتّجه لهاتِفه الموضوعِ على الكومدينةِ ويلفظ : تجهزي بنطلـع نتغدى برى اليوم.
لم تردّ ولم تتحرّك حتى ، حينها ورغمًا عنـه ، ابتسمَ بحنـان ! . . كيفَ يصفُ سعادتـه التي تبترُ أطرافها الظروف! لو أنه لم يحدُث ما حدَث البارحـة ، لم يكُونا ليصلا لهذهِ النقطـة لولا الانفعـالاتِ التي استثيرت بينهما بسبب تلك الحقيقةِ الجوفاء! .. ما باله يبترُ سعادته هذه المرّة من العـنق! ألا يكفيه أنها استقبلته بحرارة! أنها لم تعترض ، لم تنفـر منه .. بل على العكـس تمامًا!
ابتسـم رغمًا عنه بحنانٍ وهو ينظُر إليها ، لازالت تدفُن وجهها في الوسادةِ وكأنها تشعُر بتواجُدِه، كيفَ أصفُ سعادتـي ، بعدَ أن اكتملتُ بِك! .. لا معنـى لأن تبتـر أطرافُ السعادةِ إن كان التفكير بقبولكِ يعنِي تجدّدًا فيها واستطالـة! .. وكأنها اليومَ استطـالت على أصابِع قدميها ، لتقبّلهُ وتعبُر بروحها من بينِ شفتيه ليشعُر بالانتمـاءِ إليها وانتمائها إليهِ أكثر من أيّ وقتٍ مضى!
لم يُرِد أن يضاعفَ إحراجها ، لذا لفظَ بحنانٍ بالغٍ وتفهّم : بنتظرك تحت ، ومتى ما حسّيتي نفسك قادرة تنزلين بكون منتظرك ، أساسًا قلت لك بس تجهزي عشان الوقت وإلا أنا بصلي ظهر وبعدين نمشي.
عضّت شفتها السُفلى وهي تدفُن وجهها أكثر، شعرت بأنها ستكون أكثر غباءً في مظهرها إن بقيَت صامتـةً أكثر ولم تُجِبه! .. لذا أومأت ... بصمت!! . . كتمَ ضحكتـه .. لكنّه لم يعلّق .. وهو يبتعدُ بخطواتِه عنها.


،


اتّصل بِه وهو يقفُ حيثُ المكان المتّفق، أمام العيـادة، انتظـر حتى أجاب بسرعة، ومن ثمّ لفظَ بعجـل : أقف الآن أمام العيادة ... لم يخرجوا حتى الآن !
تميم من الجهةِ الأخرى عقَد حاجبيهِ وهو ينظُر للساعـة التي تجاوزت الحاديـة عشرة، وقفَ باستنكار وهو يلفظ : كيف ذلك !! أليسوا في العيادة؟!
الآخر : لا علم لي.
تميم بحدة : اذهب وتبيّن الأمر حالًا !!
أومأ بسرعةٍ ومن ثمّ تحرّك وهو يغلقُ الهاتف بعد أن أوصاه تميم بأن يتّصـل بهِ مباشـرة ، إن كـان الظروف اختلفت ، فلا بأس .. لا مشكلة من أن يتّجهوا للحيّ مباشرة!

.

.

.

انــتــهــى . .


قراءة ممتعة ويا رب يعجبكم .. بإذن الله موعدنا هو ذاته ، الأربعاء -> أتوقع ما يحاتج خلاص حفظتوه أحسن مني يا حبي لكم :$

ودمتم بخير / كَيــدْ !

Hissah 15-08-16 11:34 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
أدهم و اليين أخييييراً 💗💗💗💗💗 حبيييييت مراقفهم و التطور اللي صار 👏🏻

فواز حقير عايش على الحبلين ، و جنان لازم تاخذ موقف قوي ياتظل معه ياتنفصل
اللف و الدوران هذا ماعجبني ، أصدقاء و مدري ايش و يمكن نتقبل بعض ..الخ
ياريت أحد يخطب جيهان عشان يتأدب و هي تشوف حياتها بعيد عنه
و الله يستر منه هالتميم وش يبي من يوسف و بناته 🤕


سلمان طلع ماله دخل و متورط هو و أخوه فهد بكشف هالعصابة
فصل جامد جداً
يعطيك العافية و ننتظر الاربعاء على أحر من الجمر .

أبها 16-08-16 04:54 AM

شكرا كيد على الجزء الرائع ..

إلين وأدهم .. ربّ ضارة نافعة .
موضوع الفيس بوك قادهما إلى بداية اللقاء .

سلمان .. وكما اتضح أنه بريء من قتل أخيه فهد
وكل ذاك التصنع أمام سلطان كان من أجل حمايته
وإبعاده عن ملاحقة من قتل أباه خشية أن يصيبوه
بأذى ..

سلطان وغزل .. لا تلام على ردة فعلك العنيفة وربما لو
غيرك كان قد قتلها . لكنك نسيت أو تناسيت أنها
قد أخطأت قبل الارتباط بك ، وأنها كانت رافضة و بشدة
لهذا الارتباط .

تميم .. الله يستر منه .. ماذا يخطط وماذا يحيك من خلف
جده ؟ هل ينوي إيذاء يوسف وعائلته؟
أم أنه يحاول أن يحميها من شرّ جدّه

بانتظارك بإذن الله .

كَيــدْ 17-08-16 10:18 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


البارت إهداء للجميلة .. Maysan .. عاد كانت منتظرة لحظة كشف غزل ومنتظرة اهداء لانتظارها :p اهو وصل .
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(79)*3



تقلّبت فوقَ السرير ، تضطجِع على صفيحةٍ ملتهبـة، نـار، نـارٌ أسفلـها تكويها، وكأنّ المفرشَ في لحظـةِ اشتعـالٍ سافرَ في خضمِ النـارِ وعاد! .. مدّت يدها اليُسرى لتضعها على جانب وركها الأيمَنِ وهي تشدُّ أسنانها وتقوّس فمها، تئنُّ وألمُها يكبُر أكثر، تشعُر أنّه زحفَ من عظامِ وركِها إلى كامِل جسدها .. انقلبَت على جانِبها الأيسرِ وصوتُها يبكِي بأنين، دموعها لم تسقُط، لكنّ صوتها كان يئنُّ ويبكي ... سيقتلها الألم! سيقتلها الخوف، ستقتلها الوحشـةُ في هذهِ الغرفـة ، يا الله كم من القسوةِ امتلكّ في تلك اللحظـةِ حتى ينفيها هنا! نظراتـه بعدَ جملتها الأخيرةِ تلك كـانت كالجحيم، كـان يبتسـم بقهرٍ وغضب ، قبـل أن يدفعها لتصتدمِ بالبـابِ من خلفِها، دفعـةً كانت كافيـة، لتنشـر الألـم هذهِ المرّةَ في عمودِها الفقريّ بينما ضاعفَ آلام وركِها ، فغـرتْ فمها بألمٍ وهي تُغمـض عينيها، بينما نظـر لها سلطـانْ بقسوةٍ وهو يلفظُ بنبرةٍ متسلّطة : اطلعـي .. ما أبي نكون تحت سقفْ واحد وبنفس الغرفـة ، كفايـة تلوّث وقذارة لهنا! .. روحي نامـي يا نظيفة بنفس الغرفـة اللي تجاوز فيها واحد من أمثالك عليك * ابتسمَ بسخرية * أشك! .. يمكن يكون من كلابك القدامـى واشتاق لك! وأنتِ بالمقابـل استغلّيتي الفرصـة وسويتي التمثيلية الرخيصة هذي.
ابتلعَت ريقها، أخفضَت رأسها للأسفـل وصوتُها يختنـقُ بانكسـاره، لا تستطِيع الاحتمـال رغمَ أنها كانت تستعدّ! لا تستطِيع احتمـال هذهِ الكلمـاتِ التي يلقيها عليها وكأنها إحدى ال******ِ لوّنت القذارةُ أجسادهن! .. رفعَت يدها اليُسرى لتُمسك عضدها الأيمـن وعيونها تشتدُّ إغماضًا عن رؤيـاه، عن النظـر إلى الأرضِ حتى! .. لا تستطِيع احتمـال قسوته رغمَ أنها انتظرت منه كرهًا واحتقارًا ، وآمنت أنها تستحقُّ كلّ ما قد يأتيها منه! .. إلا أنها في النهايـةِ همسَت ، بصوتٍ مختنق، متألّم .. منكسِر ! : لا تقذفنــي !
سلطـانْ يقتربُ منها ببطءٍ وهو يلفظُ بخفوتٍ مستنكرٍ وكأنه شكّ بما سمـعه : نعم !
غزل ترفـع وجهها إليه ، كـانت قدْ فتحَت عينيها، وأطلقَت منها سهـامَ حُزنها دون أن تُصيبه، تقوّس فمها بوجَع، ومن ثمّ همسَت باختنـاقٍ يتضاعف، تكرّر ما قالت : لا تقذفني !
رفـع حاجبـه باستخفاف، ومن ثمّ اقتـربَ منها ببطءٍ حتى شعرَت بحرارةِ جسدِه لتلتصقَ بالبابِ مباشـرةً وهي تبتلعُ ريقها بذعر، وضعَ كفّه اليُمنـى بجانِب رأسها على الباب، ومن ثمّ انحنـى نحو وجهها ببطء، ليهمـس أخيرًا بحقد، باحتقـارٍ وقهر! : لفظ القذف .. ينقال لما يكون بحق العفيفات .. الطاهرات .. مو على أمثالك!
عضّت شفتها بألمٍ وهي تُخفـض وجهها بهوانٍ أكبـر ، لم تستطِع أن ترد! تضخّمت غصّتها حتى اختنقَت بقيّة كلماتِها في حنجرتها ولم تستطِع البزوغَ بوجود، أغمضَت عينيها بقوّة ، في حينِ ابتعدَ سلطـان وملامحـه تتعجّن بضيقٍ من مرآها لعينيه ، وبحدةٍ آمـرة : اذلفي .. روحي للغرفـة نفسها ، لو أكتشف إنّك نمتِ بغيرها الكف اللي اليوم بيجيك أضعافه بكرا .. مع إنّي أشك بموضوع محاولة الاغتصابْ ذا بس لو كـان صح ... فبيرضيني عذابك النفسي وأنتِ تعيشينه من جديد وما تحسّين بذرة أمان!
اتّسعت عيناها بصدمـة ، ارتفعَ رأسها بسرعةٍ إليهِ دون استيعاب ، أي فمٍ قد ينطقها؟ أيّ رجلٍ قد يقولها لزوجتِه؟! يريدها أن تحيا اللحظـاتِ القاتلـة تلك من جديد! .. هل ، هل هو واعٍ لمَا يقول!!
تشنّج فكّها ، بينما رمقـها سلطـان من زاويـةِ عينِه بعدَ أن استدار، يشعُر بنارِ ترتفـع في صدرِه ولا تنطفئ، نـار غضبٍ وقهر ، لا يدري كيفَ لم يقتلها حتى الآن، كيف!! أيّ - حِلمٍ - ذا الذي تلبّسه!!
صرخَ فجأةً بنفادِ صبرٍ وهو يكادُ أن ينفجـر في أيّ لحظـة : وش عند واقفـة انقلعــي من وجهي !!!
ظلّت لوهلةٍ تنظُر إليهِ بالنظراتِ المصدومـةِ ذاتها ، لا يُمكـن هذا! ، أيُّ منطقٍ يحدث؟ أيّ منطقٍ يقول بأنّ هذا قد يحدث !!!
تحرّكت دونَ شعور ، لتخرج! .. بينما أقدامـها .. تنصـاعُ بشكلٍ أعمـى ، إلى تلك الغـرفة التي ظلّت تفوحُ بذكرياتِها وآلامِها في صدرِها طيلـةَ الليل! .. كان جسدها يئنُّ حديثًا صاخبًا متشابكًا في خيوطه، وصدرها وعقلها يخوضُ في تمتمةٍ قاتلـة! .. تأسِرها الزوايـا ، وتجلدُها سياطُ الخوف، وعدمِ الأمـان ، تستعيدُ تلك اللحظـات ... كما أراد! .. لتختنـق من جديدٍ بكفّ ذاك ، ومن ثمّ يطرحـها في عذابٍ جسديّ ونفسيّ ، وأنينٍ يُنـادي سُلطـان ... من جديد!

لمْ تنَم ، لم تنَم أبدًا ، كيفَ قد ينسجِمُ النومُ مع ألمٍ جسديٍّ صاخبٍ وآخر نفسيٍّ يزمجـر بثباتٍ بأنّ عذابـه أقسى! .. كيفَ قد تنام !!
تقلّبت من جديد، هذهِ المرّة تمدّدت على ظهرها لتصرخَ بآهـةٍ أخيرًا وهي تُغمـض عينيها وتستسلمُ لدموعها التي انسكبَت كشلّال نهرٍ جرفَ معهُ حصاةَ انحصار ، تلوكُ بقساوتِها تربـةَ صمودها، عضّت على شفتها السُفلـى بألم، ومن ثمّ عادَت لتتقلّب كالساعاتِ الطويلةِ التي رحلَت ولم ترحل بحسّها! .. عادَت تستندُ على جانِبها الأيسرِ وهي تضعُ كفّها على موضِع الألـم وتهمسَ ببكاءٍ متوجّع : يا ربي بموت ! .. بموت آآآه !
أغمضَت عينيها بقوّةٍ لتغرقَ في بكاءٍ هادئٍ في اللحظـةِ التي اعتلى فيها صوتُ الأذان ، والآن ماذا؟ كيفَ ستصلّي؟ استطاعت أن تصلِي الفجـر بصعوبةٍ وكانت تئنُّ مع كلّ حركـة ، فكيفَ الآن وقد تضاعفَ الألـم ضعفين!!
وصَل دمعها المـالحُ لشفاهها ليذوقه لسانها، ابتسمَت بحسرة ، ومن ثمّ همسَت بعذاب : يا رب لو الدعاء على النفس بالموت حلال !!!


،


رفعَت عينيها عن أوراقٍ كـانت تراجعها، عقدَت حاجبيها قليلًا وهي تنظُر للواقفِ أمامها عند البـاب، وبنبرةٍ عمليّة : تفضّل.
دخـل الرجـلُ بهدوءٍ وهو يحاول أن يرسمَ ابتسامةً مصطنعـة ، وبهدوء : أردت أن أسألك عن أمرٍ ما ، لن أخذ من وقتك الكثير.
ندى بهدوءٍ وهي تتطلّع بِه بشك : عن ماذا؟
الرجُل : إحدى مرضاك .. اسمها جيهان يوسف على ما أذكر!
ظلّت تنظُر لهُ ببرودٌ قبـل أن تلفظَ بنبرةٍ صلبـة : لا أفصـح معلوماتٍ عن مرضاي.
الرجـل يحكُّ عنقه بتوتّر : ليسَ هذا .. فقط أريد أن أقول بأنّني كنت أنتظر اللقاء بها لأمرٍ ضروريٍّ في الساعة العاشرة بعد أن تخرج من عندِك.
ندى بجمود : لا علاقـة لي بذلك ... تستطيع أن تتفضّل لطفًا !!
شعرَ بتوتّره يتضاعـف ، لكنّه تراجـع ببساطةٍ بعدَ أن تأكدَ بأنها ليسَت هنا، أيّ أن عائلتـها أجمـع قد ابتعدُوا من هذا المكـان منذُ وقت . . خرجَ بهوءٍ وهو يرفـع هاتفه بينما عيني الطبيبة تتابعه بشكٍّ وريبـة .. ابتعدَ عن مرأى عينيها، ومن ثمّ اتصـل بتميمْ ليلفظَ بعد أن جاءه صوته : ليسوا في داخِل العيادة.
تميم يزفُر بضجر : اذهبْ حيثُ يسكنون ، هلْ تكفيك المعلوماتُ التي لديك؟!

في جهةٍ أخـرى ، بعدَ ثُلثِ ساعةٍ تقريبًا، توقّفت عندَ إحدى بسطاتِ المقتنيـاتِ القديمـة، لطـالمها كانت تُبهرها الأمورُ التي نفـخ فيها الزمنُ من روحِه، حتى أنّ جيهان لطالمـا سخرَت منها على صورِها المعتـادة في مواقع التواصـل الاجتماعي " الصور المقترنـةِ باللونِ البنيّ تحديدًا "، لفظَت جيهان بضجرٍ وهي تعقدُ حاجبيها بضيق : يا ليل البثارة!
أرجوان تبتسمُ بمتعـةٍ بصريّةٍ لا تضاهيها مُتعةٌ بالنسبـةِ لها : دامْ هالبسطَة اليوم صارت قُرب حينا بستغلّ الموضوع ، وش يدريني ممكن بكرا ما أحصلها؟!
جيهان بشهقـة : ليه هو أنتِ لو حصلتيها بكرا بتوقفين عندها بعَد؟!
أرجوان بإغاظـة : بالضبط.
جيهان : يا ليل البثارة.
أرجوانْ تحمـلُ إحدى المجسّماتِ القديمـة لرجلُ دينٍ صينيٍّ أو هكذا بدا الأمـر، قلّبتك في يدها بحذرٍ وهي تلفظُ بتركيز : لا تكررين جُملك تصير بايخة.
استدارَت جيهان عنها دون مبالاةٍ لتنظُر لوالدها الذي كـان يميلُ قليلًا إلى ليانْ التي كانت منذُ وقتٍ تتدلّل عليه بأن يأخذها إلى عربـة الآيسكريم المجاورة وهو يرفضُ لأنها اشترت قبل ساعةٍ تقريبًا، اقتربَت منهما جيهان لتستندَ بكفيها على ركبتيها وتميلَ قليلًا إليها وهي تلفظُ بحاجبين معقودين : يا بنت الناس توك شارية! .. بتذبحين حلقك آخرتها التهابات ومدري أيش!
ليـانْ بإصرارٍ وعناد : أبغى مالي شغـل! أنتِ دايم تطلبين شبساتك وعصيراتك وعادي ليش أنا لا !
رفعَت جيهان جذعها وهي تلفظُ بوجوم : ما أبثر من أختك إلا أنتِ، * نظرت ليوسف لتُردف * لا تاخذ لها يُبه بتتدلع عليك زود وتتمرّد حشى دواء هو بتموتين لو ما حصلتيه!
ليان بعناد : الدواء طعمه مو حلو هذا حلو ..
ابتسمَ يوسِف وهو يهزُّ رأسه بأسـى : مالنا غير نجيبه لها هالعنيدة ..
جيهان باعتراض : يبه يعني تدلّعها زود عن كِذا؟!
يوسف ينظُر إليها مبتسمًا : تراك كنتِ أضعاف دلعها بصغرك ، لو بغيتي شيء وما جاك عادي تجوعين نفسك باقي اليوم.
ابتسمَت جيهان بحرج : شدعوى يبه تقارنّي أنا جيهان بعظمتي بهالبزر؟
يوسف : هههههههههههههههههههه أي طبعًا ما كنتِ بزر بيوم . .
جيهان بغنـج : بزر مستثناه من هالقائمة البثرة .. كنت أحلـى بنت صغيرة مرّت بحياتك صح؟!
يوسفْ يضـع يدهُ على رأسها بحنانٍ ليهمـس لها : وأحلـى بنت كبيرة بعد.
جيهان بحبور : شكرًا على ذوقك الراقِي.
يوسف يضحك : روحي بس نادِي أختك خلنا نمشِي ونشتري لليان اللي تبيه.
جيهان نظـرت لأرجوان نظرةً خاطفـة ومن ثمّ أعادَت عينيها إليه : اتركها أن بظل معها مالها داعِي نرجع البيت الحين .. روح اشترى لليـان واحنا بننتظرك هنا لين تخلص.
يوسف يعقدُ حاجبيه برفضٍ لتلك الفكرة : لا ما تظلون بروحكم .. * بحزم * ناديها ويلا نمشِي.
جيهان بضيق : يبه شفيك والله منت طبيعي أبد! .. يعني المسافة ما تستاهل هالخوف ، محنا بجامعة أو معاهد أو رحنا بمطعم بروحنا! .. من أيش قاعد توسوس هالأيام!
استرخَت ملامـح يوسِف فجأة، أغمـض عينيه بيأس، ومن ثمّ تنهّد ليمدَّ يدهُ لليـانْ وهو يلفُظ : تعالي حبيبتي ..
أمسكَت ليـان بيدِه ، لينظُر مباشـرةً لجيهان بعدَ أن فتحَ عينيه، وبتردّد : بكون قريب، انتبهوا على نفوسكم.
لم تعلّق وهي تراه يبتعدُ بينما جبينها تغضّن بضيقٍ ينتشـل تفكيرها، استدارَت لتنظُر لأرجوان التي كانت تطوف بيديها بين ما أعجبها وآخر، اقتربَت منها، ومن ثمّ لفظَت وهي تقفُ خلفها : عجّلي شوي .. أبوي متضايق وواضح يبينا نمشي.
نظرت لها أرجوان باستنكار : ليه متضايق وش صار؟
جيهان بضيق : كالعادة خايف مدري من أي داهيـة بالضبط .. والله إنّي أدري ما تغيّر إلا بسبب المعفن ذاك! .. خاطري أفهم وش مسوي ووش علاقته بأبوي؟!
أرجوان بضيقٍ تركت مافي يدها لتبتعدَ وهي تلفُظ : امشي .. ما عجبني شيء.
جيهان تتبعها : خذي اللي تبينه قلت له بننتظره هنا.
أرجوان : ما عليه هو وين راح بالضبط؟ بنلحقه ونكون معه إذا كان خايف علينا ليه نزيدها عليه؟ مع إنّي مو دارية وش هو الموضوع بالضبط بس ما يسوى نزيدها!
تنهّدت جيهان وهي تتبعها، وبخفوتٍ تُشير بعينيها نحو عربـة الآيسكريم التي يقفُ عندها : هِناك.
تحرّكا بتمهّلٍ قبـل أن تقفا فجأةً وعيونهما تتحرّك نحو ضجيجٍ صخَبَ في زاويـةٍ مـا، عقدَت جيهان حاجبيها قليلًا، حتى يوسِف رفع رأسه مستنكرًا الصوتَ الذي جـاء من منطقةٍ حين نظـر إليها وجدَ أنّ صناديقَ حديديّةٍ كـانت مصدَر الضجيج فيها ، مرّرت جيهان لسانها على شفتيها ومن ثمّ تمتمَت : مين راعي هالعربـة الماصخة؟ خرّب هدوء الحي.
أرجوان باستنكار : يختي أنتِ كل الناس تبين تهاوشينهم؟ امشي بس امشي ما عليك . .

قبل لحظتين، كـان يقفُ بجانِب تلك العربـةِ مباشرة، ينظُر نحوهما بعينينِ نسريّتين ، يراقبهما منذُ وصـل والملامِح كان يدركها من المرّة السابقة التي رافقه فيها تميم ليوضح له كل شيء، شعرَ فجأةً بيدٍ حطّت على كتفه، فزعَ لكنّه استدارَ ببطءٍ ليعقدَ حاجبيه ما إن رأى وجهًا حذّره تميم منه سابقًا " بدر "، توتّر قليلًا، لكنّه أشار برأسه " ماذا؟ " .. ليلفظَ بدر بجمود : من تراقب؟
هوَ بهدوءٍ ظاهري يسأله باستنكار : من أراقب؟!
شدّ بدر فجأةً على كتفِه بقوّةٍ وغضبٍ وهو يلفظُ من بين أسنـانه : أنت . . .
لكنّه قاطعه فجأةً ما إن دفعـه عنه بقوّةٍ ليصتدمَ بالصناديق، ركـض مبتعدًا عنه بينما كـاد بدر يسقطْ إلا أنه توازَن اخيرًا وتبعه ركضًا وهو يشتمُه، منذ البداية كـان قد انتبه لمراقبته لهم ولا مجال للشكّ بعد هربِه !
حرّك عينيه وهو يتوّقف بعد أن فقدَ أثره ، تمتمَ بغضبٍ وهو يضربُ على فخذِه بحنق : الله يـ . . . اففف
تحرّك عائدًا لتُعـاد نظراته ليوسف من جديد والذي كـان قد وقفَ مع جيهان وأرجوان هذهِ المرّة، كان سابقًا قد حذّره من اقترابه منه بأيّ شكلٍ من الأشكـال، لكنّه بالمقابِل لم يستطِع وشعوره بالمسؤولية يكبُر نحوهم، لم يُخبر عبدالله حتى الآن بمَا تسبّبه لهم ، لم يتّصل بهِ منذُ أيامٍ أصلًا!! . . زفـر بحنق، يشعُر أنّه يريد ابعاده عن كلّ هذا دون أن يقولها جهرًا " سحبت اسمك من هالمهمة "! يقولها لهُ كثيرًا حينَ يُماطِل بالحديثِ معه، لا يفهـم جيدًا ، لكنّه يريده أن يبتعد عن كلّ شيء! عن الرازن ، وعن عودتِه للسعودية حتى!!
أمال فمه وهو يقفُ في مكانٍ بعيدٍ عنهم لا يلمحونه منه، في حينِ ابتسمَ يوسف وهو ينطُق ناظرًا لأرجوان : متأكدة تبينا نرجع؟
أرجوان لا تريد أن توضح لهُ أنّها تفضل العودة لأجلـه هو ولأجلـه قلقه هذا : أيه ، طفشت أصلًا أحس اليوم زحمة.
يوسف يهزُّ رأسه بالإيجاب : خلاص اللي يريحك.


،


وقفَ أمامه وهو يتنفّس بسرعـةٍ ويضعُ كفوفه على ركبتيه، أمال تميم فمه بغيظ، وبقهر : هذا ما يعيش من غير لا يطلع لي؟ . . . * أردف بغضب * وأنت أيها الغبي !! ألا تجيد المراقبة جيدًا؟!
نظر لهُ ذاك وهو يقطّب جبينه، وبنبرةٍ ضيّقة : أعتذر.
تميم من بين أسنانه : تقلــع . .
لم يبالِي أنّه لم يفهم ، تحرّك بحنقٍ وهو يُخرج هاتفه ، سيجِد طريقةً أخـرى ، اليوم !!


،


بعدَ صلاةِ الظهـر ، دخـل لغرفتـها بعدَ أن طرقَ البابَ عدّةَ مراتٍ ولمْ تُجِب ، مرّر أحداقـه بتوجّس ، في الصبـاحِ وحين موعِد الإفطارِ طرقَ البـاب كالآن ولمْ تُجِبه أيضًا، دخـل ليجدها مستلقيةً على جانِبها تُديره ظهرها، شكّ بأنها تتصنّع النوم أو لا تريد النظر إليه! لكنّه في المقـابلِ لم يرِد أن يغرقَ في أفكارِه أكثر لذا تراجـع وتركها كي تنام - أغلب الظن -!
وجَدها الآن تجلسُ على سجّادتها تقرأ القرآن، ابتسمَ ابتسامةً هادئـة، ومن ثمّ خطـى نحوها لينحنِي بعدَ وقوفِه خلفها، يُخفِض رأسه حتى قبّل رأسها وهو يَضَعُ كفيه على كتفيها، وبخفوتٍ حنون : تقبّل الله .. قومي عشان تتغدين ما فطرتِي اليوم.
شعرَ بكفّها التي وضعتـها على كفّه، ومن ثم وببرودٍ أزاحتها وهي تلفظ : شكلك تظن إنّي ألعب معك وإلا أيش؟ .. قلت لك ماني ماكلة شيء لين ترجع مرتك.
تصلّبت كفه التي كانت ما تزال على كتِفها، شدّ عليها فجأةً دون أن يفقدَ حتى في شدّه رقّته على عظامِها الهشّة ، وبجزعٍ ورجـاءٍ يائس : يمه وبعدين ! مو معقول طول حياتِي بتظلّين تمشيني في اللي ما أبيه وأنتِ تشوفينه صح على كيفك!
عُلا ببرودٍ دون أن تنظُر نحوه : ماني ممشيتك على كيفي ، عادي تقدر تسوّي اللي تبيه وأقدر أسوي اللي أبيه في المقابل.
شاهينْ يزفـر بصبرٍ يكادُ أن ينفد : يا رب ألهمني الصبر !
عُلا بسخريةٍ مُتأسّية : أثقلت عليك يا ولد بطنِي؟ ... الله يلهمك الصواب بس.
شاهين برجاء : يمه تدرين إنّي ما أقصد إنك مثقلة علي! .. بس تراني تعبت والله العظيم خلاص تعبت من كل اللي قاعِد يصير.
عُلا بحدةٍ توجه أنظارها نحوه : وش اللي قاعد يصير طيب؟
شاهين بعُقدةِ حاجبينِ ابتسم : شيء بيفرح قلبك!
عُلا تبتسمُ بالمقابـل ابتسامةً ساخـرة : طبعًا يفرّحني إنّك تبي تطلّق زوجتك ويفرّحني إنّها أجهضت ويفرحني إنّك أرخصتها بهالشكل ويفرحني بعد إنّه ما مر سنة على زواجك إلا وأنت متخلي عنها وكأن الموضوع كان مجرد لعبة ومليت منه!! .. يفرحني كل هذا يا شاهين .. يفرّحني كثيييييييير.
مسحَ على جبينه بكفٍّ تضطربْ، أغمـض عينيهِ للحظـة، ومن ثمّ لفظَ وهو لايزال يحاول المحافظـة على ابتسامتـه : شيء بيفرّحك! وش بيفرحك أكثر شيء بهالوقت يمه؟!
عُلا بغضب : قاعد تستخف فيني؟
شاهين يتحرّك كي يُصبـح أمامها مباشـرة، انخفَض إليها قليلًا، أمسكَ كتفيها ، ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ جدّية : وش أكثر شيء بيفرحك بحياتك كلها، مو بس بهالوقت؟
عُلا بحدة : شاهيــن . . .
شاهين بهدوءٍ يكرّر : وش أكثر شيء بيفرحك وتتمنينه ... جاوبيني يمه.
عُلا بسخرية : تعقل وترجع مرتك .. ما يبيلها.
شاهين يهزُّ رأسه بالنفي : لا .. مو هذا ، بعيد عني وعن أسيل وعن زواجِي .. وش أكثر شيء بيفرحك وتمنيتيه كثير وهو مستحيل يصير؟ شيء بيفرحك .. أكثر من أي شيء ثاني ممكن يكون واقع!
صمتت فجأة ، تبدّلت نظراتها من الغضبِ للإستنكـار ، رقّت قليلًا ، بل انتشـر فيها بشكلٍ مُفاجـئ .. الحُزن! أمنيتها؟ ماهـي؟! معاكسـةِ أكثرِ ما ألهبَ قلبها كأم! .. أمنيّةٌ جازعـة! .. لا تريد أن تسخطَ على قضـاءِ اللهِ وقدرِه ، لذا صمتت .. وولّفت الأحزانَ في صدرِها ، صمتت ، ولم تُجِبه سوى بنبرةٍ حازمـةٍ غاضبـة : اطلـع ، ولا تفكر تجِي عشان آكـل شيء.
شاهين بابتسامةٍ يُبعِد كفيْهِ عن كتفيها وهو يلفُظ : الأمنيـة اللي جات بخاطرك بتتحقّق ، عاد مدري وش هي بس نحققها لك ليش لا؟!
اختنقَ صدرها، في حينِ كـان يُدرك هو جيدًا ما أمنيتها، لكنّه تصنّع الجهـل بكونِ أمنيتها مستحيلة - كما تظنّ - واعتبرها أمرًا لا بأس في وقوعِه . . لم تلفُظ بشيء، بينما ابتعَد شاهين للبـابِ لتتلاشى ابتسامتـه فجأةً ما إن خـرج . . كيفَ قد يُرغمها على الأكل؟ كيف!!


،


جلسَ على طاولـةِ الطعامِ وهو يمرّر نظراتٍ باردةٍ من حولِه، التقطَت أحداقـه سالِي ليلفظَ مباشرةً بجمود : وين غزل ما أشوف حطيتي غداها؟
توقّفت سالِي وهي تنظُر لهُ بربكـة ، وبهدوءٍ مهتزّ : ما يبغى.
رفـع حاجبيه ليتمتمَ بقسوة : نعم !!! . . * ارتفعَت وتيرةُ نبرتهِ قليلًا ليلفظَ بأمرٍ حازم * ناديها ، قوليلها تنزل بغت أو لا.
أومأت مباشـرةً ومن ثمّ ابتعدَت لتصعَد إليها وهي تزفُر ، ومن ثمّ وبعدَ ثانيتنِ بدأت تتمتمُ بتذمّرٍ بلغتها الأم! .. وصَلت للغرفـة التي نامَت فيها غزل، طرقَت البـاب، لكنّ صوتَ غزل لم يُجِبها ، طرقَت من جديدٍ لكنّها أيضًا لم ترد، حينها تراجعَت كيْ تذهب، لكنّها في النهاية ترددت بعد أن استوعبَت أن سلطـان ليسَ طبيعيًا منذ الأمـس ، خشيَت على نفسها ، وعلى غزل من الجهةِ الأخرى! .. ابتلعَت ريقها، ومن ثمّ وبخطوةٍ متردّدة ، فتحَت البـاب!
اقشعرّ جسدها من برودةِ الغـرفة، في اللحظـةِ ذاتها التي انكمشَ فيها جسدُ غزل ودفَنت وجهها في الوسادةِ بعدَ أن توقّعت أنه سلطـان ، لن تقدِر على مواجهتـه الآن ، لن تقدِر بهذا الاستحواذِ الجسديّ من الألم! النفسي، الضيـاع ، والتيـه الذي تُبحـر على غيومِه.
لفظَت سالِي بربكةٍ وهو تنظُر للأرض : بـابـا سلـــــ . .
رفعَت غزل رأسها بصدمةٍ ما إن سمعَت صوتًا آخـر غير صوتِ سلطـان ، لم تشعُر بنفسـها وهي تشدُّ بقبضتيها على الوسـادة ، ومن ثمّ تقاطعـها بصرخـةٍ غاضبـة : وش تبين؟! .. اطلـــعــــــي!! مو ناقصتك الحين قلت لك ما أبي غدى ما تفهمين وإلا شلـــ . .
بُتـرت كلماتُها فجأةً ما إن لمحَت سلطـان من خلفِ سالِي ، بدأت الرجفـةُ تتسلّل إليها من جديد، وقبضتيها ، شدّتا على الوسادةِ أكثر بينما ملامحها انخفضَت للأسفـل لينسدلَ معها شعرها ويحجُبَ عينيها الدامعتـين، تقدّم سلطـان بخطواتٍ باردةٍ متجاوزًا سالـي وهو يلفُظ بحزم : اطلعـــي . .
نظـرت لهُ سالـي بربكـة، لكنّها سرعـان ما انصاعَت لتخرجَ مباشرةً ويردفَ سلطـان البـابْ من ورائها ، في حينِ كانت أحداقـه لا تزال مُعلّقـةً بها ، بجسدِها الذي يستلقِي على السرير، تحديدًا على بطنِها، في حينِ ترتفـعُ عن طريقِ ذراعيها قليلًا، تشدُّ الوسادَة بينَ يديها ، وتُخفـض رأسها ، دون أن يتبيّن أينَ تتّجه عيونها في تلك اللحظـة من شعرِها الذي يحجبُ وجهها.
مرّر لسـانهُ على شفتيهِ ببرود، ومن ثمّ اقتـربَ منها بخطواتٍ كـان وقعها على قلبها أكبـر من احتمـاله، لم تشعُر بنفسها إلا وهي تُخفـض رأسها أكثر، وتترك لدموعها من الجهـةِ الأخـرى أن تنسكبَ أكثر بأنينِ خافتٍ بكّاء.
سلطـان يقفُ بجانِب السرير ليكتّف ذراعيه إلى صدرِه مباشـرةً ويلفظ : وش هالشغب؟
لمْ ترد، صوتُه الغريبُ رغـم غرابتـه، إلا أنه أشعرها في النهاية بأمانٍ فقدته طوال الليـل، لم تردّ ، لأنّها استكثـرت على صوتِها الأجـوفِ أن يتجرأ ويقاطـع صوتَه المعشوق لقلبها ، ونبرته التي تشعرها بالأمـانِ من كلّ شيء، تشعرها ، بأنّها بخير! .. مهما كانت غاضبـة ، وأخافتها رغمًا عنها في لحظـات، منه هو! . . صوتـه ، جـاءَ في النهـارِ كطوقِ نجـاةٍ من الخوف، بعدَ ليلٍ سكبَ من ظـلامِه في صدرِها موتًا! .. كـنتُ في مقبـرة! وجِئتَ أنتَ .. بعثًا!!
سلطـان بحدةٍ من بينِ أسنانِه بعدَ تجاهلها له : لما أسألك تردّين .. وش هالشغب اللي مسوّيته؟!
حرّكت رأسها قليلًا، أدارته نحوه، لتسقُط أنظـارها مباشرةُ عليه ، ويظهر وجهها الشاحِب ، المملوءِ بألغـامِ الوجَع! .. ظهرت أجفانها المنتفخـة، ودمعها الذي لم يجفَّ على خديها . . ابتسمَت رغمًا عنها لوجهه، ومن ثمّ همسَت بوجـع ، بشكوى! : ما قدرت أصلي ظهر !
للحظـةٍ عُقدت حاجباه ، لكنّه سرعـانَ ما أرخاهما وهو يلفظُ بسؤالٍ بارد : وراه؟
غزل باختنـاق ، تشتكِيه ، تشتكيه ألمـها ، وكأنه هو فقط ، دائمًا ، وفي كلّ الأزمـان والبقـاع ، هو منقذها! .. تشتكِيه ، بصوتٍ يختنق، ودموعٍ تسقط ، وكانها تشتكِي أبيها! : جسمـي يوجعني .. ما قدرت أتحرك.
سلطـان بصوتٍ لازال باردًا، غير مباليًا بألمها ، وشكواها إليه هو! : اوقفي شوي طيب.
غزل ببكاءٍ صخبَ فجأةً بضعفِها : ما أقدر ، ما أقدر!
اقتربَ منها قليلًا، جلسَ على طرفِ السرير، ومن ثمّ سألها بنبرةٍ هادئـة : وين يوجعك بالضبط؟
غزل تشهقُ كطفلةٍ سقطَت في وحلٍ مملوءٍ بالأشواكِ ووجدَت والدها يمدُّ يديه ليحملها ، تشتكِيه ، حتى من آلامٍ خلّفها فيها هو! . . حرّكت إحدى يديها حتى وصَلت لموضِع الألـم ، لامَست بباطِن يدِها وركها، ومن ثمّ همسَت بضعف : هنا .. بس جسمي كله بعد صار يعورني!
مدّ يدهُ ببطء، وملامحـه لا تعبّر عن شيء ، وضـعها على كفّها ، بينما همسَت غزل بغصّةٍ وهي ترفـع نظراتها نحو ملامِحه : أبي أصلـي وعجـــ . .
صرخَت فجأةً ما إن شعَرت بيدِه تضغطُ على كفّها ليضغطَ بالمقابِل على عظامها ويتضاعفَ ألمها، ينتشـر بقوّةٍ كحطـامِ جزءٍ منها، شدّ على أسنــانِه بغضبٍ وقهر، ومن ثمّ أخفضَ وجهه إلى وجهها ليلفظَ بحرارةٍ ونبرةٍ تعلو في حينِ يدهُ تضغطُ على آلامها أكثر وأكثر وبقسوةٍ سوداء : والحين؟ راح الوجع! .. خفّ وإلا باقي يعوّرك؟!!
غزل بألمٍ تدفُن وجهها في الوسادة، حاولَت سحبَ يدها التي يضغطُ معها على عظامِها إلا أنها لم تكُن تفعـل شيئًا سوى أن تضاعفَ آلامها، بكَت بصوتٍ عالٍ وهي تهمسُ بنبرةٍ واهنـةٍ ترجوه أن يرحمها! : لا لا .. آه يوجع والله العظيم يوجع تكفى !!
ابتعدَ بحدّةٍ وارتدّ جسدهُ للخلفِ ليقفَ بعيدًا عنها وهو يتنفّس بسرعةٍ وانفعـال، يريد رؤيتها تتألّم أكثر، لا تكفيه دموعٌ صامتـة ، لا تكفيه! .. يريدُ لأنينها أن يستمرّ .. رغبـةٌ ساديّةٌ بالعذابِ تغتالـه ، رغبـةٌ في إماتتها ببطء!
تلوّت غزل فوقَ السريرِ وهي تضمُّ خصرها بذراعيها وتبكِي بآهاتٍ صارخـة وألمها الآن لا يُحتمل، شهقَت بقوّةٍ ما إن شعرتْ بيدِه التي قبضَت فجأةً على فكّها ليديرها بالأخرى على ظهرها بقوّة، ثبّت وجهها أمامه، ومن ثمّ انحنى برأسه إليها ليقابـل بملامحـه ملامِحها ويلفظَ بنبرةٍ مكبوتةٍ تنفجـر قهرًا وغضبًا لم يهدأ من البارحـة، لم يهدأ ، بل كـان يتصاعد! يتصاعـد أكثر وأكثر دون أن يتوارى! : كم واحد؟
لم تسمـع سؤالـه وهي تُغمـض عينيها وتشكُو ببكائها ألـم جسدِها، فكّها، روحها وقلبها الذي تشعُر بهِ يتفتّت . . شدّ بقوّةٍ أكبـر على فكّها بينما يدهُ الأخـرى تنصـاعُ لرغبـةِ العذابِ وتنجرفُ إلى وركِها ليضغطَ عليهِ وهو يُعيدُ سؤاله بوحشيّةٍ وقسوة : كم واحد؟ كم واحد سلّمتيه جسمك؟ كم واحد أرخصتِ نفسك عشان لحظة! كم واحد لمسك! .. كم واحد!!!!
شعرَت بفكّها يكادُ أن يتحطّم ، بأن الألـم هذهِ المرّة سيقتلها، ستموت! ستموتُ من فرطِ الألم!!
صرخَ بقوّةٍ أكبر وهو يدفـع وجهها ويسحوذُ على شعورِها الباقِي بفكّها : كم واحــــــــــــــــــد!!!!!
حينها استطاعَت أن تحرّك شفتيها دون صوت، لم تستطِع الحديثَ من ضغطِه على وجهها، لذا وتلقائيًا خفّف من ضغطِه دون أن يصلَ لمرحلةٍ لا توجعها، أرادَ للإجابـة أن تصله ، وكـان لهُ ذلك ، بصوتٍ متقطّع : و .. وا .. واحد !!
ابتسمَ بقهرٍ وهو يلفظُ من بينِ أسنانه بقسوة : كذبـة جديدة! .. بس بتجاوز عنها . . متى كـانت أولى مغامراتك في عالم ال******؟!!
غصّت بوجعٍ أكبـر، شدّت على أجفانِها ، ومن ثمّ غرقَت في البـاقِي من البكـاءِ - الذي لا ينتهي، وهي تهمسُ بوجـع وأجفانها ترتفـع ببطءٍ لتكشفَ لهُ أعيُنها المُحمرّة كالدمـاء : ما تنطبـق علي! .. لا تقولها .. تكفى .. لا تقولها !!
سلطـان باستخفاف : حرام أقيّد مواهبك وما أذكرها !!
غزل ودموعها تُلامـس أذنها ، تسقُط بشكلٍ عكسيّ، في نفسِ الاتجاهِ الذي تغرقُ فيهِ ولا ترتفـع : أنا .. أنا زوجتك !!!
قسَت ملامـحه أكثر ، تلاشَت ابتسامتـه ، بينما انخفضَ وجهه إليها أكثر، ليلفظَ بقهرٍ واحتقـارٍ لذاته لأنها زوجته !! : للأسف .. أنتِ زوجتي .. ماهو هذا اللي يقهر؟ إنّك تزوجتيني وانسترتي، وتبين الطـلاق ، وبتكمّلين على حسابي أنا !! . . شلون أرضاها؟! يا كبـر حقارتك! والله ولعبتيها صح !!
غزل بحجّةٍ واهنـة : تدرِي إنّي تزوجتك مجبورة ! ما كنت أبي!!
سلطـان يضحكُ بقهر : ما صرت أقدر أصدّق هالكلام !! .. يا الله كنت غبي! كنت غبي من البداية .. كان الاتفـاق يخضع لك أنتِ! الزواج الكاذب لمدّة سنـة .. عشان ما أخرّب سمعتك وأضيّع مستقبلك .. كان هدفـه أنقذِك! تستخدميني كمعبـر لك ، عشان تخفين قذارتك فيني وتكملين من بعدِي!
ابتلعَت ريقها بصعوبـة ، وهي تشعُر بقهرهِ وشعورِه بالغبـاء صبَّ في صدرِها حميمًا ، همسَت بنبرةٍ ميّتـة : ما كان لي شيء من بعدك .. كنت بموت عندك ، وما يحييني من بعدك أحد!
سلطـان باستهزاءٍ ترتسمُ على شفاهه بسمةٌ مستخفّة : أقـل شيء كنتِ بتكمّلين مغامراتك اللي تستحقّ الفخـر.
غزل بتأكيدٍ يغصُّ في اختناقها : أنا زوجتك! هالكلامْ ما يعنِي لك شيء؟ ما يعنِي إنك ... إنّك قاعد تسيء لنفسك!
سلطـان بقسوة : مين أنتِ؟! مين أنتِ عشان أسيء لنفسي منّك!
غزل باختنـاقٍ تبتسـم : زوجتك !
انخفضَت كفّه ليضغطَ فجأةً على عنقها بقهرٍ وهو يلفظُ بكلماتٍ حادةٍ من بينِ أسنانه : بشكل نهائي .. ماراح تحصلين على اللي بغيتيه .. مانِي مطلقك عشان تبدين من جديد .. ومانِي معيّشك معِي ... بتموتين ، بس بتموتين .. بكل لحظـة ، لين ما أشوف نفسي خلاص تأكدت إنّك انتهيتي وانتهت منّك الحيـاة . . وقتها تنقلعين ، باللي ما يحفظك !
تركها بعنفٍ ليبتعدَ عنها نحو البـابِ ويتركها تتلوّى بألمٍ روحي ، بألمِ فؤادها ، الذي غيّب ألمَ جسدها الذي تمـادى على أعصابِها!

يُتبــع ..



كَيــدْ 17-08-16 10:27 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


،


دخـلا المنـزلَ وهو يمدّ ذراعيـه بضجرٍ وملل، كـان سيرها أشبـه بهرولة، وكأنها تريد الهربَ منه!! .. ابتسمَ برغبـةٍ في مشاكستها، طيلة الوقتِ الذي كـانا فيه خارجًا كانت صامتـة، تتحاشى الحديثَ معه وإن تكلّم معها ردّت بكلمتين فاترتينِ دون أن تنظُر نحوه.
تبعَها بهدوءٍ وهو يلفُظ بضحكة : وين وين محنا بسباق هجن شوي شوي يا حلوة
توقّفت إلين فجأةً وكأنه لسعها بكلماتِه تلك، تجمّدت تُديره ظهرها، لكنّها وبعد لحظـتين استدارَت ببطءٍ وهي تنظُر للأسفـل ليظهر لهُ وجهها المُحمرّ بحرَج، وبخفوتٍ مرتبك : وش تبي؟
أدهم باستهزاءٍ متسلّي اقتربَ منها وهو يلفُظ : شفيك طايرة كذا؟ غير هذا بالمطعم ما تحكين، بالسيارة ما تحكين ... ترى كنت متوقع أتونس في النهاية ذبحني الطفش والله!
إلين بصوتٍ مضطربٍ وهي تُشتت عينيها في مساحاتِ الأرض الرخامية : مالي بطفشك !
أدهم يقتربُ أكثر حتى أصبحَ أمامها لا تفصُل بينهما سوى خطوة، وبإغاظـة : إلا لك! ماهو أنا زوجك؟ يعني مثلًا تشوفيني متضايق لازم تروقيني، تشوفيني طفشان لازم تسليني.
انزعجَت من نبرتِه المتلاعبة، رفعَت عيناها إلى وجهه، لكنّها سرعـان ما انتشـر فيها احمرارٌ أكبر وهي تُخفضُ وجهها وتومئُ دون كلمـة، ومن ثمّ تبتعد عنه.
غضّن أدهم وجهه بضجر، كـان يريد استثارتها قليلًا لتغضب أو تردّ عليه ببعض الحدة فتُغادرَ حالـة الفتورِ من حرجِها ذا . . مرّر لسانه على شفتيه ليبتسـم ومن ثمّ يتبعها بخطواتٍ هادئـة ، لا ينكرُ أنّه يستلذُّ بخجلها الأنثويّ الرقيق، تسكُره بحُمرة ملامحها، باضطرابِ أحداقها بعيدًا عن ملامِحه، هربها من النظـر إليه ومن الحديث . . جـاء الأمر بسرعة! لم يتخيّل أن يتحاوزا هذا المضمـار في يومٍ بعدَ هدنـة .. لا ، من قال أنه جاء بسرعة؟ إن كـانت الساعةُ في بُعدها دهرًا، فكيف يكون الدهرُ سريعًا؟!
صعدَ للأعلـى، دخـل لغرفتهما ليجدها خاويـةً منها، عقدَ حاجبيه، لكنّه سرعان ما استرخى بملامِحه وهو يسمـع صوت المياه من الحمام. كـاد يخرج كي لا تراه ما إن تنتهي وتخرج، لا يريد إحراجها أكثر كما أنه لا يريد التضييق عليها، لذا قرّر أن ينزل . . لكنّه تراجـع فجأةً ، ما إن سقطَت أنظاره على الحاسوب الملقى على إحدى الأرائك الرمادية.


،



عـادَ يقفُ أمام بابِ غرفتها من جديد، لا تريد أن تُغادِرها ولا تريد أن تُحادثه! .. كل ذلك لا يهمّه لكن ماذا عن صحّتها؟ . . زفـر بيأس، ومن ثمّ رفـع كفّه ليطـرق الباب في اللحظـةِ ذاتِها التي فُتـح فيه ، تراجـع للخلفِ وهو يعقِد حاجبيهِ قليلًا ، بينما رمقته امه بجفاف ، ابتسمَ لها ابتسامةً صفراء! ، ومن ثمّ بخفوتٍ حنون يحاول أن يقنعها من جديد : يمـه ...
قاطعته عُلا بجمود : أبيك بعد المغرب تاخذني لبيت * احتارت في الوصف! لكنّها أكملت في النهاية بسخرية * لبيت طليقتك المستقبلية.
عقدَ حاجبيه في بادئ الأمـر دون استيعاب، لكنّه سرعـان ما توسّعت أحداقـه بعدَ أن استوعب ، وشعـر أنّ وخزًا حادًا أصـابَ قلبـه لمصطلَحِ " طليقتك "! . . أشـاح أحداقه عنها بضيقٍ وهو يمرّر لسانه على شفتيه، بينما أردفت علا بقهرٍ وهي ترى تأثير كلمتِها تلك عليه ، لم تعُد تفهمه ، ما الذي يريده بالضبط؟ مــاذا؟! : بعد المغرب بالضبط ، ما قد كلمتها بعد اجهاضها.
أومأ بصمت ، لتتراجـع من جديد ، وتعودُ لحبسها الانفرادي ، مبتعدةً عنه هو !!
زفـر شاهين بضيقٍ وهو يمرّر أصابعه بينَ خصلاتِ شعـره ، تحرّك مبتعدًا وهو يحاولُ تنظيمَ أنفاسِه ، ماذا يعنِي أن يتوجّعَ الآن؟ ماذا يعنِي إن كـان مصرًا على ما يريد ، ليسَ ما يريد ، بل ما يجبُ أن يحدُث!! .. زفـر بقهرٍ وهو يتحرّك مبتعدًا ، لكنّه سرعـان ما توقّف متجمّدًا وهو يوسّع أحداقـه ، نظـر للأمـام بفراغ ، أسيل! .. لا أحد ، لا أحـد قد يقنـع أمّه بالعدولِ عن إضرابها إلا هي!!
ارتبكَ قليلًا وهو يعضُّ باطِن خدّه ، أيُّ وقاحـةٍ قد يملكُ حتى يُحادثها؟ بعدَ كلّ ما حدَث كيفَ قد يتجرّأ؟ .. لكنْ ماذا يفعـل؟ لا أحد قد يقنـع أمه سواها! .. تردّد قليلًا .. لا ، لا يجبُ أن يتردّد، هل يترك امه هكذا خاصةً أنه لا يستطِيع إخبارها الحقيقةَ مرّةً واحدة واليوم بدأ بالتمهيد؟!
مدّ يدهُ لجيبِ بنطالِه القطنيّ وهو يتحرّك ويتمتم بضيق : آسف يا أسيـل .. آسف لوقاحتي!


،


خرجَت من الحمـامِ وهي تُجفّف شعرها الرطِب، كانت قد ارتدَت ثوبًا بيتيًا إلى نصفِ ساقِها بلونِ العنب، لم تعتَد قبل الزواجِ أن ترتدِي ملابسها في الحمـام ، لكنّها لا تتجرأ على ارتداءِ الروب أمامه! .. لا تتجرأ أبدًا.
نظـر لها أدهـم بعدَ خروجها ، لم تنتبهْ لهُ مباشـرة ، لكنّها ما إن انتبهَت حتى تصلّبت ملامحـها وارتبكت، شتّت عينيها ، لكنّها سرعـان ما أعادتها إليه وهي تستنكـر نظراته الجدّيـة تلك!
أدهم بهدوء : تعالي.
عاودها الارتبـاك من جديد، حينها تلعثم صوتها وهي تلفظ : ليــش؟!
أدهم برويّة يُشير إلى السرير بجانِبه : أبيك بكلمـة بس.
أومأت بهدوء ، ما بِك؟! ما بِكِ يا حمقاء! .. لا يعقـل أن تبقى بهذا الارتبـاك أمامه، أن تخجـل كلّما حادثها ، ما حدَث قد حدَث وانتهى الامـر ، لمَ تخجل وتوتّر أمامه؟ . . تحرّكت بخطواتٍ ضيّقـة وهي تقنـع نفسها بتلك الكلمات، لا طائلَ من الخجـل ، ماذا سيفيدها الخجـل سوى أنه يظهرها أمامه بصورةٍ غبيّةٍ وحسب؟
جلسَت بجانِبه ، ومن ثمّ وضعَت كفيها على ركبتيها وهي تنظُر نحوه : وش ..
لكنّها صمتت فجأةً وهي ترى حاسوبها مفتوحًا على الجانِب الآخـر منه، عقدَت حاجبيها بتوجّس ، ومن ثمّ رفعَت أنظـارها إليه باستنكـارٍ دون أن تنطُق بشيء ، نظـراتٍ مستنكرة، ماذا يعنِي هذا؟
زفـر أدهم وهو يُغمـض عينيه وقد فهم مقتضـى نظراتها، إلا أنه فتـح عينيهِ أخيرًا ليلفظ : معليش عالحركـة ، بس أبيك تحذفين صفحتك بالفيس.
ظلّت تنظُر لهُ بعينينِ غابا عنهما الارتباكُ والخجـل ، ظهـر عليها انزعـاجٌ جارِف، أدركَ سببـه جيدًا ، انزعجَت من كونِه تطفّل بهذِه الطريقةِ على حاسبِها وفتحه! بالرغمِ من كونِها تدرك أنّه لم يستطِع ادخـال كلمة المرور، لا يعرفها ، إلا أنه يكفِيها فكرة تطفّله! . . لم تحاول أن تقاومَ صوتها الذي خرجَ مستنكرًا بانزعاج : كنت تقدر تنتظرنِي لين أخرج بدل ما تتجاوز على شيء من خصوصياتي!
أدهم يمدُّ يدهُ ليضعها على إحدى كفوفها الموضوعةِ على ركبتيها، وبرويّة : مانِي غبي أدري إنّ له باسوورد ، فما قصدت أتطفل على شيء يخصّك!
إلين باستهجـانٍ تسحبُ كفّها لتُعيدَ بها خصلةً رطبـةً من شعرِها إلى خلفِ أذنها : ولو ! .. يكفي إنّك فتحته هذا بحد ذاتـه تطفّل.
ابتسـم لغضبِها، ومن ثمّ رفـع كفّه ، ليضعها على رأسها أخيرًا عوضًا عن كفّها التي سحبتها ، تخلخلَ بأصابِعه خصلاتِ شعرها المُبلّلة، وبهدوءٍ أربكـها رغمًا عنها : بالنسبة لي كل شيء يخصني يخصّك .. ما هقيت إنّ الوضع ما يمشي على كِذا بالنسبة لك.
إلين بربكةٍ وهي تُشتّت أحداقها عنه : لا تضيّع الموضوع!
قرّب وجههُ بهدوءٍ من وجهها، حينها تنفّست بانفعـالٍ وكادَت تبتعدُ إلا أن كفّه ثبّتت رأسها دون أن يسمح لها بالتحرّك ، ارتفـع صدرها باضطرابِ نفَسِها، في حينِ همسَ أدهم بخفوتٍ ماكرٍ وأنفاسُه تذيبُ خدّها : من الصبـح مستحيـة ومو راضية تحاكيني .. بس الحين فيك حيل تهاوشين! ... صح نسيت ، المفروض أقولك صباحية مباركة ، متعوّد على فكرة إنها تنقال بعد ليلة الزواج فنسيتها اليوم ... أقدر أقول الحين مسائية مباركة يا عروس ، تمشي صح؟
اتّسعتْ عيناها واحمرارٌ تمرّد عليها وتصاعَد إلى وجناتِها لتُضاعفها في عينيهِ فتنة! .. ابتلعَت ريقها لتهمسَ برجاءٍ مرتبكِ تريدهُ أن يتوقّف عن تعمّد إضعافِها، ترجوه فقط ، باسمه : أدهــــم . .
أدهم " بروقانٍ " يداعبُ شعرها التي تتسلّل بعضُ البرودةِ بِه : يا فتنته!
إلين تكادُ تبكِي من توتّرها ، لفظَت باختنـاقٍ وأحداقها تنظُر لملامِحه من زاويـةِ عينيها : ما .. ما تبي .. أحذفها؟!
أدهم بخفوتٍ وهو يغرقُ في تقاسيمِ وجهها : وشو؟
إلين بتيه : الصفحـة .. صفحتي بالفيس !
عقدَ حاجبيه بانزعاجٍ مُفاجئٍ وقد ألتهمـه طوقُ نجاةٍ من غرقٍ مُحبّبٍ إلى قلبه، طوقُ نجاةٍ مسموم! .. ابتعدَ قليلًا بضيقٍ من ذكرِ تلك الصفحـة ، لكنّه استدارَ كي يحمـل الحاسوبَ ومن ثمّ يمدُّه لها، حملته بكفينِ مرتعشتين، وضعته بجانِبها، ومن ثمّ بدأت تُدخـل كلمـة المرورِ بأصابِع مضطربـةٍ بينما أدهـم يتابـع حركتها وهو يريد أن يبتسم ، يريد أن ينعـم بمشاعرِه الصاخبـةِ بحلاوةٍ لم يذُقها قبلًا ، لكنّه في النهاية وما إن يتذكّر أن أصابعها هذهِ والتي يشتهي الآن تقبيلها تُدخـل كلمةَ مرورٍ لتحذفَ صفحـةً تزاحمَت بكلمـاتِ غزلٍ لرجلٍ آخـر حتى يجِد أن سعادتهُ هذهِ تتعرقـل بتلك الفكـرة التي تُحرِقه.
فتحَت المتصفّح ، دخلت إلى الموقع ، ومن ثمّ بدأت بكتابةِ بريدها والدخولِ بينما أصبـح أدهم يراقبها بنظراتٍ منزعجـة ومزاجٍ ساء! . . اقتربَ منها أكثر بعدَ أن وجَدها قد سجّلت دخولها ، شعرَ بجسدِها يتصلّب بعدَ أن شعرت بصدرِه يلتصـُ بظهرها وكفوفه تقيّد كتفيها بتملّك ، كأنه الآن يُغيظُ الكلمـاتَ الموجودةَ أمامه، كلمـاتِ الغزل! ، كأنه في هذهِ اللحظـةِ كـان يُخبـر الأحـرف أنها لهُ هو! يخبرها باقترابه أنها لم تكُن ولن تكون لسواه!
لحظَ أصابعها قد توقّفت عن الحركـةِ بينما رجفـةُ توتّرٍ أصابتها ، عقدَ حاجبيهِ قليلًا، شفاهُه قريبةُ من أذنها، لذا حينَ همـس لها جـاءَ همسـهُ كعاصفةٍ جعلت انتفـاضةً تعبـر في كلّ خلاياها : كملي .. ليش وقفتي؟
ابتلعَت إلين ريقها، تريد أن تصرخ! تريد أن تقول لهُ بأن يبتعدَ قليلًا ، يُحرقها بقربه! تشعُر بأنّ جسده يرسـل فيها تيارًا كهربائيًا جارفًا ، تريد أن تقول لهُ بأن يرحـمَ حياءها ولو قليلًا! لكنّها في النهاية مرّرت لسانها على شفتيها وهي تشتمه في داخلـها ، تشعُر بالقهرِ منه لأنه يستحوِذُ على أعصابها بهذهِ الطريقة التي لم تتخيّل أن تحدُثَ يومًا! . . تابعَت، كيْ تمحو ذكرياتٍ قديمـة ، تمحو ذكرياتٍ أرادَت محوها سابقًا وكانت في كلّ مرةٍ تتوقّف لأنّ الدافـع فيها يتلاشى! ، كانت تشعًر أنها بمحوها ستقتـل سنين ، بمحوها لها ستمحُو جزءً قديمًا منها ، لكنْ كان ذلك هو الصحيح ... محتها! .. لتعقدَ حاجبيها فجأة ، وهي تشعُر بألمٍ حادٍ انجرفَ إلى صدرها ، يا الله كيفَ تُمحَى الذكرياتُ بهذهِ البساطة؟ كيفَ يكونُ غيابها سهلًا وإن تناسينـا حقبتها؟ . . ابتلعَت ريقها بضيقٍ مفاجئ، لكنّها شهقَت فجأةً ما إن شعرت بكفوفِ أدهم تشدُّ على عظامِ كتفيها الرقيقين ، يطبـع قبلةً عميقةً على خدّها ، قبلـةً كانت بطريقةٍ مـا ، تشتدُّ بغضب وقهر!!
ارتعشَت شفاهها وهي تُغمـض عينيها وتتنفّس باضطراب، كان في تلك اللحظـةِ يشعر بالغيظ ، يشعر بالقهرِ من ذكرياتِها ، من حبّها القديم ، لكنّه في المقابـل ، لم يمتلك أمامها حجّةً له! لذا فرّغ قهرهُ في قبلةٍ متملّكـة ، ومن ثمّ نهضَ فجأة ، ليبتعدَ بخطواتٍ واسعـةٍ عنها .. ويخرج بانفعـال!!


،


كـانت قد نامَت، لا تدري كيفَ ذلك ومتى!، لكنّها هذهِ المرّة استطاعت أن تنام من بين أوجاعها ودون شعور منها، تفرجُ شفتيها لتتنّفس في نومِها من فمِها، لازالت تستلقِي على بطنِها وتخطُّ من ضيق النومِ صحـوةً أو ما بين نومٍ واستفاقـة، هذهِ المرّة استسلمَت لتجانسٍ غريب، النوم، والألم! لا يتوقّف أنينُها ما بين دقيقةٍ أو أخـرى لكنّها كـانت تُكمل نومها ... تريد أن تنام! فقط تريد أن تنام بعد كلّ شيء! الأمان الذي فقدته فجأةً بعد أن حصلَت عليه، الوحشـة التي تحيطها هنا، وكفوفه التي تحرقُ جسدها بقسوتِه، لم تتخيّل أن تكون قسوته موجعَةً لهذا الحد رغم أنها ذاقتها قبلًا بكلمـاتٍ لاذعةٍ وحسب! الآن لم تعُد فقط كلمـاته هي ما توجعها، حتى كفوفه! لكنّ قسوتهُ الجسديّة لا تأتِي شيئًا أمام لسانه، هي التي اعتادَت على هذا العُنف أو على الأحرى أضعاف هذا العنف .. كيفَ تنهزِم أمامها الآن من سلطان أكثر من انهزامها في قسوتِه اللسانية؟! لكنّها وبطريقةٍ أخـرى ، تعترف ، أنّ لا قسـوة كانت بهذا الوطءِ كقسوتِه هو، قسوة من تحبّ !
انسلّ جسدٌ صغيرٌ من الجزءِ الفاصِل بين البابِ والجدار، كـان البابُ مواربًا لم يُغلق جيدًا بعد خروج سلطان سابقًا، إذ دفعه وحسب لكنّه لم يُغلـق جيدًا.
قفزت القطّة على السرير، كانت تبحثُ عنها واستشعرتها بحسّها في هذا المكان تحديدًا والذي لم تدخُله سابقًا، اقتربَت من جسدِ غزل المسترخِي على السرير في تعبيرٍ بعيدٍ عن الاسترخاء، حرّكت ذيلها على خدها، ومن ثمّ بدأت بتمريغ جسدها بدلالٍ على كتِفها وهي تموء لتستشعرها غزل وتفتح عينيها مباشـرةً من نومِها الذي كـان ممزّقًا من آلامٍ جسديّةٍ وأخرى نفسية، نظرت لها بفتُورٍ وعدم استيعاب، لكنّها سرعان ما ابتسمَت وهي ترفعُ كفّها لتضعها على ظهرها وتبدأ بمداعبـتها وهي تهمسُ بشوق : وحشتيني قوزالي.
حاولت أن تجلسَ كي تضعها في حُجرها وتبدأ ربّما بمداعبتها فقط، لا .. بل ربّما بالشكوى إليها إن كـانت شكواها لسلطان كالسياط الملتهبة! .. لكنّها حين حاولَت النهوض، تأوّهت فجأة، ومن ثمّ عادت تستلقِي وهي تُغمـض عينيها بقوّةٍ وتهمس : مو طبيعي ، هالألم مو طبيعي للحين ما راح !!
فتحَت عينيها، ومن ثمّ نظرت للقطةِ وهي تبتسمُ بحُزنٍ وضياعٍ وتهمـس : ضعت من دونه !
انتفضَت فجأةً بعد جملتها تلك ما إن سمعت البـاب يُدفع بحدةٍ لتنظُر نحوه بفزعٍ وترى سلطان الذي وقفَ عنده بملامُح متصلّبة، ارتعشَت أحداقها بخوف، لا يُخيفها ، نعم ، لا يُخيفها، كيفَ تخافه هو؟ كيفَ تخاف ممّن يزرع فيها الأمـان؟ كيفَ تخافُ الذي احتواها طويلًا ، الذي آلمتـه وبقدر إيلامها لهُ هو ينتقّم ! نعم ، تستحق ، فكيفَ تخاف الحقوقَ وكيفَ تخاف عينيه هو؟
ابتلعَت ريقها بربكـة، أخفضَت عينيها عنه، في اللحظـة ذاتها التي لفظَ فيها بحدةٍ وقسوة : قومي البسي عبايتك.
عقدَت حاجبيها بتفاجُئٍ لترفـع أحداقها مباشرةً إليها دون فهم، أين يريدها أن تذهب من كلمـاته؟ هل اختار أن تعود لامها، ويتخلّى عن العقاب .. بهذهِ السرعة !!
سلطان يكرّر بجمود : قومي البسي عبايتك واتركي هالنظرة الغبية ما عندي وقت طويل لك.
غزل بصوتٍ مرتبكٍ وهي تشتّت عينيها : وين؟
سلطان يرفـع حاجبًا باستهجـان : لقبرك !! .. بأي وجه تسأليني؟
ارتعشَت شفاهُها لتُشيح بنظراها عنه، في اللحظـة التي كـانت فيها قطّتها تنتقـل لجانبها الآخر بعيدًا عن سلطان وكأنها خائفةٌ منه في هذهِ اللحظات وبعدَ انفجارِ البارحة.
سلطان بحدةٍ يُدير جسده استعدادًا للخروج : دقيقتين لو ما حصلتك تحت لا تلومين إلا نفسك .. دقيقتين بالضبط! ثانية تزيد يا ويلك.
ابتلعَت ريقها بربكةٍ وهي تتذكّر صفعـة البارحة لتأخّرها ثلاث دقائق عن الوقتِ الذي وضعه لها، ماذا سيأتيها الآن بعد صفعةٍ وبعد أن كاد يحطّم عظامها اليوم؟
انتبهَت لهُ يخرج، فتحَت فمها، تريد أن تقول له " ما أقـدر " ، لا تستطِيع الحراك ، لا تستطِيع وجسدها يغلبـه الألـم ، لكنّه كان قد خرج، قبل أن تتحدّث، وقبل أن تبعثَ بصوتِها الميّت !
شدّت كفيها على السريرِ وهي تُغمـض عينيها بوجَعٍ من ضغطِها المُفاجئ على جسدها كلّه، كـانت تحاول أن تستندَ على كفيْها وترفـع نفسها، لكنّها سرعان ما تأوّهت لتدفُن وجهها في الوسادة وتُتمتم بوهنٍ بعد أن أرتخت كفوفها : يا رب ساعدني .. يا رب !!!
عادت تشدُّ على كفيها، تتحرّك رغمًا عنها بضعفٍ وبطءٍ اغتـالها بأوجـاعه، تعدُّ في صدرِها دون صوتٍ وملامِحها تذُوب في اسقاطـاتٍ تكسِرُ نظارتها فتُبديها عجوزًا كسرتها السنينُ بتجاعِيدها، تعدُّ الوقت كي لا ينقضـى ويأتِي غاضبًا، ثلاثون ثانية ، نصفُ دقيقة ... واحدٌ وثلاثون ، اثنان وثلاثون ، اربعون .... آه شارفت الدقيقةُ على النفاد وهي لا زالت تحاول !!!
عضّت شفتها بقوّة، ومن ثمّ استسلمَت بعد أن مرّت ستونَ دقيقةٍ عدّتها في نفسِها، رمَت جسدها المُحتضرِ كموضعه السابق، دفنَت وجهها في الوسادةِ الناعمـة، ومن ثمّ انتحبَت ببكاءٍ مُنهزمٍ وهي تشتمُ كلّ شيء ، تشتمُ نفسها ، نفسها ، نفسها التي كانت كلّ شيء! كل القاذوراتِ وكل الهزائـم ، لم أكُن في يومٍ مـا صلاحًا بحجمِ ما كنتُ الفسـادَ أجمع، لم أكُن في يومٍ ربحًا بحجمِ ما كُنت خسارةً نتنَة ، كنتُ الطريقَ الموؤد بنتوءاتِ الحجارة، كنتُ الطريق الذي ينتهي عند عينيك ولا يُلامـسك بأطرافِه ، كُنتَ أكبر! أكبر يا سلطان وأشدّ رفعـةً من الدونيّةِ التي وُلدتُ منها . . لم أكُن يومًا سوى ضعفٍ ولدتُ من رحمِه ، هذا الرحمُ الذي اختلطَت فيه جيناتِ كلّ السلبيات! . . لمَ أنا ضعيفة؟ لمَ يهزمني الآن الألـم ولا أنهض، لمَ لا أصير قويّةً إلا بِك! كنتُ أفضل من الآن والله أفضل! الآن عُدت هُلامًا، تمامًا كما كُنت من قبلِك.
كادتْ تُدمِي شفتها من عضّها بأسنانها عليها وهي تبكِي بقهر ، لمَ هي ضعيفة؟ لمَ لم تقوى حتى الآن؟ لمَ مازالت تُبكيها أدنـى الأمور ، يا الله ليس دونًا! قهري الآن ليسَ شيئًا دونيًا ... لكنّي رغم ذلك .. لا أريد أن أكون ضعيفة! لا أريد هذا الضعف يا الله لا أريده!!
شدّت على الوسادةِ بكفيها وهي تَهمسُ لصدرها بأنينٍ خافِت، تستشعِر نعومة شُعيرات قطّتها التي كانت تتمرّغ في ذراعها وكأنّها تواسيها .. ابتسمَت بحسرة، لكنّها سرعان ما قتلتْ ابتسامتها ما إن سمعَت صوتَ خطواته العنيفة والغاضبـة، رفعَت وجهها بسرعةٍ في اللحظة التي دخـل فيها وهو يصرخُ بغضب : عنـاد هو وإلا أيش؟!
ارتعشَت أحداقها وهي تنظُر لهُ بملامِح غزاها البُكاء، رأته يقتربُ منها بعنف، استشعرت خطر اقترابِه لذا تحرّكت بسرعةٍ وانقلبَت على ظهرها باندفاعٍ إلا أنّ صرخـةً عاتيـةً خرجَت من حنجرتها وهي تشعُر بعظامِها قد تحطّمت ! توقّف سلطان بغضبٍ بجانِب السريرِ وهو يراها تتلوّى بوجعٍ وتبكِي، تنظُر إليه أخيرًا وتلفظُ ببكاءٍ خرج شاكيًا رغمًا عنها، رغمًا عنها تجدُه دائمًا المسعـى الذي يبتـر كلّ أوجاعها وإن أوجعها : ما قدرت أتحرك .. والله حاولت بس ما قدرت !
ظلّ ينظُر لها بنظراتٍ سوداويّة، بعيونٍ تتّقدُ غضبًا، تحرّك فجأةً كيْ يخرج، في اللحظـةِ التي مسحَت فيها على وجهها بظاهرِ كفّها وهي تبكِي وتسعُل ، إلى متى ستبقى بهذا الضعف؟ إلى متـى؟!!!
استغرق الأمـر أقل من دقيقةٍ قبل أن تشعُر بهِ يدخُل للغرفة من جديد، وجّهت نظراتها بوهنٍ إليه ، لتتفاجأ وهي تراهُ يحمِل عباءتها، يتقدّم إليها، حتى جلسَ على طرف السرير وهو يلفظُ بنبرةٍ حادة : بتقدرِين تجلسين؟
ظلّت تنظُر إليه بملامِح باهتـة، قبل أن تهزّ رأسها بالنفي، حينها زفـر بقلّة صبرٍ وهو يمدُّ يدهُ إليها ليضعها أسفل كتفيها، رفعها قليلًا، ومن ثمّ مرّر - جزء الكتف - من العباءةِ أسفلها ، لم تكُن في تلك اللحظـة سوى انسانٍ فقد الشعور، فقدت الشعور بكلّ شيء! إلا يدِه ، فقدت النظر لكلّ شيء، إلا ملامحه، كانت تنظُر لهُ ببهوتٍ وشفتيها منفرجتين ، تشعُر بِه يمرّر العباءةَ من أسفلها بسحبها بين السرير وجسدها دون أن يرفعها ، ودون أن ينظُر إليها ودون أن تفقدَ ملامحه حدّتها وقسوتها وكأنه يقوم بهذا العمـل رغمًا عنه، لكنّه على الأقل .. كـان يقومُ به!!
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ واختناق، كـادت تبتسمُ بوجعٍ وهي تنظُر لوجهه، لكنّها بترت ابتسامتها، لو رآها سيغضب، هذا ما تدركه! لذا حصرت البسمـة في صدرِها فقط، بينما يدهُ كانت تُغلقُ العباءة بعد أن أدخلت يديها فيها وساعدته، انتهى ، ومن ثمّ رمـى الطرحة عليها ليلفظَ بضيقٍ وانزعاجٍ وهو يُشيح وجهه عنها : البسيها.
أومأت دون أن يراها، ومن ثمّ رفعت كفيها لتلفّها على رأسها . . استدارَ إليها بصمت، ومن ثمّ زفـر بقهرٍ وهو يلفظُ باحتقار : والحين مضطر أشيلك بعد !!!
لم يُمهلها حتى ترد، بل انخفضَ إليها ليدسّ يده أسفل عنقها بينما الأخرى أسفل ركبتيها، هزّت رأسها بالنفيِ مباشرةً وهي تضعُ يدها على كفّها خلف عنقها وتلفظ بخوف : هالطريقة بتوجعني !
سلطان بغضبٍ آمر : ابعدي يدك !!
انتفضَت لتُبعدها بسرعة، شعرت بوجهها يتشنّج أكثر وهي تسمعه يُردف بصوتٍ محتقر : عطيني طريقة يعني انقلك فيها بدون ما توجعك؟ أساعدك تمشين مثلًا؟ أتوقع أفضل لك أشيلك ... من الآخر أنا أحمد ربي إنه مافيه طريقة بتخلي هالجسم الوصخ ما ينوجع.
تصلّبت ملامِحها وحنجرتها تتحرّك بغصّةٍ تكبُر وتُلهبها، شدّ كفيه أسفلها، ليحملها في اللحظة ذاتها التي شهقَت فيها بقوّةٍ ووجـع وهي تشعُر بالضغطِ الذي تسلّط على وركيها، ارتفعَت كفوفها بشكلٍ لا إرادي، أحاطَت عنقه بذراعيها تحاول أن تُخفّفّ من الضغطِ وهي تتأوّه ببكاءٍ وتدفُن وجهها في عنقه.
تصلّب جسدهُ فجأةً بضيقٍ وقرفٍ من قربها منه بهذا الشكـل، لكنّه تحرك على مضضٍ ليخرج وهو يقاوم رغبةٍ في إلقائها أرضًا.


،


قرّب كوبَ المـاءِ منه وهو يبتسـمُ لسؤالِه الذي وصـل إليه باهتمام، تنـاوله منه سلمـان وحاجبه يرتفـع ليُردِف بحدةٍ بعدَ رؤيتـهِ لنظراتِه تلك : حـاول تضبَط وضعك معي .. صاير تتمادى كثير!
ضحكَ عناد بصفاء : أفا عليك والله أمزح شدعوى؟! إذا أنا أتمادى فسلطان اللي تسأل عنه وش؟
ابتسـم سلمان : حلاله.
عناد بوجوم : وش هالعنصرية؟ أنا ولد البطة السوداء يعني؟
سلمان بإغاظـة : تقارن نفسك بسلطان؟ .. إلا من جد وينه الأقشـر ما شفته اليوم؟!
عناد يهزُّ كتفيه وهو يجلُس : اتّصلت فيه يقول ما راح يجي اليوم، قلت بقابله ونتغدّى سوى رفض بعد .. واضح كان معصب وضايق خلقه.
سلمـان يعقدُ حاجبيه وهو يبتسم : شيء مو جديد.
عناد بحيرة : أتوقع جديد! .. مدري بس حسيت فيه شيء.
سلمان : جيب الجوال ودي أكلمه.
عناد يبتسم باستغراب : وراك حرش! . يعني مدري وش أقول بالضبط أنت يا تبي تقتله أو تبي تقتله.
سلمـان بابتسامةٍ ماكرة : بعيد الشر .. خله يتعلم يضبّط أعصابه شوي ماهو عاجبني.
عناد : مو قايل إنّك شايفه عكس من بعد اللي صار لك؟
سلمان : بس كلمتك إنه اليوم معصب وضايق خلقـه تقول شيء ثاني ! .. جيب الجوال أشوف.

في جهةٍ أخـرى ، كـان يقُود السيـارة ، غزل كان قد مدّدها في الخلفِ لعدمِ استطاعتها الجلُوس، كانت ساكنـةً وهي تنظُر لسقفِ السيارةِ بملامِح ميّتـة، لم تدري حتى الآن أين يريد أخذها ، لكنّها لم تلحّ عليه بالسؤال ، يكفيها حتى هذهِ اللحظـةِ انها حظيَت منه باهتمـامٍ قهريّ، أحاطته بذارعيها، ودفنَت وجهها لتشمَّ من عنقهِ العودَ الذي يستخدمه عادةً، يكفيها حتى هذهِ اللحظـة .. أنها اقتربَت منه، وشعرت بأنها تحيا بينَ ذراعيه.
اخترقَ صوتُ الهاتِف هدوءَ المكـان وصمتَه ، كان هاتِف سلطـان الذي تناولَه وهو ينظُر للطريق، رمقـه بنظرةٍ خاطفـة، لكنّه سرعـان ما أعادَ نظراته إليه وهو يعقدُ حاجبيه متفاجئًا ، كان رقمَ سلمان الذي يتّصل !! . . أمال فمه باستغرابٍ من اتّصاله ، لكنّه في النهايـة لم يتردّد بالإجابـة .. لفظَ ببرودٍ جاف : نعم.
سلمان بهدوء : قول السلام.
سلطان دون مبالاةٍ بتلاعبـه الواضـح : السلام عليكم.
سلمان يبتسم : وعليكم السلام .. وراك ما جيت لي اليوم اشتقت لك !
سلطـان يبتسمُ باستخفاف : مدري يعني وش تستفيد لما تحاول تستفزّني بطرية غبيّة؟!
سلمـان : تراك موضح إنّك مهتم فيني دامنـي بالمستشفى .. من حقّي عليك تجي تراني عمّك.
سلطـان بجمود : مشغول.
سلمان : معصب؟
سلطان : أبد المزاج حلو وعال العال.
سلمان : كذبتك تمشي على كل شخص ممكن يمر بحياتك إلا أنا .. أعرف كذبك زين.
نظـر سلطـان لغزل عبر المرآة، عقدَ حاجبيه فجأة، ومن ثمّ ودون شعورٍ منه كـان يشدُّ على أسنـانه بغضبٍ مُفاجئ ، من الطبيعيّ أن يغضبَ ما إن تلمحها عيناه، أن يتجدّد في صدرِه الغضب، أن يشعر بالقهر لمرآها ، من الطبيعي ّأن يستشعِر كيفَ أنها تلاعبت بِه ويحقد .. في كلّ مرةٍ تنظُر إليه أو ينظُر لها .. وكانت الآن ، تنظُر إليه بعينيها .. تتصنّع عبرهما البراءة! تتصنّع منهما فتـاةً تنظُر إليه كنظرةِ أنثـى إلى محبوبها/والدِها قبلًا! ملاذها وأكثـر من تحتاج . . مرّر لسانه على شفتيه ، ومن ثمّ ابتسمَ بسخرية ، في حينِ كانت هي قد أشاحَت نظراتها عنه بعد أن انتبهت لهُ ينظُر لها ، منذُ البدايـة ، اختارها هي تحديدًا من بينِ الإنـاث بتوصيةٍ من سلمـان ، وحتى قبل أن تُصبـح قريبـةً منه ، هو من جاءه ، وعقـد معه أن يُبقيها زوجتـه ، لسنةٍ على الأقـل !!
عقدَ حاجبيه فجأة ، شدّ بقبضتِه على الهاتِف وعيناه تتّسعـانِ بجنونٍ من تلك الفكـرة ، لا يعلـم ، نعم .. لا يعلم!! ، سلمان لا يعلـم بالحقيقة ، لم يكُن متعمّدًا جعلـه يرتبطُ بها كي تُستر ، نعم ، كـان هو من يحثّه دائمًا على إتمامِ الزواجِ وعدمِ الانصيـاعِ للعقود ، لا يعلـم! .. كان دائمًا ما يستفزّه ليتمسّك بها ، نعم .. لا يعلم! .. لكن ماذا يتوقّع من قاتِل؟ ماذا يتوقّع !!!!
همسَ سلطـان فجأة ، سواءٌ كـان يعلمُ أم لا ، هو السبب! ، هو السبب بالقهرِ الذي يغسلُه بمائه الحارِ الآن ، هو السبب في وقوعه الآن في دوّامـةِ حقدٍ عليها ، في رغبتِه فقط باذائها ، هو السبب! في حُزنه لأجـل والدِه ، لغدرّه ، ولأنه من جديد، أوصـل إليه امراة ، حين وثقَ بها .. غدرته أيضًا!! .. : قاعدة تزيدْ عندي أفضالك ... مشكور ، مشكور يا يبه! .. في البدايـة على أبوي ، وفي الثانية على القهر اللي أعيشه الحين !!
تصلّبت ملامِحُ سلمـان فجأةً دون فهم، عقدَ حاجبيه بتوجّس ، وهو يقرأ في نبرتِه التي كـان لا يظهر فيها سوى الغضب ، والقهر ، انكسارًا!!! كان يُظهـر ما يريد ، شيئًا ممّا يُبطـن ، لكنْ لأنه سلمـان ، استطـاع أن يستشعر انكسارًا ما! .. أن يستشعر ألمًا ما ، شيئًا آخـر ... ما هو !!

.

.

.

انــتــهـــى

اليوم من جد من جد خابْ ظنّي ككاتبة بالبارت بعد ما نقلته الوورد :( معليش يعني بعترف إنّ طوله متوسط ، بس أحس إنّي طولت فيه وتعبت وأهلكني! ولما نقلته تفاجأت إنه أقل من المعتاد.
أتمنـى تعجبكم الأحداث اللي أوجعتني فيه بغضّ النظر عن الطول.

+ برجع وأشوف نظامِي بالتنزيل ، أتوقع بغيّره لفترة النهار ولو كانت صعبة عشان اللي يدرسون صيفي قاعدين يكثرون وأكتشف إنهم يتركون امتحان ما يذاكرونه زين أو يسهرون! عشان كذا بارت الأحد رُبما يكون بوقت النهار ، نقول إن شاء الله إذا استطعت .. أتمنى تركّزون بدروسكم قبل، لاحقين على الرواية ()

ودمتم بخير / كَيــدْ !



ضَّيْم 18-08-16 09:44 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

مرحبًا كيد.
بسألك بس الحين اللي صار بغزل يُسمّى اغتصاب صحيح؟ لأن ماكان برضاها أساسًا وماراحت تقابله عشان هالشي!
تمام أجل المفروض أول مانطقت لسلطان عن ماضيها تقول إنّي "اغتصبت" كذا بيخفف وطأة الألم والقهر عليه. لكن تقول أنا ماني بنت من قبل لأتزوجك هنا ما ألومه يحسب إنّ اللي صار برضاها لا ويسألها كم واحد بعد؟ وهي ماتتكلم إلا بينها وبين نفسها! يأمي تراه مو كاهن يعرف اللي داخلك تكلللمي! فجي حلققك! تنرفززز ياربيه *ميته*
المهم إنّ غضبه رجع مثل أول ورجعت حليمه لعادتها القديمه للأسف

وديما باطة جبدي الله وكيلك جد خلاص ماتحسين طولت بزيادة؟ "(

حبيت إلين وأدهم هالفترة ()
كويس كذا كيد فيه أحد من الأبطال تعدلت أمورهم نوعًا ما
مايصير بعد كل الأبطال عايشين حالة بؤس لازم فيه كوبل لطيف يخفف علينا شوي :/

أسييل حيل كاسره خاطري مرّه ماتوقعت أرحمها بهالشكل
صدق الله يلطف بحالها أتوقع شاهين بيرجع لها بس ماراح تتقبله على طول وماتنلام "(

جيهان بعد راحمتها يعني مالقى هالفواز يسافر إلاّ هالدولة اللي تتعالج فيها صدق مثل الحبن بالضيق!!
وجنان أرجع وأقول ماتستاهل فواز والله! تستاهل اللي أفضل منه! تستاهل واحد هي تكون أول زوجه له! مو هذا اللي يقول خلينا اصدقاء وين حنّا فيه يبوي :/

أما تميم الله يستر منه وانا مستبشرة فيه خير واقول بيناسب يوسف مالت ها :/

منتظرينك ()
* وأتمنى تردين دايم على التعليقات اللي هنا عشان نتحمّس "(
ترا صايره ما اعلق في الثلاث أو الأربع البارتات الأخيرة لو لاحظتِ لأن ما ألاقي تجاوب منك "(
صحيح تردّين هنا بس مو دايم "(

كَيــدْ 22-08-16 12:55 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
-
-
-

عذرًا على التأخير بالتوضيح هنا ، انشغلت بالكتابة عن المنتديات وغفلت عن توضيح تأخير الموعد كم ساعة
البارت راح ينزل بإذن الله عالساعة 5 ونص أو 6 الفجـر ، ما كان قد اكتمـل ، حاولت يكون بدري مثل ما قلت المرة السابقة ، بس ما كان الامـر بيدي :(
بإذن الله بيكون طويل ويستحقّ الانتظـار ()

طُعُوْن 22-08-16 05:21 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(80)*1



في غرفـةِ أسيل ، كانت تجلِسُ على طرفِ السريرِ بينما امها تجولُ بالبحثِ بينَ ملابِسها القديمـة في الخزانةِ وتلفظُ بحنق : حوسة حوسة !! بالله قبل زواجك ما فكرتِ ترتبينه؟
ابتسمَت أسيل وهي تلفظُ بعقدةِ حاجبين : معليش يمه يعني كان لازم توضحين مقدار حبك لي من ملابسي .. لو تحبيني مثل ديما كنتِ بتظلين تهتمين فيها بعد زواجي بس ماش أنا بنت البطة السوداء.
رمّـت أمها إحدى القمصانِ البيضاءِ في وجهها لتضحكَ أسيل وهي تسمعها تلفظُ بحدة : أنا بطّة سوداء؟
أسيل بضحكةٍ وهي تُبعِد القميص عن وجهها : محشومة يا الغالية ..
ام فواز بضيق : الشكوى لله ما كنتِ أول من راحت بيت رجلها من بناتي فطبيعي إنّي أكون متأثرة أكثر كونها الأولى.
أسيل بوجوم : يعنِي ترقعينها الحين؟
ضحكت ام فواز رغمًا عنها : لو إنك رحتِ قبلها كلّ المشاعر بتطلع عليك.
أسيل تكتّف ذراعيها : أنا خلاص تضايقت وزعلت منّك.
اقتربت منها وهي تضحك، جلسَت على السريرِ بجانِبها، ومن ثمّ وضعَت كفّها على كتفِها وضحكتها تُبتـر بابتسامةٍ شاردةٍ بعـض الشيء دفعت أسيل لعقدِ حاجبيها بتوجّسٍ وكأنها أدركَت ما ستقولُ بعدَ أن تتخطّى شرودها، لم تكُن قد أخبرَت أمها بشأنِ متعب، رغـم أنها سألتها عمّا قاله لها فواز إلا أنها أجابت بأنها لا تريد الحديثَ عنه ورجتها ألا تسألها .. ارتبكَت قليلًا وهي تشعُر بأنها تستعدُّ للحدِيث عن هذا الموضوع ، إلا أن رنِين هاتِفها المُفاجِئ جعل أمها تخرجُ من شرودها وتسحبُ كفّها عن كتِفها، بينما زفـرت أسيل بخفوتٍ وهي تنظُر ناحيـةَ هاتِفها الموضوعِ على الكومدينة ، مدّت يدها لهُ بهدوء، ومن ثمّ حملته لتُصدَم ما إن رأت الاسم الذي بزغَ لها ، شاهين !!! ... اتّسعت عينـاها باستنكار، ماذا يريد؟ ما الذي قد يدفعه للإتصال بها؟!
ابتلعَت ريقها بربكـة، أنهَت الاتصال ولم تُجِب ، حينها عقدَت امها حاجبيها، لم تنتبه للإسم إلا أنها استغربت عدم ردّها : مين؟
أسيل تبتلعُ ريقها بضيق، أحالت هاتفها لوضعِ الصامتْ ومن ثمّ وضعته جانبًا " على باطِنه " تحسبًا لأيّ اتصالٍ آخر له حتى لا تنتبه أمّها ، وبنبرةٍ باهتة : وحدة من صديقاتِي القدامـى ..بتّصل عليها بعدِين مالي خلق أكلمها الحين.
صمتت أمها دون تعليقٍ وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، تريد أن تحادثها عن موضوع فواز الذي أخبرها بِه وتسبّب بإجهاضها، إلا أنها تنهّدت أخيرًا لتلفظ : كلمتِ أخوك اليوم؟
أسيل تبتسمُ ابتسامةً زائفـة : لا .. بس بكلمه بالليل فيديو ما تبين تكلمينه وتشوفينه؟
ام فوّاز تهزُّ رأسها بضيق : لا ، يتّصل علي وما أرد أصلًا.
أسيل : ههههههههههه يعنّنك زعلانة منه؟ طيب ليه تسأليني عنه؟!!
ام فواز بحنق : قلب الأم وش تسوي! .. فوق كذا ما يرحمني ويرجـع ،
أسيل بهدوء : يمّه كونه ينتقـل بشغله برى سهل ، بس رجعته صعبة شوي .. هو أصلًا قايل لي من فترة بيحاول يستقر معنا خلاص طوّل بغيبته مع إنّ سيف مو مقصر مهتم فيك بس فشلة خلاص ، واحتمـال يجي هالمرة مع زوجته.
ام فواز تعقدُ حاجبيها فجأةً بانزعاجٍ من ذكرِ " زوجته " ، لفظَت بوجوم : الله يستر عاد من زوجته ذي! مو راضي يتزوج على شوري .. أبد!
أسيل تتنهّد : مع إنّي أتمنى يرجع جيهان له بصراحة! .. يحبها يمه ، حتى لو ما وضّح للحين يحبها!
وقفَت بغضبٍ مفاجئٍ وهي تبتعِد ناحيـة الباب وتنطُق : حبّته القرادة ، حبته القرادة! .. يعني يوم إنّي خلاص صرت راضيـة عن زواجـه قام يطلّق ومن قبل معنّد! .. دام إنه يحبها ليش تزوج وبعدين طلقها؟ .. وينا فيه بلعبة؟!
خرجَت بعدَ كلماتِها الغاضبـةِ تلك لتعقدَ أسيل حاجبيها وهي تبتسـم ، تلاشَت ابتسامتها فجأةً بعد أن تذكّرت هاتفها ، أدارت رأسها إليه ، ومن ثمّ حملته بكفوفٍ متشنّجة ، لتجدهُ بالفعـل ، قد اتّصل من جديد!


،


لم يستطِع الجلُوس في غرفتـه، بالأحـرى في الصالـةِ العلويّةِ وليسَ في غرفتـه المُشتركة مع أسيل - سابقًا - فهو لم يعُد لينـام فيها بعدَ أن ظهـر متعب. كـان يسير ذهابًا وإيابًا بربكـةٍ بعدَ رفضها الردّ عليه ، يشعُر بالحرجِ منها، لكنْ ماذا لديهِ ليفعله؟ .. إلهي! لم يتخيّل للحظـةٍ أن يجيء يومٌ ما ، يريد أن يحادثها فيه ويشعُر بأنّ حدودَ الحرجِ منها لا تُحصر، لم يتخيّل أن تجيء لحظةٌ يريدُ فيها أن يحادِثها ، ويشعُر بأنّ صدرهُ ضيّق ، وأنّ سمـاءَ المدينةِ تنخفِض ، وتُطبـق عليه.
مرّر لسانه على شفتيه وهو يعيدُ الاتصـال من جديدٍ ليطُول الرنينُ حتى الإنقطـاع دون أن ترد، تنهّد وهو يتمتمُ بكلماتٍ لم يكُن هوَ بذاتِه يعيها ، لا بأس، لا يلُومها ، لا يلُومها على أيّ شيء! .. لا يلُومها ، من المفترضِ الآن أن يُحيطَ بي الحرجُ حتى لا أعيد الكرّة ، لكنّني أعتذرُ من جديد ، الأمـرُ فوق تحكّمي! ... نعم ، فوقَ سيطرتِه ، لا أحـد قدْ يُجيد إقنـاع أمه سوى أسيل.
عـاد ليتّصلُ وهو يعضُّ شفته السُفلـى ويُغمـض عينيهِ بشعورٍ قاتـل، بشعورٍ يهزمـه ، بشعورٍ يحشرجُ أنفاسـه ويختنق ، هذهِ اللحظـاتُ لا تكونُ بسيطةً أبدًا ، لا تعبُر بقدرِ حاجتها بل تُسكِن في الروحِ حشـرةَ موتٍ وتلامـس بأطرافِ أناملها حيـاةً أخـرى ، برزخ!
مرّت لحظـاتٌ في بضعِ رنّاتٍ وهو يَجزمُ في نفسِه أنها لن تردّ، لكنّه فتـح عينيهِ فجأةً ما إن وصـل إليه صوتها الناعـم ، نبرتها التي تشيخُ بِه وتسفُكُ منه دمـاءَ الرضا ، القناعـة بحالِه ، تزيد في ضياعِه أكثـر ، تختمُ على صدرِه حنينًا مُحرمًا، كيفَ يتذوّق صوتها الآن خمرًا مُحرمًا لن يُحلّ له؟ ما بينهما ليسَ مقتضـى " حرام " في شرائـعِ الأديـان، ما بينهما حرمةٌ حياتيّة ، مسافات ، تشعّباتٌ لا تلتحمُ في نهاياتِها ، ما بينهما بعيدٌ عن أحكـامٍ وقواعِد ، لا يدرِي كيفَ يظنُّ متعب حتى هذهِ اللحظـة أنه قد يستطِيع الاستمرار معها ! .. كيف؟ لا يُمكن !
أسيل بنبرةٍ جافّة : نعم.
تغـرقُ مجرّدُ " نعـم " في معاجِم ، تكُون في هذهِ اللحظـةِ " مجموعة كلمات "، ليسَت كلمـةً واحدة! ليست كلمةً واحِدةً هذهِ التي جعلته يختنـق الآن فورَ سماعِها، هذهِ التي عبثَت بنبضاته، فجّرت في أوردته غليانًا صاخبًا! . . . همسَ بخيبةٍ وهو يتحرّك نحو الأريكةِ ويجلس، يبتسـم بأسى : أعتذر على وقاحتِي في الاتصـال.
أسيل تبتسمُ باستخفاف : يعنِي عارف إن اتصالك غلط!
تنهّد شاهينْ بضيقٍ وهو يتقدّمُ بجسدِه للأمامِ ليستندَ مرفقهِ الأيسرِ على ركبتِه وتعبثَ كفه بشعرهِ الفوضويّ فتضاعفُ فوضاهُ التي امتدّت داخليًا : أيه .. عارف.
أسيل بجمودٍ وهي تعقدُ حاجبيها : وش تبي؟ أتوقع ما يصير تتّصل علي دام كل شيء بيننا بينتهي أو نقول انتهى!
غصّت تلك الكلمـةُ في حنجرته ، ماذا يعنِي أن ننتهي؟ حتى الآن لازال يجهلُ حجمَها ولازالت تتضخّمُ بأحرافها في حنجرتِه فتحشرُ الكلمـاتِ بوحشيّة، لازال لم يعتدها! . . شدّ على أسنانِه بقهر ، إلا أنه هتفَ أخيرًا بنبرةٍ حمَلت هدوءً كاذبًا : أمي ودها تزورك اليوم.
انبسطَت عُقدةُ حاجبيها وابتسمَت تلقائيًا إلا أن بسمتَها كـانت بسمةَ ألم! وبخفوتٍ محبّ : حيّاها.
شاهين : أسيل ... عارف إنّ شكلي غلط وأنا أطلبها منك .. بس أمي ما رضت تاكل شيء من صحت .. زعلانة مني وحالفة ما تاكل لين أرجعك لي ... فــ ،
صمتَ زافرًا هواءَ صدرِه وهو يشعُر أنّ المتابعـةَ تفيضُ في سوءِ صورتِه ، استطاعَت فهمه، حينها اتّسعت بسمتها بأسى وهي تومئ برأسها وتلفظ : طيب .. بحاول أخليها تقتنع بالموضوع بأي طريقة حتى لو كذّبت وقلت إن رغبة الطلاق جات مني.
انخفَضت كفّه عن شعرِه ليُغمـض عينيهِ بامتنـان ، وبشعورٍ آخـر يكادُ يصرعـه الآن ، يتذكّر في هذهِ اللحظـةِ إحدى جُمـل متعب " مرتك أصيلة "، نعم، كـان حتى هذهِ اللحظـةَ الأعلـى منهما ، كانت الأفضـل رغمَ كلّ شيء ، الهدوءُ الذي لازال يعمُّ سرّ متعب يُثبتُ أنها لم تتحدّث لأحدٍ قد يفتـضح كل شيء، تركتْ الموضوع يسيرُ كما هو مفترض ، رغـم أوجاعها ، ورغـم ما خلّفوه فيها ! .. همس بامتنان : ما عندي شيء يكفي لشكرك! ... لو غيرك كـان من البداية ردّها بيكون للموضوع مختلف.
أسيل تتجاهـل كلمـاته وشكره لتلفظَ بجمود : خالتي للحين ما علمتها عن متعب؟
شاهين يهزُّ رأسه بالنفي وكأنها تراه، ليتها كانت أمامه وتراه بعينيها التي يعشـق! : لا ، أتمنى ما تدري منك.
أسيل بصوتِها الجامِد ذاتِه والذي لا يُنبِئ عن مشاعرها المُستترةِ خلفَ تصلّب صوتها : تطمّن . .
صمت ، من بعدِ صمتها الذي شعر بهِ يطول دهرًا خلالَ ثوانِي ، ومن قبلهِ ردٌ فاترٌ - موجَز - ، عقدَ حاجبيه ، اعتذَر منها في المشفـى ، أوضـح لها كم حجمُ خطأه في حقّها كبير .. إلا أنه وإلى هذهِ اللحظـة ، لا يشعُر أنه استوفاها عذرًا ، أغمـض عينيهِ وهو يتراجـع بظهرهِ للخلف، أسندهُ على ظهرِ المقعد ، ومن ثمّ بصوتٍ خافِت ، يتلاشَى فيهِ التعبيرُ سوى مكنونيّةِ الاعتذار ، يتلاشـى فيه كلّ شيءٍ عدا " اشتقتك " أيضًا بجوارِ اعتذاره! .. لم يقُلها ، لم يقُلها ، إلا أن نبرته قالتها بعمـق اشتياقِه : آسف.


،



كـان يراقبـهُ بهدوءٍ وهو يتّكِئ على ظهرِ الكرسيّ ويكتّفُ ذراعيه وابتسامةٌ تظهرُ على شفاهِه رغمًا عنه في حينِ يرى ملامِح سلمان التي تظهرُ عليها تقاسيمُ الاستفزاز . . تحرّك قليلًا ليسندَ مرفقيه على ركبتيه ويتقدّم بجسدِه ، لكنّ ابتسامتـه تلاشَت قليلًا وهو يرى وجه سلمـان يتغيّر فجأة ، يعقدُ حاجبيه باستنكـارٍ أو ربما قلقٍ جعله يقلقُ من الجهةِ الأخـرى!
بينما شدّ سلطـان على أسنانِه بقهرٍ وهو يغمـض عينيهِ قليلًا، يستفزّه أن يجدَ من كلّ منفذٍ بابًا يُغلـقُ فجأةً حينَ يقترب، لا يفصـله سوى خطوة على العبـورِ لراحـةٍ أخيرًا ، يستفزّه ألا تسير الأمـور بشكلٍ صحيح ، الآن ، وفي صدرِه حممٌ من كرهٍ وغضب ، منذُ البدايـةِ كـان مخدوعًا ، والخـداعُ لا يسيرُ معه إلا بشكلٍ بطيء، بشكلٍ مستفزّ وبشكلٍ يطول ولا يكتشفه! .. لسنين ، غابَ في كذبةِ سلمـان ، والآن لأشهـر ، يغرقُ في خداعِ امرأة!
وصـل إليه صوتُ سلمـان الذي كـان هادئًا لمسامعه، لكنّه كـان بعيدًا عن الهدوء ، يتصنّعه فقط! : وش صار؟
سلطـان يبتسمُ بسخرية : فقدت الحق بالسؤال.
سلمان بجمود : وش صار؟
سلطان : سلامتك .. لا ... ما يصير أقول سلامتك ... الله يقهرك مثل ما قهرتني وبس!
عقد حاجبيه بشكلٍ أشدّ ، لم يحـاول أن يسأله أكثر وهو يستشعرُ أنّ قهرهُ هذهِ المرّة كـان لأمرٍ مسّه هو شخصيًا ، لم يتعلّق بفهد ، بل كـان ربّما ، غدرٌ بِه هو !!
أغلـق سلطـان بعدَ كلماتِه المقهورةَ تلك ، لم ينظُر ناحيـةَ غزل أبدًا وهو يرمِي هاتفه على المقعدِ الذي بجواره ، كـانت قد استمعَت لكلّ كلمـاتِه وهي صامتة، لم تعُد للنظـر إليه بل بقيَت تنظُر للأعلـى ونبرتهُ تلك ضاعفَت من أوجاعِها أكثـر ، نسيَت أنّه الآن يأخذها إلى مجهولٍ مـا ، وظلّت عائمَةً في ظلالِ صوتِه ، هذا القهر هي من تسبّبت بهِ في نبرتِه ، هي من افتعلتْ كلّ هذا فيـه منذُ البدايـة ، هي التي كـانت النقطـةَ السوداءُ في منتصفِ الكلام ، عرقلَت كلّ شيء! .. كلّ شيء !!
عضَت شفتها السُفلـى وهي تُغمـض عينيها، تصمتُ الأحاديت، الزفـرات من صدرِه ، ليبقى صدرها وحدهُ يتمتمُ بكلماتٍ تتداخـل وترتفع ، ترتفعُ حتى تصخبَ بأسماعها وتفقدَ الإدراكَ لوقتٍ حتى قاطعها فجأةً صوتهُ الحادُ والآمر وهو يلفظُ بعدَ أن توقّفت السيارة : غطّي وجهك .. وصلنا.
فتحَت عينيها وكأنهُ لسعها بصوته، رفعَت كفّها لتُسدِلَ طرف الطرحةِ إذ تركت وجهها مكشوفةً طيلة الطريقِ كونها متمدّدةٌ وليسَت جالسـة ، فتـح سلطان البابَ وخرج ، لم تستطِع أن تتبيّن من المنفذِ الصغير من البابِ الذي فتحه أين هما الآن! .. لم يقُل لها شيئًا وهو يغـلق البابَ ويبتعِد ، يتركها تغرقُ أكثر وتحترقُ بالاحتمالات ، أين؟ إن كـان سيُعيدها لأمها لكان جعلها تنزل مباشرة! .. إذن ، أين هما؟
مرّت لحظـاتٌ قصيرةٌ قبـل أن يُفتـح البابُ الخلفي من جهةٍ أقدامِها ، عقدَت حاجبيها فجأةً وهي ترى سلطـان يدخُل قليلًا بملامِح متصلّبـة ، استطـاع حملها ليُخرجها ، ومن ثمّ وضعها .. على نقالة! ... هما في المشفى !!!!


،


في بروكسِيل ، خطواتُها المُتّزنـةِ تسقُط في إغماءةِ إدراكِها من أفكـارِها التي تعوجُّ خاصرتها، تُميلُ فمها قليلًا، وتعبثُ كلمـاتٌ في فمها ، كلماتٌ كـانت تحاربها لتخرجَ إليه بعدَ ساعاتٍ قضتها معه مجبرة ، مجبرةً فيها على الحديثِ معه ، وعلى الكثير من الضحكِ معه أيضًا! .. مهما تحلّت ملامحها بالوجومِ إلا أنها تجدُ نفسها فجأةً تضحكُ معه رغمًا عنها حين يهدفُ إلى إضحاكها بسيطرةٍ عنيفة . . لم تغرقْ كثيرًا في أفكارٍ صامتـة ، بل حوّلتها إلى حديثٍ وهي ترفـع رأسها وتهتفُ بما جـال في عقلها : ليش طلّقت زوجتك؟
شعرتْ بهِ يتصلّب فجأةً بجانِبها، توقّف وكفّه القابضـة على كفّها ارتخَت لتتركها فجأة، في حينِ كانت ملامِحه المسترخيـة قبل لحظةٍ فقط قد تشنّجت بنفورٍ من سؤالها ، شعرت بأنه قد يغضبُ لا محالة، لذا استدارَت بسرعةٍ لتقابلَ جانِب جسده بجسدها وتلفظَ بتدارك : قلت لي من قبـل إنّ مالي دخـل بموضوع طلاقك ، أثبت لي هالشيء وقولي طيب سبب الطلاق؟
فواز بخفوتِ صوتِه الذي أخبرها بوضوحٍ أنّه يتحكّم بغضبِه بصعوبة : ما تشوفين سؤالك وقح؟
جنان ترفـع ذقنها بثقةٍ متجاهلةً نبرته تلك ، لمْ ترتبك أو تتراجـع في قرارِ المعرفـةِ وهي تلفظُ برويّة : أشوف إنه من حقي أعرف، ممكن أنت تشوفه وقاحة بس أنا أبي شيء يثبت إنّ مالي دخل باللي صار.
ابتسمَ فواز دون مرح ، وبسخرية : إذا عرفتِ بالسبب راح تتقبلين حياتك معي وما عاد تطلبين الطلاق؟
جنان دون تفكير : لا ... ما راح يأثر بشيء.
دسّ فواز كفيه في جيبي بنطالِه بصبرٍ وهو ينطُق : وش بستفيد أجل؟
جنان بمراوغـة : وش جاء بخاطرك أول ما مشينا بهالشارع؟
فاجئته بسؤالها، أخـرج كفيه من جيبيه مباشـرةً وملامحه تفتُر ، ما الذي جـال بخاطِره؟ هل هو مكشوفٌ لها بهذا الشكـل؟ هل قرأت في أحداقِه ذكرياتٍ جالت في أعصابِ عينيه ، مناظـر ، لحظـاتٍ عاشها ، خطواتٌ لم يعدّها، أقدامـها التي سارَت بجانِب أقدامِه هنـا يومًا .. هل قرأت كلّ هذا؟ قرأت قصةً قصيرة ، قصيرةً جدًا ، كـان من خضمِ مواقفها القليلة أنّه سـار معها هُنـا مُمسكًا بيدِها ، شاعرًا بدفئها، متذوّقًا رائحـتها، يدندنُ بصمت ، مع سمفونيّةِ صوتِها الناعمـة ، والتي تتلاعبُ بأوتار أعصابِه كعازفٍ يعبثُ بقيثارةٍ وقعَت بينَ يديهِ " معشوقة "!
ابتسمَت جنان بسخريةٍ وهي تفركُ كفّها اليُسرى باليُمنـى ، الجوُّ كـان باردًا بعض الشيء ، معارضًا نبرتها التي لفظَت بسخريةٍ يافعـة : قبل شهور ، وبهالشارع كـان أول مرّة ألتقِي فيها ، كنت مع فارس وهي معك!
كـان أوّل موعدٍ لهمـا ، كغرباء ، عشقها من الوهلةِ الأولـى ، كـان الموعِد الأول ، الاختطـافَ الأولَ بعدَ مجيئهم لبروكسيل ، واللحظـاتِ التي لم ينساها ، وتمنّى لو أنه في إدراكةِ فُراق، حفظَ تفاصيلها! .. تمنّى لو أنّه عدّ خطواتِها منذ اللحظـةِ التي تلقّفها من أحضـانِ والدِها ، وسـار معها ، إلى أن أعادها ، تمنى لو أنّه حصـر نبضاتِ عروقِ معصمها التي كـان يشعُر بها ، تمنى لو أنّه عدّ المرّات التي تنهّدت فيها باعتراضِ خروجها معه ، تمنّى لو أنه لم يغفـل عن رعشـةٍ من أهدابِها ، انخفاضِ أجفانها في كلّ إغماضة!
كـان الموعدَ الأول، والحيـاة الأولى، وكأنه في تلك اللحظـةِ ولدَ عاشقًا من جديد، وولّفَ في أضلعهِ قلبًا وليدًا من اسمها ، ليبقـى هذا القلبُ مضطجعًا بين أضلعه ، حتى هذهِ اللحظـة ، دون أن يجهضَ انتماءهُ إليها.
لم يرد، تـابعَ سيره ، بصمتٍ أطبـق على فمِه ، لم يردّ ، وهو يعُودُ ليدسِّ كفيه في جيبِه ، وكأنه يمسـح شعورهُ ببشرتِها والذي عـادَ يغزو جلده ، ها أنا ذا أشعُر بكِ من جديد ، في خضمِ محاولةٍ فاشلـةٍ من النسيان ، كيفَ تسكُنني؟ ولا تفقهُ الهجرانَ حتى ببعدها؟ كيفَ لا يقتضِي من البُعدِ هجرانًا؟ .. من قـال أن البعيدين هَجَروا؟ هاهيَ ذي ، أشعُر بملمسِ كفّها، وأشتمُّ رائحـتها على جدرانِ الطريق، هاهيَ ذي ، أسمـع خطواتها على الرصيف، وأشعُر رغـم برودةِ الأجواء ، أنّها تغلّف جسدِي بدفئها . . اقشعرّ جسدهُ وهو يشعُر بحرارةٍ قامَت فيه من مشاعِره ، ضاقَت عيناهُ وهو ينظُر للأمـامِ بتشوّش ، بينما تحرّكت جنان بعدَ أن سابقها، سارعَت في خطواتها إلى أن أصبحَت بجوارِه، وبابتسامةٍ متلاعبـة، إلا أنها كانت تعنِي ما قالت حرفيًا : الموضوع بسيط يا صديقي .. طلّقني ببساطة ورجعها لك .. ما يسوى تعذّب روحك والله!
فواز بحدّةٍ وهو يكادُ يفقدُ أعصابه أمامها في أيّ لحظـة : سبق وقلت ما طلقتها بسببك! .. لا تستفزيني أكثر!
جنان ببساطةٍ أقربَ للاستفزاز : طيب مو لازم أصلًا أكون سبب .. أنت أصلًا بتطلقني في النهاية.
فواز ينظُر إليها بغضبٍ انفجـر : لا تحلمــين حتى! .. من الآخــر لا تحلمين أطلقك!!
جنان رغم أنها شعرَت بالغضبِ من نبرته إلا أنها لفظَت ببرود : ما أدري وش عذرك يعنِي عشان تتمسك فيني بهالطريقة، ماني مرتك الأولى يعني ما تحبني ، إذا عن أبوي فصدقني بقدر أقنعه إنه كان على خطأ ...أصلًا لو أدري عن عذره بس.
ارتخَت ملامح فواز الغاضِب فجأة، مرّر لسانه على شفتيه بتوتّر ، إلا أنه أدار رأسه في النهاية إليها ببطء، ليلفظَ ببرودٍ أخيرًا : مانِي مطلّقك تحت أي ظرف ، خلاص اقتنعي بهالفكرة.
جنان تحاول أن لا تغضب من أسلوبه المتسلط وهو يقولها، لفظَت ببرودٍ مشابـه : مدري شلون تحبون الهم والعذاب؟ يعنِي صعب عليكم يا الرجاجيل تتنازلون شوي! .. دامك تحبها لهالقد رجعها لك وعيش حياتك .. العُمر مرّة عيشه بحلوه واترك عنّك مُرّه .. إذا يسعدك قربها منك عيشه ، ترى الحُب مو كل مرّة يتكرّر ، مو كل مرّة تقدر تجدّده بشخص ثاني ، فلا تضحك على عمرك أساسًا حتى لو بتقدر تحب من جديد ما يستهويني أكون الطرف الثاني بالموضوع.
فواز رغـم غضبه إلا أنه ابتسم : مو كأني مرة طايح من عينك؟
جنان بجدَيةٍ تثبّت أحداقها في عينيه : كل رجّال يحب ويتخلّى عن اللي يحبها يطيح من عيني أصلًا .. إمّا إنك كنت كذّاب بحبك ، أو إنّك مازوشي وعذرًا على الكلمة . .
ضحكَ رغمًا عن غضبِه من تفسيرها : يا الله بس! .. منتِ طبيعية ، للحين مو متخيل إنّك تناقشين شخص هو زوجك عن حبه لأنثى غيرك!
جنان ببساطة : لأني متصالحة مع نفسي ، مستحيل أفرض عمري على شخص يحب بالأساس ، للحين أتمنـى أرجع للزمن وأعارض أبوي ، صدّقني للحين ماني مصدقـة إنّي للحظـة ضعفت وما حاولت أوضح له إنه غلطان!
فواز ببرودٍ وهو ينظُر للأمـام : سبق وقلت ماهي مشكلتي.
جنان تبتسمُ بحنقٍ من بروده ، أرادت استفزازه أكثر ، لذا أمالت فمها وهي تطرُق بسببابتها على ذقنها ، وبتفكير : مممم أذكر ذاك اليوم كانت لابسة جاكيت زيتي صح؟
اتّسعت أحداقـه، عـاد جسدهُ يتصلّب ، وقفَ بحدةٍ وهو يدركُ جيدًا ما تقصد، كـانت تصفُ ملابِس جيهان في ذاكَ اليوم! .. عضّ شفته بغضب ، وبحدة : جنــان يكفي!!
جنان بصوتٍ متسلٍ باستفزازه : افا ما تبي تشتاق لها أكثر!
فواز بصوتٍ ارتفـع وهو ينظُر لها بوعيد : يكفي !!
جنان ببرود : يمكن الحين هي تفكر فيك بعد!
تنفّس بحدة ، وعيناه رغـم غضبِه إلا أنه ضيّقها ، رقّت نظراتـه، وأبحـر في تخيّلها تفكّر بهِ هو! .. ما الذي يفعله؟ لمَ يسمـح لنفسِه بالتفكيـر بها بهذا الشكـل؟! بتجديدِ أشواقه، بالإبحـار إليها من جديد! .. لكن ماذا يعنِي أن تفكّر بِه؟ وتشتاقَ إليه كما يشتـاق إليها؟ ماذا يعنِي؟ غيـر أن يدعُو الله ، بأن يبعَث في صدرِها حبًا أكبـر إليه ، وشوقًا يجرفها في سيلِه دون أن يتباطَأ ، نعم ، يرضيه أن تبقـى تحبّه ، يرضيه أن تفكّر بِه ، يرضيـه أن لا تبدأ حيـاةً جديدةً من بعدِه!! .. أنانيُّ بِها ، إن لم تكُن لي ، فيا الله لا تجعـل سواي ينظُر إليها كزوجـة! اللهم إنّي أبوءُ لكَ بذنبي ، بأنانيّتي بِها ، فلا تصرفْ عني خيره! اللهم إنّي أبوءُ لكَ بحبّي ، وأعجـزُ عن دعائك صرفَه.
عقدَ حاجبيه ، أغمـض عينيهِ قليلًا وهو يتنهّد ، ليلفظَ أخيرًا بخفوتٍ آمـر : قفلي هالموضوع يا جنان .. ترى وصلت حدّي منه!
لوَت فمـها بتمرّد ، كـانت لتستمرّ، إلا أنها ما إن شعرت بِه يُمسكُ كفّها بانفعـالٍ صامتٍ حتى ألجمها بشدّه لها وسحبها معه ، وأصابعه تخبرها بشدّتها أنه لا يريد أن يغضب أكثر ، لا يريد أن تستفزّه أكثر بطريقةٍ قد لا يروقها ردّها.


،


بعدَ صلاةِ العصرِ بوقتٍ قصير، اقتربَ من بابِ المنزلِ عائدًا من المسجِد ، يضيّقُ عينيه والحرارةُ تزعجـه ، لن يبـالغَ إن قـال بأن أكثر ما تذمر منه في حياتِه هي حرارةُ الأجـواء التي تُسعفُ مزاجـه بالذوبانِ في حدّتِه .. كيفَ يتقلّب مزاجـه ما بينَ استرخاءِ " سعادة " وما بينَ ضيقٍ مُفاجئٍ يتذمّر بِه من حالـةِ طقس ، في حينِ أنّ صدرهُ بحدّ ذاتِه طقسٌ يتقلّب في طوفانٍ تارةً، وفي نسيمٍ تارّةً أخـرى ،
فتحَ البـابَ ودخـل ، رائحـةٌ مختلفة ، رائحـةٌ تجلبُ السكينة ، وتجلبُ حيـاةً أخرى لا دنيـا ولا برزخية ، حيـاةٌ هيَ جنّة! .. ابتسـم فجأة ، ألمْ يقُل بأنّها المتحكّمة والقابضـةَ على طقسِه؟ الآن " روّق "، فقطْ لأنه اشتمّ رائحـةً هي مصدرها. مرّر لسانـهُ على شفتيهِ وهو يُحرّك أحداقـه ، جـاءهُ صوتٌ قريبٌ من غرفـةِ الجلوسِ أثبَت أنّها فيها ، ابتسمَ بسخريةٍ أخيرًا وهو لا يدرِي هل هو الآن " غير متضايق " فعلًا؟ كيف تختلطُ مشاعره بهذا الشكـل وكيفَ يشعر أنّ مزاجـه تلتحِمُ فيهِ متضادّات ، حينَ خرجَ كان غاضبًا منها ، كان مقهورًا من السنينِ التي مرّت منذُ طفولتها، كان أيضًا يتذكّر ، لحظــةً ما قالت فيها " يسّوري " وأتبعتها بمناداةِ ومناجاة ، سيظلمـها إن ظلّ يتذكـر تلك اللحظـة وهو الذي كـان فيها الماردَ الذي لفـحها بدخـانِه الأزرقِ دون أن يكون حضوره سعادةً وتحقيق أمنيات ، عوضًا عن أنه كـان محقّق لحظـاتٍ تخشاها الإناث ، فقط! .. قد تكون مناداتها المتغنّجة تلك مجرّد لفظٍ طفوليٍّ أيضًا نظرًا لعمرها وقت ذاك ، لكنّها أيضًا .. تحرقه!
قرّر ألا يصتدمِ معها ، مؤسفٌ أن يُجبَر كسرٌ من جهة ، وتُشرخَ جهةٌ أخـرى! .. وعلى أمـل أن الشروخ تزول ، ابتعدَ كي لا يواجهها ، واتّجه للدرجِ حتى يصعدَ ويسترخِي على السرير لوقت ، لكنّه ما إن وصـل لأوّل عتبـةٍ حتى تصاعَد رنينُ هاتِفه، توقّف ، ويدهُ ارتفعَت ليسندها على الدرابزين بينما الأخرى أخرجَت من جيبِه الهاتف ، ابتسَم ما إن رأى المُتّصل ، ومن ثمّ ردّ ليلفظَ مباشرةً بسخريـة : الله! .. زين إنّك تذكرت إنّي عايش وقريب.
ضحكَ متعب من الجهةِ الأخـرى : أنا اللي كنت ميّت والله معليش.
أدهم يتحرّك ليصعدَ وهو يمطُّ فمه بامتعاض، وبتهكّم : كان ظلّيت ميّت في اللي خبري خبرك .. أترفّع عن ذكره أيش بالضبط.
متعب يُميلُ فمه وهو يرفـع حاجبًا : تترفّع عن ذكره؟ .. وأيش؟!!!
أدهم يبتسمُ بلؤم : أظنّه ماهو بشري عشان كذا .. مجرّد مخلوق دوني.
زفـر متعب بضجر : بالله فكوني منكم .. ودكم تتهاوشون امسكوا بعض وتصافقوا لين بكرا بس لا توجعون راسي خلوني بعيد.
أدهم : يعني ما تعرفني يوم إنّك تحثني آخذ بحقي منه؟
متعب يبتسـم : المطلوب كل شيء إلا إنكم تذبحون بعض، ترى شاهين بعدْ شرّاني قدام اللي يقرب منه بنية شر.
أدهم : له وجه يحاول مجرّد محاولة؟ ترى آخر مرّة كانت بصالحه ، الحين دوري.
متعب : هههههههههههههههههه ما عرفتك وأنت ملتزم بالدور وقانوني .. شكلك ناسي جوالك يوم إنّه جرح راسه وما انكسر.
أدهم بحدة : وينك؟ بسرعة الحين بجيك وتتفل عليه يا حيوان.
متعب يغرقُ في ضحكةٍ عميقةٍ قبل أن يلفظَ بنبرةٍ ضاحكـة : تعالي الفندق ، اشتقت للطلعات معك ووصاخة لسانك ...
أدهم : يلا جايك بس أتروش وأبدل ملابسي .. بس هاه مو بعدين تقولي أمسك لساني! هذا أنت قلتها اشتقت.
متعب : قسم بالله لسطّرك.
أدهم يبتسمُ وهو يدخُل الغرفـة : بعتبرك إحماء بسيط للحمـار اللي وراك.
متعب : الله يرخِي عظامك ويمحق كيدك قدامي وقدام أخوي ..
أدهم : هههههههههههههههههههههه حيوان طاح كرتي في النهاية.
متعب بإغاظة : أجـل تقارن نفسك بالدم؟ بعييييدة عنك.
أدهم : أقول اقلب وجهك بس بمرك بعد نص ساعة.
أغلـق دون أن ينتظـر ردّه ومن ثمّ اتجه للحمـامِ وهو يفتح أزرارَ قميصه بعدَ أن رمـى هاتفه على السرير.

في الأسفـل ، كـانت تغـرقُ في مشاهدتها لفيلمٍ على إحدى قنواتِ التلفاز، بل تطفُو بالشكلِ الصحيح، لم تفهمْ القصّة ، لم تستوعبْ الأحداث ، تـارةً تستمـع للأحاديثِ الإنجليزية وتارةً أخـرى تستمـع لأحادِيث صدرها بلغـةِ الضجيج ، الضجيجِ فقط! .. لم تكُن تدرك ما تفكّر بِه بالضبط! .. كانت فقطْ تعيشُ اللحظـاتَ التي استسلمَت فيها إليه من جديدٍ وتلومُ ذاتها، لمَ تلومُ ذاتها؟ لقدْ قالت أنها تكرهه، أنها تتقزّز من قربِه منها ، فما الذي حدَث لتتمرّد على قوانِين مشاعرها؟ حتى استسلامها لم يكُن أجباريًا ، لم تشعُر بالنفورِ داخليًا .. آآآخ كم أنا ساذجةٌ وحسب!! .. بالتأكيد سيفكّر الآن أنها أحبته ، أو ربّما تقبّلت حياتها معه ، لكنْ ما معنى أن تستسلمَ بطواعيةٍ دون أن تكون تقبّلت الحياةَ فعلًا؟!
عضّت شفتها بقهرٍ وهي تتمتم بحنق : أي فوق كذا مستحية منه؟! .. الله ياخذه هذا اللي كان ناقصني! .. أستسلم لوجهه الخايس ولا بعد أستحي منه هو !!!
وضعَت كفيها على وجهها وهي زفُر بقوّة ، لن تُصيبها الربكـةُ أمامه من جديد ، لن تتوتّر ، ولن تضعفَ له مرّة أخـرى ولن تستسلم! .. نعم ، لن تُعـادَ مسيرةُ غبائها ، لن يُضعفها بقبلةٍ سخيفةٍ مثله ، لن تشعُر بالطمأنينةِ بينَ أضلعهِ الشعثاء! .. غبية ، وهو أغبـى إنّ ظنّ أنني سأُهزمُ أمامه من جديد!! من هو؟ من هو لتجدَ أنّ عالمـه هو مختلف ، أنه ، أنه مُغرٍ للخوضِ فيه وللقبولِ بهِ لهفـةً للخضوع ! .. اتّسعت عيناها بغضبٍ من نفسِها ، لا تريدُ أن تعترف ، نعم ، لا تعترفي ، لا تعترفي أنّ مشاعـرك هُزمَت أمامه وأنّكِ بالفعـل شعرتِ برغبةٍ في الخوضِ أكثـر في عالمِ القبولِ به .. لن أقبل ، لن أقبــــ . .
شهقَت فجأةً بذعرٍ وانتفضَت ما إن سمعَت صوتَ هاتفٍ يرن، اتّسعت عيناها ، وارتبكت ما إن أدركت أنه عاد! .. عــاد!! ... احمرّت ملامحها بشدّةٍ وهي تقفُ ببعثرة ، أينَ ذهبَت الخُطط وأين ذهبَت وصاياها! .. لا تدري ، فقطْ أرادت الهرب الآن بربكـةٍ من حضوره ، خشيَت أن تتصادَم معه الآن ويُضعفها أكثر ، لا تريد أن تعود وترتجفُ بربكـةٍ أمامه . .
ابتلعَت ريقها بتوتّرٍ وهي تسمـع صوته يُحادِث في الهاتف ، كـانت كلمـاته تترجـم لأسماعها جيدًا ، تعقدُ حاجبيها ، وآخر ما وصـل إليها " يعني ما تعرفني يوم إنّك تحثني آخذ بحقي منه؟ " ومن ثمّ بدأ صوته بالخفوتِ حتى تلاشى بصعودِه ... همسَت بتعثّرٍ مذعورٍ وهي تجلس : ياخذ بحقّه؟
ماذا يعنِي هذا؟ ماذا تعنِي تلك الجملـة؟ تدرك جيّدًا أنه مجنونٌ كفايـةً لتتوقع منه أيّ مصيبةٍ قد يقومُ بها، اتّسعت عينـاها بذعرٍ وهي تغوصُ في احتمالاتٍ عديدة ، قد يكون مقصدهُ أمرًا عابرًا أو سخيفًا ، لكنْ ما الذي يثبت أنها ليسَت " مصيبة "؟


،


مرّت ساعاتٌ انتهـى فيها الفحـص ، رضّةٌ عنيفة ، وبضـعُ مشاعـر كُدمَت ، هذهِ الخسـائرُ وحسب ، كانت طيلةَ الدقائق الطويلةِ تُمشّط الغرفـةَ بعينينِ ميّتتين ، كـان يريد أن يأخذها للمشفـى، يدرك أنّ جسدها لم يكُن بخير ، إلا أنه لم يرغَب رغمَ ذلك في مساعدتها على السيرِ منذُ البدايـة ، بل تركها تتألمُ أكثر قبلًا! . . يدرك أنّ جسدها لم يكُن بخير ، وماذا عن مشاعرها؟ أيدرك أنّها قاسَت ماهو أكبر؟ أنها ظلّت خائفـة طيلـةَ الليل ، لم تنَم كمـا يجب، بعدَ وحشـةٍ لم تعتدْ فيها أن يغيبَ طويلًا ولا ينـام بجوارِها ، لم تعتَد أن تكون وحيدة ، من جديد!
ببرودٍ حملها بعدَ أن وصَلت بالكرسيّ المتحرّك إلى السيـارة، أدخلـها ، بطريقةٍ كانت باردة ، تستشعرُ في كلّ نفسٍ يخرجُ من صدرِه غضبًا من قربها منه، من كلّ إغماضـةٍ تقزّزًا ، وكأنه فقط كـان يحمـل حيوانًا نجسًا!
أجواءٌ صامتـةٌ أخـرى لم تنظُر فيها تجاهه هذهِ المرّة ، بل ظلّت فيها السيـارةُ تسيرُ بزخمٍ صاخبٍ بالهدوء! جــاءت اللحظـاتُ التي ترى فيها النبـذ من موطِنها، هاهـو ينبذُها ، ملاذٌ تكبّر عليها ، بل هي من صغرت ، صغرت حدّ أن تكون حقيرةً لتحظى بمأواه! . . ها أنتَ ذا موطِني الذي لفظنـي وأنا إليه راكعـة ، أتضرّعُ بخشوعٍ إليه ، وأتقبـل جحيمه.
تنظُر للأعلـى ، لسقفِ السيارة ، وتبتسمُ بحسـرة ، على كلّ ما كـانا سيعشانِه مستقبلًا . . . وضاع! ، على اللحظـاتِ التي انتظرتها ، إحداها أن يحمـل فيها ابنهما ، ويبتسـم لها ، وهو يلفُظ بحب " يشبه عيونك "! .. كـان طموحها أكبر منها! .. كـان طموحها مستحيلًا! يا الله كيفَ كانت تنتظرُ كلّ هذا؟ كيفَ كانت تنتظر؟ وتنهمرُ من شفاهها ابتسامات ، لتخيّلاتٍ فقط! . . يا الله! كم من القسوةِ لم تتركنِي بعد؟ لا شيء! .. كلّ القسوةِ مارسَت مواهبها عليّ حينَ مخضَت بأمنياتِي معه .. وأجهضتها ميّتة! .. كلّ القسوةِ مارسَت نفسها علي ، حينَ ابتعد!
ابتسمَت بحسرةٍ وخيبةِ أمـلٍ كبيرةٍ من الدنيـا ، بينما مرّ الوقتُ سريعًا قبـل أن تقفَ السيـارةُ أمام المنزل ، نـزل ، ومارسَ ما كرِه .. من جديدٍ اقتـرب منها، وشعـر بالشعورِ ذاتـه ، غثيـان! .. غضبٌ أكبـر ، قهرٌ أكبــر، الرغبـةُ في قتلها! تعودُ وتلفُّ ذراعها حوله بكلّ وقاحـة ، ماذا يتوقّع من أمثالها؟ حتى وإن كـان السبب تخفيفَ الضغطِ على موضِع ألمها ، إلا أنها كـانت وقحـةً كفايـةً لتهتمَّ بألمها وتحيطَ عنقه ، في اللحظـةِ التي كـان يجعّد فيها ملامحه بازدراء.
وصَل لأعلـى سريعًا، بينمـا حرّكت هي رأسها لتتباعدَ أذنها عن موضِع قلبـه الذي ينبـض بانفعـالِ الغضب ، نظـرت بربكةٍ للطريقِ الذي يسير فيه ، ستعودُ لتلك الغرفـة ، لتلك الليلـة ، للاختنـاق ، للوجـع ، وستعودُ من جديد ... تناديه! ولا يستجيبُ لندائها، كتلك المرّة.
ابتلعَت ريقها وهي تُغمـض عينيها بعدَ أن دفـع بابها بقدمه ، تشعُر بأحشائها تلتوِي، بقلبها يُعصـرُ بكفوفِ ظـلالِ تلك الليلـة، شهـق صدرها ببكاءٍ متوجّعٍ ما إن وضعها على السريرِ بانفعـالٍ وحدةٍ وكأنه كان يريد أن يتخلّص منها بسرعة، انقلبَت مباشـرةً متجاهلـةً ألمها لتواجهه يظهرها ، كي لا يرى دموعها أكثر! كي لا يرى ضعفها الذي بدأت تكرهه أكثر .. أدارته ظهرها ، في اللحظـةِ التي أمـال فيها فمهُ بقرف ، ومن ثمّ لفظَ ببرود : صليتي ظهر وإلا ناوية ترتدّين عن الملة وتردّين كافرة؟
عضّت شفتها وهي تِغمض عينيها بقوّةٍ وألـم، بينمـا مرّر سلطـان نظراتٍ غاضبـةٍ في الغرفـة ، تستفزّه! هذهِ الغرفـة تستفزّه كلّما تذكّر تلك الليلـة ، لا يثـق بتلك القصّة بالرغمِ من كونِ سعدْ سردها له ، قد تكون على معرفـةٍ سابقةٍ بإبراهيم! .. جاءَ إليها بعدَ أن طلبَت منه ذلك ، كلّ ذلك كـان خطّة! .. لمَ لا يكون الأمـر كذلك وحسب؟ .. تلك الليلـة كـان قد قرّر فيها أن تصبـح زوجته فعليًا ، فلمَ لا تكون قد افتعلَت تلك التمثيليّة حتى لا يكتشفَ كذبها من البدايـة ، حتى لا يكتشفَ حقارتها؟
سيحترق ، سيحترق!! ... لا يمكـن أنها استغلّته بهذهِ الطريقـة وهو كـان غبيًا ، كـان غبيًا واستطـاعت ببساطةٍ استغلالَ غبائه ، منذُ البدايـةِ كـان ساذجًا ، منذُ سمـح لها بالولوجِ إلى حيـاتِه . . . لم يشعُر بنفسِه إلا وهو يعودُ للاشتعـال ، منذُ متى انطفأ هذا الغضب؟ منذُ متى انطفأ قهره؟! لم تمرّ لحظـةٌ واحـدةٌ شعر فيها بالقليلِ من الاسترخاء منذُ أن أدرك الحقيقة . . نظـر إليها بقهرٍ يكادُ يقتلـه هو، عبـرت نظراته على جسدِها ليفيضَ في اشتعالِه ، هذا الجسدُ عبـرت عليه كفوفُ الحـرام ، هذا الجسدُ عُبِثَ به وجـاءَ إليه بقايا لتحتمـي باسمـه من التمرّغِ في الوحـل ، تحتمِي باسمـه ، ومن ثمّ تبدأ من جديدٍ ... بقايا!
اندفـع فجأةً إليها ، أمسكها من كتفِها بعنفِ أصابعه التي غرسها في جلدِها ، شهقَت وهي تشعُر بها يلفّها بحدةٍ لتصتدمَ ملامحها بملامِحه ، اتّسعت عيناها بخوف، كـان قريبًا ، قريبًا باشتعـال ملامِحه ، كـانت خطوطُ الغضبِ ترتسمُ بوضوحٍ على وجهه ، كـانت عيناه تفيضان ، تصرخانِ بالقهرِ ولا تتحدّثان! . . شهقَت مرّةً أخـرى حينَ شعرَت بأصابعه تشتدُّ على كتفِها أكثر ومن الواضِح أنه اختـار عظـام كتفِها هذهِ المرّة ، شدّ على أسنانِه ، ومن ثمّ وبقهـرٍ وازدراءٍ لفَظ : تبين تستخدمين اسمـي كستر؟ تبين تستخدميني أنا شمـاعة لقذارتك هاه !!!
ارتفعَت كفّه الأخـرى وهو يرمُق عينيها الواسعتين ، تهتزُّ أحداقها بخوف ، تبتلعُ ريقها بربكـة ، تذُوبُ داخليًا في أوجـاع، هذهِ المـلامحُ غادرتها سكينتها بسببي ، هذهِ الملامـح التي لطامـا كانت هادئـة ، صخبَت بكلّ تلك المشـاعر الحادة والتي أدرك أنها تؤذي النفـس قبل أن تؤذي سواها . . . عقدَت حاجبيها بألم ، لتغمـض عينيها وهي تكتـمُ صرخـةَ ألـمٍ من كفّه التي خلعَت طرحتها بعنف، ومن ثمّ مرّر كفه على شعرها ، وهو يهتفُ دونَ تصديق ، وبقهرٍ أعمـى وازدراء : كنتِ من البدايـة قذرة! .. كشفتي شعرك للحـرام ، لمسوه! ... كم واحد؟
شدّه فجأةً بغضب، ومن ثمّ صـرخ يريد أن يعـرف، يريد أن يعـرف ، عن كم رجلٍ سيكون هو؟ عن كم رجُلٍ سيكون هو سترًا؟ : كـــم واحـــد لمسْ شعرك ، جسمك! كم واحد قرّبك؟
نطقها وهو يتركُ شعرها ويمرّر كفه على جسدِها الذي اقشعرَّ وهي تشدُّ أكثـر على أجفانها ، كم واحدًا من قبلِه؟ هل هنـاك أحد؟ .. هل هنـاك أحد؟!! زمّت شفتيها بوجَع ، هل هنـاك أحدٌ سلّمته جسدها طواعيـة؟ سوى أنها أرادت ذلك ، ولم يحدث ، فقط مع سلطان وحسب! .. كم واحدًا تاقَت لقربه؟ حتى عبدالعزيز لم تكُن في تلك اللحظـاتِ تفكّر بهِ سوى ملاذًا مما كانت تعيشه ، كـانت تنتظُر أن ينقذها ممّا تعيشه ، لم تفكّر أبدًا بأمورٍ أخـرى كما يظنُّ سلطـان ، أنها رغبَت بالحرام ، وذهبَت إليه . . كم واحدًا؟ لا أحد!! .. لا أحد سلّمته جسدها ، لا أحد!
همسَت وهي تشعُر بكفّه تتضاعفُ وطأةً على كتفِها ، يؤلمـها ، لكنّ سؤاله الذي كرّره ، كـان أشدّ إيلامًا : محد.
سلطـان بغضب : نعم؟!
غزلْ تفتحُ عينيها ببطءٍ لتنظُر لعينيهِ بقوّة ، بقهر ، بدفـاعٍ عن نفسها : محد! .. محد كشفت شعري له ، محد كشفت جسمي له ... محد تمنيت أكون قريبة منه لهالحد .. إلا أنت!
تنفّس بقوةٍ وانفعـال ، وكأنه كان ينقصـه المزيدُ من الانفعـالِ لتقول ما قالت! .. ارتفعَت كفّه المُمسكـةَ بكتفِها ، أمسكَ بفكّها فجأةً بقوّة ، ليلفظَ أخيرًا بجنون : في البداية كـان واحد .. والحين محد؟ .. الله عليك كذبات في تطوّر.
غزل بصعوبةٍ وهي تقاومُ آلامها : ما سلّمته نفسي ... كـان واحد ، وصار اللي ، صـ ـار قبل يوم ، ملكتــ ـنــا ... بدون رضاي.
شدّ بكفٍّ متشنّجةٍ على فكّها أكثر ، وبعيونٍ اتّسعت أكثر حقدًا وازدراء، لفظ باستخفاف : تحبين دور المغتصبة كثير!
غزل تبتلـع غصّةً كـان مذاقها كالصديد : كـان واحد ، واحد بس ، غدرنـي ، ما .. ما * أكملَت بصعوبةٍ من قبضتِه التي تزيدُ في الضغطِ على فكّها * مـا سلّمته جسمـي ، يمكن كانت غلطــــ . . . آآآآآه
لم تستطِع أن تُكمـل ، وأد بقيّة كلمـاتها حين شدَّ بقبضتـه بالقوة الكافيـةِ لتُخرسها ، ولو أنّه شدّ أكثـر لربّما حطّم فكّها . . . همسَ بفحيحٍ غاضبٍ وهو يضغطُ على رأسها بغضب : تحبين دور المغتصبـة، الكذب يمشِي بعروقك ، أيش بعد؟ . . شلون تبيني أقتنـع بكذباتك الجديدة؟ واحد، وبدون رضاك ، ومن شوي محد!
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تشعُر بالألـم ، لم تستطِع أن ترد، في حينِ انخفضَ سلطـان بوجهه إليها قليلًا ليهمـس : في النهايـة ، طلعتِ بس ... مجـرد عــــ . . .
شدّت بقوّةٍ بأظافرها على ذراعـه تمنعـه من قولها ، اتّسعت عيناه بجحيمٍ وهو يشعُر بأظافرها تخترقُ جلدهُ وتُدميه ، تركَ فكّها فجأة ، ومن ثمّ ودون مواربـةٍ من بابِ انتظـار، صفعها صفعـةً أدارت وجهها جانبًا ، تأوهت بألمٍ وهي تشعُر بصريرٍ عبر في أذنها، وضعَت يدها على خدّها ، بينما كفّها التي كانت تُمسك بذراعِه ترتخِي لتسقطَ أخيرًا على السريرِ وهي تشعُر بدوارٍ أصابها ، تسقطُ ببطء ، تنسلُّ للأسفـل، إلى القـاع الذي اعتادته، تسقُط عن ملمسِ بشرته الخشنـة وتضيعُ في خشونةٍ أكبر ، يا الله هذا البئرُ الجاف الذي أسقطُ به عميق! لم أصـل، لم أصل بعدُ إلى قاعِه ، هل هناك قـاع؟ أمْ أنّني ، وإلى الأبدِ سأظلُّ أسقطُ بصمتٍ يضجُّ بانهزامِي، دون أن يتحطّم جسدِي أخيرًا باصتدام؟ هل سأبقى أنتهي .. دون ممات؟!
بينما كان سلطـان ينظُر بغضبٍ لذراعـه التي وُشمَ فيها أربـع مواضِع غُرسَت فيها أظافرها ، احمرّت بلونِ الدمـاء، لتشتدَّ عيونه وهجًا بغضب ، وهو يلفظُ دون تصديق : للحين فيك جرأة ، لا ... وقاحة ما أتخيلها انخلقت بمخلوق!
نظـرت لهُ بتشويشٍ وهي تفغـر فمها بآهـةِ وجـعٍ من صدرِها ، كـان الوجعُ من الداخـل ، من موضِع قلبها ، أضلعها ، ورئتيها اللتينِ تتنفسانِه ، وجعًا ، لأنه للمـرّة الثانية . . صفعها! وفقدَ جزءً آخر من نفسِه، لأنه ليسَ سلطان ذاته، ليس سلطان! . . . همسَت بغصّةٍ وعذاب، بنبرةٍ ترتعشُ وتختنق أكثر : لا تقذفني! سوّى كل شيء ممكن يبرد خاطرك فيني ، بس تكفى لا تقذف، لا ترتكب كبيرة ، تراني ما أستاهل تزيد بسببي ذنوبك! ما أستـاهل تتعاقب بكبيرة


،


هروَل على عتباتِ الدرج نزولًا وهو ينظُر لساعةِ معصمه ليرى أن النصفَ ساعةٍ أصبحت ساعة، عضّ شفته وهو يبتسم ويهمس : يلا ما عليه نص ساعة زيادة بالانتظـار تكفي عشان يرتفع ضغطه شوي.
أمـال فمه ومن ثمّ تـابع سيره نحو الباب، لكنّه توقف فجأةً ما إن وصَل لمسامِعه صوتها الناعـم والذي لفظَ اسمه بخفوتٍ مرتبك : أدهــم . .
عقدَ حاجبيه في بادئ الأمـر، وسرعان ما ابتسـم واسمه من صوتِها يجيءُ محفّزًا لخلايـاه أن تنضج أكثر باسمها هي! . . استدارَ ببطءٍ وهو يلفظُ بصوتٍ رقيقٍ ويطرد كلّ فكرةٍ سلبيّةٍ قد تطرأ على عقله : سمّي.
إلين التي كـانت تقفُ بعيدةً عنه اقتربَت ببطءٍ منه وهي تُشتّت عينيها وتزفـر، أغمضَتهما قبل أن تمرُّ فيهما نظرة الاصرار، ومن ثمّ فتحتهما لتلفظَ بعد أن وقفَت أمامه تفصُل بينهما خطوتين فقط : وين رايح؟!
أدهم يُميل فمه قليلًا باستغرابٍ من سؤالها، إلا أنه لفظَ أخيرًا بهدوءٍ مُبتسم : طالع مع خويّي لا يكون بنرجع لموّالنا القديم!
كـان يقصدُ حدّتها الدائمة معه حين يخرج وتبقى هي في البيت، تنهّدت بقنوطٍ غاضبٍ بعض الشيء، ومن ثمّ لفظَت باستنكارٍ وهي تعقدُ حاجبيها، تريد أن تتأكّد منه : يعني ما وراك مصيبة؟ ترانِي سامعتك وأنت تقول بتاخذ حقك ومدري أيش ، وأنا ما أضمنك يعني!
ارتفعت حواجبه دون فهمٍ في البداية، لكنّه سرعان ما غـرق في ضحكةٍ عميقةٍ ليتحرّك قاطعًا المسافـة بينهما، شعر بِها تتراجـع لتهرب، لكنّه مد يدهُ قبل أن تبتعدَ وأمسك معصمها لافظًا بتسلية : أيه ، بروح أذبح لي واحد بعد ما كشخت ... هذا هو استنتاجك صح؟
تشنّجت ملامحها بانفعـال، حاولَت سحب يدِها منه وهي تلفظُ بضيق : أنت لو وراك عصابات ماراح أتفاجئ .. كل شيء متوقّع منك.
أدهم يكتم ضحكته، وبتلاعبٍ واضحٍ إلا أنّها ومن تشوّشها قرأت فيه الجدّية : ليه ما أكون طالع بموعد غرامي مع أي بنت؟!
شهقَت بصدمةٍ وهي توسّع عينيها، وبنبرةٍ تصلّبت كجسدِها : تسوّيها؟!!
أدهم يعضُّ شفته كي يمنـع نفسه من الضحك، سحبها إليه، ومن ثمّ وضع كفيه على خصرها يحاصرها بحرارتِهما، ويبتر ابتعادها عنه، ليهتفَ أخيرًا بخفوت : لا يروح بالك للحرام .. يمكن أكون متزوج! وعندي عيال من غيرك . . يعني معك شخص كل شيء منّه وارد صح؟
إلين تبتلع ريقها بصعوبة، يمزح ، يريد استفزازها وحسب، لكن ماذا إن كـان فعلًا كذلك؟ ألا تتوقّع منه كلّ شيء؟ ربّما كان متزوجًا ولديه أطفـال ، " الحقييييييييير " . . شعرَت بالغضبِ يتصاعدُ بغليانِه في دمائِها وهي تتخيّل ذلك، أن تكون تزوّجت برجلٍ متزوج! . . دفعته فجأةً بغضبٍ وهي تلفظُ من بين أسنانها بحرارةٍ وغضب : والله والله لو أكتشف إنّك مسوّيها ما أظل عندك دقيقة وحدة !!
أدهم باستمتـاعٍ وغضبها يُثير فيه نشوةَ رضا : تغارين علي؟
لفظها بسخرية ، لكنّه كـان في الخفاءِ يتمنّى ردًا يثبت ذلك منها ، شيئًا يُثبت أنّ هناك ما تغيّر في مشاعرها، شيئًا غير القبولِ بِه زوجًا . .
اتّسعت عينا إلين بصدمةٍ من تفسيره، أمالت فمها بعد لحظةِ صمتٍ بازدراء ، ومن ثمّ وباستهزاءٍ مرير : أغار؟ ليه يعني على بالك البنت لو يهمّها اعتبارها يعني تغار؟
لم تكُن هذهِ الإجابـة التي ينتظر ، على الأقـل النبرة! شيءٌ كالكذب .. هذا ما أراد! . . عضّ باطِن خدّه بحنقٍ منها، إلا أنه لفظَ أخيرًا ببرودٍ مستفز : لا تقولين بنت.
تصلّبت فجأةً بصدمـة، وسرعان ما احتدمَت في ملامِحها حمرةٌ نطقت معها بعلوٍّ غاضِب من إصابتها بالخـجل في هذا الوقت تحديدًا : لا تقل أدبك !!
أدهم باستفزازٍ وهو يعودُ لإمساكِها من خصرها ليجذبها إليه هامسًا : اششش ، إذا بالنسبة لك قلة أدب فأنتِ كنتِ شريكة معي ... وبعدين ليتك تطوّلين بوضعيّة الميتة من الحيـاء ما شبعت منها للحين . . لا ترفعين صوتك ولا تهاوشين، طيب؟
إلين بقهرٍ وملامحها تحمرُّ بصورةٍ أكبر : لا تبدّل الموضوع.
انخفضَ أدهم بوجههِ ليقبّل أرنبـة أنفها أخيرًا، ومن ثمّ يهمـس بصوتٍ مسترخي ، بصوتٍ يملأه الرضـا على استسلامها له : كنتِ لذيذة! لذّة تشبه عيونك وبس.
ارتجفَت شفاهها لتُخرس الردودُ من فمها، توسّعت عيونها وهي تشعُر بشفاهِه تُقيم الاحتلالَ على شفتيها، يُكرّر اثبـات سطوتِه عليها، ينقُش مذاقها من جديدٍ في فمِه ، وكأنّه سينسى مذاق القبـلة الأولى! بالتأكيد لم يُخلق النسيـان في القُبَل، لم يُخلـق في العناقات، وفي لذّةٍ تُشـابه مذاقها ، كـانت لذيذة، أشبـه بخمرٍ مُحلّى بالإباحـة، أشبـه برائحةٍ عطريّةٍ تُزكـم أنفه عن سواها ، كـانت لذيذة، ارتواءٌ لا ينضب، كمـاء الكوثرِ في الدنيا، وجنّةٍ حيّة.
أحاط خصرها ليعانقها إليه بتملّك، قبّل الوشم بجانِب فمها ومن ثمّ ابتعدَ عنها قليلًا وهو يتنفّس عطرها، تراجعَت للخلفِ بتعثّرٍ وهي تنظُر للأسفل وتتنفّس بسرعة ، تمرّر لسانها على شفتيها بجفافٍ يُصيبُ أودرتها الخجـلى، لم تنظُر نحوه وهي تفرك كفيها ببعضهما، تشعُر بحدّةٍ غُمدَت في جلدِها، تشعُر بسيرٍ خافتٍ كوقـعِ الدبيبِ على جسدها ، لا يُمكـن أن يتغلّب عليها ببساطةٍ في - قبلة - وتخسـر هي في ربكـة، لا يُمكن أن تكون بهذا الضعفِ المُزري أمامه ، إن كانت قبلةً واحدةً تفتعـل فيها هذا الجمود - عن المقاومة - ، فكيفَ عساها تمنـع اقترابًا آخر بينهما كما قرّرت.
زمّ أدهم شفتيه كي يُلاشي ابتسامته ويرسـم فس ملامِحه جدّية الشغفْ! لفظَ بعدَ وهلةٍ بخفوت، بعد وهلـةٍ انتظمَت فيها أنفاسه : ترانِي ما عقلت على هالكبـر ، إذا خايفة من مصايبي هذّبيني . . لازم أصير أبو عشان أعقل.
تشنّج وجهها بصدمـة، بينما ولّف أدهم تلاعبـه بنبرتِه الجادّة وهو يردف بتسلية : لا ترجعين للصد ... ترى فاهمك كويس.
لم تملك ما تقُول ، لكنّها هزّت رأسها بالنفي، هزّته بمعنـى أنها " لن تستجيب "، ستصدّ ، لن تسمـح لهُ بأن يضعفها من جديدٍ ويقترب !!!
أدهـم وقد فهمها جيدًا ، لفظَ بتحدّي : نشوف.
عضّت شفتها بقوّةٍ وهي ترفُع وجهها نحوه، بينما ابتسمَ هو ليرفـع كفّه في تحيّةٍ باردةٍ مستفزّة ، حملَت الكثير من التحدِي . . ومن ثمّ ابتعد، ليخرج.


،


صعدَ للسيـارةِ ليطبق البـابَ بعدَ دخولهِ بأقصـى ما استطـاع ، اتّسعت عينـا أدهم بصدمةٍ وهو يصرخُ بغضب : الله يكسر يدك يا كلـــــب !!!
متعب يعتدلُ بهدوءٍ في جلوسِه ومن ثمّ يزفُر باسترخـاءٍ وهو يردُّ بصوتٍ هادئ : عن ساعة تأخرتها.
أدهم يُميـل فمه وهو يُحرّك السيـارة، وبتوضيحٍ بارد : ساعـة أخذتها وأنا أتجهز نحسب منها النص ، ربـع ساعة شيء خـاص ، والربـع الثاني بالطريق.
متعب بسخرية : كانت نص ساعة يا حظّي! تعديت البنات بموهبـة التأخير ... ساعة يا اللي ما تخاف ربك!
أدهم : النظـافة من الإيمان.
متعب : ولا تسرفوا.
أدهم يزفُر بضجر : خلاص اسكت لا تغثني بس! وين الحين نروح بالضبط الشوارع زحمة !
متعب : خذنِي لجرير بالأول أبي لي كم شغلـة ...
أدهم ينظُر لهُ من زاويـةِ عينِه بملامِح حادة ، ضحكَ متعب ومن ثمّ أردف : لا تصير سخيف فوق المعتـاد .. مر جرير وأنت ساكت ..
أدهم : الحين يوم إنّك مثقف بزيادة لازم تنكبني؟!
متعب يمطُّ فمـه بضجر : يا ليل بس! .. هذا وأنا ما قلت لك بنقابل شاهين بعد المغرب؟!
أدهم يشدُّ على أسنـانه بحنق : لا كملت! .. والله كملــت هذا اللي كان ناقصني بعد!
متعب : ههههههههههههه ليش الأخلاق التجارية بس؟! .. المفروض دام إنكم تعرفتوا من قبل على بعض يكون اللي بينكم بسيط مو كره! يعنِي بس تاخذ حقك على المقلب الاخير ، من بعدها لازم تظهرون الحُب والتسامـح
أدهم بازدراء : حب؟! هذا اللي كـان ينقصني .. حب وتسامح لمين؟! لحيوانك الصغير.
متعب يخرجُ هاتفه من جيبِه : بسجّل كل الكلام عشان يكون له الحجـة بعدين .. لا تقول وقتها دوري أنا مو دوره!
أدهم : يا سمجك والله.


،


بعد المغرب ، نزلَت بعدَ أن تجـاوزَت الآلام في جسدِها، تضعُ كفّها على بطنِها وتزفُر ، تُغمـض عينيها قليلًا ، إغمـاضةً ترتخِي بذكرى صوتِه الذي زخـم باعتذارِه، صوتِه الذي خبّأت من خلفِه ردودها ، ولم تهمـس بإجابـةٍ سوى : فمان الله! . . " فمان الله " على كلّ شيء! على كلّ اللحظـاتِ التي كـانت بينهما . . لمَ يؤلمها أنّ مسيرتهما كانت قصيرةً حدّ أن انتهيا بسرعـة ، انتهيا للأبد! لمَ لم تشعُر بالسعادةِ التي توقّعت أن تشعُر بها إن كـان موتُ متعب " وهمًا " من عقلها كمـا كانت تتمنى! .. لمَ لم تشعُر بالسعادةِ لعودتِه التي آلمتها وحسب! آلمتها أنها كـانت ضمن حياتِه في جانبٍ قصي ، لم يبالِي بها! .. ماذا كـانت بالنسبةِ له؟ لا شيء ! لا شيء إطلاقًا ، لم تكُن سوى امرأةٍ عبـرت في حياتِه كعابرِ سبيل ، لم يكونا معًا ، ولم ينهلّ من استقبـالٍ دائـم ، حتى تُصبـح في النهايةِ جزءً منه، لم تكُن شيئًا له! .. لا شيء!
إذن ، لمَ بكيتُه؟ لمَ ظللتُ السنينَ أعانـي الغياب؟ أذرفُ دمعـاتِ الاشتيـاق، وأتلحّفُ برائحتِه في صدرِي ، رائحته التي تشرّبتها مساماتِي! لمْ أكُن شيئًا ، وبقيَ فيّ كـل شيءٍ أوجعت فيه من سواي ، أوجعتُ فيه من حولِي ، حتى أخاه! والذي ، والذي هو زوجي الذي فقدته أيضًا!
ابتسمَت بأسى وهي تدخُل للمجلـس ، تريدُ أن تستقبـل عُلا في قدومها ، لكنّها لا تظنُّ أنها ستستطِيع ، استطاعَت أن تأتِي إلى هنا بصعوبة ، ولن تستطِيع الوقوفَ لوقتٍ أطول. جلسَت ، ومن ثمّ أعادَت رأسها للخلفِ وهي تتأوّه آهةً خافتـة ، في اللحظـةِ ذاتها التي دخلَت فيها أمها وهي تلفظُ بتساؤل : بتجِي الحين؟
أسيل تهزّ كتفيها : مدري أي ساعـة بالضبط بس أكيد بتجِي بدري .. مو من عادتها تتأخر برى البيت.
فتحَت عينيها وهي تنظُر لأمها التي جلسَت وهي تزفُر بصمت ، وبتردد : يمه .. يا ليت ما تفتحين معها موضوعي أنا وشاهين حتى لو هي اللي حكَت ضيعي الموضوع، بتكلّم معها بنفسي.
ام فواز تُشيح نظراتها عنها بضيق : بشوف آخرتها معك أنت وهو.
أسيل بابتسامـةٍ زائفـة : خليني أنا وشاهين على جنب المهم خالتي الحين ، تراها زعلانة من شاهين اليوم وأضربت عن الأكـل ، فعشاها علينا.
أم فواز باستنكـار : الحين يسولف لك عن أوضاعه مع أمه هو ووجهه ولا فكّر حتى بوضعك؟
أسيل تمرّر لسانها على شفتيها ، تحافظُ على بسمتِها بصعوبـة ، بصعوبةٍ رُسمَت ، وبصعوبةٍ تقاومُ تيّاراتِ محوها وتحميها ، لفظَ بنبرةٍ تتصنّع اللا مبـالاة ، تمامًا كما كـانت تتصنّع أمامه وتخفِي حقيقـة ما يجولُ في صدرها : عشانِي يمّه قفلي عن هالموضوع الحين .. يعنِي أكيد ما تتمنين أتضايق؟!
أم فواز بأسـى : هذا هو .. ما أحب ضيقتك!
عندَ تلك الجملـة كـان جرسُ البـابِ يصخبُ بصوتِه ، وقفَت ام فواز بسرعةٍ وهي ترى أسيل تحاول الوقوف ، وبحزم : خليك جالسـة ، أنا بستقبلها.
لم تحاول المعارضـة وهي تعودُ للجلوس ، زفـرت بصمت، بينما ابتعدَت أمها نحوَ البـاب ، في اللحظـاتِ ذاتِها التي غرقَت فيها أسيل بأفكـارِها ، تعقدُ حاجبيها ، والصمتُ في صدرِها لهُ صدى ، كيفَ يكون للصمتِ صدى إن كان رحمُ الصدى من الضجيج؟ إلى متى هذا الستـار الذي تُحيطُ بهِ أوجاعها ، إلى متي تُخفِي قهرها ، وتتصنّع أنها غيـر مباليةً بالأشهـر التي مضَت مع شاهين ، بسبب غيابِ متعب! .. إلى متى ستكذِب وتقول أنّ أسباب غيابـه لا تهمّها؟ وهي التي ظلّت في البارحـةِ تغرقُ في تحليلات ، لمَ غاب؟ ماهو عذرُه الذي لم يطرحـه شاهين على مسامِعها؟ لمَ غـاب؟ ما الذي دفعـه لكلّ هذا؟ ما الذي خوّل لهُ المغيبَ في غربِ الحكـايات ، لتبقـى هيَ لوقتٍ تغـرقُ في ظـلامِ قمرها بعدَ أن غابَت انعكـاساتُ نوره!
ابتلعَت ريقها ، وعينيها تغيّبهما غشـاوةُ الخذلان ، ما الذي يوجعها أكثر ، أنه غاب، أم الفـراقُ الذي احتدمَ بينها وبين شاهين! .. ما الذي يوجعها أكثر ، السنين؟ أم المسافـةُ التي تفصُل بينها وبينَ شاهين؟ . . . شاهين ، الذي يقفُ الآن ربّما عندَ البـابِ بعدَ أن أوصـل أمه ، أو ربّما يجلـس في السيـارةِ منتظرًا دخولها . . . شاهين الذي هو قريبٌ الآن ، وبعيدٌ في ذات اللحظة! .. بعيدٌ بدرجةٍ توجعها ، ويوجعها معها ... ما فعله متعب بِها !
ابتسمَت وهي تقفُ متجاهلـةً أيّ ألمٍ قد يطرأ عليها ، رأت عُلا وهي تقتربُ منها بحب، باشتيـاقٍ إليها ، لطـالمها كانت كأمها ، لم تستشعِر وهي قريبـةً منها أنها ام زوجِها وحسب .. أم متعب ، أو أم شاهين !! . . عقدَت حاجبيها بوجـعٍ وهي تقبّل رأسها وتهمـس بصوتٍ ملتـاع ، شاكٍ بشكوى صامتـة ، تتردّدُ بصداها في صدرها ، شكوى لم تنطقها بلسانها ، شكوى من ابنيها ... ماذا كنتُ لهما؟ ماذا كنت؟ ... أوجعانِي يا أمّهما ! .. كما أوجعكِ أحدهما بفقدِه ، كمـا كان بكائك عليه دون عائـد ، كـان بكائي أيضًا .. ذاك العـزاءُ يا أمهما ، كـان لزيفِ موت! .. قتلنـي ، ونكّل بي الآخـر ، دون سبب! سوى أنهما شقيقان ، سوى أنّني في حياتِهما ، كنتُ الدخيـل المؤقت ، والذي لا يضرُّ فيهما شيئًا غيابه!
حضنتها علا ، بينما كـانت أسيل تهمـس ، دون أن تنطـق ما جال في خاطرها : وحشتيني !
عُلا باختنـاق : آسفـة ، آسفـة يا بنتي على كلّ اللي سواه فيك شاهين!


،


بعدَ أن انتهـى من صلاةِ العشاء استقـامَ كيْ يخـرج، مشى خطواتٍ كانت تتعثّر في استمرارها، يقفُ رادًا على سلامِ البعضِ الذين يتبعُون سلامهم باسم سلمـان ، يسألون عن حالِه ويتحمّدون له بالسلامـةِ وهو يبتسـم ببرودٍ ويردُّ مجاملًا ، وصـل للبـابِ في اللحظـةِ ذاتها التي شعَر فيها بكفٍّ على كتفِه ، أغمـض عينيهِ بصبرٍ ومن ثمّ استدارَ في اللحظـةِ التي جاءَ فيها صوتٌ فاجئه : وأنا وش ينقصني عشان ما أسلـم عليك وأتحمّد لعمك بالسلامة؟!
عقدَ سلطـان حاجبيه وهو ينظُر لعنـادْ ببرودٍ بعدَ أن استوعبَ وقوفه خلفه، ابتسـم عنادْ ، ومن ثمّ أردفَ بتساؤل : شفيك؟ منت على بعضك من دخلت المسجد وأنا ملاحظـك بعالم ثاني.
سلطـان يستدير بتجاهـل كي يخرج ، دسّ قدميهِ في حذائه دون ردّ ، بينما فعـل عنـاد كما فعـل هو وصوتُه يخرجُ إليهِ هادئًا مبتسمًا : كنت عند عمي سلمان وقت كلّمته.
تصلّب وجهه فجأة ، نظـر للأرضِ بقتامـة ، بينما تابـع عناد بنبرةٍ لا مبـالية : ودريت عن اللي قلته له.
سلطـان يوجّه نظراته إليه بهدوءٍ أجـوف تعبـرهُ الريـاحُ وتنشُر في حزيئاتِه صريرًا يعنِي الفتـور : مو كأنك صاير قريب منّه هالأيـام؟ وإلا كنت كذا من قبل وأنا ما أحس!
عناد ينظُر لهُ بعينينِ هادئتين : بتشك فيني؟
سلطـان بنبرةٍ تشدّد على الأحـرف : لا تعطينـي هالمجـال.
عنـاد بابتسامةٍ متباسطةٍ وهو يتحرّك : بتصرف على سجيّتي في كل الأحـوال.
سلطـان ينظُر نحوه بضيقٍ وهو يجعّد ملامـحه : حاول ما تكون سجيّتك غدر .. هذا بس المطلوب.
عنـاد يُديرُ رأسه نحوه وهو يعقدُ حاجبيه باستنكـار : صارت وسوسة عندك؟ مرّة وحدة ما تحكم على كل اللي قربـك ... ولو بغدر فيك بيكون بجلوسي معه في المستشفى؟!
تحرّك سلطـان ببرود، يبتسـم بسخريـة ، بيتـه قريبٌ من المسجِد، لذا كـان يسيرُ على جانِب الطريقِ ومعه عنـاد الذي تعمّد الصــلاة هنا حتى يلتقيه، ردّ بعدَ خمسِ خطواتٍ صامتـة، بصوتٍ جهوريّ .. خائب! : سوى كل شيء تشوفه صح .. إلا أنك تكذب، تظهـر قدامي بصورة ومن وراي بثانية . . ملّيت دور الغبي.
ضيّق عنـادْ عينيهِ باستنكـار ، ما تلك النبرة؟ وكلمـاته هذه! .. لم يفكّر بذلك منذُ اكتشف سلمـان ، فما الداعِي ليقولها الآن تحديدًا؟! .. هل كـان على حقٍّ حين شكّ بأن هنـاك ما حدثَ له خلال هذهِ الأيـام؟ تحديدًا خلال اليومين الماضيين . . تابعـه بعينيهِ في بادِئ الأمـر ، إلا أنه في النهايـة سارَ بخطواتٍ واسعـةٍ حتى أصبح يمشي مجاورًا له، وبهدوءٍ متسائل : وش صار معك؟
سلطـان الذي يدرك معنى سؤالِه جيدًا : وش صار؟ أبد كل خير.
عناد : منت بخير.
سلطـان ببرود : إذا تدري ليه تسأل؟
عناد بشك : متعلق بعمي سلمـان؟
سلطـان يرفعُ حاجببًا وهو ينظُر نحوه بحدة : وش قصّة عمـي هذي؟ ما تعرف تقول له سلمان وبس.
عنـاد يرفـع حاجبيه بتعجّب : نعــم !!
سلطـان بسخرية : قاعـد تعظّمه بزيادة بهالفتـرة ، وش القصة!
عناد دون تصديق : أنت صاحِي على اللي تقوله؟
سلطـان من بينِ أسنانه بقهر : أجل فجأة كذا صرت تهتم فيه وتجلس معه بالمستشفى لوقت طويل ، وتناديه بعدْ عمـي مع إنّك بفترة كنت تقول اسمه حاف !
عناد يُميـل فمه باستنكارٍ وهو يرفـع أحد حاجبيه، تسارَعت خطواتُه فجأةً ليسير مبتعدًا عنه وهو يلفظُ بتهكّم : إذا صحيت من سكرتك كلّمني وقتها .. عقلك رايح فيها الحين.
سلطـان بغضبٍ ينظُر نحوه بعينينِ متّقدتين : وش قصدك؟
عنـادْ ينظُر نحوه وهو على بعدِ خطوتينٍ منه : قلته بكلامي لو ركّزت .. عقلك مو براسك .. مدري وش صار بالضبط عشان تجيني بهالهبال .. يعنِي ما نصدّق على الله نقول عقلت شوي إلا وترجـع أردى.
سلطـان من بينِ أسنانه : لا تغلط!
عنـاد لازال محتفظًا بهدوئه : وش صار لك؟ تحديدًا من بعد ما طلعت من المستشفى أمـس .. مين اتّصل فيك وانقلب من بعدها حالك؟
سلطـان يتجـاهل أسئلته تلك ويركّز على نقطةٍ واحـدة : قالك سلمـان عن هذيك المكالمـة وطلوعي بعد؟ * بسخرية * لا والله واضـح العلاقة صارت بينكم قويّة .. قويّة مرة من وراي!
عناد : مين اللي قهرك كذا؟ .. وأيش علاقته هو بالموضوع؟
سلطـان بصوتٍ يحتدُّ أكثر : لا يكون قالك تستجوبني وبعدين تعلّمه اللي بقوله ... هه على أسـاس يعنِي بيكون شيء ينقـال! علّمه بس إن قهرهْ لي هالمرة ما يروح بانتقـام أو بدم ... هالمـرة بيظـل ملازمنـي ... طول عمري! بظـل مقهور من أمـس للدهـر كله.


،


توقّفت أمـام النافـذةِ وهي تفركُ عضدها العاري بكفّها الأخـرى ، خيطٌ رفيـعٌ يعوجُّ ظاهرًا بلونِه القرمزيِّ في حلكـةِ السمـاء، يشـارف المطـر على زيارتِهم ، تشـارف السمـاءُ على مدِّ أناملها المتنـاثرةِ إليهم لتتّصل بشكلٍ حسيٍّ بالأرضِ المخضرّة والتي حملَت من فوقِها أجسادًا قاحلـة ، وقلوبًا متهدّلةً من الجفـاف .. اسندَت جبينها على النافـذةِ وهي تنظُر للسمـاء التي ينقـش البرقُ عليها لونهُ بافتتـان ، كأنه قلبها ، حينَ اسودَّ حلّ فيـه برقٌ وأنــارهُ نورٌ سرعـان ما راحَ في غياهِب الخيانَة! .. كـان نور ، كيفَ سُرقَ من " غيهب "! .. كـان نور ، كيفَ افتعـل فيه مصطلـح - القبسِ - انتفاضـة؟ كـان دائمًا .. سراجًا مُنيرًا ، وآيةً تتلُو في أسطرِها أسطورةَ معزوفـةٍ لم يسمعـها سواها ، فهل فعـل ، وأسمعها لها؟!
عقدَت حاجبيها بضيقٍ وهي تتخيّل للحظـةِ أن ينطقـها لسواها ، أن تجري " أحبّك " لمسـامعِ امرأةٍ غيرها ! .. يا الله ألـم تكتفِي بالجنونِ الذي غلّفها بِه حتى الآن لتفكّر بتلك الأفكـر في لحظـاتٍ كهذِه! . . مرّرت لسـانها على شفتيها وهي تبتعدُ عن النـافذةِ البـاردة ، تحرّكت نحوَ البـابِ حتى تخرجَ من الغـرفة ، لا تريدُ أن تكونَ قريبةً من النافـذة ، تخشى أن تسقطَ أنظـارها فجأةً عليه ، كتلك المرّة ، يسيرُ بجوارها ، يُمسكُها ، ويضحك معها ! ستجنّ ، وربّما تفعلها هذهِ المرّة وتقتحـم شقّته فتسحـق عنقها وهو معها! . . خرجَت للصـالةِ لتجدَ نقاشًا يحتدمُ بينَ أرجوانْ ويوسف ، عقدَت حاجبيها باستغراب ، ومن ثمّ اقتربَت منهما وهي تلفُظ بتساؤل : وش فيه؟
أرجوان تنظُر نحوها بانفعـال، صراعٌ يُقـامُ في أحداقها وهي تقتربُ منها بخطواتٍ واسعـة ، وقفَت أمامها مباشرةً وهي تلفُظ بنبرةٍ مختنقـة : اسوارتي اللي ظنيتها انسرقت بالمطعـم هذاك اليوم تذكرينها؟
تضاعفَت عُقدَة حاجبيها وهي تلفُظ دون فهم : أيوا شفيها؟
أرجوان بانفعـال : تخيلي تو اتّصـل موظف من المطعـم وقال إنّها عندهم ، تذكرين رجعنا وسألنا عشان أتأكد هي مسروقة وإلا طاحت مني ، بس وقتها ما كانت موجودة بس عطيناهم رقم أبوي عشان لو حصلوها يتصلون .. وصار وحصّلوها من كم يوم بس ما جينا ببالهم واليوم اتّصـل بعد ما تذكّرنـا.
جيهان دون استعياب : ما حصّلوا غير الاسوارة؟
أرجوان بانفعـال : ما يهمنـي غيرها .. بس تخيلي أبوي رافـض نروح اليوم! .. أبي أروح قبل يقفـل المطعـم وهو معيّي.
جيهان تنظُر نحو والدها الذي كـان يجلسُ وملامحـه المتباعـدةُ عنهما تشتدُّ بغضب ، مرّرت لسانها على شفتيها ومن ثمّ أعادت نظراتها لأرجوان ، وبرويّة : طيب الجو ما يساعد ، روحي بكرا مثل ما يقول أفضـل.
أرجوان تعقدُ حاجبيها بجزع : يعني حتى أنتِ! أنا ما صدّقت طلعت تبوني أنتظر بعد !! طيب لو صار وضاعت من جديد وش بسوّي بيفيدني الجو؟ بعدين المطعـم مو بعيد!!
جيهان : طيب هم يعني ما لقوها غير من كم يوم!! .. صار لها وقت ضايعة ما راحت مع التنظيف ما شالها أحد غريبة!
أرجوان بانفعـال : يمكن واحد من الموظفين انتبـه لها ومسكها عنده من ذاك اليوم ...
استدارَت إلى يوسِف لتُردفَ برجـاءٍ وهي تقتربُ منه : يبه تكفى .. الله يخليك المطعـم مو بعيد نشيلها بس ونرجع محنا مطولين.
يوسفْ بحدّةٍ وهو ينظُر لشاشة هاتفه ، ودون أن ينظُر لها لفظْ : قلت لك لا !
أرجوان باختنـاق : يبه !
زفـر بقلّةِ صبرٍ وهو يرفـع وجهه، يكـادُ يفقدُ أعصابـه لا محـالةَ وينفجـر بغضبِه! . . لم يردَّ عليها وهو يقفُ بانفعـال ، تحرّك ليتجـه لغرفـته ويتجـاهل نداءها المتوسّل . . زفـرت وهي تغمـض عينيها بعدَ أن أغلقَ البـابَ مُنهيًا النقـاش الذي كـان بعيدًا عن هذا المصطـلح بينهما ، في حينِ اقتربَت منها جيهان وهي تلفظُ بهدوءٍ تريد أن تُبعـد انفعـالها عنها : ما بيصير شيء وبتحصلينها بكرا .. وش فيها لو انتظـرتِي؟
أرجوان تنظُر لها بوجوم : ما صدّقت يوصلنـي إنهم حصلوها ، كنت خلاص مقرّرة أتناساها بس يوم اتّصلوا تجننت! .. والله شكـلي بدعي ينام الحين على غير وقته وأروح بنفسي.
اتّسعت عينـا جيهان بصدمـة : الحين أنتِ من جدك! .. أرجوان العاقلـة اللي أعرفها؟!!
أرجوان تكادُ تبكِي من القهر : تخيلي بكرا ما أحصلها؟ ربي يبيني آخذها الحين يعني يوم إنّي تناسيتها اتصلوا ... لو ما رحت أحس ماني لاقيتها بكرا!!
جيهان تزفُر بهدوء : ما عرفتني وأنا العاقلـة هالمرة وأنتِ العكس ... بس شوفي ، أنصحِك تنتظرين شوي بس وترجعين له وتحاولين .. هو ترى مزاجـه صاير شين هالفترة بس بتقدرين عليه ... ما يرفضْ لك طلب ... حاولي فيه من جديد.


،


نظـر إليهما وهو يقطّب ملامحـه بضجر ، هذا حالهما منذُ وقت ، إن اصتدمَت أعينهما ببعضها كـانت النظـراتُ فقطْ نفورًا وحقدًا ، وسرعـان ما يُشيحـان نظراتهما عن بعضهما ، أو يبدآن بالسخريـة والصدامـات الكلاميـة حتى يوقفهما هو قبل أن يتشاجرا، هذا ما كـان ينقصه! أن يرافـق أطفـالُا بالغين !!
زفـر متعب بحنقٍ وهو يرفـع كفّه ليمرّر أنامله بينَ خصلاتِ شعرهِ وهو يتمتمُ بملل : عفن! .. وش هالحال العفن! . . * رفـع عينيهِ لينفجـر فجأةً بحدّةٍ غاضبـة * الله ياخذك أنت وهو رفعتوا ضغطي! .. الحين أنتوا بزارين وإلا حيوانات همجية وغبية ما عندها عقل وإلا وش بالضبط؟
شاهين بسخريةٍ وهو ينظُر إليه : جايب معك حشرة تواجدها مزعج وتقول بزر وحيوان ومدري أيش؟ أنت الغلطان ليه ما علمتني أقـل شيء ما كنت جيت.
أدهم ببرودٍ يماثلـه سخرية : صادق يا متعب والله إنك غلطان بهذي! يعني كـان علمتـه أقل شيء إنّ الفراشات الناعمـة ما يصير تقرب من جراد .. بياكلها.
شاهين يرفـع أحد حاجبيه وهو ينظُر ناحيـةَ متعب بغضب : حسابك عندي بعدين أنت .. يعني من زود المحبة تجمعني بهالأشكـال.
متعب يطرقُ أصابعه على الطـاولةِ بضجر ، من حسنِ الحظّ أن أدهـم يجلسُ بجوارِه في حينِ شاهين أمامهما ، لو أنهما كـانا يجلسان على كرسيّين متجاورينِ لربّما أقاموا فضيحةً في هذا المطعـم . . تجـاهلَ الردّ على شاهين ، لو ردّ لربّما أصبـح طرفًا ثالثًا في هذا الجنونِ ولفقدَ عقلـه معهما . . تراجـع أدهـم بظهرهِ للخلفِ وهو يكتّف ذراعيه، وباسترخـاء : تدري إنّي مفوت علي عشى بقابـل فيه الوجيه اللي تفتـح النفـس عشانك وآخـرتها أحس بيجيني اسهال من جلستِي قدامْ هالفراشة !
كتـم متعب ضحكتـه ، يدرك جيدًا أنه يقصـد زوجتـه بـ " الوجيه اللي تفتح النفـس " ، لم يردّ أيضًا وهو لا يُظهِـر في ملاِحه تعبيرًا واضحًا حتى ضحكته لم تظهر على أقـل تقديرٍ في ابتسامـة . . رفـع شاهين زاويـة فمِه بازدراء ، وبنبرةٍ باردةٍ كـانت تشتعـل في الخفـاء : قومتك من هالطـاولة صدقـة جاريـة للعلـم بس .. ما تبي أجر؟
استقـام أدهـم ببساطـةٍ لينظُر متعب نحوه بعينينِ اتّسعتـا دون تصديق ، تحرّك ليقفَ قبـل أن يذهب ، وبصدمة : لحظة يا رجّال استهدي بالله .. تراه يمزح مو من جدك!
أدهـم يبتسـم وهو ينظُر إليه، وبسخرية : الحين أنت على بالك بقُوم عشان الورع اللي معك؟ لا تطمّن بس حسبتها براسي .. يعني ما فيه داعـي أجاملك بهذي .. دام أخوك بيتعشى معك ما يبيلي أجلس وياك وأترك زوجتي تتعشّى بروحها!
شاهين يضحـك بسخرية : يا حنيّن ! .. وطلبك وين نوديه خلاص ما يمدِي نلغيه الحين!
أدهـم باستفزازٍ قبـل أن يبتعد : طلبي في ذمّتك .. كله عني طيّب؟ كنت طالبه عشانك والله ولو شايل هم الفلوس تراني حطيتها على الطاولة بجهتي.
شاهين وهو يقفُ بغضب : الله يلعـــ .. أستغفر الله بس!
متعب : ههههههههههههههههههههه والله ما يدخـل بفمي لو كنت شبعان .. من الحين أقولك هاه!
شاهين بغضبٍ ينظُر لمتعب بعدَ أن غابَ أدهم عن أنظـاره : مانِي ملزوم فيه.
جلـس بغضبٍ وهو يمسـح على جبينـه ، أفقـده أعصابـه في الدقائق السابقـة ، لن ينكر ذلك أمام نفسه! .. كـان يستفزّه بسهولة وذلك ما أغضبـه أكثر! . . استمرّ متعب بضحكـه وهو يجلس مُكرّرًا بتأكيد : ترى ما راح أساعدك .. بتاكله بروحك حرام يجلـس.


،


ينسحبُ المفرش عن خصـرها إلى ساقيها، تكشـف جزءً من جسدِها وأصابعهـا توزّع المرهـم في موضعِ الرضّةِ التي ازرقّ لونها مختلطًا ببنفسجيّةٍ باهتـةِ وحُمرةٍ تخضّب سُمـرةَ جلدِها ، كـانت سالِي قد ساعدتها في الساعاتِ الماضيـةِ لتتوضأ حتى تستطِيع الصـلاةَ جلوسًا بعدَ أن أمرها سلطـان بمساعدتها، وبالرغمِ من كونِ وضعيتها في الصـلاةِ مؤلمـةً إلا أنها كـانت أقلّ من وقوفٍ تتفاوتُ فيه حركتها . . نظـرت لموضِع الإصابـةِ التي غطّت معظمـها بطبقةٍ رقيقةٍ من المـرهم ، من حولِها خطوطٌ باهتـة ، قديمةٌ لا تُلحـظٌ إلا من قـرب ، هذهِ علامـاتُ والدِها ، كيفَ ترتضِي علامـةً من سلطـان بجوارِها؟ .. ابتلعَت ريقها بوجَع ، لم تتخيّل يومًا أن يتلوّنَ جلدها بقسوةٍ منه! أن تراها بعينٍ مجرّدةٍ من الحيـاة ،
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تتأوّه بقهر ، اذهبـي ، اذهبـي بسرعة! .. لا تحتمـل أن تبقـى هذهِ العلامـةُ فيها، لا تحتمـل أن تراها ، ستنسى أن ذلك حدَث ، نعم ، سلطـان لم يقسو على جسدِها ، لم يصفعها ، كلّ صفعـةٍ ستنساها بعدَ أن تلامـس وجنتها ، ستنساها مبـاشرة .. سلطـان لن يكونَ في عينيها سوى الملاكَ الذي تعرفْ ، لن يتشوّه لأجـل لحظـاتٍ هي من تسبّبت بِها! .. فليفعـل ما يراه عقابًا مناسبًا ، ليفعـل ما يراه ردًا لاعتبـاره ، لكنْ ليعود كما هو ، بعدَ أن ينتهِي ، في اللحظــة التي تنتهي منها الحيـاةُ كما قـال ، ألا يدرك أن الحيـاةَ انتهت منها منذُ نبذها؟ .. يا موطنًا أرجوهُ حيّزًا يأوينِي ، أتظن أنني حين أُلفَظُ منك سأبقى أعيشُ في غيرِ أرضِك؟ .. يا الله يا سلطـان ألا تدري أنّ الأرضَ حينَ تتبرأ منّا تُفقدنـا الحيـاة؟ ألا تدري أنّ لبّ الحيـاةِ موطِن ، إن كُنتَ موطِنـي .. كيفَ أعيشُ في غيرك؟
فُتـِح البـابُ لتشهقَ بهلـع ، نظـرت نحوهُ بصدمـةٍ وهي ترفـع اللحـافَ بسرعةٍ حتى تغطّي ما ظهـر منها ، بينما كـان ينظُر لها بنظراتٍ بـاردةٍ أقـرب للإزدراء . . اقتربَ منها أخيرًا وهو يبتسـم بسخريـة ، وبنفور : أيش مقصدك من هالحركـة؟
غزل بتيهِ تنظُر إليه ، لا تدرِي كيف جلَست ودون أن شعـر بأيّ ألم ، كـانت تتمسّك بالمفرش وتلفّه حولَها، تحاول رفـع بنطـالها قليلًا إلى بطنِها وجسدها يرتعـش بربكتها بينما شفاهها تنفرجـانِ بتشوّشٍ وخجـل . . سحبَ سلطـان كرسيًا قريبًا ليجلسَ عليهِ وهو يردف بازدراء : متعمدة تكشفين جسمك وأنتِ عارفـة إنّ البـاب مو مقفل وممكن أدخـل بأي لحظـة؟ حركـة إغراء!
نظـرت لحُجرها وهي تعقدُ حاجبيها غير مصدّقـةٍ تفسيـره ، هزّت رأسها بالنفيِ دون أن تنظُر نحوه ، بينما شدّ سلطـان على أسنانه وهو يلفظُ بقرفٍ ونفور : لا تتعّبين روحك ... ما تستهويني بقايا !
ابتلعَت ريقها بألـم ، لم تنظُر إليه ، ولم تفكّر بالحديثِ حتى وهي تخشى أن تُضـاعفَ ثورانه إن أطلقت إلى أسماعِه صوتها . .
سلطـان يكتّف ذراعيه إلى صدرِه وهو يُميـل فمه ، وبتساؤلٍ جـاف : حبيتي الجلسـة بهالغـرفة؟ تبين تغيرينها وإلا تكمليـن فيها ذكرياتك الحلوة؟
قطّبت جبينها بضيق، أصابعها المُمسكـةِ بطرفِ المفرش تتشنّج ، تُخفـض رأسها أكثر دون أن ترد ، ينتشـر في أحداقِها الظـلام ، ذكرياتها الحلوة! .. لم تكُن إلا معـه ، منذُ قرّر أن تنـام قسرًا في غرفتـه ، منذُ اندلـع الغضبُ الأول ، وكـان يقسو عليها بكلمـاتِه ، إلى ما سبـق الهجومَ في تلك الليلـةِ الحالكـة ، ذكرياتها الحلوة .. كـانت كلّها قاسيـةً معه ، لكنّها لم تكُن مرّة بالنسبة لها .. أبدًا !
استفزّه صمتها ، شدَّ على أسنانِه بغضبٍ وهو ينطقُ من بينها بتهديد : لما أكلمـك تردّين ، تنـاظريني لو تكونين عمياء بعد! .. غضب عنّك لازم تشوفيني .. غصب عنك!
كـانت تظنُّ أن تجـاوبها قد يغضبـه أكثر ، لكن وبما أنّ العكـس أغاظـه ، إذن ستنصـاع لكلّ ما يريد! . . أدارَت رأسها ببطءٍ إليه ، نظـرت نحوهُ وشفتيها ترتعشـانِ بضعفٍ وضيـاع ، وبصوتٍ خافتٍ تائـه ، يحطُّ على أجنحـةِ الغربـة ويسافـر بها فوقَ سمائه دون أن تدرك موقها : أبي أغيرها.
سلطـان ببرودٍ وهو ينظُر لعينيها المهتزّتينِ مبـاشرة ، لفظَ باستخفاف : ليش؟
غزل وحلقها يتحرّك باضطراب ، شتّت أحداقـها بعبـرةٍ تتفاقـمُ في صدرِها ، وبخفوتٍ متعثّر : شلون تهون عندك فكرة أعيـش لحظـاتْ مثل هذي؟ عـادي عندك أتذكّر رجـال قرب مني غيرك؟
أظلمَت أحداقـه ، ونـارٌ اتّقدت أكثـر في صدرِه ،نـارٌ لا تهدأ ولو قليلًا ! . . . لفظَ بخفوتٍ قاسٍ بعصبيّتِه التي تجرفـها في ربكـةٍ واضطراب : أي وقاحـة وصلتي لها عشان تقولينها قدامـي بهالشكل.
غزل رغـم خوفها من نبرتِه إلا أنه لفظَت : ما تقهرك أكثر! .. مقهور على اللي دريته عني .. بس عادي عندك أنام وآخر شيء تذكّرته رجـال كـ . . .
صمتت بذعرٍ ما إن ضربَت قبضتـه على الكومدينةِ القريبـة منه ، اهتزّت الأبجورةِ من فوقِها ، ارتعشَت وهي تسمـع حطامها بعدَ أن سقطَت ، بينمـا وقفَ سلطـان وهو ينظُر لها بازدراءٍ وقـرف ، رمقـها للحظتينِ فقط . . ومن ثمّ ابتعَد نحو البـابِ ومن خلفِه ضجيجٌ أشدَّ من حطـام، أشدّ من انكسـار وماذا بعدَ الانكسـارِ سوى تنـاثر الشظايا؟ .. من يجمعني؟ فقط من يجمعُ شظايايَ ويلملمها بقايا مخلوقٍ ذُبـح بنصلِ الخذلان ، من يجمعني؟ ويُعيدَ من الأضواءِ " شمسِي "؟ من يجمعنِي؟ ويعيدُ من صبـايَ الذي غـادرَ دون أن أعيشـه " مولّعي "؟


،


دخـل وهو يدندنُ بمـزاجٍ مصفّى ، يتلاعبُ بمفتاح سيّارته بين أصابعـه، اتّجـه مباشرةً لغرفـة الجلُوس مُخمّنًا جلوسها فيها، سيأخذها ليخرجا معًا ويتناولا عشاءهما خارجًا، توقّف عند عتبـة غرفـة الجلوسِ وهو يعقدُ حاجبيه فجأة ، يشتمُّ رائحـة - طبخ -! لم يكُن ذلك ماهو غريب ، بل أصوات ، ليس صوتها وحسب ، أصواتٌ تجيء من المطبخ!
تحرّك باستنكـارٍ نحو المطبَخ ، يعقدُ حاجبيه بشكٍ من الاستنتاجِ الذي وصـل حـائرًا إلى عقله، يعـرف صوتها جيدًا ، لكنّه للحظـةٍ شكّ بذلك حتى دخـل للمطبـخ لتصتدمَ عينـاه بظهرِ إلين ، وآخـر كـان بجوارِها مباشـرة ، جعله يفغـر فمه للحظـة ، ومن ثمّ يلفظُ بصوتٍ مبتهـج : عمتي سهــى !!!
استدارَت سهى ومعها إلين بشكلٍ مباشرٍ ما إن سمعَت صوته الذي عـزف على أوتارِ قلبها بحدّة ، عقدَت حاجبيها وملامحـها تُضيء بحُبٍ وشوق ، وبرقّةٍ وهي تندفـع إليه : يا روح عمتك والله!
ضمّها إليه وهو يضحكُ ويقبّل رأسها، رؤيته لهـا تُزيح كلّ السلبيـات التي قد تطرأ عليه ، تنقّي صدره من شوائبـه ، قبّل خدها بحبٍ ومن ثم عـاد ليحتضنها وهو يلفظُ باشتيـاق : متى جيتِ؟
سهـى بحبٍ وهي تبتعدُ عنه قليلًا : المغرب ،
أدهـم يعقدُ حاجبيه بضيقٍ وهو يرفـع أنظاره إلى إلين : ليه ما اتصلتِ علي وعلمتيني?!
إلين بهدوء : رفضت ، كانت تبي تفاجئك.
سهى تضربُ كتفه بامتعـاض : وطبعًا خربت المفاجئة ، ما تعرف تدخـل بشكل جهوري؟ كان ودي أنط عليك من ورى وأطعنك.
أدهم : افا ! يعني ما أمداني أحس بلذة الزواج وبتذبحيني !
ارتبكَت إلين من خلفِهما بينما رفعت سهـى حاجبها بلؤم : بطعنـك ببوسة بس ، * أردفَت بخفوتٍ وهي تغمـز * كيف الوضـع؟
كتـم ضحكته وهو يرفـع وجهه إلى إلين التي كانت تنظُر نحوهما بشك وارتباك، حرّك حاجبيه بإغاظة، ومن ثمّ عـاد ينظُر إلى سهى وهو يُجيبها بخفوتٍ لم يصل إليها : جيتِ بوقتك ..
سهى تضحكُ بتسلية وهو تعضُّ شفتها ، كـانت إلين تراقبهما بتوجّسٍ وتحفّز ، في حين همسَت سهى بتلاعب : موريتك الويل؟
أدهم بحالمية خافتـة : ذبحتني بهواها.
غرقَت سهى بضحكةٍ عميقةٍ وهي تلفظُ بصوتٍ وصـل إلى مسامِع إلين واضحًا : اوووووه شِت !!
أدهم يرفـع عينيه وهو يبتسمُ لها : مليون شِت ...
عضّت إلين شفتها السُفلـى بقهرٍ من همساتِهما، يتحدّثان عنها، بالتأكيد يتحدّثـان عنها !!!
أدهم يبتعدُ عن سهـى ، يتجاوزها ليصـل إلى إلين وهو يرمقها بتلاعُب، وبرقّةٍ متناهيـةٍ يستغلُّ فيها تواجد سهى معهما : حبيبتي ذراعي تعوّرني ... مُمكن بس تلمسينها باصبعك عشان يروح العوار؟
أشـار لمنتصفِ ذراعه اليمنى لتتّسع عيني إلين وهي ترمقـه بشررٍ وتحذير! في حين كـانت سهى تكتمُ ضحكتها، تتابـع المشهد المُفتعـل أمامها،
أدهم برقةٍ مدّ يدهُ ليمسك كفّها المتشنّجة ومن ثمّ يُلامس بها ذراعه ، وبضيقٍ ودون رضا : لا لا لا ما راح .. هذي شكلها يبيلها بوسة . .
عضّت إلين شفتها بغضب ، تُدرك أنّه يتلاعب بها فقط، وقد تكون عمّته تفهمُ مكره أيضًا ، لكنّه أحرجـها أمامها كفايـةً لتفقدَ ردّات الفعـل المناسبة، حركت فمها بكلمـاتٍ دون صوت " بطّل هالهبـال "!! ليمِيل أدهم برأسه إليها ويقبّل وجنتها أخيرًا بجرأةٍ أمـام سهى، حينها تراجعَت إلين بصدمةٍ وهي تشهق بحُمرةِ الخجل ، بينما اعتلَت ضحكةُ سهى من خلفِهما وهي تلفظُ بمكـر : نعنبو ابليسك ما تستحي !! خفّ على البنت شوي.
أدهم يستديرُ ببراءةٍ إليها بينما كـانت إلين قد تراجعت حتى اصتدمَ ظهرها بحافّة الرخـام وعيناها تتشتّتان بحرجٍ بينما صوته يصل إلى مسامعها متعرقلًا بنبرةٍ بريئة : عادي مثل ما بستك . .
سهى : هههههههههههههههههههه مريييض متى تعقل !! * أردفت وقد أشفقت على إلين منه * انقلع بس اطلع ... بنحضّر العشى وبعده ورانا كلام ، لازم مفاوضات واتفاقات على أيام جلوسي هنا عاد معليش مو تحسون إني ثقيلة!
أدهم يبتسـم بمكر ، وبترحيبٍ عميـقٍ بفكـرة جلوسها تحرّك كي يخرج وهو يلفظُ بنبرةٍ متوّعـدةٍ استطاعَت إلين قراءتها جيدًا وكذلك سهى التي تصنّعت العكـس : حيــاك .. حيـاك مليون مرّة لو ما وسعك البيت توسعك عيوننا !


،


عـادَت من جديدٍ تحـاول، بعدَ نصفِ ساعةٍ من الانتظـار، طرقَت البـابَ مرّتينِ حتى أجابها بالدخُول، دخـلت بتوتّر ، وما إن سقطَت أنظـاره عليها حتى زفـر بقلّةِ صبرِ وهو يلفظُ بحزم : أرجوان وبعدين! من متى كنتِ تخالفين اللي أقوله!
اقتربَت منه أرجوان ، بعيدًا عن أسلوب الرجـاء سابقًا والمحـاولةِ يطريقةٍ أقـرب للفـرض ابتسمَت هذهِ المرّة وهي تلفُظ بخفوت : طيب من متى كسرت خاطرِي بهالشكل!
يوسف الذي عقدَ حاجبيه من نبرتِها المتغنّجة! لفظَ بضيق : لا تحاولين .. هالمرة لا !
أرجوان : يبه تكفـى ، يعني بس أنا وأنت .. جوج وليـان بيجلسون بالشقة عادي.
يوسف برفضٍ عنيفٍ لتلك الفكرة : لا وألف مرة أقولها لا ..
أرجوان تجلسُ بجانِبه على السرير : طيب يجون معنا !
يوسف بنبرةٍ حازمة : يعني تبينا نصحّي أختك عشان اسوارتك هذي!
أرجوان بحزن : من أمي .. تكفـى يبه .. جتني هديّة منها والله ما تهون عندِي!
أغمـض عينيه وهو يتنهّد ، لا يحتمـل نبرتها الحزينـةَ تلك ، لكنّه بالمقـابلِ لا يريد أن يترك إحداهن بمفردها! .. لذا لفظَ بصورةٍ قاطعـة : نترك خواتك هذي مستحيلة ، ونصحّي ليـان بعد مستحيلة !!
أرجوان بتردّد : طيب شوف ، شرايك تقول لفواز ينتبه لهم !!
اتّسعت عينـاه بصدمةٍ من اقتراحها الساذج، إلا أنه سرعـان ما شدَّ على أسنـانِه بغضبٍ وهو يُغمـض عينيه بصبرٍ يكادُ أن ينفد : أرجواااااان !!
أرجوان تتشبّث بذراعِه برجـاء : تكفى .. تكفى يبه ما بناخذ عشر دقايق مرررة قريب .. اتّصل عليه واحنا طالعين وقوله ينتبه حتى جوج ما راح تدري عن هالشيء .. تكفى محنا متأخرين يبه الله يخليك لا تردني ماقد قلت لك مرة تكفى وكسرت بخاطري!
يوسف بضعفٍ أمامَ رجائها : صعبـة يا بنتي صعبة! .. روحي نامِي وأوعدك بكرا من بدرِي نروح لها.
أرجوان وقد بدأت بالبكـاءِ فعليًا : الله يخليك أبيها الحين ، ما صدقت ألقاها تبيني أظل لبكرا وأنا مو ضامنة وش يصير! .. الله يخليك يبه قوله ينتبه للشقة من بعيد لا هو بيقرب ولا جيهان بتدري ... الله يخليك يبه !!
يوسفْ بغضبٍ نهضَ وهو يلفظُ بنبرةٍ تعلُو بحدّتها وقد أضعفهُ بكاؤها : بنشوف آخرتها معك .. روحي اجهزي بسرعـة على ما أكلـم فواز هذا إذا كان موجود، ولو تطلع الاسوارة مو نفسها وقتها ما تلومين إلا نفسك.


،


يُضيء هاتفـه بوصولِ رسالة ، يفتحها ، ويقرأ محتواها بعينين كـانت صاخبـةً بخمولِ ذكرياتِه ، بعدَ أن سمـع صوتيهما ، ووصلت إليه كلمـاتهما من بعيد ، بعينينِ غـادر صخبهما ، لتحلّ فيها الصدمـةُ بعد أن قرأ الكلمـاتِ أمامه . . .
( إذا تهمّك العائلـة الصغيرة ذيك، تعال عند مطعم **** تنتظرك مفاجئة لهم .... تميم )!!!

.

.

.

انــتــهــى . . .

إن شاء الله يكون مرضي لكم مثل ما أرضاني، قراءة ممتعة أعزائـي :$

ودمتم بخير / كَيــدْ !





fadi azar 22-08-16 02:54 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 23-08-16 06:22 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ضَّيْم (المشاركة 3656106)

مرحبًا كيد.
بسألك بس الحين اللي صار بغزل يُسمّى اغتصاب صحيح؟ لأن ماكان برضاها أساسًا وماراحت تقابله عشان هالشي!
تمام أجل المفروض أول مانطقت لسلطان عن ماضيها تقول إنّي "اغتصبت" كذا بيخفف وطأة الألم والقهر عليه. لكن تقول أنا ماني بنت من قبل لأتزوجك هنا ما ألومه يحسب إنّ اللي صار برضاها لا ويسألها كم واحد بعد؟ وهي ماتتكلم إلا بينها وبين نفسها! يأمي تراه مو كاهن يعرف اللي داخلك تكلللمي! فجي حلققك! تنرفززز ياربيه *ميته*
المهم إنّ غضبه رجع مثل أول ورجعت حليمه لعادتها القديمه للأسف

وديما باطة جبدي الله وكيلك جد خلاص ماتحسين طولت بزيادة؟ "(

حبيت إلين وأدهم هالفترة ()
كويس كذا كيد فيه أحد من الأبطال تعدلت أمورهم نوعًا ما
مايصير بعد كل الأبطال عايشين حالة بؤس لازم فيه كوبل لطيف يخفف علينا شوي :/

أسييل حيل كاسره خاطري مرّه ماتوقعت أرحمها بهالشكل
صدق الله يلطف بحالها أتوقع شاهين بيرجع لها بس ماراح تتقبله على طول وماتنلام "(

جيهان بعد راحمتها يعني مالقى هالفواز يسافر إلاّ هالدولة اللي تتعالج فيها صدق مثل الحبن بالضيق!!
وجنان أرجع وأقول ماتستاهل فواز والله! تستاهل اللي أفضل منه! تستاهل واحد هي تكون أول زوجه له! مو هذا اللي يقول خلينا اصدقاء وين حنّا فيه يبوي :/

أما تميم الله يستر منه وانا مستبشرة فيه خير واقول بيناسب يوسف مالت ها :/

منتظرينك ()
* وأتمنى تردين دايم على التعليقات اللي هنا عشان نتحمّس "(
ترا صايره ما اعلق في الثلاث أو الأربع البارتات الأخيرة لو لاحظتِ لأن ما ألاقي تجاوب منك "(
صحيح تردّين هنا بس مو دايم "(


يا هلا بِك ، في البداية دايم دايم حثيني على الرد ، مو عن تجاهل بس أنا لو بركز على كل الردود بتروح الساعات اللي مخصصتها للكتابـة في يومي - بما أني صايرة ما أفتـح اللاب إلا للكتابة - ، عُذر سخيف أدري خصوصًا إن الردود مو بهذيك الكثرة ، بس الرد في منتدى دون الآخـر مو حلو بحق القارئات ، مثل عدم الرد بالضبط! - فيس مستحي -
حاولت والله ، في النهاية استسلمت وصرت أقول اللي تنتظر مني رد لا عاد تعلق بالمنتدى ترسلي تعليقها بالساي آت أو الآسك :( مع إنّي أحب التفاعل بالمنتديات بس مو من حقي أطالب وأنا ما أنتظم بالرد!

المُهم ، دايم حطي بآخر ردك " ردي " عشان أبرمج عقلي - غصب عنك ترد - :P

،

بالمسبة لغزل ، ممم ممكن ما نقول إغتصاب بالمعنى الصحيح ، يعنِي حتى لو قالت القصة كاملـة لسلطـان ما راح يعذرها ويقول " ذنبك "! في النهاية هي راحت له برجولها وطلعت معه فهالشيء حرام ويقهر بغضّ النظر كانت خلوة أو زنا حتى! .. صح ما كانت بوعيها وراضية ، بس هذا مو كافي للعذر يعني الحقيقة ما تقدم ولا تأخر ممكن تخلينا نشوف إنها نظيفة "جسديًا " بس أساسًا هي كان لها علاقة محرمة! بتصير أخف كونها ليست زانيـة .. بس ماهو شيء كافي.

ديما وسيف قايلة لكم خفّفت مواقفهم عشان ما يصير الوضع ممل بساطة مافيه تطور هالكبر بينهم هالوقت :(

أسيل وشاهين بشكل عام القبول - لو رجعوا لبعض - ما راح يكون بهالسهولة ، مو بس أسيل!

ههههههههههههههههه فواز ترى من قبل يشتغل ببروكسيل :) من بعد زواجهم وقبل لا يروحون هم حتى يعني جيهان اللي لاحقته لووول.


بعدْ جبدي والله أعتذر منك :$ يعني من جد أستحي منكم قبل كنت أحاول أرد بس ما أقدر كلها وأحس عيب هالحركة تعليقين والباقي لا فبطلت أرد بس أهتم لقراءة الردود أول بأول أكيد تهمني :$ () وكالعادة بقول " بحاول " :(

ربي يسعدك ()

كَيــدْ 24-08-16 12:13 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



*



السلام عليكم جميعًا ، صباحكم سعادة وسكينَة :$
مضطرة أعتذر عن بـارت اليوم ، تعبانـة وصاير لي أكثر من ساعتين فاتحة اللاب وأقول بنفسي شوي وبطيب بس وعكة بسيطة وبتروح بعد شوي بس بدل ما تخف تزيد :(
عشَان كذا بعتذر عن التنزيل اليوم من بدري وما تنتظرون ، الله يسلمكم من كل شر ()





أبها 24-08-16 08:25 PM

سلامتك يا كيد ..

طهور بإذن الله .. وما تشوفين شر .

🍃🌸🍃

كَيــدْ 27-08-16 10:42 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طـاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية ()


الله يسلمكم من كل شر ، إن شاء الله جُزء اليوم يروق لكم عن بارت الأربعاء اللي راح والأحد :$ بما أنّي ما قدرت أنزل الخميس فمرة وحدة السبت عن اثنين ، وموعدنا القادم إن شاء الله الأربعـاء وليسَ الأحـد - الغد -.

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

(80)*2




الجدرانُ الكريميّة تشهدُ على أعقـابِ السجـائرِ التي تنطوِي داخِل الفمِ بصورةِ " لسـان "، تحرقُ فمـه وتخنـق رئتيه بمزاحمتـها أنفاسه، يبتلـع من كلماتِه دخانًا خانقًا، وحشرجـةَ اشتيـاق، يزاولـه ظلامُ الليلِ في صورةِ ابتسامةٍ فقدت مرونتها وحاورَت أطيافهم، منها الراحلةُ تحت التراب ومنها الراحلـة من فوقِه ، يهمـس بابتسامةٍ ملتاعةٍ بالشوق : من متى نـايم؟
غـادة تسيرُ بهدوءٍ في جُنح إضاءةِ الغرفة الخافتـة، تصل للتسريحة لتَحمـل مرطّب شفاهها وهي تلفظُ بحُب : قبل ساعتين ... صاير نومه غريب ، مرات يزين ومرات يشين .. هالفترة دجاجة.
بدر : ههههههههههههههه أرجل دجاجة والله ، يلا عسى صار راضي عني هالفترة؟
غـادة تُميل فمها قليلًا والمرطِّبُ القريبُ من شفتيها استقرَّ ببعدٍ واهٍ ، وبخفوتٍ عاتِب : بالعكـس ، صار زعلان زود ، مشتاق لك.
بدر بابتسامةٍ حنونة : سقى الله أيام ما كان يكرهني عشانك.
غادة تضحكُ بخفوتٍ لتُردف ضحكتها بحُب : ما يكرهك .. بس كنت تستفزّه شوي .. شدعوى يبه أنا امه !!
بدر : ههههههههههههههههه وأحلى أم والله.
غادة بنعومة : أسبوعين وراح تبدأ فيها الدراسة وبيكون دوامه الأول بين عرَب .. الله يعين على ثقافتـه الغربية بيتعبني.
بدر يمدُّ جسده على السرير، تنطبـق أعينـه على السقفِ الأبيضِ بنقوشاتِه العشوائية وهو يلفظُ بثقة : ما عليك ماراح تتعبين من هالنقطـة ، وبعدين ترى زين حافظنا على لغته العربية للحين ، فلا تحاتين.
وضعَت المرطّب على التسريحةِ ومن ثمّ ابتعدَت بخطواتِها إلى السريرِ وهي تهتفُ ببحّةِ صوتها الخافت : من كـل شيء .. تنقصنا رجعتك.

ارتشّ المـاءُ ببرودتِه على وجهه ، رفـع رأسه لتصطدم أحداقـه بصورتِه المنعكـسة في المرآة ، عقدَ حاجبيهِ قليلًا وأفكـاره تتخبّط في التيـه ، خرج من الحمـام بعد أن تناول المنشفـة الصغيرة ليمرّرها على جلدِه الرطب ويمسـح الرطوبـة الباردة منـه ، جلسَ على السرير ، يفيضُ بالجمـاداتِ استفزازاتُ الوحدَة ، تعجُّ بالزوايـا أصواتٌ غائبـة ، تستقرُّ على الأريكـة في الصالةِ أصـابع، تنظُر للتلفـازِ المُنطفِئ الآن عيون، تمسـح على الطـاولاتِ كفوف ، وتتلاعبُ أيـادي بالملاعِق في المطبـخ .. لم يكُن ذلك يحدُث ، لكنّه كـان في صدرِه يفيض، يتوهّم حضورهم وأنّه ليسَ وحيد.
ابتسـم ، ليهمـس بخفوت : برجع . .
أنـار هاتفهُ بضوءِ رسـالةٍ في تلك اللحظـة مع رنّةِ إعلَانِ كلمـاتٍ أحاطتها نيـران ، اشتدّت في أوداجِه.


،


ينفـخ الظـلامُ من ذراتِه في عُمـق الليل، ينشُر من رائحـته بخفائها بين شقوقاتِ قشرةِ الأرضِ التي تتسرّبُ ظلامها إلى فؤادئها ، يُبتـر منظرُ النجومِ في سماءٍ حلكَت بسوادِها ، كـانت صافيةَ بعتمتها من كلّ بصمةٍ لامعـة، حتى خطوطِ البرقِ توقفت، بوادِر المطرِ راحَت وانزوَت لوقتٍ آخـر غيرِ معلوم ..
دخـلا المطعـم الذي لم يكُن مزدحمًا جدًا ، نظَر يوسِف إليها وخطوطُ الضيقِ على جبينِه ، وبنبرةٍ جافة : بروح لإدارة المطعـم، خليك وراي.
أرجوانْ تعـانقُ عضدها الأيمن بكفّها اليُسرى، وبحرج : آسفـة يبه إذا ضايقتك.
رقّت ملامحـه قليلًا ، رغـم أنه لازال غاضبًا منها إلا أن ملامحـه كانت ترقُّ لوجهها قسرًا ، صوته ، وعينـاه إلا صدره الذي لم يكُن راضيًا عن الدقائـق التي ابتعدَتهما عن جيهان وليـان ، الدقائـق التي تجاوزَت الخمس! . . أدار وجهه عنها وهو يزفُر ، وبخفوت : الحقيني عشان ما نتأخر.
أومأت وهي تتبعـه ، بينما وفي تلك اللحظـاتِ تحديدًا كـان فوّاز يتّكئ على الجدارِ قريبًا من بابِ شقّةِ عمّه وهو يتشاغـل بالهاتِف عن أفكـارِه ولا يستطِيع ، غريب! ما معنـى أن يطلب منه - على مضض - أن يكون قريبًا ولا يزيحَ عينيهِ عن مراقبـةِ الشقة! عقدَ حاجبيهِ قليلًا وهو يتذكّر عينيهِ القاسيتينِ وهو يقولها وكأنه لم يكُن راضيًا عن ذلك . . . ومن بعيدْ ، من بينِ أنقــاضِ أفكـارِه وحُطـامِ مزاجِه ، كـان يُباعِد عن عقلـه فكرة " جيهان قريبـة " ، قريبةٌ منه! لم يعُد هناك طوابـق تفصِل بينهما ، لم يعُد هناك سوى - بابٍ - يستفزّه! أغمـض عينيهِ وهو يتنهّد ، مرّر لسانه على شفتيه ، وملامِحُ الحديثِ تزولُ عدا ملامـح صوتٍ واحِد ، جنـان ، يستعِيد كلماتِها فجـأة ، بضعٌ من الذكريـات ، وأخرى لم تقلها ، أخرى تسكُن خلفَ بابِ قلبِه ، لم تعُد الذاكرة مركزها في العقـل ، عقله هو من اختـارَ أن يلفظها من حياتِه، فكيفَ يخزّنُ في أحشائه ذكرَى لها؟ مركـزُ الذاكـرةِ صار في القلب، يذكُرك ، وينسى مبادئ - النسيـان !!
زمّ شفتيهِ وهو يُخفِض رأسه ويعودَ لمحاولـةِ التشاغـل بهاتِفه ، لكنّه فجأةً وجدَ نفسهُ يعبثُ بالأرقـام ، وينثُر بأطرافِ أصابعِه سيـر رقمها الذي يحفظـه عن ظهرِ " هيام "! . . شدّ على أسنانِه بحنقٍ وهو يمسـح ما كتب ، وبخفوتٍ متنهّدٍ برجـاء، يحرقـه بغليـانِ أنفاسِه دون أن تتناثـر جزيئاتها أكثر : يا رب النسيـان ، يا رب النسيـان . . . ما اشتهيه !!
عضّ شفته وهو يغمـض عينيهِ ويسندَ رأسه للخلفِ على الجدار ، ينـاقضُ نفسه في اليومِ مائة مرّة ، لكنّه يتّفق مع ذاتِه ، مع قلبه ، بنقطةٍ واحدةٍ وهي عدمُ الصدق في دعواتِه، يعترف ، بأنّه وفي خضمِ اعتلالِ صدرِه ، ارتأى الحُب على النسيـان ، لا ، هو يحياه ، أو على الأحـرى يُحييه حتى الآن!
تنهّد بعجزٍ وساقـه قد بدأ بهزّها بارتبـاك، يفتـح عينيهِ وينظُر للأمـام/الفراغ ، وبنبرةِ قهر : والبنت وش ذنبها بكل هذا؟ * يقصد جنان * . . يا رب اغفرلي !


،


دخـل يسيرُ من خلفِها، في فمِه سؤالٌ يضجُّ بِه لكنّه يخشـى من نطقِه أن تكتشفَ طلبه لأسيل بأن ترغمـها على أن تأكل شيئًا، أفـرج شفتيه وهو يراها تسيرُ أمامه نحوَ غرفتها، لكنّه عـاد ليطبقها ومن ثمّ تنهّد بجزع ، تحرّك نحو الدرج وهو يهزُّ رأسـه بالنفي، بالتأكيد لم تكُن لتتركها دون أن ترغمها على الطعـام ، لن يحتاج للتأكد منها فهو يثـق بأسيل واستطاعتها ذلك.
صعد أوّل عتبتين، لكنّه توقّف فجأةً ما إن وصـل إليه صوتها البـارد والناطقُ اسمه : شاهين.
اتّسعت عينـاه، لكنّه سرعـان ما تدارك نفسه وهو يبتسـم بحنانٍ ويستدير بكامـل جسده لينزلَ العتبتين وهو يلفظُ بحب : عيونه.
عُلا بجمود : أبيك بكرا تكفر عني عن حلفاني على الأكل.
في البدايـة أجفـل دون تصديق، إلا أنه وبعد لحظتين فقط وسّع من نطـاق ابتسامتـه بفرحةٍ وهو بداخلـه - يشكُر أسيل -، بالتأكيد أقنعتها ، بالتأكيد استطـاعت فعلها كما كان يثق!!
أومأ مباشرةً ووجههُ يسترخِي براحـةٍ من هذا الثقل، وبعمـق : أبشري ، ما طلبتي شيء يا الغالية.
هزّت رأسها بصمت، ومن ثمّ استدارت لتتّجه نحو غرفتها بينما زفـر هو بصمتٍ وطمأنينـة ، تحرّك حتى يصعد إلا أنّ صوتها عـاد يُناديه بنبرةٍ تختنق : شاهين.
شاهين يعقدُ حاجبيه وهو يُدير رأسه بابتسامةٍ إليها، لم ينتبـه لنبرتها المختنقة وهو يلفظُ بحب : سمّي يا روحي.
عُلا دون أن تنظُر إليه ، بنبرتِها ذاتها ، وبملامِح الضيقِ نفسها : تراها تحبّك.


،


يقفُ أمـامه وعلى ملامِحه إماراتُ العجَب، يعقدُ حاجبيـه باستنكـارٍ بينما صوته يكرّر دون تصديق : هل أنت متأكد؟
الرجُل الذي أمامه بكلمـاتٍ هادئـة : نعم لم نعثر على شيءٍ مفقودٍ كسوارةٍ أو من هذا القبيل خلال الأيـام السابقة.
يوسف باستنكـار : لكنّ الاتصـالَ جاءَ إلينا باسم هذا المطعم!
الرجُل عقدَ حاجبيه وقد بدأ ينزعجُ قليلًا : تأكد إذا ما كان الرقـم الذي اتّصل بكِ إحدى أرقامِ المطعـم ، ربّما يكون أحد أقاربك وأراد أن يمزح معك لا غير . . * أومأ برأسه باحترام * والآن اسمـح لي لديّ الكثير من الأعمـال لأنجزها.
لم يجِد يوسِف ما يقُوله ، نظـر لأرجوانْ من خلفِه ، كـانت تنظُر للأسفِل بإحبـاطٍ يختلطُ باستنكـارِها ، كيفَ ذلك إذن؟ أن يأتِيهم اتصـالٌ يخبرهم بعثورِهم على السوارة ومن ثمّ يسيرُ الأمـر بهذهِ الطريقة؟ ربّما يكذب! لا أحـد قد يمزحُ معهم بهذا الشكـل هنا ولا أحدَ يُدركُ ضيـاعها ! .. يكذِب ، بالتأكيدِ يكذب!!
رفَعت نظراتَها المقهورةَ إلى والدِها وهي تعقدُ حاجبيها بإصرار ، نعم يكذب! لقد سرقها ، بالتأكيد هذا هو التفسير الوحيد!! . .
يوسفْ يتنهّد ومن ثمّ يلفظُ بهدوء : جينا على الفاضِي ، يمكن صار التبـاس وبالصدفة اتصلوا مطعـم ثانِي عشان موضوع مشابـه للي صار لنا بس لناس غير.
أرجوان تهزُّ رأسها بالنفيِ دون اقتنـاع ، لن تكون هنـاك صدفـةٌ بهذا الشكل ، لن تكون! . . لفظَت بقهرٍ واعتراضٍ على تلك الفكـرة : صدفـة بهالشكل الغريب؟ مستحيل! بيطلع سارقها وجحد الموضوع .
يوسفْ بضيقٍ يجعّد ملامحـه : لا تدخلين بالنوايـا ... خلاص امشي في لبس بالموضوع وانتهى الله كاتب هالشيء.
تشنّجت شفاهُها دون رضا وهي تعقدُ حاجبيها بمرارة، استدارَت والضيقُ يكبـس على صدرِها، يغلفـها بقهرهِ على بوادِر المغيبِ أو الاستغابـةِ عن السكُون ، حينَ ظنّت أن الله ردّها إليها أُحبطَت أكثـر . . أغمضَت عينيها وهي تتنهّد ، ومن ثمّ فتحتها لتخرج ومعها والدها وعلاماتُ الإحبـاطِ تُدثّر ملامحها التي تستكِينُ بِه . .
يوسفْ رغـم أنه وفي طريقِ قدومِهم إلى هنا كـان غاضبًا منها إلا أن قلبـه الآن رقَّ وهو يرفـع يدَهُ ليضعها على كتفِها ويلفُظ بحنان : عندك ألف ذكرى تخصها، لا تضيقين خلقك.
أرجوان بانكسـار : كانت الأغلـى ، عشان كذا دايم كنت أشيلها معي بشنطتي وليتني ما كنت أسوي هالشيء!
في النهايةِ " ليت " لا تُفيدُ بشيءٍ الآن ، قطّبت جبينها بقهر، بينما شدَّ يوسِف على كتفيها وهو ينطُق برويّة : ما تحتاجين هدايا أو شيء ملموس عشان تتذكرِين اللي تحبين ، حطي هالشيء ببالك.
أرجوان بحسرة : بحطّه في بالي .. في النهاية لازم أتعود على فكرة ما راح ترجع.
يوسِف : درجك ودولابك مليانين ذكريات منها .. قولي الحمدلله في النهاية.
تمتمَت بالحمـد وملامِحها المُنزعجـةُ والتي يكسوها الضيقُ تُخبـره بوضوحٍ عن حزنِها بعدَ أن عُقِد الأمـل على أنقـاضٍ مهترئـة ، تحرّكـا حتى يعودا وكفّها تلتوِي بأصابِعها على ساعِده ، تنظُر للأمـامِ بضيقٍ تكـادُ شفاهها تتقوّس بِه ، لم تقُل شيئًا وكـان يوسِف يلحظُ تضاعـف الضيقِ في وجهها، بالتأكيدِ غرقَت في أفكـارها عوضًا عن محـاولةِ التنـاسي . . تنهّد بجزعٍ ووضعها لم يعجبـه ، حينها توقّف واستدارَ بكامِل جسدِه إليها لتتوقّف تلقائيًا وتنظُر لهُ باستغرابٍ من وقوفه ، رفـع يدهُ ليطرَق سبابته برقّة على المنطقـةِ التي ثـارتْ بنتوءاتٍ بين حاجبيها من عُقدَةِ ضيق ، وبحزم : وبعدين؟ لازم يضيقْ صدري يعني؟!
أفـرجَت شفتيها تريدُ قولَ شيء، على الأقـل شيئًا من أشبـاهِ " لستُ متضايقة " حتى لا يضيقَ صدرُه ، لكنّها وجَدت نفسها أخيرًا تتنهّد بعجزٍ وهي تُخفـض رأسها للأسفـل ، ابتسمَ يوسف وهو يضـع كفّه على رأسها ، وبحنـان : تهون عليك ضيقة صدري؟
أرجوان وعُقدَةُ حاجبيها تزيدُ بوطأتها على الجـلدِ من بينهما ، تضيقُ المسـاحةُ من اقتراب، فتتضاعف الانعكـافاتُ الثائـرةُ بانفعـالها وهي تلفُظ ببحّةٍ معترضـة : أكيد لا.
يوسف : أجـل خلاص لا عـادْ أشوف وجهك كذا .. ابتسمي.
ابتسمَت رغمًا عنها، حينها ابتسـم تلقائيًا وهو يمسـح على رأسها ، وبحنان : أي كذا تصيرين حلوَة.
أمسَك بكفّها ومن ثمّ تـابعَ سيرهُ وهو يُردف : تأخرنا على فكرة ، ما صارت 10 دقايق.
أرجوان بحرج : اعتبرها رياضـة ليلية بسيطـة ،
لم يعلّق سوى بابتسامة، تـابعا سيرهما بصمت ، بينما وفي أثنـاءِ السيرِ الصامِت هذا كـانت كفّها تنقبـضُ على كفّه دون شعور ، تغوصُ في أفكـارها ، لا تدرِي لمَ تذكّرت أمها فجأة وليسَ من سوارتها، كيفَ تذكّرتها الآن ارتباطًا بوالدها وليسَ فقط " امها "! ، كيفَ حضّرتها اللحظـاتُ التي عبَرت قبـل قليل ، كثيرًا ما تتذكّرها ، لكنْ لمَ بهذهِ الطريقةِ تحديدًا والآن؟ .. تشنّجَ فكّها قليلًا وهي تُفـرج شفتيها وعقلـها تشوّش بالكثيرَ حدّ أن لا تدرك ما الفكـرة التي طرأت على عقلها تحديدًا ، بينما نظـر لها يوسف من زاويةِ عينيهِ وهو يشعُر بتشنّج كفها ، هتفَ متسائلًا بقليلٍ من القلقِ والحيرة : وش فيك؟
توقّفت عن السيرِ فجأة ، وردّة الفعـل الأولى أن يتوقّف معها وهو يقطّب جبينه بقلـق ، لم تتركْ يدَهُ وهي ترفـع وجهها إليه ليلمـح ستـائرَ الضيقِ الرمـاديّة والتي عادَت لتنسدِل على أحداقِها من جديد، ستـائر الضيق ، والتي ثخنَت أكثـر بانسكـابِ الكلمـاتِ من حنجرتِها إلى شفتيها ، كلمـاتُها التي خرجَت إليه بنبرةٍ خافتـة ، لكنّها كـانت حادّة ، لاذعـة ، جرحَت شفاهها بالخيبـة : ممكن أسألك سؤال؟
تضاعَف الاستنكـارُ في ملامِحه وصوته وهو يلفُظ بارتيـاب : أكيد .. وش فيه؟
أرجوان وشفتيها ارتجفتـا بتردّد ، شتّت أحداقها عنهُ وهي تبتلـع ريقها ، لكنّها في هذهِ اللحظـةِ تحديدًا لم تكُن تريد أن تتردّد فيما ستقول ، تريد أن تصلها الإجابـات ، ولربّما بعضَ الراحـة منها .. همسَت ببحّةِ ألـمٍ كـان من خلفِها معانٍ كثيـرة : ليش الغلط ما يرتبط بعُمر؟ يعني طول عمري كنت أظن إن الشخص اللي يغلط لازم يكون صغير ومو كبير وواعي .. أو يوصـل لسنّ معين ما يعرفْ فيها أخطـاء وذنوب كبيرة.
ارتخَت ملامـحه فجأةً وكفّه الممسكَةِ بيدِها ترتخِي أيضًا ، وكأنه أدرَك ما تقصد ، أدرك بالذنـوبِ الكبيـرةِ أنها تقصد أمها! . . توتّرت وهي توجّه نظراتها إليه ، شعرَت بالندِم ما إن سقطَت أنظـارها على وجهه وشعرَت من نظرتِه أنه قرأ أفكـارها ، حينها ارتعشَت الكلمـاتُ في فمها ، لتُردِف بتداركٍ واهِن : إذا ضايقك سؤالـ . .
يوسِف بهدوءٍ ظاهريّ : يضايقني ليه؟ عادي سألتي وبجاوبك . .
أخفَت نظراتها قليلًا ، حينها ابتسمَ يوسف وهو يشدُّ على كفّها ويُسيّرها معه كي لا يضيـع الوقتُ أكثر بعيدًا عن جيهان وليـان . . لفظَ بتوضيحٍ حازِم : في البداية مين قال لك إن الوعي مرتبط بالكبر؟ ومين قال لك إن الوعي ما يخلينا نغلط نهائيًا؟ الوعي يقلل نسبة الخطأ .. بس في النهاية احنا بشر ، نحتـاج قوّة مو وعي بس للذنوب ،
أرجوان تعقدُ حاجبيها قليلًا : شلون؟
يوسف : الحين أنتِ عارفـة بنفسك إن ترك الصلاة كفر صح؟
أومأت : أيه.
يوسف : كلنا نعرف ، بس يا كثـر اللي يعرفون وما يصلون ، صغـار أو كبار ، مع إنهم واعيين لهالشيء . . نحتاج قوّة وإرادة ضد الذنوب ، الوعي ما يكفّي.
لم تقُل شيئًا ، نظـرت للأمـامِ بصمت وهي تجعّد ملامحـها ، هل ضعفِ إرادتها يكفي - بالنسبـة لحجمِ الذنب -؟ هل هذا يكفِي للعـذر؟ يكفي نسيـانِ الذنب؟ هل هذا يكفي !!
انتهـى مطـافُ حديثها وفضّلت الصمتَ باعتـراضٍ على ما سمعَت ، الوعيُ لا يعنِي انعدامَ الذنوب ، لكنّ والدهـا ، والدهـا تحديدًا ، كيفَ اسطاعَت فعلَ ذلك بِه؟!
رفـع يوسف كفّه بعدَ أن تركَ يدها ، وضعها على كتفِها ، ومن ثمّ وبحزمٍ رقيق : أكبـر من إرداة الذنب ، إرادة التوبـة .. أجمـل إرادة ، وهذا اللي يهمنـي من كل اللي صار ، وأتمنـاه!.
اتّسعت عيناها بإجفـال، تصلّبت ملامحـها سوى انّ عينيها تحرّكتـا أخيرًا ، نظـرت إليه بتشوّشٍ من زاويـةِ عينيها ، لتبتلِعَ غصّةً بعدَ أن رأت ابتسـامته ، فهمته ، كيفَ لا ، وهي تدركهُ جيدًا ، يتمنّى التوبـة ، من بعدِ موتِها وقلبـه لم يمتلكْ في حناياهُ حقدًا عليها أو ملامـة ، غفـر لها ، وتمنّى أنها طلبَت الغفـران ولو أنّها من بعدِ ذلك قامَت بذنبٍ آخـر ، قلبـه الآن مُصفّى من العِتـاب ، لم يعُد يملكُ شيئًا ضدّها ، فقط ، فليغفـر الله لها ذنبها.
مرّرت لسانـها على شفتيها وهي تشيـح بأحداقها عنه وحُنجـرتها شعرّت أنّ احتكـاكاتِ الألـم قدْ خلّفت في طريقها الغيـر معبّدٍ نتوءاتِ جـراحٍ لا تنـزفُ سوى بالصمت ، لو تحدّثت ، ستُفتـح بوّابـة الجراحِ أكثـر ، ستلتهِب ، بملـح حسراتها تجـاه كلّ ما حدَث . .

وبالقربِ منهما ، اتّكأ تميمْ على إحدى أعمـدةِ الإنارةِ وهو يكتّف ذراعيـه ، يبتسـم وهو يتابعهما بعينه ، وبخفوت : ما عليه ، اثنين بس يأدون الغرض.
رفـع هاتِفه الذي كـانَ يُمسـك بِه ، في الصبـاح كـان يضمن أنّ بدر قريب ، ربّما لم يتوقّع أن يفشـل ببساطـة ، لكنْ على الأقـل كان قريبًا وكلّ شيءٍ سيتمُّ بسهولةٍ دون أن يتدخّل . . اتّجـه إلى رقمـه ، ومن ثمّ وبابتسـامةٍ عابثـة كـان يتّصـل بِه ، ردّ بدر بسرعةٍ بأنفـاسٍ مجهدَة وكأنه كان في سباق مارثون ، يلهثُ طالبًا الهواء بعد أن أرهق رئتيه بالركض : وينك؟! .. يا ويلك لو كنت مسوّي لهم شيء! . . و . .
قاطعـه تميم ببرود : تأخرت ، المفروض تكون متواجِد باللحظـة اللي يطلعون فيها من المطعـم.
اتّسعت عينـا بدر بحرارة : يعني !!!
تميم بابتسامةٍ ماكـرة : وينك بالضبط؟
بدر بجنون : وش اللي سويته؟
تميم يبتسـم بعدَ أن لمحـه واقفًا بتِيهٍ ينظُر من حولِه باحثًا بعينيهِ عنه أو عن يوسف ، ليلفظَ بهدوءٍ مستفزٍّ وهو يحكُّ جانِب عنقه بأظافِر يدِه المُتحرّرةِ من الهاتِف : كنت بتتأخر شوي ، شوي يعنِي . .
بدر بحدةٍ غاضبـة : وش قصدك؟
تميم : تراهم قريبين منّك ، وبخير . . بس ما أظـن لوقتْ طويل ..
رغـم أنه شعـر ببعض الراحـةِ إلا أن أسنانُه وطأت على بعضِها ، غضِب أكثـر وهو يلفُظ بنبرةٍ غاضبـة وعيونه تتحرّك بحثًا عن يوسِف الذي ابتعَد مسافـةً بعيدةً عن أنظـاره : ما راح أسمـح لك .. من الحين يا تميم بذبحك لو سوّيت لهم شيء!
تميم بجمودٍ وهو يستمتـع بمراقبتِه تائهًا في بحثِه : أحَد قايل لك الموضوع بهالبساطـة؟ شكل جلوسَك الطويـل هنا بروحك طيّر عقلك .. ما علّمتك هالجلسـة تشغّل هالعقـل الطاير شوي وتفكر ليه أنت هنـا؟
بدرْ يعقدُ حاجبيه ، توقّفت عينـاه عن البحث وتصلّبت في نقطـةٍ واحدةٍ لم يُدرك في تلك اللحظـةِ ما هـي ، بينما أردفَ تميم بضحكةٍ وإغاظـة : أشفق عليك بصراحـة . . بس عمومًا مو هذا موضوعنا .. المهم الحين العائلة السعيدة ذيك.
طـرد بدْر ما طرأ في عقلـه تجاه كلمـاتِ تميم التي نطَقها قبـل لحظـات ، تجاهلها بمسمّى بعيدٍ عن التجـاهل وفكّر الآن بشكلٍ أعمـق بالمصيبةِ التي قد تلحـق بيوسف ، لذا لفظَ بحدّة : وينهم فيه بالضبط؟
تميم باستفزاز : لا لحظــة الموضوع مو بهالسهولـة ، شرايك نتّفق اتفـاق أسهل؟ يخليك تتطمّن على وضعهم من غير لا تدورهم حتى ... ببساطـة أتركهم.
بدر وأعصـابه تحترق ، لفظَ من بين أسنـانه : بذبحك! بذبحك على تلاعبـك هذا بأرواح الناس!!
تميم يضحكُ ببرود : هاه تبينا نلعب؟ تراها سهلة والله ، بسألك سؤالين وإذا حليتهم صح برجع البيت وأنسى السالفـة.
بدر بغضب، رغـم أنّه لم يكُن يريد أن يصدّقه لكنّه يدرك جيدًا أن تميم لسَ من النوعِ الذي قد يتعـامل بالكذبِ كي يصِل لمآربـه ، تميمْ واضحٌ حدّ ألا يظنّ في هذهِ اللحظـاتِ أنه يضيّعه وحسب : نشوف آخرتها معك ..
تميم بتلاعبٍ عابِث ، ينظُر إليه من نقطـةٍ قد يدركها بدر وقد لا يدركها ، يحرّك قدمـه اليُمنـى على الأرضِ ببرودٍ بينما يدهُ تنخفضُ من عنقـهِ إلى فخذِه فيطرقَ بأنامِله عليه وهو يلفـظ بتمهّل : أول سؤال سهـل .. عددهم أربعـة طبعًا مثل ما تدري وأدري، بس اثنين منهم اللي متواجدِين قربنا الحين . . الباقين ماهم معهم .. حاول تعرف ، الخطـر اللي قصدته قريب من اللي حولنا ... وإلا من اللي ببيتهم !!!
اتّسعت عينـاه في بادئ الأمـر بصدمـة ، تصلّبت أطـرافه ، أيّ أنـه ، أي أنـه ليـس على وضوحٍ بالوضْعِ التـام ، قدْ يكون الخطـر محدّقًا بالبعيدين .. لا ، لم يكُن ليقُول لهُ بأن يأتِي إلى هنـا ، لكنّه لم يحدّد في رسـالته موضـع الخطـر تحديدًا بل قـال لهُ أن يأتِي وحسب !!!
شدّ على أسنـانِه بغضب ، انتفضَت أطرافُه بانفعـالٍ حاد ، لم يختـر الإجـابـة ، بل بزغَت من بينِ شفاهِه شتيمـةٌ مـا وهو يتحرّك مبـاشرةً نحو نقطـةٍ واحـدة ، لم يكن لينتظـر حتى يُدركَ من يتقصدهم بالأذى ، بل قرّر اللحـاقَ بيوسف ، الذي لربّما في هذهِ اللحظـاتِ قريبٌ من المبنـى الذي يعيشُ بِه بما أنّ تميم نطـق بعدَ أن ردّ عليه " يطلعون " أي أنهم خرجوا من المطعـم وبالتأكيد عـاد مع من معـه . . عضّ تميمْ شفتـه يمنـع ابتسامتـه ، وبوعيد : مردودة لك .. بس ما يصير يعنِي تروح وأنا ما خلصت أسئلتي! باقـي سؤال ثاني.
تجاهلـه بدر مُغلقًا الهاتِف في وجهه ، حينها انفجـر تميمْ ضاحكًا وهو يتحرّك من ورائـه حيثُ المكـانِ الذي يقصـده ،


،


خرجَت من الحمّامِ وهي تجفّف شعرها، جلَست على السرير الذي كـانت قد ألقَت عليهِ ملابسهـا قبل دخولها للاستحمـام، حمَلت قميص بجامتها بزُرقتـها الباهتـة التي جاءتها قبل أطـرافِ النهـار وبزغَت من قُمـاشٍ فارِغ . . تنهّدت وهي تقفُ لتخلعَ روبَ حمامها وترتدِي ملابسهـا، لم يكُن الفـراغُ الآن ساكنًا بحجمِ ما انتفضَ في أحداقِها وهي تنظُر للأمـامِ دونَ تعبير ، تتذكّر الأقسـام والوعُود من عـلا بأنها سترغـم شاهين على الإعتذار منها وإعـادتها ، وما إن وضّحت لها رأيها بجملـة " احنا مقررين الطلاق مع بعض .. مو بس هو " حتى غشَى ملامِحهـا اعتراضٌ مرير ، خـيبة ، وكأنّ أمـلًا كُسِر ، راقبتْها بضيقٍ وهي تراها تعقدُ حاجبيها لتتضاعفَ تجاعيدُ ملامِحها وهي تُشيح وجهها عنها ، تصمُت لثوانٍ طـالت ، ومن ثمّ تلفُظ بخفوتٍ وضيق : قايلة هالكلام من قلبك وإلا منّه هو؟!
أسيل وأطيـافُ بسمةٍ ترتسـم على شفاهها : طـاح من عينك؟!
عُلا تنظُر نحوها وهي تلفُظ بحسرةٍ واختنـاق : أحبّك مثل بنتِي ، وطبيعي لو ولدي غلط بحق بنتي ما راح أظـل ساكتة ... ما طـاح من عيني ، بس أوجـع قلبي.
أسيل تمدُّ يدها ، تُمسـك بكفوفها بحنانٍ بينما ام فواز كانت قد خرجَت منذُ ابتدأ الحديثُ المتعلّق بشاهين وأسيل ، شدّت على كفوفها ، ومن ثمّ همسَت بحب : بسم الله على قلبك من الوجع ، لا تشيلين الموضوع بخاطرِك ، ما بقول مين أنا عشان تزعلين منه عشاني .. بس بقول إنّه أهـم ، شاهين ولدك ، أنا بمكانة بنتك وبس! . . معليش خالتي، من البداية كان زواجِي فيه غلط، ما كان المفروض أتزوج بأخو زوجي السابق!
نطقتها وهي تبتلـع غصّتها ، يخفُت صوتها رغمًا عنها، تنسدلُ أجفانها عن مَلامِح علا التي ارتخَت بينما تشنّجت كفُوفها التي تُمسك بها، لم تكُن تقصِد إيلامها، كـان واقعًا أنّها أخطـأت بالموافقـة، كـان واقعًا أنّها غُلّفت بجزءٍ من الملامـة وليس فقط شاهين ، منذُ البداية كـان الخطأ شريكًا لي وشريكًا له ، كـانت الأرادةُ صلبـة ، كيفَ لُيّنَت بمحـض كلمات؟ كيفَ انصعْت لهذا الحاضـر الذي نقشَ الماضي على جدرانِه رموزَ ماسونيّته؟ انقبضَت شريعـة العلاقاتِ ببورتريّةٍ نقشناها سويًّا ، كـان فنُّنـا الذي احترفنـاه، كـان الاكتساب الذي مـارسناه، كـان الخطأُ وظنّت الأفـواه من حولِي أنّه صواب، هلْ سُقيَت الزهورُ يومًا بدمعـة؟ ليسَ سوى صيغة مبالغـة، تُثبت فقط أنّ اليأس تعدّى على القافلـة الزائفة بأمالِها ، الحيـاةُ لا تجيءُ بملوحـةٍ بل بعذوبـةٍ نقترفها، كيف لنا ذلك ونحنُ ترسّب على جلدنا الملحُ وجفّفنا؟!
عضّت شفتها بوجَع ، ومن ثمّ شدت على كفيها وهي تُخفض وجهها باختنـاق، همسَت بنبرةِ أسفٍ وهي تُدرك أنّ لفظَ اسمه يوجعها : بتفرحين ، بتفرحين قريب يا خالتـي . . * رفعَت وجهها ومن ثمّ ابتسمَت بحُزنٍ وانكسـارٍ لتُردف * طلاقنـا ما راح يكون شيء! بتنسينه ، ما راح تهتمين له في النهايـة .. بتفرحين ، بتفرحين كثير !
نظُرت عُلا إليها وهي تعقدُ حاجبيها وملامحها تُغشى بالحيرة ، تذكّرت كلمـات شاهين الذي قال لها بأنها ستفـرح، ستفرح قريبًا ! ما المُشتـرك في هذا! أن يقولها لها شاهيـن ، ومن ثمّ أسيل . . أيّ مشتركٍ بينهما الذي قد يُفرحها سوى أن تعود علاقتهما كمـا كانت؟
انحنَت أسيل كي تقبّل وجنتها بحب، تبتـر بقيّة الحديث ، لا تريد الوصُول لنقطـةٍ خطيرة ، لذا همسَت برقّةٍ وحنـان : مافيه داعـي نخلي الجلسة بهالكآبة ، عشـان كذا بنسولف قبل وقت العشـى اللي بيكون من يدِي ويعجبك !

والآن هاهِيَ تبتسمُ بزيفٍ بعد أن ارتدَت ملابسها، رفعَت شعرَها الرطِبَ وتلفّه بكعكةٍ تنعكِف، تحمل هاتفها من على الكومدينةِ وهي تهمسُ بنبرةٍ تحثّها على الصلابـة : ما صار شيء ، ما صار شيء ! حتى سؤالها ذاك ... ما كان شيء !!!
ما الذي كـان سؤالها؟ لا شيء ، نعم ، لم يكُن سؤالها الأخير الذي لفظَته لها قبل خروجها شيئًا ، ومن تلاشيهِ لم تعُد تتذكّره .. نعم ، لم تعد تتذكّره !!!
قرّرت أن تحادثَ فوّاز الآن بما أنها قد أخبرته بأنها ستحادثه ليلًا ، لذا اتّصلت بِه.

يُتبــع . .

كَيــدْ 27-08-16 10:52 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


بدأ يسير ذهابًا وإيـابًا في الممرّ، يشعُر بسيرٍ يخطُّ بخطواتِه خطوطَ عبثِه على جسدِه ، جسدهُ بدأ يحتـرق من هذا الاقتـراب، أن يفصُل جدارٌ بيننا .. كثيرٌ علي! كثيرٌ عليّ وجدًا
.. ماذا لو تسلّل صوتُها فجأةً عبر الجدار؟ ماذا لو ارتسمَت ملامحـها على سطحِه؟ ماذا لو انزلقَت من صدرِي تنهيدةٌ تصلُ مسامعكِ وتفتضـحُ حسناتِك في قلبي ... كان حُبّنا حسنة! ولم يدوّن الحُب يومًا ضمن السيئـات رغم أوجاعِه، كـان حبّنـا نخبًا من شـرابٍ أسكرنِي وحدِي ولم يُسكرك! وكـان الفراق السيّئة المُتمسّكة بأطرافِه بذروةِ جفـاء.
عضّ شفته وهو يزفُر بانفعـال، رفـع هاتفه ، تأخّر يوسف وتجاوز الدقائِق العشـر، لا يطيقُ الوقوف أكثر هنـا ، لذا كـاد يتّصل بِه لولا وصـول إشعـار اتّصـالٍ من أسيل ، عقدَ حاجبيهِ وهو يتنفّسُ بتسـارعٍ من انفعالاتِه ، تحرّكت أصابعـه، لم يكُن ليقبـل بمكالمـة فيديو في هذا المكان، لذا رفـض الإجـابة، ومن ثمّ أرسـل إليها بكلمـاتٍ قصيرةٍ وموجزة " مانِي بمكان يسمـح أكلمـك، بدق عليك بعدين ".
ومن ثمّ أخفضـه وهو يتنهّد تنهيدةً عميقةً ويغرق في سكونٍ وقتيّ ، ينظُر للأمـام بملامـح صلبة ، ما معنـى الصلابة إن كـان ما داخلنا هشّ؟
هزّ رأسه بالنفي ، لا يجبُ أن يحدثَ ذلك ويضيع ! لا يجب أن ينهض من نومِه وهو تائـهٌ ضمن مشاريعِ حياته الروتينيّة ، ويجد نفسه أخيرًا ، داخـل دائرةٍ واحدة، يتشتّت فيها أكثر !!
شدّ على هاتِفه بغيظ ، رغـم أنه كان يدرك جيدًا ومنذُ بوادرِ النهاية أنّ فـراقها سيعنِي الكثير من المعاناة إلا أنـه لم يتوقّع أن يعيشه نفسيًا أضعاف توقّعاتِه ، هل يرتضِي بهذا الحـال؟ أن يتمنّى النسيـان وفي لحظةٍ أخـرى يعترف أنّه لا يريده! أن يخبـر جنان بلحظـةِ أمـل أن تساعده على نسيانها وينـاقض نفسه في دعوةٍ لا خشوعَ فيها!
تحرّكت خطواتُه بغضب ، لا يجب أن يحدثَ ذلك ، ماذا يريد؟ يريد فقط الاستواء ، الاستواءَ في يومٍ لا يستذكرها فيـه ، يريد ذلك فقط ، كيفَ يجلبُ ما يريد سوى عدمِ النسيـان وأن لا ينتزع الله حبّها القدسيّ من قلبه !!
لم يكُن ليبقى أكثر وهو يستشعـر رائحتها بطريقةٍ مـا، رائحتها التي سكنَت أنفه ، لم يكُن ليبقى، ولم يكُن ليخذل عمّه فيما طلب، لذا رفـع هاتفـه وقد قرّر الاتصـال بِه في اللحظـة ذاتها التي فُتـح فيها البـابُ من خلفِه.

خرجَت بجسدِها الصغير لتقفَ جيهان تتّكئ على إطـار البابِ بكتفها وهي تمطُّ شفتها بضجـر ، ابتعدَت ليـان عنها وهي تنظُر لها بنظراتٍ حـادةٍ وعدوانية ، وبحنق طفولي : بنتظرهم هنـا ..
جيهان باغاظـة : انتظري ، مافيها شيء أهم مافي الموضوع إنّ كلمتي بتمشي ومنتِ طالعة للشارع لو تموتين قدّامي.
ليـان : لو بروح ما تقدرين تقولين شيء.
جيهان تتحدّاهـا بطريقةٍ طفوليّةٍ وكأنها تتقاسمها العُمر : وريني شطارتك وبخلّي هالراس الغبـي ينقسـم لأرباع متساوية ، لسانك ذا بروحه بقصّه لستة أجزاء عشان ما أسمع منك كلمـة ثانية.
شدّت ليـان أسنانها بقهـر ، في اللحظـات التي انشطـرت وتوقّف عبـرها الزمن، ظهـرهُ تصلّب ، ملامحـه تجمّدت عدا من عينيه اللتيْن تحرّك جفنـها العلويّ في اتّسـاعٍ غيـر مصدّق ، بأنّ صوتـها تسلّل إلى مسـامعه عبـر الباب ! لم يكُن خلسةً عبر الجدرانِ بل جـاءهُ بإرادةِ البزوغ، لمْ يكُن تماديًا على صلابـةِ الجدار بل كـان استراقًا للفؤاد ، تصلّب وسكـرةٌ تترنّحُ بأضلعـه أكثر ، تتمايـلُ فتنسكِب من موضِع الميـلانِ تنميـةٌ أخـرى لمشاعره، يرتفـع صدرهُ وصوتُها النـازيّ بدكتاتوريّةٍ يُقيمُ في دمِه ثورةً كُبُرى ، حربٌ عالميّةٌ أولـى في جسدِه ، لم تكُن أولى ! لا والله لم تكُن الثورةَ الأولـى ولا الآخِرة ، لم تكُن لها حصرٌ يئدُ فيها اتّسـاع مدارك الأرقـام ، لم تُثِر فيه حربًا أولى الآن ، بل أثـارت من قبلُ العديد ولم يعد يدرك كم رقـم الحرب التي تقوم في هذهِ اللحظات.
لم يتحرّك، بقيَ متصلّبـًا في موضِعه دون أن يستدِير ، ينسكبُ صوتها بنعومتِه إلى أذنـه ، لا يكفيه الصوت ولم يكـن ليستدير ، لذا تقبّل أن يقتـاتَ من رغيفِ صوتها وحسب ، ويترك الملامـح تتجسّد أمامه من ذكراها.
جيهان بضجـر : ليان تعوّذي من ابليـس وادخلي ،
عدّلت الحجـاب الذي كان على كتفيها، رفعته إلى رأسها من بابِ الحيطةِ وهي تتنهّدُ تنهيدةً خلبَت مدارِكـه ، حرّكت رأسها بريبـة بعد أن تقدّمت قليلًا عن الباب ، تتأكّد أن الممرّ فـارغٌ من أيّ شخـص ، سقطَت نظراتها السريعة على فواز الذي كان يُدير ظهره إليهم، لم تركّز جيدًا بهويّتـه وهي تُعيد نظراتٍ غاضبـةٍ إلى ليـان لتلفظَ من بين أسنانها بصوتٍ مكتوم : ادخلي يا مـال العافية ... لو جاء أبوي بيحطها على راسي أنا ... كنتِ نايمة يا الغثيثة وش صحّاك؟
صدّت ليـان عنها بعد أن مدّت لسانها بإغاظـة ، انتبهَت للجسدِ الواقفِ مبتعدًا، يستمـع للحديثِ بصمتٍ دون أن يتحرّك ، يخاطِر بـ " الشبه أرادته " الباقية للنسيـان ويقترب من بترها في لحظـةِ تلذّذه بصوتِها . . عقدَت ليـان حاجبيها بارتيـابٍ وكأنها عرفته، تحرّكت خطواتها تريد أن تتأكد لتتّسع عينا جيهان بغضبٍ ومن ثمّ تتحرّك نحوها وبظنّها أنها قررت النزول فعلًا، أمسكَت بها ومن ثمّ ثبّتتها من كتفيها وهي تهمسُ بحرجٍ ونظراتها عادت للشخص الذي نظـرت له قبل قليلٍ بصورةٍ خاطفـةٍ لم تتباطئ بها : تعالـي فضحتيـــ. ..
ما بـاله واقفٌ هكذا؟ عقدَت حاجبيها وصمتت بعد أن انتبهت لتلك النقطـة، لا ، بعد أن وسّعت عينـاها من تدقيقٍ سريعٍ بالواقِف، لم تكُن أبدًا لتنسـى هيأتـه، طولـه ، انحناءاتِ جسدِه التي تعرفـها من أشهرٍ خاضتْ فيها العيشَ معه ، لم تكُن لتغفـل عن صورةٍ مقلوبـة - ظهره حتى وإن هزمَتها نظرةٌ خاطفـة إلا أن لحظتي تركيزٍ فقط كـانت كافيـة ، لتستشعر من يكون ! .. ابتلعَت ريقها بربكـة وأنفاسها تعرقلَت فجأة ، بينما تحرّك فواز وكأنه شعـر بِها ، لم ينتظر أكثر ، في حينِ كـان سيرهُ الدليل الكافِي أنّه بالفعـل هو وأنّ النظـرة الخاطفـة الأولى هزمَت إدراكها السريع له.
تصلّبت في مكانِها دون حراك ، بينما انسلّت ليـان منها لتركض نحوه وهي تلفظُ باسمـه دون تشكيك : فواز !!
توقّفت خطواته وعينـاه الجامدتـان تنظُران للأمام، لم يلتفت، لم يكُن ليستغلّ هذهِ اللحظـة ويلتفت، بينما وقفَت ليـان أمامه مباشـرةً لتنفـض ذرّة الشك بهويّته ، شهقَت ما إن تراءت ملامحهُ أمامها وابتسامتها تملأ وجهها ، وبفرح : جيت عشان نطلع سوا مثل ما قلت لي قبل؟!
لم يبتسـم، لكنّ نظراته رقّت وهو ينحنِي قليلًا إليها، يمسـح على شعرها ، ويهمس بصوتٍ رقيقٍ وقد قرّر تجـاهل وقوفها من خلفِه : مو اليوم.
ليان تنفـخ فمها بقهر : ليييش؟
فواز بحنانٍ ابتسـم رغمًا عن تصلّب ملامحـه : أول شيء لازم تستأذنين من بابا.
ليان بضيق : اتصل عليه ...
فواز : مرة ثانية حبيبتي.
لم يُضِف شيئًا يتعلّق بهذا الموضوع وهو يراها تكوّر فمها بضيقٍ ودلال، ابتسم، ومن ثمّ انحنى الى وجهها ليقبّل وجنتها، مـال إلى أذنها ليهمس لها بخفوتٍ حـازم : واسمعي كلام اختك لا تجننيها! البنات الحلوات ما يعصون كلام الكبـار صح؟
عقدَت حاجبيها قليلًا ، بينما كانت جيهان من خلفهما تقتضبُ الجمودَ في ملامِحها وتطرد العبُوس، تحتضنُ عضدها الأيسر بكفّها اليُمنـى وصوته ما إن أشـرق كشمسٍ في حلكة الليل حتى نشر في جسدها قشعريرةً قبضَت على جلدِها ، عينـاها تُعتـم وهي تنظُر لظهرهِ بصمت ، تتذكّر الصـورة التي رأته فيها مع جنـان آخر مرّةٍ وتشتعـل ، ينضُب منها الهدوءُ وتتصنّعـه ، قرّرت أن تتراجـع قبل أن يصـله صريرُ احتكاكاتِ عينيها بظهرِه واشتعـال نظراتها، رمقتهُ بخيبـة وقهر ، ومن ثمّ تحرّكت حتى تبتعدَ نحو البـاب.
لا تدري ما معنـى وقوفه قربَ بابِهم ، لكنّها لم تُبـالي كثيرًا قبل أن تبتعـد ، لا تريد الضعفَ أمامه، أن تُفتضح بعبراتٍ بينما هو يعيشُ بطريقةٍ باهتـة. وصَلت للبـاب إلا أن ليـان فجأةً ركضَت إليها وهي تلفُظ : خلاص بدخل بدخـل .. بسمع كلامك مثل ما يقول فوازي.
ضيّق عينيه ولم يستطِع سوى أن يبتسـم وهو يهمسُ بداخله " هالبنت فضيحة "، رمقتـها جيهان بحدّة ، من شدّة قهرها وهي تتذكّرهُ مُمسكًا بكتفي جنان ويبتسم لها ، يحادثها ، يتناساها في خضـم لحظاتٍ معهـا، تُشاركه الأريكـة ورؤية الجدرانِ والمكوثِ حيثُ عاشَت يومًا . . لم تشعر بنفسها وهي تشدُّ على أسنانِها بقهر ، تنظُر لها بغضبٍ وهي تلفظُ بنبرةٍ مكبوتـةٍ بانفجـاراتِ الغيرة : أفضّل ترفعين ضغطي مليون مرّة ولا تسمعين توصيـاته.
قالتها بصوتٍ مسمـوع أرادته أن يصـل لمسامعه، اتّسعت عينـا فواز في بادئ الأمـر بمفاجئة، وسرعان ما ارتخَت أجفانـه ، وابتسم دون أن يلتفتَ إليهما حتى !
أمسكَت جيهان بيدِ ليان بغضبٍ حاولت أن تجعله يظهر باردًا وهي تأمرها بصوتٍ باهت : ادخلي وبلحقك الحين.
اومأت ليان دون تعليقٍ وهي تدخُل مسرعة، بينما رفعَت جيهان عينيها إليه ، ابتسمَت بسخريةٍ مرّة ، اتّكـأت بكفّها على إطـار البابِ وكأنها تستمدُّ منه القوة ، وبتساؤلٍ ساخـر : كم صار لك من نسيتني؟
مرّر طرف لسانِه على شفتيهِ وهو ينظُر للأمـام دون تعبير وابتسامته تلاشت ، ملامحـه الجامدة لم تعبّر عن مشاعـره وهو يتمتمُ بصوتٍ لم يتجاوز مسامعه، لم يصلها وهو يهمسُ مجيبًا بخفوت : عمرين من الكذب !!


،


اقتربـا من الوصول بينما أصبـح بدر خلفهما ، يتنفّس بانفعـالٍ وكفّه تضـعُ الهاتفَ في جيبِه ، نظراته أصبحَت تبحثُ هنـا وهنـاك بريبـة ، يمرّر لسـانه على شفتيه ، لا يدري ما يخطّط لهُ تميمْ لذا كـان حائرًا بقلقِه وهو يحرّك عينيهِ من حولِهما وصدرهُ يرتفـع وينخفـض بسرعة . . مرّر لسـانه على شفتيه ، هذهِ المرّة اختـار أن ينظُر لهما تحديدًا وثبّت عينيهِ عليهما بحذر كصقرٍ ينتظـر فريسته ، تباطأت سرعـةُ أنفاسـه واستعدّت للانتظـامِ بهدوئها ، لكنّها سرعـان ما انفعلت وهو يدقّق النظـر بجسدٍ كـان يسيرُ أمامهما ، يجيئهما بشكلٍ عكسيّ ، وما جعلـه يرتـابُ أنّ نظـراتِه الحـادّة كـانت مصوّبـةً على وجهِ " أرجوان " مباشرة!!
بينما كـانت أرجوان في تلك اللحظـةٍ تنظُرُ لهاتِفها وترسـل إلى جيهان رسـالةً وكأنها كـانت تخشـى أن تدرك بطريقةٍ مـا أن فوازْ يقفُ على مقربـةٍ منها ، شعرَت بالندمِ من إصرارها على الخـروج في هذا الوقت ، لكنّها لو لم تذهَب لكـانت ستندمُ أكثر .. لكنْ من بينِ كلّ هذا ... كيفَ حدَثت صدفـةُ أن يتمّ الاتصـال بها لأجـل سوارةٍ أخرى!! .. ليسَت صدفـة متأكدةٌ ليسَت صدفـة !!
رفعَت نظراتها بعدَ أن أرسلَت لجيهان فقط " جوج "، لكنّها شعرَت بغباءِ حركتها تلك ، لذا قرّرت أن تتّصل بها بالرغمِ من قربهما ، لكنّها أحبّت الاطمئنـان ، تدركُ جنون أختها وتخشى لو أدركت أنّه يقفُ على مقربـةٍ منهم لخرجَت إليه !! .. اتّسعت عيناها بذعرٍ من تلك الفكـرة ، خفضَت نظراتها بسرعةٍ لهاتفها ، لكنّها فجأةً تحجّرت لثانيتين، قبل أن ترتفعَ نظراتها من جديدٍ باستنكـارٍ وتنظُر للعيون التي كـانت ترمقـها بمكرٍ ووقاحة ! عجّنت ملامـحها بازدراء ، ومن ثمّ أشاحَت وجهها إلى هاتفِها متجاهلـةً تلك النظراتِ الوقحـة ، ذهبَت إلى رقـم جيهان وصوتُ يوسفْ يصلها مستغربًا : تكلمِين مين الحين؟
أرجوان بارتبـاكٍ ترفـع نظراتها إليه ، تخشـى في قرارةِ نفسها أن يعودُوا ويجدوها تقفُ أمامه! لم تكُن تتهّم أختـها بالسوءِ لكنّها تدركُ اندفاعها خصوصًا فيما يتعلّق بفواز ، لم تعلَم بمـا تُجيب ، لكنّها شهقَت فجأةً قبل أن تحـاولَ حتّى وتشعُر بجسدِ ضغطَ على جسدِها من جانبها ودفعها بقوّةٍ لترتطـم بيوسف وتتأوّه بصدمـةٍ لا بألـم ، أمسَك بها يوسفْ بسرعةٍ وهو يوسّع عينيهِ دون استيعاب ، رفـع نظراته لينظُر للشخـص الذي ارتطـمَ بها بتلك الطريقةِ أو على الأحـرى دفعها عمدًا ، والذي كـان .. بدر!!


،


وضـع كأس الشـاي أمامه على الطـاولةِ ذات اللونِ الخشبيّ المُحترق ، السـاعةُ تمدُّ يديها للحـاديةَ عشرةَ مرحّبـةً بقربِ انتهـاءِ ساعاتِ الصحـوة، يضـع هاتفـه بجوارِه بعدَ أن كـان يقرأ رسـالةً وصلته من متعب " بتتعذب بالأكـل اللي طلبتـه ، شاهين رفـض ياكله " وبتمتمةٍ خافتـة : منّك لله أنت وأخوك.
عقدَت سهى حاجبيها باستنكـار ، وبشكٍّ تجاه ما سمعت : وش قلت؟
أدهم يبتسمُ على مضض، وجهه كان أقرب للتكشير وهو يلفظ : سلامتك.
سهى تُرسمُ دائرةً حولَ وجهها بسبّابتها : وجهك مكشر حاول تبتسم زين . .
ابتسمَ أدهم هذهِ المرّة ابتسامـةً حقيقيةً لتبتسـم معهُ وهي تلفظُ بينما يدها تمتدُّ لتحمـل كأس الشـاي الخاصِ بها من على الطـاولة : تذكرت تو إنّي كنت بآخر مرة زعلانة منك . . للأسف نسيت.
أدهم بسخرية : خلاص من بكرا نبدا من جديد طيب؟
سُهـى تُميل فمها وهي ترفعُ حاجبًا : ترى زعلي شين لا تحاول تجرّبه.
أدهم يبتسم : أدري ، هو أنا أقوى أجربَه من جديد؟ تبت من آخـر مرة.
سهى : لو ابليسْ بيتوب عن ذنبـه ويطلب المغفرة من الله بصدّق إنك بتتوب وقتها.
أدهم : هههههههههههههههههههه أفا! لهالدرجة طايـح من عينك؟
سهى تومئ برأسها : وأكثر . .
نظـرت تجـاهَ إلين لتبتسـم لها برقّة ، كـانت تلحظُ هدوءها ، صمتها الذي غلَب على تواجُدِها معهما وكأنها كـانت تجلِسُ فقط بمجاملـةٍ لها ، وفي تلك اللحظـاتِ تحديدًا كـانت إلين تشعُر بخمولٍ في جسدها ، بمللٍ من جلُوسها هنا ، تتمنّى لو تذهب لتنـام ، لكنّها بالمقـابِل شعرت بالحـرجِ أمام سهى ، لم تكُن تحبّها، وفي المقـابلِ لم تكُن تكرهها! .. قرّرت أن تمسـح من عقلِها ما مضـى والصـدامُ الأوّل الذي كـان ، لتعتبرها الآن ، امرأةً لتوّها عرفتها ، عمّة أدهم التي لم تقابلها قبل اليوم!
سهى بنبرةٍ ناعمـةٍ وهي تنظٌر لملامِحها الساكنـةِ والناظـرةِ للأسفـل : شفيك ما تحكِين نجلاء؟ من بعد العشى ومافيه غيري أنا وأدهم نسولف!
عقدَت إلين حاجبيها في بادئ الأمـر، لم تستوعِب كمـا يجب " نجلاء " تلك التي خرجَت من فمِها ، هذهِ الهويّة التي لا تعترفُ بمسمّاها ، ألا يكفِيها أن أدهـم يتجـاوزُ احترامها حين ينطُقها؟ . . رفعَت رأسها ببطءٍ وعينيها المُظلمتيْنِ تسقطـانِ عليها بكلمـاتٍ طرأت على أحداقِها ، تدورُ في حلقةٍ مُغلقـة ، لا تنفكُّ سوى حينَ تُفـرجُ شفاهها وتنطُقها ، كـانَت أفكـارها فاضحـةً لأدهـم الذي قرأها بوضوحٍ ويدركُ جيدًا كيفَ يستفزّها ذاك الاسم ، رفـع حاجبيْهِ بتوجّس ، عقلـه تكهّن بعنفِ حدِيثٍ رّبّما! لذا وجدَ نفسه ودون شعورٍ يلفظُ لسهـى وهو يبتسـم قبل أن تنفكّ الحلقـةُ وتخرجَ أفكـارها في صورةِ - صوت - : يعنِي مو واضـح لعيونك العمياء إنها مستحية منك؟ .. إذا أنا للحين تستحي منّي بتطقّها سوالف معك من أول يوم؟
سهى تلوِي فمها دون اقتنـاعٍ وهي تنظُر نحوه : تقارن نفسك فيني؟ أنت رجّال وزوجها طبيعي تستحِي منك في البداية بس أنا مرَة مثلها.
أدهم : ما شاء الله نصّبتِ نفسك الخبِيرة بوضـعها الحين؟
سهى تتجاهلـه وهي تنظُر لإلين بابتسامةٍ رقيقة : عسى بس ما تزعجك جلستي ، اشتقت لزوجك يعني لو ثقلت عليك فالمُلام هو مو أنا.
ابتسمَت على مضض، وبنعومةٍ خافتـة : أبد البيت بيتك خذي راحتك.
سهى : يا حلوك ليتك تعلمينـه الذوق بس.
أدهم وحاجبه الأيسـر يرتفـع : مقبولة منك يا عمّتي الغاليـة.
سهى تقفْ : معليشْ اسمحولي أنـام الحين ، صايِر لي 18 ساعة ما نمت . . تصبحون على خير.
نطقّتها بهدوءٍ ومن ثمّ ابتعَدت لغرفتـها السابقـةِ نفسها والتي رتّبتها مع إلين بعدَ مجيئها بساعة . . تلاشَى ظلّها عن أعينهِما، حينَها وجّه أدهم أحداقـه لإلين التي مدّت يدها ببرودٍ لهاتِفها الذي كـان بجانِبها ، حملتـه بتجاهـلٍ صامتٍ لوجودِه وكأنها لا تـراه ، لا تُدركُ نظراته التي تتلظّى بحدّتها ، صوتُه الذي لازال مغيّبـًا في شفقِ حنجرتهِ التي كـانت تكوّن الكلمـات ، يريدها أن تخرجَ إليها بصورةٍ هادئـةٍ بعيدًا عن حدّةِ النظـرات : وش كنتِ بتقولين لها؟
لم تنظُر نحوهُ وهي تتلاعبُ بأطرافِ أصابعها على شاشةِ هاتفها ، وبهدوءٍ أقـرب للبرود : بقولها عن اسمي بس.
أدهم : من غير قلّة أدب؟
رفعَت رأسها إليه هذهِ المرّة ، رمقتـه بأحداقٍ تصلـى سعيرًا! يتماوجُ فيها موجٌ من النـارِ تناءى عن عنصر المـاء : عارفة الأدب من قبل أعرفك.
أدهـم يبتسـم باستفزاز : أشوف رجعت حليمة لعادتها القديمة وإلا؟! ما كملنا يوم حتى!
ارتبكَت قليلًا وهي تُشيـح وجهها عنه بقهر ، تشعُر بالغضب ، تشعُر بأنّ في صدرِها كلمـاتٍ كثيرةٍ وانفجـارٍ استعدّ الحدوث فجأة! .. لا تدرِي ما بالها ، لكنّ الانفجـار الذي كـان لابد أن يظهر البارحـةَ في اعتـراض ، أو الصبـاحِ في حسرات ، جـاءَ الآن، لأنها في النهايـةِ أرادت الاستسلام! ، لم تستسلمْ رغمًا عنها ، بل أرادت بنفسِها ذلك. . . لفظَت بحدّةٍ مقهورةٍ وهي تتطلّع بملامِحه بشرر : قلّة الأدب تنقـال على حركاتَك بالمطبـخ ، شلون تتجرأ تسويها قدامها؟
أدهـم يُميلُ فمه للأسفـل قليلًا ، يُخفـي ابتسامتـه المتسلّية وهو يلفظُ بخبث : أها الموضوع كذا .. خلاص إن شاء الله ما عاد تنعاد ، بتكون دايم من وراها.
اهتزّت أحداقها رغمًا عنها وهي تتراجـع بظهرها بارتبـاكٍ حتى التصقَت بظهرِ الأريكـة ، وبنبرةٍ مضطربة : ما قصدت كذا .. الحركة بكبرها ما كنت راضيـة عنها.
أدهم باستفزاز : متأكدة؟ مو اللي معصبك إنه قدامها بس؟!
أعـادَت خصلاتٍ من شعـرها لخلفِ أذنها وهي تزفـر بغيظ ، وبنبرةٍ حادةٍ بينما حواجبها تُعجِّن الجلدَ من بينهما في عُقـدةِ انفعـال ، تزحفُ الحُمرة إلى وجنتيها، تربكها ايحاءاته رغمًا عن غضبها : ترانِي فاهمتك .. تبي تستغلّ إنها بتظل عندنا فترة وتظـل تتمادى.
أدهـم يقفُ بهدوءٍ أُمطِر عليه من سُحِب غضبها ، اقتربَ منها لتتشنّج كفوفها وتزحفَ إحداهما الحاملـة هاتِفها على الأريكـةِ بجانِبها ، مـالت شفاهُه في ابتسامـةٍ متباسطـةٍ وهو يلفظُ برويّةٍ ويقفَ أمامها مباشـرة : أي تمادي تقصدين؟
إلين بربكـةٍ ترفـع رأسها لتنظُر لعينيه المُشـرفةِ عليها من علوّ ، وبصوتٍ محذّر : ارجـع شوي لورى .. لا تقرب !
أدهـم يضحكُ ررغمًا عنه وهو ينحنِي إليها، أمسكَ بمعصميها ومن ثمّ أوقفـها وهو يستشعـر جسدها الذي يتشنج معترضـًا ، يشتعـل فجأةً بخجلٍ عـادَ إليها وغلّفها بارتبـاكِه . . همسَت برجفـةِ نبرتِها الموؤدةِ في إحراجِها الذي بـزغَ ليُضعفها أمامه فجأة : ترانا بالصـالة ، لا تتمادى عمتك قريبة!
أدهم بابتسامةٍ تظهرُ بها صفوفُ أسنانه : ترى قوّمتك عشان تستحِين على نفسك ونكمّل كلامنا فوق ، ما أضمنك تفضحينا عندها.
إلين باعتراضٍ تعقدُ حاجبيها وهي تحـاولُ سحبَ يديها من كفوفِه التي تلسعُ رقّةَ جلدِها بدفئها : ما شاء الله تبيني أختلي فيك وتتجرأ أكثر!
لم يستطِع أن يمنـع نفسه من ضحكـةٍ انفجرَت ليرتدّ رأسه للخلف ، احمرّت ملامِحها بشدّةٍ بعدَ أن استوعبَت غبـاءَ ما نطقَت ، بينما جذبها أدهم إليه وهو يحـاولُ أن يوقفَ سيلَ ضحكاتِه أو يخفضـها كيْ لا تنسـابَ خلسَةً إلى مسـامِع سُهـى وتُفسَد لحظةٌ كهذِه ، يشيبُ فيها العبُوس! .. أن يقتربَ منها يعنِي أنّه بتـرَ ذراعًا من الصوابْ ، الصوابُ الخطأ! .. نفسهُ القديمـة ، قلّة صبـره ، يجدَ أنها تتحوّل معها إلى استمتـاعٍ ينتظـر فيها ردّة فعلـها التاليـة.
حـاولت إلين أن تنسلّ من بينَ يديهِ وهي تشدُّ على أسنانِها بحرج ، إلا أنه رفـع يديها إلى صدرِه ليكبّلها وهو ينظُر لعمـق عينيها بعدَ أن نظـرت لوجهه ، وسرعـان ما شتّت أحداقها بربكـةٍ لذيذة ، تسكُره سكرةً لا تُجيدُ الصحوة ، كيفَ يصحو من خُمرةِ الحـلال الذي سابقـه إلى الدنيـا؟
همسَ بخفوتٍ وهو يبتسـمُ لها ويضغطُ على كفيها فوقَ صدرِه : بعتبـر إنّك صاحيـة .. ما كنا بخلوة أصلًا من قبل لا تجي عمتي .. كان معنا الجدران والأرض والسقف والمطبـخ والتلفزيون وكل شيء جمـاد من حولنا.
عضّت شفتها بحرجٍ من سخريتـه ، بينما ضحكَ أدهم بخفوتٍ وهو يرفـع كفّها ليقبّلها برقّةٍ مُردفًا : ما كنّا بروحنا ... كان معنا سحرك.
صدّت عنه وصدرها يرتفـع بأنفاسٍ ضيّقـة، عقدَت حاجبيها بضيق ، بينما أخفضَ أدهم كفها قليلًا وهو يلفظُ بتوضيحٍ مُبتسـم : عارفـة ليه أقولك نطلع غرفتنا أبرك! .. مو عن خلوة على قولتك بس لأنها لو طبّت علينا بتسمـع مصايبك . .
إلين تزفـر بغيظ : ما أثـق فيك.
أدهم يرفـع حاجبيهِ بإغاظـة : طبيعي ، أساسًا بكل الأحـوال أنتِ آخرتها طالعة طالعة وبستفرد فيك .. على بالك بخسر التحدِي بهالبساطة؟
استطـاعتْ سحبَ كفيها من يديه، ابتعدَت عنه قليلًا وهي تنظُر لهُ بحقد ، وبقهر : حظّك يقهر ، وجود عمتك من اليوم بتستغلّه وإلا كنت مقررة أنـام بغرفـة بروحي.
أدهم بسخريةٍ يكتّف ذراعيه : لعب عيـال هو؟ دايم تثبتين لي إنّك طفلـة.
إلين : لأنك لئيم ..
أدهم يُميلُ رأسه قليلًا وهو ينظُر لها بسخرية : لئيم؟ محسستني إنّي جبرتك مو إنتِ اللي من بوسَة . . .
قاطعتـه وهي ترفـع كفيْها لأذنيها وملامحها تتخضّب بالحمرة : اسكت . . لا تجيب كلام من راسك.
أدهـم يقتربُ منها وهو يبتسـم بمكرٍ تلتمـع بهِ عيونه، تراجعَت للخلفِ وهي تبتلعُ ريقها وتُخفـض كفيها عن أذنيها بربكـة ، لسـانها شعَرت أنّه تشنّج فلم تستطِع قولَ شيءٍ في حينِ لفظَ أدهم بخبث : ما كنت أبي أحرجك قلت خلاص تعدّل الوضـع بيننا بس أنتِ اللي تثبتين لي إنّ مراعاتي لك مالها معنـى . .
اقتربَ أكثر لتتّسع عيناها بتوجّسٍ مما سيقول ، وقفَ أمامها مباشـرة ، كـانت تريد أن تتراجـع أكثر لكنّه أمسك بعضدها يمنعها وهو يبتسـم بمكر ، يُخفـض وجههُ إليها لتخفِضَ رأسها تلقائيًا بارتباك ، وبخفوتٍ متسائلٍ بنبرةٍ يتجمّد فيها كلّ شيء عدا المكـر : كلام من راسي؟ أقدر أسألك ليه استسلمتِ لي؟
كـادَت تشهق شهقـةً كافيـةً لملء إذنـه بإجابـةٍ أخـرى ، شعَرت أن الاحمـرارَ أصابَ عينيها ، أنّ جسدها يفرغُ من الداخـل ليُصيبها الوهن، صعقها بسؤاله الفجّ ليتشنّج جسدها تلقائيًا وهي تحاولُ أن تتراجـع لكنّه كـان يمنعها وهو يكرّر بخفوتٍ يشتدُّ بوطأتِه عليها : ليه؟
جفّت حنجرتها ولم تستطِع أن تبتلع ريقها وهي تنظُر للأسفـل موسّعةً أعيُنها وأحداقُها ترتعش ، لمَ؟ لمَ استسلمت له؟ لمَ سكنَته دون اعتراض؟ دون أدنـى مقاومـةٍ بقناعاتِها الكاذبـة! أثبتت كذبـها حين استشعـرت أوّل قبلـة ، ومن ثمّ أحاطتـه بالموافقـة ، لم تكُن كاذبة! .. لا ، لم تكُن .. لكنّها فجأةً سقطَت ، فجأةً توارَت خلفَ الانحـلالِ في معادلـةٍ كيميائيةٍ تجهـل تراكِيبها ، فجأةً انتفضَت القنـاعةُ على الثبـات ، واختـارت السقوط لتقبـل . . ماذا يعنِي قبولي؟ .. ماذا يعنِي غيـر أنّني .. أنّني لم أعُد أكرهه؟! وتقبّلتـه !!!
أخيرًا استطـاعت ، ابتلعَت ريقها ، وسقَت حنجرتها الجافـةَ بمرارَتِها ، ارتعـش جسدها بوهنٍ وهي تحاولُ أن تبتبعدَ إلا أنه كـان مسيطرًا وهو يقرّبها منه ويُردفَ بلؤم : مانِي لئيم .. بس الحين بكون عشان عيونك الحلوة يا حلوتِي .. طحتِ من أول بوسـة ، لو أدري كنت بستك من أول ليلـة ، بس ماش كنت غبـي ما عرفت شلون أجيب راسك من البدايـة.
اشتعلت عيناها بشعلـةٍ أخـرى غيـر الخجـل ، رفعَت عينيها إليه وملامحـها تُغـادرها صلابـة الربكـةِ لتواتِيها صـلابـةٌ أخـرى ، صلابـةُ انفعـالٍ أبعَدت ما كـانت تعانِيه من تشنّجـاتٍ قبل لحظـة . . بينما راقبَ أدهم ملامِحها المنفعلـة ببرود ، يريد أن يصِل إلى نقطـةٍ واحـدة ، ويُدرك أنّ كلامـه الآن استفزّها وأغضبها بإيحاءاته . . لم يخِب ظنّه، إذ لم تمرّ ثانيـةٌ حتى إلا وصوتها يخـرج من حُنجرتها صلبًا حادًا باحتقـار : تراك قاعد تغلط وتتجاوز حدودك !
أدهم باستخفافٍ يبتسـم، أمـال رأسه ببرودٍ وهو يلفُظ : أجـل؟ وش بيكون السبب!
شدّت على شفتها السُفلـى بأسنانِها وهي تهزُّ رأسها بالنفي ، لا تدري ، هي لازالت تكرهه ، نعم ، لم تتقبّلـه ، نعم ، لازالت تكرهه .. إذن لمَ استسلمَت له؟!!! . . لا تدري!!!
ابتلعَت ريقها بقهرٍ من حيرتها ، إلا أنها لفظَت أخيرًا بعذرٍ كـاذب : السبب مو اللي في بالك ، بس خفت من ربي .
أدهم يرفـع حاجبيهِ بعجَب ، لم يصدّق عذرها ، يُمنّي نفسه أن هنـاك ما اختلفَ في مشاعِرها ، كـان شبـه واثقٍ من ذلك، لذا لفظ بسخريةٍ وهو يترك عضدها : روحي بس روحي .. أعذارك غبيّة .. الحين يوم إنّك على قولتك خايفة من ربّك بتقولين اليوم الثاني ماراح يتكرّر؟
ارتبكَت وهي تتراجـع للخلفِ ، كذباتها كـانت مكشوفة ، لكنْ ما الذي لديها لتقوله إن كـانت هي نفسها لا تدري ما السبب؟ .. هل بالفعـلِ لا تدري!!
لم تنبـس بشيءٍ بعدَ كلامِه ، رمقتـه بشكلٍ سريـع، ومن ثمّ تحركَت مبتعدَةً عنه بخطواتٍ واسعـة بينما كـان يتابعها بابتسامةٍ ساخـرة حتى صعَدت وانتهى مجـال رؤيتـه لها ، حينها تلاشَت ابتسامته ليزفـر بغضبٍ أبكَم لم يُحدّثها بما فيه! ، تحرّك ليجلـس أخيرًا وهو يلوِي فمه بغيظ ، يتمتـم بكلماتٍ مـا ، لم يكُن بنفسِه يدركُ ماهيّتها.
سينفجـرُ منها لا محـالة ، سيلفـح هذا المكـان بغضبِه منها ويسدلَ ستائرَ الهدوء ، كـان يمنّي نفسـه أنها لا تكـرهه ، جـاءَ قبولها فما الذي حدَث الآن ؟ هل تكذِب؟ أن أنها في لحظـةٍ ضعفَت وحسب!!!


يُتبــع . .

كَيــدْ 27-08-16 11:19 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





،


" غرفـة ثانية؟ "
لفظَتها بنبرةٍ مستنكـرةٍ وهي تنظُر لسـالي التي أومأت بهدوءٍ وهي تجيب : بابا سلطان يقول كذا.
سلطان !! . . عقدتْ حاجبيها مستنكـرة ، سلطـان أمرها أن تنتقـل لغرفـةٍ أخرى! .. مرّرت لسـانها بربكـةٍ على شفتيها ، تحرّكت أحداقها بشكلٍ تلقائيٍّ في زوايا الغرفـة وعُقـدةُ حاجبيها ترتخِي لترقَّ ملامحـها أخيرًا ، في النهـايةِ كـانت تضاعفه هذهِ الغـرفةُ قهرًا ، كـانت تضاعفُ غضبـه بدلَ أن تُطفِئه أو تخفّف من شُعلتـها . . ابتسمَت بانكسـارٍ وهي تعتدلِ بجلوسِها ، تتكِئُ على الوسائدِ ونظـراتها تعـانقُ كفيها المُتلاعبيْنِ بأصابِع بعضهما في تشابكٍ لم يرضـى التجـانسَ والاستـواء ، التشـابكُ ذاتـه ، والذي يؤلـم إن طـال ،أن تبقَـى اليدينِ معلّقتـانِ في انقبـاضٍ يُميتُ نشاطها ، هذانِ همـا ، لم يطُل مكوثُ التلاحـمِ المبدئيّ حتى انتفـض انتفـاضـةَ حرب ، انتفاضـةَ ثورةٍ من عينيه.
شابكت أصابعها بشكلٍ أقوى وهي ترفـع حاجبيها قليلًا بحسـرة ، وبخفوتٍ تُجيبها ، بعدَ رحلـةٍ طالَت على قافلـةٍ الصمت : جهّزي أي غرفـة تجي ببالك ، ما تهمني أيش.
أومأت سـالِي بصمتٍ ومن ثمّ ابتعدَت عنها باتّجـاه البـابِ وغزل تتابعها من زاويتي عينيها حتى خرجَت وقبـل خروجها كانت قطّتها تدخـل لتندفـع إليها بسرعةٍ وتقفزَ على السريرِ بجانِبها . . ابتسمَت وحسب ، وأشاحَت وجهها وصوتُ خطواتِ سالِي تبتعِد ، رفعَت رأسها قليلًا للأعلـى ، لمَ تشعُر بهذا الوجـع الآن ومن المفتـرضِ أن ترتـاحَ بعدَ أن قرّر الخـلاصَ لها من هذا السجـن؟ قرّر الخـروج، وبدل أن ترتـاحَ ها هيَ تجدُ نفسها خلفَ قضبـانٍ أخـرى ، قضبـانٍ تلتهبُ وتحرقُ أصابعها كلّما لامستها ، قضبـان سلطـان! التي تتصـاعدُ بحرارتها دون أن تذُوب بل تذيّب أصابعها هي!
أغمضَت عينيها وهي تُعيدُ جسدها للخلفِ لتتمدّد أخيـرًا وآلامها خفّت وطأتها، شعَرت بقطّتها تستريحُ فوقَ بطنِها، لم تكُن في مزاجٍ يسمـح لها أن تحملَها حتى وتبدأ بالحدِيثِ المعتـادِ معها ، هـل كـان كلّ شيءٍ خطـأ؟ هل كـان يجبُ أن تسيرَ على نُصـح أمها وتحاول الخـروج بشتّى الوسائلِ من حياتِه دون أن ترهقـه بقهره!! . . كـان صعبًا ! صعبًا والله أن تبتعـد وكلّ شيءٍ قـد نجح ، كلّ شيء! النصفُ الآخِر من أهدافِ هذا الزواج، كـان صعبًا ، أن تخـرج شبـه رابحـةٍ وهو العكـس من ذلك تمامًا . .
تمتمَت بخفوتٍ مختنـقٍ وكفّها ارتفعَت لتبدأ بالمسـح على ظهرِ قوزالْ وهي تشدُّ على أجفانِها بشدّة : أستـاهل ، وبتحمّل كلّ اللي بيجيني منه .. وباللحظـة اللي يطلّقنِي فيها ، بيكون انتهـى كل شيء وأخذ حقّه بالطـريقة اللي ترضيـه . . آخ يا رب !!
فتحَت عينيها المتألّمتينِ وهي تبتسـم مُردفـةً بأسـى : يا رب جيب هاليوم ، عشـان يكون وقتها مرتـاح ، بس مرتـاح! وأنا ما تهـم ضيقتي .. تعوّدت!


،


في وقتٍ سـابق .. اختـارَ أخيرًا أن يستدِير ، اختـارَ أخيرًا أن تصتـدمَ عيناهُ بعينيها ويشتـاقَ أكثر ، لن يُسعِف الشوقَ برؤيتها ، بل كـان ليشتـاق ، أكثر!! ، من قـال أن النظـر لغائبٍ يُسعِف الشوقَ ولوعته؟ إن كـان هذا الغائبُ سيغيبُ أكثـر بعدَ النظـر إليه فهذا يعنِي أن يشتـاقَ أكثـر وتتضاعف اللوعـة أضعافًا !! .. من يُخطئ في تقديرِ الغيـاب؟ ويمنّي الشوقَ الشبـع بضدّه من لمحـة! . . نظـر لوجهها بصمت ، بينما ارتبكَت جيهان بعدَ أن استدار ، كـادَت تتراجـع للخلفِ وتدخـل هاربـة ، لكنّها وقفَت بصلابـةٍ أمـامه ، واختـارتْ أن ترفـع ذقنها بعلياءٍ واستكبـار ، تنظُر لهُ بشموخِ امرأةٍ لم تنكسـر وهي الضدّ من ذلك تمامًا ، تنظُر لهُ بغرورٍ وهي المهتزّة من الداخـل ، وبنبرةٍ شامخـةٍ وهي ترفعُ أحدَ حاجبيها بطريقةٍ جعلته يعقدُ حواجِبه استغرابًا ، لم تستمدَّ من ملامحِه شيئًا سوى الغضب ، لم تحاول أن تتأمّله وتضعفَ بمشاعرها بل ظلّت تنظُر لهُ ببرود، لافظـةً بسخرية : كم صـار لك بالضبـط؟ يوم أو يومين ، شهر؟ وإلا من يومْ المستشفـى . . ما أظـن .. طيب من آخر مرّة التقينا؟
بقيَ ينظُر لها بصمت ، عُقدَةُ حاجبيه انفكّت لترتخي أخيرًا وهي يُميلُ فمـه ، تلك إجـابته " عمرين من الكذَب " ، دهـرٌ كـاملٌ من الخداع، عمرٌ لم يحـاول فيه وعمرٌ قـال سينجحُ دون أن يُثـابر ، تلك هي إجابته التي لم يلفظـها ، لأنه مـا كان ليقولها ، ما كـان ليعترف إلا لنفسـه ، ولربّما لعينيها إن استطـاعتْ القراءة ولم تصبِح أميّةً الآن . .
همسَ بصوتٍ لا تعبيرَ فيه بالرغمِ من كونِ صوتِه يهتزُّ بسهامِ عيناها ، بالرغمِ من كونِ ملامحه الآن تنسخها وترسّبها على جلدِه ليراها في كلّ حينٍ ينظُر فيه للمـرآة ، يراها في عينيهِ ولا ينسـاها : وش تتوقّعين؟
جيهان بثقـة : ولا ثـانية ! . . ما نسيتني ولا راح تنسـاني.
كـانت ثقتها صادقـةً لعينيه ، لكنّها في قـرارةِ نفسها تكذِب ، ثقتها بأنه لم ينسـاها بدأت تتداعـى منذُ اللحظـةِ التي رأته فيها مُمسكـًا بجنان، يُحيطها بذراعِه ويبتسم ، ثقتـها اهتزّت ، إلا أنها ظهـرت أمامه الآن بصدقٍ أبكـم ! . . انقبـضت عضلـةٌ في فكّه ، ظلّ ينظُر لعينيها وضلَّ! .. عيناها الضـلالُ وقلبها هُدى ، ضـاع الهُدى وبقيَ الضـلالُ يعيشهُ فيها ، بل عيناكِ ضـلال ، وقلبـي الذي يهديني إليه! . . . كـانت صادقـة ، لذا لم يقُل شيئًا بل ظلّ صامتًا ببرودٍ علّ صمتـه يزعزعُ ثقتها ... في حينِ أمالت جيهان فمها بابتسامةٍ ساخـرةٍ وهي تردف : لأنّي دعيت الله ما تنسـانِي وتحترق بذكراي .. ودعوة المظلـوم ما تنرد!
تحرّكت حواجِبه حركةً خاطفـة ، ابتسمْ ، لكنْ سرعـان ما تحوّلت ابتسامتـه لضحكةٍ عميقةٍ جالَت في قلبها ولم تغادره ، جعلتها ترتبك ، وتفرجُ شفاهها ببهوتٍ نـاظرةً لوجههِ بلوعةٍ ظهـرت في جزءٍ من الثانيـةِ قضاها مغمضًا عينيه قبل أن يفتحهما وتتلاشـى لوعتها سريعًا وتعودَ لثقتها !! .. لفظَ فوّاز دون تصديقٍ وهو يهزُّ رأسـه بالنفي ويضحك ساخرًا : مظلومة !! .. اهدا من كذا يا جيهان !! تحبين دور المُضطهدة كثير!
التوىَ فمـها ببعضِ الغظ ، لكنّها لم تتنـازل عن قناعتها ، عن صلابـةِ صوتها وهي تهتفُ بثقة : كلنا ظـالم وكلنا مظلوم ، عشان كذا دعواتي ما تنساني راح تُستجـاب ، ودعواتك ما أنسـاك استجابت!
غـادرته علامـاتُ الضحكـة، اشتعلَت نظـراتهُ بمشـاعرَ خاطفـة ، تصلّبت ملامحـه ، وقلبهُ انقبـض باعترافها الصـريحِ دون مواربـة! . . همسَ بخفوتٍ متسائل : تعترفين إنّك ما تقدرين تنسيني؟
جيهان تقوّس فمها للأسفل دونَ مبالاةٍ وهي تهزُّ كتفيها : أتوقع كنت صريحة معك بما فيه الكفـاية .. قلت لك قبـل بتجاوزك حتى لو ما بديت من جديد ، الحين أعترفْ إنّي مُمكن ما أقدر أنسـاك ... بس قرّرت أبدأ من جديد!
فوازْ وعضلـةٌ انقبَضت في فكّة بقسوة : يعني؟
جيهان ببرود : ما صـار عندي مانـع من الزواج الثـاني.
بردَت نظراته أكثـر ، بقيَ ينظُر لها بقسوةِ عينيهِ وهو يهتفُ لقلبه أنّها تكذِب من جديدٍ كذاك اليوم ، تحـاولُ فقط استفزازه، ليسَ بمجرّد فكرةٍ مهتزّةٍ بل بصوتٍ واثـق ، تحاول أن تستفزّه . . ولن ينصـاع لاستفزازها : أنتظـر هاليوم ، بجي وأبـارك لك بنفسي بعد!
رفعضت حاجبها الأيسـر باستخفاف : والله؟ ترى لا تظنّ بلحظـة إنّي أقولها لك عشـان أستفزّك .. مين أنت؟ مجرّد شخـص عجزت أنسـاه ، بس عادي حب على حب يجوز مو؟ مالها علاقة هالفكرتين ببعض ، كونِي مو قادرة أنسـاك ما تضر ومن باب مزاحمـة المعاصي بالطـاعات بزاحمَك بشخص ثانِي يخليك بالنسبة لي ولا شيء حتى لو ما قدرت أنسى ، يخلّي كفتك تطيح!!.
ضيّق عينيهِ بغيظ ، قبـض كفيه بجانِب فخذيْهِ بغضب ، وباحتقارٍ وقد بدأت لكنتها وأسلوبها في الحديثِ باستفزازه بل أغضبته دفعـةً واحدة! : حقيــ . .
بتـر كلمتـه بعدَ أن انتبه لها ليزفـر بغضب وهو يغمـض عينيهِ ويصدّ عنها، بينمـا اتّسعت عينـا جيهان وهي ترتخِي بوقوفها ، نظـرت لهُ بحرارةٍ لا تصدّق ما كـان سيقوله ، وبغضبٍ أعمـى لفظَت من بينِ أسنـانها : ما الحقير إلا أنت وهي ،
فواز بغضبٍ يفتحُ عينيهِ نـاظرًا لها باشتعـال ، وبحدة : هاللسـان المعفن ما يتعدّل؟
جيهان بحدّةٍ ممـاثلة : كنت بتقولها بعَد ، أجـل لسانك نص معفـن .. لاحظ إنّنا نتشـارك كل شيء مع بعض ، الحُب والعفن والحقـارة . .
نظـر لها بازدراء ، لكنّه سرعـان ما شتّت عينيهِ هنـا وهنـاك ، يستوعِب في وقتٍ متأخرٍ وجدًا أنّهما يتحـاوران وبينهما مسـافةٌ تجعـل حوارهما صريحًا بنبرتِه لا خافتًا وقد يمسعهما أحد! أدركَ ذلك متأخرًا ، كلّ ذلك من تأثيرها! . . تمتمَ بصوتٍ غاضِب من بينِ أسنـانه : والنعم والله !!
ليردفَ بغضبٍ وعيونه تعودُ للتوجّه إليها : ادخلـي ، مبسوطة على شكلك وأنتِ واقفـة هنا وتكلميني؟!
جيهان رغمَ أنها شعرَت بالحـرج إلا أنها لفظَت : أنت اللي ليش جيت لهنا؟ لا تقول تبي أبوي تقدر تتّصل مو تقرب من هالمكـان!
ارتفعَت زاويـةُ فمِه بسخرية : لهالدرجـة يأثر عليك قربي منّك عشان تعارضين فكرة تواجدِي حول بابكم؟ . . . تشتاقين لي كثير يا جيهان؟


،


كـانت عينـاه قدْ اتّسعَت، نظـر لهُ دون تصديق ، لم يلحَظ في تلك اللحظـةِ حركـةَ يدِه، امسـاكهِ بآخـر بجانِبـه وتحديدًا بكفّه ، بينما كـان ذاكَ قدْ اخفـى ببراعـةٍ السكِين التي كـان يحملـها ، رمـاها من اليدِ التي يمسكـها بدر للأخـرى ليدسّها أخيرًا في جيبِ معطفِه، ومن ثمّ رفـع حاجبـه بثقـةٍ وهو يُشيرُ بعينِه أن " مـاذا؟ " حينها شدّ بدر على أسنـانه بغضبٍ وهو يشدُّ على معصمِه أكثـر ، أخفـضَ الشـابُ نظراته تدريجيًا إلى يدِ بدر ، لم ينطُق بشيء ، وقبـل أن يقومَ بردّةِ فعـلٍ مـا كـان صوتُ يوسف يأتِي حادًا غاضبًا وهو يسحبُ أرجوانْ لجانِبه : بــــــدر !!
رفـع بدر رأسه مبـاشرةً ليوجّه نظراته نحوَ يوسِف ويدهُ ارتخَت قليلًا عن معصـم ذاك ، لم يستوعِب شيئًا إلا وهو بطريقةٍ مـا ينجحُ في التخلّص من قبضتِه ، دفـعه من كتِفه سريعًا ومن ثمّ ركـض مبتعدًا وحينَ كـاد بدر يلحقـه كانت كفّ يوسِف تُمسكُ بهِ من كتفِه وهو يلفظُ بحرارةٍ وغضب : وش مقصدك من اللي صـار تو؟!
بدر ينظُر إليه وهو يعقدُ حاجبيهِ ويتنفّس بانفعـال ، لم يفهـم ما قصَد جيدًا ، لم يكُن مرّكزًا مع نقطـةِ دفعـه لأرجوان وأن يوسف قد يفهمها خطأ ، لم يملكْ فرصـةً للحديث إلا وكفّ يوسِف تدفعـه بازدراء حتى تراجـع للخلفِ بصدمة ، وقبـل أن يستوعبَ تفسيراتِه كـان يوسِف يلفظها بحدّةٍ وغضب : كنت من البدايـة غلطـان لمّا صدّقتك .. حتى بقصّتك الأخيـرة صدّقتك ، طلعت مو ودك تحمينا ، طلعت أنت بنفسك المصيبة من حولنا !! .. وش اللي كنت تبيه بالضبط؟
بدر يعقدُ حاجبيه دون استيعاب : نعــم ؟!!!
يوسفْ يقتربُ منه وهو يشتعـل ، يفسّر ما حدَث بطريقةٍ وأخـرى ، لم يرى التـلاحمَ الذي حدَث بين بدر وبين ذاك الذي هرولَ قبل قليلٍ سوى خطّة ، كـان هدفـه من؟ كـان ربّما هو الخطـر منذُ البدايـة ، حتى يقتـربَ منه وقد يؤذي بناتِه !! .. لا تفسير إلا هذا ، قصّته كـانت كاذبـة ، كانت كاذبـةً منذُ البدايـة ، لوّ أنّه كـان مستهدفًا كما يقول هل كـان حتى الآن ليستشعـر الحيـاةَ الروتينيّة نفسها وأن لا شيء مريبَ من حولِه؟ لم يُفسِد يومـه سوى تصديقه لرجـل عرفـه لأشهـر قليلـةٍ وكـان غامضًا يلتقيه في مقهى ليغرقـا في أحاديثَ عدّة ، فكيفَ وثق بٍه من ذلك وحسب وصدّقه؟!
لفظَ يوسِف بغضب ، يوسّع عينيهِ بهجومٍ ولم ينتظـر فكرة أن يبتدِئ بدر قبلـه : كنت تلعبْ علي من البدايـة وأنا مصدّقك؟ كنت مثل أي شخص قذر وبس !!
بدر لم يكُن يستوعِب الهجومَ الكلاميّ الذي جـاءه ، أجفـل بصدمةٍ وكأنه أدرك القليـل مما يقصـده ، وبصدمة : لحظـة .. أنت وش تقصد بالضبط؟!!
يوسف بحدّة : قصدِي واضـح .. انقلع من وجهي ، انقلع !! ووالله لو شفتك مرة ثانية تحوم من حولِي ما راح يردني شيء عن التبليغ !!
بدر دون تصديق : منت صاحِي !! .. ما قصدت شر الرجـال اللي مـر كـان بـ . . .
يوسفْ يقاطعـهُ بنبرةٍ حادةٍ تقطـع كلّ صـلةٍ باقيـةٍ بالحديث : يكفّي . . ما أبي أسمـع أكاذيب جديدة ، روح يا ابن النـاس جيت لهنا مع بناتي عشان أرتـاح مو عشان وجـع راس ثاني !!

بينما وفي مكـانٍ قريبٍ وقفَ تميمْ وهو ينهِي حديثهُ في الهاتِف مع ذاك الذي كـان مصتدمًا مع بدر قبـل لحظـات، أخـفض الهاتِف وهو يمرّر لسـانه على شفتيه، كـانت الخطّة أن يرى يوسِف الخطـر بعينيهِ ومن ثمّ تنفصـل الخيوط الباقيـة به مع بدر ، لكنّه الآن لم يرى انفعـالًا من يوسِف تجـاه الرجُل الذي اقتربَ من أرجوان وكأنه لم يدرك ! أم ماذا !!! مالَ فمـه بابتسـامةٍ وهو يقيّم ما يحدُث ، ملامِح يوسِف وبدر الذي كـان ينظُر لهُ بانفعـالٍ مـا ، ربّما نجحَ ما يريد! ربّمـا . . لا يهمُّ ما الحديثُ الحـاد الذي يدُور بينهما إلا أنه كـافٍ لديهِ أن تكون النتيجـة كمـا يريد.


،


ساعـدتها في الشـربِ وهي تبتسـمُ بانكسـار ، انخفَضت بوجهها إليها لتقبّل جبينها وهي تسمعها تتمتمُ بكلمـاتٍ لم تستطِع أن تربطَ بينها في جملةٍ مفيدة وكـان الأبـرزَ منها " سعد " والذي سكَب من نطقِه المزيدَ من أحزانِ صدرِها التي تجـاوزَت الحدودَ المُحتملـة ، تتحطّم لشظـايا ، تنكسِر أكثر وهي تمسـح على خدّ أمها المسـدلة عيونها في منـامٍ متعرقِل . . استقامَت ، ومن ثمّ تنهّدت لتسِير مبتعدَة أخيرًا وهي تُتمتمُ بدعواتٍ يائسـة ، تسقُط دموعها من جديدٍ في فقدٍ حيّ ، أن يمُوت شخصٌ عزيز ، وهو لا يزالُ على الأرضِ قريبًا منـك وبعيدًا في نفسِ اللحظـة.
مسحَت على وجنتها ليبقـى التمـاعُ الدمـع على خديها وفكّها ، أغلقَت البـابَ بهدوءٍ لتشدّها أصواتٌ جـاءَت من عند البـاب، ارتبكَت قليلًا وهي تسيرُ بانفعـالٍ إليـه ، وقفَت أمـام البـابِ لتعقدَ حاجبيها ، شعرها يرتفـع في " كعكةٍ " مُهملةٍ تتساقطُ خصلاتُها في فوضـى ، ملامحـها شاحبـةٌ من عبء الأحـزان ، صوتها يُشتقُّ من البحـة ، كـان صوتها راحلًا ، غائبًا ، وهي تهمـسُ بحشرجـة : عمّي.
رفـع عمّها وجهه إليها عن أخيها الذي كـان يحادثـه ، ابتعدَ هو الآخـر جانبًا بينما تحرّكت أقدامُ عمّها ليقتربَ منها وهو يلفُظ بصوتٍ مرهق : شلونكم؟
لُجين تهزُّ رأسها بالنفيِ وهي تهمـسُ باختنـاق : محنا بخيـر ، محنا بخير أبد !!
تنهّد بجـزع ، بينما اقتربَت منه لجين أكثر وهي تهمسُ بأمـلٍ ورجـاء : ما كلمـت أهل المقتول؟ ما حاولت تقنعهم بالعفو أو حتى دية؟
هزَّ رأسه بالإيجـاب : كلّمتهم .. بس رافضين.
تقوّس فمـها قليلًا بأسـى ، معكُوسَ ابتسامـةٍ تلك التي ترتسـمُ على شفاهنا في لحظـاتِ الحُزن ، معكوسٌ يتقوّسُ بها الفمُ للأسفـل وينطوِي في خيباتِه . . همسَت بوجَعٍ ورجـاءٍ وهي تقتربُ منه أكثر وتمدُّ يدها لتُمسـك بكفّه ، شدّت عليها بألـم ، وبخفوت : حـاول .. الله يخليك حاول !!
عقدَ حاجبيها بضيقٍ وهو يشيح وجهه قليلًا : بحـاول ، بجمـع كم شخص يجِي معي ويقنعونـهم ... الله كريم!
انخفضَ وجهها بنشيجٍ خافتٍ وهي تشدُّ على كفّه بحسـرة ، يا الله لن تتحمّل خسـارته التي لخّصت في أيـامٍ قليلـةٍ الكثيرَ من المعـاناة .. لن تحتمل!!
أردف عمّها بجزع : بس لوقت ما نقدر نرضيهم بالعفو أبيكم بكرة تتجهزون عشان تجون تسكنون عندي.


،


الثالثـةُ فجـرًا ، تقلّب فـوقَ السرير ، يعِيشُ اللحظـاتِ من جديدٍ ويعيشُ نظـراتِها ، ما الذي فعله بنفسِه اليوم؟ ما الجنون الذي جعلـه يسمـح بالنـار أن تحيـاه الآن وتُذيبَ جلدَه ! .. كـان يغـرق ، يغـرقُ أكثـر .. لتحملـه فجأةً طوفُ نجـاةٍ رميَت عليهِ من العدَم .. فتَح عينيهِ سريعًا ، لم يكُن قد وصـل للقـاعِ كما يجِب ، استلّهُ صوتُ رنينِ هاتِفِه ، كـان اتّصـالُا من أسيل جعله ينهضُ وهو يمسـح بكفّه على وجهه ، حمـل هاتفه من علـى الكومدينـة ، ومن ثمّ تحرّك وهو يُجيبـها لتظهر ملامِحها لهُ بينما غـابَ هو عنها في الظـلام ، لفظَت بضحكـةٍ وغنـج : يا كذاب بتتّصل أجـل؟ شوف السـاعة صارت كم!!
خرجَ للصـالةِ المُضاءةِ ليظهـر وجهه لها ، ابتسامته الرقيقةَ وهو يجلُس على الأريكـة ويلفظ : متى تنامين يا الشيخة أنتِ؟!!
أسيل : ما جانِي نوم قلت أزعجك وأصحيك .. أثـاريك صاحي ويمكن تفكّر فيني بس تتدلّع ، وراك ما اتصلت؟
فواز باغاظـة : مو ناقصـى الحين مرارة زيـادة.
أسيل بمكرٍ وهي " تتربّع " على سريرها : يووووه تفكّر بمرارة الحُب وسواياه؟ أي لنا الله جيهان شالت عقلك وما بقّت لنا شيء !
قسَت ملامحـه فجأة ، احتدّت نظـراتها وذكرها الآن لا حاجـة لهُ لأنه يتذكّرها دون مساعداتٍ منها !! .. ضحكَت وهي تتداركُ حديثها المـاكر بسرعة : أمـزح معك وجهك صـار يخوّف ..
فواز بحدة : لا عاد تكرّرين هالموضوع مرة ثانية ! .. ترى بجيك وأقطع شعرك.
أسيل تبتسـم بفرح : بترجـع يعني؟ الله وش هالبشـــ . . .
لكنّ كلمـاتها انقطَعت فجأةً وهي توسّع أحداقها ، بهتت نظـرتها ، لتردفَ بخفوتٍ وإجفـالٍ مُفـاجئ : فيه ... فيه أحد وراك !!


،



قبل ذلك بساعتين ، دخـل للغرفـة التي أظلـمت سماؤها، مرّر عينيهِ على جسدها الذي يسترخِي في نومِه على السرير وكأنّها استغلّت لحظـات ما قبل قدومه كي تنـام، ابتسمَ دون معنـى لابتسامتِه سوى السخريـة ، وبتمتمـة مقهورةٍ منها همس : بزرة !!!
اتّجه للخـزانة ليُخرج بجامته القاتمة ومن ثمّ اتّجـه للحمـام ، كـاد يطبق الباب بقوّةٍ كي يوقظها انتقامًا، لكنّه رحمها ليزفُر بغيظٍ ويغلقـه بهدوء.
استغـرق في استحمـامه أقلّ من ثلثِ ساعةٍ والمـاء المنسكبُ يزيدُ ترسّبـات أفكارهِ ولا يجرفها معـه، تنـاول المنشفـة ليجفّف نفسه، يخرج بعد لحظـاتٍ قليلة وهو يجفّف شعـره وصدره رغـم اعتياديّة عريّه في نومِه إلا أنه ارتدى قميص بجامتِه وستـره ، لفظَ بخفوتٍ ساخـر : الشكوى لله كل شيء للحين على كيفك .. نشوف لمتى !!
رمـى المنشفـة على زاويـة السرير ولم يبالِي بتجفيف شعره تمامًا، أبقاه رطبًا بعض الشيء واستلقـى بجانِبها، رفـع اللحاف وهو يتطلّع بملامحِها التي تُواجهه ، عقدَ حاجبيه قليلًا وهو يستندُ على ذراعِه ويلمـح من أسفل أجفانِها المُغلقة أحداقها التي تتحرّك ، بقيَ جامدًا للحظة ، إلا أنه سرعـان ما رفـع حاجبه الأيسر وهو يلفظ : يعني من دخلت وأنتِ تمثلين النوم؟ بدل ما ظليتي تفكرين فيني وأنا أتروش كان أبرك لك تنامـين.
عضّت لسانَها بحـرج، تحرّك جسدها لتستديرَ ولا تقابـل وجههُ وهي تتركُ عينيها المُمغضتـين كحالهما ، وببحّةٍ خافتـة : كنت نايمة بس صحاني صوت باب الحمام بعد ما طلعت.
أدهم بسخرية : باب الحمام وقت ما ينفتح ما يطلّع صوت ، وبعد خروجي ما قفلته ، سمعتيه بأحلامك؟
تصلّب جسدها وملامحـها تحمرّ، عضّت شفتها، بينما أردفَ هو ووجههُ يقتربُ منها ليلفحها بأنفاسه : بعَد لا تقولين صوت المفتـاح ، لأنّي ما قفلته ... قد قلت لك اليوم إنّك غبية؟
فتحَت عينيها باضطرابهما واهتزازِ أحداقها ، نظرت للأمـام وصدرها يتعرقـل بأنفاسِها من لهبِ أنفاسه التي تُمارسُ حرارتها على أذنها وجزءٍ من عنقها باقترابـه . . وبنبرةٍ ترتعـش : طيب قد قلت لك اليوم إنّك وقـح؟!
ابتسـم وهو ينحنِي نحوها أكثر ليقبّلها قُرب أذنها وكفّه ترتفـع لتستقرّ على عضدها، يستشعِر تشنّج جسدها بتوتّرٍ بينما كان هو يستندُ من خلفِها على مرفقـه ، وبانتصـار : كان انتصـارك تنامين وهذا كافِي ، بس دامك منتظرتني فأنا سبق وقلت لك ... مانِي مستعد أعطيك فرصـة تبتعدين أكثر !!


في الصبـاح ، وقفَ أمام المرآةِ وهو يندندنُ ويرشُّ ذراتٍ من عطرِه على قميصِه، ابتسـم وهو ينظُر لها عبر المرآة تتقلّب على السرير وكأنّه أزعجها بصوتِه، استدارَ بهدوء، ومن ثمّ اتكأ بوركيهِ على حافـة التسريحةِ وهو يلفُظ بعبثٍ ومزاجٍ " رايق " : قومي يا ام نوم خفيف ، حشى لو إنّك خيشة نوم!
لم تكُن نائمة، يدرك ذلك رغـم استقرارِها على السرير منذُ وقتٍ طويل، عقَدت حاجبيها بضيقٍ وقهـر ، ومن ثمّ جلسَت لتنظُر لهُ بجرأةٍ بعكـس الهشـاشة والربكة التي تعيشها حرجًا، لا تقوى النظـر لوجهه لكنّها فعلَت بصلابةٍ كـاذبة وهي ترفعُ ذقنها بعلياءٍ وتلفظ : مفتّحة عيوني وصاحية من قبل لا تصحـى حتّى ،
أدهم تكتّف بذراعيه دون أن يتحرّك من مكانـه، يعبُر بعينيهِ على ملامِحها المتشنّجـةِ باحمرارٍ شفّـافٍ وخافت، يبتسـم بتسليَةٍ وهو يلفظُ أخيرًا : تراني أنا اللي مصحّيك لصلاة الفجر.
إلين بعدوانيّة : ورجعت نمت قبلي ، والحين صحيت قبلك بعد.
أدهم بهدوء : طيب ليش هالعصبية من صباح الله خير؟
ارتبكَت ملامحهـا وهي تُخفـض نظراتها وتتنهّد بفوضويّة، ترفعُ كفّها لتمشّط بأصابعها شعرها المُشعث ، لم تنظُر نحوهُ وهي تُخفض ساقيها لتلامس بباطِن قدمها الأرضيّة البـاردة التي التحمَت نظراتها بِها ولم تُشحها عنها ، غرقَت في أفكـارها وسبحَت في توهانِها الذي يضاعفـه لها بنظراتِه المسترخِية عليها، يجارِيها بالصمت، تشعُر به لترتبـك أكثر! . . مرّرت لسانها على شفتيها وهي تشدُّ بقبضتيها على طرفِ السرير، تنفّست بعمـق وهي تنهـض باستسـلامٍ أخير لمصيرها معـه ، ماذا لديها سوى أن تضيع في معنـى استسلامها الأوّل والذي حطّم جـدارَ جمودها أمامه؟ ماذا لديها سوى أن تتقبّل أنّه زوجها ، أليست هي من اختـارته؟ فلمَ الآن تنـاقض نفسها؟ كـان لابدّ من أن يحدث كلّ هذا من البداية، ماذا كـانت تتوقع مثلًا؟
تحرّكت بخطواتٍ هادئـةٍ كي تذهب للحمـام، بينما ظلّ أدهـم ينظُر لها بعينينِ تلتمعـان، وبهدوءٍ يقاطعُ مسيرة هربها : بتظلّين تهربين مني بهالشكل؟
توقّفت ، ودون أن تستدير إليه لفظَت بصبر : ما أتهرب ، أبي الحمام تكرم.
أدهم ببرود : أدري ، بس ليه ما تبين تناظريني؟
أدارت وجهها إليه وهي تعقدُ حاحبيها بانزعـاج : لا تغثنِي من الصباح!
أدهم - بروقان - : أصبحنا وأصبح الملك لله بس! أصبحنا على فتنة عيونك.
اضطربت ملامحها لتشتّت أحداقها عنهُ بربكـةٍ وهي تهتفُ بنبرةٍ مكبوتـة : أصبحنا على فطرة كرهك وأنت الصادق.
ضحكَ بعبثٍ وهو يُخفـض ذراعيهِ عن صدرِه، رفـع أحد حاجبيه، ومن ثمّ تحرّكت خطواته إليها وهو يُسيّر أحداقهُ على تقاسيمِ وجهها التي تقابلـه بعدوانيّةِ جيوشٍ أثـارَتها غبـار الحرب على تعالِيـمِه، تسلُّ السيفَ من غمْدِ عينيها وتحدّهُ في مكنونيّة - نظرات -.
تلذّذ برؤيـة ربكتها الناعمـة وهي تُرجع قدمها اليُمنـى للخلفِ وسرعـان ما أعادتها بصلابـةٍ تحاول تقويمها، تحـاول أن تكون ثابتـةً ولا تتقوّس خاصرتها أمـامه، تحاول أن تلتـزم تعاليمَ الصلابة ولا ترتدُّ عنها ، وقفَ أمامها وهو يبتسـم ابتسامةً لم تفهم معنـاها لكنّها كانت تنظُر إليها بترقّبٍ وتأهّب ، كـاد يضحك على نظراتها الخائفة إلا أنّه وأد ضحكته في حُنجرته وهو يرفعُ كفّه ويداعبَ شعرها كطفلـةٍ تعبثُ به بشقائِها ولم يكُن ليضجـر من العبثِ بحجـم ما يضيقُ صدره إن كرهتـه بقلبها البريء.
همـس بثقـة ، وكثيرٌ من التفسيراتِ التحمَت بعقلـه ، يريد أن يثقَ بما وصل إليه، يريد أن تكون تفسيراته صحيحةً وأنها لم تعُد تكرهه لذا تقبّلته ! : الكره ماهو فطرة ، بس حُبك فطرة.


،


انحدرَت الساعاتُ الطويلـة في دحرجةٍ صامتـة ، جـاء يومُ السبت ، كـان يجلسُ بهدوءٍ وسكونٍ في الصـالة، عينـاه تتجمّدانِ على الأرضيّة الرخاميـة وملامحـه باتت من الصلابة ما يكفِي لأن يجهـلَ من أمامه مشاعـره، رفـع يدهُ ليقرأ سـاعة معصمِه التي كـانت عقاربها تتجانسُ مع الثانية والنصف مسـاءً ، كان ينتظرُ هذا اليوم وما بعدَ صلاةِ العصرِ تحديدًا ، سيقـابل سعد، رغـم أنّ كلّ شيءٍ كـان نصفَ - زيفٍ - إلا أنّه مُمتنّ له في النهايـة بطريقةٍ مـا، ممتنٌّ لأنـه أفسـد تتمّة التعدّي أو ربّمـا تتمّة الخـداع! ابتسـم بسخريةٍ وهو يقف ، تحرّك نحو الباب وهو يتلاعبُ بمفتاح السيارة بين أصابعه، لكنّه توقف فجأةً ما إن وصـل إليه صوت سالي المرتبك بلكنـةٍ متعثّرة : بابا سلطان.
ارتخَت أجفانه قليلًا، أدار وجهه فقط إليها ليهتف بنبرةٍ جامـدة وهو يتوقّع تلقائيًا ما ستقول : نعم؟!
سالِي تنظُر للأسفل ولم تتجرأ على رفـع عينيها إليه : ماما غزل ما ياكل.
أمال فمه، كمـا توقّع ، كمعظم الوجبـات التي ترفضها، ماذا تريد أن تصـل إليه بالضبط؟! استـدارَ دون أن يقُول شيء، تجاهل الردّ عليها أو هكذا ظنّت ، بينما كان هو يتمتمُ من بين شفتيه بصوتٍ خافتٍ لم يصلها ، بنبرةِ احتقـار : بحريقة.
خرجَ من المنـزل، اتّجـه للسيارةِ مباشرة، طيلـة اليومين الراحلينِ لم يتصـادم معها، لم يكُن يشتهِي فكرة أن تأكـل طعامها معه، لذا مـارس نصف معنى الحبس الانفـراديّ في الغرفة التي انتقلَت إليها وأمـر سالي بأن تأخذ وجباتها إليها ولا تستدعيها للنـزول معه، كـان هذا النصف الأوّل للمعنـى، بينما كان النصفُ الآخِر قد مارستـه غزل ، بعدم الخروجِ من نطـاق - غرفتها - رغبـةً منها!!!
حرّك السيـارة نحو هدفِه ، طـرد أيّ فكـرةٍ قد تطرأ في عقلهِ نحوها ، الآن سينتهي من مسألة سعد ، ومن ثمّ سيتّجه إليها بكامـل تركيزه.


،


" كـان سؤالها باهتًا ، كـان متأهبًا بإجـابةٍ تُشفـي غليل حزنها بفراقهما ، كـان سؤالها يقتضيها هي وشاهين وحسب : تحبينه؟ "

.

.

.

انــتــهــى

وموعدنا كما قُلت يوم الأربعاء إن شاء الله ،
ومرة ثانية بحط سنابي ، هذا هو لكثرة السؤال عنه Hind-180


دمتم بخير / كَيــدْ !

كَيــدْ 31-08-16 07:07 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

-
-

السلام عليكم ورحمة الله ، مساءكم سعادة ورضا من الرحمن :$
إن شاء الله تكونون طيبين جميعًا . .

البارت ما خلصش لهلأ - تلويث لهجات - :P ، بدخل بالموضوع مباشرة ، ما راح أقدر أنزله قبل 12 للأسف، ومو متأكدة ينزل قبل الفجر حتى! عارفـة بديت أتراجـع شوي بالتزام المواعيد وأأخر كم ساعة بس هالمرة عاد النفسية لاعبة فيني مو قادرة أكتب زي الناس.
إن شاء الله ينزل على 8 أو 9 الصبح، متفشلة من اللي كانوا يكلموني من بداية هاليوم ومتحمسين، السموحة :(
وبعد هالبارت بوقف أسبوع كراحة، كثرة الضغط ولّدت برود عندي وإرهـاق لدرجة إنّي مثل ما قلت صرت نفسية بالكتابة وعجزت أكتب حتى! زين بقدر أنزل هالبارت! مستواي بتراجع ومحتاجة راحـة أقل شيء أسبوع، فبعد البارت اللي بينزل الصُبح موعدنا إن شاء الله راح يكون الأحد ، مو الجاي اللي وراه :( يعني بالضبط بعد أسبوع وثلاث أيام.
وبيصير هذا شيء ثابت ، ثلاث أسابيع وأسبوع راحة ، بارتين بالأسبوع بشكل متتابع ما توقعت راح ترهقني بهالشكل! وأتوقع ما راح أقصر بحقكم كذا وبنفس الوقت بحقي أنا ، إن شاء الله محد يزعل ، أشوف الوضع كذا مُنصف من كل النواحي :( :$ شكرًا لكم :*


كَيــدْ 01-09-16 08:09 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بأتم صحة وعافيـة . .


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

(80)*3




" لك كل اللي تبيه "
رفـع نظراته إليه، بجلدِه الشاحِب وبيـاض عينيه قد تحول إلى حمرةٍ شفّافـةٍ من فرطِ الأرق، مرّر لسانـه على شفتيه الجافتين، وبخفوتٍ متسائل : يعني؟
سلطان بجمود : أنا ممتن لك!
انتفخ صدرُ سعد بأكسجينٍ صاخبٍ فرّغـه بزفيرٍ عميق، وببهوتٍ وهو يضيّق عينيه بحُزن : ترانِي منحرج منّك وأنا أطلب منك تساعدني !
سلطان يبتسم ببرود، يكرهُ أنّه يتعـامل مع رجُلٍ يدرك شيئًا من خصوصيّاتِ حياتِه، يُشعلُ بين أضلعِه الحصى فتُثير فيه احتكاكاتٍ تولّد شراراتِ القهر أكثر . . ابتسامته كانت زائفـة، غاضبة بالمعنـى الصحيح ، ليس سهلًا أن يقفَ ممتنًّا لرجُل غريبٍ لأجل زوجته! ليس سهلًا أبدًا .. لكنّه ممتن ، رغم قهره هو ممتن.
لفظَ بنبرةٍ لا ملامِح فيها : ليه تنحرج؟ من حقّك . . في النهاية اللي سوّيته ما يمر علي مرور الكـرام يا سعد . .
وقفَ ليضربَ صدره بقبضةِ يدِه اليُمنى ويردفَ بثقة : مو عمّك اللي بيهتم بأهلك ، أنت اللي بتظلّ معهم . . بحاول بنفسي مع أهل المقتول لين يرضون بالدية أقل شيء إذا ما رضوا بالعفو، ولك مني كلمة مهما كان الرقم اللي بيطلبونه راح أحرص يوصلهم وبخلّي كل شخص فيه الخير يوقف معك.
سعد بجزع : لا يا سلطان! ما أبـي منك هالشيء ، مو حلوة بحقك! أنا في النهاية قتلته عمد، شلت السكين وأنا ناويها . . ما أبي منك هالشيء ، يكفيني اللي طلبته.
سلطان يبتسم بسخريةٍ من نفسه! : مع إنّ لي قناعة ثابتة ضد القتل العمد ومستحيل أشفق على قاتل بس لكل قاعدة شواذ، كل شيء بصفّك أنت.
لم يوضّح ما قصده، كـان ممتنًا له، لكن ليس هذا ما كان يعنيه، يُسانده أكثـر أن المقتول هو إبراهيم! ، وهو لم يكُن يومًا ملاكًا ليحتقر سعد لأجلـه ويتناسى ذنبه! إبراهيم ، إن لم يكُن على اتفاقٍ مع غزل ، فيكفيه أنّه نوى ضدّه شرًا بطريقةٍ قذرة! المقتول هو إبراهيم ، وهذا أكبـر ما يدفعه لأن يُخرج سعد من كلّ هذا ، متجاهلًا كل قناعاته، دون أن يبـالي بأنّه أزهـق روحًا . . . تلك الروح، لم تكُن إلا روح إبراهيم! والذي تجرّأ على حُرماته بطريقةٍ قذرة . . لم يكُن ليتجاهل ذلك، أبدًا!!


،


أخفضَت هاتفها بعد المحـاولة الأخيرة لتتّصل بِه دون أن يرد، تنهّدت ومن ثمّ ابتسمت وأصابعها تبدأ بكتابـة رسالةٍ سريعةٍ إليه " رد يا مال العافية .. نمزح معك يا شيخ! ".
ومن ثمّ انتظـرت لدقيقتين قبل أن تتّصـل من جديد ، إلا أنّه أيضًا لم يردّ عليها . . قطّبت جبينها بانزعاجٍ ومن ثمّ تحرّكت خطواتها جيئةً وذهابًا في الغرفـة، تلوِي فمها بلؤمٍ وتكرّر اتّصـالها بهِ دون توقّفٍ حتى جاءها صوته حادًا غاضبًا : نعــــــم !!!
أسيل تضحكُ بخفوت : ياخي نمزح معك شدعوى !! والله ما يسوى.
فواز بحدةٍ يرفعُ حاجبه الأيسر : نعم !!!
أسيل : ههههههههههههههههه ينعم بحالك لا عاد تكرّر الكلام ، مُستفز!
فواز وحدّةُ ملامحه تتضاعف : نعم !
أسيل بامتعاض : فواز !!
فواز : وش تبين أنتِ ووجهك؟
أسيل بابتسامةٍ ناعمـة : أمزح معك.
فواز الذي كان يسيرُ على الرصيفِ وسماعاتُ الهاتِف يضعها في أذنه بينما كفوفه يدّسها في جيبيه : وين أصرفها هذي؟
أسيل بمكر : خفت؟
فواز بسخرية : خفت !!
أسيل بضحكةٍ مُتلاعبة : لا اعترف .. خفت صح؟ ترى كان واضح على وجهك .. أساسًا حتى وأنت تهاوشني أنفاسك طايرة هههههههههههههههه
فواز بوجهٍ مُمتقع : يا سمجك!
أسيل : يعني خفت صح؟
فواز يتوقّف عن سيرِه وهو يُميل فمه قليلًا، وبحدّة : وش دخّل الخوف يا غبية !! أجل تبيني ألف وأنا أضحك وبعدين ابتسم لك على مقلبك السامج !!!
أسيل باستفزاز : لا لا لا الموضوع مو كذا .. أنت خفت وبس.
فواز بصبرٍ يزفُر، وبنبرةٍ لا مبـاليةٍ بمحاولة استفزازها له : ليه متّصلة؟
أسيل بنعومة : أبي أعتذر.
فواز باستهزاء : ما شاء الله الحين أنتِ اعتذرتي؟ أقول اقلبي وجهك.
أغلقَ في وجهها لتغرقَ في ضحكاتها وهي تتراجـع وتجلسَ على السريرِ أخيرًا، أخفضَت الهاتف لتبقـى آثار ضحكتها في بسمَة، وبخفوت ضاحك : يلا أهم شيء رد.
وضعَت هاتفها جانبًا، ومن ثمّ تراجعَت بظهرها حتى استلقَت وكفّها تحتوي بطنَها، تنظُر للسقفِ بصمت، وتستذكِرُ من السكونِ بضـع كلماتٍ عادت تُتلى بصوتٍ بعيد، عـادتْ تولّف الصمتَ الكئيب الذي يحتوِيها ، بينما كفُّها لا تبحثُ عن علقةٍ غـادرت، بل تواسِي نفسها بالصمت، وتردّداتُ صوتٍ آخر تتخلّخل صدى صمتها ، بهدوء : تحبين شاهين؟
توقّفت الخطوات أمام البابِ ومعها أنفاسها للحظـةٍ خاطفـة تداعَت سريعًا، كـانت قدْ أخبرتها بعينيها أنّها تمتلكُ في جعبتها حديثًا لتبتسـمَ لها قبل أن تلفظها وتحثّها على الحديث ، كـان سؤالها باهتًا ، كـان متأهبًا بإجـابةٍ تُشفـي غليل حزنها بفراقهما ، كـان سؤالها يقتضيها هي وشاهين وحسب : تحبينه؟
كرّرتها من جديدٍ بعد صمتها ، كرّرتها بعد أن تكرّرت الحيـرةُ ذاتها وصمتت، من قبـلُ كانت ديما قد أثـارت سؤالًا شبيهًا احتـارت بسببه ، والآن ، الآن شعرت بالاختنـاق ما إن وصـل إلى مسامعها! جعلـها تُشتّت عينيها ، وشفتيها ارتعشتـا في حمّى أصابَت حوَاسّها ، حرّكت رأسها تتأكّد من كونِ امّها ليسَت قريبـة، كـادت تجيء معهما إلا أنّ أسيل منعتها ورفضَت . . هذا السؤال بصورةٍ مباغتةٍ يجيء بشكلٍ لا تدري كيفَ يخلبُ مداركها، صوتها، يخلبُ تمكّنها الجيد من التفكيـر !
عقدَت عُلا حاجبيها وهي تلحظُ صمتها، كـادت تتحدّث، إلا أن أسيل تداركَت صمتها بنبرةٍ خافتـةٍ ومتداعية : المشاعر مو كل شيء بالزواج !
علا دون أن تجدَ الردّ الواضـح على سؤالها : يعني؟!
أسيل تبتسمُ بحسرة : ما تهم المشـاعر ، سواءً أحبه أو لا هالشيء ما يغيّر مصيرنا.
علا : يعني تحبينه؟
أسيل تتجاهـل الردّ على سؤالها وتلفظ بابتسامـة أسى، مُكرّرة : ما يهم ، سواءً أحبه أو لا ، صدقيني هالإجابـة ما تهم.
لم تحاوِل أن تكرّر عـلا سؤالها ، بل قرأت الإجـابة من عينيها، الإجابـة التي لم تلفظها أسيل ، الإجابة التي لم تعترف بها ، لكنّها أيضًا لم تكُن لتردّ بالنفي ، هل كـانت تتوقّع فعلًا أن تجيبـها بالنفي؟ هل توقّعت فعلًا . . أن تردّ على سؤالها بإجابـة ثابتة!
وماذا تعنِي هذهِ الحيـرة الآن؟ ماذا يعنِي أن تضيـع في لحدِ أفكارها ، أن تتوه ، أن لا تجـد ضريحًا يأوِي مماتَ سكونها! ماذا يعنِي هذه الحيرة يا أسيل . .
شدّت بكفّها على بطنِها، أغمضَت عينيها ، وهي تضيعُ أكثر في أسئلتها الصامتـة ، ماذا تعنِي حيرتي في الإجابة، حتى على نفسي وقلبي!



،


" شفتيه ، اعترفي إنك شفتيه !! "
زفـرت جيهان بضجرٍ وهي تنظّم بعض أغراضها في أدراجِ التسريحـة ، ملّت هذا السؤال الذي تطرحـه عليها وتتجاهلـه مرّاتٍ ومرّات . .
لم تُجِبها وهي تُغلق الدرجَ ومن ثمّ ترفـع قنّينة عطرٍ كـانت قد سقطَت فوق التسريحة، بينما تنهّدت أرجوان بصبرٍ وهي تُردف : ليان كانت صاحية وقت ما رجعنا ، أكيد تدري ، بس المشكلة خايفة أسألها وتجيب العيد قدام أبوي.
جيهان بلا مبالاةٍ وهي تستدِيرُ إليها، تتّكِئ على طرفِ التسريحة، ومن ثمّ ترفـع كفيها لتلمْلمَ شعرها الذي يُحيط بوجهها : أنا أصلًا مدري وش هالهدوء اللي نازل عليها عشان ما تحكِي.
اتّسعت عينا أرجوان بشر : يعني شفتيه؟
جيهان تتأفّف بضجر : اففف طفشتيني .. أيه شفته وحاكيته وفوق كذا ضميته وبسته.
شهقتْ أرجوان بقوّةٍ وجسدها الواقفُ قريبًا يتصلّب، اتّسعت عيناها بجنون، بينما كفّها استقرّت فوقَ فمها دون تصديق . . قالت كثيرًا أنّها تتوقّع جنونًا من أختها، تتوقّع أيّ شيءٍ إن تعلّق الموضوع بفواز ، لكن ، لكن! هل يمكن أن يكون ذلك !!! . ، مطّت جيهان فمها بضجر، ومن ثمّ تحركت باتّجاه الباب وهي تحرّك كفها في الهواء دون مبالاة : أمزح معك لا تموتين علينا . . شفته وحاكيته بس ، كان ودي أبوس خشته والله.
أرجوان بغضبٍ وصوتها يرتفـع حتى خشيَت جيهان أن يصـل لغرفة والدها : جيهااااااان.
جيهان تنظُر نحوها بحنق : فضحتينا الله ياخذك أنتِ وهو .. امزح معك وجع يوجعك وهو معك بعد ... طايحة من عينك لهالدرجة عشان أفكر بواحد من مقام الخونة أمثاله !!!
أرجوان بقهر : أنتِ أساسًا كل وقتك تفكرين فيه يا بقرة !!!
جيهان بغضب : البقرة وجهك .. احترميني يا مال اللي مدري وشو ... على بالك يعني بفكر فيه بهالطريقة البايخة! هذا اللي ناقـص هو ووجهه.
أرجوان : وليه إن شاء الله وقفتِ معه وحاكيتيه؟!
جيهان تهزُّ كتفيها : كذا . . مقهورة وحبيت أطلّع قهري فيه.
أرجوان تزفُر بصبرٍ وهي تُغمـض عينيها : يا صبر أيوب بس ! ما تجوزين عن حركاتك، تخيلي لو درى أبوي يا غبية!
جيهان ببرود : ما راح يدري.
أرجوان تقتربُ منها وهي ترفـع حاجبًا بريبة : عن إيش تكلمتوا؟
جيهان ترفـع حاجبها تمامًا مثلها ، وبسخرية : عن الشوق.
أرجوان من بين أسنانها : جوج لا تجننيني !!
جيهان تبتسم باستفزاز : والله ما أمزح ، سألني اشتقتِ لي؟ وأنا ما ردّيت بس طنشته ودخلت.
أرجوان تهزُّ رأسها بالإيجاب : تعلبين على عقلي يعني! ما عليـه ، المهم حاولي إنّ ليـان ما توصل الكلام لأبوي ، لو يدري مصيبة!
جيهان تبتسـم : ولا يهمك ، دامها ما قالت له للحين فما راح تتكلم.
أرجوان : نقول يا رب بس.
جيهان تفتحُ الباب كي تخرج : على طاري أبوي ملاحظته صار مزاجه أحسن من قبل.
أرجوان تتبعها ، وبصوتٍ خافتٍ بعض الشيء : أيه ، طلع الموضوع مثل ما قلتِ قبل ، من ذاك الرجال.
جيهان تُميل فمها قليلًا : كنت عارفة ، عاد خاطري أفهم بالضبط وش كان قايل لأبوي!
أرجوان : ما فهمت الموضوع كويّس ، بس ما يهمنا في السالفة شيء إلا أنه صار أحسن.


،


حُبي لكِ فطرة، أن أنهـض في صبـاحٍ ما وأرى ملامحكِ تستوقفني على مهلٍ عجول! . . حين يُستفتح الصبـاح يكون بقُفل أهدابك، يظهرُ خلسةً أخيرًا ، من بيْنِ بابيْكِ - أجفانك -، يا عِصامِي عن رُفاتي! يا عصامِي عن بهوتِي، ويا الحيـاة فينا ، أجمعينَ!
كانتْ عينـاه تلمحها من أسفلِ ذراعيه، تلك البسمَةُ تُنقّى من غربـالِ مرآها، تسيرُ بتوترٍ جيئةً وذهابًا، تمسكُ أوراقًا بين كفيها وتكادُ أن تنفجر! سمعَها تزفُر زفـرةَ - نفاد الصبر -، حينها خفتت بسمتـه قليلًا وهو يُعيد كامل ذراعهِ على عينيهِ دون أن يفقد المعنـى الكلّي للابتسامة، دون أن تنكمـش شفاهُه كصوتها الذي كان يتمتمُ بكلمـاتٍ ما ويُشيحُ الطرفَ عن الهدوء رغـم خفوته.
هتفَ بهدوءٍ وهو يستلقِي على ظهره فوق السرير : اهدي ، هالتوتر ماراح يفيدك.
نظرت إليه إلين وهي تعضُّ بأسنانها طرفَ قلمها، وببحّةِ ربكـة : امتحاني الأول بكرا، والثاني بيوم الاثنين يعني وراه مباشرة، شلون ما تبيني أتوتر؟
أزاحَ أدهم ذراعه عن عينيه، جلسَ بهدوءٍ وهو يتّكئ بكفيه على السرير، وبابتسامـةٍ ناعمـة يحاول بها أن يخفّف من حدة توترها : تعالـي.
إلين تعقدُ حاجبيها قليلًا، تشنّج جسدها بريبة، وبخفوت مستفسر : ليه؟
أدهم يضحكُ رغمًا عنه : والله ما أبي منك شيء .. تعالي بس.
إلين رغـم حرجها إلا أنها شتت عينيها وهي تشدُّ على شفتيها، زفرت من بين أسنانها هواءً لوِّثَ من غبـار ربكتها وغبـار تواجُدِه - العنيف! لم يكُن غبارًا يعني التلوّث بحجمِ ما كان يعنِي شدّة الحضُور، ما العلاقة بينه وبين ذرّات الغبـار تحديدًا؟ أن يحضُر ولا يكون حضوره عاديًا بل يُشعرها بالرغبـة في الهرب ، كـان غبارًا من هالـةٍ بيضاء، لا تهربُ منه انزعاجًا ، بل لأنها لا تريد أن تخوضَ في زخمِه!
لفظَت بضيقٍ ونبرةٍ تتشنّج : ما عندك سالفة ، أنا وراي امتحان وما عندي وقت للعبك وفضاوتك.
رفـع حاجبه، إلا أنه لم يفقد بسمته وهو يسمعها تُردف بعد أن نظرت نحوه بجبينٍ مقطّبٍ انزعاجًا : وبعدين روح لعمتك، عيب عليك تظل على راسي وتتركها بروحها.
أدهم بهدوءٍ مستفزّ : يعننّك للحين ما عرفتي من اليومين اللي راحوا إنها بعد العصر تجلس تقرا عادةً بغرفتها؟
إلين بصبرٍ تتنهّد بعنفٍ ينخفضُ به صدرها بعد ارتفاعه، اخفضت الأوراق التي تحملها لتصل لمستوى فخذيها، بينما ذراعها الأخرى لفّتها حول خصرها وهي تلفُظ بنبرةٍ هادئةٍ أقرب للأمـر : طيب لو سمحت ممكن بس تطلع عشان أقدر أركز؟ وبعدين أنت تدري إنّي أحب أذاكر على السرير ومع كذا معاند!
أدهم بنبرةٍ لم تكُن قريبةً من الأمر، بل كانت بالفعـل أمرًا جافًا باردًا وهو يحدّق بها بعينين حادّتين : تعالــي.
إلين بحدّةٍ نظرت إليه وملامحها تتجعّد أكثر، وبغيظ : أنت وبعدين معاك؟ ما تعيش زين لو ما نرفزتني؟
أدهم : تعالــي.
إلين بنفاد صبرٍ رمَت الأوراق بحدّةٍ ومن ثمّ تقدمت إليه وهي تلفظُ بنبرةٍ غاضبة : لا حول ولا قوة إلا بالله .. يا رب الصبر ، يا رب الصبر بــس !!!
لم يبتسـم، بل رفـع حاجبه وظلّ يتابعها حتى وقفَت يجانِبه مباشرةً على طرف السرير، وضعَت يديها على خصرها، ومن ثمّ شدّت على جسدها بغضبٍ وهي تُردف بتساؤلٍ حاد : نعم !!!
أدهم بهدوء رفـع عينيه إلى وجهها المُتصلّب بمشـاعر الغضب، يتأمّلها لبعض الوقت، تتجمّد أحداقه في أحداقها مباشـرةً لترتبك تلقائيًا وغضبها ينطفِئ، تُشتّت عينيها ومن ثمّ تنخفضُ يديها عن خصرها، وبربكـة : وش تبي؟
لوى فمه قليلًا، لكنّه سرعان ما ابتسم ابتسامةً خافتة، وبهدوء : خلاص ولا شيء ... روحي كملي دراستك.
اتّسعت عيناها دون تصديق، أعادت نظرها إليه، وبخفوتٍ تريد أن تتأكد مما سمعت : وشو؟!
أدهم بذاتِ بروده : مافيه عندي شيء ، بالأحرى كان فيه بس عشانك قليلة أدب نسيته.
إلين وكأنّ دلو مـاءٍ ساخنٍ انسكَب عليها، اشتعلت بغضبٍ لتهتف بصوتٍ ناريّ : ما شاء الله !!!
أدهم يهزُّ كتفيه دون مبالاة : والله! يعني كنت ناوي أخفف عليك بس ما تستاهلين .. عشان كذا ارجعي كملي دراستك.
إلين بقهرٍ تبتعدُ عنه بخطواتٍ صاخبـةٍ وهي تلفُظ بغضب : تدري انك حيوان وكلب وحقير؟
أدهم بتحذير : توني متكلم عن قلّة الأدب!
استدارت إليه ما إن لامسَت أقدامها الورق المُتطايِر على الأرض وبحدّة : على تـراب ، سخيف !! يعني عارف إنّ نفسيتي معفنة اليوم وما تخليني لحالي!
أدهم : لأنّك غبية ، ليش هالتوتر وأنتِ مذاكرة المادة ومراجعتها مليون مرة!! فوق كذا مسميتها الحين مذاكرة بعد !!
إلين بقهرٍ تكـاد تبكي : خايفة! أول مرة أجرب شعور الرسوب ، وكان بسببك طبعًا، وأخاف الحين أجربه مرة ثانية وأكيد بيكون بسببك!
رفـع حاحبه الأيسر بصدمة : الله عليك ! أجل الموضوع كذا مع إنّي بعيد عنك وما منعتك من المذاكرة ، بس نشوف بكرا وش بنسوي معك.
إلين بضيقٍ وهي تُخفض جسدها لتبدأ بتجميع الورق، لم تركّز بمعنى ما قال جيدًا وهي تلفظ بنبرةٍ بائسة : وش قصدك؟
أدهم يقفُ مبتعدًا عن السرير وهو يلفُظ بابتسامةٍ هادئة : كل شيء بحسابه .. راح أتركك الحين عشان تذاكرين بحلبة المذاكرة حقتك ، الله يخلف على طلاب زيّك ويخلف على أعصابك الناعمة.
إلين بوجومٍ دون أن تنظُر إليه : سامج.
سمعَت صوت الباب يُغلق بعد خروجه، حينها ارتفع جسدها بعد أن انتهت من تجميع أوراق محاضراتها التي اهترأت زواياها، استقامَت بجسدها ومن ثمّ زفـرت بيأس، كـان يُريد عناقها، التخفيفَ من توتّرها، أدركَت ذلك لكنّها لم تُرِد أن تنصـاع لموجاتِ الهدوءِ منه، أن تنصـاع لدفئه ، لنظراتِ عينيه الحانيتين، لصوتِه الهـامس ، لا تريد أن تنصـاع لهُ بملء اندفـاعها !


،


خرجَت من الحمّام وهي تجفّف شعرها الذي طالَ حتى تجاوزَ خصرها بكثير، رمَت المنشفَة على طرف السرير، ومن ثمّ تحرّكت نحو مرآةِ التسريحةِ وروب الحمّام الثخينِ يلفُّ جسدها الغض، لوَت فمها وهي تجمعُ شعرها الرطِب لتضعهُ على جانِب كتفها، تقيسُ طوله من الأمـام، يستفزّها بعض الشيء بطولـه.
سمعَت صوت البـابِ يفتح، نظـرت عبر المرآةِ لسيف الذي دخـل وهو يزفُر بإرهـاقٍ ويمسحُ على جبينه، تقدّم للسريرِ دون أن ينبـس بشيء، رمـى جسده حتى دون أن يخلـع حذاءه، استغربَت وهي تعقدُ حاجبيها ، هذا الوقتُ يكون قد انتهـى فيه من ساعاتِ مكوثِه مع ابنـه، حرّكت أحداقها نحو ساعـة الجدارِ لتتأكّد ، ومن ثمّ عادت لتنظُر لوجهه المُرهَق عبر المرآة، يُغمـض عينيه ويعقدُ حاجبيه بصمت ، غريب ما الذي حدث !!
تحرّكت بعد أن لفّت شعرها الرطبَ بعشوائية، فتحَت الخزانة كي تُخرج ملابسها، ولم تستطِع منع نفسها من اللفظِ بصوتٍ هادئٍ لا تعبير فيه : غريبة منت على بعضك.
سيف دون أن يفتـح عينيه صمتْ، لم يُجِبها، حينها رفعَت حاجبها وهي تُدير وجهها إليه، تنظُر لهُ بغيظٍ من تجاهلـه لسؤالها، لم تُظهر ذلك على ملامحها المُتصلّبة، بل تحرّكت نحو الحمام وهي تُمسك ملابسها دون مبالاةٍ بِه ، مهما كـان ما حدَث لن تهتمّ بِه ، من يظنُّ نفسه ليتجاهلها في لحظـة اهتمامٍ خاطفٍ بِه!
كادت تدخُل للحمـام، إلا أن صوته الهادئ هدوءً كاذبًا جـاء إليها محمّلًا بكلمـاتٍ فاترة : زيـاد تعبان.
تصلّبت ملامِحها وخطواتُها أيضًا ، نظـرت للأمامِ دون تعبير ، وخلال لحظتين كـانت تعقدُ حاجبيها، لا تدري ما المشـاعر التي اختلطَت في صدرها ، لم تكُن مشاعـر خاصّةً بذاك الطفـل، بل كانت بشكلٍ مباشـرٍ نحو نفسها! نحو الروح التي فقدتْ تكوينها في رحمها ، ابتلعَت ريقها بحشرجةٍ مفاجئـة ، إلا أنّها لم تفكّر بالاستدارةِ إليه وهي تهمـس دون تعبير : سلامته . . وش فيه؟
سيف بعجزٍ يتنهّدُ وهو ينظُر للأعلـى بسكونٍ يلتهبُ بصفيحةٍ أسفلـه : فقر دم حـاد.
اتّسعت عيناها قليلًا، هذهِ المرّة استدارَت إليه وهي تشدُّ على ملابسها بكفيها، وبنبرةٍ تضطرب، تجدُ أحداقها تتشتّت عن وجهه ، بعد أن نظـر إليها وبعد أن شكـى بعينيه، تجدُ نفسها تهربُ من أحداقه ، وتجدُ نفسها في لحظـةٍ غـادرة، تُشفق عليه ، وتفهم مشاعـره! : أ اممم .. يعني ، ما ، ما يشوف شر.
ابتسمَ ابتسامةً بعيدةً عن المعنـى الحقيقيّ لها : شفيك طيب مرتبكة كذا؟ . . ممكن تجين؟!
ديما بتيهٍ تنظُر لوجهه ، وبخفوت : ليه؟
سيف بهدوء : متضايق ، أبيك جنبي.
مرّرت لسانـها بربكةٍ على شفتيها، لم تكُن هذهِ المرّة لتحـاول العناد، لم يكُن بوضعٍ يسمـح لها، على الأقـل انسانيّتها لازالت موجودة! مهما فعـل . . لذا أومأت بهدوء، ومن ثمّ همسَت برويّة : أبدل ملابسي وأجيك.


يُتبــع . .

كَيــدْ 01-09-16 08:30 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


الخامسـة والنصف مساءً ، دخـل المنـزل بخطواتٍ واسعـةٍ عجولة، كـان يريد فقط أن يستحمّ سريعًا قبل صلاة المغـرب وحسب إذ كانت عودته على مضض . . اتّجه للدرجِ مباشرة دون التفكير بشيء، لكنّه توقّف في مُنتصفِه وهو يعقدُ حاجبيه ما إن وصَلت إليه ضحكةٌ من إحدى الغُرف القريبة، استرخت ملامحـه باستنكـار، ومن ثمّ تراجـع لينزل من جديدٍ ويتّجه للغرفـة التي ظنّ أن الضحكـة جاءت منها، وما إن وقف أمام البابِ حتى وصل إلى مسامِعه أصواتٌ تداخَلت ، أدرك أصحابها، حينها تنهّد وهو يمدُّ يدهُ ويفتح البـاب.
اتّجهت العيون إليه، رأى بوضوحٍ ملامـح غيداء التي استرخَت ، ابتسامـةٌ جعلته يبتسمُ رغمًا عنه، ومن ثمّ وقفَت لتتّجـه نحوه، وقفَت أمامه وهي تُشير لهُ باصبعها أن يُخفض وجهه من فارق الطول بينهما، حينها ضحكَ ضحكةً قصيرةً ليُخفضَ وجهه إليها، قبّلت خده برقةٍ ومن ثمّ همسَت : أنا زعلانة منك.
سلطان يبتسم : افا بس! ليه؟
غيداء : لك فترة طويلة ما جيت تزورنا ، ولا حتى تكلمنـي ، والحين يوم تتّصل عليك غزل تقولها بخلص شغلي وأجيكم! لهالدرجة ما نسوى شيء عندك؟
عقدَ سلطان حاجبيهِ وهو يرفعُ نظراته لغزلْ التي أشاحت وجهها عنه بربكةِ خوفٍ ونظرت للأسفـل دون أن تمتلك الجرأة على التحديقِ بِه، قسَت ملامحه، لكنّه سرعان ما نشر فيها اللينَ وهو يضعُ كفّه على كتفِ غيداء، ومن ثمّ يلفظُ بحنان جعل قلبَ غزل ينبـض بشدّةٍ شوقًا إليه : معليش حبيبتي ، ما فيه شيء أهم منكم بس وش أسوي هذي التزامات ماهي اختيارية من عندي ، حاولت أخلصها بسرعة وأجيكم.
غيداء تبتعدُ عنه وهي تصدُّ بوجهها بعتب : ما أعذرك .. زعلانة منك.
سلطان يعبثُ بشعرها ببعضٍ من الجلافـة، تحرّك وهو يضحكُ بعد صرختها المكتومةِ غضبًا من كفّه التي أفسدت شعرها المُرتّب ، اتّجه سلطان إلى امه، انحنى إليها ومن ثمّ قبل رأسها وخدها ، وبهدوءٍ باسم : حيّ الله ست الكُل.
ام عناد ترفـع حاجبها : الوضع نفس أختك ، لا تلعب علي بكلمتين.
سلطان : افا ! شفيكم لهالدرجة زعلانين؟
ام عناد تمدُّ يدها نحو الطاولـة أمامها، حملت كأس الشـاي ببرودٍ لترتشفَ منه ومن ثمّ تلفظُ دون أن تنظُر نحوه حتى : مالك حق تسأل.
سلطان يجلسُ بجانِبها وهو يبتسـم، مدّ يدهُ ليدها ليحمـل كأسها، ومن ثمّ وبحنان : تدلّلوا ، مين له الحق يتدلّل غيركم؟!
غيداء تتحرّك نحو غزل ، جلسَت بجانِبها وكفيها لا زالتا ترتّبتنِ شعرها، وبحقد : غـزل طبعًا ، من تزوجتها وأنت ساحب علينا أكيد الدلال لها بـس.
سلطان : هههههههههههههه لا والله ما انخلق اللي ياخذ مكانكم عندي ، محد يستاهـل الدلال والحب من نساء الدنيا غيركم.
لفظَها بجدّيةٍ واضحـةٍ لمسامع غـزل التي ابتلعَت ريقها بأسـى، تتقوقـع حول صمتِها، لا تجِد سوى التبـاعد ، النأيُ عن دائرتـه التي لُفظَت منها، غريبـةٌ في أرضـه! أن يكُون موطِنها وهي فيـه " بدون "! كيفَ لا يكون هذا المُصطلـح قاسٍ الآن! أن يمرُّ على قلبها مرورَ الكرامِ ولا يخدشـه ، جراحِي ثكلـى ، عظامُها هشّةٌ لا تجِيد الجبـر، شروخُها لم تجِد ما يُكمّلُ تشوّهـاتها ويُلاشِيها . . جراحِي كُهَّل ، وثكلـى كأمٍ نافسَت السنينَ وهزمتها في تجاعيدها ، لم تُنجِب من رحمها يومًا إلا مولودًا مـاتَ ، سعادةً وُئِدت ، وخرجَت من الدنيـا رغم العُمر المديد . . خاسرة!
عضّت شفتها السُفلى، تقبضُ كفيْها على حُجرها وتنظُر للأرض بفـراغ ، ترى هذهِ الأرضَ تثورُ بشقوقها، من قـال أنّها أرض؟ الأرضُ لها هـو ، إلا أنها كانت أرضًا قاحلة، لا تُسقيها ولم تكُن تضاريسها تُلائمُ نموّها فجفّت !
غيداء تُميل فمها وهي ترفعُ حاجبها : تلعب علينا بهالكلمتين؟ المشكلة ما نرضى عليك ، هذا اللي يوقف بصفك.
سلطان يقرّب طرف الكأس من فمِ امه كي يجعلها ترتشفُ من يدهِ وهو يلفظُ بحنـانٍ بينما ذراعهُ تُحيط كتفها : أهون عليكم؟
ام عناد تبتسمُ رغمًا عنها بعد أن ارتشفَت القليل : هذي المشكلة ما تهون.
سلطان بابتسامة وهو يضـع الكأس على الطاولـة : أي شلونكم؟
ام عناد تمرّر لسانها على شفتيها وهي توجّه رأسها إليه وتلفظَ بنعومة : طيبين دامك بخيـر، على فكرة ترى عنـاد جاء بس لما عرف إنك مو موجود راح.
سلطان ببرودٍ غسلـه فجأةً حين ذكرت اسم عنـاد : بتّصل عليه بعدين.
ام عناد بجدية : شلون عمك؟ طلع من المستشفى؟!
سلطان يبتعدُ عنها عنها قليلًا ويعتـدلُ في جلوسِه، وقعَت عيناه على غـزل ، استطـاع قراءتها بسهولـة، ملامحـها التي تغرقُ في بؤسها في هذهِ اللحظـات ، كـانت واضحـة المعالم، وربّما لو تركّزت نظراتهما على وجهها لاستطـاعتا استنباطَ شيءٍ مـا ، لفظَ بجمودٍ وهو يقف : بيطلع بكرا إن شاء الله ، واحتمـال يسوون له عملية إذا لازمته آلام ظهره ، بس بالأول بينتظرون شوي.
ام عناد : الله يشافيه.
سلطان ينظُر لها بابتسامة : على أساس ما سألتِ عناد وعطاك الموجز؟
ام عناد : هههههههههههههه لا حبيت أسألك أنت عن التفاصيل.
سلطان يُقاطـع سلسلة الأحاديثِ بأن نظر لغزل نظرةً سريعـة ، ستبثّهم الأحداثَ من ملامِحها الكئيبة والمزعجة هذه!! وجدَ نفسه يلفظُ بصوتٍ لا تعبيرَ فيه وهو يتحرّك خارجًا من الغرفة : خمس دقايق وراجـع . . تعالي غزل أبيك بشغلة.
خرجَ وهو يسمـع صوت غيداء المُتذمّر : شُف شف قلة الذوق ! لاحـق على مرتك يا معفن.
لم يكُن ليبتسـم، ولم يكُن ليفسّر حتى وهو يبتعدُ عن البـاب، يتوقّف على بُعدِ خطوات، يضعُ كفيه على خصرِه، ويرفـع أحداقهُ قليلًا للأعلـى بقسوةٍ لا حدودَ لهـا، انتظـر حتى سمـع صوت البابِ يُغلق، ومن ثمّ تحرّك وهو يلفُظ بنبرةٍ حادة : تعالي وراي.


،


صعَد للسيـارة وهو يُلقِي السـلام ليرد عليه شاهين بابتسامـة ، وبهدوء : شلونك اليوم.
متعب يمدُّ ذراعيه بكسـل : مثل كل يوم ، بس تدري اليوم نمت معظم النهار، غثّني أدهم أمـس كان معنّد ما رضى يخليني أرجع بدري ، متعمد يسهّرني.
شاهين يرفـع أحد حاجبيه بضيقٍ من " طاريه "، يبدأ بتحريك السيارة وهو يلفُظ بضجر : هالرجـال وقح ياخي!
متعب : ههههههههههه ومع كذا أكلت اللي طلبه لك ، ما هان عليك.
شاهين بسخرية : للأسف ممنون له طول عمري ، هذا اللي يحدنِي قدامه.
متعب ينتبـه لرجلٍ يـشير لسيارة شاهين من بعيد، ضيّق عينيه وكأنه يعرفُ ملامحـه، كان أحد الساكنين في حيّهم ، ارتبك قليلًا، إلا أنه لفظَ ينبّه شاهين : فيه واحد يأشّر لك ، وقف شوف وش يبي.
شاهين يعقدُ حاجبيه، لم يحرّك رأسه بل بقي ينظُر للأمام وهو يلفظُ بحذر : لا ، غلط أوقّف وأنت معي حتى لو متلثّم أخاف يعرفك . .
متعب يقاطعه وهو يعدّلُ لثمته ويغطّي معظم أجزاء وجهه : لا وقّف له يمكن شيء مهم، وانزل له قبل يقرّب.
زفـر شاهين وهو يوقفُ السيارة، فتـح بابه بسرعةٍ ومن ثمّ نـزل حتى لا يـعطِي المجـال لذاك كي يقترب، خطى بهدوءٍ إليه وهو يبتسم ، ومن ثمّ مدّ يدهُ بعد وقوفه أمامه ، صافحه الرجُل ليلفظ : خفت ما تنتبه لي.
شاهين يبتسم بمجاملة : شلونك عمّي بو راكان؟
ابو راكان بهدوء : طيب وأنت؟
شاهين : نشكر الله ، سمّ عسى ما شر؟
ابو راكان بعد تردّد : الشر ما يجيك . . يمكن الموضوع ماله داعي ينذكر بس أول ما شفتك قلت أسلّم عليك وأقوله ما يضر.
شاهين بتوجّس : وشو؟
ابو راكان : أمس كنت شايف واحد تقُول المرحوم متعب ، نفس ملامح الوجـه حتى لما قربت منه كان نفس صوته اللي ما أنساه.
امتقـع وجه شاهين بصدمـة، ظهر عليه الارتبـاك ، حينها تدارك ابو راكان حديثهُ ليردف : ما أقصـد أضيّق صدرك بذكره ، الله يرحمه ويغفر له ... سبحانه يخلق من الشبـه أربعين.
شاهين يمرِّرُ لسانه على شفتيه، يقطّب جبينه بربكةٍ سرعـان ما أخفاها وهو يلفظُ برويّة : وين شايف هالرجّال؟
ابو راكان : بمطعـم .. شفيك بس انخرشت كذا؟ حبيت بس أقولك يعني أكيد مو متعب.
لفظَها بضحكةٍ مداعبـة، لكنّ شاهيـن كان متباعـد الروح عنه ، لم يبـالي بالردّ على مداعبـته تلك، وسرعـان ما أنهى اللقاء على عجلٍ بعذر انشغـاله، عـاد للسيارة، وما إن صعدَ حتى حرّكها مباشرةً وهو يلفظُ بنبرةٍ مُنفعلـة : شايفك أمس.
متعب ينظُر لهُ دون استعياب : نعم !!
شاهين بأنفاسٍ تتباطأ : شايفك أمس وأتوقع وقت كنت مع أدهـم * نظر لهُ نظرةً خاطفةً سرعان ما أعادها للأمام * الوضـع ما يطمّن ، قايلين من قبل أكثر شيء لازم نخاف منه إن أحد من اللي تعرفهم يشوفك ، والرياض أصغر من إنها تخبّي وجهك حتى لو كانت كبيرة ، أكيد كان بيصير هالشيء وأوّل الغيث اليوم.
تصلّبت ملامـح متعب، نظـر للأمام بصمتٍ مُضطرب ، في حينِ تنفّس شاهين بعنف ، وهو يلفظُ بنبرةٍ باهتـة : لمتى؟ متى بتكتمـل فرحة رجوعك يا متعب؟


،


مرّت سـاعة، وهو ينـام ورأسـه في حجرها بتعَب ، تسندُ ظهرها على السرير، بينما أصابعها تعبُر بين خصـلات شعره القاتمـة، لم تتحرّك من جمودِ جسدها الذي تصلّب في وضعيّتـه منذُ ساعة، لم يكُن يريد النوم بل أراد أن يسكُن إليها ، تجاهـل معارضة عينيها الواهنة في البداية، وأتمّ معنى الراحـة التي عناها ، أن يضـع رأسه في حُجرها، ويسترخِي مُغمضًا عينيه بينما يدهـا تربّت على صداعِ رأسه، تربّت بسكونها على ضجيجِ عقلـه . . ودون أن يشعر بنفسِه ، نام!
تطلّعت ديمـا للأمام بعينينِ ساكنتين، أصابعها لا تتوقفُ عن سيرها بين خصلاتِ شعره، وعقلها لا يتوقّف عن التفكيـر ، لمَ تهتمّ؟ لمَ لا توقظه الآن ولا تهتمَّ لاسترخائِه! قدماها تصلّبتـا ، فلمَ لم تفكّر رغم تصلّبها أن توقظه؟ تريده أن يركـن إليها، أن يستنـد بثقلهِ عليها، ورغم أنه خذلها ، لم تخذله!
تنهّدَت بصمت، انزلقَت كفّها الناعمـة بدفئها إلى عنقه، مسّدتها برقّةٍ تجعله يسترخي أكثر دون أن ينهـض، آخر صداماتهما كـان يقول لها فيها بكلّ عجـرفةٍ أنه المسيطر وأنه سيمنعها من العمـل من جديد! فلمَ تنصـاعُ لضيقِه!
تداخَلت أفكارها، تشوّشت، تريده أن يرتاح ويسترخي، وتريد من الجهـة الأخـرى أن تكسَب ، لا يستحق، لا يستحق ، نعم ، لا يستحق !!
تنفّست بعنف، ومن ثمّ أخفضَت عينيها إليه وقد قرّرت أن توقظـه ، نظرت لوجهه بحدّة ، لكنّها سرعـان ما ارتخت نظراتها، انسكَبت سكينةٌ على ملامِحها وهي تُراقبُ استرخـاء تقاسيمه في نومِه ، بدا لطيفًا على عكـس ما اعتادت ، كطفـل مهما كـان مشاكسًا، مزعجًا، إلا أنه في حُضن أمّه يستكينُ ويهدأ بصورةٍ فاتنة!
مرّرت لسانها على شفتيها باضطراب، ومن ثمّ حركت يدها الأخرى، لتُلامـس بأطراف أصابعها حاجبيه المُسترخيين ، وصوتها يهمسُ بصدى أجوفٍ في داخلـها : غبيّة !
تدرك أنها في هذهِ اللحظـة حمقاء! لكنّها كانت تُلامـس تقاسيمه بنعومـةٍ وحنان، تنصـاع للجزء الذي يريده أن يهدأ، تلمسُ أنفه برقّة ، وتعبُر بأمواجٍ ناعمـة إلى خدّه الصلب، تمسـح على شعيراتِ ذقنه ، لتجد نفسها أخيرًا تُخفض وجهها ، وتقبّل خدّه.
تلك القبلـة كانت ناعمـة كنعومـة شفتيها، كـانت رقيقة، كفراشةٍ حطّتْ على صخرٍ لم تُثقله ولم تُثبت تواجدها بوزنٍ متلاشي، كـانت قبلةً ناعمـة، إلا أنه فتـح عينيه الناعستين معها، في اللحظة ذاتها التي ارتفعَت فيها بهدوء، دون أن تنتبـه أنّه استيقظ.
حرّك سيف نظراته دون استيعاب، لم ينتبـه لعينيها اللتين اتّسعتـا بصدمةٍ ما إن رأت عيناه مفتوحتـان ، شعر بها ، بالتأكيد شعر بها !!
تنّفسَت بتسارعٍ وهي تُحاول أن تهدِّئ انفعالاتها وتُظهر له أن ما حدَث لا يعنِي شيئًا! لم تدرك أنّه لم يشعُر بها وحتى في نهوضِه لم يكُن مستوعبًا . . جلَس بهدوء، بينما ابتلعَت ديما ريقها بربكـة ، لم ينظُر نحوها وهو يمرّرُ أصابعه بين خصلاتِ شعره، وببحّةِ صوته الناعـس والذي يكبّل تفكيرها بقلبها! : أذن مغرب.
ديما وحنجرتها تضطرب ، لم يشعر، أم أنّه لم يـرى الموضوع يستحقُّ استغلاله أمامها! أن تختلـس من منامهِ قبله، هذا لا يعنِي شيئًا بنظرِه ، اثباتات ، وضعف! همسَت بصوتٍ حاولت جعله ثابتًا دون أن يهتزّ : باقي على الأذان نص ساعة.
سيف : همممم.
ديما بهدوءٍ ظاهري : أسوّي لك شيء يصحصحك قبل الأذان.
سيف يبتعدُ عن السرير بعينينِ ضيّقتين، اتّجه للحمـام، ومن ثمّ لفظَ بفتور : لا مالها داعي ، بتروش وأصحصح.
أومأت بهدوء وكأنه كان ليرى إيماءتها ، توقّف يضـع كفّه على إطار الباب، ومن ثمّ ابتسـم ابتسامةً هادئة، ليتمتمَ بصوتٍ لم يصلها واضحًا ولم تتبيّن معالمـها : الله لا يخليني من هالحضن.


،


" تعالـي وراي "
زخّ فيها المزيدَ من ارتبـاكاتِ السكُون ، لو يعلمُ فقط ، كيفَ أنّها طيلـة الليالـي المغـادرة ترحلُ بسفينـةٍ من مينـاء إلى آخر وكلُّ الموانئ زائلـة، أو فقط ، هلاميّة! تصبـح شفّافةً حتى لا تراها ، فلا ترحـل ، ولا تصل!
لو يعلـم فقط، أنّها باتت تكـره الليل! تحبّه، وتكرهه في آن ، لالتمـاع نجمةٍ وهي ضاحكـةٌ بسببه ، ولانكسـار بدرٍ في " هلالٍ " وهي تبكيه منفى عنه!
لو يعلـمُ فقط، أن السُحبَ التي تختفي في الليلِ تُشبهها، وأنّ الفراشـاتِ التي تنجذبُ للشموعِ وتحترق ، هي!
كم من الضعفِ تمتلك، كم من الظلامِ اغتالها ، لتنجذبَ لأقـربِ نور محاولةً الانبعـاث من جديد، ودون أن تُحيا ، تحطّم ضريحها وحسب ، ويتلاشى اسمهـا من الوجودِ - ميّتًا!
تبعتـه ، لم تدرِي ما مشاعرها في تلك اللحظة، سوى أنّها تستسـلم، فقط تستسـلم، وتُسلّمه أمرها كلّه . . دخـل للمطبـخ، عقدَت حاجبيه قليلًا باستغرابٍ وهي تدخُل من ورائِه ، رأته يفتح الثلاجة ليُخرج الماء ويشرب بينما عينـاه تسقُط إليه، وقفَت بربكـة عند الباب ، لكنّها لم تكُن سريعةً كفايـةً واستطاع أن يلحظَ عرجها ، ابتسَم بسخرية، وهو يصبُّ من الماءِ البارد في كوبٍ زجاجي، يُديرها ظهره، ومن ثمّ يلفظُ بنبرةٍ جافّة : صبّي مويا لهم ، أقـل شيء ما ترجعين بدون شيء.
ابتسمَت دون تعبير، ومن ثمّ تحرّكت بانصيـاع، وهي تحرّك شفاهها بكلماتٍ لا صوت لها، بكلماتٍ تردّد صوتها في صدرها وحسب : أرجع! أنت تدري إنّ الموت ما منّه رجوع ، وأنا أموتك بكل لحظة ولا أحيـا من بعدها إلا جسد! أموت مرتين ، ثلاث ، أموتك للا نهـاية يا سلطان!! أنت الموت اللي ما يسبقه إلا موت! أنت الموت بطريقة مختلفة ، موت يعني حياة غريبة، ولذيذة!
غسلَت كوبين ، بينما استندَ سلطان بكفهِ على الطاولة الخشبية، مـال فمه باستخفاف، وبتساؤلٍ جافٍ لفظ : ليه ما اتصلتِ؟
غزل بصوتٍ لا تعبير فيه ودون أن تنظُر نحوه : كنت بتعصب مني لو سمعت صوتي.
سلطان بسخرية : اها صرتِ تعرفيني ... أكيد كنت بعصّب برافو عليك . . طيب ليه ما ارسلتِ لي؟ تحبين الكذب بكل صغيرة وكبيرة.
ابتلعَت ريقها بربكة، كفيها تجمّدتـا تحت الماءِ المندفـع ببرودتِه دون أن يجدَ معنًا للهدوء، لم تردّ عليه وصدرها يرتفـع في أنفاسٍ راحلـة، أين تذهب؟ أين يذهب الأكسجين ويمضِي عنها لتختنق أكثر بعد رحيلِ عنصرٍ يغنيها عن كلّ مقوّمـاتِ الحياة! . . تسارعَ علوّ صدرها وانخفاضـه، في حين تصلّبت ملامـح سلطان أكثر وهو يُردف بقسوة : لازم عقـاب لأنّك تعمّدتي تحرجيني قدامهم.
كـانت تدرك أنّه لم ينحـرج، بينهم الكثير من الشفافيّة كـي لا يضخّم الموضوع، لكنّه كـان يريد ، فقط كان يريد أن يضخّمه !
لفظَ ببرودٍ وهو يبتسـم : تعالي.
غزل تضعُ الكوبين جانبًا، تستديرُ بربكةِ حواسّها، تنظُر إليه بوهن، ومن ثمّ تهمسُ بجزع : لو ودّك تعطيني الكف الثالث ترى محنا بروحنا ، يعني ممكن يطلع الأثر لعيونهم.
سلطان وزاوية فمه ترتفـع بسخرية : شايلة هم ذلّك واهانتك قدامهم كثير؟
غزل بغصّة : عارف إنّك تهينني.
سلطان : هذا المطلوب.
غزل ترمُش بعينيها، تفقدُ إرادتها تجاهَ جسدها الذي تشنّج ، حركةُ أهدابها كانت رغمًا عنها، تنبضُ عضلاتُ ملامحها بشدّةِ الألـم وتشعُر أن آلامَ وركِها تتضاعـف بعد أن خفّت وطأتُها ، يهزمها بنبرتِه وبصوتِه الجـاف، بالكلماتِ التي تبتغِي ذلّها وهو الذي في يومٍ مـا غضبَ على والدِها، في ليلـة العيد، حين تجرّأ على إرادةِ ضربـها ، غضب ، والآن هاهو يبتغيه لها، فقط ليذلّها ويهينها به.
همسَت بصوتٍ يختنـقُ وهو تُغمض عينيها المرتعشتين : لوين بنوصل؟
سلطان وخطواتُه تتحرّك نحوها ببطء : لراحتـي.
غزل : بترتـاح لما تخسر نفسك؟
سلطان بقسوة : أخسر نفسي ليش؟ مين أنتِ عشان أخسرها بسببك !!
عضّت طرفَ شفتها وهي تفتحُ عينيها وتنظُر للأرض بأسـى، تشعُر باقتـرابِ خطواته، لا تدرِي ما الذي ينتويه بالضبط ، ضربُها ! هذا هو الأرجـح . . لمحَت أقدامـه ، حينها ابتلعَت ريقها، وتصلّبَ جسدها أكثـر ، تضاعفَت آلامُها وتضخّمَ في صدرِها أنينٌ صامـتٌ ينتظر خلـوةً عادَت بها إلى أيامها القديمـة ، أيـامها التي اهترأت وعادت تتجدّدُ اليومَ بينَ غلافيْه.
وقفَ أمامها حتى كـاد جسده أن يلتصِق بها، مدّ يدهُ فجأةً لتتّسع عيناها وهي تتنفّس بسرعةٍ أكبـر ، يدبُّ فيها الخوفُ ممّا سيفعلـه، لا تدرك قسوته كمـا يجب، لم تجرّبها كثيرًا، لذا كـانت الآن غريبةً عليها، لا تفقهها!
قبضَ بكفّه على ذقنها، رفـع وجهها بقسوةً إليه لتسقطَ أنظاره على عينيها المتّسعتين ، ابتسمَ بسخرية، ومن ثمّ همسَ بحيرة : كم كف قد عطيتك؟
ظلّت تنظُر له بملامِحها المتجمّدة، شفتيها تنفرجـات، أحداقها ترتعـش بينما أجفانها تتبـاعدُ بذعر، كـانت تتنفّس بسرعـة، يغادرها الأكسجـين ويدبَّ في جسدها هرمون الأدرينـالين ، يُثبّطُ من انفعالاتِ هذهِ اللحظـةِ وهي تقرأ في عينيه سخريةً مـا ، قسوة ، وحدّةٌ تأمـرها أن تُجيب !
همسَت بصوتٍ مرتعـش : ليه تسأل؟
سلطان يشدُّ على ذقنها بحدّة، وبعينينِ تشتعـلانِ بقسوتِه : إذا سألتك ما تردّين بسؤال ، بس ما يضـر . . أبي أتأكد حاسبتها زين أو لا.
غزل تبتلـع ريقها وهي تنظُر لملامِحه بنفور، تريد أن تبتعدَ عنه اتّقـاءً لقسوتِه وتُقيـا لسلطان القديم ، تريد أن تبتعد، لكنّه يشدُّها إليه بملءِ قوّته . . هتفت باختنـاق : حاسبتها ، تطمّن.
سلطان يبتسمُ ببرود ، ابتسامةً أدركت أنها ستلحقـها بألم! . . نطق بنبرةٍ جامـدة : كم وحدة؟
غزل بحسرة : ثنتين مع شويّة خسارة لنفسك.
سلطان بسخرية تجاهـل ما نطقت بعد ذِكر العدد : وعلامات أبوك بجسمـك . . كم؟!
شحبَت ملامحها، وارتخَت أعصابها بصدمةٍ من سؤاله ، شيءٌ مـا ، شيءٌ مـا ، كان قد تضخّم في حنجرتها ، شيءٌ مـا ، كـان قد غُرِسَ بذرةً في صدرها، ونمـى بعد انغراسِه مباشـرة ، صديد ، مرارة ، شيءٌ تشعُر بِه يُثير بها الغثيـانَ ويقتُل سكونَ أحشائِها.
منذُ متى كـانت الكلمات " زقومًا "! تقتـل من يقتاتُ عليها ، منذُ متى كان صوتك عذابًا وكنت قاسٍ هكذا! قاسٍ بدرجةٍ لا أدري كيف عساها تحصرُ الوجـع في صدري! هل هو محصور؟ هل هذا الوجـع محصورٌ أم أنّه تجـاوز الأعدادَ حتى عـاد صدري يا سلطان كالعرجون القديم اصفرَّ وتقوّس في ظلامِ سمائِك ! كـان صدري من قبلك كالعرجون واليوم عاد! عـاد بِك، بعد أن اكتمـل بدرًا بكَ أيضًا.
تراجَع جسدها بهوان ، لكنّها لم تجِد خلفها سوى زاويـة المغسلة التي انطفأ ماؤها، كـانت تنظُر لوجههِ بملامـح اهترأت، وجلدٍ اصفرّ وأطرافٍ انكسرت! تقوّس فمها في ألـمٍ جارف ، لا تدري متى ترك ذقنها، لم تكُن تعيشُ لحظـة تركِه له ، لم تنتبـه ، وهي تهمس باختنـاق : مو من الرجُولة تعايرني بحياتِي قبل.
سلطان بجفافٍ استطاعت أن تقرأ بمسامعها التهديد المبطّن خلفه : للمرّة الثانية تجيبين طاري الرجولة ... وبتجاهله مع إنّي أبيك تزيدين فُرَص عذابك.
غزل بانهيـارٍ تكادُ دموعها أن تسقطَ إلا أنها كانت تقاومها بقوّةٍ لا تدري كيفَ امتلكتها : ما كـان لها عدد ، ولا لهـا وجود ، العذاب اللي يجي من شخص نكرهه ينتسى ، بس العذاب من اللي نحبّه خـالد! ويوجع ، يوجع أضعاف السنين اللي كانت عند أبوي يا سلطان.
سلطان ببرود : هذا المطلوب.
غزل بقهر : منت سلطـان ، بس أنا اللي جبتها لنفسي . . . عاقبني ، سوّى اللي تبيه ، وبعدها ارجع! ارجع لنفسك.
سلطان يتراجـع للخلفِ بعد أن ضربَ بأوتـار صدرها وعبثَ بنفسيّتها المُتهتّكة ، أشار بكفّه ناحيـة الباب ، ومن ثمّ لفظَ ببرود : ارجعي لهم بس لا تنسين المويا ، واسهري بالليل وعدّيهم ، أبـي إجابة واضحة لأنّ عيوني شافت لها وجود.
ابتسمَت بألـمٍ ابتسامةً تنعكـس بتقوّسٍ ينجرفُ لوادٍ عميق، تنكسـر شفاهها ، ومعها صوتُها الذي همَس : بيجي يوم وتكون أخذت بحقّك كامـل مني .. بعدها بيكون كل شيء انتهـى ، ما راح يظل لك عندي شيء، وبصير أقوى! لأنّي بهالوقت مافيه سبب لضعفي إلا أنت ، وذنبي بحقّك.
سلطان يتّجه للبـاب وهو يلفظُ بقسوةٍ ساخـرة : إذا هاليوم مرتبط بقوّتك فما راح يجـي . . اليوم هذا ، بتكونين فيه انتهيتي! وما فيك حيل تعيشين أكثر!!


،


اقتربَت الساعةُ من منتصفِ الليـل ، كـان قد دخـل للغرفـة وهو يمرّر كفّه على شعرِه المُشعث، يعجُّ بِها الكثيرُ من الظـلام، وقبسٌ من نورٍ أصفـر باهت، ابتسمَ ابتسامـةً خافتةً وهو يُغلقُ البـاب بهدوء، ينظُر لجسدها المُسجّى على السريرِ بشكلٍ أفقيٍّ والأوراقُ تتنـاثرُ من حولها، تحرّكت خطواتُه إليها، بدأ بتجمِيع الأوراقِ من حولِها في حزمةٍ واحـدةٍ ومن ثمّ وضعها على طاولـة المكتبِ القريب بجانِب حاسوبِه، عـاد إليها، ليحملها بحنانٍ ويعدّل وضعها على السرير ، سحبَ المفرشَ من أسفـلها، كلّ ذلك ولم تشعُر بهِ من شدّةِ إرهاقـها الذي ألحقته بنفسها، غطّى جسـدها النحيل، أغلق ضوء الأبجورة ، ومن ثمّ انحنى إلى وجهها ليقبّل أرنبـة أنفها برقّة ، ويهمسَ بخفوت : نوم العوافـي .. نجلاء.


،


في الصبـاح ، يلتئـم تواجدهم على إفطـارٍ روتينيّ من تعاليـم الطبيعةِ المحضة ، تمتدُّ يدها نحوَ كوبِ عصيرها وهي تبتسمُ لليان التي كانت تجلسُ بجانِب والدها وتمدُّ لسانها لها بعد أن شاكستها هيَ بحاجبيها.
همسَت وهي تستوي بقعودها : هالبنت صايرة مصيبة زود ، مافيه احترام يا شيخة!
صدّت عنها ليـان، بينما وقفَ يوسف بهدوءٍ وهو يتحمّد الله بعد انتهاءِ أفطـاره ، نظـر لجيهان نظرةً خاطفـة ، ومن ثمّ تحرك مبتعدًا وهو يلفُظ برويّة : خلّصي فطورك وتعالي ، بتكلم معك بموضوع.
جيهان تنظُر لهُ باستنكار : أنا وإلا أرجوان؟
يوسف يوجّه نظراتٍ حادةٍ إليها : أنتِ طبعًا! هو فيه أحد يحبّ المصايب غيرك!!
فغرت فمها بصدمة، وأحداقها اتّجهت تلقائيًا لأرجوان بعد أن دخـل لغرفته، ارتبكَت قليلًا ، واستطاعَت أرجوان قراءة سؤالها الذي لفظته بصمتٍ مرعوب، ابتلعت ريقها بتوجّس ، ومن ثمّ نظرت إلى ليان لتهمسَ بابتسامةٍ مرتبكة : ليون.
ليان تنظُر لأرجوان وهي تحرّك ساقيها من أسفل الطاولة : هممم.
أرجوان بشك : قلتِ لبابا إنكم شفتوا فواز ذاك اليوم؟
ليان تتناول كوب العصير وهي تلفظ : قلتله بس إن جوج قالت لي أدخـل وجلست تكلمـه.
شهقَت جيهان وهي تضعُ كفّها على فمها وتوسّع عينيها بشر ، تنظُر لها بغضب ، ومن ثمّ تقف وهي تلفظُ بصوتٍ مكبوت : حمارة ، حمـارة . .


.

.

.

انــتــهــى


أتوقع واضح الإرهاق في الكتابة من البارت :$ انعكس علي بشكل سلبـي ، وأكيد مو قدّ المستوى بس حاولت أطرحه على الوعد بتواجده مهما تأخرت يوم أو حتى كم ساعـة . .
البعض نبّهني على شغلة إن الأحد ربّما يكون عيد ، لذلك الموعد إن شاء الله بيكون الاثنين، يعني ثاني أيـام عيد الأضحى المبارك.

حابة أوضح لكم شغلة بسيطة، لما قلت راحة أسبوع بعد ثلاث أسابيع أكيد هالأسابيع بيكون فيها كل اسبوع بارتين نفس قبل، ولو حسيت إنّي ما أحتاج الراحة بعدها بنزل بالأسبوع الرابع أو على حسب الأحداث نفسها، يعني الأسبوع اللي برتاح فيه عادةً بيكون أسبوع اختاري على حسب نفسيتي، بوضح لكم بس عشان لو جاء هالرغبة بالراحـة محد بيلوم، مثل ما قلت ممكن أستغني عن توقّف الأسبوع هذا بحسب رغبتي في الكتابة وحسب حاجتي . . ونقطة ثانية ، ترى هالاقتراح جاء من إحدى متابعاتي اللي كانت ملاحظـة الضغط اللي أعيشه، فلا تفكرون إنّي اختلقته من العدم، أتوقع واضح الضعف اللي بديت أعيشه بالأجزاء ومو بصالحي.

+ حاولت يكون الجزء هادئ، وقفلته هادئة بعض الشيء بما أنّي بوقف هالفترة، ما بقول إن شاء الله يرضيكم، لأني أدري إنّه مو كذا :P بس بقول شكرًا لتفهّمكم ، راجعـة لكم بجزء ضخم ومليء بالأحداث بإذن الله.

ودمتم بخيـر / كَيــدْ !

fadi azar 08-09-16 09:31 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 11-09-16 11:45 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
مسَـاء السعَادة على قلُوبكم اللطيفَة :$
كل عام وأنتم بخير الله يتقبـل من الجميع طاعته في هذا اليوم الفضيل ، ولا تنسُونا من دعوَاتكم :$*

الجزئية الأولى من بـات 81 بإذن الله راح تكُون بعد منتصف ليل اليوم ، وبحدد لكم الساعة بالضبط بوقت آخر بما أنّنا ببداية اليوم وما أقدر أعطيكم وقت ثابت ما أضمنَه ،
بحاول أستخلِص لي وقت كافي لتكملتـه بهاليُوم إن شاء الله ونعتِبرها عيدية بسيطَة لكم ()


كَيــدْ 12-09-16 01:36 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



السلام عليكم ، موعدنا راح يكون بنفس اليوم اللي حددته قبل التوقف - الاثنين - يعني اليوم واحتمال عالعصر
امي تعبانة وبنشغل معها ، عشان كذا للأسف ما قدرت أقدمه أقل شيء للفجرية مثل ما تمنيت :(

كَيــدْ 12-09-16 04:07 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


بنزل نص الجُزء ذا عشان اللي كانوا منتظرين ، والنصف الآخر بينزل بعد بكرا مع إضافة أجزاء له ، أتوقع كذا نرضي الأطراف . .

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات



(81)*1



يغوصُ في نسيمِ الصباح وهدوئِه، يتخلخلُ سكونهُ ضحيجُ صوتها وعبثُ كفيها، عقدَ حاجبيه، كـان مستيقظًا وساكنًا أسفـل اللحاف، يضعُ الوسـادة على وجههِ ليظهر أمامها أخيرًا بهيئة النائِم، جلبَت إلى رأسِه الصـداع من العبثِ الذي ثُقيمه والضجيج الذي تولّدهُ بكفيها على الجمادات.
وقفَت إلين أمام مرآةِ التسريحةِ وهي تُغلق قرطها الؤلؤي، تنظُر لهُ عبر المرآة بحاجبينِ ينعقدان ترقّبًا، وبصوتٍ مرتفعٍ بعض الشيء : أدهـم ، الساعة بتجي 7 وامتحاني 8 .. قوم.
أدهم الذي كان يشعُر بها منذ البداية، أزاح الوسادة عن رأسِه لينظُر إليها بملامِحه الناعسة، شعره يُكمـل الفوضى التي اكتنـزت بها الغرفـة . . مرّر أحداقه على ما حولها، " بوكس " حذائِها الذي لم ترتدِه من قبل كان مرميًا بجانِب التسريحة، منشفتها ارتمَت بإهمـالٍ على كرسيّ التسريحة أيضًا، عطرها المفتوح، والكثير من الفوضى من حولها جعلته يرفعُ حاجبـه وهو يلفُظ باستنكـار : كل هالتخبيص أيش؟
إلين التي لم تفهمه أدارت رأسها إليه وهي تلفظُ دون فهم : وشو؟
أدهم بسخرية : يا الله الصبر يوم ورى الثاني انصدم فيك أكثر .. الحين هالحوسة تطلع من جامعية وفوق كذا متزوجة؟
لم تستوعِب في بادئ الأمر، بقيَت تعقدُ حاجبيها وهي تراهُ يجلسُ والوسادة التي كانت تُخفي ملامحهُ أمسكَ بها باسترخاءٍ على حُجرِه وهو يُشير لما حولها بابتسامةٍ مُستهزئة ، نظـرت حيثُ يشير لتنتبه للفوضى التي قصدها، حينها احمرّت ملامحهـا بحرج، تلك الحُمرة التي يهوى والتي يعشق، تلك النظـرة التي التي تهزمُ بورديّةٍ يراها بعينيه لونَ بتلاتِ زهرةِ أقحوانٍ ناعمـة، تخطفُ وجناتها شفافيّة ندى عكـس حُمرةً سقاها ونضجَت أكثـر . . كـاد يبتسم، إلا أنّه بتـر بسمته وأبقـى على السخريـة في ملامِحه، بينما رفعَت إلين نظراتها إليه وهي تتنحنحُ بحرجٍ وتلفظَ بخفوتٍ متدارك : برتّبها بعد ما أرجع ، لا تدقّق كثير وكأنّي بكامل استرخائي اليوم ، يعني المفروض تعذر أي تصرّف مني.
رفـع أحد حاجبيه باستخفاف دون أن يُجيب بكلمـة، عينيه عبرتـا عليها من أعلاهـا لأسفلـها بنظرةٍ أربكتـها، كانت ترتدِي قميصًا أبيضَ وتنّورةً تسبقُ كاحليها بسوداويّةٍ لم تطغـى على شفافيّة بشرتها، رفـع عينيه إلى عينيها وهذهِ المرّة كانت نظراتـه ماكرة، لم تفهمها لكنّها ارتعبَت منها لتقبـض كفيها وتسيرَ بربكـةٍ دون هدى لافظةً بربكـة : بيمشي الوقت بسرعة يعني قوم تجهز لا يروح امتحاني.
لم تغِب نظرته الماكـرة تلك وهو يرتمي بجسدهِ للخلفِ ويلفظ : وش دخلني بامتحانك أنا؟
إلين تنظُر نحوه بضجر : ينقصني غباءك الحين؟ قوم عشان توصلني.
أدهم ببرود يضعُ ذراعه على عينيه : ماني موصلك .. بنام.
اتّسعت عينـاها دون استيعابٍ بينما شفتيها انفرجتـا قليلًا، لم تتبيّن صدقـه جيدًا لتهتفَ بتساؤلٍ متوجّس : تمزح صح؟ ترى مو وقت مزاحك والله قوم واللي يعافيك.
أدهم يُزيح ذراعه لينظُر للأعلـى، تشبّثت نظراته في نقوشِ السقفِ بحيرةٍ زائفـةٍ يستذكر بها كلمـاتٍ قالتها لهُ البارحـة : أنا كلب وحيوان وحقير عشان كذا ماني موصلك، * وجّه عينيه إلى ملامحها المذهولة ليُردف بتدارك * آه صح وأنا سبب رسوبك قبل وطبعًا مظلوم بهالنقطة عشان كذا بكون سبب رسوبك الحين بكل صدق وإخلاص.
مرّت لحظـة صمت، لحظـةٌ واحدة ، قبل أن تشتعـل عيناها بانفعـالٍ وتتحرّك نحو الكومدينة التي وضـعت عليها هاتفها وهي تلفظُ بعنف : بتذلني على كلامي أمس يعني؟ كلب وحقير وحيوان وش تبي بعد؟
في لحظةٍ خاطفةٍ أدرك أدهم وجهتها، نظـر للكومدينة ليدرك ما كانت تريده بالضبط، جلس سريعًا لتعتلِي صرختها المكتومـة وهي تركضُ باتّجاه الكومدينة لكنّه كان أسرع ليسرق هاتفها وهو يضحك بانتصـارٍ وتلاعب : بتتّصلين بمين؟ محد بياخذك للجامعـة غيري عشان كذا خليك مُطيعة.
إلين تتراجـع للخلفِ بعد أن اصتدام ساقيها بالسرير، نظـرت نحوه بحقد، كـان قريبًا منها، يستندُ بإحدى ذراعيه على طرفِ السرير والأخرى ترتفـع بكفّها الحاملـة هاتفها، يلوّح بهِ باستفزازٍ وهو يبتسـم بانتصـار، بينما اشتعلَت في ملامحـها مشاعر الازدراءِ والحقد، وبقهر : ماني بحاجتك ، بيوصلني ياسِر لو ما تبي.
أدهم ببرودٍ يدسُّ الهاتفَ في جيبِ بنطالِ بجامته، رغـم أنّ اسمـه يُشعلـه إلا أنّه أطفـأ اشتعاله قبل أن يؤثّر بِه ، لمَ قد يبقـى حبيسَ ماضيها وهي التي بدأت تتجـاوز ماضيه وتتقبّله مبدئيًا؟ ليسَ عدلًا منه أن يحاسبها على ذلك، لكنّه بالمقابل، لم يكُن ليسمـح لها أن تذهب معه بأيّ حالٍ من الأحوال. نطقَ أخيرًا باستفزاز : شلون بتتّصلين فيه؟
إلين بحقدٍ تمدُّ كفها : هات الجوال!
أدهم وجسده يسترخِي بوضعِه ذاته، يتمدّد على جانِبه بشكلٍ مـال بفوضويّةٍ على السرير، يستندُ على ذراعِه اليُسرى ويمينه تعبثُ بمفرش السرير ببرودٍ مستفزّ : طلبك بريء أو نقول سـاذج ، لو تبينه تعالي خذيه غصب عني.
اختلطَت الربكـة في عينيها بالحقد، يُدرك أنّها لن تتجرّأ، كما أنّها ليست من الغبـاء أو الاندفاع الساذج حتى تظنّ ولو للحظةٍ أنها تستطِيع هزيمته وأخذه قسرًا ، بتلقائيةٍ منفعلـةٍ بدأت عيناها تطوفانِ في الغرفـة، تبحثُ عن هاتفِه، تحفظُ رقم هديل وستتّصل بها وتطلبُ منها أن تُخبـر ياسِر بما تريد تحتَ أيّ حجـة ، لكنّها لم ترى هاتفه من حولها، بدأ صدرها يشتعلُ أكثر، وصل إليها صوته في اللحظة التي رفعَت فيها معصمها كي تنظُر للوقتِ الذي عبـر : حتى لو اتصلتِ يا حلوتي وش بتقولين له؟ عندك استعداد تفشلين عمرك؟
إلين تُخفض معصمها وهي ترفـع عينيها إليه وتلفظ بحقد : بقوله تعبان يا عساك اليوم تطيح مريض وما تقوم إلا بعد اسبوع قُول آمين.
أدهم يرفـع حاجبه الأيسـر بحدة : ما بقول ، بس تراك تصعبين الموضوع أكثر ، تقدرين تقنعيني فاستغلّي أساليب الاقناع ومكانتك والوقت الباقي وأطربيني . . كلي آذانٌ صاغية يا عزيزتي.
ارتفـع صدرها في نفَسٍ مزحومٍ بانفعالِها لينخفـض بقهرٍ وهي تنظُر لملامِحه العابثـةِ بها، لن تسمـح لهُ بإذلالها بحجّة توصيلها، لن تسمح له !!!
لفظَت بصوتٍ غاضب : بعلم عمتك عليك!
أدهم يضحكُ بصخبٍ مستمتع : هههههههههههههههههههههه يا حياتي ، بس اشتكي لها ما عندي مانع بتفشلين عمرك بس ، الموضوع عندي عادي وهي متعودة علي وعلى عنادي لو قررت شيء فراسي اليابس ما يلين حتى لو كان قدامها ... روحي ، بتفشلين عمرك بس وموقفي ما راح يتغيّر.
شدّت قبضتيها بقهر، عينيها التحمتـا بعينيه والاختنـاقُ بدأ ينقضُّ على صدرها قهرًا ، يُرمّمُ أنفاسها ويحوّر في حنجرتها غصّة ، لفظَت بصوتٍ خفت ونبرةٍ أصبحَت تحملُ بعض الرجاء : وش تبي مني طيب؟
أدهم بثقةٍ يجلسُ ليستند بظهرهِ على ظهر السرير، وبنبرةٍ ثابتـة : اعتذري عن كلامك أمس.
إلين تشدُّ على أسنانِها بغضب، تُشتت عينيها والوقتُ يضيعُ منها ، لكنها في النهاية أعادت نظراتها التي سكَنت إليه ، ملامحها تشنّجت أكثر ، لكنّ عينيها كانتا تسترخيـان على وجههِ الصامتِ وابتسامته الهادئـة بترقّبها : ما غلطت يوم قلت عنك حيوان.
أدهم يمطُّ فمـه باسترخـاء : الوقت بيروح وراح يروح ويمكن راح ولو راح بتاكلين تراب .. ما عندي مشكلة أنتظر أكثر.
إلين تُخفض نظراتها ناظرةً لساعةِ معصمها الذي لم ترفعه، لم ترى الساعـة، لكنّ حركتها تلك كانت دليل ربكتـها وانفعالها . . أعادت نظراتها نحوه باختنـاق ، يحمرُّ وجهها بقهر ، لتلفظَ بينما شفاهها تتحرّكُ بصعوبـة تشنّجها : غير الاعتذار ، إلا لو يهون عندك تذلني !
أدهم يرفعُ حاجبيه بحدّةٍ واستخفاف : أذلك ! هذي نظرتك للاعتذار . . تراك غلطانة يا حلوة ولازم تعتذرين . . قوليها أشوف.
إلين بغضب : ماني معتذرة! حتى لو الاعتذار ما يذل بس طريقتك وأنتِ تأمرني أقولها هي اللي تخليه مُذلّ.
أدهم : براحتك ، شكلك ما تبين تداومين.
إلين تقتربُ من السريرِ بانفعالٍ حتى اصدامَت أقدامها بِه وهي تلفظُ بصوتٍ مكبوت، تريد أن تنفجـر بهِ لكنّها في موضِع المهزوم أمامه : شيء ثاني غير الاعتذار وبعطيك.
نظر لها بصمتٍ لوهلـة، بضجر ، لكنّ نظراته تبدّلت فجأةً بالمكـر السابق وعادت تنظُر لها من أعلاها لأسفلـها، حينها ارتعشَت بتوترٍ وهي تعُود خطوةً مرتبكـةً وتُردف بتشتّت : غير الاعتذار وقلّة الأدب.
لم يستطِع منع نفسه من الانفجـار بضحكةٍ صاخبـةٍ انفلتت من بين شفاهِه ، وبنبرةٍ ضاحكة : تظنيني مسكين بطلب منك بوسة مثلًا؟ لا لا تطمني ما أحب أجبرك على شيء بيصير بايخ لو كان غصب عنك . . بس مممم ، هو مو شيء قليل أدب نقدر نقول شيء يقوّم أسلوبك القليل أدب ذا.
شعرت بالغيظِ من حديثه، ضيّقت عينيها وتنفّست بسرعةٍ وكبتٍ وهي تشدُّ على قبضتيها إلا أنها قيّدت شتائمها لتلفظَ بصبرٍ نفد : وشو؟
أدهم بجدّيةٍ ينظُر لها بحدة : تعدّلي! ما أبـي أسمع منك سب وقلة أدب مثل أمـس وهذا عندي أهم من الاعتذار بما أنّ اعتذارك ما يدل إنك ماراح تكرّرينها . . شويّة احترام لي ولهالزواج.
إلين وهي تتوعّده بداخلها ، لا بأس ، طلبه سهل ، فقط سترغم نفسها على كل ما يريد ليومٍ واحد ومن ثمّ ستردُّ لهُ ذلها على احتياجها له الآن ! : طيب.
أدهم يُكمل برويّة : ومن معاني الاحترام لزواجنا بعد شكلك ، طفشت من بساطتك وكأنك جالسة مع أخوك والا أبوك ... اكشخي ترى فشلتيني قدام عمتي ما كأننا تونا متزوجين.
رفعَت حاجبها بوحشيّة وهي تصرخ بداخلها بشتائم مغتاظة ، لكنّها لفظَت من بين أسنانها بصبرٍ من خلفِه وعيد : أوامر ثانية؟
أدهم ببرود : لا ، البسي عبايتك على ما أطلع من الحمام.


،


كيف يأتِي الكلامُ كـ " لكمةٍ " تدمِي الشفـاه بنصلِها؟ وكيفَ لحديثِ اللسانِ أن يُشبـع الصدورَ وجعًا، وحشةً كالقبر! كيفَ تأتِي " تُحبّك " دون أن تُثمر في الفمِ ابتسامـة توقٍ وحبور!
" تراها تحبك " !!!
تقلّب على سريرهِ وهو يُغمـض عينيه، ينبطِح على بطنِه، وتتكرر تلك الكلمـة في عقله ليتناسـى بقيّة المحادثـة، هل كـان هناك حديثٌ من بعدِ تلك الجملـة التي انتهَت بنقطـةِ - توكيد -! هل كـان هناك كلامٌ غير أنّ امه أهدتهُ ( بركانًا ) وذهبَت؟ لتتركه أخيرًا في صخبِ أفكاره، يسهرُ الليـل مفكّرًا، هل قالتـها لهُ حيرانـةً ظنّت ذلك بعينيها، أم أنّها هي من قالتـها لها فلفظتها مؤمنةً بِها مدركةً لمعانِيها؟
وبحجـم ما كان في السابـق يتلهّفُ لحبّها، هاهو الآن مرتعبٌ لتلك الفكـرة، متوجـس، وفي ذاتِ اللحظـةِ يهتزُّ قلبـه بخيانةٍ عظمـى لعقله!
سهـر تلك الليلـة، يطرد التفكير ، ويهزمـه أرقـه ، يضجُّ بأفكـار تتعلّق بمتعب، بأمّه ، ويكبُر تفكيره بأسيـل فيصخبَ باحتجاجاتِ عقله، تُقام حربٌ شعواء ، ولا يجدُ في تلك الليلـة متّسعًا لينـام وهو يناجِيها بعيدًا " لا تحبيني "، فقط ، لا تقعِي في حبّي فيصعُبَ عليّ التأقلـم أكثر، لم يكُن الفراقُ صعبًا ، لكنّ وطأته هي التي حملَت تلك الصعوبة . . لو كان الفراق صعبًا لما مارسنـاه بكلمة!، الصعوبة تكمـن في تقبّله، وليس اقترافِه! ليسَ كلّ ما اقترفنـاه في حياتنا كنّا نريده ، الكثير من آلامنا كان لأنّنا وقعنـا في اختياراتٍ قاهرة، كـان فتحُ بابِ عذابها سهلًا ، والتنـاسي مُعضلةً لم تُحل!
فتـح عينيهِ على صوتِ رنينِ هاتِفه، تضيقُ أحداقه ليجلـس وهو يوجّه عينيه إليه، مدّ يدهُ نحوهُ وهو يتنهّد بيأس، رفعهُ وهو بمرّر أصابعه بين خصلاتِ شعره كي يهذّب فوضويّتها. ابتسم ما إن رأى أن المتّصـل متعب، ومن ثمّ ردّ ليردفَ بهدوء : صباح الخير.
متعب : صباح النور وش مسوّي؟
شاهين : أبد أتقلب على السرير صار لي ساعة ، ليه تسأل؟
متعب : ما عندك شغل!
شاهين : مالي خلـق ، مقفل العيادة وحتى المستشفى ما عندي التزامات فيه بهالوقت.
عبـر الصمتُ لبرهـةٍ لم يُجب فيها متعب، حينها عقد شاهين حاجبيه بقلق، وما إن أفرج شفتيه ليقول شيئًا ما حتى قاطعـة متعب بهدوء : شلون أمّي؟ للحين زعلانة منك!
ارتبكَ قليلًا، عقدَ حاجبيه باستغرابٍ من سؤاله في هذا الوقت ، إلا أنه لفظَ أخيرًا بهدوء : لا ماهي زعلانة.
متعب بهدوء : ما سألتك من فترة عن هالموضوع ، بس أتوقع ما راح تمرّره ببساطة وأكيد زعلانة منك .. لا تكذب.
شاهين بانزعاج : وش مناسبـة هالسؤال؟
متعب : قدرت أحصّل الفرصة عشان أروح المحكمة وأفسخ عقدي فيها.
تصلّبت ملامحـه ، ليردف متعب مباشـرةً دون أن يُهدِه الفترة الكافية للتفكير : أبيك تمرني بعد الظهر.


،


تعلّقت نظـراتها بالبـاب ، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تزفـر وقلبها يضطربُ بنبضاتِه ، ارتفعَت أجفانها لتستديرَ ناظرةً لأرجوان التي كانت تجلسُ على الأريكة وتنظُر لها بصمت، وما إن استدارَت لها بنظـراتها تلك التي كانت كمـن يستغيثُ بها حتى تنهّدت ووقفَت ، تحرّكت نحوها بهدوء، وما إن وصلَت إليها حتى لفظَت برويّة : إذا كنتِ قد الغلط كوني قد الحساب.
جيهان وجبينها يتجعّد بقلـق ، ابتلعَت ريقها، تريد منها أن تُهدّئ من خوفِها لتأتيها الآن بكلمـاتِها تلك ، أفرجَت شفتيها والغضب بدأ يتسلّل إليها من فرطِ انفعالها، أدركَت أرجوان ما ستقول لذا قاطعتها بحزمٍ خافتٍ كي لا يصل صوتها لوالدهما : جيهان عن البزرنة! بطّلي أسلوب الأطفـال وعدم المبالاة هذي ، يا تبعدين عن الغلط يا تكونين قده ، المفروض حسبتيها قبل لا تطلعين له.
زمّت شفتيها بقهرٍ يغصُّ بكلمـاتها، يتقوّسُ فمها باختنـاق، ومن ثمّ تهمـس بتحشرج : شلون أتجاهـل وجوده؟ . . ما طلعت له بس ما قدرت أتراجع وأدخل.
أرجوان بحزم : أجـل تحملي مسؤوليّة غلطك اللي ظليتي تتفاخرين فيه قدامي بعد.
جيهان بقهر : ما تفاخـرت ، مين يتفاخـر بوجعه؟
أرجوان تتنهّد بيأسٍ وهي تُغمـض عينيها لبرهـة، تعبُر أنفاسُ جيهان المنفعلـة هدوءَ المكان وتصخبَ باحتجاجاتِ قلبها ، كـان يقول " اشتقتِ؟ " بصيغة السؤال ويتبجّحُ بمكانتِه، كـان يلفظها فيغيظها بثقتـه ، أنّ لا سكونَ من بعدِه ، لا ثبـات ، يَعلم جيدًا كمْ هزّ السكون فيّ بعد ابتعاده، يعلم كيفَ أنّه شتّت في قلبي نبضاتِه وكيف أنّ صدرِي تشابـكت أضلعهُ ببعضها دون أن تتحطّم ، كيف يتحطّم جسدٌ رخويٌّ كان يقوّمـه " عيناك "؟ عبـرت الأشهرُ ولم يكُن عبورها كعبُورِ الكـرام ، لم تعبر واللهِ بل لازالت تستندُ بين حاجبيّ في تجاعيدِ ذكرى ، أن أمكثَ عند النافـذةِ وأعقدَهما لأنّك لم تمـر ، ولأنّك مررت، وأصابعك تتشبّثُ بأصابع أنثـى سواي.
أن لا تعبُر يا فواز ، وحتى حين تعبُر لا أراك فارغًا من جسدٍ إلا أن أرى ذكراي تمشي بجانبـك ، تعبُر ، ومعكَ حضورٌ آخر.
عضّت شفتها بألم، بينما فتحَت أرجوان عينيها لتهمـس بخفوت : لو بدخل معك أحس بيعصّب أكثر وبيظن إنّك دايم تقابلينه ومن هالحكي وأنا أتستر عليك ، عشان كذا ادخلي بروحك ، لا تخلينه يشك إنك مكرّرة هالغلط.
أومأت بصمتٍ ومن ثمّ استدارت عنها لتمدّ يدها لمقبـض البـاب . . ومن ثمّ تفتحه. بينما كـان يوسف في تلك اللحظـة يستريحُ على مقعدِ المكتبِ أمام حاسوبِه، وحين وصَل إلى مسامِعه صوتُ الباب حرّك كفه بهدوءٍ ليطبـقه بهدوءٍ أكبر، ومن ثمّ نزع نظّارته ليطوي ساقيها وتلتفُّ ساقـا الخوفِ على قلبها .. وضعـه جانبًا، ومن ثمّ أدار رأسه نحوها لتظهـر ملامحه الجامدة لها، وبهدوءٍ أربكها أكثر : قفلي الباب.
دون أن تلتفتَ مدّت يدها للخلفِ لتدفعه وتتركـه يُغلـق بذاته، تنهّد يوسف بعمق وهو ينظُر للأسفل لوهلـة، ومن ثمّ رفـع عينيه إليها ، لافظًا بخيبة غزَت ملامحه : كنت ما أتوقع منك أي شيء ، شلون هالغلط بالذات؟
ابتلعَت ريقها، وانخفضَت أحداقها رغمًا عنها للأسفـل وجملته ترجمها الخيبـة والخذلانُ منها بصورةٍ جعلتها تخجـل، لم تستطِع النظـر لوجهه، إلا أنها استطاعَت بخفوتٍ أن تلفظَ مبرّرةً تبريرًا ضعيفًا أمامه : ما كنت متعمدة أطلع له .. ما كنت أدري إنه موجود أصلًا.
يوسف يعقدُ حاجبيه بحدّة : أدري إنّك ما تعمدتِ تطلعين له .. بس تعمدتِ تظلين واقفة قدامه . . ما خجلتِ من نفسك قدام ربك؟ لأننا في النهاية ما تهمك نظرتنا ، طيب ربّك ما يهمك إنه يشوفك؟
جيعان تبتلعُ ريقها وهي تُشتت عينيها على خطوطِ الرخـام وتقاسِيم الأرضيّة المُكرّرة ، لا ترى أبعد من الأرض وصوتها المُتعثّر يلفُظ بنبرةٍ مُحرَجة : يبه ترى ما قربت منه ولا سويت يعني ذنب كبير ، كنت بعيدة عنه و . . .
يوسف يقاطعها بصوتٍ غاضب : استحي على وجهك وبطّلي هالتبريرات ، لا تخليني أنصدم فيك أكثر قولي إيه غلطانة والسلام! ، بس تبررين وتقولين ذنب صغير! في النهاية تراه ماهو زوجك، انتبهي لهالنقطة ، فواز ماهو زوجك عشان توقفين قدامه وتحكين معه بدون ضرورة !!
أطبقَت شفاهها ولم تستطِع أن تُضيفَ شيئًا على حديثِه، شعرت بحرجها يتصاعـد منه كما وجعٌ تسلّل في حجراتِ قلبها، ارتفعَت كفّها لتعانـق عضد يدها الأخـرى، بينما تنهّد يوسف وهو يرفـع كفّه ليضعها على رأسِه ، لا يدرِي كيف يترجـم غضبه منها ويَجعلها تستوعبُ حجمَ ذنبها ، لا يريد أن يتعامـل معها بطريقةٍ تؤذي نفسيّتها السيئة ، وفي ذات اللحظـة لا يريد أن يتهـاون وتكرّر ما فعلت.
لفظَ بغضبٍ دون أن يُحيد بنظراته عنها بسؤال أربكَها : قد سويتها من قبل ووقفتِ تكلمينه؟
قفزَت إلى عقلها ذكـرى وقوفها معه أمام المطعـم حين كانت تراقبُ والدها، لكنّها لم تذهب إليه بنفسها بل هو من تبعها بعد أن رآها! زمّت شفتيها بربكـة، وذكرى أخـرى تقفزُ من مركزِ ذاكرتها، حين وقفَت معه في إحدى الليـالي وقبل أن تنتهي من عدّتها، حين نزفَت بطريقةٍ أخـرى ، ورأت في عينيه عدم المبـالاةِ بالغيـاب وبالبُعد.
كانت تريد أن تكذِب، لذا أسقطَت عينيها عليه في سرعةٍ خاطفة لتشتّت أحداقها عنه مباشـرة، وبخفوت : لا.
يوسف لم يُرِد تكذيبها، أراد فعلًا أن تكون صادقـة، لكنّه وببساطـةٍ قرأها ! . . أغمضَ عينيه وهو يتنهّد دون تصديق، يضغطُ بكفّه على رأسه مستشعرًا صداعًا بدأ يتسلّل إليه، وبنبرةٍ خافتـةٍ غاضبة غيرَ مستوعبةٍ للحدّ الذي وصلَت إليه : تكذبين علي !!!
تصلّبت ملامحـها وهذه المرّة شعرت بالخوفِ وليس فقط الحرج منه، رفعَت وجهها بسرعة وهي تلفظ : يبـه . .
يوسف يقاطعها بحدةٍ وهو يقف : تتمنين ترجعين له؟
صُدمَت بسؤاله الذي باغتها به، اتّسعت عينـاها بصدمـةٍ وهي ترفَعهما إليه، والإجابـة تشتّت في عقلِها، تتمنى أن تعود إليه؟ تدرك أنّ الإجابـة " لا "، لكن لمَ ضاعت؟ لمَ تشعر أنها ضاعَت عن صوتِها، عن لسانها الذي تشنّج في إجابةٍ ضائعة ، وشفاهها تنفرج، تنتظِر أن تنطـلق تلك الكلمة من بينهما، دون أن تنطلق!
أردف يوسف بغضب : قبل لا يطلقك بملء إرداته كنتِ طالبة الطلاق بنفسك وبكامـل اقتناعك ورافضته ، وش اللي اختلف بعد ما صار الطلاق؟
شحبَ وجهها ، انسحَبت الدمـاء من عروقِ وجهها وظهر جلدها أبيضًا باصفرارْ، تعلّقت نظـراتها بملامِحه ، لا شيء اختلَف ، وهي لا تريد أن تعودَ إليه بحجمِ ما تريد أن يبقـى يعيشها ، أن يبقـى دون غيرها وإن اقتربَت منه سواها . . لمَ تقرن ذلك بـ " العودة "؟ لم لا تجدُ مصطلحًا آخر غير أن تصيّرهُ وطنًا كمـا كان، وهل بقيَ كذلك؟ هل بقيَ كذلك لتسمّيها " عودةً إليه "؟!
لحَظ يوسف شحوبَ وجهها وبهوتها أمام سؤاله ، حينها أغمـض عينيه وهو يمسـح على وجههِ بكفّه ، وبنبرةٍ هدأت إلا أن الغضب لم يرتحـل عنها : تقدرين تطلعين ، مو عارف شلون أتصرف معك مو عارف أبد! ، * أردفَ وهو ينظُر لها بخذلان * لا تصدميني فيك أكثر!
لم تكُن تستطيع أن تتحرّك ، تشعر أنّ أقدامها صارت هلاميّةً حدّ أنها حملتها بقوّةٍ خارقـة إلا أن التحرّك بها كـان صعبًا ، لكنّها دون أن تعلـم كيف ذلك . . تحرّكت.
وضعَت كفّها على المقبـض، وانسـاب من برودتِه رعشةٌ ملأت عظامـها ، ما الذي كـانهُ فيها وبقيَ حتى هذهِ اللحظة؟ ما الذي يجعلـها لا تريد نسيانه، وتكذِب ، تكذِب بطريقةٍ تُثير الشفقة عليها وإن صدّقها ، تُثير الشفقة في عينيها، تقُول أمامه أنّها لا تمانـع بالبدايات ، وأنّ الحسنـات يُذهبنَ السيئات ، إن كـانت السيئةُ فراقك والحسنـاتُ لقيـاك فكيفَ تُمحَى ذنوبي؟ كيفَ أزاحمـك بالحسناتِ وأنت حسناتِي في الحُب؟ لم يكُن الذنب أنتَ بل كـان افتراقنا ، كـان الأخير بيننا " ذنبٌ " كيفَ يُمحـى ونحنُ نمارسه ونقدّسه بطريقةٍ حمقـاء حتى هذهِ اللحظة! نقدّسه بخوضنا فيه، بمضاعفتِه حتى مـالت كفّته عن حسناتِك.
كيفَ تُمحى السيئـات بحسناتٍ وآخر ما كـان قبل احتضارنا - سيئة -.


،


العـاشرة وبضعُ ذراتٍ من العبَث، كـان يكمُن في سكونِه وحسب ، لم يستطِع أن يسترخِي كمـا يجب، تعبثُ بمزاجِه أمواجُ الاضطراب ، يتنهّد وهو يسندُ مرفقيهِ على طاولـة المكتَب ، يُغطّي بكفيه أنفـه وفمه، ويضغطُ بسبّابتيهِ ما بينَ عينيهِ وهو يُغمـضهما ويزفُر هذهِ المرّة برويّة ، يفتـح عينيه لتظهـر نظرتهُ المُنتشـر فيها ظلامٌ أزلـيٌّ لا يدري من أيـن بدأ، ربّما أبديّ ، لا يدري كيفَ سينتهِي !
فتـح عينيه، يُشتّت أفكـاره عن عقله أكثـر ، أفكاره التي تذهبُ إليها زاويـةً من إحدى زوايـا غرفةٍ يعيشُ فيها وتمارسُ الضغطَ عليه ، زاويـةٌ هي إحداها ، ومن قبلها سلمـان ، الآن عناد ، ومن قبله أيضًا أحمـد ، يعيشُ في هذهِ اللحظـة انفعالاتٍ ستقتلـه ، يعُود لاسترجـاع الحقيقةِ ويجدَ جزءً منه لا يريد التصـديق ، لا يريد ! أن يكُون خلال كلّ تلك الأشهـر يرى امرأةً ساقطة! يجلسُ معها ، يُمسك بها ، ويواسيها بعنـاق ، يقبّلها قبلاتٍ تقول بأنّ جسدها كـان طاهرًا، وأنّه يومًا لم يكُن لسواه طوعًا ، كـان يعتبـرها عذراء، نقيّة ، والآن باتَ حين يراها يشعُر أنّه ينظُر لشيطان ، يراها بعينِ رجلٍ ألقيَ عليهِ سحرٌ يُظهر - زوجته - قبيحةً في عينيه لا يستطِيع النظر إليها!
شدّ على أسنانه، يدهُ في لحظةٍ مـا كـانت قد تناولَت إحدى الأقـلام على الطاولة، شدّ عليها بين أنامله، ونظراتهُ تقسو بعتمتها أكثـر ، سيعلم كلّ شيء ، يجب أن يعلـم عن مغامراتِها السابقة التي قامـرت فيها بجسدِها ، كم رجلًا تملّكها؟ كم رجلًا نظرت إليه بفجورٍ لا يدري كيفَ يسكُن تلك الملامـح وتلك العينين! متى ابتدأت ، ومتى انتهت !!
زمّ شفتيه بغضب، زفـر وهو يُسدل أجفانه بانفعـال ، ينتفـخ صدره بأكسجينٍ حـارٍ يشتعلُ بزفيرهِ الذي يلقيه ملتهبًا فينقـل ذرّاتِ حرارته من حولِه ، يعُود ليفتـح عينيه، ومن ثمّ يمرّر طرف لسانه على شفاهه ، بينما أصابعه تترك القلم ليسقطَ على المكتبِ محدثًا صوتًا صغيرًا عبَث بالسكون أكثر.
نظر لهاتِفه بملامـح قاسية، ومن ثمّ مدّ يدهُ مقرّرًا البدء بالخطوة المهمّة الآن . .
اتّصـل على الرقـم المُدرج في ورقةِ الملاحظـاتِ على سطحِ المكتب، انتظـر قليلًا والرنينُ يتواتـر في مسامِعه ويضجُّ بالمزيدِ من الضحيج ، جـاءه الرد ، حينها ابتسم ابتسامةً باردةً ودائمًا تلك الابتسامـات الباردة تعبّر عن اشتعالاتٍ أرمدتْ دواخلنـا ، دائمًا تلك الابتسامـات التي لا دفء فيها ، تعنِي أنّنا نشتعل!
لفظَ بهدوءٍ رزين : السلام عليكم ، أبو ابراهيم؟ . . . عظّم الله أجركم في فقيدكم الله يرحمه ويغفر له . . . . معك سلطان النامي . . أيه كان يشتغل عندي من قبل . . . معليش نخلي هالمواضيع القديمة على جنب؟ الاشكاليات القديمة مالها معنى بهالوقت ، ودي أحكي معك بموضوع لو يسمح لك وقتك.


،


انقضـى وقتُ الغداء، ونهضَ أدهم ليتّجه ناحية المغاسِل في اللحظةِ التي كانت فيها إلين تضـع ملعقتها وتحمدُ الله وقد انتهت من طعامِها ، ابتسمَت سُهى برقّةٍ وهي تنظُر لها ، وبهدوءٍ تسبق لحظة وقوفها : ما سألتك عن امتحانِك.
رفعَت إلين أحداقها لتبتسمَ لها ابتسامةً تُماثلها في الهدوءِ والرقة ، وبخفوت : كويس الحمدلله.
سهى : ما نبي أقل من A+ تمام؟
إلين بابتسامةٍ خجولةٍ بعض الشيء : إن شاء الله ،
وقفَت سهى بهدوء، بينما مرّرت إلين لسانها على شفتيها وهي تفقدُ بسمتها ، وقفَت بالمقابـل وهي تنظُر لها بتردّد، لمَ تتردّد وكأنها مُخطئةٌ في معمعةِ الربكةِ هذِه؟ ، تنحنحَت بحرجٍ ومن ثمّ هتفت بصوتٍ هادئٍ تُسـابق ابتعادها : ممكن أطلب منك شيء بسيط؟
استدارَت سُهى إليها وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب ، لكنّها لم تفقد بسمتها وهي تلفظُ برقّة : تفضلي حبيبتي.
إلين التي لم تكُن تستطِيع أن تحتمـل أكثر ، تحتمـل ولوجَ " نجلاء " في الحدِيث ، انكسابُ تلك الأحرفُ في مناداةٍ مستفزّةٍ لها وحديثٌ يخصّها ، هتفت بصوتٍ متّزن : أبيك تناديني إلين مو نجـلاء ، أحب اسمي هذا أكثر،
في البداية عقدت سُهى حاجبيها قليلًا باستغراب، ارتبكَت إلين قليلًا وهي تُشتّت أحداقها عن عينيها خشيـةً من أسئلةٍ واستفساراتٍ قد تجعلهـا تثور ، لكنّ سهى في النهاية ابتسمَت، أومأت بتفهّمٍ ومن ثمّ لفظَت بنبرةٍ هادئة : بحاول أتعود عليه.
ابتسمَت لها إلين ابتسامةً صغيرةً قبـل أن تتحرّك سهـى من أمامـها وتبتعد ، حينها تنهّدت بعمقٍ وهي تُغمـض عينيها، تقفُ على أرضٍ تقشعرُّ من أسفلـها وتشعرُ أنها تموجُ من فوقها ، كـان حضورهُ هو سبب ذلك الشعور ، ليسَ جسدها فقط من يقشعرُّ لحضوره حتى الأرض التي تقفُ عليها.
فتحَت عينيها بهدوءٍ كـاذب، من خلفِه أعاصيرُ تئِدُها، لا تُظهرها في أحداقها التي اتّجهت للنظـر إليه بجمودٍ بـارد.
لم يقِف أدهم وهو يتجاوزُها ويتحرّك مبتعدًا، لم تنتبه حتى إن كـان نظر إليها أم لا، وصوتُه جاء بعد ابتعادِه آمرًا بحزمٍ ونبرةٍ هادئة : تعالي وراي.
ومن ثمّ ابتعَد دون أن ينتظـر ردّها ، ارتفـعت حواجِبها باستنكار ، واعتلَت على ملامِحها تكشيرةُ استهجانٍ من أمرهِ المتسلّط هذا وهي تُتمتمُ من بين أسنانِها بغيظ : نعم !!!
من يظنُّ نفسه؟ حسنًا هي الغبيـة التي أهدتـه حق التسلط بهذِه البجاحـة عليها . . تنفّست بقوّةٍ وعُمقٍ وهي تومئ رأسها بتوعّد ، لا تدري ما الذي تستطِيع فعله له، لكنّها من غيظها كانت تتوعّده بأمرٍ لا تدري ماهو وربّما لن تجدهُ حتى! تحرّكت بحنقٍ وهي تشتمهُ في داخِلها، لن تتبعه ، من يظنُّ نفسه ليأمرها بتلك الطريقة؟ . . اتّجهت نحو المغاسـل كي تغسِل يدها، في اللحظة التي كانت فيها سُهى تتحرّك أمامها وهي تبتسم : بشيل الصحون أنا هالمرة.
إلين : شدعوى أنا جاية الحين.
فتحَت المـاء لينسكِب بصوتِه على كفيها ومسامِعها، غسَلت كفيها سريعًا، ومن ثمّ سحبَت منديلين لتجفّفهما بهما وتتحرّك بعد أن رمتهما في سلّةِ المُهملات، خرجَت لتجدَ سهى قد انتهَت من تنظيفِ طاولـة الطعام، حينها تنهّدت واتّجهَت مباشـرةً للمطبَخ، وما إن دخلت حتى لفظَت بامتعاض : تراك ضيفتي تحرجيني كذا.
سـُهى التي كـانت تريد غسل الصحونِ أيضًا. التفتَت برأسها إليها لتبتسمَ وتلفظ : وأنتِ تجرحيني لو تعتبريني ضيفة ، بعتبر نفسي ثقيلة عليكم وقتها لأن الثلاثة الأيام للضيف مرّت.
شعَرت بالحرجِ ما إن انتبهت لما قـالته، بالتأكيد عمـة أدهم والتي عاشَت معهُ هنا قبلها سيكونُ من " قلّة الذوق " أن تُطلقَ عليها مُسمّى ضيفة، تنحنحَت بحرجٍ ومن ثمّ اقتربَت منها لتقفَ بجانبِها وهي تلفظ بحرج : طيب عشاني خليني أغسلها هالمرة ،
سهى تتراجـع قليلًا : إذا ودّك هالشيء أجل أنا بجهز الشـاي.
إلين تستدِير إليها بيأس : يا بنت الحلال والله إن ترتاحين ، كافي الغداء إنتِ اللي مسويته
سهى تضحكُ بنعومةٍ وهي تتّجه للباب : خلاص خلاص ما نزعلك ، بس ترى خاطري بحلى وبسويه بعد ساعة كذا ، ما راح تمنعين إلا لو كنت مثقلة عليك عاد.
خرجَت بعد جملتها تلك لتتنهّد إلين وهي تستدير، ودون أن تفكّر بأدهم وأمـره باتّباعـها له بدأت تنظّف الصحون.


،


في جهةٍ أخـرى ، خرجَت من الغرفة وهي ترفـع شعرها بكفيها وتربطهُ بإحدى خُصلاتِه ، مرّرت أحداقـها بربكـةٍ في الممرّ ، تخشـى تواجـده، في اللحظـةِ ذاتها التي يؤلمـها ابتعادُه ، لا تدري كيفَ تنـام ولو لسويعاتٍ بسيطةٍ تلك الليـالي الراحلـة بعيدًا عنـه، في بيئةِ الجفـاف باحتقـارِه وكرهـه ، كم صـار معدّل كرهها في قلبه؟ ستونَ سيفًا ونيفٌ من السهـامِ يُطلقها إليها، لونينِ من عُتمـةِ الدهرِ وخمسُ شظايا ، تخترقُ الجلدُ دون أن تراها ويكون شعورها بِها كبيرًا.
مرّرت لسانها على شفتيها بضيق، لازالت تعرجُ بشكلٍ بسيط، لكنّ لحظـات العرجِ وصمةٌ على جبينِها بحجـم ما اقترفت ، ليسَت وصمـةَ سقوطٍ منـه ، فمن المُجحِف في حقّه أن تنسـى ما كان عليه سابقًا للحظـاتٍ ولّدت فيها رجُلًا آخر ، بذنبها، وبخداعها وبكلِّ سوءاتِها تجاهه.
تنهّدت وهي تنظُر لبـابِ غرفته، تخشـى أن يكون هنا، لذا تحرّكت نحو الدرج لتنزلَ وتبحثَ عن سالِي لتسألها عنه، وما إن وجدتها ومعها " قطّتها " التي ما عادتْ تمكثُ معها طويلًا وترعاها عنها سالِي حتى ابتسمَت ببهوتٍ وهي تهتف : سالِي.
نظرت لها سالِي وهي تعقدُ حاجبيها لترخيهما تلقائيًا مع ابتسامةً هادئةٍ في حين تحرّكت القطّة مباشرةً متّجهةً لغزل : نعم.
وجّهت غزل نظراتها للأسفل، تستشعِرُ ملمـس شعيراتِها وهي تتلوّى بين ساقيها وتتغنّجُ بالتمرّغ في بشرتِها العاريةِ من أسفل تنوّرتها القصيرة ، ابتسمَت ، فقط ابتساماتُها الفاتـرة التي تعبّر عن كونِها " لا تجيد التعبير "، رفعَت عينيها إلى سالي، ومن ثمّ غابَت بسمتُها ، لتسألها بصوتٍ باهتٍ لا لـون له : سلطان موجود؟
عقدَت سالي حاجبيها، إلا أنها أجابَت بأنْ هزّت رأسها بالنفي دون صوت ، حينها أردفت غزل بنبرتها تلك ذاتها : ما رجع من الصبح !
قطّبت جبينها بعد جوابِ سالي الذي كان " لا "، ومن ثمّ مررت طرف لسانها على شفتيها لترطّب جفافهما ، أومأت ، لا تدري معنى تلك الايماءة ، لكنّها فقط أومأت ومن ثمّ تحركت مبتعدةً وصوتُ مواءِ قطّتها يصِل لمسامِعها.
صعدَت من جديد ، لم تتّجه لغرفتـها الحاليـة، وقفَت أمام بابِ غرفته/غرفتهما السابقة، ومن ثمّ تنفّست بعمق، تريد أن تأخذ بعضًا من أغراضها التي لم تأخذها معها ، هذا كـان عذرها ، وكـانت في اللحظة ذاتها تستطِيع أن تطلب من سالِي ذلك ، لكنّها أرادَت لجدرانٍ احتوَت لحظاتٍ سابقةٍ معه أن تحتوِيها الآن، أرادَت لرائحتـه أن تتغلغل رئتيها، أرادَت أن تكبّل شيئًا يخصّه في صدرِها قبل أن تعودَ لوكـر الوحدة.
فتحَت الباب، وابتسمَت بحنينٍ وهي تدخُل ، خطَت خطوتينِ فقط، لتتوّقف أقدامها وهي تُغمـض عينيها ورائحته كـان زخمها حاضرًا بقوّة ، ليسَت مجرّد رائحـةٍ تلك التي تُسـافر بنا بينَ شخوصِ السكينةِ وأحداثٍ من حربٍ قائمـةٍ على الضيق، تبترُ ساقيه ، وتُشفيها من أمراضٍ باغتتها في ليـالي ، ومعها نهاراتٌ حارّة ، بعضُ الروائحُ تكون دواءً من الحُزن حين تتعلّق بمَن نُحب.
تنفّست بحشرجة، ومن ثمّ قبضَت كفيها وهي تتحرّك ، البابُ المفتوحُ وقفَ من خلفِه سلطان، كـان قد استنكـر حين وجدهُ مفتوحًا ، رفـع حاجبه بعد أن اصتدمَت عينـاه بظهرها، والحدةُ في ملامِحه تضاعَفت فوق حالِها قبل أن يراها، إن كان التفكيـر بِها يؤجّجُ فيهِ اشتعالاتٍ فكيفَ برؤيتها أمامه؟ تجمّدت ملامحـه بنمطِ الازدراءِ والاحتقـار، ليصخَب صوته فجأةً من خلفِها بغضبٍ حادٍ جعلها ترتعدُ للحظةٍ بصدمةٍ من حضوره : وش قاعدة تسوين هنا؟
اتّسعت عيناها بصدمـة، وتصلّب جسدها أمامه ، ظهرها شعرَت ببرودةٍ سلّت عمودهُ الفقري، رعشـةٌ عبَرت في أطرافها، وفي اللحظـة ذاتها ألـمٌ لازال يسكُن بمرارتِه حُنجرتها ، أن تخشـاه، ويكون حضوره بوقعٍ مُرعبٍ بدل الاطمئنـان ، يُحزنها أن تنقلـب آياتُ الحنـانِ في صوتِه وملامِحه والتماعِ عينيه إلى أحاديثَ من الغضبِ والقسوة! يُحزنها هذا الانقـلاب الذي تسبّبت بِه ، والذي لا تدري حتى الآن ما مقـداره ، لازالت ترى تقاسيـم الكَبتِ فيه ، لم ينفجـر بالكامـل ، تخشى تلك الحقيقة! انفجارهُ يعنِي أن يحلَّ بقسوتِه عليها كلّ يوم، لكنّه كـان فقط يكرهُ الالتقـاء بها، لم يصِل للمرحلـة التي تجعله يريد أن يراها ، فقط ليوجعها!
ابتلعَت ريقها بربكـة، بينما تحرّك سلطان بخطواتٍ وقعُها كطبول الحربِ التي كان في أحزابها فرسانٌ وهي طرفٌ مُفردٌ لا سـلاح له ، بل كـانت مجرّد عـلمِ الاستسلام ، بيضـاءَ بكذب، ترمُز للضعف، والانهزامِ بطريقةٍ سريعة !
لفظَ سلطان بجفافٍ حاد، لم يكُن لينتظر خروجها، شـرع بخلعِ ثوبِه وهو ينطقُ بعجلةٍ آمرة : اطلعـي الحين ، لا تمر ثانية زيادة وأنتِ قدامي ، وبوقت ثاني بشوف وش شغلك اللي خلاك تدخلين هالغرفة.
عضّت طرف شفتها، وبشكلٍ تلقائيٍّ رفعَت وجهها ، لم تُرِد الانصيـاع الآن بقدر ما جـال في لسانها تبريرها الكاذب " بغيت كم غرضْ لي " لكنّ تبريرها ذاكَ بُتـر ، تقاطعَت أفكارها بشهقةٍ صاخبـةٍ مصدومةٍ وهي تراهُ قد جلسَ على السريرِ وكفيه تخلعانِ قميصـه الداخليّ الملطّخ بالدم ، تمامـًا كثوبهِ المرميّ على الأرض.


،


تبسّمت شفاهُه بهدوء، بعضٌ من القلقِ يجيءُ في صومعةِ هذا السكون أو الهدوءِ ما قبـل الضجيج ، يدرك أنّه هذهِ المرة لم يطلُب لقاءه لمجرّد اللقـاء ، كان طلبهُ مغلّفًا بأحـاديثَ كثيرة ، ربّما لن تعجبه !
هتفَ بنبرةٍ هادئـة لا تُفصـح عن توجّسه : وش كنت تبي تقول؟
متعب ينظُر إليه بملامِح تزورُها أحاديثُ مسـاءٍ متكدّرة! عقدَ حاجبيه عقدةً شائكـة، ومن ثمّ هتفَ بخفوت : بعد كل هالوقت وبعد كل اللي صار ، تدري وش اللي تغيّر بالضبط؟
تجعّدت ملامـح شاهين دون فهم، بارتيـابٍ على الوجـه الصحيح، مرّر طرف لسانهِ على شفتهِ السُفلى ، كالعـادةِ يحتضنهما مطعمٌ أو مقهـى على ضفافِ الاختفاء، أو يجلسان في سيارةِ شاهين ويتحدّثان كمـا الآن . . هتفَ بسؤالٍ حائر : وش تقصد؟
متعب يبتسمُ دون تعبير ، أشـاح عينيه عنه لينظُر للأمـام، ومن ثمّ هتفَ بصوتٍ هادئٍ هدوءَ الموت! : أقصد اللي تغير بعد هالوقت ، وبعد ما دخـل بقلبي حقد تجاهك ، بعد ما تزوجتها وبعد كل شيء! . . تشوف إنّ فيه شيء بيننا تغيّر؟
أجفلَت ملامحـه ، رغـم أنّه تنبّأ بهذا المعنـى إلا أنّه حين لفظها شعـر بأنّها أنيـابٌ تنهشُ من لحمِ هدوئِه/استقرارِ حواسّه . .
عضّ باطِن خدّه ، وجمّد الكثيـر من إدراكـه أمام جوابٍ واحدٍ يُدرك أنّ الخطأ يهزّه مهما حـاول إقنـاع ذاته ، وكـانت إجابته الأخيرة صادرَة من نبرةٍ حادةٍ واثقة : لا.
أغمَض متعب عينيهِ وابتسامته تتحوّر لأخرى ، لم تنكمـش، ولم تتّسع أيضًا ، لكنّ روحها اختلفَت ، وظهرت بحلّةٍ أخـرى لم يفهمها شاهين . .
متعب بنبرةٍ كـان فيها لذعةً ما ، لذعةً لربما ساخرة! : تقدر تثبت لي؟
تباطأت نبضـات قلبه قليلًا، بشعورٍ متوجّسٍ وملامحه يطغى عليها التساؤل والحذر : أثبت !! لحظة ممكن أفهم بس وش مناسبة هالكلام؟ اتفقنا نقفـل هالموضوع ونحاول ننساه !
متعب يوجّه وجهه إليه، احتدّت نظراته بقسوةٍ مفاجئةٍ وصرامـة وهو يلفظُ بغضب : ما عاد ودّي أحـاول ! إذا هذا أسلوب المحاولة فما أبيه !
صُعق من انفجارِه المفاجئ ، تنفّس بعمقٍ حادٍّ وملامحه تتقلّبُ بتموجـاتِ انفعالاتِه التي سيطر عليها وهو يهتف بنبرةٍ لازالت هادئة : أي أسلوب؟
متعب بحنق : أنت على بالك إن أسلوب النسيان ذا لازم يكون بالطـلاق؟
اتّسعت عينـاه قليلًا بصدمة، لم يستوعبْ لوهلـةٍ أنّ أسيـل طرأت بهذهِ الطريقة في صخبِ هذا الحديث، اضطربَت عضلاتُ وجهه ، جعّد جبينه بحدةٍ وهو يهتفُ من بين أسنانهِ بغضبٍ ماثلـه فيه : متعب !
متعب يرفـع حاجبهُ بحدّة : تبي الإجابة الصح؟ وبدون ما نكذب على نفوسنا يا شاهين . . أنا وأنت صار بيننا حاجز ، بنكذب لو نقول إنّه بعد كل اللي صـار مافيه شيء اختلف! لا ، تدري ومعترف بداخلك إن فيه شيء اختلف وفيه حاحز بيننا ما راح ينهدم بمجرد طلاقك ! فيه حاجز ما راح يهدمه أي شيء ممكن نسويه أنا وأنت . . تجاهلنا لهالموضوع ما ينفيه.
ارتفـع صدرهُ بشهيقٍ حـادٍ ليزفُر بحرارةٍ هواءً تحمّل بثانِي أوكسيدِ الغضب ، لازال يكذبُ على نفسِه رغم إدراكه مهما كذب ، لذا شدّ على أسنانه بعصبيةٍ بالغـة ، نظر لهُ بنفور من تلك الفكرة ، في أحداقِه اشتعل قهرٌ من كـل شيء! القهرُ الذي يكبتهُ والانفعالاتُ التي يخفيها ، الضغطُ الذي يمارسـه بصمتٍ على نفسِه ويتصنّع أن كل شيء " لا بأس بِه "! كل شيءٍ سهـل وسيُحلُّ ببساطة! : أنت بروحك اللي بنيت هالحاجـز ، أنت المريض اللي بعدْ تصديقك لكذبة فيني وبعد حقدك قاعـد تبني هالحاجـز بس عشان زواجي !
متعبْ يبتسمُ ابتسامةً لا معنـى لها : ما راح أكرّر كلامي لأنّي أدري إنك مستوعبه وحاس فيه . . بس حابْ أقولك شيء بسيط ممكن يخليك تبدّل قراراتك ، الحـاجز اللي بيننا ما راح يروح سواءً طلّقتها أو لا .. النتيجة نفسها، والطلاق مو حـل ، كل اللي صـار بيننا واللي بقى بتحلّه السنين .. لو ما طلقتها بينحـل بعد أيام ونتناساها بعد ما نتجاوزه . . طلاقك ما راح يأثّر بشيء ، لا !، بيأثر ، بيخليني أحتقرك ! بس لو كملت معها صدقني بينحل كل شيء مع الأيام . . ليه تذنب بحقها واللي تسويه ماهو حل أصلًا؟
هذهِ المرّة ابتسمَ بسخريةٍ وهو يصدُّ عنه، يشعُر بالاختنـاق وهو ينظُر للأمام، أصابعه تطرقُ بعبثِ اللحظاتِ على المقود ، يعضُّ شفته أخيرًا والكلماتُ تتكوّن في حنجرته دون أن يستوعب وقعها بعد أن يلفظها : احتقرني . . كنت من قبل محتقرني وحاقد علي وكارهني بدون سبب وما أثر فيني ، بيزعلني يعني إنك تحتقر لسبب؟
متعب بنبرةٍ تسترخِي بهدوئها : كمّل . . أبيك تحاسبني أكثر.
شاهين ينظُر نحوه بضيق : ما أحاسبك ، أنا بس أوضّح لك إنه احتقر بكيفك ، ما يهمني ولا بيغيّر قراري.
ابتسمَ متعب بشرودٍ مُفاجئ ، كلمـةٌ وحيدةٌ ارتحلَت إليه ، كلمـةٌ فاترةٌ لا تحمـل سوى تعاميمِ الأسى : كرهتك!
تصلّبت عضلاتُ وجهه ، إلا أنّ بسمته تلك بقيَت ، بقيَت متصلّبةً لم تتبدّل . . أومأ بصمت، بينما أردف متعب بنبرتِه الهادئة ذاتها والتي تحمُل من خلفها عواصِف من رمـالٍ رماديّة : كنت أكرهك وبنفس الوقت ما أكرهك . . باللحظة وحدة أحس بمليون شعور! أحقد عليك ووصل فيني أدعي تخيل ! مرات كنت أستغفر ومرات لا ، أقول يستاهل! . . تلومني؟
شاهين بخفوتٍ يريده أن يُتابع ويسردَ حياتهُ هناك والتي رفضَ أن يقولها لهُ قبلًا : مقدر.
متعب : أنا ألومنِي ، وأنا عنّك، منّك ، وهذا أكثر شيء يقهرني بهاللحظة !
سكَن الغضبُ الذي كـان في صدرِه ، كل الانفعالاتِ سافـرت عن أحاسيسِه وهو يقرأ من تعبيرهِ ذاك كلّ الخيبـة التي جالت في صدرِه من نفسه التي حقدَت على نفسه !! . . لم ينبس ببنت شفة ، أراده أن يتحدّث أكثر ، أن يُتابع، لكنّه لم يتابع! بل صمت ونظر للأمام بسكون ، طـال الصمت لثوانٍ طويلة ، حينها وجد شاهين نفسه مرغمًا على النُطق بخفوت : كمّل !
ابتسمَ متعب وهو يُدير رأسه إليه : لا تحاول ، انتهت السالفة.
شاهين يتنهّد بيأس : جايبني عشان هالموضوع؟
متعب بنبرةٍ صارمة : لا تتعـامل مع الموضوع بهالاستخفاف! إذا لي خاطر عندك ، ولو شوي ، لا تطلقها وكمّل حياتك ، صدّقني ما راح يبدّل بالموضوع شيء ولا بيخلينا ننسى! وإذا عن نفسك وعن تقبّلك فالموضوع نفس هالحواحز اللي بيننا ، مع الأيـام بنتجاوز ويمشي كل شيء كأنه صار بس ما أثّر فينا !
شاهين يصدُّ عنه بضيق ، يعقدُ حاجبيه وينظُر عبر النافـذة لمجموعةِ مراهقينَ وقفوا على الرصيفِ أمامه يحتدمُ بينهم نقاشٌ صاخُب ، طـالت الثوانِي دقائق وشاهين يراقبهم بصمتٍ بينما أعاد متعب ظهرهُ للخلفِ وصمت يتابعه ، يغيبُ في صومعةِ تفكيره ، وفي اللحظةِ ذاتها ، لا يريد التفكير !


،


في قصيدتي قافيـة ، لا تُجيد الا الانكسـار على كلماتِ العتـاب، في قصيدتي وزنٌ انشطـر ، وتعبيرٌ باهِت ، وأطلالٌ تبكِي بعد أن طفـح من دمعِي الكثير ولم تستطِع حمله . . في قصيدتِي أقصوصـةٌ بلاغية ، والتحـام ، ومغيبٌ يسافـر فوق سفينـة الشروقِ ويهزمه بثقلِه . .
أسدلَت خمـارَ الانطفاءِ في شاشـة هاتِفها وهي تضعهُ جانبًا ، كـانت تقرأ نصوصًا نثريةً استوقفتها الأخيرةُ في صورةِ قصيدةٍ مكسورة تحكِيها .. رفعَت وجهها الهادئ ببطء لتنظُر لام سيف التي كانت تُحاكيها ، ابتسمَت ، لم تكُن تدري فعليًا ما قالت لكنّها ابتسمَت ، هل عقلها بالفعـل مسافرٌ إليه قلقًا؟ منذُ استيقظَ في الصباح بل منذ البارحـةِ وهو مزاجـه سيءٌ لأجل ابنه.
ام سيف بتساؤل : ما قالّك سيف متى بيرجع اليوم؟
ديما : ما قـال ، بس أتوقع بيتأخر ، هو حاليًا مع زياد.
ام سيف بعبُوس : الله لا يفجعنا بس.
سمعا صوتَ البابِ الذي فُتِح ، استدارتـا ليظهر لهما سيف الذي دخـل وهو يضعُ شماغه على كتفِه وشعره الفوضويِّ يُظهر عبثَ كفيه اللتينِ مسّدتا الصداع فيه ، ألقـى السلام بصوتٍ هادئ ، ومن ثمّ اقتربَ منهما وهو يسمع صوتيهما في ردٍّ خافتٍ " وعليكم السلام ".
جلسَ بجانِب ديما ، بينما لفظَت امه بقلقٍ مستفسرة : شلونه؟
سيف بإجابةٍ موجزة : إن شاء الله خير.
ام سيف باحباط : إن شاء الله.
وجّهت ديما نظراتها إليه ، تصلّبت ملامِحها ما إن رأت عيناهُ تتغلغلُ عينيها في نظراتٍ غريبـةٍ ومُرهقةٍ كملامِحه ، ارتبكَت ، لكنّها لم تُحِد بأحداقها عنه ، بقيَت تنظُر لها ، يُرسل عبر عينيه كلمـاتٍ إليها ، ربّما يريد الشكوى أو أن يفرّغ مافي صدرِه بكلمـاتٍ ويرى أنّ جمودها حاجز ! لا تدري ، لكنّها شعرت بِه يريد قول شيءٍ ما!
زفـر سيف زفرةً عميقة ، ومن ثمّ وبشكلٍ لا مبـالي بمكانِهما مـال برأسهِ نحوها ، وضعهُ على حُجرها واستلقَى نصفَ استلقاءٍ على المساحة الفارغةِ في الأريكة ، أجفلتْ ديما بصدمة ، واحمرّت ملامحها وهي تفغرُ شفتيها بينما سيف يهتفُ بصوتٍ خافتٍ مبحوحٍ وهو يغمض عينيه : راسي يعورني.
ابتلعَت ريقها ، وعينيها ارتفعتا بحرجٍ إلى امه التي وقفَت بقلقٍ وهي تلفُظ : أجيب لك شيء تشربه !
ديما بارتباكٍ تحاول أن تتحرّك من أسفله : لا خالتي أنا برو . . .
قاطعتها امه بحزم : لا ! ما تشوفينه واضح يبيك جنبه ، أنا بروح اجيب له أي شيء يشربه ومعه حبوب لراسه.
اومأتْ باختنـاقٍ من حرجها، بينما ابتعدَت امه عنهما ، حينها ابتسمَ سيف ابتسامةً مُشاغبة وهو يهمس : يدينك دواء ، أحب ملمسها براسي.
عقدَت ديما حاجبيها بغضبٍ منه ، وبخفوتٍ حاد : ما تستحي؟
سيف بتجاهلُ الاجابة عليها : راسي يعورني.

.
.
.

يُتبع بالجزئية الأخرى . .

،






أبها 12-09-16 01:49 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
ནྱཾ༩࿐☁🌙🔘🌙☁࿐ནྱཾ༩
عيدكم مبارك ، وتقبل الله طاعتكم
🌙 🌙
ནྱཾ༩࿐☁🌙🔘🌙☁࿐ནྱཾ

كَيــدْ 15-09-16 01:57 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



تكملـة الجُزء (81)*1



في قصيدتي قافيـة ، لا تُجيد الا الانكسـار على كلماتِ العتـاب، في قصيدتي وزنٌ انشطـر ، وتعبيرٌ باهِت ، وأطلالٌ تبكِي بعد أن طفـح من دمعِي الكثير ولم تستطِع حمله . . في قصيدتِي أقصوصـةٌ بلاغية ، والتحـام ، ومغيبٌ يسافـر فوق سفينـة الشروقِ ويهزمه بثقلِه . .
أسدلَت خمـارَ الانطفاءِ في شاشـة هاتِفها وهي تضعهُ جانبًا ، كـانت تقرأ نصوصًا نثريةً استوقفتها الأخيرةُ في صورةِ قصيدةٍ مكسورة تحكِيها .. رفعَت وجهها الهادئ ببطء لتنظُر لام سيف التي كانت تُحاكيها ، ابتسمَت ، لم تكُن تدري فعليًا ما قالت لكنّها ابتسمَت ، هل عقلها بالفعـل مسافرٌ إليه قلقًا؟ منذُ استيقظَ في الصباح بل منذ البارحـةِ وهو مزاجـه سيءٌ لأجل ابنه.
ام سيف بتساؤل : ما قالّك سيف متى بيرجع اليوم؟
ديما : ما قـال ، بس أتوقع بيتأخر ، هو حاليًا مع زياد.
ام سيف بعبُوس : الله لا يفجعنا بس.
سمعا صوتَ البابِ الذي فُتِح ، استدارتـا ليظهر لهما سيف الذي دخـل وهو يضعُ شماغه على كتفِه وشعره الفوضويِّ يُظهر عبثَ كفيه اللتينِ مسّدتا الصداع فيه ، ألقـى السلام بصوتٍ هادئ ، ومن ثمّ اقتربَ منهما وهو يسمع صوتيهما في ردٍّ خافتٍ " وعليكم السلام ".
جلسَ بجانِب ديما ، بينما لفظَت امه بقلقٍ مستفسرة : شلونه؟
سيف بإجابةٍ موجزة : إن شاء الله خير.
ام سيف باحباط : إن شاء الله.
وجّهت ديما نظراتها إليه ، تصلّبت ملامِحها ما إن رأت عيناهُ تتغلغلُ عينيها في نظراتٍ غريبـةٍ ومُرهقةٍ كملامِحه ، ارتبكَت ، لكنّها لم تُحِد بأحداقها عنه ، بقيَت تنظُر لها ، يُرسل عبر عينيه كلمـاتٍ إليها ، ربّما يريد الشكوى أو أن يفرّغ مافي صدرِه بكلمـاتٍ ويرى أنّ جمودها حاجز ! لا تدري ، لكنّها شعرت بِه يريد قول شيءٍ ما!
زفـر سيف زفرةً عميقة ، ومن ثمّ وبشكلٍ لا مبـالي بمكانِهما مـال برأسهِ نحوها ، وضعهُ على حُجرها واستلقَى نصفَ استلقاءٍ على المساحة الفارغةِ في الأريكة ، أجفلتْ ديما بصدمة ، واحمرّت ملامحها وهي تفغرُ شفتيها بينما سيف يهتفُ بصوتٍ خافتٍ مبحوحٍ وهو يغمض عينيه : راسي يعورني.
ابتلعَت ريقها ، وعينيها ارتفعتا بحرجٍ إلى امه التي وقفَت بقلقٍ وهي تلفُظ : أجيب لك شيء تشربه !
ديما بارتباكٍ تحاول أن تتحرّك من أسفله : لا خالتي أنا برو . . .
قاطعتها امه بحزم : لا ! ما تشوفينه واضح يبيك جنبه ، أنا بروح اجيب له أي شيء يشربه ومعه حبوب لراسه.
اومأتْ باختنـاقٍ من حرجها، بينما ابتعدَت امه عنهما ، حينها ابتسمَ سيف ابتسامةً مُشاغبة وهو يهمس : يدينك دواء ، أحب ملمسها براسي.
عقدَت ديما حاجبيها بغضبٍ منه ، وبخفوتٍ حاد : ما تستحي؟
سيف بتجاهلُ الاجابة عليها : راسي يعورني.
ديما بضيقٍ وضعت كفيها على رأسه وقد فهمت ما يُريده، بدأت تدلكه لـه لتتسلّل تنهيدةُ إرهاقٍ من صدرِه إلى مسامعها، رقّت ملامحها رغمًا عنها، وبكفّين ناعمتين كـانت أصابعها تغرسُ في رأسه رغبةً في جعلِه يسترخِي، وتنعـم عيونها برؤية ملامحه تستريح.


،


انتهَت من تنظيفِ الصحونِ خلال أقل من عشرِ دقائقَ، كـانت قد خرجَت إلى غرفـة الجلُوس وهي تمدُّ ذراعيها المُرهقتينِ وتزفُر زفرةً طويلةً مُتعَبة ، لا تنكـر هذا الارتبـاك والتوتّر الذي كـان يتواتُر عليها طيلة الوقت الذي مضى وهي تفكّر بأدهم وبعنادها الطفوليّ الذي تمارسـه معه ، هل كان المفترض بها أن تتبعـه وتترك هذا التحدّي الذي لا معنـى له؟ .. لا معنى له! الأمـر بالنسبةِ لها ليس مجرّد تحدِي وعنادٍ ساذج ، لكنّها في العُمق تشعر بالقهر ، تشعُر بالحنق لأنّها تخضـع لهُ بطريقةٍ مـا، لم تكُن شدّةً منه بحجمِ ما كان الضعفُ منها! تخضعُ بطريقةٍ تجعلها مقهورةً من نفسها قبله ، واليوم تصاعدَ قهرها منه تحديدًا بعد الصباح.
دخَلت وهي ترفعُ كفيها لشعرها الذي تلفّه في " كعكة " صغيرةٍ نفذ منها معظم خصلاتها القصيرةِ بلونها البُنيّ، تعدّله وهي تلفُظ بهدوء : طلعت الأغراض اللي ممكن تحتاجينها . . أي حلى بتسويــ ن بالضبط ؟
تعرقلت أحرفها الأخيرة بربكةٍ واهنـة بعد أن سقطَت عينيها على أدهم الجـالس بجوارها، شتّت عينيها بحرجٍ مفاجئٍ لا تدري لمَ شعرت بهِ بعد أن رأته، بينما ابتسمَت سهى برقّة، وقبل أن تُجيب كان أدهم قد مـال إلى أذنها سريعًا ليهمـس بشيءٍ ما وابتسامته المشاكسة ترتسمُ على شفاهه، حينها ضحكت سهى بخفوتٍ وهي تلفظُ بصوتٍ وصل إلى إلين : خذوا راحتكم.
رفـع أدهم نظراته إليها دون أن يفقدَ ابتسامته، بينما ارتفعَ حاجبُ إلين بتوجّسٍ وحلقها يتحرّكُ دون اطمئنان ، وقفَ بهدوءٍ وسكون ، ومن ثمّ اقتربَ منها بخطواتٍ صلبـةٍ كملامحه التي ظهرت بصلابتِها بعد أن أدار سُهى ظهره ، ابتلعت إلين ريقها بتوجس، بينما وقف أدهم أمامها لثانية، قبل أن يمدَّ يدهُ ليُمسك عضدها ومن ثمّ يتحرّك بِها وهو يبتسمُ وينظُر لسهى : مثل ما قلت لك ، بسرقها كم دقيقة.
إلين بإجفال : هاه !
لم تستوعِب إلا وهي خارج الغرفـة معه ، ارتبكَت ، هربها منه الآن سيجيء انعكاسًا في ردّة فعله بالتأكيد ، ابتلعَت ريقها بربكةٍ ومن ثمّ حاولت سحب يدِها وهي تلفظُ بتوتّر : عيب ، بروح اجلس معها ما يصير اتركها.
أدهم يتظُر إليها نظرةً خاطفةً سرعان ما كسرها وهو يدير رأسه عنها ويبتسمُ بسخرية : لا ، عندك مذاكرة مو باقي لك امتحان بكرا؟
إلين بتوتر : أدهم والله عيب تسحبني كذا قدامها !
جذبها بقوّةٍ بعد أن استدارَ إليها لتصتدمَ بصدرِه الغاضب، ابتلعْت ريقها وهي ترفعُ ملامحها إليه، مال حاجبيها بربكة، بينما أمسك أدهم كتفيها بحدةٍ وهو يلفظ من بين أسنانه بغضب : ليه ما تسمعين الكلام؟
أخفضَت نظراتها عنه بصدّ ، حينها زمَّ شفتيهِ وهو يتركها ويتراجع للخلف، وبحزم : الحين تطلعين وتبدلين ملابسك . . كلامي الصبح ما راح أبدله.
شتّت أحداقها عنهُ وملامحها الواجمة تُظلم بقهر، وبكبت : مانِي جارية عندك!
أدهم بصدمةٍ رفع أحد حاحبيه : نعم !!
إلين ترفعُ وجهها إليه لتنفجرَ بغضبٍ احمرّت بهِ ملامحها : مانِي جارية عندك! لا تنتظر مني أرضيك بشكلي وكأنّي راقصة أستعرض لك!
انقلبَت ملامحـه المصدومة إلى ازدراءٍ ممتقُع! لم يعتقِد ولو لوهلةٍ أن تفكّر بتلك السطحية ، لذا كـان ردّها صادمًا جعلهُ يضعُ كفّه على كتفها قبل أن يزيحها من أمامه ليعُود إلى سهى وهو يلفظ بازدراء : شلون ما شفت منّك كل هالسطحية المُقرفة !!
استدارَت إلين بعد ابتعادِه، عقدَت حاجبيها بقهر، ومن ثمّ تمتمَت بصوتٍ وصل إليه رغم خفوته : انعكـاس حياتي معك!


،


بجنونٍ استغلت لحظـةَ ولوجِه للحمام ، كـانت تجلُس في المجلس معه ، زيـارةٌ هادئة لم يمرّ منها سوى ثُلث ساعة ، تراجعَت للمجلسِ بعد أن أوصلته للحمام ، نظرت للطاولة الدائريّة التي كـانت أمامه ، كـأسٌ من الشايِ بالنعناعِ انتصف، بجانِبهِ هاتفه ومحفظته . . عضّت زاويـة شفتها السُفلى بعد أن أمالتـها قليلًا ، ما ستفعله وقاحة! لكنّها تشعر أنها تريد فعلهُ وتصحيحَ خطئِها ، هل هذا صحيحٌ أم من ضربِ الجُنون؟
ابتلعَت ريقها قليلًا وهي تجلسُ بجانِب المكان الذي كان يجلسُ فيه والذي لازال يحمِل دفء جسدِه، مدّت يدها لهاتِفه وهي ترسمُ الاصرار على وجهها ، لا داعِي للتردد ، حسنًا ، ما ستفعله جنون وربما وقاحة ، لكن لا أحـد يشعُر بألـم ضميرها وتأنيبها لذاتها بسبب هذا الذنب، لذا تريد أن تصحّح ما فعلت ، أن تخرج من كلّ هذا دون شيء!
أخذت هاتفه وهي تدعُو الله في نفسها أن لا يكون لهُ كلمة مرور ، مرّرت لسانها على شفتيها ، تشعُر بالحرجِ من تطفلها هذا لكنّها في النهاية فتحتهُ لتبتسـم وهي تجدهُ دون قيود، تنفّست بعمق ، واستعجلت خطواتَ اصابعها لتتّجه للأرقـام التي يخزّنها حتى تبحث عن رقمها باسم " جيهان " . . لا شيء! . . زفرت بإحباط ، إن لم يسجّلها باسمها فكيف ستعرف ما الاسم الذي قد يطرأ على عقله؟ . . وضعَت الهاتِف بإحباط، ومن ثمّ مطّت فمها جانبًا وهي تتراجـع للخلفِ وتسندُ ظهرها على ظهرِ الأريكة ، ربّما من الغبـاء أن فكّرت بهذهِ الخطوة ، في النهاية لا مجـال للتخمينات، لا تضمن أنّه يحتفظُ برقمها حتى الآن في هاتِفه! لم تكُن تدرك أنّه يحفظه في قلبـه ، تسيرُ أصابعه إليه دون تفكير ، لا يشعُر إلا وهو قد كتبَه ، لم تكُن تدري أنّ تفاصيلها لا مجـال لحفظها، فهي طموحٌ لا يحتاج دراسة ، يصل إليه بقلبه.
انتبهَت لصوت خطواتِه تقترب ، لم تكُن قد انتبهت لفكرةِ تغيّر مكانها لذا لم تتحرّك ، دخـل فواز ليعقدَ حاجبيه ما إن رآها تجلسُ بجوارِ موضعِ جلوسه، استنكر ، لكنّه ابتسم أخيرًا ابتسامةً هادئة، لم تكُن تريد أن تجلسَ قريبةً منه، كـانت على بعدٍ طفيفٍ بعكس الآن، غريب ما الذي جعلها تبدّل مكان جلوسها؟
لم يبـالي بأفكارِه تلك وهو يجلسُ في مكانه، شعر بها تنتفض فجأة، كانت قد أدركت أين كانت تجلس! ارتبكت وهي تقفُ وتتأتأ بربكـةٍ لا تدري ما تقول : بجيب لك . . .
فواز يُقاطعها بكفّه قبل صوتِه ، أمسكَ بيدِها وهو يلفظُ بهدوءٍ مبتسم : ما أبي شيء ، اجلسي.
جنان تحاول سحب يدِها وهي تزفُر بربكة : لا برجع مكاني.
فواز يكتم ضحكته، يستنكر ما تفعـله، تأتي لتجلس هنا في لحظةِ خروجه وما إن عاد حتى أرادت العودة لمكانها! : ليه أجل جلستِ هنا؟
لم تدري أنّ وجنتها احمرّت بحرجٍ واضطرابُ موقفها جعلها تُشتّت أحداقها عنه، لا تجدُ تبريرًا على حماقتها، لذا وجدَت نفسها تجلسُ بجانِبه قسرًا لتشعُر بدفء جسده القريب يتسلّلُ إلى حاسّة اللمـس لديها.
فوّاز باسترخاء يُعيد جسدهُ للخلف ، يلفظُ بنبرةٍ مسترخيةٍ عانقتها زفـرةٌ خافتة : فارس على وصول ... عارف بتقولين بخاطرك أحسن !
جنان تبتسمُ دون أن تلتفت إليه : أحسن.
فواز : هههههههههههههههه نفسيّة !
نظرت إليه بوجوم : والله ما التفسية إلا أنت !
سمعْت في تلك اللحظة صوت الجرسِ جاء بعيدًا بعض الشيء، عقدَت حاجبيها ، ومن ثمّ نهضَت وهي تلفظُ بهدوء : راجعة لك.
خرجَت من المجلس بعد أن كـان آخر تعبيرِه إيماءةً صامتة، اتّجهت للباب ، من قد يأتيهم؟ فارس لم يكُن ليضرب جرس الباب بل ليدخل !!
وقفَت أمامه، ومن ثمّ رفعَت وشاحها الذي كان على كتفيها لتغطّي بِه رأسها ، ابتسامةٌ ناعمـة ترتسمُ بتلقائيةٍ وهي تفتحُه ، لكنّ تلك الابتسامة تلاشَت ... ما إن ظهر لعينيها . . . . هيثم !!!!


،


وضعَت الكتاب الذي كـانت تقرأهُ جانبًا ، تستلقِي على ظهرها وعيونها تتعلّقُ بالأعلى/بالفراغ ، الضيقُ يكبـس عليها منذُ الصبـاح وبعد سؤال والدها ذاك ، كانت قد سألت نفسها قبلًا أسئلةً تحملُ ذات المعنى، هل ندمَت على لحظـةً قـال فيها " طالق "؟ هل تتمنّى العودة إليه؟ وكـانت جوابها نعم للسؤال الأول ، ولا للآخـر ، مهما اتّسعت آلامها من غيابِه، لكنّها لم تكُن لتحتمل الركـض خلفه ، مهما كـان مستوى هذا الحُب في قلبها ، إلا أنها تعترف بأنّ حبها الآن لا تظنّه كحبه لها قبلًا - ولم تعُد متأكدةً منه الآن -، وإن كـان بكلّ الحُب من قبـل قد بدأ وقرّر أن يسكُن لامرأةٍ سواها فلمَ لا تستطِيع هي؟ . . ورغـم كلّ ذلك ، لمَ أخرسها سؤال والدها ، وشتّتها بتلك الطريقةِ الموجعة؟
انقلبت على بطنِها، ومن ثمّ أسندَت ذقنها على كفيها فوق الوسادةِ وهي تتنهّد بسكُون ، سمعَت صوت البابِ يفتح، حينها حرّكت أحداقها فقط دون رأسها، نظـرت لأرجوان من زاويـةِ عينيها ، بينما دخلت تلك وهي ترسُم ابتسامةً ناعمـةً على شفتيها ، أشاحَت جيهان نظراتها عنها، في حين قفزت أرجوان للجلُوس بجانبها وهي تلفظُ بحماسٍ محاولةً جعلها تخرج من حالةِ السكون هذه : استأذنت أبوي نطلـع ، هالمرة واضح تعدّى الموضوع وما صار خايف علينا.
عقدَت حاجبيها بصمت، ودون أن تردّ كانت تُشيح رأسها عنها هذهِ المرّة وليس فقط عينيها ، تنهّدت أرجوان وهي تنحني إليها وتلفظَ بيأسٍ منها : ماش ما تحمسين ، تراه ما وافق نطلع بروحنا .. بيجي معنا وقالي اقولك تجهزين ... قومي.
جيهان ببرود : ما أبي أطلع.
أرجوان بضيق : لا بتطلعين ، ودي أروح السوق لا تحشريني مع مزاجك.
جيهان بغضبٍ انفجرت به نظرت إليها : ماني رايحة مكان ، انقلعي من وجهي !!
: جيــهان!
التفتتا لصوتِ يوسف الحـازم الذي جاء من الباب، كان يقفُ وهو يضعُ كفّه على إطاره ونظراته الحازمـةِ اخترقتها بثباتها ، مُردفًا بشكلٍ يُنهي الحديثَ ورفضها : عشر دقايق وتكونين جاهزة.
قطّبت جبينها بضيق وألم، في حينِ ابتعدَ يوسف عن الغرفة بعد أمـره . . نهضَت بوجعٍ لتتّجه لخزانتها بانصيـاعٍ كئيب !! وعينيْ أرجوان تتابعها بحسرة.


،


كسرتْ شهقتُها الصاخبة هدوء المكان الذي نفذَ إليه بعد كلماتِه تلك ، ارتفعَ وجهه الغاضبُ فجأة، لم تُبالِي بقسوةِ ملامِحه وهي تندفعُ إليه بهرولةٍ مرتبكة، تقفُ أمامه وجسدها المضطربُ كاد يسقُط عليه من اندفاعها إلا أنها اتّزنت أخيرًا أمامهُ وهي تلفظُ بذهولٍ وعينيها تتّسعان بجنون : وش صار؟ من وين هالدم؟
اقتربَت حتى لامَست بأصابِعها العاريـةِ مقدّمة حذائه، بينما كان هو قد أخفض وجهه، وعينيه تقسوانِ أكثر ، تشتدُّ ملامحهُ بتصلّبها ، يشعُر بها تضعُ كفّها على كتفِه فيقشعرَّ جسدهُ تلقائيًا بانتفاضةٍ نافـرةٍ ومن ثمّ يرفعُ عينيها إليه بانفجار، دفعها عنهُ بكفّه من صدرِها لتتراجـع للخلفِ دون استيعاب . . دمعـةُ خوفٍ وقلقٍ كانت قد تعلّقت على رمشِها، انفراجةٌ طفيفةٌ ما بينَ شفتيها كـانت تحكِي قصّة اختنـاق، أنّها تتنفّس من فمها بعد أن غُلِّف أنفها برائحـةِ دماءٍ توهّمتها من الذُّعر . .
وقفَ سلطان بطريقةٍ حادّة ، بوجههُ القاسي وعيناهُ اللتين اتّسعتا بغضبٍ وهو يلفظُ بخفوتٍ آمر : اطلعي.
لم تشعُر بنفسِها أنّها كانت تهزُّ رأسها بالنفي، وجهها رغـم الخوفِ كان قد تصلّب بحدةِ مشاعـرها والقلق ، لم تكُن لتنصـاع وهي ترى هذهِ الدماء على ملابِسه، لم تستوعبْ أن كَمّها يعنِي جرحًا بليغًا ، لم تستوعب أنّها لو كانت دماؤه لسقطَ أمامها من بلاغـة جرحِه ، لم يكُن ليقفَ أمامها بهذهِ الصلابة ، لكنّ عقلها غابَ في تلك اللحظـة عن المنطِق وظلّت تنظُر إليه بعيونٍ نهمَةٍ للسلامة.
ارتفعَت حواجبه بصدمةٍ من هزّها لرأسها بتلك الطريقة " رفضًا "، شدّ على أسنانه بغضب، ومن ثمّ اقتربَ منها ، لا يحتمـل وقوفها أمامه ، قد يقتلها في أيّ لحظـةٍ لذا يريدها أن تتلاشـى ، يريدها أن تختفِي قبل أن يصِل بهِ غضبه إلى قتلها.
شدّ بقبضتِه على عضدها، وجدَت نفسها ترتفعُ على أصابعها من شدِّه لها، ألـمٌ تسلّل إلى عظامها، عقلها لم يستوعبْ بعد ولازَال مغيّبًا ، لازال قلبها ينبِض بانفعال ، لازال جسدها يُدرُّ الأدرينالينَ وصورةٌ واحدةٌ تأتِيها . . سلطان تأذّى! لطالمـا كانت مشاعرها تعنِي أن يغيبَ عقلها ، لو لم تكُن كذلك لما وصلَت لهذهِ الحالةِ مع سلطان، لو لم تكُن كذاك لمَا ضلَّت منذ البداية.
همسَ من بينِ أسنانهِ بغضبٍ وهو يتحرّك ويجذبها معه كي يُخرجها قسرًا : اذلفي من وجهي.
غزل بانفعالٍ ونبرةٍ باكيةٍ تقاومُه وتتشبّث بالأرضِ بقوّة : من وين هالدم؟ وش صارلك بالأول !!
سلطان يكادُ ينفجرُ وتندفعُ كفّهُ بصفعةٍ جديدةٍ ربّما! صرخ : اطلعي يا بنت أحمـد كانِك تبين تظلّين بعد هاللحظة بخير !!
لا تدرِي كيف استطاعَت سحبَ عضدها، كيفَ استطاعت هزيمة قبضتِه وكيف امتلكَت القوّة لتقفَ أمامهُ بانفعـالٍ - صلب! ، وجَدت عيناها تطوفانِ على كتفِه وصدره الذي يتحرّكُ مرتفعًا ومنخفضًا بانفعالِه، كـان قميصُه المتّسخَ بحُمرةٍ لازال يُغطّيه عن جُرح! لا ، هل هذهِ دماءٌ من جراح!!، تحاول أن تستوعبْ ، تحاول أن تدرك في هذهِ اللحظاتِ السريعةِ إن كـان أصابه شيءٌ مـا . . وكأنّها استوعَبت ، لم يكُن ليقفَ بهذهِ القوّة لو كان مصابًا إصابةً تُدرُّ بهذِه الدماء!
ارتعشَت شفاهها، وفي اللحظة التي شعرت فيها بكفّيهِ تقبضانِ على عضديها بقسوةٍ حتى سرَت الرعشـةُ إلى كامِل جسدها ، وانزلقَت تلك الدمعـةُ من رمشها بعد حالـة الذعرِ هذه!
هتف بحدةٍ وبصوتٍ كـان يكبُت رغبةً بخنقِها وإزهاق روحها : اطلعي ... اطلعي والحين . . روحي عن وجهي !!
عضّت شفتها تُخرسُ ارتعاشـاتها، لونٌ من اختنـاقٍ كان اختنـاقُ الحديثِ في حنجرتها ، لم تجِد من عبثِ الأحداث السيئة الآن بها إلا أن يكُون قد تأذّى ، لا فكـرة قد تقتلها إلا الآن ، لا فكـرة قد تبثّها الدقائِق إلى عقلها وتحطّمها سوى أن لا يكون بخير ! . . رفعَت كفّها ، ووضعتها على موضِع النبضِ في صدرِها وهي تنظُر للأرض ، إلى موضِع قدمِه ، لم تكُن لتستطِيع التحرّك والخروج كما يريد الآن، ساقيها في لحظـةِ تلاشي صارت بمكنونٍ هُلاميّ، صـارت باكية، كقلبها الذي خافَ عليه ولم يخافه منه الآن، وكعينيها اللتين درّتـا على وجنتيها غيثًا من الراحـة!!!
ترك عضديها ليدفعها وتتراجـع للخلفِ قليلًا متّزنـة بتعرقل! تستفزّهُ بما تفعل ، بهذا السكُون وعدم الانصيـاع لما يقول! لا يكفِيه الآن صدامٌ لا يضمَنُ فيه أن لا يهدر دماءها، كـان يتجاهل وجودها لأيّامٍ حتى شعر بأنّه قد هدأ! هدأ ولو هدوءً كاذبًا ، لكنّ التقاءه بها البارحـة أعاد في صدرِه أعاصير من الحقدِ والكره.
فتحَ فمه يريد أن يرميها بشيءٍ مـا ، لكنّها كانت قد رفعَت وجهها ليظهَر لهُ بألمِه ، قوّست فمها، ونطقَت قبل أن ينطُق بشيء، سابقتـه من العدم : بعد هاللحظة ، الخير اللي أعرفه إنّك بخير وبس!
سلطان بجمود : برى !
ابتسمَت باهتزاز، لم تكُن تسوِّي من الصمتِ سوى أهازيج ، يُكوّرُ في فمها شكر ، في جبينها سجدة، في أنفها تلامُسٌ يعنِي فيه أن تشكُر كمَا علّمها ، من المُجحِف أن لا أضمِّنَك مع سجداتِ الشُكر وألتهمَ من الدعـاء إنابةً بأن تستوِي أيامُنا ، من المجحِف أيضًا أن أطمع بِك! بعد كل شيءٍ أطمـع بِك رغـم المكانـة التي تتّسع بينكَ وبيني على سُلَّمِ التفاضُل.
تراجعَت للخلفِ وهي تُخفضُ وجهها، لكنّها فجأةً توقّفت ، وأعادت نظراتها لملامحه الجامـدة ، تحرّكت خطواتهَا للأمام - إليه ، وفي لحظةٍ مـا كانت قد وقفَت أمامه مباشرة، جسدها يكادُ يلامـس جسده . . عقدَت حاجبيها، ومن ثمّ همسَت بخفوتٍ مختنق : تدري وش أقسى عقاب ممكن يجيني منّك على اللي سويته فيك؟
لم تتغيّر ملامحه ، بل ظلّ ينظُر لها بجمود ، إلا أنها كانت تقرأ في عينيه بعضًا من شراراتِ احتقارِه! وبعضًا من الاستخفاف والكثير من السخرية . . أردفت بخيبة : بعد جفاك بُعدي عنّك . . هذا اللي فيه موتِي.
ارتفعَت زاويـةُ فمِه بسخرية، وبهدوءٍ يسبُق عاصفتهُ ربّما! : طريقة أسرع عشان أطلقك!
هزّت رأسها بالنفْيِ وابتسامتها تتقوّس للأسفل، وبهمس ، أنفاسها اقتربَ جلدُه من استشعارِها أسفل قميصه ، كـانت تقتربُ أكثر ، تقتربُ أكثر، وكأنّها تهمسُ للبُعد أن ينتظر، تهربُ من مصيرها معه ، من مصيرها الأكِيد معه : لو الموضوع بيدي ، ما يكون بيننا شيء اسمه طلاق ولا بعدت عنك أبد . . لو الموضوع بيدّي كنت ظليت تحتك وأنت سماي ما يسقيني إلا أنت ... أنا من دونك ميتة!
جملةٌ قديمـة ، قالتها لهُ مرّة، وأعادتها الآن بنبرةٍ مُرّة ، جملةٌ تعني أنّه الحيـاةُ وبريقها وأنّها سواه عدَم!
سلطان باحتقار : أي ثقة هذي تخليك تظنين إنّي بصدّق مشاعرك؟
غزل : وإن صدّقتها بيختلف شيء؟
سلطان : بس بتلذّذ أكثر.
غزل تبتلعُ غصّتها : اللي مخليك كِذا أيش؟ أيش اللي قاهرك أكثر؟ حقيقتي ، وإلا إنّي كذبت عليك؟! * أردفت بعد أن مرّرت طرف لسانها على شفتيها الجافتين * الثانية مالها مُكمّلات ، كل شيء واضح لعيونك وما عندي أي عذر لأنّ كل الأعذار بتكون تافهة بالنسبة لك وما تستحق ... بس بالأولى أرجوك لا تتصوّر الأحداث من نفسَك!! يمكن تظلمني ! .. أبي أقولك كل شيء ، وبراحتك بعدها لو صدقتني أو لا ، بس أبي أحكي ... تكفى!
رفعَ حاجبهُ الأيسر وهو ينظُر لها بحدّة ، عيناه انخفضتا ، يقيّم قربها الوقح منه! لم يتراجـع وهو يلفظُ بنبرةٍ ظهر التقزّز فيها واضحًا : لا تتجاوزين المسافة بيننا ، ابعدي.
شعرت ببرودةٍ في أطرافها وهي تتراجـع للخلفِ بربكة ، بينما أردف سلطان وهو يبتسـم تلك الابتسامة التي تحتوِي فمه في اللحظـاتِ التي يتلذّذ فيها بإذلالها، ابتسامته التي لا معنى لها! : ترجّيني أسمع قذارتك.
غزل بأسى تقطّب جبينها، يتعرقلُ صدرها بأنفاسه، تهبطُ نبضاتُها وتشعُر بحرارةٍ تقترفُها على أعصابِها ، تهمسُ بيأسٍ وهي تُخفض نظراتها للأسفل : تكفى . .
سلطان ببرودٍ دون أن يفقد بسمته تلك : ما نلعب احنا . . هالكلمة ما تكفي . . ترجيني أكثر وأكثر.
عقدَت حاجبيها، ودون أن تنظُر لهُ عضّت شفتَها بألمٍ وهي تهتفُ بنبرةٍ انفجرتْ من صدرِها بأنينٍ مهزوم ، كـانت دموعها قد جفّت، كـانت وجنتها قاحلـة، ودمعاتها التي سقطَت كانت لخوفِها عليه، لكنْ الآن لم تسقُط دمعةً لأجـل نفسها! ملّت البكاءَ لنفسها ، وآثرت هذهِ المرّة ، أن تمتلك ملوحتها صلابةً لا تُذيبها انهزامًا، أن يمتلك صوتها ثباتًا، وانفجار! : مرّة وحـدة ورجّال واحد ... كانت بدون وعيي !!
لم يستوعب ، عقدَ حاجبيه دون إدراكٍ لانفجارها في البداية ، لكنّه ما إن استوعبَ كلماتها حتى اتّسعت أحداقه باشتعـالٍ غاضب . . تراجعَت غزل للخلفِ وهي تنظُر لوجههِ الغاضب بخوف ، ابتلعَت ريقها ، وهي تدركُ أنّ اندفاعها بالحدِيث لم يكُن ليصدّقه، لكنّها الطريقة الوحيدة لجعل الحقيقة تصله إن كـان لا يريدها! . . اقتربَ منها بخطوةٍ تحمِل في طيّاتها وعيدًا ما . . تشنّجت شفاهها، كفّها اليُمنى تقبضها أسفل صدرها وهي تتراجـع خطوةً أخـرى ، وتلفظُ بنبرةٍ مختنقةٍ تُتابـع ما أرادَت قوله ورفض هو دون رجاءٍ يذلّها بِه! : الكذبة اللي كذبتها عليك عشان أظـل معك كانت حقيقة ، حقيقة بس بطريقة ثانية ... ما أدري إذا من حقي أسمّيه اغتصاب بس ما كنت بوعيي وقتها ولا كنت برضى! أ .. أ ..
تعثّرت كلماتها، وظهرها التصقَ بالجدارِ أخيرًا بعد أن انتهـى مجـال الهروبِ أمامه، وقفَ أمامها، وانعكَف قليلًا إليها وهو يضعُ كفّه بعصبيّةٍ بالغـة بجانِب رأسها على الجدار ، برزَ عرقُ عنقه ، جانبٌ نبـض وأنفاسه ارتفعَت، تدرك كم أنّ استرجـاع لحظةٍ كهذهِ أمامه لن يكون سماعها بهدوء! تدرك أنّ غضبـه الآن قارس، لكنّها رغـم ذلك تابعت، وعيناها متعلّقتـان بعينيهِ في أمَلٍ ميّت : صـار هالشيء قبل يوم ملكتنا .. ما .. ما كنت أقصد أتزوجك رغم اللي صار ... قبل لا أكون مجبورة من أبوي ما حسيت بعمري وكنت مسيّرة ، كانت غلطتِي ما رفضت ، بس ، بس حتى لو رفضت ... كنت راح أنجبــ . .
صرخَت صرخةً مختنقـةً ما إن شعرت بكفّه تضربُ الجدارَ بجانِب رأسها بقوّة ، تكوّرت قبضتـه واندفعَت دون أن يبالـي بأذى مفاصِله ، ملامحـه تقسو ، تتصلّب ، شفاهُه المتشنّجة تنطبِقُ دون أن تجِد كلمـةً تعبّر عمّا يريد بصقه عليها، وعيناه وحدها ما كانت تتحرّك ، تتّسع أجفانه، مُحيطةً عدستهما اللتينِ تتحركان على وجهها باحتقار . . لم تدرِي ما كـانت ردّة فعله داخليًا دون الغضب ، لكنّها خافَت ، خشيَت ممّا كان فيه وهي تُشيح وجهها جانبًا بعيدًا عن قبضته التي كانت بجوارِ رأسها، يُذيب بشرتها بأنفاسِه التي أسندَت نفسها على خدّها بعد أن أخفض وجهه قليلًا إليها، وبهمسٍ خافتٍ محتقر : شلون وصل لك؟
أغمضَت عينيها بحُزن، هل يجِب عليها الآن أن تفرح ولو قليلًا لأنّه استجاب بسؤاله؟ هل يجب أن تفرح؟ أم أنّ سؤالـه الآن لهُ تأويلٌ آخر ، لهُ معنى سوى التصديق !!
أغمضَت عينيها بحُزن ، كـان حزنًا، لأنّها كـانت القافلة التي أوصلته إليها! لأنّها كـانت الهدف، وكـانت طريق الوصول إليه! . . همسَت بانهزام، وباحتقارٍ أكبـر .. لنفسها! : غلطة.
سلطان بنبرةٍ غاضبـةٍ تشتدُّ كعاصفـةٍ تقتلعُ الاخضرارَ من جذورِه ولا تتركُ سوى الاصفرار الشاحب! : يعنِي؟!!
غزل بخوفٍ ينكمـش جسدها وهي تقبضُ بأجفانِها على عينيها أكثر : كنت ، كنت على علاقة فيه وأتواصل معه . .
تضاعَف تقوقعها حول جسدِها ما إن شعرت بِه يلتصقُ بها وزفرةٌ غاضبةٌ تسلّلت من صدرِه بعنف! تنفّست بسرعة، وانبثقَ اكتمُال الحديثِ منفعلًا كسرعة أنفاسها : ما عرفت الصلاة ، وما نهتني عن الفحشاء والمنكر ، ما كنت أدري إنّ تواصلـي معه بيوصلني لهالشيء! وما كنت أدري إنّي مرخصة نفسي . . ما عمري طلعت معه مرة وحدة وكنت أرفض ، تواصلي معه ما تجاوز الجوال، ويوم تجاوز بسبب غبائي استغل هالشيء ، و ، و انتهيت . . . ما قصدت أكون رخيصة! ما قصدت أكون لغيرك بغيـر الحلال ، ما قصدت أصلًا أكون لغيرك !


،


تعبثُ يدهُ بينَ كُتبِ مكتبتِه الصغيرة في غرفته، بينما كان سلمـان يستلقِي على سريرِه وهو يعقدُ حاجبيه بانزعاجٍ من تواجُده ، ليلفظَ بهدوء : يكفّي عناد لهنا .. تقدر تروح.
عناد يستديرُ إليه وهو يرفعُ حاجبًا ، وبتساؤلٍ ساخر : كرهت جلستي معك؟
سلمان ببرود : اطلع.
عناد : عفوًا ! أنا كلّفت نفسي حارس لك . . معليش بظل معك وأهتم فيك لين أضمن إنّك خلاص بخير.
سلمان يُغمض عينيه بيأسٍ وهو يُعيد رأسه للوسادة : يا صبر أيوب ! . . متأكد مو لله !!
عناد بضحكة : أفا! لا تسيء ظنّي!
سلمان بجمودٍ دون أن يوجّه أحداقه إليه : وش تبي من قعدتك معي؟
عناد : ههههههههههههههههه والله ما أبي شيء! شدعوى يا الشيخ مو بهالطريقة!
تنهّد سلمانْ وهو يضعُ ذراعه على عينيه ، وبهدوء : روح شوف سلطان شلونه اليوم.
عناد بابتسامة : نصّبتوني مرسـال لكم ! .. تراه بدا يشك فيني.
سلمان : أحسن.
عناد : هههههههههههههههه حاقد علي ليه !
ابتسمَ سلمان دون أن يعلّق ، بينما تحرّك عنـاد باتّجاه بابِ الغرفة مُقرّرًا الخروج وإهداءه لحظاتِ استرخاءٍ لوحدِه.


،


وقفَ أمامهُ في مواجهـةٍ صامتة، حديثُ شفاه ، تقويسـة حاجبينِ بغضب ، ونبرةٌ تصخُب بالاحتقـار.
ابتسم تميم وهو يرفعُ كفّه ليضعها أخيرًا على كتفِ بدر الذي انتفـض بنفورٍ وتراجـع للخلفِ بغضبٍ ناري ، وبحقد : لا تلمسني بقذارتك.
تميم بسخريةٍ مُستفزّة ويدهُ تعلّقت في الهواءِ بعد أن ابتعَد : رجعت كلّمته؟
بدر وقد فهم جيدًا من يقصد : وش كنت تقصد بحركتك الأخيرة بالضبط !
تميم بابتسامة : ولا شيء من اللي صـار ، كانت ضربة حظ ، بس ما يهم كل الطرق تؤدِّي إلى روما في النهاية.
زفـر بدر وهو يكبتُ غضبه، أغمـض عينيه بلحظـة صمت، بينما ظهرَ لعينيْ تميمْ في تلك اللحظـة طيفٌ ابتعد ، عقـد حاحبيه وملامحه احتدّت فجأة ، وبنبرةٍ تثلّجت وتجمّدت بصقيعٍ صامت : ضيعت وقتِي.
تحرّك بعد جملته السريعة تلك ، بينما التفتَ بدر إليه بغضبٍ بعد أن تجـاوزه ، كـاد يلحق بِه وربّما يلكمه! لكنّ صوتَ هاتِفه الذي تصاعَد برنينِه جعله يتوقّف في مكانِه ، ومن ثمّ يخرجه من جيبِه.

في جهةٍ أخـرى ، سارَت خطواتُها بعجلةٍ مرتبكـة، ملامِحها بهتَ لونُها ، عقلها تشوّش فجأة ، تضاربَت الأفكـار في رأسها ، أحدُ الواقفيْنِ رجُل أساء لوالدِها وكان نهايـة كلامِه معه خصامٌ دلَّ أنه كان يستشعِر خطرًا بسببِه وفي النهاية هو الخطر! يقفُ مع شخصٍ آخر ، يهدِي أباها ابتساماتٍ ويحادثهُ بعينينِ بريئتين . . ماذا يعني وقوفهما معًا سوى أنّهما يعرفان بعضًا؟ إذن فالآخر يخدعه أيضًا كما فعـل الأول، الآخر شريكٌ له !!!
شهقَت فجأةً بصدمةٍ وذعر ، انتفـض جسدُها لتُدير رأسها بعنفٍ إلى الذي وقف بجوارِها، مُمسكًا بيدِها ! . . برودةٌ تسلِلت لأطرافِها ، تصلّبت مفاصِلها بذهُول ، لا تستوعِب أنّه يمسك بها ، ويسير بجانِبها بملامـح مسترخيةٍ وكأنّه لم يكُن يفعل شيئًا !!
ابتسمَ تميم بهدوءٍ وهو يشعُر بها تحاول الابتعاد وجذبَ كفّها من يدِه بعنفه، لم تكُن قوّتها شيئًا أمامه، وانعكَست الطاولـة ، شدّ هو بيدِه على يدها، ومن ثمّ سيطر على اتّجـاه المسير، أصبح يسحبها معهُ قسرًا . . . إلى أين؟!!! لا ، ما الذي يحدُث بالضبط !!!!
شعرت بالجنُون الذي تعيشـه ، عيناها غامَت فيهما الرؤية من ذهولِها وخوفها، تتّسع بهلـع ، وتجدُ نفسها تحاول المقاومة وهي تلفظُ بنبرةٍ متعثّرة، مختنقة ، بعنفٍ ونفورٍ لم تستوِعب أنها كانت تتحدّث بالعربية من رعبها : اتركني .. اتركني وإلا بلمّ عليك هالنـاس اللي حولنا !
تحوّرت ابتسامـة تميم أكثر في سخريةٍ دون أن يتوقّف عن سحبِه لها والذي كان مُريبًا في مكانٍ عام، وبنبرةٍ حادّة : لا تسوّين شيء غلط ، امشي بهدوء ، وإلا العواقب ما راح تكون طيبة . . .


.

.

انــتــهــى

كَيــدْ 18-09-16 01:49 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




-
-


السلام عليكم ورحمة الله ، مساءَكم سعادة دائمًا وأبدًا :$ **

اليوم أنا راضية تمام الرضا عن البارت مع إنه ما اكتمل للحين ، بس أقدر أقول بدأت ألاقي نفسي بالسطور ما أكتب وأنا أحس إنِّي مو أنا اللي قاعدة تكتب! -> واضح تخفيف وجودي بالسوشيال ميديا مأثر :P
عُدنا لنقطة البداية، بتلاقوني بكثرة بالمنتدى إن شاء الله وبتويتر ، وربّما السايات مي ، الآسك والسناب برجعهم بعد مدة ما أتوقع بتقل عن شهر، غيابي مو عن إني متضايقة من تعليقات أحد أو شيء! السناب من فتحته ما يوصلني فيه إلا كل اللي يسرني والآسك أقدر ألغي المجهول ببساطة! بس ما أحب أقيّد أحد فمستحيل ألغي هالخاصية وهذا يثبت إنّي ما أتضايق من التعليقات، نادرًا ما يصير هالشيء ويتوافق مع سوء نفسيّة أصلًا . .
+ هذا هو يوزري بتويتر 2aid__ - الدبل أندر سكور بعد d -

وبالنسبة لموعدنا إن شاء الله بيكون 9 أو 10 ، بحاول أرجع الأوقات لسابق عهدها، بالنهار أو الليل دون منتصف الليل وما وراءه بما إنّه ما يناسبنا بالوقت الحالي ومع الدراسة.
+ طوله بيكون متجاوز المتوسط وبالنسبة لي طويل بس معظم القراء يقيسونه على عدد ظهور شخصياتهم المفضّلة .. بالنسبة لي طبعًا لو تجاوز 12 موقف متوسّطي الطول صار طويل، ولو كان 10 مواقف طوال فهو طويل بعد ... واليوم المواقف بتكون دسمة :* -> أعتقد ثرثرتي رجعت كما السابق لوووول.

بالتوفيق للجميع ، أراكم على خير ()


كَيــدْ 18-09-16 08:53 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
مساء الخير ، عطوني نص ساعة زيادة بس ،
باقي موقف أخرته ورحت أراجع ، خلصت مراجعة بس بقى هالموقف ما ودي ألغيه وأكيد ما راح ترضون باختفاء ديما وسيف ولو بموقف بسيط :P
ثلاثون دقيقةً فقط ()

كَيــدْ 18-09-16 09:33 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحّة وعافية


اكتشفْت بعد ما كمّلت البارت إنّه طويل ماهو أعلى من المتوسط مثل ما قلت ومليء بالأحداث طبعًا :D ، قراءة ممتعة جميعًا () :$

بالرغـم من كونه نزل أكثر من ثلاث بارتات بعد الجُزء اللي صار فيه الصدام اللي نتج عنه " معرفة سلطان الحقيقة " بس حابة أوضح شغلة ما أدري إذا قلتها بمتصفح الرواية لكنّي ذكرتها من قبل بالآسك والسايات مي، ردّة فعل سلطان اللي يشوفونها باردة بعد ما قالت له غزل بحقيقتها طبيعية جدًا ، مافيه برود مُستحيل وغير منطقي بالنسبة لقصّة غزل، بالعكـس هذا الثوران يعتبَر طبيعي نظرًا لـ - سلطان -، لما تتقمّصون شخصيته بتشوفون إنّه طبيعي ، مو بالضرورة تشوفون ردّة فعله الأولى كفوف وضرب يوصّلها للمستشفى! حطّوا ببالكم " فيه اختلاف بالشخصيات "، مو الكـل بلحظة الغضب بيضرب، ومو الكل بلحظة الغضب يقتل، ومو الكل بلحظة الغضب لازم نتوقع إنّه بيسوي كذا وكذا وكذا! معظمكم إذا ما كان كلكم كان يتوقع إنفجار مُبهر ، وشاف ردّة فعله باردة بس ما تعتبر باردة نظرًا لشخصية سلطان.

+ بالنسبة للي يسألون كثير عن النهاية ومع إنّي قلت لبنات ما راح أتكلم لين ما أشوف إنه باقي ثلاث بارتات أو حولها - زعلوا مني يقولون لا عاد تذكرينا بالنهاية لووول - ، بس بوضح إنّه خلاص النهاية صرت أشوفها بعيُوني ، من قبل قلت لكم صرنا بالشطر الأخير من الرواية بس ما كنت شايفة النهاية بس الحين أشوفها وأنا أكتب . . أطمح أخلصها بديسمبر أو نهايات نوفمبر -> واضح إنّي أبيه بشهر ميلادي؟ ههههههههههههههههههه نقول نرجُو ذلك ، أبي نوفمبر مميّز أكثر من تميّزه بالنسبة لي ، لحظة جميلة، وبنفس الوقت حزينة.

وشكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(81)*2




" هيثـــم " !!
عبـرت بخفوتٍ باهِتٍ من بين شفتيها، واستقبلها هو بابتسامـة ، كانت ابتسامـةً غريبة! مفعمـةً بسخريةٍ دُسّت بين زاويتَيْ سكونٍ جارِف . . تراجعَت للخلفِ بصدمةٍ وهي توسّع عينيها، لا تستوعِب تواجُده، متى عـاد ومن أين؟ نعم ، من أين! من منفَى عقلها الذي جعلَ صورتهُ تتلاشى! أم من وجودٍ يثبتُ ذاته رغمًا عنها ، وجودٍ تتغافـل عنه ، وتتناساه!
مرّر هيثم طرف لسانِه على شفتيْهِ ومن ثمّ تقدّم ببطء، لم تستوعِب إلا وهو أمامها مباشرةً ويكادُ يلتصِقُ بها مُخفضًا رأسه إليها .. شهقَت بصدمةٍ من وقاحتِه التي لم تنجلِي منه طيلة الأشهر السابقة ، وتراجعَت بقلبٍ يضطربُ وهي تُتمتمُ باحتقار : الزم حدودك!
هيثمْ بابتسامةٍ مُسترخيةٍ يدسُّ كفيه في جيبيْ بنطالِه : وين عمي ناصِر؟
نظراتُها تحوّرت لهجوميّةٍ صامتـة، ارتفعَت زاوية فمها باحتقارٍ وذقنها بكبرياءٍ وهي تشدُّ قبضتيها وتلفظ : مو هنا ، ارجع بوقت ثانِي.
هيثم : تو تو تو .. تطرديني؟
جنان : اللي تقدر تسميه ، ممكن تتفضّل؟
هيثمْ بخُبث : فارس مو موجود والا شلون؟
تشنّجَ حلقها ونبرتهُ تلك جعلتها تضطرب، رمقته بتقزّزٍ وهي تنطق : يا ليت تحترم نفسك وتطلع، لا تظن بصدّق إنك تبي فارس مثلًا !
هيثمْ يتقدّم إليها وعينيهِ تطوفانِ على وجهها : ذكيّة ، وش أبي بفارس وأنتِ قدامي وواضح بعد إنّك بروحك؟!
شعرَت بالخوف من اقترابِه ونبرتِه، لم تُرِد أن يطُول تواجدهُ كثيرًا ففوّاز هنـا ، تواجُد هيثم مُريب، اقترابُه هذا مُريب ، خشيَت أن يخرجَ إليهم ويظنَّ بها سوءً من اقترابِه ونظراته الوقحة!
لم تجِد الوقت الكافِي كي تلفُظ بكلمـةٍ أخرى، كـان صوتُه قد جاء باترًا أفكارها، صوته الخافِت ونبرته الباردةِ عدا من لمحـةٍ ساخرةٍ فيها : تزوجتِ؟
ارتجفَت بتفاجئٍ من سؤاله، اتّسعت عيناها دون استيعاب، وتراجعَت خطوةً أخرى ، تتداركُ نفسها وصدمتها من سؤاله، بالتأكيد يعلَم، ماذا كانت تظنُّ مثلًا؟ . . ابتلعَت ريقها، ومن ثمّ هتفت بنبرةٍ قويّةٍ رغم الخوفِ في عينيها، بنبرةٍ تحتمِي فيها منه باسمِه : أيه ، وزوجي هنا يعني مانِي بروحي ، لو تبي تتجرّأ تراه قريب وبالمجلِس.
بهتَت نظرته متفاجئًا، لكنّه سرعـان ما ابتسـم بخُبث، ظنّت أنها سترى في عينيه إحباطًا! لكنّها وجدت المكر وهو يتحرّك بخطواتِه باتّجاهٍ آخر سواها، تجاوزَها في لحظـةٍ لم تستوعِبها وهو يلفُظ بتسليَة : ودي أتعـرف عليه !
كـان يعلم من يكُون ببساطة! لكنّه وبعبثٍ تحرّك نحو المجلـس، يذكُر اصتدامه السابـق بِه في المشفى ، لذا سيكُون متلذذًا بالتأكيد حين يراه الآن !
تحرّكت جنان بذهولٍ واستدارَت ، نظرت لهُ بعينينِ متّسعتـين يتحرّك للمجلـس، أطرافها بردَت فجأة، شعرَت بأن عظامها انطفأ الدفءُ فيها وهي تتحرّك بثقلٍ من خلفِه بجمود ، بقهرٍ من جهةٍ أخرى! لمَ عـاد؟ لمَ فقط عـاد؟ لم يكُن ينقصها في المعمة التي تعيشها الآن أن يأتِيها شبحٌ من زمنٍ شفافٍ لا تريد ذكراه! أن يعودَ للولوجِ في حياتِها من جديد !!
تبعتهُ بغضبٍ داخليٍّ لم يظهـر على ملامحها وهي تسمعهُ يتحدّث ببساطةٍ وقحـة ما إن دخـل ، يبزغُ صوته بثقةٍ عمياءٍ وبشفافيّةٍ استفزّتها : يا حيّ الله زوج بنت العمـة ، أكيد تعرفنِي يعني ما يبيلها تعريف مو؟
دخَلت في تلك اللحظـة لتظهر لها ملامِح فواز المصدومـة، عقدَت حاجبيها باستغرابٍ وتوقّفت في مكانِها وهي تراه واقفًا ينظُر له بنظراتٍ استغربتها! ليس من الغريب أن يعرفا بعضهما معرفةً سطحيـة " مجرّد ملامح وأسماء " لكنْ الغريب أن يعرفـا بعضهما بعمق! وهذا ما رأته في نظراتِ فواز الـ ، الـ ماذا! لم تستطِع فهم نظراته تلك وهي تتحرّك بربكةٍ وتهتفُ بابتسامةٍ مهتزّة : هذا ولد خالـي ، أتوقع تعرفه.
تحرّكت نظراتهُ الجامـدةِ إليها بصمت، ازدادَ استنكارها وتوجّست من تلك النظـرة الباردة التي ألقاها عليها ، قبل أن يومئ بصمت!
شعرت بقلبها يضطربُ ريبةً! لكنّها تماسكَت وابتسمَت ابتسامةً كاذبـةً وهي تتحرّك ببطءٍ نحوه، في حينِ جلسَ هيثمْ باسترخاءٍ أقرب للوقاحة على أقرب مقعدٍ منـه، كان مقابلًا لفواز الذي ظلَّ واقفًا للحظتينِ يرمقه بجمود، قبل أن يجلسَ بهدوءٍ ظاهريّ.


،


يلفّها بنـار الجحيم، تستشعِر الغضبَ من حرارةِ جسده الملتصـق بِها، كلّ الكلمـات الباقيـةِ تداعَت، لم تكُن تمتلكُ حرفًا باقِيًا من الأسـاس، نفدَت حروفها وهي تنظُر لملامحِه القاسيـة برجاء، برجـاءٍ يعني التصديق! ومن ثمّ السمـاح بطمعٍ تُدركه، أن تطلبَ منه ما فوقَ المُستطـاع وهي تدرك ذنبَها، أن تطلُب أمرًا يعودُ لأسمـى المراحِل التي قد يصلها بشريّ، أن يسامحها ، وينسى ببساطة! أيّ حمـاقةٍ تقترفُها وهي تتمنّى ذلك؟ . . تتمنّاه، بكلّ عجزٍ عن تقبّل جفائِه وبُعدِه.
سردَت إليه الآن كلّ الحقيقةِ وبقيَ من جعبتها التفاصِيل التي لم تبهَت وعصى على الشحوبِ اقترافها، لم تبهَت بل بقيَت بلونِها الساخِن يشتعـل في حقيقـتها . . تقوّست شفاهُها وهي تشعُر بِه يبتعد بعد أن تأكّد من صمتِها الطويل أنّها انتهَت ، لو أنها امتلكَت كلمـةً سحريّةً تعنِي أن تنطفِئ شُعلة صدرِه لما توانَت في إضافتها، لكنْ لا شيء! لا شيء قد يُسانـدها ويُعيد صورتها الأولـى/الزائفة حقيقةً إليه!
حرّكت أحداقها بوهنٍ وجسدها تسيرُ فيه رعشـةٌ خافتة، مرّرتها على وجهه، لم يتغيّر شيء، لم يظهَر عليه بوادِر رقّة، لم تَلِن وترى في أحداقه شفقـةً على جزءٍ واحِد ، أنّها لم تكُن تريد ذلك، لم تذهَب إلى فراشِ الحرام بمحضِ إرادتها ، لم ترى في ملامِحه رحمةً سوى أنّه لازال بتلك النظرةِ المُحتقرة، النظـرة التي يُلقيها إليها تقزّزًا، طغـى الجانِب المُظلـم منها وأنّها في النهاية كانتْ على عـلاقةٍ برجُل! علاقـةٍ وإن كانت بعيدة، في النهاية ومنذُ البداية لم تكُن المرأةَ البريئـة من مُحادثـةِ رجُلٍ ما، لم تكُن حبالُها الصوتِيّة مستقيمةً بل مالَت بأحاديثٍ حـَرام، لم تكُون مسامعهـا نقيّة ، تلوّثَت بنبـرةِ رجُلٍ متلاعِب ، بأحـاديث لا يريد تخمينها، لا يريد التفكيرَ بما هيّتها، بلغـتها ما كـانت ، بتكوينِها، بأيّ لكنـة، بأيّ علوِّ صوتٍ يعنـي غـرامًا أم ، أم . . .
ارتفـع صدرُه بنفسٍ حارق، كـان يدفـع تلك الأفكار عنه إلا أنها اقتحمَت عقلَه كجيشٍ نثـر غبـار الحربِ في صدرِه ، غبارًا تأثّر بحـرارةِ صحراءٍ امتدّت في رُبعٍ خـالٍ من أعضائِه، رُبعه اشتعـل بحرارة، ورُبعيْنِ في احتقـار، وآخِرٌ في تعبـيرٍ عن قهـرٍ من ذاتِه هو ، لأنّه بكلّ غبـاءٍ لازالَ يمارسِه حدّ أنه تركهَا تُكمـل حديثها ، وقد يكون كاذبًا ، وإن كان كاذبًا ماذا يعنِي؟ كلّ الخياراتِ في النهاية تصبُّ إلى أنها كـانت قذرة، بكلّ القصص التي كـان يتخيّلها في عقله، وبالقصّة التي سردتها الآن .. كلّها تعنِي أنها كانت منذ البداية امرأةً قذرة !!
راقبَ تقلّباتِ ملامِحها برجـاءٍ وقح! رعشَةُ هدبِها وخلجـاتِ العسـل الذي يُعتم في عينيها، تتّسـع أحداقها بسوادٍ يُشبـه ظلَّ ذنبَها، الظلّ الذي يجيءُ انعكاسًا شفّافًا عن الحقيقة، فكيفَ هو سوادُ الذنب ذاتـه؟ . . امتدّت شفاهُه في ابتسامـةٍ مُحتقرة، وقهرٍ يُخفيه ببرودِ ملامحِه، صوتِه الذي لفظَ بخيبةٍ ساخِرة : وقت ما سألتك شلون وصل لك كنت أطمح بإجابة ثانية .. ما كنت بصدّقها ، بس كانت بتوسِّع الخيارات بعقلي! ومن هالخيارات واحد بس ، نسبة واحد من مية تكونين طاهرة.
غزل تُشتّت عينيها عن ملامِحه الغاضبة وهي تبتلعُ غصّتها المُثقلـة بأشواكٍ خدشَت حنجرتها ونزفَت دماءً متخثّرةً جعلت صوتها يخرجُ إليهِ مُختنقًا : تقبّلتني كافـرة ، ما أصلّي . . ذنب هالعلاقة أكبر من ترك الصلاة عندك؟
سلطان بحدّةٍ تنسكِبُ بنبرةِ الاستخفاف : أي علاقة بالضبط؟
غزل بوجَع : الجزء اللي قصدتَه . . تواصلِي معه.
مـال فمه بعصبيّةٍ بالغـةٍ يشعُر معها بأنّ عروقَ وجهه تنبضُ بشدّة، خفقاتُ قلبه امتدّ شعورهُ بها إلى كامِل جسده، يقبضُ كفيه رغبـةً في التماسك وأن لا ينفجـر أمامها أكثر : لا تنتظرين منّي أتقبل ذنوبك كلها بناءً على حجمها دينيًا، واضح إنّك معطيتني مكانة أكبر من مكانة البشر ... مين تظنّنيني عشان أسامح؟
غزل : سلطان!
ابتسمَ بسخرية، والمسافـة التي خلقها بينهما بتـر نصفها باقترابِه، رفـع حاجبهِ باستخفاف، ومن ثمّ وضعَ كفيه على خصرهِ وأمال جذعهُ نحوها قيدَ أنملة، وبخفوتٍ متسائِل : وش تعريف سلطان عندك؟
غزل تُلصـق مؤخرة رأسها بالجدارِ وهي تبتلعُ ريقها باضطراب، أزاحَت أحداقها عن وجههِ وهي تهمسُ بعبـرة : الانسان الوحيد اللي أتوقّع منّه كل شيء حسَن.
انزلقَت من صدرِه ضحكةٌ مستهزِئة، أغمضَ عينيهِ وهو يضعُ إحدى كفيهِ على الجدارِ بجانِب رأسها والأخرى على جبينِه لتتضاعفَ ربكتُها بتلك الضحكـة التي زرعَت في صدرها توجّسًا من معنـاها، لكنّها صمتت، وظلّت جامـدةً في مكانِها، تنتظِرُ الإجابـة القادمة والتي لم تتأخّر في ضمنِ ضحكتـه التي استمرّت بضع ثوانٍ ومن ثمّ انقطعَت ليحلّ محلّها تعبيرٌ قاسي، شدّ على أسنانِه فجأة، ومن ثمّ انزلقَت كفّه التي كان يسنِدُها على الجدارِ إليها، لم تشعُر إلا وشهقةٌ عنيفةٌ تخرجُ من بينِ شفتيها ألمًا من أصابعهِ التي غرسـها بين خصلاتِ شعرها ليشدَّ وجهها إليه ويلفظَ من بينِ أسنانِه بغضب : والحين؟ هالحركة تعتبرينها شيء - حَسَن -؟ قولي أيه ... قوليها عشان تجرّبين شيء أحسَن منه.
فغـرت فمها بألمٍ وهي ترفعُ كفّها إلى يدِه، لكنّ صوتهُ جاءً صارخًا بغضبٍ يمنعها من لمسه : نزلي يدك !!
غزل بنبرةٍ احتدّت وأجفانها تشتدُّ على عينيها مغمضةً لهما بألـم : من البداية ليه تقبلتني؟ ليه ما احتقرتني عشاني ما أصلي وحاولت تعدّلني! ليه الحين تعاملت بهالطريقة مع ذنب لوقابلت ربّي فيه ممكن يغفر لي بس لو كافرة بكون بالنار!
كانت قد وضعَت يدها على يدِه ولم تنصَع لصرختِه تلك، شعرتْ بهِ يشدُّ على شعرها أكثر وعيناه تتّسعان بتهديدٍ مُبطّنٍ بالصمت، تهديدٌ يكرّر بهِ " نزلي يدك "! لكنّها تابعت بصوتٍ يختنقُ ألمًا ولم تلتفِت لتهديدِ عينيه : المفروض حطيت في بالك من البداية ... اللي ما تصلي ممكن تسوي أي شيء غلط ، المفروض احتقرتني من البداية ، وتركتنـي ، المفروض ما كنت بهالاستثنائيّة وما خليتني أتعلق فيك وأكذّب عشان أظـل معك! المفروض ما كنت من البداية سلطان عشان أطمـع أعيشك!
ارتخَت أصابعهُ عن شعرها دون أن ترتخِي ملامحـه، وفي تلك اللحظـةِ تحديدًا ، كـانت دموعها قد سقطَت، لم تشعُر بها في لحظـةِ سقوطها، لم تذُق ملوحتها حين دقّت بابَها/مقلتيها وتجاوزَت أجفانها لتُرخِي هدبَها ، لم تشعُر بحرارتها على خديها الباردين . . كانتْ كلّ حواسّها تستشعِره، حاسّه اللمسِ لم تكُن تركّز سوى على كفّه، وما إن أسقطَت يدها عن يدِه الملامِسة لشعرها حتى شعرت وقتذاك بدموعها ، شهقَت باختناق، ومن ثمّ رفعَت يدها تمسحُ دموعها وهي تصدُّ ، تُديرهُ ظهرها ... بطريقةٍ مـا ، لم تكُن تريده أن يرى دموعها أكثر !! وكأنّ كل ما حدَث صنـع بينهما حاجزًا ما، لا تريد أن تضعفَ أكثـر بينما في الماضِي كانت لا تريد الضعف إلا أمامه، لا تريد أن تبكِي أمامه أكثر بينما في الماضِي كـان يقول لها " ابكـي " وترى في ذلكَ قوّةً لها ، أن تكبُتَ أحزانَك يعنِي أن تنفجرَ داخليًا، وتُصبـح فارغًا، لا تكوينَ لك سوى قشرةٍ قاسيـةٍ تقوّمكَ وما داخِلكَ فارغ!، لذا كانت تبكِي كما يقول، تبكِي لتصيرَ أقوى ، فالتعبيرُ يكونُ قوّةً وإن كـان بدمعـة.
صمتـه لم يكُن موافقـةً على حديثها، تُدرك ذلك رغم أنّه طـال بوطأتِه، صمتُه كـان تعبيرًا عن الاحتقـار، عن المزيدِ من الكُره ومزيدٍ من القهر ، لذا وبعد أن مسحَت دموعها وتماسكَت قليلًا ، عادَت لتستدِير وتنظُر لوجههِ الذي كـان يمتلئُ بسخريـةٍ وعبث!!
سلطان بخفوتٍ مُتسائل : وش معنى هالحركة اللي سويتيها تو؟
مسحَت على أرنبةِ أنفها بظاهِر كفّها وهي تُدرك ما يقصد، ما معنـى صدّها عنه لكي لا يرى دمعها؟ . . مرّرت لسانها على شفتيها، وأخفضت وجهها قليلًا دون أن ترد، بينما رفـع سلطان أحدَ حاجبيه بتهكّم ، ليُردف بنبرةٍ متشفيّةٍ وبقسـوة : الصفقة الرابحـة لي من كلّ اللي صـار إنّك تعلقتِ فيني ، أحب هالشيء مع إنّي للحين أشك بمشاعرك ، بس أتمنى إنها صادقـة ، أتمنـى . .
تعلمُ لمَ يتمنّى، كانت حمقـاء، لكن ليس للحدِّ الذي تظنُّ بِه أنه يفرحُ بحبّها لهُ لأنه يريده، لأنه يطمـع بحبّها .. يتمناه، فقط ليزدادَ الوجعُ أضعافًا . .
رفعَت عينيها ببطءٍ إليه وهي تسمعهُ يُتابع بنبرتِه ذاتها : وبعدين أنا مبهور من المعلّقة اللي سمّعتيني اياها من شوي . . بأي وجه جاية تعلميني إنّ ترك الصلاة أكبر من تواصلك مع شخص بالحرام؟ أمثالك حرام يتكلّمون عن تفاوت الذنوب وقبحها . . كونك ما تصلّين قبل فهذا ما يبرّر ذنبِك، لا تستخدمِين الصلاة كحجّة ضعيفة لك! الذنوب جراحـات ، ورُبّ جرحٍ وقع في مقتل يا غزل!! لا تظنّين إنّ هالجـرح بيروح ببساطة بس لأنّك صليتِ ولأنّك اعترفتِ، هالجرح إن اختفى من قلبك * أشار لصدرها باحتقار * ما راح تختفي علاماته من جسمِك . .
تشنّجت حنجرتها وهي تُغمـض عينيها بعذاب، مُدركةً تمامًا أنّها لن تمتلكَ حجّةً أخـرى، ألجمها أخيرًا وهو يتراجعُ للخلفِ ويردفَ باحتقار : توبتك لنفسك .. ماهي لي! لا تطمعين أقابـل الإساءة بالحسنة ، ولا تنتظرين مني جواب بحجّة إني الانسان اللي تتوقعين منّه كل حسنة .. مين تظنّيني للمرّة الثانية؟!
صدّت بوجهها جانبًا وهي تعضُّ طرف شفتِها السُفلـى، تصمُت عن أيّ إجابة، في حينِ أمال سلطان فمه بابتسامةٍ ساخرة وهو يُكمل بغضب : اكتفيت منّك .. ما تهمنِي تفاصيل مغامرتك هذي ، وما يهمني مين يكون هذا لو قصّتك حقيقية ... إذا ما كذّبتِ كعادتك فالطيور على أشكالها تقع، الرخيـص إذا أرخصَتْ وحدة تشابهه نفسها وجات لعنده ما راح يرفضها . . كـانت نهاية متوقّعة، وسواءً كنتِ معارضة هالغلط أو لا ... ما بتختلف صورتك! تظلّين بعيوني قذرة والعزاء على السنة اللي قرّبت تمر وأنا مقابل أشكالك وأظن فيهم ظن حسَن.
إلهي! كيفَ تحتمل تلك الكلمـات ، كيف تحتملها وهي تشعُر بها خنجرًا يخترق قلبها ويمزّقه . . يا الله لا تحتمـل أكثر من ذلك، لا تحتمـل كلّ ذلك الاحتقار في صوتِه ... ماذا يعنِي حديثهُ سوَى أنّنا انتهينا؟ ماذا يعنِي حديثهُ سوى أنّ الأمـل الباقي انقطع! سوى أنّ بصيصَ ضوءٍ انطفأ وأنّه لا مجـال للسماحِ عنده ، لا عـذر لها أبدًا حتى وإن لم تكُن تريد ما حدث ، هي في عينيهِ قذرة، في عينيه التي تعشقُ والشغوفـة بهما!
زمّت شفتيها بوجعٍ يوخزُ خاصرتها وتشعُر بِه أنّها تتقوّسُ من على السراطِ وتسقطَ إلى جحيمِ الدُنيـا ، تخسـره ، هذا ما تراه الآن وتعيشه!
سلطان يتحرّك مبتعدًا عنها، يتّجه لخزانتِه حتى يُخرج ملابسَه ويبدّل ما يرتدي ، اكتفـى! ببساطةٍ لم يعُد يريد أن يراها من حولِه ، قد يتهوّر بقرارهِ الآن، لكنّ القرار هذهِ المرّة جـاء من غير الانفعـال الذي غيّب عقله أوّل مرّة .. لن يحتمـل تواجدها قربه! لن يحتمـل أن يستنفدَ من نفسه ما بقيَ من سكونٍ بسببها ، من هيَ حتى يُضيّع من وقتِه الكثير بسببها؟ من هي حتى يُعطيها ماهو أكبـر من حجمها؟ .. ستنالُ عقابها ، وبطريقةٍ أخـرى .. لا يؤرّق فيها يومه!
فتحَ الخزانة بعنفٍ وملامحه الجامدةِ يتضاعفُ جمودها أكثر، نظرت لهُ من الخلفِ وهي تقوّس فمها، أقدامُها التي صارت هلاميّةً لا تدري كيف استطاعت الحركـة ، أدركت من توجّهه للخزانةِ أن حديثهُ انتهى ، أنّ لا شيء ليقوله بعد الخيبة التي أحلّها في قلبها وأشعرها بالموتِ الذي زحفَ إلى أطرافِها الباردة . . ذهبَت للباب ، تُريد أن تعودَ لغرفتها، أن تنزوي في زاويتِها وتتلحّف بلحـافٍ تبحثُ فيه عن دفءٍ يَئِدُ هذه البرودةَ في جسدها.
وصلت للباب، وما إن وضعَت قبضتها على مقبضِه حتى جاء صوتُه باردًا آمرًا بكلماتٍ أثارت في جسدها قشعريرةً وفي قلبها انقباضةَ وجـع : جهّزي نفسك خلال نص ساعة ... مالك قعدة عندي.
اتّسعت عيناها بصدمـة، شعرت برجفـةٍ تجتاحُها وهي تستديرُ إليه بعنف، انفرجَت شفاهُها وسؤالٌ تـاه من بينهما دون صوت ، ما معنـى ذلك؟ ما معنـى ما قُلت الآن؟ جـاء القرار الذي وافقهُ لساني وامتنـع عنه قلبـي، جاء القرارُ المنطقيّ الذي كـان النهاية بيننا .. سريعًا! سريعًا جدًا !!
جفّ حلقها، ولم تستطِع الكلماتُ الانزلاقَ بصوتٍ واضحٍ إليه . . ابتسمَ سلطان ابتسامةً باردةً ودون أن يلتفت إليها كان قد أدرك معنى صمتها ، لذا أردفَ بنبرةٍ مزدرئة : يمكن فرحتِ ، عشان كذا أقولك لا تفرحين ، هذا ما يعنِي إنّي بطلقك! أهبل أنا أعطيك الحريّة عشان تستخدمين اسمي وتبدين من جديد؟!
وجدَت انزلاقًا ما ، واستطاعت أن تبتلعَ ريقها لتُزيح جفاف حنجرتها ، وتهمسُ ببهوتٍ غير مستوعبةٍ معنى ما قـال، لا يريد طلاقها ، هل تفرح؟ لكنْ ما معنـى ما قال بالضبط!! : يعني؟!!
سلطان بجمودٍ يستديرُ إليها وهو يرفعُ حاجبًا ويبتسمُ ابتسامةً لئيمة! : مسمّى معلّقة .. أعتقد يناسبني ويناسب مستواك الدنيء . . الطلاق أكبر خطوة خاطئة ممكن أفكر فيها ، بكون غبي لو عطيتك اللي كنتِ تبينه من البداية وخلّيتك تستخدميني كشمّاعة لك عشان تبدين من جديد . . عشان كِذا أنا بتناساك وبعتبر إنّك ما كنتِ بحياتي ، بينما أنتِ راح تعيشين كل شيء إلا البداية اللي تمنيتيها على حسابِي . . بتظلّين نكـرة بالنسبة لي من اليوم ، وبظلّ اسم يمنعك من حياة بعد الستر اللي بغيتيه، مو مجرّد اسم وشخص عابر!
أردف وهو يتّكـئ على بابِ الخزانة ويكتّف ذراعيه وصوتُه يقسو أكثر دون أن يفقدَ بسمته : أتوقع كذا نصير متعادلين والا؟


يُتبــع ..


كَيــدْ 18-09-16 09:37 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





،


قبل وقت، وقفتا من خلفِ يوسف، تُمسك أرجوان بيدِ ليـان وهي تنظُر إليها وتلفظَ بحزم : نجنب بعد ما نطلع انتظري بس يحاسب أبوي.
التفتت أرجوان وهي تزفُر بعجزٍ منها، نظـرت لجيهان ذات الملامِح الجامدة، وبتذمّر : هالفترة صاير حلقها يعورها كثير ويلتهب بسبب هالايسكريم اللي مدمنته.
جيهان ببرودٍ دون أن تنظُر إليها، وجهها يستقيمُ إلى الأمامِ وعينيها تلتصقانِ بظهرِ والدِها : قايلة لكم لا تدلعونها وما سمعتوني.
أرجوان تبتسمُ وهي ترفعُ يدها المُنطلقة بينما الأخرى تُمسك بها ليان، مرّرت اصبعها بين حاجبيها المعقودين وكأنّها بحركتها الرقيقة تلك تحاول تبسيطَ تجعيدتِها : روّقي ... الأنثى تروق لما تتشنبق ... شفيك أنتِ معكوسة عن القاعدة؟
جيهان وحاجبيها الرفيعين يقتربانِ من بعضهما أكثر، استدارَت إلى أرجوان لتلفظَ بتهكّم : تتشنبق أجل؟ وين أبو جهل عنّك يوأدك على خربطتك هذي باللغة.
أرجوان : ههههههههههههههههه لا يا أم اللغة أنتِ.
جيهان بضجر : لا جد لا عاد تقولينها ، تجيب لي المرارة وشو نتشنبق هذي؟ من أي قامُوس جايبتها؟
أرجوان بضحكة : من قامُوس الكيوت ووردز.
جيهان : حسبي الله على العدو.
أرجوان : هههههههههههههههههههههههه لا تنقدين علي زايد لا ترمين الناس بالحجارة وبيتك من زجاج.
جيهان تستديرُ إليها وهي ترفعُ حاجبًا : مو كأنّ مصطلحاتك اليوم مضروبة؟ وبعدين وش تقصدين يا الخايسة؟!
أرجوان بغنج : كاوايي.
جيهان دون فهم : هاه !
أرجوان توكزها بمرفقها في خصرها : طايحة على أيش هالفترة اعترفي اعترفي .. ترى منتبهة لك.
جيهان وقد فهمت ما تقصد، كشّرت في وجهها وهي تصدُّ عنها بإغاظة : يا حليلهم اليابانيين شفيهم؟
أرجوان : هههههههههههه شدخل اليابانيين بالسالفة؟
جيهان : ماهو الانمي منهم؟ قسم بالله إنّ كلمة كاوايي هذي تسوى الكيوت حقك وألف لغة من اللي في جعبتك.
أرجوان تنخرطُ في ضحكةٍ أخرى، وضعَت كفها على فمها حين وجدَت ضحكتها تعلُو أكثر، ومن ثمّ لفظَت بصوتٍ يختنق من كفّها ونبرة الضحكة فيها : وش طيّحك على الانمي لا من جد؟
جيهان وملامحها تعود للبلادة : مدري بس بديت أحب أجواءه وأنسجم فيه، أطلق من الأمريكان اللي تعرفيهم ..
أرجوان : حدّك إلا أفلامي.
جيهان تنظُر إليها بضجر : مو كأنّك اليوم بزرة؟
أرجوان ترفعُ حاجبًا : أنا البزرة وإلا اللي تتابع الأنمي !
جيهان : ما أشره على كلبة ما عندها عقل وجاهلة .. عشان كذا نابحي لبكرا.
لوَت أرجوان فمها بحنقٍ ومن ثمّ صدّت عنها وهي تُكتّف ذراعيها وتُتمتم : دامها وصلت للسب بسكت .. هذي جزاة اللي تبي تفكّ عنك هالتكشيرة.
جيهان ببرود : شكرًا على المحاولة.
اقتربَ منهما في تلك اللحظـة يوسِف وهو يلفظ : مشينا.
أرجوان تبتسمُ وهي توجّه نظراتها ناحية ليـان : يلا . . .
بهتَ صوتها وهي تعقدُ حاجبيها فجأة، تحرّكت أحداقُها تبحثُ عن ليان من حولها بنظرةٍ سريعة، لكنّها لم تجدها، حينها شهقَت وهي تهتفُ بعد أن تأكّدت أنها ليست هنا : لحظة وين ليان؟!!
نظر لها يوسف وهو يوسّع عينيه بهلع : ماهي كانت معك ؟!
أرجوان بصوتٍ مختنقٍ وهي تدورُ حول نفسها ، لا تدري متى تركت يدها بالضبط وانسلّت منها! : كانت بجنبي ... يمه وين راحت !!!
يوسِف يضعُ الأكياسَ من يديهِ على الأرضِ ومن ثمّ يتحرّك بخطواتٍ واسعةٍ وهو يلفظُ بصوتٍ حازم : لا تتحركون من مكانكم .. أكيد بتكون حولنا ما أمداها تبعد.
عانقَت أرجوان كفيها إلى صدرها وهي تومِئ بينما عينيها ترتعشـان بقلق، بينما كانت جيهان تحرّك عينيها من حولها، تبحثُ بين النـاس.
أرجوان بصوتٍ قلقٍ وهي تفرك كفيها بيعضهما : يا رب أنا شلون تركت يدها .. الحين وين بتكون راحت . . . * شهقْت وهي توجّه نظرتها نحو جيهان لتردفَ بتدارك * لحظة لحظة .. مافيه غير مكان واحد أكيد راحت له . .
جيهان : لحظة وين رايحة !!
أرجوان تنظُر إليها قبل أن تتابع سيرها : محل الايسكريم ... بتأكد وأرجع.
هرولَت في سيرها حتى خرجَت من المحلّ الذي كانوا فيه، كـانت عربة الآيسكريم التي رأتها قبل دخولهم قريبة، اتّجهت نحوها مباشـرةً وهي تبحثُ بعينيها لربّما تكونُ من حولِها، مرّرت لسانها على شفتيها بربكـة، تلومُ نفسها على إهمالِها لها، لكنها لم تسمَح لأفكارها تلك أن تسيطِر عليها فتركيزها الآن يجبُ أن يكون ببحثها . .
سقطَت أنظارها فجأةً على ملامِح شدّتها من بين الزحـام ، لم يكُن رؤيتها لها أكثر أهميّةً من ليان لكنّها استوقفتها رغمًا عنها وهي ترى الآخر الواقفَ معه . . اتّسعت عيناها قليلًا بصدمـة، تراهما من بعيد ، تتحرّك شفاههما في حديثٍ مـا لم يكُن ليصِلها . . لحظة ، ما معنـى وقوفهما معًا؟!
للحظـةٍ تناسَت ليان من صدمتِها، أحدهما سيء، هذا ما فهمتهُ من آخر موقفٍ رأته فيه ومن حديثِ والدها ، والآخر ، الآخر في هذهِ الأيـام يقابِل والدها بهيئةِ الرجُل النقيّ . . هل يخدعه؟ لا ، هل يخدعانِه !!!
بهتت للحظـات ، لكنّها سرعان ما شهقَت شهقةً خافتةً وهي تتحرّك ، ليـان ، هذا ما يجِب أن تفكّر بِه الآن ، وبالنسبة لهما . . . حرّكت رأسهما نحوهما من جديدٍ بشكلٍ خاطِف ، ومن ثمّ أشاحَت وجهها وبعضُ الغضبِ راودها، يخدعانِه ، كلاهما سيئـان ويخدعان والدها !!!
لم تكُن لتستغرق في التفكير بهما في هذهِ اللحظة رغـم أن عقلها تشوّش بعد رؤيتها لهما، تابعت سيرها وبحثها بأحداقٍ تشتعـل قهرًا ، لكنّها تجمّدت فجأة ، شهقَت بذعرٍ وانتفاضـةٌ سرت في جسدها وهي تُدير رأسها بسرعةٍ بعد أن فاجأتها كفٌّ أمسكَت يدها ، اتّسعَت عيناها بصدمـة ، وأوّل ما ظهـر لعينيها بسمَةٌ باردة، مُتلاعبة، بسمـةٌ جعلت جسدها يقشعرُّ وهي تتعرقلُ في سيرها وتحاولُ سحبَ يدها بصدمةٍ من جنونِ ما يحدث ... خيـال ، أو ربّما تحلمُ في منام ... لا ، حتى المنام كان بديهيًا أن لا ترضى فيه بوضعٍ كهذا!!
حاولَت سحبَ يدها منه بعنفٍ ووجهها يشحبُ بدرجةٍ كبيرة، لم تجِد الوقت الكافِي للتفكير بشيء، لم تجِد الوقت الكافِي بعد صفعـة شعورها بيدِه تُمسك بِها، بعد رؤيتها لابتسامتِه تلك ووقاحتـه !
تميم ببرودٍ كـان يردُّ على حديثِ كفّها بقوٌةٍ أكبـر ، يجذبها معه هذهِ المرّة إلى مكانٍ مـا ، انفرجَت شفاهُها بذعرٍ وعيونها غامَت عن الرؤية ، تقاومُ بشكلٍ تلقائيٍّ السير معه طوعًا ، ترتعشُ بخوفٍ وهي تهتفُ بذهولٍ أرعنَ وبنبرةٍ حادةً سلّها الخوف من غمْدِها ، جنونُ ما يحدث! : اتركني .. اتركني وإلا بلمّ عليك هالنـاس اللي حولنا !
كانت تنظُر لملامِحه وهي تقولها بنبرتِها تلك والتي تُثبت خوفها، ورغـم أنّ الرؤية تشوّشت في عينيها إلا أنّها استطاعت بوضوحٍ أن ترى ابتسامته التي تغيّرت إلى سخريةٍ مقيتة، يُكمل سحبه لها معه ، وهو يلفظُ بنبرةٍ خافتـةٍ تحمـل تهديدًا حادًا، تهديدًا أشعرها بقشعريرةٍ هزّت جلدها : لا تسوّين شيء غلط ، امشي بهدوء ، وإلا العواقب ما راح تكون طيبة !!
تسلِلت إلى مسامِعه شهقةٌ أخـرى أشدَّ ذهولًا رغم خفوتِها، شعر بأنّ جسدها الذي يسحبهُ صار خفيفًا للحظـة ، قبل أن يثقلَ من جديدٍ وهي تُتمتمُ بعنفٍ وتثبّت أقدامها في الأرضِ بدفاعٍ مستميت ، تحاول سحبَ يدها منهُ بغضبٍ واشتعـالٍ وهي تهتفُ بحدّة : تتكلّم عربـي بعد؟ لاعب على أبوي!! .. اتركني يا وقح .. اتركني بأي حق تمسكنِي بهالطريقة!!!
استدارَ نحوها بحدةٍ وهو يوسّع عينيهِ بوعيد، لم يتركْ يدها وهو ينظُر لعينيها مباشرةً ليُربكها بقسـوة نظراتِه وجمودِها، كـان يُريد أرباكها بنظرتِه تلك، لكنّها لم ترتبكْ بل تعجّنت ملامحها بتقزّزٍ ويدها لا تزال تحاول سحب ذاتِها من بين أصابِعه القويّة مردفةً بقهر : اترك يدي .. اتركني والا بفضحك !!
تميم بنبرةٍ قويّةٍ آمرة : ولا كلمـة ثانية! .. امشي معي وأنتِ بالعة صوتك والا . . .
قاطعته أرجوان من بين أسنانها وهي تحاول أن تتراجـع عنه ، يُغيظها بالمسافة التي بينهما : وش هالوقاحة! مين أنت عشان تتصرّف معي بهالشكـل . . آخر مرّة يا ابن الناس اترك يدي والا بـ . . .
قاطعها تميم بملامِحه التي اشتعلَت وهو يقتربُ منها بطريقةٍ أرعبتها ، يهتفُ بخفوتٍ محذّرٍ ونبرةٍ قرأت فيها الشر : لو تبين أبوك يظلّ بخير امشي وأنتِ ساكتة ... لا تطلعين ولا صوت!!
ارتعشَت بصدمـة، بهتت ملامحها دون استيعابٍ في بادئ الأمـر ، قـال ، قـال لو أرادت أن يبقى والدها بخير!!! . . ارتفعَ صدرها بنفسٍ متعرقلٍ وهي تبتلعُ ريقها بصعوبة، بينما ارتسمَت على شفاهِ تميم ابتسامةٌ باردة وهو يُردف بتحذير : امشي ... بترك يدك ، بس امشي قدامي وأنا اللي بوجّهك وين تروحين بالضبط . . لو تحاولين تهربين لا تنتظرين إلا كل سوء ممكن يصيب اللي تحبينهم.
ما الذي يحدث! يا الله ما الجنون الذي يحدُث الآن؟! هل تحلـم أم مـاذا؟ هل ما يحدث الآن حقيقةٌ يا الله أم أنها تحيا كابوسًا! . . نعم ، نعم ، هي تحيا كابوسًا ستنهضُ منه ، نعم ستنهض!!
شعرت بِه يتركُ كفّها بهدوء، ومن ثمّ أشـار برأسه بجمودٍ أن تتحرّك أمامه ، لم تشعُر بأقدامِها وهي تتحرّك بطاعة ، يتحوّل تكوينها لهُلاميّةٍ واهنـة، يرتعشُ قلبها في الداخِل غير مصدّقةٍ ما يحدُث، تُحادثُ عقلها " أنا بحلم .. اصحى ، خلاص اصحى! " ، نعم كابوسٌ مجنونٌ فحسب !!
وصـل إليها صوتُه الصلب الذي لفظَ بأمرٍ حاد : لفي لليمين.
اتّجهت لليمين ، على أمـل أنّ كـل ما يحدث ، مجرّد كابوسٍ مجنون ، لا يُمكن أن تكون سقطَت في يدِ رجلِ عصابةٍ قد يغتالها الآن مثلًا !!!


،


خطواتُها تتعاقبُ على عتباتِ الدرج، تُهذِّبُ بكفيها شعرها، تُمشّطه بأناملها ومن ثمّ ترفعهُ لتربطه بربطة الشعر التي كانت تُطوِّقُ معصمها.
أخفضَت يديها إلى جيبِ بنظالها الذي دسّت فيه هاتِفها وسماعتهُ تتوصّل إلى أذنيها لتخترقَ مسامعها قصيدة
صخبَت بالصوتِ الرجوليُّ الذي يُلقيها، " أكانَ عَلَيَّ أنْ أسعَى إِلى شجرٍ مِن النسيانْ ؟ " ، السعيُ الأصعب، شجرةٌ من النسيـانِ تكبرُ وتُعمَّر، كيف أزرعها؟ إن كـانت البذرةُ زائفة؟ .. إلامَ أسعى؟ شجرةٌ من الوهمِ .. تسمّى - نسيان - !! " وتهمسُ وردةٌ للشوكِ : ما أقسَاك ! .. ما أقساك !! .... أقابلُ زائري بالعِطْرِ ، تجرحُ أنتَ مَنْ يلقاكْ ... لماذا يصبحُ الوخز الأليمُ هوايةَ الأشواكْ ؟ " ابتسمَت ، بعضُ القصائد سماعها يطرب القلب بألـم، لا نستقبلها بأسماعنا، بل بأفئـدةٍ توجّعت حدّ اللا حُسبان! بعض القصائِد قراءتها - دغدغةٌ - للمُقَل لتنكمـش وتسمح للدمعِ بالعبُور.
لماذا أصبـح الوخزُ هوايـة الحُب؟ كلّ الزهُور لها " فتنة " والشوكُ منها معصيـةٌ لم تختر أن تقترفها، عدا الحُب .. زهرة، لها عبيرٌ خازّ! تقترفهُ بملءِ إدركها.
تنهّدت بعجز، ومن ثمّ دست يدها في جيبِها لتُخرج هاتفها وتُغلـق القصيدة التي كانت تنسكِب في مسامعها، وبشكلٍ تلقائيٍّ كانت تتّجـه إلى الرسائل، تقـعُ عينيها على رسالةٍ تحمّلت كلمـةً واحدةً جاءتها في يومٍ مـا ، أرّقتها رغمًا عنها، لم تكُن لتتخيّل أنها جاءت من متعب! لكنّها رغمًا عنها ... تخيّلت أنها تعنِي خيانتها لهُ بالزواج !!
عضّت طرف شفتها وعينيها تُظلمان بكدر، تحرّكت أصابعها، تريد مسحَها وتجاهـل الفكرة التي دفعته بكلّ جرأةٍ أن يكتب لها ذلك، بأيّ جرأة؟ يُسميني خائنةً وهو الذي اقترف الخيانـة قبلًا بالتخلّي عني؟ لا أريد التفكير بأسبابه، لا أريد أن أعلم لمَ ابتعد فهذهِ الأشهـر التي طالَت لا يكفيها عُذرٌ باهِت . . . رغمًا عنها ، تفكّر بذلك ، لكنّها فجأةً تتّجه للتفكير أيضًا بالسبب، بشكلٍ قلِق، ما الذي حدثَ لهُ ليبتعد؟
هزّت رأسها بالنفي، احتدّت ملامِحها بقهر ، ومن ثمّ شدّت على أسنانها لتجدَ نفسها تفرّغ غضبها وقهرها منهما بتلك الرسالة التي مسحتها، يغيظها أن لا تجدَ شيئًا للتفريغ سوى رسالةٍ غبيّةٍ تقول بكلّ بجاحـةٍ " خاينة "!! ماذا كان يتوّقع؟ هي الغبيةُ التي ظلّت تبكُيه .. لا يستحق، لا يستحق ، كان على الأقلّ أخبرها بأيّ طريقة، كانت لتحفظَ سرّه ، وتفرح! هل استكثـر عليها فرحةً بِه أم أنّه حمـل من الغرور - الذي لم تعرفه فيه - الكثير حتى يستلذَّ بوجعها لأجله؟
أدركت أنها وصلت إلى مُنحنى خطِر من أفكارها، ستشتعل لا محالة، لذا عادت لتدسَّ هاتفها في جيبِها وهي تُميل فمها وتطردهُ من عقلها . . في النهاية كان شاهين الأنبـل! لا تستطِيع النكران أنّه لو فضّلها على أخيه لربّما كُسرَت زاوية من صورتِه مهما اعتزّت باختيـاره، لو أنّها لم تكُن طرفًا في ذلك لرأتْ الجوانِب المنطقيّة كلها وليس النصف فقط . . يؤلمها أنّها طرفٌ في ذلك ، أنّهما يقوّمان علاقتهما من الانكسـار على حسابِها هي! لتجدَ نفسها خارج منطِق الاختيار وما تراهُ الصحيح .. تحقدُ عليهما.


،


يطرقُ الهدوءُ بأصابعـه عليهما، تنظُر عبر النافذة بصمتٍ كئيب، ملامحُها المستترةُ خلف النقاب لو ظهرت لهُ لرآها بظلامٍ يُقسـم بربٌ الظـلام أنّ الحُزن الآن عميق ، عميقٌ لا يواسِيه أنهُ لن يطلّقها .. منذُ البداية كانت مشكلتها الفُراق، لم تكُن لفظًا اضمحلّ الآن ، كـان حُزنها لأنّها ستبتعِد، مهما طلبَت ذلك إلا أن قلبها لا يُريده!
عضّت شفتها بألمٍ وهي تُغمـض عينيها بعذاب، تشعُر بأحشائِها تحترق .. تلك النهاية المُتوقّعة، ماذا ظنَنتْ؟ أن أبتُر العصيـان الذي اقترفته في حقّ الصدق بيننا؟ أن أطمـع بجنّتهِ رغم الذنوبِ التي تميلُ بكفّتها عن بضعِ حسناتٍ وحسب! يا الله يا سلطان لمَ كُنت خلاصِي من الوجعِ ووجعي الآن؟ لم أدمنتُك ومشيتَ ببطءٍ مُغدقٍ في دمِي حتى صيّرتهُ كلّه منك وأنت عنصره الأقوى! . . سمعَت صوتَ هاتِفه يرنّ دون أن يطول، قطع رنينهُ دون أن ينظُر للمتصل وهو يضعهُ على أذنه ليلفظَ بصوتٍ جامد : نعم.
من الجهةِ الأخرى : وينك؟ تراك مصّختها يا سلطان!
سلطان بهدوء : مشغول بكم موضوع ..
عناد : وش قصتك مع الحادث اللي سمعت عنّه من شوي وكنت فيه؟!
سلطان : أبد كنت حاضِر بس ..
عناد : شلون كان الوضع؟
سلطان : ما وصل الاسعاف بالوقت ، مات واحد من اللي بالحادِث . . كان بيديني.
عناد بأسى : لا حول ولا قوّة إلا بالله .. الله يرحمه ويغفر له ويثبته عند السؤال.
صمتَ سلطان للحظـة، تُدير قبضتَه المقودَ ليدخُل الحيّ الذي كانت تعيشُ فيه غزل، وستعيشُ فيه منذُ الآن مُكبّلةً باسمٍ من فولاذٍ لن تخترقـه ، صمتٌ تداعـى، وذكرى، وحنينٌ والكثيـرُ من خيباتٍ تأزّمت في صدرِه . . ابتسمَ وهو ينظُر للأمام بابتسامةٍ ذي معنـى واحد، ليست كابتسامته الحديثةِ لغزل حين يتلذّذُ بإيلامها، ابتسامةٌ لها معنى ، يقطنهُ الكثير من المعانِي . . هذهِ الابتسامةُ يمتلكها شخصٌ واحِد من سنينَ ضوئيّةٍ كوّنها بينه وبين كُرهه، من سنينَ ضوئيّةٍ كونها بينهُ وبين النسيـان حدّ أن يتلاشـى وجعه بِه كلّما خطـر على قلبه!
همسَ بخفوتٍ باهِت : تذكّرت أبوي ، ورجعت لأكثر من 15 سنة ... قرّب ديسمبر ، صار قريب حيل يا عناد!
صمتَ عنادْ من الجهةِ الأخـرى، وتجاهـل سلطان تواجُد غزل، لم يتجاهلها طوعًا بل رغمًا عنه، شدّ على أسنانِه بقهر ، ومن ثمّ تمتمَ بنبرةٍ فاتـرةٍ جافّة : عسى بس يجِي ديسمبّر وهالمرة يكون الكره وافِي . . عسى!
ديسمبّر كـان شهرَ الاغتيـال، وشهر الذكرى التي تجدّدت وهو معه يبتسمُ له، وشهرُ الحقيقة ، شهر الألـم ، والخيبـةِ الثقيلة ، وعامٌ حزينٌ في واحدٍ وثلاثينَ يومًا . . شهرُ الدماءِ النازفة، والأفئدةِ التي ترمّدت، وتيتّمت ، من أبويْن!
تنهّد عناد دون أن يعلّق بشيء، بينما أوقفَ سلطان السيارةَ أمام منزلِ غزل وهو يُشير لها بكفّه أن تنزلَ دون مبالاةٍ حتى بالنظرِ إليها، ابتلعَت غصّةً حارقـة، كان الألـم في قلبها قد تضاعفَ بحديثهِ في الهاتِف وخيبته، تضاعَف عليه، والآن تجاوزَ الحدودَ المعقولة بحركته الأخيرةِ لها . . لمْ تشعُر بنفسِها وقد تجمّدت أقدامها وجسدها كلّه، لم تنتبِه أنها لم تتحرّك وتخرج، حتى أن سلطان كان قد أدارَ وجهه إليها بحدةٍ ليلفظَ بصوتٍ هادئ : برجع أتّصل عليك.
أغلقَ دون أن ينتظر ردّه، ومن ثمّ أردفَ باستخفافٍ وهو ينظُر إليها بحاحبٍ يرتفعُ من فوقِ عينيه الغاضبتين : وش باقي عندك ست غزل؟ متحمل جلستك جنبي كفاية ... ممكن تتفضلين يا حلوة؟
ارتعشَت شفاهها، لم تستِطع أن تُزيح عينيها من ملامِحه وهي ترمقهُ للمرّة الأخيـرة ربّما .. ما معنى الوداع وكيفَ قالوا أنه مسافةٌ وابتعاد؟ ما معنـى الوداع وهو الآن حشرجةُ روحٍ واختناق؟ أم أنّ المصطلحـات أمامك تأخذُ مجرى المبالغـة ومجرى الألـم؟!
نظـرةُ وداع، ومكنونٍ يعنِي أن تلتحمَ بعينيّ قبل قلبـي ، لا أكتفي بالذاكرة، كفاءتها لا تكفي لأستذكرك في كلّ لحظـةٍ ولا أنـسى تفصيلًا صغيرًا منك، لا أكتفي بالذاكرة، فالقلبُ يحفظُ الصورَ واللحظـات بشكلٍّ أشدّ عمقًا، وإيلامًا!
يا الله لمَ أتألّم الآن وأنا التي كانت تدرك منذ البداية مسارنا؟ كيفَ لا تعبثُ بأحزانِي يا سلطان حين تبتعد! كيفَ يكون ابتعادكَ عاديًا في قلبِي الذي يحملكَ دمًا ويحملكَ في انقباضةٍ تقول لك " أحبّك " وترسلها إلى أجزاءِ جسدِي كلّه مترجمةً حيويّتِي وبقائِي بك.
ارتعشَت أصابعها وهي تحرّك عينيها على تفاصيل وجهه القاسية، عينيه الناظرتينِ إليها بعُتمةٍ وغضب، حاجبيه الكثيفين والمرتسمينِ بتمايلِ عقدةٍ حادّة، أنفه، فمـه الذي جرحَها مرارًا حين انفرجَ بكلماتٍ قاسية .. شفتيه التي لم تذقها كثيرًا ، لم تذقها في قبلاتٍ كافيةٍ عن مسافاتِ البعدِ الآن . .
أخفضَت نظراتها ما إن تسلّل صوتُه المنشودُ إلى مسامِعها بغضبٍ حاد : انزلي!! وش عندك ما تسمعين؟!!
غزل بغصّةٍ تُشتّت أحداقها عنه وتتحامـل على أوجاعها لتهمـس : شكرًا على كل شيء.
أدار وجهه عنها بلا مبالاةٍ لينظُر للأمام وهو ينطُق : بلا كثرة حكي.
غزل تبتسمُ بخسارةٍ وهي تمدُّ يدها نحو مقبضِ الباب، فتحته، وعينيها إليه ، تنظُر لهُ لآخر مرّةٍ قبلَ نزولها، هامسـةً باختناق : شكرًا عشانك كنت هدايتي .. شكرًا لأنّك كنت وبتظل أهدى ضـلال

يُتبــع . .

كَيــدْ 18-09-16 09:47 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


تلك الدقائِق القصيرة التي مرّت جعلتها تُدرك أنّها لا تعيشُ كابوسًا في منامٍ بل في واقِع! إلى أين يقودها؟ جـال ذاك السؤال في عقلها برعبٍ وهو يأمرها أن تدخُل في زقاقٍ جانبيّ، شعرت بقلبِها يضطرب، يرتفعُ صدرها ويهبطُ بشدّة، تتوقّف أقدامها عن المسير ليتوقّف تميم من خلفِها وهو يرفعُ حاجبًا ، وبأمرٍ حاد : امشي.
أرجوان بخوفٍ تقفُ أمام بداية الزقاق الذي يريدها أن تعبـر فيه ويضمـن منه سترًا عن الناس! لفظَت بنبرةٍ حادّةٍ ظهر فيها الرُعب جليًا : أنت مجنون! ما راح أمشي وين ما تبي ليش ودّك نغيب عن الناس؟!
فهم سبب خوفها، حينها رفعَ كفّه ليضعَها على رأسهِ بضجرٍ وقلّة صبـر، وبسخريةٍ يبتسم : لا تخافين لو بطمـح للي خايفة منّه بختار أصناف تجذبني أكثر .. يا مكثرها . . امشي أشوف وبطّلي هالاستنتاجات.
أرجوان تهزُّ رأسها بالنفيِ دون أن تستديرَ إليه وحديثه لم يطمْئِنها، لم تكُن لتصدّقه! كـان الرعبُ ينهشُ الاستقرار في قلبها ويدرُّ في جسدها الأدرينالين بشدَّة . . لفظَت باعتراض : وش تبي منّي أجل؟
تميم بقلّة صبر : بتفاهم معك.
اتّسعت عيناها دون استيعابٍ لتستديرَ إليه مباشرةً وتنظُر لهُ بربكةٍ وخوف ، إلا أنّ صوتها حين نفذ إلى مسامعه كان صلبًا قويًّا لا يُظهر تعابير الخوفِ التي يراها في ملامحها : تبي تتفاهم معي وجايبني لمكان مثل هذا؟
تميم بابتسامةٍ تميلُ بعبث : أحب الخصوصيّة أكثر . . أبي مكان ما أضمن فيه يشوفنا أبوك دامه قريب.
شعرت بالخوفِ يتصاعد من نبرتِه، تراجعَت خطوةً للخلفِ وشفاهُها ترتعشُ بربكةِ الذعر الذي يعبثُ بنبضاتِها ونبرتها الفاترة التي بزغت إليه محمّلةً بتعبيرٍ مقهور : مريض ! واضح إنّك مريض . . لاعب على أبوي بقناع كاذب ، والحين مدري وش تبي مني جايبني لهنا . . .
قاطعها تميم بأمرٍ باردٍ وهو يتقدّمُ منها خطوةً جعلتها تنتفضُ وتتراجع للخلف : امشي قدامي والا بمسكك بنفسي وأسحبك غصب.
أرجوان برعشةٍ تتراجعُ وصدرها يرتفعُ بأنفاسٍ متسارعة ويهبطُ بأعصابٍ ارتخَت من الخوف! : لا تقرب ...
تميم بشرٍّ يبتسمُ وخطواتهُ لا تتوقّف عن التقدّم منها : قايل لك نيتي ماهي شينة .. عشان كذا امشي قبل لا تعصبيني وتتغيّر النوايا.
جفّت حنجرتها بذعرٍ وهي تومِئ بسرعة، حينها توقّف تميم بعد أن تراجع عنها مبتعدًا وابتسامته تعود للبرودِ والسخرية ، وبهدوء : كملي . . بقولك كلمتين وأتركك.
ابتلعَت ريقها وهي تستدِير، لا تدرِي هل صحيحٌ أن تنصاع لأوامره وتظنَّ فعلًا أنه يريد فقط أن يقُول لها " كلمتين " ومن ثمّ يتركها؟ ماذا لو كان هناك من ينتظرها حين يتفرّد بها؟ ماذا لو كان يريد التلاشي عن أنظار الناس ليقتلها؟ ماذا لو . . . شعرت بالاختنـاق ، لكنّها لم تجِد سوى أن تُكمـل سيرها، ليس ثقةً بما قـال بل خوفًا من تهديدهِ ذاك والذي تعلّق بوالدها!
مرّت لحظـاتٌ قليلةٌ قبل أن يأمرها من خلفها أن تتوقّف ، اقتربـا من نهاية الزقـاق الذي توسّع قليلًا، يصلهُ بعض الضوءِ الشاحِب والذي كان يُظهر ملامِحه جيدًا لتراها ما إن استدارَت بخوفٍ وتأهّب . .
استوى تميم بوقفتـه وهو يدسُّ كفيه في جيبيْ بنطالِه وينظُر إليها بجمود ، وبنبرةٍ هادئة : سمعتِ شيء؟
أرجوان تتنفّس بضيقٍ وهي تقبضُ كفيها المرتعشتينِ بخوف، لفظَت بنبرةٍ هدأت من فرطِ هلعها : وشو؟
تميم : ما أتوقع سمعتِ شيء من حكينا إلا لو قربتِ . . عمومًا سواءً كان فيه شيء مهم انقـال أو لا تدرين وش المطلوب منّك؟
شعرت بالقهر من نظرتِه إليها بتلك الوقاحة لذا شتّت عينيها عنهُ وهي تضمُّ جسدها بذراعيها دون أن ترد، بينما ابتسم تميم ومن ثمّ أردف بنبرةٍ محذّرة وهو يرفعُ اصبعه ليغطّي به أنفه وفمـه : ولا كلمـة .. ما شفتِ شيء .. ما دريتِ إنّي عربي .. ما دريتِ إنّي أعرف الخبل الثاني .. ما شفتينا مع بعض بكل بساطة ... طيب؟
عقدَت حاجبيها، من يظنُّ نفسه؟ هل يريدها أن تراقبه وهو يتلاعبُ بوالدها وتصمت؟ . . شدّت على جسدها أكثر، ورغم خوفِها من تواجدها بمفردها معه إلا أنّها وجّهت عينيها إليهِ لتلفظَ بازدراء : وش تبي من أبوي؟
تميم بمكرٍ يخفض اصبعه عن فمه : كل خير.
أرجوان بنبرةٍ عنيفة : لا تظن إنّي بستجيب لأوامرك بكل بساطة!
تميم ببرود : تبين تضرّين أبوك؟
اختنقَت بكلماتِها لتُغمـض عينيها بقوّةٍ وهي تشعُر بقشعريرةٍ تسيرُ في أطرافها . . حُلم ، كابُوس ... لا يُمكن! من يكون وماذا يريد؟ من يكُون؟ ما علاقـة والدها بكلّ هذا ولمَ هو تحديدًا!!!
زمّت شفتيها باختنـاقٍ وهي تُخفضُ رأسها وتفتحُ عينيها، تنظُر للأرضِ بقهر ، بينما تحرّكت خطواتُ تميم إليها ليكسر جزءً من المسافـة التي كانت مُتضخّمةً بينهما . . انتفخَ صدرها بشهقةٍ صامتةٍ وهي ترفعُ وجهها بسرعةٍ وتخفض كفيها وأقدامها تتراجع للخلفِ بتأهّبٍ مذعور ، حينها وقفَ تميم وهو ينفجِر بضحكةٍ مستمتعـة ، يرتدُّ رأسه للخلفِ ويُغمضَ عينيه لافظًا بنبرةٍ ضاحكةٍ عابثـة : وش هاليوم الحلو؟ ما كنت لئيم عشان أضمّ بنت مع ألعابي بس جيتِ لشقاك برجولك.
كانت تنظُر لهُ بتشنّجٍ وهي تتنفّسُ بسرعة، جسدها المشدود يترقّبُ أيّ حركةٍ منه ويستعدُّ لها، بينما عينيها وبشكلٍ تلقائيٍّ بدأت تتحرّك بحثًا عن شيءٍ مـا من حولها .. قد يُنقذها إن تجرّأ على شيء! ألعاب ، ألعاب ... هل يقصدُ والدها أيضًا؟!
تميم يتوقّف عن ضحكاتِه وهو يفتحُ عينيه ويُخفض رأسه إليها، تبقّت آثار ضحكته في ابتسامةٍ منتشيَة، كانت قد توقّفت عن البحثِ بعينيها، لكنْ لم يكُن ذلك قبل نظره إليها والتقاطِه لرحلة البحثِ تلك والتي جعلت نظراتهُ تتّجه إليها بسخرية ، مرّر لسانهُ على شفتيه، ومن ثمّ تحرّك لينزاح جانبًا وهو يُشير لها بالخـلاص ، أطلقها! هذا ببساطةٍ ما عناه . . أشـار لها أن تعبُر وهو يبتسم ابتسامةً شعرت بالحقدِ والقرف تجاهها، ومن ثمّ لفظَ ببرودٍ مُستفزّ : تقدرين ترجعين لأهلك ... وعلى كلامي، لو حسيت مجرّد إحساس إنّ أبوك شاك فيني انتظري خبر ماراح يفرح قلبك.
شعَرت بالرغبـة في البُكاء، كيف قد تصمُت وتتركه يتلاعبُ بِه؟ كيفَ يهدّدها بالمساسِ به بسوءٍ إن تحدّثت ، ماذا يريد من الأسـاس؟ أفعاله تدلِّ على كونِه يريد أذيّته!!
لا تصدّق ما تمرُّ بِه .. يا الله اجعله حلمًا! حُلمًا ، وسأنهضُ لأجدَ نفسي أعيشُ ما اعتدته بعيدًا عن هذا الجنونِ الذي لا يُطـاق ولم أتخيّل يومًا أن أعيشه !!
ابتلعَت ريقها بصعوبة، لم تكُن لتسمـح لضعفها أن يظهر أمامه بشكلٍ أشدّ، يكفيه خوفها الواضح والذي لم تستطِع كبحَه . . تحرّكت بخطواتٍ ثابتـة، ومن ثمّ تجاوزتـه ، كان بينهما مسافةٌ ولم تكن قريبةً منها إطلاقًا إلا أنها كانت تخشى أن يكون مُدركًا لرعشـة جسدها وهي تمرّ ومن ثمّ تبتعِد.
في حينِ تابعها تميم بنظراتٍ باردةٍ حتى اختفَت من أمامه، مـال فمه قليلًا، وقسَت ملامِحهُ فجأةً لتتساقطَ السُخريَةُ من وجههِ بقايَا وهمٍ وزيف ، زفـر بعنف، ومن ثمّ تمتم بغضبٍ خافت : هذا اللي كـان ناقص بعد !!


،


في جهةٍ أخرى ، وقفَ يوسِف بغضبٍ وهو يُمسكُ بيدِ ليـان، ينظُر لجيهان بحدّةٍ ومن ثمّ يلفظُ بنبرةٍ غاضبة : يعني نحلّها من جهة تخرب من الثانية؟!!
جيهان لا تمتلك القدرة على النظـر إليه مطوّلًا ، أشاحَت وجهها عنهُ وهي تهمسُ بخفوت : ما راح تضييع بترجع.
يوسف : اتّصلي فيها.
جيهان تُخرج هاتفها بربكـة، رغم أنّها اتّصلت قبل قليلٍ ولم ترد لتستنتجَ أنّ هاتفها في وضع الصامت، لكنّها من ربكتِها أمام والدها أخرجته من جيبِها لتحاول الاتصال بها من جديدٍ وهي تُتمتمُ بخفوت : ما ندوّرها؟
يوسف يزفُر بصبرٍ يكادُ أن ينفد وأعصابهُ تنزلقُ في هذهِ الأيام بشكلٍ لم يعتدهُ هدوءه : بيصير الوضع أصعب مكاننا هنا تعرفه.
أومأت دون أن تلفظَ شيئًا وهي تتّصل بها، وفي تلك اللحظـة تراءت أرجوان لعيني ليان التي هتفَت مباشرةً بفرحة : أرجوان جات.
استدارا مباشرةً نحو الجهةِ التي أشارت إليها بيدِها التي تحمل الآيسكريم الذي اشتراه لها والدها بعد أن وجدها قريبًا، تنهّد يوسف بغضب، بينما زفرت جيهان براحةٍ وهي تُغلقُ هاتِفها وتضعهُ في جيبِها من جديد.
وصلَت أرجوان إليهم بملامِح غريبة، جامـدة، لم يتبيّنها يوسِف من غضبِه وهو يلفظ : أنا ما قلت لك تظلّين مع أختك؟!
أرجوان بغصّةٍ تُخفض وجهها وهي تهمسُ بنبرةٍ مُختنقة : آسفة .. كنت خايفة على ليان.
يوسف بتساؤلٍ وبنبرتِه ذاتِها : أنتِ اللي معطيتها الفلوس بيدها عشان تحصّل الدافع وتروح بنفسها؟!
رفعَت أرجوان عينيها إليها لتفغـر فمها بارتباك : عطيتها بدون ما أفكّر إنها بتسوّي اللي سوّته !
زفُر يوسف وهو يرفعُ كفّه الطليقةِ من يدِ ليان ليضغطَ أعلى أنفِه وهو يتمتم بحولقةٍ خافتـة ، يزحفُ إليه الصداعُ بسبب الضغط الذي يمارسه على نفسه ، وبنفادِ صبر : امشوا .. بنرجع . .
تحرّك دون أن يضيفَ كلمةً أخـرى ، في حينِ تحرّكت أرجوان بصمتٍ ومعها جيهان التي نظرت ناحيتها باستنكارٍ لهذا الجمودِ المريب ، هل تُرجِع الأسباب لخوفها على ليان؟


،


ابتسمَ وهو يحادثها بصفـاءِ نبرةٍ كأنّها لم تؤرّق قبـل وقتٍ لم يمضِي منه الكثير ، صبّت سُهى من الشايِ وهي تلفُط بامتعاض : اتفقنا أنا ونجلاء نسوّي حلى مع بعض شكلها سحبَت عليْ.
أدهم يحرّك عنقه المتصلّب وهو يضغطُ بكفّه على جانِبه، وبابتسامةٍ هادئة : لا تشرهين عليها هالفترة ، انتظري لين تخلص امتحان بكرا وقتها انشبي لها.
سهى بابتسامة : الله يوفّقها .. بس مو كأنّك ما طوّلت بسرقتك لها رجعت على طول! لا يكون تهاوشتوا؟!!
رفعَت حاجبها بتحدّى، حينها لوى أدهم فمهُ وهو يحرّك حاجبيهِ بإغاظةٍ هاتفًا : قلتلها بكلمتين عالسريع ورجعت ... انتبهي من سهى لا تضيع وقتك واسفهيها .. تراها حملت 3 مواد بالتحضيري ، وانقبلت بواسطات وجابت العيد بمعدّلها آخرتها تركت الجامعة وقعدت لها بالبيت أبرك.
سُهى ترفعُ حاجبيها بصدمة : يا كذّاب وش كل هذا ؟!!!
أدهم : هذا وأنا متستّر على الباقي.
سهى ترفعُ اصبعها بتحذير : لا تخليني أخربها وأجيب العيد فيك أنت!! .. وإلا أقول ترى بخرب عليك خُططك وأعلّم نجلاء إنّي أدري بوضعكم .. أسوّيها فاعقل . .
أدهم بضجرٍ بدأ يتسلّل إليه من محاولة استمالتها : قوليلها .. ما راح تخربين شيء لأنّ مافيه عندي خُطط على قولتك.
سهى : افا وش صار؟
أدهم يبتسم بإغاظة : أسرار زوجيّة توك صغيرة على هالكلام.
سهى : يا ربـــي يا سماجتك !!!
وقفَت وهي تلوِي فمها بحنق : روح لمرتك أنا أقابل الحلى حقي أبرك . .
تحرّكت مباشرةً للمطبَخِ وهي تسمعُ ضحكتهُ القصيرة من خلفِها، ابتسمت قبل أن تغيبَ عن ناظِره ، بينما وقفَ أدهم وضحكته الباقية في بسمَةٍ تلاشَت ما إن فكّر بِها . . وبشكلٍ تلقائيّ ، كانت أقدامهُ تُسيَّرُ إليها.


يُتبــع ..

كَيــدْ 18-09-16 09:50 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


في الأعلى . .
تربّعت على السرير، كفّها تُزيحُ شعرها المَفتوح والذي كان يسقُط على وجهها كلّما أخفضَت رأسها إلى أوراقها التي تدرُسها، عقدَت حاجبيها بضيقٍ وهي تدسُّ الخصلات المتمرّدة لخلفِ أذنها فتعودَ للسقوطِ أخيرًا . . تأفّفت ، ومن ثمّ رفعَت كفيها مقرّرةً أخيرًا ربطه في ذيلِ حصانٍ قصيرٍ للخلف .. وفي تلك اللحظةِ تحديدًا كانَ صوتُ البابِ يجيءُ إلى مسامِعها معلنًا دخولَه.
انتفضَت باضطرابٍ وهي تُخفض كفيها وتُخفضَ معهما رأسها بخجلٍ زحفَ إليها رغمَ مقاومتها له، حُمرَةٌ تسلّلت إلى ملامِحها وهي تستشعِر وقوفَهُ جامدًا لوهلـةٍ وكأنّه لم يستوعِب للحظـةٍ ما رآه! . . . كانت ، كانت قد خرجَت من إطار البساطةِ الذي يستفزّه!!
وقفَ بصدمَةٍ لثوانٍ طالَت ، لم تكُن ظاهرةً كفايةً من جلُوسِها على السرير، إلا أنّه استطاعَ رؤية جزءٍ لا بأسَ بهِ من وجهها المزيّنِ بالقليلِ من مساحِيق التجميل التي أبرزت جمالها، جسدهَا زيّنه فستانٌ بيتيُّ مشجّرٌ يطغى عليهِ البياض لم يرى طوله لكنّه كان إلى نصفِ ساقيها المرمريتين.
ما الذي يحدُث؟ هل يتوهّم أم أنها فعلًا اخترقَت غشـاوةَ البساطة المقيتَة؟ . . هل يتوهّم أم أنها فجأةً خرجَت من إطـار العنادِ وتزيّنت بفتنةٍ أكبر أمامه !!
رغـم بهوتِه، ورغمَ صدمتِه، إلا أنّه لم يكُن ليطول بصمتِه الذي رآه مثيرًا للشفقةِ إن طـال ، رغم أنّها أخيرًا ظهرَت لعينيهِ بحلّةٍ مُهلكةٍ إلا أنه وجدَ نفسه يخطو نحوها وهو يبتسمُ بسخريةٍ اعتمدَها من ساعاتِ غضبِه السابقِ منها : واو ! وش اللي صار بالدنيا متأكدين إنّي مو على السرير بآخر الليل ونايم أشوف حلم وبس؟!
عقدَت حاجبيها بغيظ، وحرجُها تطايـر مع كلماتِه تلك ، أدارَت رأسها مباشرةً نحوه ليظهرَ وجهها كاملًا/الفتنةُ بصيغة المبالغةِ المحضة! الفتنةُ التي اشتدّتْ بوطأتِها على قلبِه ليسقطَ صريعًا بِها . . كانت أجمل! أجمـل بكثيرٍ ممّا اعتاد ، كـانت فاتنة! يا الله متى أصبحَت بهذهِ الفتنة؟ أذكركِ طفلة، متى نضجتِ امرأةً تسلُب الفؤادَ وتصرعه؟
لم يظهرْ افتتانه بها على ملامِحه الجامدةِ عدا من بسمةٍ ساخرة، بينما أمالت إلين فمها المزيّن باللونِ الزهريِّ ومن ثمّ لفظَت بغيظ : لا تظن للحظـة إنه عشانك .. بس طفشت وحبيت أغيّر جوّي شوي.
أدهم بخيبةٍ مصطنعة : اوووه شِت يا حُزن قلبي ! ترى واضح إنّك شايلة هم الدوام بكرا عشان كِذا تزيّنتِ لـه ، ماهو لنفسِك ولا هو لي.
شعرت بالغضبِ منه ، أحمـق! لا تنكِر أنّها لا تعلـم سبب زينتها، فقط شعرَت بالذنبِ بعد الكلماتِ الأخيرة التي كانت بينهما، شعرت بالذنبِ لذا وجدتْ نفسها تتزيّن لـه! لهُ هو ، لا تفسيـر لما قامت بِه سوى أنها شعرَت بالذنب .. نعم! هذا هو التفسير بالتأكيد.
لم تُجبه وهي تُشيح بوجهها وتُتمتم بصوتٍ لم يصِل إليه : غبي!
بينما تحرّك أدهم مقتربًا منها أكثر ، ارتبكَت ما إن شعرتْ بهِ يجلُس بجانِبها، ومن ثمّ ودون مقدّماتٍ كانت ذراعهُ تُحيط كتفها من الخلف . .
شعرَ بجسدِها يتجمّد بربكـةٍ ليبتسـم برضا رغـم قهرهِ منها، ومن ثمّ همسَ بخفوتٍ قُرب أذنها : كان مفهوم زينة الزوجة لزوجها جارية!
إلين تبتلعُ ريقها وصدرها يرتفعُ ويهبطُ بشدَّةِ ربكتها، همسَت بغيظٍ من تفسيراتِه رغم أنّها من خلَقتها في عقله : على قولتك يمكن الجامعة حدّتني على الذُلّ!
أدهم يبتسمُ ببرودٍ وهى يتمنّى خنقها على تعبيراتها السخيفة! لفظَ بخفوتٍ مُستفزّ : ما كان فيه داعي تذلّين عمرك .. لأنّي كنت معفيك بعد ما سمعت غبائك وكنت باخذك لامتحانك الزفت حتى لو ما تزيّنتي.
إلين بقهرٍ تحرّكت كي تبتعد : اااه زين ريّحتني بروح أبدل ملابسـي و . .
أدهم يقاطعها بنبرةٍ حادّةٍ وهو يشدُّ ظهرها إلى صدرِه : أذبحك !!!
تأوّهت بألمٍ من ذراعه التي كانت قد ضغطَت على نحرِها خطأً، حينها أرخى شدّهُ عليها، ومن ثمّ أغمـض عينيهِ وهو يُخفض رأسه، ليمسَّ أخيرًا بشفتيه الجُزء الظاهِر من كتِفها ، وبخفوت : بكل يوم .. أبيك تفتنيني! وهالمرّة مو عشان جامعة أو تفاهة من تفاهاتِك! ... لا ، صرتِ ملزومة أنفتنْ فيك أكثر، وأحبّك أكثر!
ابتلعَت ريقها وهي تُغمـض عينيها وتُفرج شفتيها قليلًا متنفّسةًً من بينهما بعد اختنـاقها، حرارةُ جسدهِ انتقلَت إلى - جُزيئاتِ - النبضِ فأثارت فيها زوبعةَ تسارعٍ جعلها تشعُر بِها في جسدِها كلّه . . قبّلها برقّة ، ومن ثمّ ابتعَد وهو يبتسمُ بإغاظة : بس لا تكثرين عطر ، أحسّك وقتها على قولتك * يقلّد نبرتها بسخريةٍ من تفاهةِ تفكيرها * جاااااارية ! . .
احمرّت ملامحها بغضبٍ هذهِ المرّة ، استدارَت إليه بعنفٍ ليقفَ مبتعدًا وهو يضحكُ بتلاعب : جبتيها لنفسك .. وش هالتخلف وش هالتفكير الرجعي يا تافهة!
إلين بقهرٍ وحَرج : احترم نفسَك.
أدهم بحزم : اعقلي ، ما يزيّن الانسان إلا عقلـه . . حطّيها ببالك دايم.
شعَرت بالحرجِ وبغبائِها حين لفظَت تلك الكلمَة ، لم يبقى إلا هو ليعلّمها أن ما يزيّن الانسان هو عقله !!!


،


تراقبها بعينينِ بائستين ، تتحرّك ذهابًا وإيابًا في غُرفة الجلوسِ وملامحها تشتعلُ بغضبٍ أسـود . . نظرت إلى غزل بعد أن توقفت عن سيرها، شدّت على أسنانها ومن ثمّ لفظَت بقهر : وبعدين يعني؟ وين عايشين فيه عشان يعلّقك! .. الله يرضى على المحاكم لو ما رضى بالطلاق نخلعه.
عقدَت غزل حاجبيها بضيقٍ وهي تدسُّ كفيها بين فخذيها وتُخفضُ وجهها دون إجابةٍ ملّت تكرارها، منذُ أن جاءت وإلى هذهِ الساعة التي تقتربُ من التاسعة ليلًا وهي تكرّر عليها ذاك القرار الذي رفضته مرارًا!
لم تُجِب، حينها نظرت إليها امها بغضبٍ لتصرخ فجأة : ما تبين! عارفتك ما تبين وش هالشخصية المهزوزة اللي عايشة فيها عنده!!! ليه هالاستسلام وكأنّ كلامه وحي ما عليه غلط!!
صُدمَت من انفجارها ذاك، ورغمًا عنها كانت أطرافها تبردُ وهي تقبضهما بتوتّر .. خافت منها! ببساطةٍ خافَت من مصيرِها مع أمٍّ لم تثِق حتى الآن بتغيّرها! . . ارتعشَت شفاهُها بانهزامٍ وهي تُسدل أجفانها دونَ أن تُغمـض عينيها ، تُسدلهما كستارٍ شَفَّ عن ما وراءهُ من انتهـاءِ مسرحيّةٍ باهتَة، كئيبـة ، انتهت، ولازالت كآبتها تُتلى من وراءِ ستـار!
لا شيءَ لها لتعبّر بلمسِه عن تلك البرودةِ في جلدِها والتي ستجمّد كلّ ما تلمـسه، لا صوتَ لها لتعبّر بكلمـاتٍ عن ضجيجٍ يمارسُ سطوهُ في صدرِها ، لا أنينَ لها! يُخبر العالم أجمعَ عن أضلاعها التي تحطّمتْ شظايا .. وباتَ قلبها دونَ درع ، يستقبلُ موالِح النكهاتِ ولذاعتها من طبَقِ الدُّنيا.
تصلّبت ملامح ام غزل فجأةً بعد استيعابِها لتلك الصرخـة التي مارستها عليها ، قسـوة! وكلماتٌ أقسى ، كيف تقول لها " شخصية مهزوزة " وهم الذين صنعوها فيها؟ . . ابتلعَت ريقها، لا تُجيد ممارسة الحنانِ الأمويّ معها، لا تجيد! يا الله لا ينقصها المزيد .. ما الذي قالته الآن !!
تحرّكت بندمٍ نحوَها، ابتلعَت ريقها بضيقٍ وهي تجلسُ بجانِبها، لم تتحرّك غزل قيدَ أنملةٍ حتّى في " انكماشة "! وهي تتصلّب بموضعِها ذاته.
تنهّدت بعجز، ومن ثمّ رفعَت يدها لتضعها على كتفِها، وبخفوتٍ مُتأسّي : آسفة .. ما قصدت.
غزل تبتسمُ بخيبة ومن ثمّ تهمسُ بحشرجة : خذي راحتك .. أذكر من قبل لا تقررين تزيّنين علاقتنا كان سلطان يقولي ما أقطعك في النهاية وأحترمْ إنّك أمي مهما كرهتك . . خذي راحتك!
شعرت بالاختنـاقِ لتشدَّ بكفّها تلقائيًا على كتفِها وهي تغمضُ عينيها بحسـرة، " مهما كرهتك "، ما أقساها من جُملة! ما أقساها .. وماذا لديها لتمنع الكره من قلبها؟ .. ماذا لديها؟!
ام غزل بخفوت : شايلة همّك .. ما أبيك توافقين على كل كلمة ياكل فيها حقّك بحجة إنك تحبينه!
غزل بخفوتٍ باردٍ دون أن تنظُر إليها : الحُب ماهو حجّتي .. مالي وجه! مالي وجه أوقف بوجهه . . للحين محنا متعادلين ، يمه سلطان مقهور! أنا ضرّيته ، وما راح ينتهي كل شيء وأشوف إنه أخذ حقه إلا إذا هوّ قرّر هالشيء .. * رفعَت وجهها إليها لتبتسمَ وتردف * وما راح يحسّ بهالشيء بمجرّد إنه علّقني! ما راح ننتهِي هنا .. النهاية كلمة طلاق! وبيجي اليوم اللي يطفش ويطلّقني .. وقتها يكون كل شيء انتهى وأخذ حقّه بالكامل منّي وانقضت ديونِي عندَه.
ام غزَل تهزُّ رأسها بالنفي : ظنّك غلط .. يقدر يستمرّ بدون ما يطفش ويعتبر وجودك عدم وينساك ، يكمّل حياتَه، يتزوّج ، ويبدأ من جديد وأنتِ هنا مرتبطة باسمه بس هو ناسيك وماهو مهتم! .. يقدر ، صدّقيني يا غزل بيقدر لو بغى هالشيء.
أغمضَت عينيها بشدّة، لا ، لا تقوليها ، فقط لا تقولي إحدى الخياراتِ المِميتة، أن يتزوّج، أن تعيشَ بذخهُ أنثـى سوايَ وأحترق! .. لا تقوليها وقلبي عن تلك الفكرة يصدُّ ويتجاهلُ بحجّةٍ غبيّةٍ ضعيفة .. " عاف النساء " ! .. تدرك أنّها تخدع نفسها .. وتطرد تلك الفكرة التي قد تصيرُ لتُحـال رمادًا باهتًا مشرئبًّا بالانتثار!
وكأنّ امّها شعَرت بِها ، قاسيتُ من أحزانِك بضعها! تزوّج والدكِ في يومٍ مـا ، وذقتُ الفكرةَ حقيقةً بلوعةٍ أحرقت أحشائي . . . لذا وببساطة، كانت تشعُر بها.
أحاطَت بذراعيها كتفيها، ومن ثمّ ضمّتها إلى صدرِها لتشدَّ غزل على عينيها بقوّةٍ وتستكِين على صدرِها الدافِئ، انتهينا يا سلطان ولم ننتهِي! هذا الانتهاءُ الأشدُّ وجعًا، الانتهاء الذي يعنِي المضيقَ الباقِي بيننا والذي لا أستطِيع عبوره، الانتهاء الذي أبقى فيه أتقلّب على جمرِك ، وأخضـع لجحيمك!


،


العاشـرة والنصف . .
لحّفتهُ بكفينُ حانيتين، نـام في النهارِ واضطرّت لإيقاظِه لأجـل الصلاة ، وهاهو الآن عـاد للنوم قبل نصفِ ساعةٍ تقريبًا . . ابتسمَت رغمًا عنها برقّةٍ وهي تنحنِي إليه وتقبّل جبينه، تجدُ في معمعةِ حُزنـه منفذًا للسمـاحِ ولو للحظـات ، لإغداقِه بقُربٍ يريحه . .
رفعَت وجهها عنهُ كي تبتعد، وكفّها المُمسكة بطرفِ اللحـاف ارتخَت عنه ، كادت تتركه، لكنّ كفيه سابقتها حين أمسكَت بها ، تفاجأت وهي تُخفض أنظارها إلى كفيْه ومن ثمّ ترفعها إلى ملامِحه ، أشرقَت عينـاهُ من جُنح الظـلامِ شمسًا لا قمـرْ، ابتسمَ لها، ومن ثمّ أغمضهما من جديدٍ ليهمس : مو حرام ما لِنتِ إلا بلحظاتْ مثل هذي.
ديما تحاول سحبَ كفّها من كفّه بهدوءٍ إلا أنّه كـان قدْ شدّ عليهما وهو يُردف : اشتقت عيونك ، وصوتِك اللي تعوّدته حار ماهو جليد . . استسلمِي! محنا بحرب يا ديما.
ابتسمَت ابتسامةً صغيرة، حرّكت أصابعها لتستطِيع أخيرًا تطويق يدِه وهي تهمس : تاريخنا حرب ومجازر ، وحُب كـان راية بيضاء تقول استسلمت! أنا اللي كنت أحبك وأنتِ ما كنتِ ... وأنا اللي بس استسلمت!!
سيف يبتسمُ ووجهها القريبُ منهُ يضيءُ بنور الأبجورةِ الشاحِب : كمّلي.
ديما بهمس : وتاريخك أنت تحديدًا طغيـان . . ثار شعبَك.
سيف : ما انطفت هالثورة؟
ديما : يمكن لوقت ، عطفِي عليك طغى للأسف.
سيف : أحبّك.
ابتلعَت ريقها، لكنّها لم تترك لابتسامتها الاهتزازَ أكثر وهي تهمسُ بالحقيقةِ التي لا تغيبُ مهما غيّبتها : تدري إنّ حبي لك أكبر! بس ما تكفيني كلمتك بالوقت الضايع.
رفعَ كفّه ليضعَها خلف رأسها، جذبها إلى صدرِه، ومن ثمّ دفَن وجهها فِيه وهو يهمس بإغاظة : شششش ، لا تثورين على سيّدك ... مي!
ديما بحقد : أي رجعيّة عايِش فيها خلّتك تسمّيني بهالاسم؟
سيف : هههههههههههههههه ليه ما تفكّرين إن هالاسم ماهو معنى للعبودية؟ يمكن له سبَب معيّن فكّري بهالنقطة وأحسِني الظن!
تراجعَت للخلفِ وهي ترفعُ حاجِبًا : أسلوبك الزفت ما يعطِي مجال.
سيف يكرّر بخفوت : أحبّك عن كل مساوئي اللي ما اعترفت فيها.


،


في وقتٍ سابق/صاخِب.
تصِل كلماتِه إلى مسامِعه عبر الهاتِف بهدوءٍ يصخبُ في صدرِه بصراخٍ حـاد : بسحب اسمك من القضية .. وعلى أقرب طيّارة تكون راجع للدمـام مباشرة . .
بدر بصدمة : نعم !!!

.

.

.

انــتــهــى

وموعدنا بإذن الله بيكون الأربعاء ()

+ وحدة من متابعاتي الجميلات بالسناب أرسلت لي قبل فترة طويلة قصيدة وقالت لي " حطيها بعد ما يفترقون سلطان وغزل " -> كانت حاسبتها ببالها هههههههههههههه . . الزبدة ضيّعت الصورة من عندي ، ففضلًا لا أمرًا أرجعي ارسليها وبدخل سنابي هاليومين واشيّك عالدايركت - يا رب تشوف كلامي - .. ما ودي أضطر أدخل وأنزل سنابة هناك وأنشّطه من جديد :(

ودمتم بخير / كَيــدْ !


fadi azar 21-09-16 03:44 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
اشفقت على غزل احزنتنى جدا اتمنى ان لا تكون اغتصبت او يسامحها سلطان فصل جدا رائع

كَيــدْ 21-09-16 06:50 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


السلام عليكم ، مساء الخير :$
إن شاء الله تكونون بألف صحّة وعافية


ما راح أقدر أنزل البارت اليوم فبيكون بكرا ، ما اكتمل للحين وما يمديني أبد فعُذرًا منكم :(
+ مضطرة أغيّر المواعيد لكـل أحد وخميس بما أن الدراسة بدأت من جديد ، بارت الأربعاء يكون بعد أيام دوام بعكس الأحد ، فأكيد بيكون فيه ضغط أكبر عشان كذا نزيدها يوم ويصير الخميس . .

ألتقي فيكم على خير غدًا ، بحاول أدرج أحداث حماسية مع إن البارت فيه هدوء ما قبل العاصفة :* ودمتم بخير ()



+ راجعة لكل الردود ما راح أضيّع التفاعل مع الرود وبحاول قد ما أقدر من الحين :$

أبها 22-09-16 03:23 PM

بالتوفيق يا كيد ..
واختاري الأيام اللي تناسبك ..
بانتظارك .🍃🌸🍃

كَيــدْ 22-09-16 06:13 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

-
-

مساء الخير ، إن شاء الله الجُزء يكون على الساعة 11 ونص تقريبًا ، قاعد يتعسّر معي والله :( بس مثل ما قلت فيه هدوء يا كثر اللي طالبوني أحط شيء قوي بمناسبة اليوم الوطني لووووول ، بس بيكون عادئ بعض الشيء خلّوا هالمناسبة تمر بسلام :p
وكل عام والسعودية وشعبها بألف خير ، الله يحفظ الأمن والأمان ويقوّي حكومتنا على الخير ()


كَيــدْ 22-09-16 10:37 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحّة وعافية


كل عام والسعودية وشعبها والأمة العربية والإسلاميّة بألف خير ، بمناسبة اليوم الوطني السعودي بارتنا هادئ ولطيف ، وإن شاء الله جميل بعد :*

وشكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات



مَتـى سَتعرِف كَم أَهواكَ يا رجلاً ..
أَبيعُ من أَجلهِ الدُنيا و ما فيها

يا مَن تَحديتُ في حٌبي لَه مدناً ..
بِحالها و سَأَمضي في تحديها


لو تَطُلبُ البحرَ في عينَيكَ أَسكٌبه ..
أَو تَطُلب الشَمسَ في كَفيكَ أرميها

أَنا أُحِبُكَ فَوقَ الغَيمِ أَكتُبٌها ..
و للعصافيرِ و الأَشجارِ أَحكيها

أَنا أَحِبُكَ فَوقَ الماء أَنقُشُها ..
و للعناقيدِ و الأَقداحِ أَسقيها


أَنا أَحِبُكَ يا سيفاً أَسالَ دَمي .
يا قصةً لستُ أَدري ما أُسَميها

أَنا أُحِبُكَ حَاول أَن تُساعِدَني ..
فَإِن مَن بَدأَ المَأساةَ يُنهيها

و إِن مَن فَتَحَ الأَبوابَ يُغلِقُها ..
و إِن مَن أَشعلَ النيرانَ يُطفيها


يا مِن يُدخِنُ في صَمتٍ و يتركني ..
في البحر أَرفع مَرساتي و أُلقيها

أَلا تراني بِبحر الحبِ غارقةَ ..
و الموجُ يمضغٌ آمالي ويَرميها

انزِل قليلاً عَنِ الأَهدابِ يا رجلاً ..
ما زالَ يَقتلُ أَحلامي و يُحييها


كَفاكَ تَلعبُ دَورَ العاشقينَ مَعي ..
و تَنتقي كلماتٍ لستَ تَعنيها


كَم اخترعتُ مكاتيباً سَترسِلُها ..
وأَسعدتني وروداً سَوف تُهديها

و كَم ذَهبت لِموعدٍ لا وجودَ لَه ..
و كَم حَلمتُ بأَثوابٍ سأَشتريها


و كَم تمنيتُ لو للرقصِ تَطلبني ..
و حيرتني ذِراعي أَين أُلقيها

إِرجِع إِلي فإِن الأَرض واقفةٌ ..
كأَنما فرت مِن ثوانيها

إِرجِع فَبعدكَ لا عِقدَ أُعلقه ُ ..

و لا لَمستُ عُطوري في أَوانيها

لِمن جَمالي لِمن شالُ الحَريرِ لِمن ..
ضَفائري مُنذُ أَعوامٍ أُربيها

إِرجِع كَما أَنتَ صَحواً كُنتِ أو مَطراً ..
فَما حَياتي إِن لَم تَكُن أَنت فيها


* القصيدة اختيار الجميلة خولة لسلطان وغزل ()

(81)*3




" هذي الأوامـر ، خلاص انتهى دورك هنا "
اتّسعت عينـاه بصدمة، لحظة ، أيُّ دورٍ يقصِد؟ متى كان دورهُ بالضبط ومن أيـن بدأ وأين انتهى؟ بهت للحظـة، لكنّه سرعان ما اندفـع بصوتٍ جـرف معه انفعالًا غاضبًا : انتهى دوري؟؟ أنت أي دور تقصد !!
عبدالله يتنهّد بحِلم ، ومن ثمّ يلفظُ بتوضيحٍ استفزَّ بدر وكأنه يحادثُ طفلًا! : خلاص ، هالمهمة مالك دور فيها، قرّرت إنّ دورك ينتهِي منها وبس.
بدر يبتسمُ بحنق : دوري؟ هو احنا بدينا أصلًا! طول هالسنوات مافيه شيء ويوم بديتوا تجمعون معلومات وأدلّة صرت تحاول تماطِل وأنا منتبه لهالشيء ، والحين تقول انتهى دوري اللي ما أدري وش هو وأحس فيه إنّي بلعبة؟
عبدالله ببرود : أنت مهمتك تسمع منّي ، وهذي هي الأوامر.
بدر بنبرةٍ مكبوتة : ليه كنت هنا طول هالفترة؟ علّمني السبب الحقيقي !!
عبدالله : أي سبب؟
بدر : أنا أسألك عنّه . . وش السبب اللي مخليك تماطل وما ودك لا أتدخل بشكل رسمي ولا أبعِد عن الموضوع بشكل نهائي إلا الحين !
عبدالله : ما فيه سبب ، لا تتوهّم شيء مو حقيقي.
ابتسمَ بدر بقهر : للأسف ، ما تقدر تبعدنِي عن الموضوع بكيفك . . ودِّي أكون موجود ، لي دور تجاه الأشخاص اللي ذبحوا زوجتي وأهلي ! بعدها اعتبرني ما كنت موجود ولا بتشوفني مرّة ثانية أشتغل معك.
عبدالله بجمود : ما أقدر أبعدك؟ بدر . . .
قاطعه بدر بثقَة : فيه ناس من حولِي ارتبطوا فيني . . وصارت حياتهم بخطر بسببي وبدون قصد منّي . . بكيفك تنهِي دوري أو لا ، بس أنا ما راح أبعد عن الموضوع ، أعتذر!
استطاعَ أن يلتقطَ نبرة الغضبِ في صوتِه الذي اندفعَ إليه بهدوءٍ كاذِب : أي ناس بدر؟ أنا وش قايل لك !!
بدر يبتسمُ بغيظ : ما كنت أقصد ، بس صار اللي صار وحاليًا سعود حاط عينه عليهم ، معليش طال عمرك بس يا ليت تعطيني سبب عشان أقتنع ، هذا كل اللي أبيه من الدنيا الحين، تمنعني منه ليه؟


،


في اليومِ التالي ، الساعة الثانية والنصف مساءً.
تُشبعهما الشمسُ من حرارتِها، يصخبانِ بهدوءِ الشارعِ عدا من زحـامٍ مشروع، إنمـاءُ صخَب، يتواتـر الحبْلانِ " اللّيلُ والنهار " في دفءٍ إلى حرٍّ يُلهبُ صدرهُ أكثر . . والآخر بعد إن استمعَ لحدِيثهِ بعينينِ متّسعتان استدارَ بقوّةٍ إليه بعد أن صَدمه ما سمَع : وش تقول؟
سلطان بهدوءٍ وهو ينظُر للأمام، أصابعهُ تطرقُ على المقودِ بانتظـار الاشارةِ الحمراءِ أنْ تخضرّ : اللي سمعته.
عناد دون تصديق : بتتوسط لقاتـل عند أهل المقتول عشان يرضون بالديَة؟
أردفَ بشكٍّ وهو يُهدِّئ من روعِه : قتل عمد؟!
سلطان بهدوءٍ بارِد وأقدامهُ تفرضُ التحرّك بعد أن التمعَ الضوءُ الأخضر : أيه.
رمقـه عناد لوقت، بملامِح هادئـة، وعينينِ طغـى عليهما هدوءٌ غريبٌ لم يُدركه سلطان الذي كان ينظُر للأمـام، بضعُ لحظـاتٍ وجيزة . . قبل أن يتراجَع للخلفِ ليسندَ ظهره على ظهر المقعدِ وهو يبتسمُ ابتسامةً فاتـرة، وبخفوت : تغيّرت كثير .. شخصيتَك ، قناعاتك ، قيَمك . . وش استفاد من كل هذا؟
" وش استفاد؟ " ، لم يركّز سلطان في معناها، ما يقصِد، ومن يقصِد! لم يبـالي من الأساسِ بما قـال وهو يهتف : إذا ما ودّك تجِي معي قولها ببساطة من الحين .. بتفهّمك.
عناد يتنهّد وهو يغمِض عينيه، فتحهما من جديد، ومن ثمّ نظـر إليه بهدوءٍ ليلفظ متسائلًا برويّة : القاتل خويّك؟ قريب منّك وما قدرت تتقبّل إنه يتعاقب بالقصاص؟
سلطان يبتسمُ بجمودٍ وهو يردّ دون النظر إليه : لا.
عناد : منت متقبّل يموت ببساطة حتى لو مو خويّك يعني؟
سلطان : بعَد لا.
عناد بصبر : أجل وش السبب عشان ترمي مبادءك وتشيل هم شخص قتَل عمد؟
سلطان بهدوء : كِذا .. القاتِل أنا ممنون له عشان شيء ، والمقتول شخص أعرفه وما كانت علاقتي فيه زينة .. فالقاتل أولى عندي بحياته منّه.
اتّسعت عينا عناد بصدمة، تصلّب ظهرهُ وهو ينظُر لهُ دون تصدِيق، لتلك النبـرة اللا مُباليـة، لكلماتِه المستفزّة لِقدسيّة الأرواحِ وجُرم امتهانِها، لم يُصدِّق ما سمِع ، هل سلطان من قالَها فعلًا أم تخيّل ذلك؟ كيفَ يقولها ومنذُ متَى تلبّسته تلك الغمامـة الرماديّة؟ متـى أصبحَت ملامحهُ هكذا؟ ما تلك العيُون الباردة؟ من ظنّ منّا أن سلطان عـاد بعد أن جاء للمشفى بروحٍ أُخرى؟ سلطان لم يعُد، سلطان مات! والذي يجلسُ بجانِبه شبحْ، وارتهُ الجدرانُ عن روحِه، عن جسدهِ الأمّ، ولم يستطِع اختراقها . . تلك الجدرانُ ما كانت؟ سلمان وحسْب؟ لا . . ما الذي حدَث؟ ما الذي بدّل في من أمامه روحَه؟
أشـاح وجههُ عنهُ دون تصدِيق، وانبثقَ من بئرِ الصمتِ عينٌ من حميمٍ أحـرق الصمتَ بعد لحظتينِ وحسب، أعـاد عناد ظهرهُ للخلفِ من جديد، ومن ثمّ هدأت نظراته المتّجهة للأمـام، بل تجمّدت! وصوتُه لفظَ بهدوءٍ يعتـذرُ في هذا الصرحِ عن زيفِ سُلطان ويعارِض سُلطانَهُ الجديد على جسدِه : منت رايح لأهل المقتول!
لم يتغيّر شيءٌ في ملامِح سلطان الذي كان قد وضع كلّ الاحتمالاتِ في عقلهِ عن ردّةِ فعله وأوّلها رفضَه أن يذهب : ليش؟
عناد بهدوءٍ ظاهريّ : اللي يسيّرك شيء غلط، ما أدري وش هو بالضبط، بس ماهي من قناعاتك ولا قِيَمك اللي تحرّكت .. منت أنت!
سلطان بجمود : يستحق فرصة ثانية.
عناد ينظُر إليه بحدّة : من باب إنه يستحق فرصة؟ بس أنت مو رايح لهالسبب ومن هالمنطوق .. أنت ما حطّيت اعتبار لمسألة القتل وشايل هم قاتل بس لأنّ المقتول شخص ما يهمّك! أنت رايح لأنّ الموضوع شخصِي ، وتجاهَلت كل التفاصيل اللي تخليك تحتقر فكرة روحتك!
سلطان : عندَه عائلة هو اللي يهتم فيها .. مالهم رجّال غيره.
عناد بغضبٍ ينهرهُ عن زيفِ أعذارِه التي يدرك أنّها لم تكُن هي الدافع : سلــطان !!!
التفتَ أخيرًا إليه التفاتةً سريعة ليُعيد نظراته للطريقِ مباشرةً وتُوقِفهُ إشارةُ مرورٍ جديدة . . حينها استدار، بكامِل تركيزِه، وكامِل الصلابـة في ملامِحه، وكامِل شفافيّةِ - الأشباح - في روحه ، وعدمُ سُلطان! : مشكلتك مع قراري أيش؟ قلتلك لو ما تبي تكون معي عادي ما راح أعتب عليك.
عناد يمرّر لسانه على شفتيه ومن ثمّ يزفُر بتروّي، غضّن جبينه وهو يهتفُ بتوضيحٍ هادئ ظاهريًّا : أنت ماخذ في بالك اعتبار إنّه قاتل وبتعمّد وبكامـل اختياره؟!
سلطان بنبرةٍ لا روحَ لها، تُسـاومُ قناعاته، تساومُ الشعلـة الباقيةَ في صدرِه لتنطفِئ ويبقى هكذا .. ليس هو! : وأنت يوم إنّك معاه كنت ماخذ ببالك إنه قاتل؟ إنّه لأكثر من 15 سنة الرجّال الصالح والسويّ وهو منافق؟ وإنّه ورّط اسم بريء مكانه؟
فاجأهُ ما قـال، لم يتوقّع أن يُحضِّرَ روح سلمان الآن ويبنِي الموضوع في تشابهه عليه! ابتسمَ سلطان بسخريَة ، ودون أن يهدِه الوقت الكافي ليردّ كـان قد أردف : شوف ، أنت لك كامِل الحرية باختيارتك، كامل الحرية بقناعاتك ، وحرّيتك في نظرتك للي قدامك .. كونك معه هذا ما صار يعنِي لي شيء، محد معك بكل شيء! عشان كذا أتفهّم . . كون معه لو تبي، اضحك له ، متقبّل كل هالشيء ومحترم رغبتك .. كون معه ، بس لا تكون ضدِّي! لا أكتشف بيوم إنّك تخدعني لأني مقدر أقيّدك بمشاكلِي وأخليك تكره اللي أكره وتحبّ اللي أحب، بس لا تكون ضدّي! . . مثل ما أنت مع قاتِل أبوي أنا مع قاتـل شخص ما يعنِي لك شيء ... تفهّمها مثل ما بديت أتفهّمك وأنت سقطَتك أكبر . .
وضعَ كفّه على رأسه دون تصديق، منى تفهّم؟ متى استطاع! هو لم يتفهّم بل بات كلّ شيءٍ أمامه لا يهم! هو لم يتفهّم بل تبلّدت حواسّه تجـاه من حولِه ، متـى حدث كلّ ذلك دون أن ينتبه كما يجب؟ متى حدَث وانطفأت الكلمـاتُ الدافئة على شفاهِ صفحاتِه؟ متى انسكَب من قلبِه اللا اهتمـام؟ هو لا يتصنّع ، هذه المرّة يدرك أنه لا يتصنّع بل أنه لم يعُد يهتمُّ بما ذكره فعلًا!
حرّك سلطان السيارة وهو يبتسـم من العدم : هاه وش قرارك؟ بتجي معي والا!
صمت عناد لبعض الوقتِ وعيناهُ لا تنظُر إليه، ينظُر للسياراتِ المُتحرّكة أمامه بضيق ، يمرّرُ الثوانِي من حدِّ سيفِ هذا الجوِّ الموبوءِ بالترهات! نعم ترهات !! .. كيفَ حدث ذلك؟ كيف !!!
لفظَ بخفوتٍ بعد برهةٍ من الصمت : معك .. ونشوف آخرتها.


،


في بروكسيل، تشتَّتَ عقلُها وهي تتابعها بأحداقٍ يلتمِعُ منها بصيصُ الاستنكارِ الذي نما حتى باتَ ضوءَ منارةٍ تائهـة، عقدَت حاجبيها بضيق. تجلسُ على إحدى الكراسي شاردة، تسندُ مرفقيها على الطاولـة البيضاء وعيُونها تنطفِئ منها إمـاراتُ الإدراك.
لفظَت جيهان بضيق : أرجوان !
سمعتْها ، من الجيدِ أنّها سمعتها! أدارتْ رأسها إليها ببطءٍ لتنظُر لها دون تركيز، تقفُ مستندةً عند حافّة النافـذة بظهرها، تكتّف ذراعيها أسفل صدرها ، أردفَت : شفيك؟ منتِ على بعضك من أمس .. كنت أظن إنّه عشان ليان بس واضح إنّه لا.
أشاحَت أرجوانْ عينيها عنها لتنظُر للأرضِ بصمت، في النهايـة لم أكُن أحلم، كان كلّ شيءٍ حقيقة! كـان حقيقةً رماديّة، بل نكتةً بيضاء في سوادِ الزيف! أن تكتشف زيفهُ هي فقط، في معمعةِ الخداع ... هل كان ذلك جانبًا مُشرقًا من الأمـس أم جانِبٌ فتْك؟ لكنْ ما كانت الفائدة؟ هل استفادت شيئًا؟ هل ستستطِيع فعل شيء؟ أمْ أنها ستتألـم لا غير ، تراقبُ صامتة!!
لم تُجبها على سؤالها ذاك، بل ابتسمَت ابتسامَةً زائفـةً وهي ترفعُ عينيها إليها ومعهما حاجبها الأيسر الذي استندَ على استنكارٍ خافِت، لتلفظَ بتساؤلٍ عابِثٍ تمحو بِه اختلاجاتِها السيئة : ما تتوبين؟ وش عندك واقفة جنب النافذة؟
عضّنت جبينها قليلًا وملامِحها تعبُس كعبُوس الليالـي في صباحاتٍ كثيفـة ، كاعتراضاتِها على الشروقِ لتمضِي بظلامِها . . هتفَت ببرودٍ وهي تصدُّ بوجهها نحو النافذةِ وتنظُر للشارعِ ووالدها بعينينِ باردتين، وبلا مبالاة : لا تفسرين على كيفك لو سمحتِ! قاعدة أراقب أبوي والوسيم اللي معه.
اتّسعت عيناها بشك ، الوسيم الذي معه!! . . قفزَت فجأةً وهي تكتمُ شهقةً من صدرِها، لم يكُن الأول - بدر - فوالدها من الواضِح أنّه قطـع علاقته بِه، ولا تظنُّ أنه شخصٌ غريب .. بالتأكيد هو! لا أحـد سواه !!
تحرّكت بخطواتٍ غاضبـةٍ نحو النافذة في اللحظة التي عقدَت فيها جيهان حاجبيها باستغرابٍ وهي تلتفتُ إليها بعد أن استشعرت خطواتِها المندفعةِ نحوها.
وقفَت أرجوان أمام النافذة لتتّسع عينيها بشكلٍ تلقائيٍّ ما إن رأت الرجُل ذاته، هو ، بكلّ بجاحـة . . هو!!
ارتفعَ صدرها بزخمٍ عالٍ من الأكسجين الذي كان اختناقًا عوضًا عن عدمِه، شدّت شفاهها بغضب وقهر، يا الله كيف عساها تصمُت؟ ما الذي يريده من والدِها، ما الذي يريدهُ منه بالضبط ولمَ هو تحديدًا؟!! كيف تصمت، كيفَ تراقبُه وتخنُق الكلماتَ في حنجرتها؟!
ظهرَت انفعالاتُها جليًا أمام جيهان التي كانت تنظُر لها دون استيعابٍ للتقاسيمِ التي تظهرُ على وجهها، أعـادت نظراتها إلى والدها وذاك الشابْ، ليان تقفُ معهما، يُمسك بِها يوسف وينحنِي ذاك الرجُل إليها وهو يداعبُ شعرها ويُحادِثه بينما ليان لا تفقـه ما يقولان.
نظرَاتُ أرجوان غاضِبة! بطريقةٍ مـا كان يملأوها الغضب! . . في حينِ كانت عينيْ أرجوان تشتعِل بغضبٍ وهي تشدُّ على أسنانها وتصرخ داخلها " لا تلمسها "!!
أخرجتها جيهان من حالـة الصراخ الداخلـي والغضب الذي تلبّسها بصمتٍ كاد أن يفجّرها : لو ما أعرفك كنت بقول ودك تشوفين خشّته وخاقة عليه عشان كذا جيتِ تراكضين لما قلت وسيم . . . . . ليش معصّبة؟
تفاجأت أرجوان من سؤالها، ماذا كانت تظنُّ؟ بالتأكيد كان غضبها هذا ليكون واضحًا! . . مرّرت لسانها على شفتيها ومن ثمّ ضيّقت عينيها قليلًا لتهتفَ بنبرةٍ هادئـةٍ كذبةً ارتدَت وشـاح الحقيقة : ما أبي أبوي يعرف هالأشكـال ... يكفّي وثق بالأول ذاك وطلع حقير.
جيهان دون فهمٍ حتى الآن لحجمِ غضبها عقدت حاجبيها قليلًا، وبهدوء : شوفي أنا صح من البداية مو متطمّنة له وقلتها، شكله من نسل مسيلمة الكذاب بس عمومًا ما أتوقعه يعني نذل وحقير على قولتك .. بس متصنّع واضح هالشيء.
ابتسمَت بسخرية، متصنّعٌ فقط؟ لم يتوقّف الأمـر عند تلك الصفة، ذلك الرجُل خطير ! خطيــرٌ بدرجة لا تكفِي الكلماتُ لتصفه!!

في الأسفل ، استقـام تميم يكتمُ ضحكتهُ بملامِح هادئة يتصنّع بها عدمَ الفهم وهو يسمعُ ليان التي نظرت لوالدها بتذمّرٍ وهي تلفظ بخفوت : وش تقولون؟
نظر لها يوسف وهو يبتسم : بعدين أقولك حبيبتي خليك بس عاقلة.
ليان تعقدُ حاجبيها وكأنّها تحاول التأكّد من أمرٍ ما تذكره ، وبتساؤل تقتربُ منه وكأنّها لا تريد لتميم أن يسمـعها : هذا اللي كان معانا بالمطعم صح؟
ابتسم حتى ظهرت أسنانه وهو يفهم أيّ مطعمٍ تقصد وأيّ يوم، حين سلّم عليه وبقيا يتحدّثان لدقائق، هزّ رأسه بالإيجابِ وهو يلفظ : أيه حبيبتي.
ليان : اها كانت جوج تقول عنه كذّاب وحلو .. عرفته عرفته.
بهتت ملامِحه قليلًا إلا أنه لم يفقدْ ابتسامتهُ التي ارتبكت وهو يزفُر ويشكر الله أنّه لا يفهم حديثها، ستجلب أحداهما لهُ مصيبةً ذات اليوم! جيهان أو لسان ليان الذي يسرد ببراءةً كلّ ما تسمع !!
بينما حافظَ تميم على قناعهِ الهادئ أمامه، يتصنّع عدم الفهم وهو يلفظُ بابتسامةٍ هادئة : اسمح لي.
أومأ لهُ يوسف بصمت، ليتحرّك تميم مبتعدًا ، وما إن استدارَ حتى رفعَ حاجبه الأيسر بتفكيرٍ عميق/غاضبٍ بعض الشيء، من تقصِد بـ " جوج؟ " أكانت تلك التي تصادم معها البارحة أم الأخـرى؟ لا يدري أيّ مطعمٍ قصدت وفي أيّ يوم .. لكنْ لو أنّها كانت نفس الفتاة وهذهِ الجملة في وقتٍ قريب لما ألحقتها بوصفٍ مادِحٍ كـ " حلو "!
ابتسمَ ابتسامةً باردةً وساخـرةً في آن ، لنرى إلى أين سنصِل !!

يُتبــع . .



كَيــدْ 22-09-16 10:48 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



،


وصلا إلى عتبـة الباب، وصـل إلى مبتغاه ببساطة، وانتهـى النقـاشُ الذي احتدَّ مرّاتٍ من جانِب ذاكَ لصالحِه، استطـاع أن يكسِب رضاءهُ على الديَة ، وأخيرًا !
ابتسمَ سلطان ابتسامةً غريبةً على ملامِحه وهو يخرجُ ومن خلفِه مراهقٌ كـان ينظُر لهما بنظراتٍ فيها الكثيرُ من الحقد، لم يخرجْ خلفهما والدُ إبراهيم بل ترك هذا الصبيّ ليُخرجهما.
نظـر له، ومن ثمّ أغمضَ عينيه بحركةٍ وداعيةٍ فاترة دون أن يلقِي بالًازبنظراته، بينما ابتسمَ لهُ عناد وهو يلفُظ بتفهّم، يدرك الحقدَ في عينيه ويلُوم سلطان على ما فعَل تحت ذريعةٍ جافّةٍ لا تكفِي! : الله يرحمه ، هو أكبَر أخوانك؟
رمقهُ الصبيُّ للحظاتٍ دون إجابـة، تشتعلُ عينـاهُ بحقدٍ يلفظهُ إليهما، يُخبرهما مليًّا أنّه لم يرضى بأن يذهبَ دمُ أخيه بمـال!
أجابَ من بين أسنانِه بعد وهلةٍ من الصمت : لا ، قبله كان فيه واحد ومات بحادث سيّارة ... واللي صدمه ما نعرفه ، هرب ولا عرفناه ، والحين ذا ذبح أخوي ونعرفه ، تجون أنتوا تقنعون أبوي يعفي عنه! أبوي ما يحبّه .. كان دايم يهاوشه ويعصب منه .. ما يحبه مثلي ومثل أمي .. أنتوا استغليتوا هالشيء .. هو انقهر على موته بس مو مثلنا، هو ما يحبه كثير وممكن ينسى ، بكى عليه بس مو مثلنا ، قال إنّه كان ولد عاصي وكان يتوقّع إنه يموت بطريقة شينة من مصايبه ومن نفسه .. هو ما كان يحبه مثلنا! عشان كذا عادي يرضى يترك اللي قتله ، وأنتوا استغليتوا ما فكرتوا فيني وفي أمّي !
انفجَر وكأنّه كان ينتظرُ حديثًا من أحدِهما . . صدّ سلطان عنه، كيفَ تهزِمه نظرةُ طفلٍ وكلماتُ طفلٍ ونبرةٌ حارّةٌ من طفل! كيفَ تهزمهُ حرقة قلبِ طفلٍ ثـار على روحٍ فقدها كما حدَث لهُ قبل سنين ... يُشبهه، كم يُشبهه! يا الله كم تشابكت أقدراهما بطريقةٍ مـا، كلاهما فقدا عزيزًا، كلاهما سيبقى القاتـل طليقًا، لن يأخذ العقاب المرجوّ ولن يموتَ كما أهدر تلك الروح ، يا الله كم يُشبهه! هل يُشبهه حين كـان طفلًا حقًا؟ يذكُر الكثير من التفاصِيل ، لو أنّه علِم سريعًا عن القاتـل كان لينفجر مثلهُ بنارٍ أكبر من سنِّه ، يذكُر الكثير ، الكثيييير !! في طفولتِه لم يخبره سلمان أنّ القاتـل - تلفيقًا - كان راضِي، لأنّه من جهةٍ أخرى يدرك حبّ الطفـل له ، كان يظنُّ أنهم لم يجدوا من قتـل والده، ولم يدرك إلا حين كبُر . . كيفَ كانت مشاعرهُ في ذلك اليوم؟ حَقد ، حَقد ، كحقدِ هذا الصبيّ أمامَه ، يا الله ما الذي يفعلـه؟ . . وكأنّه أفاقَ وشعرَ أخيرًا بحجمِ القهر الذي سيولّدهُ في روحِ طفلٍ يقاربُ من عمرهِ يوم فقد والده . . ما الذي يفعله؟
التهمتهُ من تلك اللحظـاتِ صرخةٌ حادّةٌ جاءَت من داخِل البيت، جعلتْ الطفـل ينتفضُ فجأةً ويشدُّ على مقبضِ الباب الذي كان يقِف عنده، تتّسع عيناهُ بصدمةٍ اهتزّت في صدرهِ وهو يسمعُ صراخًا أنثويًا استطاعا استنتاج هويّة صاحِبه ، كانت الأم الثكلى، تصرخُ باعتراضاتٍ محترقة، قريبةً وصلت إليهما : لااااااا ، ما يروح دم وليييييدي بفلوس ما يرووووح ، شلون توافق شلون؟ قلت لك لا توافق ، قلت لك بتكون وقتها عبد للفلوس ترخص ولدك عشــ . .
بُترت كلماتُها وقتذاك وانطفأ صوتها ولم يسمعا المزيد، لكنّهما وجدا في تلك اللحظـة ذاك الصبيّ ينكمـش على البابِ ويستسلمُ لدموعٍ مقهورة، يبكـي بحرقةٍ وهو يُغمض عينيه، في حينِ وجّه عناد نظراتِ لومْ لسلطان الذي لم ينظُر إليه، بل كان يوجّه نظراته للصبيّ أمامه ، ويرى نفسهُ فيه.
تحرّك بعد لحظـة، لم يبتعِد، بل تقدّم إليه حتى وقفَ أمامه مباشرة، شعرَ بهِ الصبيّ ليفتحَ عينيهِ وينظُر إليه بغضب، وبصرخةٍ مقهورةٍ ملأت عنـان صدره : وش تبي واقف بعد؟ انقلـع لخويّك المجرم .. أنت أصلًا أكيد مثله ما راح تطلع منها . . .
أخفضَ سلطان جزءَه العلويَّ من جسدهِ في تلك اللحظةِ إليه وهو يبتسمُ ابتسامةً حنونة، وصل إلى مستواه، وتلك الابتسامـة اختلفت عن ابتسامته السابقة والتي كان قبل لحظـات ، ابتسامةً جعلَت الصبيّ يصمتُ وهو ينظُر إليه دون استيعابٍ وببهوت !
سلطان بهدوء : أنا مو مثله .. أنا مثلك أنت.
رأى الصدمة في عينيْ الصبي، لكنّه سرعان ما تجاوزها ليهتف من بين أسنانه بغضب : تخسي . . ما بقى إلا أمثالك.
سلطان دون أن يرى في كلماتِ الطفل ما يغضِبه ، لفظَ بهدوءِ نبرتهِ ذاتها : أبوي انذبح وأنا صغير ... والقاتل للحين ما تعاقب ولا حتى دروا عن اسمه! القاتل شخص عايش مبسوط والناس تحبّه . . بس اللي ذبح أخوك الناس كلها بتدري عنه ، وحتى لو كمّل حياته ما راح يتهنّى فيها مثل ما يبي.
هدأت ملامح الطفلِ قليلًا ممّا سمِع ، والدهُ قُتل، والقاتِل طليقْ ، يعيشْ .. كما سيحدُث في مأسآتِهم! . . كان قد هدأ مصدومًا، لكنّه أزاح صدمتهُ جانبًا حينَ وجَد حقدهُ يتصاعدُ منه بعد أن أدرك تلك النقطـة، قُتل والده ، ورغم أنّه يدرك شعوره الآن لم يُبالي! لم يُبالي أبدًا !!
لفظَ بحقد : مع كذا توقف بصفّ المجرمين وتحرق قلوبنا .. احنا وش ذنبنا إذا كان خويّك؟!
سلطان برويّة : تدري وش أحسن من القصاص ومن الدية بعد؟ بعيد عن العفو وكل شيء . . تصدّق عنه وادعي له . . لو كنت تحبّه تصدّق عنه واكبر على الصدقة والدعاء ، القصاص يبرد قلوبنا، بس اللي مات أيش يحتاج أكثر؟
الصبيُّ بغضب : قلتها .. يبرّد قلوبنا . .
قاطعه سُلطان بابتسامةٍ حنونة : قلوبنا أهم من حاجة الميّت للحسنات؟ الديَة لو تبني فيها مسجِد له مو أفضل؟ . . شوف بسألك ، شلون كان إبراهيم وهو حيّ؟
الصبيّ باستهجانٍ يلفظُ بتساؤل : ما فهمت.
سلطان : كان يحافظ على صلاته وما كان يزعل أمّك وأبوك وكان صالح؟
صمتَ الصبيُّ فجأةً وصدَّ عنه بغضب، كان يريد أن يقول لهُ بكلّ حدة " أيه " لكنّه صمت لا يجدُ مبرّرًا للكذب ، حينها اتّسعت ابتسامة سلطان بتفهّمٍ وهو يربّت على كتفِه : كلّم أبوك يبني عنه مسجد ويحجّ عنه لو يقدِر . . يمكن يجي بيوم القيامة أفضل من هالقاتـل . . يمكن هالشيء خيرة له أكثر من القصاص .. واضح إنّك ذكي وبتفهمها.


،


بعد صلاة العصرِ بقليل، كانت المساجِدُ قد انطفأ صوتُها قبل لحظاتٍ وجيزة، لم تُغلق أبوابُها وبقيَ فيها من بقي . . رفعَت سجّادتها ورداء الصلاة لتطويهما وتضعهما على طرفِ السرير، نظـرت مليًّا إلى النقوشِ المرتسمَة على السجّادةِ وكأنّها تغيب ، تغيبُ بين دهاليـزها ، كان غيابُها شرودًا ، وتفكيرًا تائهًا ، وظلماتٌ بعثَت في صدرِها فتورًا ، ومغيب !
لا تستطِيع حتى الآن أن لا تكون طامِعةً بِه ، دعَت في كلّ سجدة " اللهم سخّر قلبه لي " ولم تتوانَى في محاولة الخشوع . . هو من أمسكَ يدَها لتسيرَ في الدربِ الصحيح، وهي الآن تتمنّى ، بملءِ خشوعها ، أن تسيرَ في دربِه هو.
خرجَت من الغرفةِ وهي تتنهّد وتمسحُ على فكّها ومن ثمّ تمرُّ على عنقها، تأوّهت فجأةً حين مرّرت أظافرها الحادة دون شعورٍ منها بقوّةٍ على جلدِها الرقيق، لوَت فمها بغضبٍ مُفاجئ ، ومن ثمّ مسحَت على الخدشِ البسيطِ وهي تُشدُّ على شفتيها وتفرّغ غضبها ذاك بشدّها عليهِما ، غاضبـةٌ من نفسها ، فقط من نفسِها! ليست غاضبةً ممّا حدثَ لها ، بل غاضبةٌ من نفسها الواهنـة والغبيّة التي أوصلتها إلى هنا . . والآن لازالت ضعيفة !
اتّجهت لغرفة أمّها ، طرقَت الباب بهدوء، لم تجِد إجابةً لذا غضّنت جبينها وكادَت تتراجـع بتردّد ، لكنّها عوضًا عن ذلك تقدّمت بربكة، فتحت الباب ودخَلت هاتفةً بمناداةٍ خافتـةٍ متردّدة : يمه . .
صمتت فجأةً وهي ترفعُ حاجبيها، كانت تسجُدُ في لحظةِ دخولها ، تُصلّي ! . . ابتلعَت ريقها بربكـة ، صدمها رؤيتها وكأنّها لم تراها من قبل ، نعم! تذكُر أنّها في لحظـاتٍ قليلةٍ قد رأتها ومن المستحيل ألا تكون رأتها خلال أربعةٍ وعشرينَ عامًا! لكنّها نسيَت ، وحين رأتها الآن شعرت بشعورٍ غريب! لم تفهمه ، لا تدري ماهو .. كـان غريبًا، لكنّه بالمقابل، موجع!
كادَت تتراجـع، لم تنتبه أنّها أطالت في النظـر إليها بعينينِ متفاجئتين ، بعينينِ فاترتين ، باهتتين، جفّت زواياها وكأنّ خريفًا آواها . . أطالت حتى انتهَت أمها، وفي اللحظة التي كانت فيها تتراجـع كان ام غزل تستدِير وهي تبتسم هاتفة : تعالي خلصت.
توقّفت غزل وهي تعقدُ حاجبيها قليلًا، مرّرت طرف لسانها على شفتيها ، ومن ثمّ تحرّكت بخطواتِها المتّزنة اتزانًا معوجًّا لتدخـل، أغلقَت البابَ بعد دخولِها قبل أن تتابـع اقترابِها منها حتى جلسَت على طرفِ السريرِ حيثُ أشارت أمها وهي تترك سجّادتها ورداء الصلاة في موضِعهما دون أن تطويهما كما ينبغِي.
اقتربَت منها بعد ذلك لتجلسَ بجانِبها وهي تضعُ كفّها الدافئـة على كفِّ غزل من فوقِ حُجرها، وبابتسامةٍ ناعمة : وش كنتِ تبين حبيبتي؟
نسيَت، ببساطةٍ غرقَ ما كانت تريد قولهُ في بحرِ النسيـان، أخفضَت وجهها إلى كفِّ أمها المسترخِي فوقَ كفّها، سُمـرةٌ من لهبِ جيناتٍ كانت في قاموسها " خيبات "، سُمرةٌ تُطابقها فيها ، من أينَ استمدّتها هي؟ من لهبٍ مثلها خُلق معها في رحمِها؟ أم كـانت صبغةً تعنِي انسكـاب الدلالِ في طبقاتٍ تراكمَت وأحالتها اسمرارًا زاهيًا !
عادَ الضيقُ يغزوها، رغمًا عنها كانت ترفعُ عينيها/سهامها المعطوبـة بعدمِ الاندفاع، تُطلقها وتسقُط في غياهِب الانكساراتْ . . حدجتها ببصرٍ مكسور، ورغمًا عنها أيضًا، كان صوتُها ينسكبُ بخريرِ نهرٍ رغمَ جريـانِه لُوِّث! : من متَى تصلّين يمه؟
وكأنّها ألقَت غبارًا من الصدأ، نثـرتهُ في تقاسيمها التي تجمّدتْ من صدأ هزَّ أركانَ الصلابـة والالتماع ، كـان سؤالها صادمًا، غريبًا! جعل ملامحها باهتةً برماديّةٍ مُشرئبّةٍ باسمرار، عقدَت حاجبيها الرفيعين، توتّرت للحظـة ، وبخفوتٍ لا تدري ما ردّة الفعلِ المُلائمـة : من صغري ، ما أذكر كم كان عمري بالضبط.
غزل ببهوتٍ متحسِّر : كنتِ قد تجاوزتِ العشرين؟
ام غزل بغرابةٍ ترفعُ حاجبيها وهي تُجيبها : لا ، كنت أقل من 18 سنة ما أذكر كم بالضبط.
غزل باختناقٍ تقوّسُ فمها وهي تهمس : يعني ممكن 15 ، وممكن قبلها بعَد . . يعنِي تدرين وش الدِّين وما اهتميني لو دخلت النار !
اتّسعت عيناها بصدمَةٍ تشنّجت بها كفُّها التي انتشـر فيها صقيعٌ طردَ الدفء، ظلّت متجمّدةً للحظة وحديثها فاجئها ، بديهيٌّ أن تدرك أينَ كانت ابنتها، بديهيٌّ أن تراها بكلُّ منقّصاتِها وبكلُّ صفاتِها، عاداتها، تُدرك منها الكثير والظاهـر لكلّ أم ، لكنّها إطلاقًا ، لم تفكّر بأن توجّهها !!
غزل بعتبٍ موجوع تشدُّ على شفتيها كيْ تُطفِئ رعشتهما : لو ما تزوجت سلطان ، لو ما عرفته .. ما كنت بعرف أصلّي بيوم ويمكن بالنار وعادِي! ما فكّرتِ بهالنقطة ، ما أهمِّك ، بأبسط الأمور ما أهمِّك.
لا تجدُ ردًّا ، لا تدري ما تقُول، لكنّها شدّت على كفّها في النهاية، وانسكبَ من بينِ شفتيها تبريرٌ باهِت/شفّاف لا معنَى له! : تركتِك لطبيعة الحياة من حولك .. أكيد بتعلّمك ... محد ما يعرف الدين بهالوقت! فكنت متأكدة بتعرفين بنفسك وتمشين بالطريق الصح!
ابتسمَت ابتسامةً ساخِرة، صدّت عنها وهي تشعُر بالقهرِ من ذاك التبرير السخيف! نظـرت للأرضِ لوقت، لو كانت قناعتها صحيحةٌ لفعل سلطان نفس ما فعلت أمها وتركها للبيئة كيْ تعلّمها وللزمان الذي قِيل فيه " لا أحد يجهل ! " . . مرّرت طرف لسانها على شفتيها، ومن ثمَّ هتفَت بسخريةٍ وهي تنظُر للفراغ : لو محد جاهِل ، فيه اللي ساذج وما يدرِي بقيمة الصحّ! مو كل عارف بيطبّق اللي يعرفه ، أجل دامك تعرفين اسم المسيحية صيري مسيحية ، مو منطق هذا ! لمتى كنتِ منتظرتني أوجّه نفسي بنفسي؟ لما يصير عمري ثلاثين؟ خمسين ستين! أو لما يصير عمري برزخي؟!
ام غزل تُغضِّن جبينها باستياءٍ من حديثِها ونبرتها التي احتدّت فجأة : غـزل . .
غزل تقاطِعها وهي تقفُ دون أن تنظُر إليها : آسفة .. ما قصدت.
ام غزل تتنهَّدُ بضيق : اجلسي .. إنتِ تدرين إنّي غلطت ، كل شيء وكل شخص من حولك كان غلط ، عشان كذا امسحي كل القديم وخلينا نبدأ من جديد ... الحمدلله إنّ ربي كتب لك ولي عُمر نعدّل فيع من أخطاءنا.
غزل تبتسمُ بأسى وهي تنظُر إليها : كل شيء من حولِي كان غلط ، إلا هو !
ام غزل بحزم : بتنسينه بهالوقت لين ما أشوف لك صرفة وأخليك تقبلين بموضوع الخلع . . اجلسي بتفاهم معك .. إنتِ لازم تعيشين حياتك وتبدأين من جديد . .


،


استندتْ قُبلةٌ حنونةٌ على جبينِه، عينيهِ الصغيرتين النائمتينِ على سحابـةِ مرَض، أنفه الصغير، وأصابعٌ تتخلخلُ خصلاتِ شعرهِ الشعثـاء والملتويـةِ بتشابكٍ يُشبه تشابك الحسرة في قلبها، تجلسُ على طرفِ سريره، وتبتسم لملامِحه الصغيرةِ وهي تستشعرُ الخطواتِ التي تعبُر بخفوتِها وهدوئها من حولِها كي ترتّب بعض الفوضى في غرفته.
تناولَت جودْ بعض الملابس من الأرض، تجمعها بينَ يديها ومن ثمّ تتّجه للباب حتى تأخذها لغرفة الغسيل، نظـرت نحو بثينة وهي تقفُ أمام الباب المفتوح، ابتسمَت ابتسامةً ناعمة، وبنبرةٍ خافتـةٍ تحاول بِها مواساتها : بيكون بخير ، لا تعطين الموضوع أكبر من حجمه وتوسوسين معه.
لم تُجبها بثينة وهي تنظُر نحو زياد النائِم، تمسحُ على شعرهِ وعيناها تُعتمـان بحسرتِهما.
تنهّدت جود، لتردف أخيرًا بخفوت : أبوه مو مقصّر و . .
قاطعتها بثينة التي أدارَت رأسها بعنفٍ لتظهر عيناها اللتين اشتعلتـا عوضًا عن عُتمتها قبل ثوان، شدّت على أسنانها بغضبٍ مُفاجِئ، وكأنّها كانت تنتظرُ ما يغضبها كي تصرخ ، كي تثُور على حسرتها بالغضب ، لكنّها الآن لم تكُن لتستطِيع الصراخَ وزياد نائم ، لذا لفظَت من بين أسنانها بنبرةٍ خافتةٍ رغمَ حدّتها : الله لا ياخذ إلا أبوه ..
جود بهدوء : ما يصير بثين ، سيف ماله دخل هذا أمر ربّك . .
بثينة تقاطعها بغضب : الله ياخذ من عمره ويطرحه في وليدي ...
جود بصبرٍ تتنهّد : العمر مقسوم محد ياخذ عمر أحد .. لا تفجرين بالقول الله يهديك بس.
بثينة : اذلفي من وجهي .. أنتِ طول عمرك بصفّه منتِ مع أختك .. انقلعي الله ياخذك أنتِ وهالسيف.
هزّت رأسها بالنفي، لا فائـدة ترجى من الحديثِ معها، لكنّها أيضًا لا تستطِيع العتب عليها في خضمِ حسرتها هذِه .. زفـرت وهي تتحرّك وتخرج هذهِ المرّة دون إضافـة كلمةٍ أخرى ، بينما نظرت بثينة إلى زياد لتبتسمَ بحبٍّ وهي تهمس : يا حبيبي يا زياد.


،


هرولَت الأيامِ على جبينِ الوقت، عجّنت ما بينَ حاجبيه في استيـاء، ولَّفت فواقَ البسمَة الصاخبـة، وليست العابـرة والتي يُطفئِها نسيمْ.
أطبقَت شاشةُ حاسوبها وهي تبتسمُ براحـة، توجّه عينيها إليه، ترفـع حاجبيها بقليلٍ من التحدّي والانتصار وهي تلفُظ : A+
ابتسَم أدهم وهو يحرّكُ كفيه بالهواءِ مغيظًا لها، يجلسُ على كرسيٍّ ينزوِي بعيدًا عنها وهو يلفُظ باستفزاز : فيه غلط صدّقيني . .
إلين باعتزازٍ ترفـع ذقنها : لا تحاول ، المزاج عال العال ما راح تخرّبه عليْ.
أدهم : تدرين إنّي على إهمالي وتلاعبي بالدراسة ولا رسبت بمادة بيوم؟
تتصنّع أنه لا يستفزّها، لكنّه كان ماهرًا، إن لم يكُن في كلماتِه ففي صوتِه، ملامحِه، عيناه الباردتان . . صفّقت بكفيها وهي تهتفُ بذهولٍ متصنِّع : وااااو أنت معجزة لازم تُدرَّس في الأجيال اللي طموحها الفشَل.
أدهم : هههههههههههههههه صدقتي والله ، ما كنت أرسب بمادة بس قد عدت سنة بكبرها يا حليلي.
اتّسعت عيناها بصدمة وهي تفغرُ فمها، إلا أنها سرعان ما أطبقتهُ وهي تضيّق عينيها بغيظٍ وتُتمتم بصوتٍ وصل إليه مشوّشًا بسخريةٍ حانقة : ما شاء الله . .
أدهم يبتسمُ ببرود : تبيني أعلّمك؟ بس هذي ما يفهمها إلا العباقرة.
وضعَت حاسوبها جانبًا وهي تنهضُ من السريرِ وتتحرّك باتّجاه البابِ كي تخرج وهي تلفُظ باستهزاء : العباقرة في الفشل . . الله يخلف عليك.
أدهم : من باب الطيبون للطيبات ترى الفاشلون للفاشلات.
إلين : وأنت الصادق أنا حالة اجتمـع فيها سوء المنقلب والحظ ، الله يكون بعوني بس.
أدهم يضحكُ ضحكةً استفزّتها ومن ثمّ يلفُظ بأمرٍ رقيق : تعالـي يا حلوتِي ..
إلين تعقدُ حاجبيها وهي تلوِي فهما بامتعاض : وش تبي.
أدهم يـشير إلى خدّهِ وهو يبتسمُ بمكر : وحدة بس.
انفجَرت ملامحها بحُمرة الخجَل، شدّت قبضتيها بحنقٍ وهي تصدُّ عنه في اللحظة التي صدَح فيها صوتُه بتسليةٍ وعبث، تحرّكت تنوِي الخروج، إلا أنّه وقفَ سريعًا كي يهرولَ إليها وتصرخ رغمًا عنها بهلعٍ وهي تسرع للخرج ، لكنه كان أسرع، أمسكها من معصمها ما إن تجاوزت الباب وسحبها إلى صدرِه الذي ارتطمَت بِه ، شدّت على أسنانها بغضبٍ وهي تضربُ صدره بقبضتيها وتهتفُ بنبرةٍ مختنقةٍ من الخجل : سخيف .. وربي سخيييييييف . .
أدهم يمدُّ إحدى يديه ليضعها على البابِ ويُطبقه ، تراجعَ بِها حتى ألصقَ ظهرها بِه وهو يبتسمُ بمكرٍ لملامِحها المضطربة حرجًا : والحين وين بتروحين؟


،


" أنت دايم ما تجِي إلا وفارس مو هِنا؟ "
ضحكَ على تعليقها ما إن فتحَت البابَ ورأته أمامها، يُدرك أنّ فارس ليس في المنزِل فهو قد حادثهُ قبل وقتٍ وجيز، هو جـاء لأجلها هي وليس لأجل فارس.
لفظَ فواز بضحكة : أعتبرها طردة؟
شعَرت بالحرجِ إلا أنها لوَت فمها وهي تصدُّ وتهتفُ بتذمّر : ادخل.
انزاحَت عن البـاب كي يدخُل، تقدّم وهو يهتفُ بهدوء : بنتظرك بالمجلس جيت عشان نطلع.
جنان تعقدُ حاجبيها باستنكار : وشو؟ كذا بدون لا تعلمنـي من قبل؟!
فواز يرفعُ حاجبهُ وهو يمرّرُ اصبعه على أرنبةِ أنفه : ما يبيلها .. اكتشفت إنّك من أقليّات أنثوية تجهز بسرعة.
تراجعَت للخلفِ ووجنتيها تحمرّانِ قليلًا وهي تشعُر بدغدغةٍ سرَت في أنفها، وبنبرةٍ فيها الكثيرُ من الخجل والغضب للمسته تلك : متى أمداك تكتشف هالمعلومة إن شاء الله؟
فواز : هههههههههههههه وش هالجلافة يا بنت؟ عمومًا اكتشفت وبس ، مو مشكلتي إذا ذاكرتك ضعيفة . .
كان يقصدُ إحدى الأيام التي اتّصل بِها فجأةً وأخبرها أنّهُ سيمرُّ بها ليخرجا، تحرّكت وهي تُميل فمها قليلًا وهو من خلفِها، أوصلته للمجلسِ ومن ثمّ اتّجهت للأعلـى حتى تتجهّز سريعًا، لا تنكُر أنّها ما إن سمعَت صوت الجرسِ حتى علا في صدرِها قلقٌ من ان يكون هو! هيثـم ، والذي مكثَ جالسًا معهم لعشرِ دقائق تقريبًا ذاك اليوم قبل أن يرحَل، لم يكُن هناك انسجامٌ في أحاديثِه مع فواز بل عدائيّةٌ واضحـة جعلتها تستنكُر قليلًا ، كانت شكوكها في محلِّها، بينهما أمرٌ مـا، ولا تنكرُ أنّها متوجّسةٌ منه بعض الشيء!
صعِدَت للأعلـى ، وهي تُمرّرُ لسانها على شفتيها، حتى فارِس كان غاضبًا في الأيام التي رحلَت ، وتدرك تمامًا سبب غضبه الذي لم يُفسّره لها.


،


تستعيدُ الكثير من الكلمات ، مُعظمها كناياتٌ عن بداياتٍ جديدة، وأخرى كناياتٌ عن النسيـان، أو التناسِي ، والعدُول عن الذكرى.
استقرّت فوق سريرِها وهي تنظُر للفراغِ أمامها، تشدُّ ركبتيها إلى صدرها وتُحيط ساقيها بذراعيها، تتنهّدُ بضيقٍ وهي تفكِّر به . . يا للسخرية، كيف عسايَ أنساه وهو من قال لهُ النسيانُ في صدري " حاشاك منّي " ، كيفَ أبترهُ وهو من حاكاهُ البتّارُ المصقول " حُرِّمتُ أنْ أبترك " . .
آخ ، هو فقط عذابيَ الباقي في الدنيا ، عذابـي الباقي ، والأثير !
نظرَت لهاتِفها الذي يستقرُّ جانبها، منذُ وقتٍ تمنعُ نفسها من أخذهِ والإرسال إليه رغم أنها مشتّتةٌ عند تلك الفكرة، رسالةٌ ليست من بابِ الشوق رغم اشتياقها ورغمَ أنها قد تكون فعلًا - من باب الشوق -، تريد فقط أن تقول لهُ ببساطةٍ أنها ستبدأ حياةً أخرى وعمَل كما اقترحَت عليها أمها كي تشغل عقلها وفراغها وتتناساه ، خشيَت أن يُغضبه ألا تُخبره ، لذا تريد أن تخبره وإن كان في رسالةٍ وجيزة . .
مدّت يدها للهاتِف بتردّدٍ وهي تبتلعُ ريقها ، هل ترسلُ إليه . . أم تتّصل؟

.

.

.

انــتــهــى . .

وموعدنا القادم الأحد بإذن الله

ودمتم بخير / كَيــدْ !


fadi azar 23-09-16 10:50 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

شذي المري 24-09-16 06:29 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
هند ابي الآسك حقك...

كَيــدْ 24-09-16 08:18 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شذي المري (المشاركة 3660861)
هند ابي الآسك حقك...



سمّي يا بعدي هذا هو Kaid_ * الأندر سكور بعد d "
بس مقفلة الصفحة حاليًا إن شاء الله أرجع لها قريبًا ()

شذي المري 25-09-16 12:39 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
متى راح ينزل البارت...ولو اني متأكده بنسبة 70%انه بيكون باليل بس قلت اسأل😔

كَيــدْ 25-09-16 07:45 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





السلام عليكم ، مساءَ الخَير . .

البارت إن شاء الله راح ينزل بوقت متأخر جدًا جدًا جدًا ، الرجاء محد ينتظر ، ناموا خصوصًا اللي يداومون ()

+ شذى المري -> حطيت كلامي فوق على مضض :P فشلني تعليقك والله هههههههههههههههه

دمتم بسعَادة :$




ضَّيْم 26-09-16 01:13 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
كيد البارت صار يوم الاثنين الله يهديك :spG05120:

كَيــدْ 26-09-16 02:17 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





-

-


مساءَ الخير ، تأخّرت عليكم مرّة :( عذرًا ما أمدانِي انزله قبل وقت الدوام وراح علي الوقت . .

أعترف إنّي صايرة مو ملتزمة إطلاقًا وهذا مو عن عمد والله غصب عني ولا أنبسط فيه على فكرة ، بالعكس يمكن أتضايق أكثر من القارئات بعد ، أحاول أضغط على نفسي وبحاول قد ما أقدر ما يكثر عدم الالتزام هذا أكثر ، + التأخير مو إهمال مني أذكر وحدة قالت لي أنتِ فاضية بدليل تصورين سناب وش هالإهمال ! ترى كوني أصور كم سنابة ما يعني إنّي فاضية! إضافة إن الكتابة ما يمنعها الأشغال وحسب! بالعكس مرات أنتِ فاضية بس عاجزة عن الكتابة يا كثر ما تصير . .

+ تذكّرت قارئة ثانية بالآسك قالت لي قبل العيد " إنه بتجِي الدراسة ويصير إنّك تتأخرين وتعتذرين كثير فخليه بيوم واحد بالأسبوع أفضل " بس العيب بهالموعد عندي هو إنّه يخليني أصير كسولة بالكتابة + بيأخّر النهاية كثير . .

عمومًا وقبل التفكير بهالسالفة ، حابة أذكر إنّ البارت راح ينزل اليوم إن شاء الله ، بإذن الله قبل 10 ، وبشوف بارت الخميس وش بسوي فيه بالضبط لو صار وتأخّرت مثل هذا أتوقع أتوقع بضطر أخليه بارت أسبوعي مع إني ما أحس يناسبني ، بس بجرب وأشوف ما وراي إلا التجربة ، وانتوا اصبروا علي :( بقى القليل وتفتكون مني ومن اعتذاراتي . .


أبها 26-09-16 03:41 PM

الله يعينچ يا كيد ..و ييسر أمورچ .

الكتابة أمر مو هيّن .. يبيله تفرغ وراحة بال
و روقان .. اخذي راحتچ .
بإذن الله معاچ إلى أن توصلين إلى نهاية القصة .
🍃🌸🍃

كَيــدْ 26-09-16 09:10 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية



وشكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(82)*1



سابقًا وفي ساعةٍ مُبكّرةٍ من الصباح، نظرتْ لعينيها بحزمٍ لترتبك جيهان تلقائيًا أمام نظراتِها، جـاءها سؤالٌ مولّفٌ بالثقة، لم يكُن سؤالًا في الحقيقةِ بل كان تقريرًا للواقع : تعصبين كثير !
جيهان تعقدُ حاجبيها قليلًا وهي تُشتت عينيها : لا.
رفعَت ندى حاجبها الأيسر : تكذبين عليْ بعد؟
جيهان بضيقٍ تُجعِّدُ ملامِحها : هوّ أنا أقدر ما أعصب؟ حتى الهواء من حولي مستفز.
ابتسمَت ندى رغمًا عنها : شدعوى؟ حتى الهواء ما يستاهل يعصبك.
جيهان وكأنّها كانت تنتظرُ ما تنفجِرُ به، عقدَت حاجبيها بضيقٍ قبل أن تندفعَ برونقِ الحكاياتِ التعبيريّةِ عن استفزازِ اللحظـاتِ لها : كل شيء ما يستاهل بس كل شيء بعد قاعد يلعب بأعصابي وهو ما يستاهل . . حسبي الله بس.
حملَتْ يدها قلمًا لتبدأ بتدويرهِ بين أصابعها تلقائيًا وهي تضيّق عينيها : تقدرين ما تعصبين يوم كامل؟
رفعَت جيهان حاجبيها : أي طبعًا أقدر وش شايفتني؟
ندى بابتسامة : أجل من بعد ما تطلعين من عندي لا تعصبين ولا تتنرفزين من أي شيء وبكرا بسألك لو قدرتِ هاه !
استفزّها التحدِي في صوتها، ليس هو وحسب بل حتى الموضوع بأكمله ، كيف قد لا تستطِيع؟ ماذا تظنّها مثلًا !! . . وافقت ، رغم أنها تثقُ بأنها لا تحتاج لهذا التحدِّي ، فهي تدرك أنها تغضب كثيرًا، لكن ليس للدرجة التي تجعل كلّ أيامها كذلك!

والآن ، تحرّكت أقدامُها من أسفلِ الطاولـة بصمتٍ وهي تحمِل الملعقةَ وتلتهمُ لقمتها، ترفعُ عينيها ليوسف الذي كان يأكل غداءهُ بصمت، لازال هناكَ حاجزٌ التهـم الحديثَ العفويّ بينها وبين والدها الذي كان متباعدًا عنها بعض الشيء، يُزعجها ذلك، لكنّها كانت السبب! كـانت السبَب ولا تُبرِّئ نفسها من كلِّ سوءاتِها ، اندفاعُها المَقيت، مهما كابَرت فتصرّفاتها تناقـض قناعاتها بأنّه مهما ابتعَد لن تفكّر بيومٍ قد تعُود فيه إليه ، لكنّها وبكل بساطة ، تناقضُ كلّ قراراتِها ، وتشتاق.
أنهَت طعامها لتنهضَ وهي تحمَد الله بخفوت، اتّجهت لغسْلِ يدها، وحين كانت واقفةً أمام المغسلـة والماءُ ينسكِب بشفافيّته على كفيها استشعَرت خطواتٍ اقتربَت منها ، حرّكت أحداقها لتسقُط على يوسِف الذي اقتربَ لتسحَب يديها بشكلٍ تلقائيّ وتبتعدُ جانبًا.
تنهّد يوسف وأغمض عينيه، وبحزم : كملي . .
جيهان تُخفض عينيها بتوتّر : خلصت.
فتحَ عينيه ليعقدَ حاجبيه بضيق، وبهدوءٍ منزعج : لا عاد تتهرّبين مني ... يضايقني هالشيء!
ابتلعَت غصّةً مسنّنةً وهي تُشيح عينيها عنهُ وترفعُ كفّها المُبلّلة لتُعانق عضدها العارِي، تقدّمَ يوسف حتى وقفَ بجانِبها، يقابِل المغسلة ويديه امتدّتا ليبدأ بغسلِهما وهو ينطُق دون النظر إليها : ما بقول أنتِ الكبيرة ، بس بقول أحب لما تكونين عاقلة وما تغلطين بهالطريقة ، كل شيء مغفور إلا هالأخطاء . . أنتِ تشوفين وقوفك والسوالف معه عادِي؟!
جيهان تُخفض رأسها وهي تشدُّ على عضدها، تنسدِل أجفانُها قليلًا لتَمسَّ شفتيها رعشـةٌ واهنـة، تلتهبُ بحرارة أحرفها وهي تهمسُ بخزي : لا . .
يوسف بهدوءٍ يبتسم، أغلق صنبورَ الماءِ ومن ثمّ استدارَ إليها ونطق : بترجعين تسوّينها؟
جيهان بخفوتٍ تدرك أنّها لا تثق بنفسها وبجنونِ اندفاعها ، لكن لا ، كمْ مرّةً يُفقدُها سيطرتها على نفسها؟ كم مرّةً يجعلها حمقـاء في تحكّمها باندفاعاتِها؟ كم مرةً تسقُط في احتراقِها أمامه وكم مرّةً تشتاقُ اشتياقًا مندفعًا إليه! كم مرةً يهزمنِي، ويخطُّ بجناحيهِ على انهزامِي!
عقدَت حاجبيها وهي تردُّ بخفوتٍ متضايق : لا.
يوسف رغم أنّه يخشى أن تكون إجابتها محضَ " لحظةٍ مُتلاشية " ومن ثمّ تتناساها ما إن تراه ، لفظَ بابتسامةٍ هادئة وهو يقرّر في نفسِه أن يتفاهم مع فواز أيضًا، ليست جيهان المُخطئة وحسب، بل حتى هو تمادى بحركاته الصبيانية ، كيف يقفُ ويحادِثها دون أن يفكّر بالذهاب والابتعاد؟ : هذا اللي اتمناه منك . . هاه تبونا نطلع نتمشّى كالعادة؟ هالمرة باخذكم لمنطقة ثانية حفظتوا هالمكان.
ابتسمَت بزيفٍ وهي تومِئ برأسها، في حينِ تناول يوسف المناديل كي يجفف يديه وهو يهتف : قولي لخواتك يجهزون متى ما خلصوا أكلهم ..


،


" هل تتّصل؟ "
سؤالٌ ألهبَ تفكيرها ، ما عُذرها السخيف؟ إن أرادات إخبارهُ بخطواتِها تكفيها رسالـة، لا تسمعُ عبرها صوتَه ، تكفيها رسالـة ، لا تتقوّس فيها شفاهُها في ابتسامةٍ من نبرتِه التي تشتاقها . . يا الله كم أنتَ بعيدٌ يا سلطان! أنتَ عنّي قابَ عينينِ أو أقصى ، لا أستطيعُ الاقترابَ منك ، مهما طمحت!
وضعَت الهاتفَ على المفرشِ الناعِم بجانبها بعد تردّدها، تنهّدت بضيق، ومن ثمّ أغمضَت عينيها وهي ترفعُ ركبتيها إلى صدرها وتحيط ساقيها بذراعيها، تسندُ ذقنها فوق ركبتيها، تنظُر للفراغِ بصمتٍ وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، تتذكّر كل حديثها مع أمّها ومحاولاتِها للبدء من جديد في الأيـام السابقة، البدءُ من جديد ، في حياةٌ أخرى بالتأكيد ، حياةٌ واحدة، لأنّ البقيَة من معاني الحياة توقّفت عند نقطةٍ مُفردة.
تنهّدت وهي تُغمض عينيها قليلًا، من الجنون أن تتّصل بِه، لذا فالأحـرى أن ترسِل لهُ رسالةً موجزة ، تسألهُ فيها إن كان يقصِد بهذا الانفصال الغريبِ حرّيتها في كلِّ شيء !
مدّت يدها نحوَ الهاتِف وقد قرّرت ما الصيغة المرتبكةِ التي ستُرسلها إليه ، ( صرت حرّة بعد بقراراتي لنفسي؟ ) . .
ابتلعَت ريقها، ومن ثمّ حكّت شفتها السُفلى بأسنانِها وهي تضعُ الهاتف من جديدٍ وتتنهّد، حسنًا ، لمَ ترتعِش؟ هو بعيدٌ عنها - للأسف - فلمَ ترتعش؟
مرّت دقائـق عديدةً قبـل أن تسمَع تنبيهًا من هاتفها، نظـرت إليه بربكة، هاهوَ ردّ عليها ، لكن قد لا يكُون هو ، إذن ممّن مثلًا؟ . . ابتلعَت ريقها وهي تمدُّ يدها نحو الهاتِف ، حملته لتنظُر مباشرةً للرسالة ممّن جاءتها ، لتزفـر أخيرًا زفرةً مرتاحة ، وفي ذات اللحظةِ مُحبَطة! وهي ترى أنها رسالةٌ دعائيّةٌ لا غيـر . .
تمتمَت بكلماتٍ ما لم تُدرك هي بذاتِها ما كانت، ومن ثمّ مدّت يدها كي تضع الهاتف من جديدٍ على السرير ، إلا أنّها انتفضْت فجأةً بذعرٍ وهي تسمعُ صوت الرنين الذي كـان يُعلن عن اتّصـال! . . شهقْت وهي ترى اسمه ، نعم ، اسمه ، يتّصل بها عوضًا عن الردّ برسالة !!!
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وعيناها تتّسعان دون تصدِيق، توقّف الزمَن لوهلـة ، توقّف على أحرفِ اسمِه في شاشةِ هاتفها، هل تردّ وتسمَح للحياة أن تدبّ فيها من جديد؟ هل تسمـح للبعثِ أن يجيء محمّلًا على قافلةِ صوته لتعودَ لتذوّق الموتِ منذُ البداية حين ينتهِي الاتصـال؟ هل تسمحُ بتجديدِ أوجاعِها؟ ، كلّ الأوجاع التي تتمنّاها مهما كانت وطأتها على قلبها صعبًا، مهما كان احتكاكُها بجلدِها مُحرقًا !!
كانت بالفعـل تهوى عذابَها، لذا ، ودون تردّدٍ .. ردّت ! . . . رفعَت الهاتِف لأذنها، ابتلعَت ريقها بصعوبة، شيءٌ من الروحِ عادَت إليها تتمّةً للحيـاةِ بعد أن قُصَّت زاويتُها، بعد أن بُتر القليلُ منها وكانت الأيام القادمـة مرحلـة القصاصِ إلى النهاية ، شيءٌ من التنهيداتِ الناعمة على مفرشِ الجوى ، على جدرانِ قلبها ، على مسامِع الاشتياق . . شيءٌ من الحيـاةِ في كنفِ ريفٍ هادئ ، لم يصخُب سوى بحبّها له . . كيف أُلجِم الهدوءَ بصخَبِك وأنتَ الريفُ الذي ناقـض مسمّاه ، الريفُ في بذخِ الطبيعةِ الخضراء ، الريفُ في هدوء ، صاخِب !
ابتلعَت عبراتها وهي تعقدُ حاجبيها وصوتُه جاءها باردًا ، متسائلًا ، دون ترحيبٍ ودون كلمـةِ " سلام " : أي حريّة قصدك؟
سلامٌ على قلُوبنا ، سلامٌ على أرواحِنا ، سلامٌ على الشفاهِ التي فقدَت نظارتها بـ : اشتقتك. تلك الكلمـة ليسَت مجرّد كلمة، تلك الكلمـة جفاف، أوراقٌ فقدَت زهوها ، تلك الكلمـة حين تمسُّ شفاهَنا تُثلجها، ومن ثمّ تنزعُ منها كلّ معالِم الحيـاة. اشتقتُك ، سلامٌ من اللهِ على صدرِي الذي ملكتَه.
أغمضَت عينيها دون فهمٍ لنبرتِه، كانت نبرةً مُستهجنة، لم تدركها في معمعةِ اشتياقها . . همسَت بخفوتٍ مختنق : أيش؟
سلطان بنبرةٍ صارمةٍ مُتّهمة : أي حرّية اللي تبينها؟ ممكن أفهم أكثر !
لحظـة ! هل .. هل يخشَى أن تقصد . . . اتّسعت عيناها بصدمة، أجفلَت ملامِحها والذهول انتزعها وقد فهمَت جيدًا ما قصده ، أيّ حريّة ، أي . . . ارتعشَت شفاهُها باختناق، ارتفعَ صدرها بعلوٍّ نُزعت منه القدرةُ على جذبِ الهواءِ ليهبطَ بحشرجةٍ وهي تهمسُ بخفوتٍ مختنق : شاك إنّي ... إنّي بكرّر اللي . .
سلطان يقاطعها بازدراء : أنتِ من جدّك تطمحين بثقتِي فيك؟
غزل بصوتٍ واهنٍ وكفّها تشتدُّ على الهاتف، والأخـرى على الفراغ! : ما أسمح لك.
سلطان بنبرةٍ مُخيفة : نعم !
غزل بصوتٍ ارتفعَ فجأةً بقهر : ما أسمح لك .. يكفي ... يكفّي سلطان !! أنا ما ألومك على ظنونك بس لا توضّحها لي بهالطريقة! يكفي إنك كنت تقذفني وكأنّك واثق إنّك ما تغلط وإنك قاعد تقول الصح! إذا ما تشوفني ضمن المؤمنات وإنّ القذف والظنّ السيء بالنسبة لك حلال احترم نفسك على الأقل.
سلطان يرفعُ حاجبًا : مو كأنّك صايرة تتمادين بالكلام معي !
غزل وكفّيها ترتعشان تجاهلت ، كيف تتجاهل؟ هي لم تتجاهـل بل كان كلّ صراخها المقهور وكلّ حسراتِها في صدرِها، يمتدُّ منفعلًا إلى أطرافها المرتعشة وصوتُها الذي لفظَ بكبت : الحرية اللي قصدتها كل شيء! لو فكرت أكمل دراستي أشتغل أو أي شيء ثاني أبيه . .
سلطان ببرود : وش المقصود برسالتك طيب يا ستّي . . الدراسة أو الشغل أو أي شيء ثاني !
ابتلعَت مرارتها من صوتِه المستخفّ بها ، وباختناق : بشتغل.
سلطان : وشو؟
غزل : مع أمّي ، هي مصمّمة وعندها بعد مشاغل وتبيني أشغل وقتِي معها.
سلطان بنبرةٍ تُشعلها بالحِزن في عدمِ مبالاته : ما يضر.
غزل بنبرةٍ واهيـة، تريد أن تطيل وقت سماعِها لصوتِه رغم كل شيء، رغم إيلامهِ لها، تريد سماعه ، سماعه ، إلى أن ترتوي أسماعُها من نبرتِه : يعنِي أقدر أكون حرّة بشكل نهائي؟ ما أعلمك عن شيء صح !
سلطان باستخفافٍ يبتسِم : أنتِ وش تتمنّين؟
غزل بخفوتٍ تُخفض نظراتها ورموشها ترتعشُ رعشةً سريعة : اللي تشوفه أنت.
سلطان : بكون وقتها مرتاح من حنّتك ، عشان كذا حياتِك لك مثل ما قلت قبل ، مالي شيء فيها غير إنّي بقيدك باسمي وما تطلعين من الزواج بالربح اللي تبينه.
شتت عينيها بضيقٍ وهي تقبضُ كفيْها بقوّة، إن كان سبب سؤالها لهُ واستشارته بالموافقة قبلًا خوفًا من غضبه إن فعلت ما تريد دون موافقتهِ فلمَ تضايقت الآن حين فكّ الحبـال الباقية ووجودُه في تفاصيلها الصغيرة؟
همسَت دون تعبير : ظنّك بتستمر بدون ما تطفش وتطلّقني؟
سلطان : عشان ما أطفش أنا أحلِّك من تدخلي بقراراتك .. قلت لك بتكونين شيء مرتبط فيه اسمًا وماله تأثير بوجوده.
عقدَت حاجبيها وهي تهتفُ بغصّة : شيء !!
سلطان تململ : تبين شيء ثاني؟
كتمَت شهقَة خيبةٍ مُختنقةٍ وهي تقوّس فمها للأسفلِ بحسرة ، يرتعشُ ذقنها لتصطكّ أسنانها ببعضها أسًا وحُزنًا ، ومن ثمّ تهمسُ بصوتٍ حاولت جعله طبيعيًا إلا أنه وصل لمسامِع سلطان متباينًا بضيقِه أشدّ التباين : سلامتك.
أغلقَ دون أن يُضيف شيئًا لتُغمـض عينيها بقوّةٍ وهي تتركُ لشهقتها تلك أن تُخلقَ من الكبتِ انفجارًا من أنينٍ تالِي، شدّت على أجفانِها كستارٍ ثبّتتهُ خيوطٌ سوداءُ بالنافذةِ بعد أن اخترقَت زجاجها دون تحطيمها، خيوطٌ مسمومـة، نزفَت باحمرارِها في أجفانِها ، مُعلنةً انتهاءَ قصّة تأمّل سحابٍ تائِه من عينيْ طفلةٍ ضاحكة . . الغريبُ أنها تشعُر ببوادِر البُكاء، لكنّها لم تبكِي! الغريبُ أنها لم تعُد تبكِي، وفي الأيام التي رحلَت لم تنزِف مقلتيها بدمعة! هل جفّت أرضُ حزنها من العطاء؟


،


تجاهـل صرخاتِ اعتراضها المُختنقـةِ وهي تحاولُ دفعهُ عنها بينما كان هو قد أمسك كتفيها ليثبّتها مِنهما على البابِ وهو يبتسم : وين بتهربين منّي؟
إلين بغضب : ابعد ، أنت وش؟ مراهق !!
أدهم يبتسمُ باستفزازٍ لها : مراهق في سبيل الحُب ، تعرفين يعني الحب يخلينا مراهقين.
إلين بقلّة صبر : مو وقتك أدهم واللي يعافيك يعني !
أدهم يُدير وجهه ليُخفض رأسه ويقرّب خدّه منها دون أن يُشيح عينيه عنها : صح مو وقتي عشان كذا خلصي نفسك كلها بوسة صغيرة.
اشتعلَت ملامحها من جديدٍ بحُمرةٍ خجولةٍ تُسكرِه، يبتسِم رغمًا عنهُ وهو يجِدُ في حُمرةِ ملامِحها بحرًا تلوّن بألوانِ الغروب، تُضِيع النهارَ والليلَ في لحظتـها ، تخلبُ النظرات بفتنتها ، تحطُّ في شُعلتها فراشـةٌ لا تحترق ، بل تُضيء بنورِ شفقٍ أضـاء ملامِح رقّتها . .
إلين باستياءٍ وهي تصدُّ عن ابتسامتهِ الماكرة : ابعد أدهم ... شكلك سخيف والله.
أدهم بإصرارٍ يشدُّ على كتفيها ويقرّبها منهُ دون أن يحرّك وجهه الذي كان يقابلها بِه بخدِّه : أبي أكون سخيف ، وريني أشوف.
تلاشـى خجلُها في غُمرة الغضب ، شدّت على أسنانها بحنقٍ وهي تهتفُ بكلماتٍ تسلّلت من بينها مختنقةً غاضبة : ترى بعضّك .. متأكّد؟
أدهم ينظُر لها من زاوية عينيه : عشان أكسر راسِك ... قلنا بوسة مو عضّة بشرية مستكلبة.
إلين : وتقول لا تسبين واحترميني ومدري وشو؟
كتم ضحكته : ما سبّيتك .. بكون سبيتك لو صار وعضّيتيني . .
إلين تضعُ كفيها على صدرِه، تحاول دفعه عنها وهي تُتمتمُ بامتعاض : يا سلام بس ! * ارتفع صوتها بغضب * ابعد عني والله والله ما أبوسك لو بتموت علينا بعد !
مطّ فمه باستياءٍ وهو يُخفضُ كفيه عن كتفيها ويتراجع للخلفِ قليلًا بينما ملامحه توجّهت كلها نحوها وليس فقط خدّه : بعتقك عشانك حلفتِ بس . .
إلين تضربُ قدمها على الأرضِ بغضب وابتسامتها المُنتصرة كانت تُظهرها خاسرةً من فرطِ غضبها، رغم أنّه في النهاية تركها كما تُريد : وغصبًا عنّك بعَد.
لوّح بكفّه وهو يَستديرُ عنها وأقدامه تتوجّه نحو الحمّام ، وبتململ : اقلبي وجهك بس ... أتفاهم معك بعدين وأشوف وقتها كلام مين بيمشي.
رفعَت حاجبها الأيسر بحنق ، ألم تقُل له بأنه لن يستطيع إغضابها اليوم بعد أن رأت درجاتِها؟ حسنًا ما الذي حدَث في النهاية ولمَ ينتصر عليها دائمًا باستفزازِه !!


،


سكَب من الشاي في كأسهِ ومن ثمّ مدّه إليه وهو يُجيب على سؤاله " متى رايح " بصوتٍ هادئ : بهاليومين ، بس ما راح أطوّل كثير إن شاء الله يومين وراجع . . شلونك أنت اليوم زاد وجَع ظهرك؟
سلمان الذي كان شبهَ مُستلقيًا ، يسندُ ظهره على الوسائد وهو يتناولُ الكأس من يدِه : أتوقع بضطر للعملية ، هذا كلام الدكتور ... الله أكبر على هالعجز بس ..
عناد يبتسِم : تحسّ بالقهر وأنا اللي أخدمك؟
سلمان يرفعُ حاجبه : الله يغنيني عن خدماتك لو بتتمنّن علي فيها.
عناد : هههههههههه أمزح شدعوى ، شفيك هالأيام علي صاير ما تقبل مزاحِي !
سلمان بجمود : للأسف أنت داري إنه مو وقتك.
عناد : للأسف لأني داري؟
سلمان : يا زينك جاهل . . بس وجه نكبة.
ابتسمَ رغمًا عنه : هذي جزاتِي جالس معك بعد؟ للأسف أنا اللي بوجه المدفع دايم .. لا منك ولا من سلطان الثاني ، صاير نفسية.
غضّن جبينه تلقائيًا ما أن ذكِر اسمه، وبجمود : بيتعلّم من كل هذا.
اختفَت ابتسامةُ عناد تدريجيًا ليتنهّد أخيرًا وهو يحمِل كأسهُ ومن ثمّ يتحرّك نحو أقربِ مقعدٍ ويجلس ، وبهدوء : ما أشوفه يتعلّم ويصير أقوى .. أنت تأذيه وتبدّل شخصيته بس ، ليه ما تقوله وتريّح عمرك وتريحه هو بالمقام الأول . .
سلمان بحدّة : كم مرة قلت لك لا تتدخّل بمواضيع ما تخصّك ! وصلت لمرحلـة على كثر ما حذرتك منها عاندتني .. الحين وش تبي بعد؟
عناد يتنهّد بهدوء : شكل نفسيتَك مخيسة مثله.
سلمان بحزم : عناد !
عناد يبتسِم : سلطان ترك مرته.
عقدَ سلمان حاجبيه فجأةً دون استيعاب، إلا أنه سرعانَ ما زفـر بيأسٍ وهو يضعُ كفَّه على رأسه ويلفُظ بنبرةٍ خافتة : وش الحين بعَد !
عناد : لا تلومه ، في النهاية أنت اللي غلطت لما ما اخترت له إلا بنت واحد مثل أحمد، أنا الثاني كنت غبي لما ظنيت ماراح تتأثر علاقتهم فيه.
سلمان يرفعِ وجهه وهو يُميل حاجبيه في عُقدةٍ خافتة، ابتسمَ بسخريةٍ ليلفظَ أخيرًا بتهكّم : طلع مافيه منكم رجّال ..
عناد بصدمة : أنا وش سويت؟
سلمان : دام هذا اللي طلع من سلطان بيطلع منك اللي يشابهه ... ما ربيتكم عدل للأسف.
عناد يبتسم : أفا بس ما هقيتها منّك .. وش دخلني بقرارات سلطان أنا؟
سلمان بحدة : طلقها؟
عناد : ما أتوقع ، يمكن ناويها.
سلمان : بكسر راسه لو سواها ... أنا اللي بشوف شغلي معه.


يُتبــع ..


شذي المري 27-09-16 08:30 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
ليه كذا 😭💔💔 البارت قصير و مافيه احداث 😣

مسعمع 27-09-16 10:43 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
الواضح انه لسة فيه تكملة فين هي

كَيــدْ 27-09-16 01:24 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
لما قلت بينزل البارت على جزئين قصدت على مشاركتين :/ استغربت وأنا أشوف البنات يسألوني متى الجزء الثاني وجاء ببالي البارت الجاي ، بس بعدين ظنّيته كالعادة ما يطلع بسرعة لبعض البنات ويظنونه ما نزل . . غريبة ما وصل البارت كامل وبالمنتدى المجاور بعد ! مو معقول انحذف بالاثنين !!

عمومًا ما علينا يمكن مشكلة من عندي ، بس أرجع من الجامعة وبنزل اللي بقى من البارت إن شاء الله، بنتبه في المرات الجاية وبشيّك أكثر من مرة . .

كَيــدْ 27-09-16 03:41 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 






سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية



وشكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(82)*1



سابقًا وفي ساعةٍ مُبكّرةٍ من الصباح، نظرتْ لعينيها بحزمٍ لترتبك جيهان تلقائيًا أمام نظراتِها، جـاءها سؤالٌ مولّفٌ بالثقة، لم يكُن سؤالًا في الحقيقةِ بل كان تقريرًا للواقع : تعصبين كثير !
جيهان تعقدُ حاجبيها قليلًا وهي تُشتت عينيها : لا.
رفعَت ندى حاجبها الأيسر : تكذبين عليْ بعد؟
جيهان بضيقٍ تُجعِّدُ ملامِحها : هوّ أنا أقدر ما أعصب؟ حتى الهواء من حولي مستفز.
ابتسمَت ندى رغمًا عنها : شدعوى؟ حتى الهواء ما يستاهل يعصبك.
جيهان وكأنّها كانت تنتظرُ ما تنفجِرُ به، عقدَت حاجبيها بضيقٍ قبل أن تندفعَ برونقِ الحكاياتِ التعبيريّةِ عن استفزازِ اللحظـاتِ لها : كل شيء ما يستاهل بس كل شيء بعد قاعد يلعب بأعصابي وهو ما يستاهل . . حسبي الله بس.
حملَتْ يدها قلمًا لتبدأ بتدويرهِ بين أصابعها تلقائيًا وهي تضيّق عينيها : تقدرين ما تعصبين يوم كامل؟
رفعَت جيهان حاجبيها : أي طبعًا أقدر وش شايفتني؟
ندى بابتسامة : أجل من بعد ما تطلعين من عندي لا تعصبين ولا تتنرفزين من أي شيء وبكرا بسألك لو قدرتِ هاه !
استفزّها التحدِي في صوتها، ليس هو وحسب بل حتى الموضوع بأكمله ، كيف قد لا تستطِيع؟ ماذا تظنّها مثلًا !! . . وافقت ، رغم أنها تثقُ بأنها لا تحتاج لهذا التحدِّي ، فهي تدرك أنها تغضب كثيرًا، لكن ليس للدرجة التي تجعل كلّ أيامها كذلك!

والآن ، تحرّكت أقدامُها من أسفلِ الطاولـة بصمتٍ وهي تحمِل الملعقةَ وتلتهمُ لقمتها، ترفعُ عينيها ليوسف الذي كان يأكل غداءهُ بصمت، لازال هناكَ حاجزٌ التهـم الحديثَ العفويّ بينها وبين والدها الذي كان متباعدًا عنها بعض الشيء، يُزعجها ذلك، لكنّها كانت السبب! كـانت السبَب ولا تُبرِّئ نفسها من كلِّ سوءاتِها ، اندفاعُها المَقيت، مهما كابَرت فتصرّفاتها تناقـض قناعاتها بأنّه مهما ابتعَد لن تفكّر بيومٍ قد تعُود فيه إليه ، لكنّها وبكل بساطة ، تناقضُ كلّ قراراتِها ، وتشتاق.
أنهَت طعامها لتنهضَ وهي تحمَد الله بخفوت، اتّجهت لغسْلِ يدها، وحين كانت واقفةً أمام المغسلـة والماءُ ينسكِب بشفافيّته على كفيها استشعَرت خطواتٍ اقتربَت منها ، حرّكت أحداقها لتسقُط على يوسِف الذي اقتربَ لتسحَب يديها بشكلٍ تلقائيّ وتبتعدُ جانبًا.
تنهّد يوسف وأغمض عينيه، وبحزم : كملي . .
جيهان تُخفض عينيها بتوتّر : خلصت.
فتحَ عينيه ليعقدَ حاجبيه بضيق، وبهدوءٍ منزعج : لا عاد تتهرّبين مني ... يضايقني هالشيء!
ابتلعَت غصّةً مسنّنةً وهي تُشيح عينيها عنهُ وترفعُ كفّها المُبلّلة لتُعانق عضدها العارِي، تقدّمَ يوسف حتى وقفَ بجانِبها، يقابِل المغسلة ويديه امتدّتا ليبدأ بغسلِهما وهو ينطُق دون النظر إليها : ما بقول أنتِ الكبيرة ، بس بقول أحب لما تكونين عاقلة وما تغلطين بهالطريقة ، كل شيء مغفور إلا هالأخطاء . . أنتِ تشوفين وقوفك والسوالف معه عادِي؟!
جيهان تُخفض رأسها وهي تشدُّ على عضدها، تنسدِل أجفانُها قليلًا لتَمسَّ شفتيها رعشـةٌ واهنـة، تلتهبُ بحرارة أحرفها وهي تهمسُ بخزي : لا . .
يوسف بهدوءٍ يبتسم، أغلق صنبورَ الماءِ ومن ثمّ استدارَ إليها ونطق : بترجعين تسوّينها؟
جيهان بخفوتٍ تدرك أنّها لا تثق بنفسها وبجنونِ اندفاعها ، لكن لا ، كمْ مرّةً يُفقدُها سيطرتها على نفسها؟ كم مرّةً يجعلها حمقـاء في تحكّمها باندفاعاتِها؟ كم مرةً تسقُط في احتراقِها أمامه وكم مرّةً تشتاقُ اشتياقًا مندفعًا إليه! كم مرةً يهزمنِي، ويخطُّ بجناحيهِ على انهزامِي!
عقدَت حاجبيها وهي تردُّ بخفوتٍ متضايق : لا.
يوسف رغم أنّه يخشى أن تكون إجابتها محضَ " لحظةٍ مُتلاشية " ومن ثمّ تتناساها ما إن تراه ، لفظَ بابتسامةٍ هادئة وهو يقرّر في نفسِه أن يتفاهم مع فواز أيضًا، ليست جيهان المُخطئة وحسب، بل حتى هو تمادى بحركاته الصبيانية ، كيف يقفُ ويحادِثها دون أن يفكّر بالذهاب والابتعاد؟ : هذا اللي اتمناه منك . . هاه تبونا نطلع نتمشّى كالعادة؟ هالمرة باخذكم لمنطقة ثانية حفظتوا هالمكان.
ابتسمَت بزيفٍ وهي تومِئ برأسها، في حينِ تناول يوسف المناديل كي يجفف يديه وهو يهتف : قولي لخواتك يجهزون متى ما خلصوا أكلهم ..


،


" هل تتّصل؟ "
سؤالٌ ألهبَ تفكيرها ، ما عُذرها السخيف؟ إن أرادات إخبارهُ بخطواتِها تكفيها رسالـة، لا تسمعُ عبرها صوتَه ، تكفيها رسالـة ، لا تتقوّس فيها شفاهُها في ابتسامةٍ من نبرتِه التي تشتاقها . . يا الله كم أنتَ بعيدٌ يا سلطان! أنتَ عنّي قابَ عينينِ أو أقصى ، لا أستطيعُ الاقترابَ منك ، مهما طمحت!
وضعَت الهاتفَ على المفرشِ الناعِم بجانبها بعد تردّدها، تنهّدت بضيق، ومن ثمّ أغمضَت عينيها وهي ترفعُ ركبتيها إلى صدرها وتحيط ساقيها بذراعيها، تسندُ ذقنها فوق ركبتيها، تنظُر للفراغِ بصمتٍ وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، تتذكّر كل حديثها مع أمّها ومحاولاتِها للبدء من جديد في الأيـام السابقة، البدءُ من جديد ، في حياةٌ أخرى بالتأكيد ، حياةٌ واحدة، لأنّ البقيَة من معاني الحياة توقّفت عند نقطةٍ مُفردة.
تنهّدت وهي تُغمض عينيها قليلًا، من الجنون أن تتّصل بِه، لذا فالأحـرى أن ترسِل لهُ رسالةً موجزة ، تسألهُ فيها إن كان يقصِد بهذا الانفصال الغريبِ حرّيتها في كلِّ شيء !
مدّت يدها نحوَ الهاتِف وقد قرّرت ما الصيغة المرتبكةِ التي ستُرسلها إليه ، ( صرت حرّة بعد بقراراتي لنفسي؟ ) . .
ابتلعَت ريقها، ومن ثمّ حكّت شفتها السُفلى بأسنانِها وهي تضعُ الهاتف من جديدٍ وتتنهّد، حسنًا ، لمَ ترتعِش؟ هو بعيدٌ عنها - للأسف - فلمَ ترتعش؟
مرّت دقائـق عديدةً قبـل أن تسمَع تنبيهًا من هاتفها، نظـرت إليه بربكة، هاهوَ ردّ عليها ، لكن قد لا يكُون هو ، إذن ممّن مثلًا؟ . . ابتلعَت ريقها وهي تمدُّ يدها نحو الهاتِف ، حملته لتنظُر مباشرةً للرسالة ممّن جاءتها ، لتزفـر أخيرًا زفرةً مرتاحة ، وفي ذات اللحظةِ مُحبَطة! وهي ترى أنها رسالةٌ دعائيّةٌ لا غيـر . .
تمتمَت بكلماتٍ ما لم تُدرك هي بذاتِها ما كانت، ومن ثمّ مدّت يدها كي تضع الهاتف من جديدٍ على السرير ، إلا أنّها انتفضْت فجأةً بذعرٍ وهي تسمعُ صوت الرنين الذي كـان يُعلن عن اتّصـال! . . شهقْت وهي ترى اسمه ، نعم ، اسمه ، يتّصل بها عوضًا عن الردّ برسالة !!!
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وعيناها تتّسعان دون تصدِيق، توقّف الزمَن لوهلـة ، توقّف على أحرفِ اسمِه في شاشةِ هاتفها، هل تردّ وتسمَح للحياة أن تدبّ فيها من جديد؟ هل تسمـح للبعثِ أن يجيء محمّلًا على قافلةِ صوته لتعودَ لتذوّق الموتِ منذُ البداية حين ينتهِي الاتصـال؟ هل تسمحُ بتجديدِ أوجاعِها؟ ، كلّ الأوجاع التي تتمنّاها مهما كانت وطأتها على قلبها صعبًا، مهما كان احتكاكُها بجلدِها مُحرقًا !!
كانت بالفعـل تهوى عذابَها، لذا ، ودون تردّدٍ .. ردّت ! . . . رفعَت الهاتِف لأذنها، ابتلعَت ريقها بصعوبة، شيءٌ من الروحِ عادَت إليها تتمّةً للحيـاةِ بعد أن قُصَّت زاويتُها، بعد أن بُتر القليلُ منها وكانت الأيام القادمـة مرحلـة القصاصِ إلى النهاية ، شيءٌ من التنهيداتِ الناعمة على مفرشِ الجوى ، على جدرانِ قلبها ، على مسامِع الاشتياق . . شيءٌ من الحيـاةِ في كنفِ ريفٍ هادئ ، لم يصخُب سوى بحبّها له . . كيف أُلجِم الهدوءَ بصخَبِك وأنتَ الريفُ الذي ناقـض مسمّاه ، الريفُ في بذخِ الطبيعةِ الخضراء ، الريفُ في هدوء ، صاخِب !
ابتلعَت عبراتها وهي تعقدُ حاجبيها وصوتُه جاءها باردًا ، متسائلًا ، دون ترحيبٍ ودون كلمـةِ " سلام " : أي حريّة قصدك؟
سلامٌ على قلُوبنا ، سلامٌ على أرواحِنا ، سلامٌ على الشفاهِ التي فقدَت نظارتها بـ : اشتقتك. تلك الكلمـة ليسَت مجرّد كلمة، تلك الكلمـة جفاف، أوراقٌ فقدَت زهوها ، تلك الكلمـة حين تمسُّ شفاهَنا تُثلجها، ومن ثمّ تنزعُ منها كلّ معالِم الحيـاة. اشتقتُك ، سلامٌ من اللهِ على صدرِي الذي ملكتَه.
أغمضَت عينيها دون فهمٍ لنبرتِه، كانت نبرةً مُستهجنة، لم تدركها في معمعةِ اشتياقها . . همسَت بخفوتٍ مختنق : أيش؟
سلطان بنبرةٍ صارمةٍ مُتّهمة : أي حرّية اللي تبينها؟ ممكن أفهم أكثر !
لحظـة ! هل .. هل يخشَى أن تقصد . . . اتّسعت عيناها بصدمة، أجفلَت ملامِحها والذهول انتزعها وقد فهمَت جيدًا ما قصده ، أيّ حريّة ، أي . . . ارتعشَت شفاهُها باختناق، ارتفعَ صدرها بعلوٍّ نُزعت منه القدرةُ على جذبِ الهواءِ ليهبطَ بحشرجةٍ وهي تهمسُ بخفوتٍ مختنق : شاك إنّي ... إنّي بكرّر اللي . .
سلطان يقاطعها بازدراء : أنتِ من جدّك تطمحين بثقتِي فيك؟
غزل بصوتٍ واهنٍ وكفّها تشتدُّ على الهاتف، والأخـرى على الفراغ! : ما أسمح لك.
سلطان بنبرةٍ مُخيفة : نعم !
غزل بصوتٍ ارتفعَ فجأةً بقهر : ما أسمح لك .. يكفي ... يكفّي سلطان !! أنا ما ألومك على ظنونك بس لا توضّحها لي بهالطريقة! يكفي إنك كنت تقذفني وكأنّك واثق إنّك ما تغلط وإنك قاعد تقول الصح! إذا ما تشوفني ضمن المؤمنات وإنّ القذف والظنّ السيء بالنسبة لك حلال احترم نفسك على الأقل.
سلطان يرفعُ حاجبًا : مو كأنّك صايرة تتمادين بالكلام معي !
غزل وكفّيها ترتعشان تجاهلت ، كيف تتجاهل؟ هي لم تتجاهـل بل كان كلّ صراخها المقهور وكلّ حسراتِها في صدرِها، يمتدُّ منفعلًا إلى أطرافها المرتعشة وصوتُها الذي لفظَ بكبت : الحرية اللي قصدتها كل شيء! لو فكرت أكمل دراستي أشتغل أو أي شيء ثاني أبيه . .
سلطان ببرود : وش المقصود برسالتك طيب يا ستّي . . الدراسة أو الشغل أو أي شيء ثاني !
ابتلعَت مرارتها من صوتِه المستخفّ بها ، وباختناق : بشتغل.
سلطان : وشو؟
غزل : مع أمّي ، هي مصمّمة وعندها بعد مشاغل وتبيني أشغل وقتِي معها.
سلطان بنبرةٍ تُشعلها بالحِزن في عدمِ مبالاته : ما يضر.
غزل بنبرةٍ واهيـة، تريد أن تطيل وقت سماعِها لصوتِه رغم كل شيء، رغم إيلامهِ لها، تريد سماعه ، سماعه ، إلى أن ترتوي أسماعُها من نبرتِه : يعنِي أقدر أكون حرّة بشكل نهائي؟ ما أعلمك عن شيء صح !
سلطان باستخفافٍ يبتسِم : أنتِ وش تتمنّين؟
غزل بخفوتٍ تُخفض نظراتها ورموشها ترتعشُ رعشةً سريعة : اللي تشوفه أنت.
سلطان : بكون وقتها مرتاح من حنّتك ، عشان كذا حياتِك لك مثل ما قلت قبل ، مالي شيء فيها غير إنّي بقيدك باسمي وما تطلعين من الزواج بالربح اللي تبينه.
شتت عينيها بضيقٍ وهي تقبضُ كفيْها بقوّة، إن كان سبب سؤالها لهُ واستشارته بالموافقة قبلًا خوفًا من غضبه إن فعلت ما تريد دون موافقتهِ فلمَ تضايقت الآن حين فكّ الحبـال الباقية ووجودُه في تفاصيلها الصغيرة؟
همسَت دون تعبير : ظنّك بتستمر بدون ما تطفش وتطلّقني؟
سلطان : عشان ما أطفش أنا أحلِّك من تدخلي بقراراتك .. قلت لك بتكونين شيء مرتبط فيه اسمًا وماله تأثير بوجوده.
عقدَت حاجبيها وهي تهتفُ بغصّة : شيء !!
سلطان تململ : تبين شيء ثاني؟
كتمَت شهقَة خيبةٍ مُختنقةٍ وهي تقوّس فمها للأسفلِ بحسرة ، يرتعشُ ذقنها لتصطكّ أسنانها ببعضها أسًا وحُزنًا ، ومن ثمّ تهمسُ بصوتٍ حاولت جعله طبيعيًا إلا أنه وصل لمسامِع سلطان متباينًا بضيقِه أشدّ التباين : سلامتك.
أغلقَ دون أن يُضيف شيئًا لتُغمـض عينيها بقوّةٍ وهي تتركُ لشهقتها تلك أن تُخلقَ من الكبتِ انفجارًا من أنينٍ تالِي، شدّت على أجفانِها كستارٍ ثبّتتهُ خيوطٌ سوداءُ بالنافذةِ بعد أن اخترقَت زجاجها دون تحطيمها، خيوطٌ مسمومـة، نزفَت باحمرارِها في أجفانِها ، مُعلنةً انتهاءَ قصّة تأمّل سحابٍ تائِه من عينيْ طفلةٍ ضاحكة . . الغريبُ أنها تشعُر ببوادِر البُكاء، لكنّها لم تبكِي! الغريبُ أنها لم تعُد تبكِي، وفي الأيام التي رحلَت لم تنزِف مقلتيها بدمعة! هل جفّت أرضُ حزنها من العطاء؟


،


تجاهـل صرخاتِ اعتراضها المُختنقـةِ وهي تحاولُ دفعهُ عنها بينما كان هو قد أمسك كتفيها ليثبّتها مِنهما على البابِ وهو يبتسم : وين بتهربين منّي؟
إلين بغضب : ابعد ، أنت وش؟ مراهق !!
أدهم يبتسمُ باستفزازٍ لها : مراهق في سبيل الحُب ، تعرفين يعني الحب يخلينا مراهقين.
إلين بقلّة صبر : مو وقتك أدهم واللي يعافيك يعني !
أدهم يُدير وجهه ليُخفض رأسه ويقرّب خدّه منها دون أن يُشيح عينيه عنها : صح مو وقتي عشان كذا خلصي نفسك كلها بوسة صغيرة.
اشتعلَت ملامحها من جديدٍ بحُمرةٍ خجولةٍ تُسكرِه، يبتسِم رغمًا عنهُ وهو يجِدُ في حُمرةِ ملامِحها بحرًا تلوّن بألوانِ الغروب، تُضِيع النهارَ والليلَ في لحظتـها ، تخلبُ النظرات بفتنتها ، تحطُّ في شُعلتها فراشـةٌ لا تحترق ، بل تُضيء بنورِ شفقٍ أضـاء ملامِح رقّتها . .
إلين باستياءٍ وهي تصدُّ عن ابتسامتهِ الماكرة : ابعد أدهم ... شكلك سخيف والله.
أدهم بإصرارٍ يشدُّ على كتفيها ويقرّبها منهُ دون أن يحرّك وجهه الذي كان يقابلها بِه بخدِّه : أبي أكون سخيف ، وريني أشوف.
تلاشـى خجلُها في غُمرة الغضب ، شدّت على أسنانها بحنقٍ وهي تهتفُ بكلماتٍ تسلّلت من بينها مختنقةً غاضبة : ترى بعضّك .. متأكّد؟
أدهم ينظُر لها من زاوية عينيه : عشان أكسر راسِك ... قلنا بوسة مو عضّة بشرية مستكلبة.
إلين : وتقول لا تسبين واحترميني ومدري وشو؟
كتم ضحكته : ما سبّيتك .. بكون سبيتك لو صار وعضّيتيني . .
إلين تضعُ كفيها على صدرِه، تحاول دفعه عنها وهي تُتمتمُ بامتعاض : يا سلام بس ! * ارتفع صوتها بغضب * ابعد عني والله والله ما أبوسك لو بتموت علينا بعد !
مطّ فمه باستياءٍ وهو يُخفضُ كفيه عن كتفيها ويتراجع للخلفِ قليلًا بينما ملامحه توجّهت كلها نحوها وليس فقط خدّه : بعتقك عشانك حلفتِ بس . .
إلين تضربُ قدمها على الأرضِ بغضب وابتسامتها المُنتصرة كانت تُظهرها خاسرةً من فرطِ غضبها، رغم أنّه في النهاية تركها كما تُريد : وغصبًا عنّك بعَد.
لوّح بكفّه وهو يَستديرُ عنها وأقدامه تتوجّه نحو الحمّام ، وبتململ : اقلبي وجهك بس ... أتفاهم معك بعدين وأشوف وقتها كلام مين بيمشي.
رفعَت حاجبها الأيسر بحنق ، ألم تقُل له بأنه لن يستطيع إغضابها اليوم بعد أن رأت درجاتِها؟ حسنًا ما الذي حدَث في النهاية ولمَ ينتصر عليها دائمًا باستفزازِه !!


،


سكَب من الشاي في كأسهِ ومن ثمّ مدّه إليه وهو يُجيب على سؤاله " متى رايح " بصوتٍ هادئ : بهاليومين ، بس ما راح أطوّل كثير إن شاء الله يومين وراجع . . شلونك أنت اليوم زاد وجَع ظهرك؟
سلمان الذي كان شبهَ مُستلقيًا ، يسندُ ظهره على الوسائد وهو يتناولُ الكأس من يدِه : أتوقع بضطر للعملية ، هذا كلام الدكتور ... الله أكبر على هالعجز بس ..
عناد يبتسِم : تحسّ بالقهر وأنا اللي أخدمك؟
سلمان يرفعُ حاجبه : الله يغنيني عن خدماتك لو بتتمنّن علي فيها.
عناد : هههههههههه أمزح شدعوى ، شفيك هالأيام علي صاير ما تقبل مزاحِي !
سلمان بجمود : للأسف أنت داري إنه مو وقتك.
عناد : للأسف لأني داري؟
سلمان : يا زينك جاهل . . بس وجه نكبة.
ابتسمَ رغمًا عنه : هذي جزاتِي جالس معك بعد؟ للأسف أنا اللي بوجه المدفع دايم .. لا منك ولا من سلطان الثاني ، صاير نفسية.
غضّن جبينه تلقائيًا ما أن ذكِر اسمه، وبجمود : بيتعلّم من كل هذا.
اختفَت ابتسامةُ عناد تدريجيًا ليتنهّد أخيرًا وهو يحمِل كأسهُ ومن ثمّ يتحرّك نحو أقربِ مقعدٍ ويجلس ، وبهدوء : ما أشوفه يتعلّم ويصير أقوى .. أنت تأذيه وتبدّل شخصيته بس ، ليه ما تقوله وتريّح عمرك وتريحه هو بالمقام الأول . .
سلمان بحدّة : كم مرة قلت لك لا تتدخّل بمواضيع ما تخصّك ! وصلت لمرحلـة على كثر ما حذرتك منها عاندتني .. الحين وش تبي بعد؟
عناد يتنهّد بهدوء : شكل نفسيتَك مخيسة مثله.
سلمان بحزم : عناد !
عناد يبتسِم : سلطان ترك مرته.
عقدَ سلمان حاجبيه فجأةً دون استيعاب، إلا أنه سرعانَ ما زفـر بيأسٍ وهو يضعُ كفَّه على رأسه ويلفُظ بنبرةٍ خافتة : وش الحين بعَد !
عناد : لا تلومه ، في النهاية أنت اللي غلطت لما ما اخترت له إلا بنت واحد مثل أحمد، أنا الثاني كنت غبي لما ظنيت ماراح تتأثر علاقتهم فيه.
سلمان يرفعِ وجهه وهو يُميل حاجبيه في عُقدةٍ خافتة، ابتسمَ بسخريةٍ ليلفظَ أخيرًا بتهكّم : طلع مافيه منكم رجّال ..
عناد بصدمة : أنا وش سويت؟
سلمان : دام هذا اللي طلع من سلطان بيطلع منك اللي يشابهه ... ما ربيتكم عدل للأسف.
عناد يبتسم : أفا بس ما هقيتها منّك .. وش دخلني بقرارات سلطان أنا؟
سلمان بحدة : طلقها؟
عناد : ما أتوقع ، يمكن ناويها.
سلمان : بكسر راسه لو سواها ... أنا اللي بشوف شغلي معه.


،


جلَس أمام التلفازِ بهدوء، يضعُ ساقًا على أخرى ويدهُ تمسُّ شاشـة الهاتِف بانشغالٍ عجول، يكتبُ رسالةً سريعة، يُخفض ساقه عن الأخرى وهو يعقدُ حاجبيه بانزعاجٍ مُفاجئٍ من صوتِ التلفاز، رفعَ رأسه وهو يمدُّ إحدى كفيه لجهازِ التحكّم ويده الأخـرى تحمِل هاتِفه. أخفض من الصوتِ وملامحه مشدودةٌ بحدّة ، ومن ثمّ وضع الجهازَ من جديدٍ ليعود للتركيزِ بشاشةِ هاتِفه.
لم ينتبهْ للشخص الذي فتحَ الباب ودخـل إلى غرفته، لم يكُن أحد يدخُل بتلك الطريقةِ عادةً، لذا ما إن سمِعَ صوت الخطواتِ بعد أن تنبّهت حاسة السمعِ من رقودِها حتى رفع رأسه وهو يوسّع عينيه باستنكارٍ لتسقُط على سعُود الذي رفعَ حاجبهُ ما إن نظر إليه.
تصلّبت ملامِح تميم للحظة، إلا أنه زفـر أخيرًا وهو يقفُ ويدسُّ هاتِفه في جيبِه ، وبنبرةٍ باردة : كنت تقدر تدقّ الباب !
سعود يتحرّك ليجلس على الأريكة المُنفردة وهو يبتسمُ بسخرية : أرسلت لك الخدامة وقبل لا تعلمك إنّي أبيك صرفتها . . مانِي محترم خصوصيتك طبعًا بعد هالحركة منك.
رفعَ تميم حاجبهُ باستخفافٍ وهو يبتسم : وش تبي؟
سعُود بجمود : وش اللي صار بموضوع بدر واللي حوله.
هزّ تميم كتفيه وهو يردُّ ببرود : ولا شيء للحين.
سعودْ برفعةِ حاجِب : يعني !
تميم بابتسامةٍ أعاد وضع ساقهِ اليُسرى فوق اليُمنى : يعنِي ولا شيء للحين.
سعود بحدّة : تميم تكلم معاي زي الناس ، وضّح.
تميم بقلّة صبر زفـر : قايل لك من قبل خلّى الموضوع كامل علي .. أنت اللي تبيه بالمقام الأول يموتون والا تتأكد إنهم مالهم علاقة بالموضوع؟
سعود : يهمني أرجـع لسنين الشغل قبل ، محد مخرّب علي ومحد يذكرني إلا بالخير.
تميم بابتسامةٍ مُستفزّة : وش تعريف المنافق؟
سعود يزجرهُ بحدَّة : تميــم عن قلّة الأدب !
تميم : ههههههههههههههه أمزح ياخي . . بس أنت اللي جبتها لنفسك ، وش اللي ورّطك مع أحمد ذا اللي جاب فيك العيد من سنين وخلّى العالم تفهم ولو بشكل بسيط مين أنت !
سعود يزفُر بضحر : ردَاة حظِّي.
تميم : كنت بغلط بس سكت.
وقفَ وهو يبتسِم لنظرة سعود المُحذّرة ، كتمَ ضحكته ، ومن ثمّ تحرّك نحو الطاولة التي استراحَ من فوقّها إبريق الشايِ وآخر زجاجيّ للعصير ، وبنبرةٍ عابثة : أيه يا ضيفي وش تبي تشرط ؟


،


"اففف شعرك مُزعج "
ضحكَ بعد سماعه لتلك الجُملة المستاءةِ منها، كان الوقتُ قُرب صلاة المغرب بدقائق طويلةٍ بعض الشيء . . وضعَت كفيها أسفَل رأسه لتحاول جعله يرتفع عن حجرها قسرًا وهي تُردف بضجر : ابعد عن السخافة عاد، لا تجِي عمتك وتشوف حركاتك الماصخة ذي! مُراهق !!
أدهم يبتسمُ باسترخاءٍ وهو يُثقِل رأسه أكثر بعناد : بالأول وش فيه شعري؟
إلين تمطُّ فمها بامتعاض : مُستفزّ ، ودي أغير جيناتك وأخليه ناعم ، * تخلخلَت بأصابعها شعرهُ وهي تُردف * كنت أقول بتزوج رجّال شعره ناعم ويفتح النفس جيتني أنت بكل تناقضات اللي أبيه.
أدهم يرفعُ يدهُ ليُمسك معصمَ يدِها التي تتخلخلُ بأصابِعها شعره، ابتسمَ وهو يُبعدها عن رأسه، ومن ثمّ نهضَ عنها وهو يبتسمُ ابتسامةً مُستفزّة : هو يحصلّك أصلًا؟
إلين دون مبالاةٍ تمدُّ يدها نحو جهاز التحكّم بالتلفازِ وهي تلفظُ ببرود : لا ما يحصلّي خلاص لا تطوّلها.
ضحكَ على تعليقها المُتملمِل ، في اللحظـةِ ذاتها التي دخَلت فيها سُهى وهي تتثاءَت وتمطَّ ذراعيها بكسل . .
نظر إليها أدهم وابتسم : وش هالنوم يا شيخة؟
سُهى بنبرةٍ ناعسة : مدري أحسني ما نمت من دهر.
أدهم : ما بعد جاء موسم السبات للدِببة.
سهى : سامج.
جلسَت وضحكته الخافتة تتسلّل إلى مسامعها، نظرت إلى إلين لترفعَ حاجبها الأيسر وهي تلفُظ : شفيه الأخ مروّق؟
إلين تهزُّ كتفيها : يمكن شعره التف على دماغه بالغلط وهستَر.
ضحكَت سهى ليمرِّر أدهم أنامله بين خصلاتِ شعره وهو يلفظُ بضجر : يا لييييل !
إلين تستدِير بكامِل جسدها نحو سُهى بحماسٍ وكأنّها تريد استفزازهُ بالحدِيث وحسب : لا جد أحد من أهله شعره كذا؟ أشوفك ناعِم؟
سهى بضحكة : أبوه شعره ناعم أخواني كلهم بعد وحتى أبُوي ، وأمّه بعد كانت أشقرانية ما أخذ منها شيء . . مدري جيناته طالعة على مين.
أدهم يرتمِي برأسهِ على حُجرِ إلين عمدًا وهو يبتسم : فيه منّك أخذت من عيونك الحلوة.
اشتعلَت وجناتُ إلين وهي توسّع عينيها بصدمةٍ من حركتـه أمام سهى التي ضحكَت وأكملت : أيه أكيد بتقول حلوة دام فيه شبه . .
شعرَ أدهم بتصلّب جسدِ إلين حرجًا وهي تُشتّت عينيها وترفعُ ركبتها قليلًا في رسالةٍ عنيفةٍ بأن ينهض، كتمَ ضحكتهُ وهو يلفُظ : نجلاء ترى ما فيه داعي تستحين اهجدي.
شدّت على أسنانها بغضبٍ من فرطِ خجلِها، لم تستطِع النظر لوجه سهى التي كانت تبتسمُ دون أن تعلّق بشيء، أرادَت شتمهُ في ذلك الوقت من الموقفِ الذي وضعها بِه بكلّ وقاحة ، قال ذاك الاسم أيضًا !! ، بينما كان هو يستمتِعُ وعيناهُ تنظُران بخبثٍ لسُهى التي أشفقَت عليها لكنّها شتّت عينيها وهي تنطُق بابتسامةٍ كي تمرّر الموضوعَ وتجعل خجلَ إلين يرتدُّ عنها قليلًا : أمه كانت جميلة مرررة ما شاء الله ، حتى أخلاقها تجنّن وهي مسيحية.
إلين من شدَّة غضبها نظرت لسُهى لتلفظَ بقهرٍ وحدّة : إسلام من غير مسلمون وعندنا مسلمون من غير إسلام.
كانت تقصِد أدهم، أرادَت إغضابَه، لكنّه واجهها بضحكةٍ صاخبـةٍ أشعرتها بالقهر أكثر وهو يرفعُ كفيه ويصفّق : لله درك يا زوجتي ... دُرر دُرر . .
تصنّعت سُهى أنها لم تفهمها ولم تدرك أنها تقصد أدهم، ابتسمَت فقط ، ومن ثمّ أردفت بهدوء : على قولتك ، إسلام من غير مسلمون . . للحين أذكر مواقف بسيطة معها قبل لا يتركها أخوي الله يرحمه.
تردّدت إلين قبل سؤالها الفضوليّ، كان أدهم من فوقِها قد هدأ، استشعَرت بصعوبةٍ أنفاسُه التي اختلفَ تبايُنها على بشرتِها الناعمـةِ من أسفلِ بنطالِها الأسودْ، لم تعلَم ما صيغة الهدوءِ هذا وما معنـاه، لكنّها استطاعت تخمِين أنّ هذا الهدوءَ ليس هدوءً بما بمعناه وما يقتضِي ، هو هدوءٌ صاخِب، يُزعجُ به صدره الصامت وحسب!
كادَت تتراجَعُ عن سؤالها، لكنّها لم تستطِع وهي ترفعُ وجهها إلى سُهى، وتلفظُ بخفوتٍ متردّد : طيب، هو أساسًا ليش طلّقها !
انبثقَت من صدرِ أدهم زفـرةٌ صامتـةٌ لم تصِل معالمها لسُهى، لكنّها جعلَت جسدَ إلين يقشعرّ ، هل كانت تلك الزفـرةُ غضبًا من سؤالها؟ أم أنها كـانت زفـرة حسرة، خيبة ! . . لم تدرِي ، بينما ابتسمَت سُهى ابتسامةً لا تَكادُ تُلحظ، عينيها تعلّقتا بعيني أدهم المُعتمتيْن بطريقةٍ تدرك مقتضاها ، لن يفهمه أحدٌ أكثر منها، حتى إلين لن تفهمه إطلاقًا كما هي ! . . ابتسمَت لهُ بحنان، ومن ثمّ همسَت مُجيبةً إلين دون أن ترفع عينيها عنه، تقرأ اختلاجاتِه وتبدّلاتِ ملامِحه : تزوّجها نزوة ، أو شافها وبغاها ومتى ما طلعت من مزاجه بيطلّقها . . وقتها كان أدهم ولد خلاص وصار بينهم طفل . .
عقدَت إلين حاجبيها، تغضّن جبينها بضيق، وعينيها بشكلٍ تلقائيٍّ انزلقَت إلى ملامِح أدهم الجامـدة والتي لا تُنبِئ بشيء! كلّ الاختلافاتِ الواضحة لها فيه هي في أنفاسِه المنفعلة التي ترتطِم ببشرتِها فتشعر بها تفكّك جزيئاتها وتُذيبها! . . أعادت نظراتها لسُهى التي أكملت بشرودٍ وكأنّها غرقَت فجأةً في تلك الذكريات : لما تزوجها أبوي عصّب وبغاه يطلّقها بس هو في البداية رفض فطرده أبوي وعاشْ بروحه هنا لين ما طلّقها ورجع يراضي أبوي ومعاه أدهم وبوقتها رضى عليه . . بعدها بسنوات قليلة تزوّج رقية بعد من غير موافقة أبوي ، ونفس الشيء ما رضى ، في البداية سكْت له بس بعدين صارت مشاكل بينهم خلت عبدالله يطلع من جديد ويعيش هنا مع زوجته وأدهم . . من يومتها ما عاد رجَع ، وكبر أدهم هنا لين هالعُمر.
كان لذكر " رقيّة " وقعًا على صدرِها الذي تحشرج، شتّت عينيها بضيق، بينما رفعَ أدهم عينيه الصامتتينِ إليها وكأنّه شعر بها . . عقدَ حاجبيه، ومن ثمّ نهضَ ليجلسَ فجأةً وهو يلفظُ بصوتٍ هادئٍ صلب : قفلوا الموضوع . .
ارتبكَت سُهى قليلًا ، لكنّها في النهاية ابتسمَت ابتسامةً تواسِيه بِها وهي تومِئ برأسها ، لم تكُن تعلم وقتها أنّه أمرها بإغلاق الموضوع لأجـل إلين وليس لأجلـه، هو لم يعُد يهمّه ذكر ماضِي عائلته المفقودةِ أطرافها، إحداها لا يدري أين، وإن كانت لا تزالُ على قيدِ الحياة ، والأخـرى فقد معناها في حياتِه، وفقدَها مرّةً أخرى ، على قيدِ الممات !
لم يعُد يهمّه ذكرها وإن أثّرت بِه ، لذا لم يبالِي بحديثهما ، وأيقضته النقطة الأخيرة ، رقيّة، وتأثيرها فقط على إلين التي لم تتجاوَز كلّ ذلك بعد.
ابتعَد عنهما ليصعَد للأعلى في اللحظات التي كانت فيها إلين تتابعه بعينيها بصمت.


،


تتحرّك خطواتُه نحو البابِ الواسِع وهو يقبضُ على كفّها الناعمـة ، ابتسمَ وهو يستمِع لحديثِها المُتذمِّر، أدارَ رأسهُ نحوها ليلفظَ بتساؤل : مستحيل أكون معك وما تتحلطمين !
رفعَت حاجبها : من الحين أقولك ماني داخلة معك.
فواز بابتسامةٍ هادئة : والسبب؟
جنان : كِذا ، ما أبغى أطلع معك بنتظرك لين ترجَع . . لا تزنّ علي عاد !
قالت آخر كلماتها برجاءٍ عميقٍ لم تستطِع السيطرة عليه، حينها ابتسمَ رغمًا عنهُ وهو يومئ برأسه وقد رحمها، ابتسمَت براحةٍ أشرقَت في ملامِحها لتتّسع ابتسامتهُ في المقابـل .. لكنّه فجأةً اقتلَع من شفاهِه بسمتها ما إن عبـرت صورةُ هيثَم أمامه ، تجمّدت ملامِحه بشكلٍ تلقائيٍّ وهو يتجاوزُ بابَ المبنى ويدخُل ، بينما توقّفت جنانْ مستندةً على إطارهِ وهي تلفظ : بنتظرك هنا، لا تتأخر.
لم يُجِب عليها وهو يتلاشَى من أمامِ عينيها، مرّرت لسانها على شفتيها ومن ثمّ تراجعَت للخلفِ حتى أسندَت ظهرها على إطارِ الباب وهي تكتّف ذراعيها إلى صدرِها . . انتظرته للحظاتٍ قليلة ، جـالت فيها صورٌ سريعة ، صورٌ مُعظمها كـانت لابتساماتِ هيثم الخبيثة .. عقدَت حاجبيها بضيق ، أسدلَت أجفانها قليلًا وهي تتنهّد وتُتمتمُ بصوتٍ خافِت : يا رب بس!
زفـرت بيأسٍ وهي ترفعُ معصمها لتنظُر للساعـة، تلك الحركة كانت دلالةً على الاختلاجاتِ التي ارتبكَت في صدرِها، لم يكُن قد مرَّ الكثير من الوقتِ على ذهابِ فوّاز ، لذا كانت تلك الحركة مغلّفةً باضطراباتٍ واهنـة . .
رفعَت رأسها وهي تُميلُ فمها بضيق ، لكنّ عينيها اصتدمتـا فجأةً بوجـهٍ تعرفه ، وجـهٌ قديم ، قابلها لتتّسعَ عيونهُ بصدمـةٍ في بادئ الأمـر ، قبل أن تمرّ فيهما شرارةٌ مـا ، شرارةُ غضب، وحقد ، وغيرة !
جــيــهان !!!

.

.

.


انــتــهــى

قبل هاللحظة كنت كاتبة موعدنا الخميس هذا، بس بعد ما شفت استياء بعض البنات وعدم رضاهم عن الأحداث بيكون إن شاء الله الخميس القادم :$

البارت الجاي طويييييل وفيه تطوّر ، اللي يقول الأحداث روتينيّة باخذ كلامكم بعين الاعتبار إن شاء الله :* شكرًا لكم . .


ودمتم بخير / كَيــدْ !

شذي المري 27-09-16 06:43 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
اه ياربي ايش يصبرنا للخميس، 💔💔😭😭

fadi azar 27-09-16 11:34 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 06-10-16 09:28 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


عُدت والعود أحمد بعد أسبوع وشوي ، والبارت ترى يستحق أحداثه دسمة :$ هو والبارت الجاي إن شاء الله بيكون أطول على الارجح وأكثر تشويق ، + بفتح آسكي بعد ما أنزل البارت مباشرة .. كنت مترددة ففرضت على نفسي فتحه بعد ما أعلنت بتويتر ، :*
- ما أضمن ما أسحب عليه من جديد :(

وشكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(82)*2



ضوءٌ خافِتٌ يغدِر بضيقِ المساحات، عُمقٌ واجِفٌ في بؤرةِ الأحداق يُنير ومن حوله العيون بملئِها مُعتمة، سُمكٌ من المشاعر التي تضاربت في ذروةِ الحقدِ والغيرةِ الأنثويّة التي اشتعلت.
سقطَت نظراتها على شرارةٍ ارتفعَت مباشرةً إلى أهدابِ جنان التي عقدَت حاجبيها وهي تُرخي يديها بتوجّس، رغم أنّ المفاجئة أجفلتها للحظة إلا أنّ نظرات جيهان جعلتها تتصلّب قليلًا وتترقّبها بتوجّس.
ردّاتُ فعل الأخرى أُحيلت للا شعور، لم تنتبه لكونِها وقفَت، ولفتت الأنظـار من والدِها وأرجوان إليها، لم تنتبِه لكونِها اشتعلت بحقد، وعقدت الحواجِب استنكارًا، لم تنتبه لكونِها حدجتها بعيونٍ متقّدةٍ كمشكـاةٍ مُشتعلة، وأنّ نظراتها المتوجّهة لجنان بتلك الطريقة جعلت أرجوان ويوسف ينتبهان لمن كانت ترتحل، وتفضحها !
تقفُ الآن أمامها بكلّ الهيئةِ الصارخةِ ببذخِها رغم بساطتِها وحشمتها، تقفُ هنا عند الباب! لمَ؟ ومع من؟ بالتأكيد معه . . تلك التساؤلاتُ جاءت من فرطِ الوجَع الذي انفجرَ في صدرها عينًا من ماءِ الخيبات، من حسرةٍ جعلت بشرتها تذبُل لوهلـة، قبل أن تغرقَ باخضرارِ النفور ، لمَ جاءت ومع من! هل تهم الإجابات التي تدركها جيدًا؟ هل يهمها أن تنتظرهُ عند الباب، أن يرى فواز تلك الملامح في كلّ يومٍ ويحادثَ مسامعها، يسمعُ نعومة صوتها، وماذا أيضًا؟ لا تريد أن تفكّر بأكثـر من ذلك فتُقتل تلك الصلابة التي تتحلَّى بها الآن - زيفًا -، ومن ثمّ تقتل هي من بعدِها.
هل يهمّني أن أعلـم؟ أن أحترق فقط وهو لا يبـالي؟ وإلى متى أحترق وهو ينعمُ بالتناسي ومحاولة تجاوزِ حبّه المتين لـي!
قسَت ملامحها أكثر، نظراتها المحترقة انطفأت ، حتى عينيها اللتين كانتا تنظُران لها بغيرة، تتذوّق جمالها بأحداقها ، كلّ ذلك انطفأ لتنظُر لها بكِبرٍ وهي ترفعُ ذقنها باحتقـار لذاك الجمال أيضًا، لا يهمها ، لم تعُد تهمّها ، ستقنع نفسها بذلك حتى يتصيّر الزيفُ حقيقة ، إن بقيَ حبّها لهُ يقتلها في كلِّ يومٍ ستتناساه ، تمامًا كما يفعل هو ويضحكُ لسواها.
صدّت عنها باحتقار بينما كانت نظراتُ جنان الهادئة تتّجه نحوها بصمت وقد ارتخَت قليلًا، رأت الصراع القائمَ في وجهها الذي تشنّج ليرتخي بعد ثوانٍ طالت وكأنها كانت تُهذِّب قلبها بنصائح من عقلها كي تستفيق على مشاعرها العنيفة. تكرهها، تُدرك ذلك، تحقد عليها، تدرك ذلك! تراها امرأةً لم تُجِد سوى سرقة رجلٍ تعلّق بزوجته، على الأرجح لا تدرِي كيف تزوّجت بِه، لا تعتقد أن فواز كان ليُخبرها، لذا ستظنُّ أنها أوقعته بجمالها مثلًا! . . زمّت فمها بقهرٍ وهي تُخفض نظراتها لتصتدمَ بالأرضية المُبلّلة بماءٍ انسكَب، ما الظنون التي طرأت في بالها تجاه امرأةٍ تزوّجت صديق أخيها وهو يُحبِّ زوجته؟ حتى إن لم تظنَّ سوءً وأخبرها فواز بكيفية زواجه فهي في موضعٍ مثيرٍ للشفقة . . كيف أوقعَت نفسها في هذا الموقع؟ كيف ارتضَت في لحظةٍ لنفسها كلّ هذا؟
مرّرت لسانها على شفتيها وهي توجّه عينيها ليوسف الذي نظر لجيهان بحزمٍ وهو يحثّها على إكمال سيرها بعد أن شكَّ بهويّتها وأنها ذاتُها زوجة فواز الحاليّة، في حين عقدت أرجوان حاجبيها وهي تصدُّ عنها وتنظُر لجيهان بعطف، تفهمها جيدًا، كيف لا وهي التي تعيشُ صخبها الدائِم وجنونها! لفظَت بحزمٍ وهي تتقدّم كي تُصبح بجانِبها مباشرة : ما عليك منها ، امشي !
جيهان تنظُر لأرجوان وهي تقطّب جبينها بانفعالٍ كان يتّضح في ملامحها الجامدة بينما صوتها خرج هادئًا لا يُنبئ عنه : ليه شايفتني وش؟ مصدّقة إني بتأثر لأني شايفتها مثلًا!!!
تناسَت والدها الذي لم يصِل إليها صوتهُ وهو يلفظُ بحزمٍ رقيق " جيهان "، تناسَت أن تبقَى بجمودِ ملامحها، حافظَت على هدوءِ صوتها وتناسَت تقاسيمها التي تفضحها أكثر.
كانوا لتوّهم قد عادوا، يقفونُ قريبًا من البابِ وخطاهُم إليه توقّفت، تصلّبت بمسافةٍ لا بأس بها بينهم وبين جنَان التي شتّت عينيها وهي تزفُر بحسرة، بينما زمّت جيهان فمها وسيطرتها السريعة على وجهها وحركاتها تلاشَت وبقي صوتُها فقط ماهو هادئ، ابتسمَت باهتزازٍ وهي تنظُر لوالدها الذي عقدَ حاجبيه بحدَّةٍ وقد خشيَ من ردّة فعلها أمام جنان، إن كان يشكُّ بنسبة واحدٍ بالمئة في هويّتها فالآن هو تأكّد أنها هي، أفرج شفاهه كي يقول شيئًا، مواساة، حثًّا على عدمِ الانكسـار، أنّ لا شيء يستحقُّ ذاك الألـم في عينيكِ! منذ متى تتوقّف الحيـاةُ عند علاقة؟ منذُ متى تتصلّب أقدامُكِ عند مطبٍّ واحد، دون أن تتعثّر وتنتهي أبديًا، تقفين فقط! لمَ! . . جالَت هذهِ الأحاديثُ وترسّبت على شفتيه، كاد يقول منها الكثير بترجمةٍ حازمـة كي لا تتألـم هذا الألم الذي تحاول إخفاءهُ بصلابةٍ زائفة، لكنّ جيهان كانت قد ابتسمت تلك الابتسامة وهي تسبقهُ الحديثَ بصوتِها الهادئ نفسه، بنبرةٍ لا مباليـةٍ تبصقها على فوّاز وعلى حبّه وعلى خيبتها! : معليش يبه ، نكمِّل طريقنا؟
تضاعفَت عُقدة حواجبه، هل اهتزّ صوتها لوهلةٍ أم توهّم هو ذلك! ، لم يجِد ما يقوله، انهَت كلماته بزيفِ ثباتها ومحاولة تجاوزِ هذا الموقف لذا لم يحاول أن يتوقّف عندهُ أكثر وأومأ برأسه وهو يمدُّ يده ليُمسك يدها شادًّا عليها، لو يستطيعُ فقط حمايتها من خيباتها وأحزانِها ! أن يمحق تلك الأعاصير التي رآها في عينيها ما إن سقطتا على ملامِح جنان ، لو يستطيع فقط جعلها تتجاوز بسرعةٍ ولا ينتظِر الوقت الكافي ليمرَّ أكثر ، إن كانَ وقتًا الكافي لتنسى طويلًا فهل سيحتمل أن يراها بتلك الانفعالاتِ التي لم تمنعها عن الخطأ حين وقفت مع فوّاز وحادثته؟
تحرّك وهو يشدُّ بيدهِ الأخرى ليان التي يمسكها بينما تنهّدت أرجوان وهي تسير من خلفِهم، تتابعهم جنان بعينيها وقد شعرت بمرارةٍ في حلقها، بصدأ مزّق بخشونتهِ حنجرتها، كرهَت نفسها في تلك اللحظـات وهم يتجاوزونها كي يدخلوا ، يا الله لا تستطِيع تحمّل حجمِ الاهانة التي تشعُر بها، التي اقترفتها في حقّ نفسها ، لا تستطِيع تحمّل موضعها ، هل يريدونها حقًّا أن تتقبّل زواجها بفوّاز؟ هل يريدها هو محطّةً يعبر خلالها، ومعها أيضًا! هل يريدها بدايةً أخرى؟ وهي ماذا؟ هل تستطيع في يومٍ أن تعيش معه ولا تشعُر بصغرها لأنها تزوّجت من رجلٍ في حياتِه امرأة! ويريدها الآن بدايةً جديدةً ولم ينسى السابقة أيضًا !! أيُّ ظلمٍ ارتضته على نفسها ، أي حياةٍ سارَت فيها !!
لم تستطِع أن تجمُد بوقوفها ولا تُستثَار بانفعالٍ جعلها تتنفّس بقوةٍ ليرتفع صدرها بأنفاسِه الحادّةِ وينخفضَ لأدنـى مراحِل الاختناق، انفرجت شفاهُها وهي تعقدُ حاجبيها وتهتفُ بصوتٍ خافتٍ بعض الشيء إلا أنه كان كافٍ ليصل إليهم، بنبرةٍ مثقلةٍ بالأسـى : لحظة ، جيهان !
عقدت جيهان حاجبيها بشكلٍ تلقائيٍّ وتوقّفت بشكّ، هل نادتها فعلًا! هل نادتها أم أنها تخيّلت !! . . . استدارَت ببطءٍ إليها وهي ترفعُ حاجبها الأيسر بعد أن انفكّت عقدته بالآخر، رمقتها بتساؤلٍ وكأنها تريد أن تتأكّد أنها لفظَت اسمها بينما استدار يوسف هو الآخر بحدّةٍ وهو يقبضُ على كفّها جيهان كي تكمل سيرها، لم يكُن ليرضى أن يتجاهل أحدًا دون لباقة، لكنّه لم يكُن ليرضى في المقابل أن تتوقّف ابنته لأجل أن تتجرع المزيد من الألم!
ابتسمَت جنان ابتسامةً فاترةً وهي ترفعُ نظراتها ليوسف وتهتفُ ببعض الحرجْ : لو سمحت يا عم ممكن أحكي معها شوي؟
لم يُجب وهو يقطّب جبينه ونظراتهُ تنخفض لجيهان التي نظرت لهُ تلقائيًا بنظرةٍ سبقتها الصدمة، فتحَت فمها بتردّد ، كانت لم تستوعِب بعد ، هل قالت أنها تريد الحديث معها فعلًا !!!
للحظـةٍ صمتت، صمتًا كـان معناه " لا " كما فهِم يوسف، لذا كان هو من ردّ عنها وهو يهتف بنبرةٍ هادئـة : اسمحي لنا يا بنتي . . .
قاطعته جيهان بصلابة : لا يبه بحكي معها . . بشوف وش تبي بعد مو أنا اللي تهرب من أشكالها.
يوسف رغم أنّه كان متعاطفًا مع آلامها بل يستشعرها إلا أنه غضب من وقاحة حديثها ليلفظ بنبرةٍ ناهرة : جيهان !
صدّت عنهُ وهي تُميل فمها بتمرّد، لن تهرب، لن تهرب! إن كانت تريد الحديث معها لترى! ماذا تريد مثلًا؟ إغاظتها؟ إذن ستصفعها بحديثٍ يكفيها لتكره حياتها معه وتستشعر بِه حقارتها . . تحرّكت دون أن تحاول إقناع والدها، كانت تعلم أنه سيمنعها بطريقةٍ ما، بنظراته الحادّة ، لكنّها لم تكُن لتهرب!
تجاوزَتها مبتعدةً عنها وهي تلفظُ بنبرةٍ قاسيةٍ فيها الكثير من الأمـر والغرور : أجل امشي عشان نشوف وش وراك.
اتّسعت عينا يوسف دون استيعاب، كـاد يلحق بها ليُعيدها قسرًا لكنّ يدَ أرجوان أمسكَت يدهُ لتهمس : اتركها .. ما راح ترتاح لو طنّشتها ، خلنا نكون قريبين منها بس.
يوسف باعتراضٍ حـاد : نعم؟
أرجوان برجاءٍ وهي تلمحُ بعينيها ابتعادَ جنان خلف جيهان، لفظَت بكلماتٍ تدرك كذبها، لكنّها لم تعلم كيف تجعله يتركها تحادثها، تدرك أنّ جيهان لن تتراجـع مهما حدث : هالمرة أنا بتحمّل المسؤولية، ما راح تغلط عليها تطمّن .. مظهرها قدامها يهمها وأكيد ما راح توضح قهرها.

في الجهةِ الأخرى، لم تبتعِد جيهان كثيرًا بل بقيَت على مرمَى أعينهم، اتّكأت بظهرها على الجدارِ وهي ترفعُ حاجبها الأيسر وتُميل فمها، عيناها ترمقان جنان التي وقفَت أمامها باحتقار واستخفاف، بينما تنهّدت تلك وهي تنظُر بصلابةٍ لعيني جيهان، رفعَت كفّها لتشدّ على عضدها وهي تعقدُ حاجبيها قليلًا وتلفظ بهدوء : أول شيء أتمنى ما نغلط على بعض، بشكل أوضح أنا ما راح أغلط عليك ولا فيه شيء يدفعني للغلط، فأتمنى تواجهيني بنفس الشيء بأسلوبك بالكلام عكس اللي من تو * تقصد نبرتها الآمرة تلك وطريقتها المحتقرة بالحديث *
رفعَت جيهان حاجبيها وهي تبتسمُ ابتسامةً مُتفاجئة، تحرّكت أحداقها لتمرّرها من أعلاها لأسفلها باحتقارٍ وهي لا تتصوّر الوقاحة التي تملكها، أتريدها أن تحادثها بأسلوبٍ ودِّي كأيّ شخصٍ - لم يُسِئ لها -؟ . . هتفَت باستخفاف : هه! أنتِ متصورة إنّ اللي قلتيه الحين يطلّعك بشكل الراقية؟ ما تدرين إنّك وقحة من قلتِ لي ودّك تحكين معي ووقحة أكثر لما تطلبين مني أحاكيك بأسلوب يليق بالبشر؟
جنان تُغمض عينيها وهي تزفِر بصبر، هزّت رأسها بالنفي ومن ثمّ فتحَتهما لتنظُر لها بصلابة : ما علينا ، اللي بقوله . . .
قاطعتها جيهان بحدّة : لحظة! شايفتني بزر والا مجنونة عشان تهزّين لي هالراس وتسوّين فيها ما تلومين عقليتي !
رفعَت جنان حاجبها : وأنا من جد ما ألوم عقليتك.
جيهان بنبرةٍ هجومية : نعــم !!!
ابتسمَت جنان على مضض : غيرتك تسوي أكثر ، لو كنت مكانك يمكن سوّيت اللي أكثر عشان كذا بسوّي نفسي ما سمعتك.
ارتعشَت شفاهها بانهزامِ الإصرارِ والقناعاتِ الزائفة، بانهزامِ تصنّعاتِ تقاسيمِها التي ذبلَت مهما حاولت خلقَ الاخضرارِ فيها، لا يعقل، هل أنا بهذا الوضوح أمْ أنّ زيفي باهِت؟ هل يقرأون جميعًا مافي صدري على ملامحِي؟ هل يرون كم أنّني أحترق وكم أنّني أنصهرُ في ظهيرةِ جورِ حبّي الذي لم يُنعم عليّ ببرودةِ ليلٍ صحراويّ، الذي بقيَ حارقًا في نهارٍ أبديّ ، هل يرون كلّ ذلك؟ هل أنا واضحة !!
ابتلعَت ريقها، الانفعال الحزين والخائِب عبر بسرعةٍ في وجهِها وطردته سريعًا، قسَت ملامحها بقهر، وإن يكُن، هل يهمُّ أن تقرأوني؟ هل سأخضع لهذا الوضوحِ وأضعف أكثر! نعم أحبّه، نعم أحترق بغيرتي، نعم أريده ولن أخضع لكلّ ذلك ، نعم لن أعود! مهما حدثَ لن أعـود لأنّ كلّ الحواجِز أكبر، لستُ إشارةً حمراءَ يتجاوزها متى ما أراد ويقفُ أمامها في أوقاتٍ أُخَـر، مهما حدثَ لن أخضع له، لن أخضع لهُ بالأفعـالِ كما خضعَت مشاعري!
أمالَت فمها في بسمةٍ تنكسِر معانيها بجمودِها، رمقتها باستخفافٍ وهي تُكتِّف ذراعيها إلى صدرها دون مبالاة : أي ، وأيش بعد؟ ما راح أكذِّب على نفسي ... أيش يعنِي أغار؟ وأيش يعني أعاملك على بنود هالغيرة؟ ولا شيء! على قولتك شيء طبيعي ، لو معي كلب خاص فيني وبيوم شفته ترك ايدي وراح يدُور حول غيري بنقهر ... عشان كذا ما يفرق معي.
اتّسعت عينا جنان بصدمةٍ ودون استيعابٍ في بادئ الأمـر، وسرعان ما تسلّل الاستيعابُ سريعًا إلى عقلها لتلفظ بذهول دون أن تشعر : وش هالوقاحة !! صاحية أنتِ تسبين ولد عمك قدامي !!!!
جيهان تبتسمُ بتكاسُل : أبد ، ما سبيته ولا شيء .. قلت لو معي كلب! ما قلت إنه كان معي كلب وراح لكلبة تشبهه عشان فيرموناتها مثلًا عالية وتجذب أكثر من الكلبات اللي حولها فراح لها غريزيًا.
جنان باحتقارٍ بزغ رغمًا عنها في ملامحها تراجعَت للخلفِ وهي تلفظ : أتمنى إنّك تقولين هالكلام من باب الغيرة فعلًا وما يكون لسانك عادةً وقح بهالشكل المُقرف !!
جيهان ببرود : لا أبشرك لساني زفت ومعفن ، حاولت أعدله بس ماش ... قدامك وقدامه ما يهجد ويعاملكم بالمستوى اللي يليق فيكم.
جنان : وتعتزّين بهالشيء؟
جيهان دون مبالاةٍ تهزُّ كتفيها : لا .. بس وش أسوي بعض الحيوانات تدفعك للغلط.
أمالت رأسها قليلًا ومعه فمها، لم تتخيّلها وقحةً بهذا الشكل! حتى في أقصى الاحتمالات التي وضعتها في عقلها بحدِيثها الموجّه عبر الغيرة لم تظنّ أن تنحدِر لهذا المستوى المُقزّز ! . . لم تعلّق على وقاحتها، بل زفـرت، تريد أن تنهي هذا الحديث بسرعةٍ وتبتعد عنها وحسب، تريد أن تُنهي كلّ شيءٍ وتخرج من هذا الجنون، تريد فقط أن تعود باستقلاليةٍ لا يعترضها هوانٌ كالذي يغزو حياتها الآن. لفظَت بصوتٍ لا نبـرة تحمله : ما أقول غير الله يصلح حال لسانك . . ما علينا من هالكلام الحين ، تراني ما أهتم لمصطلحاتك هذي وانجذاب ومدري أيش .. أبي أوضح لك بس إنّ فواز تزوجني بظروف غريبة شوي، وما عندي نية أقولها، بس بصريح العبارة اعتبريني ما دخلت حياتكم .. مكاني غلط وما أرضى أكون فيه ، فتطمّني من هالناحية.
رمشَت جيهان مرارًا دون استيعاب، ما الذي قالته للتو؟ هل توهّمت أم أنها فعلًا قصدت بأنها تريد أن تبتعِد عن فواز وتكسِر علاقتها بِه!
لم تُظهر ملامحها شيئًا سوى عدمِ الاستيعاب، عدمِ التصديق ، انفرجَت شفاهُها قليلًا وقلبها لم تكُن تدرِي في تلك اللحظة ما صيغة نبضاته، هل انفعلت لما قالته؟ هل أثّر بها في شيء!!!
ابتسمَت جنان ابتسامةً اغتصبتها على شفتيها، وبنبرةٍ لا مبالية تريد بها فقط أن تنهي الحديث : بيرجع لك . . فوّاز رجّال والنعم فيه ، بس هو ما يستاهلني ولا أنا أستاهله ... كلنا نستاهل الأفضل وممكن له يكون أنتِ ، بس هو ماهو الأفضل لي.
جيهان ببهوتٍ وعيناها تتّسعان دون استيعاب : يرجع لي !! أنتِ وش قاعدة تخربطين!
جنان تتنهّد : هذا اللي بيصير ان شاء الله.
انتفضَت أطرافها وهي تتراجـع خطوةً مضطربةً للخلفِ ومحاجرها تكادُ تلفظُ أعيُنها من ذهولِها، فكرة أن يعودا أتكون واقعًا في يوم؟ ما هذا الجنووون!!! . . ارتفعَ صدرها بنفسٍ حارق ليهبطَ بشدّةِ انفعالِها، شتّت عينيها بتيه، ما هذا الجنون التي تقوله؟ ماذا يعنِي؟ ماذا يعنِي أن لا تريده؟ مــاذا !!
تحرّكت أحداقها بتشتّت هنا وهناك ، سقطَت فجأةً عليه، هو منبعُ كلّ هذا الضياع، هو من أوى سكونها في صدرِه ورفض أن يردَّه، هو الذي تمادَى بعصيانِ شريعةِ وِحدَتهما معًا، هو الذي يتسبّب بكل ذلك! هو الذي يقتُلها بكلّ بجاحةٍ وتمكُّن!
تجمّدت عيناها، نظرت لهُ بأحداقٍ احترقَت بقهر، لا تدرِي ما معنى ذلك، لكنّها كانت تنظُر لهُ بحقد، بتحدّي وهي ترى عيناهُ تنظُر إليها بصدمةٍ من وقوفِها مع جنان ... لن يتلاعِب بها، لن تسمح !!


،


دخَلت للغرفـةِ بعد مضيّ نصفِ ساعةٍ من صعودِه، مرّرت أحداقها في حنايا الغرفة لتجدَها خاوية، عقدَت حاجبيها لتوجّه عينيها مباشرةً باتّجاه بابِ الحمام الذي فُتح وخرج منه أدهم وهو يرتدي بنطالًا قطنيًا والمنشفةُ تسترخِي على كتفيهِ العاريين ، أخفضَت نظراتها بربكـة، كادت تستدِير لتخرج، لكنّها ترددت، لم تستغرق الكثير وهو يتابعها بطيفِ بسمةٍ خافتـةٍ وهو يتحرّك نحو السرير كي يجلسَ على طرفِه ويتابعها بصمت، ينتظِر ردّة فعلها التي طالَت قبل أن تزفُر زفـرةً حارقةً ومن ثمّ تمدُّ يدها لمقبضِ البابِ لتغلقهُ وحسب.
اتّسعت ابتسامـة أدهم دون معنى واضـح، في حين استدارَت إلين بهدوءٍ دون أن ترفع نظراتها نحوه وهي تهمسُ بنبرةٍ متّزنة : البس .. ودّي أحكي معك.
ارتخَت كفوفه فوق ركبتيه باسترخاء، اعتلَت على ملامِحه عبثٌ معتادٌ لم ترَه من إشاحتها لعينيها، مالَت ابتسامته قليلًا بغرورٍ وهو يصلبُ ظهره ويلفظ باستفزاز واضِح : تعالي نشّفي شعري.
رفعَت إلين عينيها مباشرةً إليه وهي ترفعُ حواجبها باستنكار : نعم!
أدهم يكرِّر ببطءٍ وهو يضعُ ساقًا على أخرى ليضعَ كفوفه كلتاهما على ركبةٍ واحدة : تعالي نشفي شعري !
انخفضَ حاجبٌ ليرتفعَ آخر بعدوانيّةٍ وهي ترمقُ ملامحه المسترخية والمتلاعبـة، وبنبرةٍ جامـدة : تبيني أنشّف هالكومة الشعثاء والحابسة للماء؟ هذا إذا ما ضاعت المنشفة بين خصلاتك بعد.
أدهم : يا حبّك للمبالغة.
إلين تزفُر بقلّة صبر : وأنت يا حبّك لنرفزتي.
رفعَ حاجبًا بعبثٍ مُنتصِر : تعترفين أجل إنّي أنزفزك؟
إلين تتحرّك مقتربةً منه وهي تلفظُ بنبرةِ غرورٍ من الجهةِ الأخرى : أعترف إنّي أنرفزك أضعاف .. وش هالحياة السطحية يا شيخ بس! صايرة بزرة معك.
أدهم يكتم ضحكته ليبتسم بسخرية : زين وأنتِ عارفة.
وقفَت أمامه مباشرةً لترتفعَ عيونه بشكلٍ تلقائيٍّ وابتسامته تلك تتغيّر وهو يشعُر بيديها تحملان المنشفة من على كتفيه لتضعها على رأسه، لفظَت تبتسمُ بغيظٍ فرّغته بشكلٍ مباشرٍ في طريقةِ تجفيفها لشعره، كانت أقرب للفرك العنيف الذي جعله يضحك دون أن يستطِيع السيطرة على ضحكاته وهس تهتف : تراك في القائمة معي ... مُراهق!
أدهم بضحكةٍ وهو يحاول أن يثبّت رأسه الذي يتحرّك مع عنفِ حركاتها : بس اعقلي رجّيتي دماغي ..... بنت بس!
رفعَ كفيه ليُمسك كفيها ويوقفها عمّا تفعَل، أطاحَ بالمنشفةِ جانبًا برأسه الذي نفضه ليسقط منه، ومن ثمّ نظَر لها رافعًا أحد حاجبيه مُبتسمًا، بينما كفيه لازالتا تمسكان يديها : هذا اللي تبينه أدري عنك ... تبيني أقول ليتني ما قلت لك تنشفين شعري.
إلين تبسم : والله عاد هذا أسلوبي ما عجبك مو شغلي.
سحبها لتجلس بجانبِه، وهو يتغاضَى عن الخوضِ في حديثهِ أكثر، وبرويّة : أي وش كان عندك؟ قلتِ تبين تحكين معي؟
ارتبكَت قليلًا في بادئ الأمـر، إلا أنها سرعان ما تنحنَحت لتنظُر له من طرفِ عينها بنظراتٍ تلتوِي كخصلاتِ شعره التي أشعثتها بفوضويّة كفيها الحادتين ، وبنبرةٍ هادئـةٍ ظاهريًا : إيه . . كنت ، كنت يعني أبي أتكلم معك بخصوص الموضوع اللي تكلمَت عنه عمتك.
رفعَ حاجبهُ الأيسر وعيناهُ تتجمّدان بقسوة، ورغم أنّه أدرك أيّ موضوعٍ تقصد إلا أنه سألها بنبرةٍ باردة : أي موضوع.
لم ترتبك من نظراتِه تلك ونبرتِه، بل تابعَت بثقةٍ وهي تثبّت عينيها على عينيه : أمّك.
ابتسمَ دون تعبير : شفيها؟
إلين : ما فكرت تدور عليها؟
أدهم دون اهتمام : لا.
تحرّكت لتسدِير إليه بكامِل جسدها وهي ترفعُ حواجبها باستنكار : ليه؟
نهضَ وهو يسحبُ المنشفة بكفّه ليتّجه للخزانةِ ويلفظَ بنبرتِه ذاتها : مو مهتم . . * أدار رأسه نحوها ليردف وهو يرفعُ حاجبه * ممكن أعرف وش مناسبة هالسؤال؟ وش يخصِّك!
عقدَت حاجبيها وهي تقبضُ كفيها على ركبتيها ونظراتها تغزوهُ باستنكارِها، تغزوهُ برفضِها تلك الإجابـة الجافّة! الفطـرة أن يلقِي الانسـان اهتمامه لانتمائِه، كيف قد لا يُبالِي؟ هل هو ضمن قاعدةٍ شذّ عنها أم أنّ القاعدة عدم المبالاةِ وهي من شذّت فقط!؟ .. ارتفعَ صدرها بهدوءِ أنفاسِها، مرّرت لسانها على شفتيها وهي تحرّك أحداقها في ألوانِ الغرفة الكئيبة ، وبصوتٍ فاتـر : شلون ما تهتم؟
وكأنّها أصابَت بصوتِها وكلماتِها إدراكه، الصلابة التي كانت ملامحهُ تحياها والقسوة التي كانت بين تقاسيمِه تلاشت ليرقّ وجهه، أصابت إدراكهُ بعواطِفها تجاه هذا الموضوع تحديدًا، حينها عقدَ حاجبيه قليلًا ، استدارَ بكامِل جسدهِ وهو يبتسمُ بحنـان : يقدّر العائلة من فقدها .. كونِي مؤمنة بهالشيء ، لأنّي أقدر معنى أم وأب حتى لو ما وضّحت!
ارتعشَت شفاهُها بضعفٍ لتُشيح بنظراتِها عنه وهي تشدُّ قبضتيها بشدَّة، نظـرت للأرضيـة بفراغ، في حين اقتربَت خطواتُه حتى التصقَت أقدامهُ بأقدامِها، لم ترفـع رأسها إليه وهي تزفُر وتطرد ضعفها، بينما هتفَ أدهم بخفوتٍ موضِّح : من سنين طويييلة ما عرفت عنها غير اسمها الأول ، تصدقين؟
اتِسعت عيناها دون تصديقٍ وهي ترفعُ رأسها بملامِح مستنكرة، حينها ابتسـم وهو يعودُ للجلوسِ بجانِبها ، ذراعـه التوَت حول كتفيها ليقرّبها منهُ ويسكنَها على صدرِه الدافِئ ، نبضاتُه وصلت إليها بهدوئِها وهو يردف ليوضِّح أكثر : أبوي ما كـان معترف فيها ، من تركها وتزوّج أمِك صرت ولدها اسمًا .. ما استقرّيت في هويّة صح .. أدهم ولد رقيّة ، هذا اللي ولدت عليه وكبرت وأنا أدري إنه غلط ، ما قدرت أعدّلها لأنه مافيه اثباتات .. أبوي كان متزوّجها شبـه عُرفي وزواجهم مو مثبّت في المحكمة ، يعني بحْ، مالها وجود.
هل عانـى مثلها؟ وربّما أكثـر .. كانت تكبُر وهي تظنُّ أن لا عائلـة لها وأنها كانت قد جُلبت للدنيـا من رحمٍ أحلّ الحرام ، وكانت امها كذلك فعلًا، لكنّها فعليًا يكون لها عائلـة رغم الزيف .. عانـى أكثر؟ لأنها لم تُدرك إلا قريبًا لتبدأ صراعاتِها، بينما هو منذُ صغره يصـارع محيطه لأجـل الحقيقة ولم يجِدها.
رفعَت رأسها إليه وملامِحها تتعجّنُ بعطفٍ وفي ذاتِ الوقت بتساؤلاتٍ جما .. لم تستطِع حبسها لذا هتفت بخفوتٍ متسائل : وشلون تزوجتني إذا أنا وأنت بنفس هويّة الأم !
أدهم بهدوءٍ وهو يمسـح على شعرِها الناعـم برقّة : عشـان كذا ما مانعت تجديد الزواج .. ما استبعدت وقتها إنّ فيه أشياء غلط ما تدخل الراس وممكن يكون فيه تلاعب من أحمد عشان يسرِّع الموضوع وبس.
إلين بشرودٍ حزينٍ بعض الشيء لذكـره : همممم.
أبعدها عنه أدهم قليلًا وهو يمرِّر لسانه على شفتيه : خلينا من هالموضع ، بس بوضّح لك إنّي اهتميت ... الوقت راح ، حاليًا مافيه فايدة ، ما راح تعرفني حتى لو كنت أعرفها.
إلين بفضولٍ تلتمـع بها عيناها بصورةٍ تجعله يبتسم : عندك صورة لها؟
أدهم يكتـم ضحكته : بعدين اوريك .. مع إنّي عارف بتبدين بمقارناتك وتقولين ليه ما أخذت منها كِذا وكِذا.
إلين تُميل فمها بمكر : تراك شين.
أدهم باستفزاز : انعكاسك.
كشّرت في وجههِ لتقفَ وهي تلفظُ بتهكّم : أغبـى كلمة ، ترى عيونك تفضحك وعارفـة وش قد تشوفني جميلة.
أدهم : هههههههههههههه يا رب ارحمني.
إلين بغرورٍ ترفعُ أحد كتفيها : وش قد تحبني؟
أدهم يبتسِم برقّة ، ودون تحفّظٍ لفظَ باستغلالٍ لفُرصٍ تجي على طبقٍ من لحظـاتْ ذهبيّة ، لا تكون فيها عادةً تجاريه الحديث ، تُهديه ابتسامةً وعفويّةً تُهلكه : قد ما أنتِ جميلة.
رغـم الغرور الذي كـان يغزو ملامِحها إلا أن وجناتِها احمرّت ليتلاشى معها وهي تُشتّت عينيها عنهُ وتعضّ طرفَ شفتِها السُفلى، رغـم الاحتكاكاتِ الكثيرةِ والصاخبـة بالتمادي إلا أن تعبيراته تشتّت ثباتها وتجعل الخجل يغزوها كجيشِ حربٍ أصاخُوا في الأسمـاع انتصارًا . .
اتّسعت ابتسامتهُ بمكر ، وفي اللحظـة ذاتِها بانتشاء. أحبّك زهرةً أنا ساقُها ، أنا شوكها .. أقلّك على صدرِي ، وأنهشُ بشوكِي بُعدك. أحبّك أغنيةً أنا لحنُها، أنا عازُفها .. أزيّنها بحضوري، وأمتلكها في اللحظةِ ذاتها. أحبّك قمرًا أنا ليله .. كلّما اشتقتُ ضوءً أسعفتِني ، وكلّما غِرت عليكِ من العيونِ ظلّلتُكِ بغيمي. هكذا ببساطة !
وقفَ ليقفَ خلفها مباشرةً وهو يمدُّ كفيه ليثبّتها قربه من خصرها، لم تكُن قد ابتعدَت لكنّه يدرك أنها كانت لتفعلَ لذا سابقها بتثبيتها وهو يهمسُ من خلفها بحبور ، وبنبرةٍ آمـرةٍ في اللحظةِ ذاتِها : حبيني .. حبيني يا إلين إذا بغيتِ ويا نجلاء إذا بغيت.
حبِيني مثل سما قيّدت غيومها ببياض عشان ما تنزل مطر وتبوس الأرض. حبّيني أنانية عن كل البشر إلا أنا!
ابتلعَت ريقها بصعوبة وقلبُها تتصاعدُ نبضاته بشدّة، بينما شدّ هو على خصرها ليقرّب شفاههُ من رأسها ويقبِّل شعرها مُستنشقًا عبيره.

يِتبــع ..

كَيــدْ 06-10-16 09:41 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


تُلوِّن أظافِر قدميها بطلاءِ أظـافر أبيضًا كبيـاض المفرشِ أسفلها، يُتلـى عليها من البياضِ سوادًا، تتذكّر من النقـاءِ قذارات . . زفـرت وهي ترفعُ رأسها للأعلـى وتغمِض عينيها بقوّة، يديها بانفعـالٍ صامتٍ أغلقَت قنينَة الطلاء لترمِيها جانبًا على السرير، لم تكُن قد تنبّهت للجزءِ الذي لطّخ الغطاء، ولطّخ السرير أيضًا ليتلاشـى بوضوحِه في شبيهه، ينسكبُ الأبيض على الأبيضِ ولا يتّضح، ينسكبُ السواد على البياضِ فيُفتـضح .. كانت تلك كل الحكاية، هي لم تفضَح نفسها بل بياضه كان الدافـع للوضوح والانكشـافِ أخيرًا لتعيش الآن ما تعيشُ من حسراتِها للابتعاد، انتهى كل شيء، وفي نفس الوقتِ لم ينتهي ، انتهَت مسافاتُ الاقترابِ وبقيَت مسافاتُ الجزاء.
مرّرت لسانها على شفتيها الجافتين وهي تفتحُ عينيها لصوتِ البابِ الذي طُرِق، ابتسمَت ابتسامةً تتشبّع بالجفافِ لتهتفَ بهدوء : تفضلي.
دخَلت أمها في ذاك الوقتِ وهي تبتسِم : قلت نمتِ بهالوقت .. شفيك ما نزلتِ؟
غزل تخفضُ قدميها عن السرير لتُلامس بباطِنها الأرضيّة الباردة : كنت أحط مناكير ، ودّي أكشخ اليوم وأعدِّل مزاجي حبّتين.
وقفَت أمها أمامها لتنحنِي قليلًا إليها وهي تُمسك خديها بحنانٍ وتبتسم : تهبلين من غير شيء.
اتّسعت ابتسامـة غزل بشطرٍ من شرُوق، كان وجهُها قد تلوّن بالمساحيق في زينةٍ ناعمـة، همسَت بنبرةٍ مُبتسمة : شكرًا.
ام غزل تجلِس بجانِبها وهي تمسحُ بكفّها على شعرها المنسدلِ على كتفيها، وبرقّة : شلونك اليوم؟
اليوم الذي استُفتِحَ بصوتِه القارِس وكلماته وجفائِه؟ بالتأكيد " بخير " ستكون كذبًا ، لكنّها لم تجِد سوى الكَذب، سوى التصنّع أنها بخيرٍ لفظًا، بينما التعريفُ الصحيح لـ " بخير " أنّهُ عدَم، أنا واللهِ لستُ بخير، أنا بزيفِ - " بخير! " : الحمدلله بخير!
ام غزل بحنان : أقراك.
عقدَت حاجبيها وحنجرتها تلتوِي بتشنّجاتٍ صخَبت، وجّهت عينيها إليها، لتبتسمَ باهتزازٍ وهي تهتفُ بتساؤل : تقريني؟
ام غزل : منتِ بخير.
ابتلعَت ريقها بصعوبـةِ تخثّنِه، يثقُل بكلماتِها التي انصهرَت وذابَت في اقناعٍ كاذِب، صمتت، وعيونها تشتّت عنها باضطرابِ أنفاسها التي تنخفضُ وتيرتهل ولا تعتلي، بينما أردفت امها بهدوءٍ ونبرةٍ تعنِي الإدراك لواقعها : هو مُجمل البخِير عندك .. أدري بهالشيء، صحْ كنت بعيدة كأم، بس ما يعني كذبك راح يمشي عليْ.
تنهّدت بتحسُّر شاطئٍ قلَّ منهُ الماءُ وكثرت حرارةُ شمسِه، لم ينطَفِئ التهابُه برشّةِ مـاءٍ وإن تذوّق فيهِ ملوحتَه. جافتَها المنيّةُ في خضمِ ارتجال النهايات، تِركَةٌ ما بقيَت ترعاها له، تِركةٌ في صدرها وحسب، لا شيء لها سوى الذكرى.
مرّرت ام غزل لسانها على شفتيها بربكـةٍ من فكرة الانغمـاس أكثر فيه، لذا فضّلت ألا تخوض في الموضوعِ أكثر، انحدرَت كفّها من رأسِها إلى كتفِها لتشدّ عليه وهي تتنهّد : خلينا من هالموضوع ، أبيك تتجاوزينه فما بحكِي فيه أكثـر . . * أردفَت بتردّد * بحكِي معك بموضوع أهم.
عقدَت غزل حاجبيها من نبرتِها التي تغيّرت، وبتوجّس : وشو؟


،


صوتُ رنينِ الهاتِف يعلو فس الصالة، ومن بعيدٍ صوتٌ لم يتجانَس معه كان للماءِ الذي ينسكبُ على كفي شاهين، غفلَ عن صوتِ الرنين، بينما عقدَت أمه حاجبيها بانزعاجٍ وهي تجلسُ على الأريكة التي كانت أمام الطاولـة المُستقرِّ فوقها هاتِفه.
أمالت فمها، ومن ثمّ تأففت ليرتفـع صوتها بمناداةٍ جافّةٍ له : شاهين جوّالك يرن.
لم يأتِها ردٌّ منه، لكنّها لم تكرّر مناداتها لهُ وهي تقلّب بين قنواتِ التلفازِ دون أن تستقرَّ على قناةٍ واحدة .. لم يتوقّف الرنين الذي أزعجها بينما شاهين كان قد تأخّر، لذا زفـرت وهي تنهضُ هذهِ المرّة، تمدُّ يدها للطاولـةِ لتقلّب الهاتِف في كفها وتنظُر للاسم الذي ارتسـم بأحرفه الأربعة أمام عينيها بوضوحٍ تـام . . اتّسعت عيناها رويدًا رويدًا وهي تفقدُ النفَس لبرهـة ، غلّف أسماعُها اسمٌ وحسب، سمعَت فيه صوتهُ هو .. ابنها الذي ثكلها، رغـم أنّها تدرك في قرارةِ نفسها تشابه الأسمـاء إلا أن متعِب لا يجيءُ ويعبُر بسهولة، لا يجيءُ كأيّ اسم ، يستوقفها مُجدِّدًا جراحـه والعزاء ، يلتهمُ من سكونِها سكونَه!
ارتفعَ صدرها بشدّةٍ ليهبطَ بضعف، بحُزنٍ جعل العبراتِ تتضخّم في حنجرتها ، يا الله يا وليدي! عِش بالفردوس، لم تمُت دنيـا بل عِشت في الفردوسّ .. أغمضَت عينيها وهي تلحقها في خاطِرها بـ " آمين "، دعوةٌ ملكومة، لكنّها كانت صادقـة.
استقرّ الهاتِف صامتًا في كفِّها بعد أن انطفأ رنينـه، ابتسمَت بحسرة، دمعـةٌ خانتْها وسقطَت بعد أن تمرجَحت على أهدابِها .. مرّرت لسانها على شفتيها، وحين كادَت تضعه على الطاولـة من جديد ارتفُع برنينِه مرةً أخرى . . عقدَت حاجبيها باستنكارٍ من تأخُّرِ شاهين ، عادَت نظراتها تلتهمُ أحرفَ اسمه ، تشابه! قالها لها مرّة بعد أن سمعته يلفظُ تقاسيم هذا الاسمِ الطاهِر، لهُ صديقٌ اسمهُ متعب .. الله ما أجمـل المُتعِبِين مهما أتعبوا قلوبنا!
لا تدرِي كيف تجرّأت لترد، قلبُها الملتـاع تجاهل حقيقة التشابـه ورد ، ستقول لشبيهِ اسمه أنّ شاهين ليس هنا الآن ، فقط ، لم تردَّ لأنه يملك ذاتَ الاسم!
لم تهتفُ بشيءْ حتى انبثـق صوتهُ بتجهّمٍ غاضبٍ بعض الشيء : شفيك ما ترد؟ رفعت ضغطي.
توقّف الزمـن ، استقرّت الأصواتُ الصامتـة ، فقط شهقـةٌ عنيفةٌ ما هزّت السكُون ، شهقـةٌ تبعتها نفضـةُ كفّها التي رمَت الهاتِف بذعرٍ وهي توسّع عينيها ، في اللحظـة ذاتِها التي وصلَ فيها صوتُها إلى مسامِع متعب الذي وقفَ من جلوسِه بانفعـالٍ وهو يوسّع عينيه ، تلك الشهقة ، تلك الشهقةُ ما معناها ! لا يُعقـل أن تكون هــي !!


،


رمَت وشاحها بعنفٍ ما إن دخَلت لغرفتها، زفـرت بقوّةٍ وهي تضعُ كفيها على خصرِها، تكادُ تصرخِ انفجارًا، لا يُعقل أن تهزّني تلك الكلمات بهذِه الطريقة، لا يُعقل أن أشغف بتعبيرٍ كاذِبٍ عن عودة!
هل أثّر بِها حديثُها؟ هل ... هل ... أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تشدُّ على أسنانِها بقهر، لمَ ينبضُ قلبها بهذهِ الكثافةِ التي تخنقها؟ لمَ ينبض! منذُ سمعت " بيرجع لك " وهي تعيشُ في دواماتٍ من صخَب، أيُّ مهزلةٍ جعلتها تهتزُّ بهذهِ الطريقة؟ لا .. لا . .
شدّت على أسنانها أكثر، ارتفعَ صدرها وهبطَ بشدَّةِ تنفّسها، لم تشعُر بنفسها وهي تصرخُ بصوتٍ مكبوتٍ من بين أسنانها قبل أن تضربَ بقبضتها على فخذها، فتحَت عينيها لتنظُر للأرضِ بضجيجٍ يغشَى على إدراكها، ينحنِي ظهرها قليلًا وهي توسّع عينيها أكثر وتلفظَ بخفوتٍ غاضبٍ تشتدُّ بِه عروق عنقها : أيش !!! أيش يا حمااااارة .. فرحتي؟ هزّتك كذبتها يا غبية!! تبين ترجعين له! تفكرين يكون لك من جديد وتكونين له!!! غبية .. غبيــة !!! تبين ترجعين له؟ قلبك الحين يصارخ مو مصدّق النعمة اللي طاحت عليك من سماه ! أنفاسِك مغشيّة من كُبر اللي انقال؟ تبينه هاه ! تبينه !
صلبَت ظهرها وهي هذهِ المرّة تشدُّ على شفتِها السُفلى بأسنانِها حتى أنّ الألـم لم تستشعِره حين صرخْ، لم تشعُر أنها تؤلمُ ذاتها وهي تسيرُ باتّجاه النافذة، تقفُ أمامها وتتنفّس بعلوٍّ غاضِب . . نفدَ إليها الغضبُ والتحدِّي خسرته منذ أوّل بادرةِ لقاءٍ بِه، قالتها للطبيبة " أستطِيع التحكّم بِه " لكنّها كذبَت ، هي ليست فقط لا تستطِيع التحكّم بانفعالاتِها ، هو أيضًا يُجيد ضربَ الهدوء بسياطِه، يجعله يصرخ رغمًا عنه . . يا الله ما الذي يحدث؟ كيفَ عُزفَت تلك السمفونيّة بذاك الضجيج واستقبلتها؟ كيفَ استثارتني؟ لمَ لمْ أكُن هادئة؟ هل كان انفعالِي بالفعـل لأنّها قالتها وأنا - فرِحت -؟ حمقــاء .. حمقــاء !!! اعترفتُ بأنّني أغار ولن أخضع لغيرتي، هل أعترف الآن أنّي أتمناه ملء ما انفعلتُ بتلك الكِذبة؟ وفي النهاية أذيّلها بـ " لن أخضع ".
اهتزّت أحداقها وملامِحها تهدأ، رعشـةٌ مرّت عبر شفاهِها ما إن ارتخَت أسنانُها عنها، انفلتت من صدرِها شهقةٌ لم تكُن شهقةُ بكاء، لكنّها خيبة، خيبـة ، تملأُ سوءاتِ شوقِي وتحرقنِي بنارِها . . لم تستطِع أن تتجاهـل ، لم تستطِع أن تُغمض عينيها عن المنظـر الذي تراه، أخفضَت رأسها لتسندَهُ على النافذةِ الباردةِ وتراقبه ، يقفُ معها ، يحادِثها بملامِح تصخُب بالغضب، تلتمعُ عيناهُ بحدّتهما ووقوفهما لازال حيًّا هناك دون أن يبتعدا ، يمدُّ يدهُ إليها ليُمسك كفّها بقوّة أرعشَت كفوفها هي، ومن ثمّ يسحبها معه ليُغادِرا . . قبضَت كفّيها وهي تتابعُ طيفهما حتى تلاشى، ترتعشُ أصابعي، ولا أُجيد إسكانها ، كيفَ تُمسكها وتستشعِر نعومة بشرتها وأنا يُلامسها الهواءُ وتتخشّن؟
سمعَت صوتَ البابِ يُطبق خارجًا، استدارَت وهي تسمعُ صوت يوسف الغاضبِ بعد أن صعَد، كان قد أمرهم بالصعودِ بعد خروج فواز واندفاعِه إلى جنان التي تقفُ معها، هتفَ وقتها بعد وقوفه قُربهما بنبرةٍ مكبوتة " وش اللي قاعد يصير هنا؟ " وفي خضمِ لحظـاتٍ سريعةٍ كان يوسف يقتربُ ليأمرها بصوتٍ حاد أن تصعد!
لم تقفْ مع فواز لدقيقةٍ واحدة حتى، لكنّ تلك الثوانِي القصيرة كانت تكفيها لترسلَ إليه نظراتَ اللوم، نظراتَ الحقد، ونظرات الشوق!
تحرّكت خطواتُها لتقتربَ من سريرِها وتجلسُ على طرفِه، حرارةٌ تسلّلت إلى جسدِها ورغم ذلك ارتعشَت وهي تخلعُ معطفها جالسـة، أزاحتهُ عن كتفيها ليسقطَ ويبقى أسفلها دون أن تسحبَه، بينما كان صوتُ يوسف خارجًا قد هدأ، صبّ غضبه على أرجوان التي كانت تحاول تهدئته وعدم جعله يذهبُ إلى جيهان.
زفـرت بكبتٍ وهي تغطّي وجهها بكفيها وتسندُ مرفقيها على ركبتيها ، تعودُ لسيلِ الشتائِم ذاتها إلى نفسها ، ما كان معنى انفعالها؟ ما كـان معناه !!! لمَ لم تقُل لجنان مباشرة أيّ تركيبـةٍ من جملةٍ لا مبالية؟ لمَ تجمّدت أمامها وكأنّ أمنيـةً مستحيلةً تحقّقت !
كانت تكذِب بالتأكيد، كـانت تكذب! ربّما أرادَت أن تبعدها بطريقةٍ أو بأخرى . . سمعَت صوت بابِ الغُرفة يفتح، أخفضَت كفيها مباشرةً واستدارَت ظنًا منها أنه يوسف، إلا أن أرجوان ظهرت لعينيها وهي تتنهّد وتخلعُ حجابها، اقتربَت منها هاتفةً بإرهاق : جنّنتي أبوي .. ارحميه.
جيهان تعقدُ حاجبيها قليلًا : وش سوّيت أنا؟ مو ذنبي إن فواز جاء لعندنا بكل وقاحة وقدام أبوي بعد.
أرجوان تقطّب جبينها وهي تخلعُ معطفها وتضعهُ على كرسيّ التسريحة، وقفَت أمام المرآة تفتحُ شعرها وهي تلفظُ بحزم : ما سوّيتِ شيء؟ وعنادك له! وشو له تعاندين وما تسمعين كلمته!
جيهان بنبرةٍ فترَتْ فجأة : تبيني أهرب؟
استدارَت لتسندَ وركيها على طرفِ التسريحةِ وهي تهتفُ بانزعاج : شلون تشوفين الأحداث اللي تصير لك بحياتِك! وش مصطلح هروب هذا منتِ بمضمار للتنافس ! طنشيها
جيهان ببرود : تنقلع! مو باقي إلا هالوجه عشان أعطيه اعتبار .. أنا بس ما حبيت أرفض وكأنّي أتحسّس منها فقلت أشوف وش تبي.
أرجوان بتساؤل : وأيش كانت تبي منّك؟
صدّت جيهان عنها : خرابيط.
أرجوان تُميل فمها : جيـــهان! ترى كنت متابعة وجهك وعارفة إنك قلتِ شيء غلط وسمعتي منها شيء مو عادي بعد ! وش قالت؟
جيهان ترفعُ حاجبها بعناد : لا تتوقعين بجاوب عليك وأنتِ تكلميني وكأنّي أشتغل عند حضرتك!
أرجوان : أكلت هوشة أبوي عنّك فبتقولين لي الحين.
جيهان تقفُ دون مبالاةٍ وهي تتّجه للحمـام : محد طلب منك ، تستاهلين.
دخلَت لتطبِق الباب من خلفها وهي تسمعُ توعّد أرجوان لها، تنفّست بعمقٍ وهي تسندُ ظهرها على الباب، أغمضَت عينيها لترفعَ رأسها قليلًا للأعلـى ، لن تبكِي! لن يُبكيها قهرها ، لن تهزمَها الاحتكاكاتُ القائمة بين قلبها وأضلعها التي اقتربَت منهُ مواساة، لن تهزمها عبراتها التي تكتمُها الآن ، وتغصُّ بِها لترفعَ كفّها وتغطّي فمها كاتمةً سعالها المُختنق . . تحرّكت مقتربةً من المغسلة ، نظرت لبشرتها الباهتةِ في المـرآة، هل كانت تكذِب أم أنّ ما قالته حقيقة؟ حسبِي على رعشاتِك يا جسدي ، كيف تتخلخلُ مساماتِك مساحاتٌ له ، وكأنّك تنتظرُ الشعور بِه!


،


" امشي ! "
سحبَت يدها بغضبٍ من يدهِ بعد أمرِه الحاد، التفتَ فوّاز مباشرةً بعد أن تمكّنت من الانسلالِ من بين أصابعه، نظر لها بغضب، بينما فركت هي كفّها بالأخرى وهي تنظُر لهُ بغضبٍ مماثلٍ وتهتف أخيرًا بحدِة : بطّل تجرني وكأني غنم عندك ! شفيك جنّيت؟
فواز يقتربُ منها ليقطع المسافة الفاصلة بينهما، وبنبرةٍ خافتةٍ لفظها من بين أسنانِه بكبت : أنا اللي جنّيت وإلا أنتِ؟ وش عندك تحاكينها هاه؟ وش قلتِ لها ومو راضية تعلميني!
جنان تلوي فمها وقد استفزّها بإسلوبه الهمجيّ في سحبها معه ونبرتهِ الحادة في الحديث، لذا رفعَت حاجبها بعنادٍ وهي تلفظُ بصوتٍ ثابت : مو راضية أعلّمك لأنه مو بالضرورة تعرف اللي أقوله واللي ما أقوله لكل من هبّ ودب!
فواز بشررٍ وهو يوسّع عيناه : جيهان من ضمن اللي هبّ ودب؟ لي الحق أسأل لأنكم ثنينتكم لكم علاقة فيني، كلامك معها مو لله.
جنان بحدّة : لا مالك حق ، هي كانت لها علاقة فيك ... كانت!
فواز : الـ كانت هذي قائمة للحين ، عشان كذا كلامك معها مو لله مثل ما قلت ، لا تحاولين تقنعيني إنّك قلتِ بس أسلم عليها وأسألها عن أحوالها وأمشي!
رفعَت ذقنها بثباتٍ دون أن تهتزَّ بتيّاراتِ غضبِه : لا طبعًا ، كان بيننا كلام خاص.
فواز بزمجرة : جنــــان !!
جنان تبتسم بحنق : بس تطمّن ما قلتلها شيء من باب الإغاظة أو عشان أستفزها بخصوصك.
فواز : طبعًا عارفك .. ما راح تحاولين تقهرينها ، الخوف لا تكونين جبتِ العيد قدامها وقلتِ ما أبيه !
جنان : الحمدلله طلعت ذكي.
اتّسعت عيناه بصدمةٍ حتى كادت محاجره أن تلفظها، لا يمكن أن تكون وصَلت لهذهِ المرحلـة من الجنون !! . . لم يكَد يقول شيئًا حتى سبقته حين أردفت ببرود : ما قلتها لها بهالطريقة .. بس وضحت لها إننا محنا لبعض ، وبترجع لها . .
فواز بصدمةٍ أكبـر : نعم !
جنان تبتسمُ بثقة : اللي خرّبته بصلحه ، بعدين حلوا المشاكل اللي بينكم ولو طلقتها وقتها ما بحس بالقهر اللي أحس فيه الحين لأني أشوف لنفسي دور.
لم يصدِّق، أيّ جنونٍ تقوله؟ أيّ جنونٍ ما يسمـع؟ قالت لها أنّه سيُعيدها إليه؟ . . جحظَت عيناهُ ونظراتهُ انزوَت في الفراغ، أيُّ جنونٍ وضعتهُ في رأس جيهان الآن؟
تراجعَت جنان للخلفِ بحذرٍ حين اقتربَ منها بعد أن وجّه أحداقه نحوها، أحداقٌ كانت تلتمعُ بشرارةِ غضب : أنتِ وش اللي سوّيتيه؟
جنان بقوّة : الشيء اللي يريحني .. ما يهمني هو صح أو لا ، الحياة مجنونة من الأساس فلازم نمشي ورى اللي يريّحنا بس ونحط الصح والغلط على جنب.
فواز بصوتٍ انفجر باحتداده : مجنووووووونة .. مجنووونة .. أنتِ مستوعبة وش اللي سويتيه؟ مستوعبة اللي قلتيه لها !!
جنان بثقة : هيّ أصلًا واضح تبيك وتكابر .. وأنت بعد تحبها وتكابر .. شدعوى ياخي حبكم هذا فرصة وحدة لا تقنعني بتقدر تنساها؟ تبي تكذب على نفسك بكيفك بس مو على حسابي .. ماني لعبة بيدك!
فواز من بين أسنانه أشار لها برأسه أن تسير : امشي قدّامي.
جنان تكتِّف يديها : معصِّب صح؟ أيه عصب حلو أنا أبيك أصلًا تعصب.
فواز يكاد يفقد أعصابه : لا تنرفزيني أكثر!
جنان : مُملين ومثيرين للشفقة .. وش ما كان سبب طلاقكم واللي أكيد كنت طرف فيه ولو بشكل بسيط بس ما أظن إنّه أكبر من اللي تعانونه الحين .. بتحاول تنساها تقول هاه؟ وكله على حسابي وأدري في النهاية إن ما وراك إلا الكذب وبتظل تذكرها وأنا ما أرضاها على نفسي.
فواز يَمدُّ يدهُ ليمسك عضدها ويسحبها وهو يهتفُ بصوتٍ فقدَ تحكّمه بِه واعتلى : امشـي بلا كثرة حكي فاضي !!
جنان بعدوانيةٍ تثبّت أقدامها كي لا تسير : احترمني على الأقل ولا تسحبني بهالطريقة ! وش هالهمجية ؟!!
خفّف من إمساكِه لها ليزمجـر بغضب، انخفضَت كفّه ليُمسك بكفّها مباشرةً وهو يهتف من بين أسنانه بأمـر : امشي!
صدّت عنه بانفعال وهي تتحرّك وفمها يمِيل بتمرّد، مهما حدَث وحتى إن نسيَ فعلًا - رغم أنها لن تصدّق - إلا أنها لن ترضى بهذا الزواج، لن ترضى أن تكون أنثـى تالية في حياةِ رجلٍ ولا تكون الأولى!

يُتبــع ..

كَيــدْ 06-10-16 10:02 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


بصدمة : كيييف !!
ارتسمَت بسمةٌ على شفاهِها، بسمَةٌ كانت معانِيها زائفـة، لم تكُن ابتسامةً صادقـةً بل ابتسامـة حسرةٍ وخيبـةٍ اهتزّت بِها أحداقُ غزل التي اتّسعت عيناها دون تصديق وصدرها يرتفعُ ويهبِطُ بشدَّة.
أفرجَت شفاهها، صمتٌ أطبـق على فمِ أمها بعد انسدالِ الحقيقة، بقيَت بسمةٌ صامتـة، صارخـة، ذات صدى، رغـم الصمت! في حينِ شتّت غزل عينيها على الجدرانِ المشبّعـة بلونِها الذي يميلُ للبُنيّةِ الباهتـة، لم تستوعِب حتى الآن كما يجِب ما سمعَت ، لذا خرج صوتُها خافتًا محتارًا بنبرتِها الغيـر مُصدِّقة : أبوي ... تزوّج عليك؟!!!
أومأت امها وصوتُها يخرجُ أخيرًا بخفوتٍ لا تعبيرَ فيه : أيه .. كان قبل أكثر من 22 سنة.
اتّسعت عيناها أكثر، وكأنّها تتلقى الصدمة من جديدٍ واحاول تصديقها، بجنونٍ لا تدري كيفَ حلّ بهذهِ الطريقة المستحيلة ! مستحيلة!!! كيف يكون قد تزوّج ! حين كان عمرها سنتين تقريبًا ، تزوّج !!!
تمتمَت دون استيعابٍ وببهوت : شلون !
امها بهدوءٍ زائف : ما كـان يهمنِي شلون ، بس اللي أبيك تعرفينه وخلانِي أعلّمك عنه شيء واحد.
غزل تنظُر إليها وهي ترمِش دون ان تستوعب حتى الآن : وشو؟
ام غرل ترمِي قنبلتها لها : عندك اخت منه.
مرّت رعشـةٌ عنيفةٌ في جسدها كتيّارٍ كهربائيٍّ صعقها وجعلها تقفُ وقوفًا أقرب لقفزةٍ مجنونةٍ وهي تستدِير إلى أمها وتهتفَ بصوتٍ مرتعشٍ بجنون : لحظة .. لحظة ... يمه أنتِ حاسّة وش قاعدة تقولين؟!!
ام غزل بحزم : أيه .. اجلسي واسمعي منّي.
غزل وملامحها تتصلّب أكثـر ، التيّار الذي يسرِي فيها لم يتوقّف، يديها تنتفضانِ بجنونٍ دون استيعابٍ للقنبلتين اللتين ألقتهما عليها دون انتظـار أن تذهب آثار الأولى منهما، ربّما تتوهّم ، ربّما سمعَت خطأ .. كيفَ تقول " أخت " بتلك البساطةِ الغريبة؟ كيف يكون لها أختٌ وهي التي خُلقَت وحيدةً حتى من أبٍ وأم! منذُ أدركت الدنيا وهي وحيدةُ والديها، ومنذُ أدركت مفاهيم حياتِها وهي وحيدةٌ حتى منهما، فكيفَ تجيء الآن وتنطُق ذاك الجنون؟
لم تسمَع بقيّة الحديثِ كما يجِب ، لم تشعُر حتى بكفِّ أمها التي أمسكَت كفّها كي تُجلسها بجانبها بجدّية ، تدرك ان تعاملـها مع تلك الحقيقة الغريبـة كان غير واعٍ، لم يكُن صحيحٌ أن تفتعـل هذا الحزم في حقيقةٍ مجنونةٍ كهذه ، لكنّها لم تُجِد غير هذا . . تريد أن تكونَ امًا نقيّةً وتبدأ من جديد ، لا تقصد النقاءَ مع البشر ، بل تقصد النقاء مع ابنتها تحديدًا، ان تحترمَ ما لهـا وما من حقِّها .. ومن حقِّها أن تعلـم بإنّ لها أختًا.
قالت كلمـاتًا ما .. ما كانت؟ . . رمشَت غزل وهي تبتلعُ ويقها وتنظُر لها محاولـةً التركيز، متأكّدةٌ أنّ أمها تعانِي خطبًا ، ما الذي تقوله يا الله !!
ام غزل بهدوءٍ وهي تُمسك كفيْ غزل وتشدُّ عليهما : عارفة الموضوع غريب، وقلته لك بطريقة اكيد غلط بعد .. بس هذي الحقيقة، أبوك تزوج عليْ من سنين وجاب بنت تجاوزت بهالوقت 22 سنة.
غرل بتيهٍ وهي تهزُّ رأسها بالنفي، تشعُر بعواصِف قامَت في صدرها بوسطِ خواء، في صدرِها الصدِئ ليعتليها صريرٌ غلّف أسماعها بوحشيّةِ صوتها الذي لفظَ باعتراضٍ بدأت بوادِر الغضب باعتلالِه : لا .. أنتِ مو مستوعبة اللي قاعدة تقولينه... منتِ صاحية وش هالجنون!
ام غزل توسّع عينيها بحدّة : غزل !
انتبهَت لما قالته، إلا أنها ابتلعَت ريقها بصعوبَةٍ وهي تهزُّ رأسها ، ماهذا الجنون؟ ما هذا الخداعُ التافه!! أيُّ منطقٍ يجعلها تصدِّق أنّ شخصًا ما سيخرج من العدمِ بعد سنينَ وله ارتباطٌ بدمائِها؟ ما الذي تقصدهُ من هذا الكِذب ! أم أنّها جُنّت وحسب؟!!
تنفسّت بعنفٍ حين حاولت تهدِئة أنفاسها وحدث العكس، انفعلَت رئتها أكثر بتضخّمٍ يحاول الهدوء والحديثَ برويّةٍ لتفيق أمّها من جنونها .. لم تكُن تستبعِد شيئًا من والدِها ، تتوقّع منه كل شيءٍ حتى الزواج بِامرأةٍ أخرى وأن يكون له ابنة غير محـالٍ أيضًا! لكن كيف يتواجَد ذِكرها بعد تلك السنين الطويلة لتخترقَ معنى وحِيدة في زمنٍ ضائِع!
تشنّجت شفاهُها قبل أن تُسدل أجفانها قليلًا دون ان تغمـض عينيها لتهدأ، عادت لترفعهما وهي تهتفُ بصوتٍ خافِت : شلون يمه شلون! تبيني أصدِّق إنه بتجي أخت لي بعد هالزمـن الطويل !
ام غزل بسخرية : تطهّرين أبوك من هالغلط التافة وأنت اللي تدرين إنّه ممكن يسوي أكبر !
غزل باختناق : غلط !!
ارتفعَت حواجِب امّها لوهلةٍ دون فهم، إلا أنها سرعانَ ما عضّت شفتها وهي تضربُ جبينها بكفها وتلفظُ بصبر يكادُ ينفد : قلت لك تزوّج .. تزوّج! بس بقاموسي وقاموس أي مرَة نشوفه غلط.
شتّت غزل عينيها بضياعٍ وهي تُتمتمُ بصوتٍ خافتٍ وكلماتٍ تتسارعُ بتيه : متزوج ، وعنده بنت عمرها 22 سنة ! وما جـاء ذِكرها إلا الحين !!!
ام غزل بخفوتٍ متردّد : هو ما كان يبي يعترف فيها إلا كاسم ضايع . .
أخفضَت نظراتها وهي تُردف : كان راميها بميتم.
غزل بصوتٍ اعتلـى بصدمة : ميتـــم !!!
ام غزل تهزُّ رأسها بالإيجاب دون أن تنظُر إليها، لا تريدها أن ترى الشُعلة التي تأجّجت في أحداقِها بغيرةِ امرأةٍ فطرِية : ما كان يبيها عشان كذا ماذكرها قدامك ، وأنا أكيد ما راح أهتـم لها ولا بفكّر أعلّمك عنها بذاك الوقت.
تشنّج وجهها أكثـر ، شفتيها تصلّبتا عن رعشـةِ الاضطرابِ بينما صدرُها بقيَ يتحرّك بانفعـال أنفاسِها ، أشاحَت وجهها عنها وهي تعضُّ باطِن خدّها دون تصديق .. لا يُعقل ، كيف ذلك ! . . لم تدرِي ما مشاعرها في ذلك الوقت ، كانت ضائعـة ، ضائعةٍ بعُمقٍ جعلها تُغمض عينيها بشدَّةٍ وترفع كفها إلى صدرها لتضعهُ موضع قلبها وهي تهمسُ باختناق : اتركيني بروحي !


،


كان الزمـن قد توقّف للحظـة ، ترتعشُ بقوّةٍ وهي تنظُر للهاتِف بجنون ، لا يُعقـل ، كيفَ يشاطره اسمًا وصوتًا؟ كيف يلتهمُ منهُ التفاصيل التي لم تنساها ولن تنسـاها .. كيف يكونُ مِتعب وصوتَ متعب؟ تراجعَت للخلفِ وهي تتنفّسُ بسرعة، تشعُر بنفسِها تختنـق ، يرتعـش جسدها كلَّه بجنونٍ لتُحيط نفسها بذراعيها، لم تستِطع التحكّم برعشـة فكيها ، بالدوارِ الذي أصابها وهي تنظُر للهاتِف بعينينِ متّسعتين بجنون .. تنظُر لهُ بضيـاع ، وبموتٍ لحظيٍّ دون أن تشعُر بالثوانُي الصارخة ، دون أن تشعر بأن الوقت يمضي ولم يتوقّف كمـا تشعُر . .
في حينِ كان متعب من الجهةِ الأخرى قد أخرَس صوتهُ بذعر ، ما الذي يجري؟ ما الذي يجري ! هل يعقل أن تكون هي فعلًا وسمعته؟ ما الذي يجـري !!!
حُبسَت أنفاسه بذعر ، صوتُها هدأ ، إن كانت هي فعلًا فهدوءُ صوتِها لا يبشّر بشيء .. هل حدثَ لها مكروه ؟ لا .. لا يا الله لن يسامـح نفسه لو كانت هي !!
ابتلـع ريقه بصعوبةٍ وهو يتعمّق في استماعه علّه يلتقطُ صوتًا يزيحُ ذعره ، أين أنت يا شاهين .. أين أنت !!! . . لم يكَد يُناديـه حتى جاء صوته ، اتِسعت عيناهُ بانفعالٍ وهو يتحرّك دون شعورٍ منه ذهابـًا وإيابًا .. كانت هي بالفعـل ، كانت هي !!
بينما كان شاهين قد حضـر للصالة بملامح هادئـة ، سقطَت نظراته على أمِه التي كانت تقفُ بذلك الشكل وتنتفض ، في بادئ الأمـر عقد حاجبيه ، لكنّه سرعـان ما شهـق ليهرولَ بذعرٍ إليها وهو يهتفُ بعلوّ : يمـه ! يمـه شفيك ؟!!!
أمسك كتفيها والروح تغادرها للحظـة ، كـان جسدها يرتعشُ بجنونٍ أبيٍّ ويغدرُ بِه .. فقدَ عقلهُ لوهلةٍ وهو يشعُر بجسدها الخاوي والواهِن ، حينها حملها بسرعةٍ رغم قُربهِ من الأريكة ، مدّدها عليها وهو يبحثُ بعينيه عن ماءٍ قريبٍ كي يمسـح به على وجهها وهو يلفظُ بصوتٍ صاخبٍ بانفعـالٍ حاول تهدئته ، لكنّه أبدًا لن يهدأ إن كان انفعاله لأمه : يمه .. بسم الله عليك يمه تسمعيني؟ .. لا تفجعيني ردّي وطمّني قلبي . .
سقطَت عيناهُ على كوبِ ماءٍ يكادُ ينفذُ في الطاولـة الجانبية ، استعجلَ واقفًا ليسير نحوها ويأخذ الكوب بسرعةٍ ومن ثمّ يعودَ إليها ويغمسَ فيهِ يده لينثـره على وجهها .. لم يكُن يعلم تحديدًا ما كانت تعيشه ، هل هي ارتعاشـاتُ فقدان وعيٍ أم انفعالٌ مُستفيق !!
مسحَ على وجهها بحنانٍ ورغم انفعالِه ، أزاحَ الوساداتِ جانبًا كي يرفعَ رأسها وتستطِيع التنفس كما يجب ، كان يستندُ على ركبتيه من فوقِ الأرض وهو يضعُ الكوب بجانبه ويمسحُ على وجهها وشعرها بحنانٍ وهو يهمس : تسمعيني صح؟ أشوف عيونك تناظرني وتهرب أنتِ بخير؟ لا تفجعيني ردّي علي.
كان يلحظُ أنفاسها تهدأ رويدًا رويدًا، شدّ على كفيها بقوّةٍ وهو يبتسـم بحنانٍ ويهمـس : أنتِ بخير ام شاهين؟ شفيك يا بعد عُمري .. لا تقولين شيء بس قولي أي .. عطيني إشارة بسيطة.
لم تُجبه في تلك اللحظة بل ابتلعَت ريقها وعينيها تجحظانِ به ، كانت نظراتُها تتحرّك من جديدٍ لتعودَ لهاتِفه الموضوعِ على الطاولـة ولازال متعب يستمـع بقلبٍ هـوى!
شاهين يقبّل كفيها وهو يعود للهمـس برقّة : بسم الله على جسمك من هالرعشة وعلى انفاسك من صعوبتها .. بسم الله عليك من كل شر .. تسمعيني صح؟ طمنيني للحظة عشان أقدر أستوعب وأروح لعبايتك ، باخذك للمستشفى . . . ردّي يمه.
: صـ ... صوتـ .. ـه !
شاهين يعقدُ حاجبيه دون فهمٍ وكفّه لا تتوقف عن مسـح شعرها : وشو يمه؟
عُلا بعيونٍ اتّقدت فجأةً بدمعٍ نفـد ، لم يستغرق ثوانٍ حتى وهي تجدُ مآقيها مشتعلةً بحُزنها لتبكِي سريعًا وتلفظَ باختناقٍ وعيناها لا تبتعدان عن الهاتِف الذي شدّ انتبـاهه إليه نظراتُها : صوتـ ـه .. اسـ ـم .. اسمه !!
لم يفهـم ، لكنّ صدرهُ كـان قد توجّس ، تنفّس بانفعُالٍ وهو يوسّع عينيه بريبة .. لا يُعقـل أن تقصد ... أن تقصِد !!!
اختنقَ بأنفاسِه وهو ينهضُ بجنونٍ ويقتربُ من الطاولـة ، امتدّت يدٌ مرتعشـةٌ للهاتـف ليسقُط قلبهُ في هاويـة الذعـر وهو يرى ما توقّع . . متعِب !! كـان متعب !!!!
لفظَت ببكـاء ، بضعف ، بصوتٍ يتهاوى في لدنِّ سلطـانِ هذا الغياب : شابهه بثلاثة ، اسمه وصوته وأنت. الله يخلق من الأسماء والأصوات والعلاقات وجَع؟ الشبه مو بس بملامح يا شاهين !! هذا من اسم متعب ومن صوت متعب ومن قُرب متعب منّك ... شلووون؟


،


الساعـة العاشـرة والنصف . . يجْلِسُ في الصالـة العلويّة ، يشعُر بأنّ ظهرهُ يتمزّق بآلامِه وعظامـه تتحطّمُ بجنون ، أسندَ مرفقـه على ركبتيه لينحنِي قليلًا ويتحدّى ذاك الوجـع بجلوسِه هكذا ، رفـع عينيه التي تلتوِي بدوارٍ هزّ رأسه، ضغطَ على جبينه وهو يزفـر ، في اللحظـة ذاتِها التي كـان يسمعُ فيها صوتَ خطواتٍ تقتربْ . . عقدَ حاجبيـه ومن ثمّ وقفَ بسرعةٍ متناسيًا آلام ظهره ، لم يكُن هناك أحدٌ في البيت حتى الخادمات اتّجهن للنومِ مُبكّرًا! ولم يكُن ليزوره أحدٌ دون أن يعلـم من الحارِس ! تصلّب جسدهُ بحذرٍ وظهرهُ تلاشَت آلامه أو نسيها بالمعنى الحرفيّ ، كـاد يتحرّك إلا أنه تأوّه فجأةً ومن ثمّ شدّ على عينيه بغضبٍ من الدوار الذي جعله يترنّح . . تماسَك ، ومن ثمّ عـاد ليفتحَ عينيه وصوتُه يعتلـي بحدّةٍ وقوّة : مين هنـا !
لم تصلهُ إجابـة، لكنّ الخطواتِ كانت قد اقتربَت أكثر لتتصلّب ملامـح سلمان أضعافًا وهو يكرّر بقوّته ذاتها : مين هنا؟
دخـل في تلك اللحظـة سلطان الذي كـان يُميل فمه في ابتسامةٍ هادئـةٍ أقرب للسخريةِ وهو يلفظ : شكرًا لأنّك حكيت .. مشوار أروح لغرفتك وبعدها أطلع خايب.
اتّسعت عينا سلمان دون تصديق : سلطان !!!
سلطان ببرود وهو يقتربُ منه : أيه شفيك مستغرب؟
وكأنّه في ذاك الوقتِ تنبّه لظهرِه ، تجعّدت ملامـحه بألمٍ ليجلسَ مباشرة ، لم يستطِع السيطرة على آهةٍ تسلّلت من بينِ شفاهِه رغمًا عن صلابـتِه وقوّة ملامحه رغـم ألمها، في حين وقفَ سلطان قريبًا منه وهو يرفـع حاجبه الأيسر باستنكار : وش مقوّمك من سريرك؟
سلمان يرفعُ عينيه لينظُر لهُ وهو يبتسـم بسخريةٍ في المقابل : وش اللي جايبك لعندِي؟ تناقُض ؟!!
سلطان يجلسُ على الأريكـةِ التي بجوارِه ليضعَ ساقًا على أخـرى : نفس اللي خلاني أجيك بالمستشفى.
سلمان : ماهـم الناس ولا نظرتهم للموضوع ... ما وضّحت ذاك اليوم بشكل كافي ، وش السبب بالتفصيل؟
سلطان بابتسامةٍ باردة : شويّة اهتمـام بس ، لا تموت الحين.
سلمان بجمود : متى تتمنّى موتي؟
سلطان : بعد ما أكرهـك.
ابتسـم سلمان دون تعبير ، بالتأكيدُ يدرك دواخلـه مهما كان يتصنِع سابقًا العكـس ، لذا ابتسـم ابتسامةً باردةً وحسْب ، ابتسامـةً جعلتهما الآن شبيهين لبعضهما أكثـر ، الابتسامـة ذاتها التي غلّفت شفاهُهما . .
لفظَ سلمان بهدوء : اكرهنـي ، وش اللي يمنعك للحين؟
سلطان : سنـة ما تقايِضها بـ 15 سنـة .. ما يقبلون القسمة على رقم مُنصف! 15 في كلّ الأحوال.
سلمان : وبتنتظر هالسنين عشان تماثـل اللي راح؟
سلطان : الكره بعد الحُب يجي بشقّ الأنفـس والنبضات! بصعوبة ، هذي المشكلة بتتدبّل السنين أضعاف.
سلمان بنبرتِه الجامدة ذاتها : شفيك اليوم شفّاف قدامـي؟
سلطان يُميل فمه بسخرية : قلتها لك قبـل .. صرت واضح مع نفسي ، وارتحت!
مرّر سلمـان لسانهُ على شفتيه وملامحهِ تتصلّبُ بموضوعٍ آخر قاطـع بهِ الحديث، لم ينتطِر، جاءهُ على طبقٍ من غرابـة! لم يتخيّل لوهلةٍ أن يكون هو، لم يكُن عنـاد ويدرك ذلك، عناد فقط من قد يدخُل دون أن يتّصل به الحارس قبلًا ويدخله، وسلطان أيضًا .. لكنّه لم يتوقّع لوهلـةٍ أن يكون هو!
لفظَ بصوتٍ جافٍّ وبنبرةٍ صلبـة : وش اللي صار بينك وبين غـزل؟
رغم أنّ سلطان صُـدِم من سؤالهِ إلا أنّ ذلك لم يظهر على عينيهِ وهو يرفعُ ذقنهُ قليلًا ويرفعُ حاجبـًا ، وبنبرةٍ لا تعبّر عن شيء : الأخبـار توصلك بسهولة .. المشكلة ما قلت لعناد ، شلون درى وعلّمك!
ابتسمَ سلمان دون مـرح : ليه تتوقّعه عناد؟ أدرك كل تفاصيلك.
سلطان باستفزاز : تدري طيّب إنّي قررت أخليها بعصمتي وبنفس الوقت ماهي زوجتي؟
اتّسعت عينـا سلمان وشرارةٌ اشتعلَت فيهما : شقصدك؟
سلطان : بعاقبها لأنها بنت أحمـد ، هذي هي الحكاية .. وقفت حياتها عندي وبتظل معلّقة فيني للأبد بدون ما تكون زوجتي بالمعنى التام.
أغمـض سلمان عينيهِ بقوّةٍ ، لا يصدِّق ، لا يُصدِّق ، هل هذا هو سلطان؟ .. هو نصفُه ، بهدوءٍ كـان يمتلكه سابقًا ، لكنّ الهدوء تبدّل ، أصبـح ميتًا! أصبـحتْ ، أصبحَت رائحتهُ كالأكفـان ! أصبـح من ابنِ فهد في معنى الموتِ ومن ابنِ سلمان في هدوءٍ توارثـه منه وفقده في لحظـةٍ ما !
تصلّب للحظـة ، ارتفـع صدرهُ بهدوءٍ زائُف ، التقطَ سلطان انفعالـه الغريب ، إلا أنه ابتسمَ وهو يلفظ : الضربة اللي أكلتها أثّرت عليك؟ من متى توضّح انفعالاتك يا ... * بسخرية * يا أبوي وأستاذي!
لم ينظُر إليه، عيناهُ تجمّدت بقسوةٍ للأمـام، قسَت ملامحهُ وعقدةٌ سكنَت بين حاجبيه وأخـرى في صوتِه الذي لفظَ بجفاف : تستاهِل خيـرة الرجال .. مو إنت!
لم يستوعِب ما يقصد في البداية من الصمت الذي طال مُعتكفًا عليه قبلَ أن يفردَ تعليقه، لكنّه لم يبالي بمعانِي جملته وهو يبتسمُ بترفُّع : تتمنّى أطلقها وتزوّجها وقتها بخيرة الرجال اللي تقصد؟ صح مقرّر أعلقها بس يمكن أغير رأيي عشان 15 سنة بس.
سلمان يرفعُ نظراته إليه بحدّةٍ ليلفظَ بغضبٍ مكبوت : بطّل تتكلُم عنها بهالطريقة الوصخة وكأنها شيء رخيص! ما عهدتك بهالحقارة !
سلطان يفردُ ذراعيه على طرفِ الأريكةِ من خلفِه وهو يهزُّ كتفيه دون اهتمـام : هالكلام ما يهمني على فكرة .. وصخ حقير ومو من ضمن خيرة الرجـال .. ما تهمنِي هالمصطلحات.
سلمان باحتقار : اخترتها لك لأنّي أضمـن رعايتك لها!
رغـم أنّ كلمتـه كان لها وقعٌ جعل عقلهُ يلتوِي دون فهمٍ إلا أنه ظلّ باردَ الملامِح وهو يهتف : ماني من خيرة الرجـال .. غلطت ولو إنّي أدري إنّ هذا ما كـان السبب.
عقد سلمان حاجبيه بشك : وش تقصد؟
سلطان يقفُ وهو يبتسمُ باستخفاف : إنت وخويّك أحمد أدرى.
كـان يقصدُ الملفَّ الذي كانت تبحثُ عنه ، لم يستبعِد حتى الآن أنّ لسلمانْ جانبًا في الموضوع ، شريكٌ لأحمـد ولا شيء يضمـن براءتهُ من ذاك الخداع !
ظلّ سلمان ينظُر لهُ بملامـح صلبـة ، وكأنّه أدرك مقاصِده .. يُدرك أنّ لهفـة أحمد لزواج ابنته من سلطان كان لمآربَ أخرى يدركها، لذا لم يمنـع خداعًا وكذبًا كقذارةِ كذبتـه تلك!
إذنْ فقد أفسـد أحمد كلّ شيء !! أفسـد الاستقرار الذي أرادهُ لغـزل !!
لم يعلّق بشيء ، في حين ابتسـم سلطان وهو يقفُ ويزفـر، وبنبرةٍ هادئـةٍ يودّعه : يلا ما أطوّل أكثـر ، خلاص عرفت أحوالك وبمشي.
لم يلفظْ سلمـان شيئًا بينما ابتعَد سلطان حتى وصـل للبـاب ، حينها انبثـق صوتُه الهادئ بوعيدٍ تغلغلَ مسامعه بثقـة : حطّ ببالك ما راح أسمـح لهالمهزلة تستمر.
اختفَت ابتسامتهُ التي لم تظهر لسلمان ، كان يقابله بظهرِه فقط ، مرّت غيمـةٌ حُبلـى أجهضَت مطرًا خُدَّعًا لم يُسعفـه باسترخاءٍ كـافي ، ظلّلت تلك الغيمـة ملامحهُ بعبوسٍ جـارف . . وصمتُه تفاقـم على شفتيه .. ليبتعدَ أخيرًا دون أن يهتمّ بالرد.

خرجَ من المنزلِ وهو يمرّر لسانه على شفتيه ، تمايـل فمهُ في ميـلانِ بسمـة ، لم يكُن لها معنـى وسرعان ما قاطعها رنينُ هاتِفه في جيبه.
أخرجه دون اهتمـام ، وما إن رأى المتّصل حتى اتّسعت عينـاه قليلًا بقسـوة . . غزل !


،


قبلَ لحظـاتٍ قصيرة ، تعتكِف بصمتٍ كئيب ، يهتزُّ ساقها الذي ترفعهُ مع الآخر وتحيطهما بذراعيها ، ما الذي جُبلت عليه الحياة لتجيئنا كلّ يومٍ بحلةِ خيبـة؟ ماذا يعنِي ماسمعْت وما لـم أصدِّق حتى الآن ! ماذا يعنِي انسكـابُ حقيقةٍ كـ " أخت " .. حقيقةٍ غبيّة ! لا تعنيني ، لا تعنيني !!!!
عضّت شفتها بقهر ، أغمضَت عينيها دون أن تستطِيع فهم نفسها ، هل هي غاضبـةٌ أم حزينةٌ أم ماذا؟ هل تشبهني! أم تُشبِه والدي ، لا، لحظة! ... أنا أشبه أمّي ، كيف قد تشبهني ! إذن هل أخذت ملامح والدِي الخشنة في نعومةٍ أنثوية؟
هزّت رأسها وهي تفغرُ فمها قليلًا ، ما الذي تفعلـه؟ ماهذهِ الأفكـار الغبيّة؟ لا يُهم من تُشبـه ، والدها لتكرهها ، أم أيّ " عفريت "! شدّت على أسنانها بغضب، هزّت قدميها هذهِ المرّة وليست قدمًا واحدة .. زفـرت بشدّةِ الهواءِ الذي يتسارعُ من حولها بزخمٍ تتوهّمـه ، بينما تصـاعد في تلك اللحظـةِ رنينٌ قريبٌ من هاتِفها الذي كان بجوارها . . انتفضَت فجأةً بشدّةٍ وذعرٍ منه ، لا أحد قد يتّصل بها لذا تخاف حينَ يرنّ على اعتبـار أن يكون سلطان! .. ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ لتمدَّ يدها نحو الهاتِف بتردّد ، حملتـه لتنظُر للرقمِ وهي تتنفّس باضطراب ، وما إن رأت المُتّصل حتى اتّسعت عيناها دون استيعاب ... غيداء !
ردّت باستغرابٍ وهي تعقدُ حاجبيها وتبتسمُ رغمًا عنها بشوقٍ لها : يا هلا . . .
قاطعتها غيداء بصوتٍ باكـي : الحقيني ... الحقيني !


،


تملكُ صورتين ... لم تحرِقها حتى الآن !!!
تتّسع عيناها وهي تنظُر لصورٍ تضمّنت ثلاث أشخاص ، كلها كانت هي فيها ثابتـة ، جزءٌ منها ذكـرى لها مع متعب ... وأخر لها ، في ملامِح عابسةٍ وان ابتسمَت ، مع شاهين!


.

.

.

انــتــهــى


موعدنا الخميس القادم، كنت حابة لو يتقدم بس ربما ننتظم على يوم واحد لو شفت نفسي مشيت صح وما سوّفت . .
+ صايرة عرقوبية :P اكتشفت ان مشكلتي ماهي مع تفاعلي مع الرود بدليل اني اوعدكم وانسخها عندي وارد عليها بس ما أرسلها بالمتصفح لوووول .. مشكلتي مع المنتدى ما ادخله غير كم مرة والا ردودكم معظمها رديت عليها :(

+ دعواتكم لي الاسبوع الجاي امتحانات لفوق راسي

ودمتم بخير / كَيــدْ !


fadi azar 07-10-16 07:46 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 13-10-16 08:38 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، مساءَ الخَير جميعًا . .

اسمحولي بتنزيل الجزء في الغد ، تعبانة من ليلة أمـس وما قدرت أكتب الناقـص ،
حاليًا وضعي كويّس بس مو لدرجة أقدر أركّز بالكتابة وأكمله بهالثلاث ساعات، فمضطرة أنزله بكرا :(

نلتقِي على خير في الغد إن شاء الله ()

كَيــدْ 14-10-16 11:19 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 






سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

(٨٢)*٣


في وقتٍ ســابق . .
" لييييه؟ "
قالتها بِعنف صاحبتـهُ نبرةُ الاعتراضِ وعدم الرضُوخ، نظـرت لها تلك باستنكار، تعقدُ حاجبيها، لا تعقـل تلك المرحلـة التي وصَلت إليها من التمرّد؟
لفظَت بغضبٍ مكبوت : غيداء! وبعدين معك؟ من متى صايرة ترفعين صوتك عليْ بهالشكل!
غيداء تقطِّبُ جبينها وصدرها ينخفضُ قليلًا في زفيرٍ هادئٍ بعد أن غيّبت انفعالاتِها قليلًا، رمقتْها بنظراتٍ غريبةٍ سُرعان ما أشاحتها عنها وهي تعضُّ شفتها السُفلى.
بينما أردفت أم عناد بغضبٍ وهي تجعّد ملامحها : وبعدين ليه ما تبين تروحين لها إلا اليوم؟ لأن عناد مسافر؟
أمالت غيداء شفتها السُفلـى بضجر ، أعادتْ نظراتها نحوها لتعقدَ حاجبيها وتلفظَ أخيرًا بخفوتٍ وكبتْ : كنت بروح عندها اليوم حتى لو عناد موجود .. يعني ما يفرق ولا بسكت خوف لأني مو قاعدة أسوّي شيء غلط..
امها بحزم : كذّابة! كنتِ منتظرة فرصـة مثل هذي عشان تطلعين لأنك عارفة إن عناد ما راح يرضى بصحبتِك لها.
تكتّفت غيداء بتمرّدٍ وهي تقفُ أمامها مباشـرة بينما أمها جالسـة على الأريكـة الطوبيّةِ في غرفـة الجلوس ، وبحنق : شفيها صحبتها؟ ولا شيء ! .. عناد مكبّر الموضوع البنت حليلة وما تستاهل كرهكم لها.
ام عناد بغضب تكبتهُ وملامحها تتجعّد أكثـر ، لا تتخيّل مدى التمرّد الذي وصَلت إليه حدّ أن تصِل لاعتراضِ حديثها وحديثِ عناد بل تحدّيهما فيه! .. لفظَت وهي تقفُ بشكلٍ حازم : آخر كلام .. منتِ رايحة لها.
غيداء تضربُ بقدمها في الأرض وهي تقوّس فمها : لييييييييه؟!
ام عناد بحزم : لأني ما أبيك تروحين لها وبس! من عرفتيها صايرة متمردة وأنا ساكتة وأغطّي عليك .. لو درى عناد بيزعل.
غيداء : يزعـل ، ما يهمني !
ام عناد بصدمة : نعم !!!
غيداء بقهر : أيه ما عاد يهمني .. أصلًا هو ما يهتم فيني عن حُب .. هو بس يبي يتحكّم فيني ويمشيني على كيفه بدليل كان يمنعني أحكِي مع سارة بس لأنه يشوفها شينة! وأنا من عرفتها زين وأنا أشوفها ومظلومة وعارفـة إنّه بس يبي يتحكّم فيني ويتكلم عنها وبس!
ام عناد بنبرةٍ مصدومةٍ وغاضبة : غيداء !!!
غيداء تنفجِر بدموعٍ مفاجئة : ما تحبوني ! هي بس اللي تحبني وتحاتيني ، أنتوا أصلًا من يوم الحريق اللي صار ببيت سلطان صرتوا تكرهوني .. من يومتها وأنا ما شفت خير !
اتّسعت عينـا أمها بصدمـة ، في بادِئ الأمـر تجمّدت دون استيعابٍ لمـا قالته ، لم تتمكّن من الاستفاقـةِ من لحظـةِ الصدمةِ إلا في اللحظـةِ التي كانت فيها غيداء تبتعدُ عنها وتبكِي بقهر ، هل فعـلًا قالت ما سمعَت أم أنها تخيّلت ذلك!
تراجـع ظهرها للخلفِ بعدَ أن جلست لتلتحمَ بظهرِ الأريكـةِ وهي توسّعُ عينيها دون تصديق، بصدمـة ، وكأنّ كوبَ ماءٍ مُثلّجٍ انقلبَ على فوّهتِه ليسقطَ فوق رأسها مباشـرة ، كـانت دائمًا ما تُخفِي على عناد تمرّدها ظنًّا أنها مرحـلةٌ عمريّةٌ سرعـان ما ستذهبُ في مهبِّ السنينِ القادمـة ، كلّما قلقَ بشأنها أخبرته أنها تحتويها بنفسِها ، وأنّ حديثهُ معها عن ذلك الموضوعِ المُغبِر والذي بقيَ واضحًا في عقلها رغـم الأشهـر لن يقومَ سوى بإحرجها وجعلها تنطوي أكثـر ! تتعذّر بعُمـرها الذي ازدادَ عامًا وبلوغها، وأنّها تحتويها كمـا يجب، بما يكفِي ليجعـل ما حدَث لها سابقًا واضحًا وفي ذاتِ اللحظـةِ لا يضرّها!!
لا يُعقـل! إن كـانت ترى أنّهم يكرهونها للحادثةِ القديمـة ، فما الذي بقيَ لم تعلمـه عن أفكـارها؟
أفرجَت شفتيها باضطراب، كفّها ارتفعَت لتستقرّ على فكّها الأيمـن بربكـة ، لا تدرِي ما الذي يجبُ عليها فعله ، لكنّها وقفَت بتلقائيّةٍ لتتحرّك أقدامها مباشـرةً نحو الأعلـى ، تستهدِف غرفتها، تسيرُ إليها بربكـةِ عقلها الذي تشوّش ، ورغمًا عنها تمنّت لو أن عنـاد هنا! لكـان سيتصرّف بطريقةٍ صحيحةٍ بالتأكيد.
وقفَت أمام غرفتها، وقبل أن تطرق الباب أو حتى تفتحـه كان صوتُ غيداءْ يصِلها بنحيبٍ باكٍ ونبرةٍ مقهورةٍ تشتكِي بها أحدًا : رفضت ! .. تخيلي رفضت ، كنت حاسّة أصلًا . . . . * بصوتٍ ارتبكَ بعض الشيء * مدري وش السبب . . . لا لا مو عن كذا بس هي رافضة أطلـع . .
هل تكلّم تلك الفتـاة؟ قطّبت جبينها قليلًا بشكّ، لا تظنّ أنها ستكُون فتـاةً غيرها .. سارة!! . . انعقدَت حواجِبلها دون رضا ، ودون أن تطرق الباب امتدّت يدُها لتفتحـه وتدخــل في اللحظـةِ التي انتفضَت فيها غيداء واقفـةً من على سريرها وهي تنظُر نحوها باستنكار : ماما !!
أشارت لها أمها أن تُغلق الهاتِف ، حينها اضطربَت غيداء وهي ترفـع كفّها الأخـرى والمتحرّرةِ منه، مسحَت دموعها من خديْها وهي تلفظُ بضيق : بتّصل عليك بعدين سارة.
أغلقَت بعد سماعِها لوداعِها لتخفـض هاتِفها وهي تنظُر لها دون رضـا ، وبنبرةٍ مبحوحة : وش تبين؟
ام عناد : هذا أسلوب تكلميني فيه؟
غيداء بكبت : افف !
ام عناد بحدة : غيداء وبعدين معك !!! سكت كثير عشان نفسيتك وما حبيت عناد يدري عن تمرّدك هذا . . .
اقتربَت منها وملامحها ترقُّ تدريجيًا وينسكبُ فيها حنـانُ رقراقٌ شاركَ صوتها أيضًا : شفيك حبيبتي؟ وش اللي مضايقك ومغيّرك كذا؟ علمينـي كل شيء أنا أمك وبكون جنبك.
ارتبكَت غيداء، تجمّدت ملامحها ونظراتها استنكـرت قليلًا ما تقوله ، استنكرَت بطريقةٍ أوجعت أمّها !
أردفت ام عناد : إذا ما كنت جنبك مين بيكون؟ تدرين إنّي أخاف عليك وأبـي مصلحتك!
غيداء وملامحها الجامـدة ترتخِي ، كـانت قد عقدَت حاجبيها باستنكـار ، ترمقها باستهجـانٍ ونفورٍ وكأنها لا تريد أن تقتنـع !! . . هتفَت بنبرةٍ متهدّجة : تبين راحتي؟
امها وقد اقتربَت منها حتى وقفَت أمامها، وبعتب : هذا يبيله سؤال؟
غيداء : بروح لسـارة أجل!
أردفَت بانفعـالٍ ما إن رأت ملامحَ أمّها تتصلّب : والله والله والله ماهي شينة ولا هي مثل ما تتصورون .. حرام تظلمونها !
ام عناد بحزمٍ واعتراضٍ واضِح : غــــيداء !
غيداء باختنـاقٍ وهي تشدّد على نبرتها وكلماتها وهي تقف : حرام عليكم أنتوا ليش كذا؟ ... مالي شغل بروح لها يعنِي بروح ... كل مرة تعزمني أرفض عشان الأخْ عنـاد والحين تقولين لي لا !!!
ام عناد بحزم : لا عاد تتكلمين عن أخوك بهالشكل! وش اللي صار لك ما كنتِ كذا !!
غيداء بعنـادٍ يشتدّ : بروح !
امها ورغـم أنها غضبَت من عنادها إلا أن كلماتِ غيداء التي سمعتها منها قبل دقائق منعتها من أن تبرزَ غضبها في صوتِها ، لذا عقدَت حاجبيها وهي تلفظُ بنبرةٍ ناعمـة : غيداء حبيبتي ، احنا ما نرفض عشاننا نبي نقيّدك بالبيت أو نضيّق عليك! .. الموضوع إنّ هالبنت ماهي زينة ،
غيداء بوجهٍ يمتقعُ ومن عينيها نظرةُ اعتـراض : لأنها أكبر منّي؟
ام عناد : لا مو هذا السبب . .
قاطعتها غيداء باستهجان : لأنكم تشوفون أخلاقها شينة !!! ليه وش مسوية علموني وش فيها وما شفته؟
تنهّدت أم عنـاد بصبر : بعدِك صغيرة على هالكلام .. ابعدِي عنها وبس.
غيداء تلوي فمها بتمرّد : مو ذابحني إلا شوفتكم لي إنّي صغيرة . . . وإذا قلت لا !!!
ام عناد : لا حول ولا قوّة إلا بالله ..
غيداء : بروح عندها .. إذا ما عندك عذر مقنـع.
ام عناد وقد فقدَت صبرها منها ، لم تجِد سوى الحلّ الوحيدُ والسيء في ذاتِ الوقتِ إلا أنه أفضـل من أن تذهبَ إليها : خليها تجي .. بس منتِ رايحة لها.
صمتت غيداء في بادئ الأمـر دون استيعاب، الوقتِ الذي ظلّت تتواصـل فيها معها في نهاياتِ العامِ السابِق للدراسـة حتى الآن لم تزُر إحداهما الأخـرى وكانت علاقتهما تُصبـح متينةً يومًا بعدَ يومٍ دون أن تريا بعضهما كثيرًا ، بالتأكيد بسبب ظنونِ عائلتها لم تكُن لتستطِيع إحداهما أن تزور الأخرى ، لذا لم تستوعِب أن أمها الآن عرضَت عليها زيارتها.
صمتت في بادئ الأمـر وملامِحها قد هدأت قليلًا إلا أن عدم الرضا والاقتنـاعِ لازال جاريًا على وجهها ، تنظُر لأمها بنظراتٍ غريبةٍ حتى هتفَت أخيرًا بهدوءٍ أخـرس : اتفقنا نجتمع عندها.
ام عناد بصرامـة : وأنا هذي هي كلمتِي الأخيرة .. ما تبين بتنثبرين بغرفتك.
عقدَت حاجبيها بضيقٍ وهي ترى امها تبتعِد لتخرج من غرفتها ، زفـرت بحنقٍ وصوتُ البـابِ يصِل مسامعها بعد أن أطبقته . . جلسَت على السريرِ بضيقٍ وكفوفها تستقرُّ على فخذيها ، نـاظرةً للفراغ . . .
مرّت لحظـاتٌ سريعـةٌ قبل أن تنظُر لهاتِفها الذي كـان على السرير بجانِبها بعد أن أنهت اتصالها بِسـارة، مدّت يدَها إليهِ وهي تتنهّد، حملته لتتّصل بها مباشـرةً ويجيء ردّها سريعًا : وش صار!
غيداء باختنـاق : رفضت ، قالت تجين عندي أنتِ !!
سارة بنبرةِ سخرية : وش هالعايلة المعقدة !! حرام تستاهلين أفضل منهم والله.
غيداءْ بقهرٍ سقطَت دمعـةٌ أولـى من عينيها، لفظَت بحسرةٍ رغـم قهرها : ما أبـي غيرهم ، حتى لو قهروني.
سارة تمطُّ فمها بضجر : يا شيخة! شوفيني بس شبه ساحبـة على أبوي المعقد وعايشـة مع أمّي ، أسوأ شيء أحد يحدْ حرّيتك ويخليك مثل البهيمة بقفص.
أوجعتها حدّة الوصف ، شتّت عينيها في غرفتها التي تطبّعت بطـابعِ الأنوثةِ والدلال، بزهريّةٍ فقدتها . . لم تردّ عليها، بينما تنهّدت سـارة وهي تُغمـض عينيها لوهلةٍ وتعقدُ حاجبيها مفكّرةً بطريقةٍ تجعل أمها ترضـى بأن تأتِي إليها، فتَحتْ عينيها بعدَ لحظـاتٍ قليلةٍ وهي تبتسمُ بنعومةٍ ماكـرة ، وبهدوء : خليك جاهـزة ، بمرّك بعدَ شوي وأحـاول أقنـع أمّك.
عقدَت غيداء حاجبيها دون فهم : تقنعينها! شلون؟
سارة : خليها عليْ وأنتِ اجهزي بس ..


،


يجلسُ في الصـالةِ وملامحهُ تشرحُ الضيقَ في صدرِه ، تنهداتٌ تدغدغُ الهواءَ وتُبعثـر استقرارهُ بسخونتها ، تجاعيدُ تخطُّ ما بينَ حاجبيهِ وتغزوه بقشعريرةِ الكَدَر . . نظَر لهاتِفه الذي يهتزُّ بجانِبه دون صوت، أخـرسهُ منذُ وقتٍ طويل وتركهُ يهتزُّ بانتفاضاتِ النـداء . . الساعـةُ تعانِق السابعةَ والنصف ليلًا ، أمّه نامَت بعدَ حسـراتٍ أشبعت وجهها بالتجاعِيدِ في مرثيّةِ حنين . .
أشـاح وجهه عن الهاتِف وهو يتنفّسُ بضيقٍ ويرفـع وجهه للأعلـى ، يُغمـض عينيهِ وكأنه يشعر بالهاتِف بعينيه ، لذا أغمضهما! .. لا يريد الردّ عليه الآن ، غاضبٌ منه ، من صوتِه الذي تهوّر ، لم يكُن قصدًا منه لكنّه غاضِب !!
نهضَ وهو يتنـاولُ هاتِفه ، يطفئهُ أخيرًا ليرتـاح من استشعارِه في ضوئه واهتزازِه ، دسّه في جيبِه وملامِحه المتضايقةِ تتجعّد لصـداعِ زحفَ إلى رأسه ، تحرّك كي يخـرج .. باتَ يتركها كثيرًا وحدَها! منذُ انفصاله هو وأسيل صارت تجلسُ بمفردها لساعاتٍ طويلة ، ومن الخطرِ ذلك ، ماذا لو أصابها شيءٌ كما حدَث اليوم ولم يكن قريبًا! ماذا لو استذكَرت متعب بطريقةٍ تشابـه واقـع اليوم ولم يكُن موجودًا !! مضطرٌّ للخـروجِ كثيرًا ، ساعاتُ العملِ تأخذُ من يومِه الكثير ، دونًا عن غير العمل أصلًا !
خرجَ رغـم تردّده ، لن يتأخر كثيرًا ، يريد فقط أن يشتمَّ الهواءَ عن قرب ، يمشي في الجـوار .. من الواضِح أنّه سيضطر لجلبِ ممرّضةٍ لها كالسابِق حتى " يزين الوضع "!
دسَّ كفيه في جيبي بنطالِه القطنيِ ليُلامـس الهاتِف ويتنهّد بضيق ، ما الذي يفعله؟ هل ينقص متعب الآن أن يُضاعِف همومه!!! . . تجهّمت ملامحه بأسـى ، أخـرجَ هاتِفه وهواءٌ دافِئٌ صيْفي يتخلخلُ مساماتِه ، فتحَه بعدَ أن تخيّل قلقَ متعب الآن ، منذُ أغلـق الهاتِف في وجهه بعدَ أن صُدِم باسمهِ على شاشةِ هاتِفه وتركـه يتقلّب على جمرِ توقّعاتِه . .
لحظـاتٌ قليلةٌ فقطْ بعد أن فتَحه ليجيء من بعدِها اتّصـالٌ عنيفٌ وربّما غاضِب ! . . ردّ عليه بعدَ زفـرةٍ ساخِنـة ، ليجيئه صوتُ متعب مباشـرةً بغضبٍ عميقٍ كبئرٍ تأجّج فيها نــارٌ لا يسعها الانطفـاء بدلوِ مــاء !
متعب : شفييييييك ما ترد !! وش صار لأمي؟ هي بخير وإلا . . .
قاطعه شاهين بقنوط : بخير.
فقدَ متعب صوتهُ للحظـة اتّسعت فيها عينـاهُ دون استيعابٍ سريع، أثلجَت تفاصِيل ملامِحه بعد نارٍ كـانت تتأجّج في تقاسيمها كنايـةً عن القلق ، والآن ، في لحظـةٍ خاطفـة، كانت البئر قد انطفأ نارُها ، بسيلٍ من الماء! .. لكنّ ذاك الإنطفـاء لم يستمرّ لـثوانٍ حتى تراجـع ، واشتعـل أكثر من ذي قبـل بصرخـةٍ غاضبـة : وليـــه ما تــــــــــرد!!! ليه !! حرقت قلبي حسبي الله على بليسك ، كانت صعبة تتّصل وتقول إنها بخِير؟ ما تطنّش اتصالي وتقفل جوالك بعَد !!
عقدَ شاهين حواجِبه برفق، شعر بالندَم لصوتِه المكلومِ بساعاتِ الصـراع ، لكنّه هتَف أخيرًا بصدق : كنت معصّب منك.
متعب بغضب : نعــــــــــــــــم !!!
شاهين بضيق : تهوّرت ! كان لازم تتكلّم قبل لا تسمع صوتِي بالأول؟
متعب : راح من بـالي ...
شاهين يقاطعه : راح من بالك ! لو صار لها شيء لا سمـح الله تشوف هذا عُذر!!
متعب يتنهّد بضيق، اللحظـاتُ الطويلـة التي قضاها قلقًا يتقلّب على صفيحةٍ أحرقت جلدهُ لن يكُون عذرها أيضًا " معصّب "! ليس عذرًا عن قلقه الذي فتـك بأصابعهِ احمرارًا بعدَ فركـه لباطِن كفّه وهو يفكّر بأن سوءً حدَث لها . . لم يستطِع أن يحشُر أفكـاره في عقله وحَسب ، لذا لفظ بعتَب : يعنِي لو ذبحنِي التفكيـر معصّب هذي عُذر؟!
شاهين يُغمـض عينيهِ وهو يزفُر بأسـى ، اتّكأ على إحدى أعمـدةِ الإنـارةِ في طريقه، دسّ كفهُ في جيبِه والأخرى تشتدُّ على الهاتِف بجمودِها ، وبخفوت : مو مستعد أفرح برجعـة روح وأحزن لروحة الثـانية! ما أشتهي فرحة بهيئة حُزن!
متعب : عشان كذا طمّني عليها .. أنا بعَد مو مستعد أفرح فيك وأحزن فيها .. يا عسـى عمرها مديد.
شاهين يفتـح عينيهِ لينظُر للظـلامِ المُنقشـع بنورِ المكـان، رأى الظــلامَ قبل النور واستشعره! : هي بخير ، ما صـار لها شيء من البداية حاطّة في بالها إنه واحد يشبهك بالاسم .. فجاء صوتك بعد شبيه، بس ضرّها التطابـق هذا.
مرّر متعب أصابعـه بينَ خصلاتِ شعره بندم، ليتها نسيَت صوتهُ حتى يعود، لحظـةٌ خاطفـة من ذاكرتها الأموميّة كـانت كافيـةً لتأجّج فيها حسراتٍ وألـم ، ليتَ ذاكرتها نسيَت صوته ولا تتألـم!
لفظَ بحسرَة : آسـف ..
شاهين : خير إن شاء الله خير ، بس انتبه واللي يعافيك ، لا عاد تتكلّم أو تقول شيء قبل لا تسمع صوتي ، حتى اسمك بغيّره من عندي مو من عادتها ترد عنّي بس شدّها.
تحشـرج صدره، وابتسـم رغـم كلّ شيءٍ بشوق، يلتهمه الحنينُ حتى في قربه، تداعـى نصفُ البعدِ وبقيَ نصفٌ يتصبّر عنه بشاهِين ، متى تنفكُّ الحبـال عن النصفِ آخـر ويتحرّرُ منه ليمضي قريبًا إليها !
رفـع شاهِين رأسـه ما إن شعـر بأحدٍ يمشي أمامه، ابتسـم بتلقائيّةٍ للملامِح التي اصتدمَت بوجههِ ومضَت، عاد ليُخفـض نظراته وهو يُردفِ بتوضِيح : أنا بعد أعتذر لأني ما كنت أرد ، بس كنت بسفّل فيك وقتها ..
متعب : من حقي أنا بعد أسفّل فيك الحين .. بس مسموح.
ابتسم وهو يرفـع نظراته من جديدٍ لشعورِه بآخر يسير على مقربـةٍ منه : وش كنت تبي منّي وقت ما اتّصلت؟
متعب : مو شيء مهم ، أساسًا نسيته.
لم يردّ عليه شاهين وهو يعدُ حاجبيه، تجمّدت ملامِحه ونظـراتهُ تلتمـع ببصيصِ احتقـارٍ وهو يرى أمامـه سند.


،


فتحَت لها البـاب وهي تبتسمُ – بوجوم! استطاعَت سارة قراءة تعابيرها الواجمة لتبتسِم لها وهي تدخُل هاتِفة : ليه هالوجه الزعلان؟ ما يسوى والله.
قبّلت وجنـة غيداء ليُمحـى بعضُ الوجومِ من ملامِحها وتبتسمَ أكثر، بينما أردفَت تلك بتساؤل : وين أمّك؟
غيداء : الحين بتجي أكيد.
سارة بجدّية : اسمعي .. أول ما تجي بحاول أقنعها وإنتِ خليك ساكتة ، لا تقولين شيء أبد أوكي؟!
غيداء بإحباط : صدقيني ما راح توافق.
سارة وهي ترى امرأةً تقترب، أدركت أنها أمها دون ذكـاء، ابتسمت لها بوداعةٍ بعد أن همسَت لها : خلي الموضوع عليْ ، أنتِ بس كوني استقلالية شوي لا تصيرين عبدة كذا !!
اقتربَت ام عنـاد وهي تبتسمُ لها بلبـاقة، وقفَت أمامها بعد أن ابتعدَت غيداء عنها لتسلّم عليها سـارة باحترام ، وبابتسامة : شلونك خالتي؟
ام عناد : الحمدلله طيبة شلونك أنتِ؟
سـارة : الحمدلله .. معليش خالتي السواق منتظر برى ما يصير نظل واقفين كذا كثير.
عقدت كلٌّ من ام عناد وغيداء حاجبيهما دون فهم ، بينما أردفت سارة وهي تبتسمُ وتنظُر نحو غيداء : ويلا أنتِ ليه مو لابسة عبايتك للحين؟!
أشـارت لها غيداء بعينيها دون فهم، بينما نظرت لها ام عناد باستغرابٍ وهي تلفظُ بتساؤل : ليه منتظر؟ مو فاهمة قصدك وين بتروح غيداء!
سارة تتصنّع الاستغراب : اتّصلت علي وقالت أجي مو عشان آخذها بنفسي؟
ارتبكت أم عناد قليلًا ، وقبلَ أن تقولَ شيئًا كـانت غيداء تبتسِم وقد فهمَتها، اندفعَت لتتحرّك للداخِل وهي تلفظُ بحبور : الحين ألبس عبايتي وأجيك.
ام عناد نظرت لغيداء بغضبٍ لتتجاهلها تلك وهي تُكمـل طريقها للأعلـى حتى تأخذ عباءتها ، بينما أدارت ام عناد رأسها إلى سارة وملامحها تتصلّب بحزم ، رغـم أنها وُضِعَت في موقفٍ مُحرجْ إلا أنها لم تكُن لتسمـح لها بالذهابِ معها، لذا نظرت لسارة بحزمٍ كي تقول لها بصريحِ العبــارة وبلطفٍ نسبي أنها لن تذهب معها، لكنّ سارة كانت قد التقطَت ما ستقول فابتسمَت وهي تلفظُ بمكر أخفتْه خلفَ ستارِ النعومةِ والبراءة : أمّي متحمسـة تشوفها وخالاتي بعد ، تمنّيت لو تجين معها عشان تتعرفون على بعض بس قالت لي غيداءْ ما يمديك.
متى قالت لها غيداء ذلك !! . . مرّرت لسانها على شفتيها وهي تعقدُ حاجبيها بعصبيّة ، وضعتها في موقفٍ مُحرج، هل كـانت تريدها فعلًا أن تكون معها ولم تُخبرها غيداء!! هل تستطِيع أن تطمئنّ عليها الآن بعدَ كلمـاتِ سارة؟ لا تبدو كمـا يُشـاع ! . . تلخبطَت أفكـارها قليلًا ، تشوّشت ولم تردّ عليها حتى جاءَت غيداءْ بهرولةٍ سعيدة وهي ترتدي عباءتها وكفوفها منشغلةٌ بإدخـال هاتِفها في حقيبتها، وباندفـاع : يلا سارة لا نتأخّر على سواقكم.
نظـرت لها أمها بتردّد ، حسنًا ، لا بأس أن تتركها تخرج معها لسـاعةٍ فقط تطمئنُّ فيها عليها كل دقيقتين باتّصــال!
غطّت غيداء وجهها ومن ثمّ تحرّكت نحو البـاب، ودّعت سارة أمها برقّة ، وما إن اقتربتا من الخروج حتى لفظَت ام عناد باستسلام : لا تطوّلين ... ساعة وتكونين راجعة طيب؟
تجهّمت ملامِح غيداء التي ضمّت فمها بكَدر، لكنّها في النهايـةِ أومأت تجاريها ، ومن ثمّ خرجَت.


،


" وش قالت لك؟! "
زفَرت بحنقٍ وهي تُغمـض عينيها، ضجَرت من هذا السؤال المتكرّر عليها بعنادٍ وإصرارٍ من أرجوان لتعرف الإجابـة وتصلها التفاصيل التي لم تتلاشى في ذهنها ولم يتلاشى بعدُ شعورها بِها في قلبها، تسندُ مرفقيها على الطـاولةِ وبينَ كفيها كوبُ قهوةٍ تركيّةٍ شاركتْ أحداقها الظُلمـة بسوادِها الفاحِم، تتسلّلُ حرارتها من كفيها إلى باقِي خلايا جلدِها، وعوضًا على جعلِها تتمدّد كانت تنكمش! وكأنها تتجرّع البرودةَ أضعافًا من سؤالِ أرجوان وتلك التفاصِيل.
بينما نظرت لها أرجوان وهي تقطّب جبينها بضيق : كـانت قايلة لك شيء عنك وعن فواز بشكـل خاص ، وش كـان؟
جيهان ببرودٍ ولا مبـالاة : ما يخصّك.
أرجوان : قهرتك بشيء وإلا؟ شكلها استفزّتك بحكاية رومانسيّة عنها وعن فواز.
نظَرت لها جيهان بحدّةٍ من زاويـةِ عينيها لتبتسمَ أرجوان رغمًا عنها وهي تسمعُ إجابتها التي وصلتْ إليها بوحشيّةٍ رغـم برودها : كنت بشيل أقرب حجرة وأدخّلها بفمها المعفن . .
أرجوان : ههههههههههههههههه تعبتِ نفسك.
جيهان : صدّقيني كنت بسوّيها ، نطلـع بفائدة إنّه ما عاد يسمع صوتها النشاز ، وما يضر أأكل عيونها تراب عشان ما عاد تشوفه.
أرجوان بسخرية : واو يا متوحّشة !
جيهان تُشير بعينيها للكوبِ الذي في يدها، وبتحذِير : ترى بعده حار ، تبين وجهك يذوق حرارته؟
أرجوان : لا النفسيّة خايسة بكل ما للكلمـة من معنى ، واضح قايلة شيء مو هيّن.
جيهان دون مبالاة : شيء ماله معنى على فكـرة .. ما يهمنِي اللي قالته.
قالها صوتُها وكذّبتها أجفانها التي ارتعشَت باضطرابِ شعورِها بِها، يتكرّر في صدرها شعورُ الصدمةِ الأولى بمـا قالت ، تقول الآن " ماله معنى " لكنّه يلخّص معانـي التشتّت فيه ، يهزمها بمكنونِه الصاخِب . . وجّهت نظراتِها لوجهِ القهوةِ القاتِم وكأنها كانت تنظُر لفـراغ لا قهوة! مرّرت طرفَ لسانِها على شفتيها بينما أمالتْ أرجوانْ فمـها وقرّرت ألا تعودَ لسؤالِها اليــوم، تحرّكت خطواتِها نحو الصالة لتجدَ يوسِف يستعدُّ للخروج، ابتسمَت بنعومةٍ لتلفظَ بغنجِ وهي تقتربُ منه : الحلـو للحين زعلان؟
نظـر لها بصمتٍ وجمود لتتّسع ابتسامتها المتغنّجة وهي تقفُ بجانِبه وتحيطُ ذراعهُ بكفها : شدعوى يا الوسيم الغالِي .. يهون عليك تزعل عليْ؟!
يوسف دون أن يبتسم لفظَ بحزم : آخـر مرّة تتوسطين لأختك عشان راسها اليابس وعنادها.
أرجوان برقّة أومأت برأسها : توبة أصلًا ندمت.
يوسف بشك : ليه؟ وش اللي كان بينها وبين مرَة فواز؟
هزّت أرجوان كتفيها : ما رضَت تقولّي بس حاسّة إنه مو شيء عادِي ..
تنهّد يوسِف وهو يرفعُ كفّه إلى يدِ أرجوان ليخفضها عن ذراعـه ، وبهدوءٍ ظاهـري : بنزل نص ساعة وأرجع .. أنا قريب بالمقهى اللي قدامنا.
أرجوان : أعرفك أكيد متضايق ورايح تختلِي بنفسك شوي ... ما يصير أكون معك وأروّقك أنا؟
هذهِ المرّة ابتسـم رغمًا عنـه ، بالرغمِ من كونِه لم يُرِد أن يترك أيًّا منهم بمفردها إلا أنه سيكون قريبًا ، يريد الخروح قليلًا لوحدِه .. لكنّه في النهاية لم يُعارِض وهو يهتفُ بخفوت : أنتظرِك عند البـاب.


،


مرّرت عينيها على تفاصِيلِ غُرفتِها الباذخـة بالتمردّ والضجيج، ألوانٌ تتفاقمُ متمرّدةً على هدوءِ الحيـاة ، تعكسُ شخصيّة سارة بالفعل كمـا أنّ ورديّة غرفتها تعكسها – قبلًا – حين كانت لا ترى من الحيـاةِ سوى وردِيّتها، ورغـم فوضى الألوان ، كـانت متناغمـة ، كتمرّدِ نفسٍ ماكـرة ، تخطّط كما يجب، ولا تخضعُ لفوضاها في الخُطط.
تحرّكت سـارة للداخِل وهي تخلعُ ما تبقّى من عباءتها، تنظُر لغيداء مبتسمةً بنعومة : عجبتك غرفتي؟
غيداء بصدق : تجنن والله ، مع إنها بنفس الوقت غريبة.
غمزَت سارة بمداعبـة : معتّقة ، وبنفس الوقت حديثة ، وفيها شويّة جنون وستايل بوهيمي .. أحب هالعبث.
غيداء : يناسبك بصراحة.
سارة : فصّخي عبايتك محد حولك ..
غيداء تومِئ وهي تضعُ حقيبتها على أقربِ كرسيّ ، بدأت تفكّ أزرارَ عباءتها وهي تلفظُ متسائلة : وين أمّك؟
سارة ببساطـةٍ وهي ترفعُ وسادةً كانت ساقطـةً من سريرها لتنظّمها مع باقي الوساداتِ المتلوّنة : ماهي موجودة الحين .. أكيد عند وحدة من صديقاتها.
غيداء : همممم .. تبينا نجلس بغرفتك؟
سارة تنظُر نحوها وهي تبتسم : أيه ما يضر .. مو عاجبتك الجلسـة هنا؟
غيداء : لا والله ما يفرق معي بغرفتك أو غيره بالعكس حليوة وتفتح النفس.
اقتربَت منها سارة لتمدّ لها يدها وتهتف : هاتِي عبايتك أعلقها.
مدّت غيداء عباءتها التي عجّنتها وهي تشكُرها بابتسامةٍ ناعمـة ، وفي خلالِ ثانيتينِ كـان صوتُ رنينِ هاتِف غيداءْ يتصـاعدُ بضجيجٍ شقّ هدوء المكـانِ وبعثره .. عقدَت حاجبيها وهي تنظُر نحو حقيبتها التي كانت على الكرسيّ بجانِبها، مدّت يدَها إليها لتحملها وتبدأ بفتحها حتى تخرجَ هاتِفها بينما تحرّكت سارة مبتعدَةً وهي تلفظ : بروح أجيب الضيافة.
أومأت غيداء دون النظرِ إليها، ردّت على المتّصل الذي لم يكُن سوى أمها ، وبقنوط : نعم ماما.
ام عناد بتوجّس : شلونك؟
غيداء باستنكـار : شلوني؟!!
ام عناد بنبرةٍ غاضبـةٍ بعض الشيء : كذا يعنِي تحرجيني قدامها؟ وش صاير لك ما عدتِ غيداء الأولية اللي تسمع كلمتي !!! عجبك الحين تحرجيني قدامها عشان بس تطلعين لبيتها!!
غيداء بوجوم : ماما واللي يعافيك مافيه داعـي للتعقيدات وللرجعية هذي.
ام عناد : رجعيّة؟ رجعيــة !!! تشوفين خوفنا عليك رجعيّة؟
غيداء بضجر : هذا مو خوف .. بالغتوا.
ام عناد بحزم : متى بترجعين؟
غيداء : واللي يعافيك ماما تو وصلت .. مو من جدّك؟
ام عناد بحدّة : نص ساعـة وترجعين .. أنا مو متطمّنة لهالزيارة .. نص ساعة يا غيداء !!
غيداء : افففف !! طيب طيب . .
ام عناد بعصبيّة : ولا تقُل لهما أف !!!
صمتت غيداء وهي تُخفِض عينيها قليلًا بضيق، بينما تنهّدت تلك لتُردف بيأسٍ أخيرًا : انتبهي لنفسك ، برجع أتّصل انتبهي لجوّالك وردي.
غيداء : طيب.
ام عناد : لا تتأخرين ، لو ما رجعتِ خلال نص ساعة برسلك السوّاق بنفسي وأنا معه بع\د.
غيداء وقد بدأت تتجاوزُ حدود الملل : طيب.
ام عناد : فمان الله.
أغلقَت لتعودَ غيداء للتأفف، التمرّدُ يحتلّها بفوجِ حرب، لا يتدرّج فيها بخُططٍ ملتوية، بل يغزوها بسرعـة ، لذا كانت في تلك اللحظـةِ تُحيل هاتِفها لوضعِ الصامِت، ومن ثمّ تدسّه في جيبِها وقد قرّرت تجاهل اتّصالاتها تمامًا.
ضمّت فمها بضيقٍ وهي تمرّر أحداقها على الغرفـةِ لتتفقّد التفاصيلَ التي لم تنتبِه لها فورَ دخولها، مكتبةٌ قريبـةٌ من إحدى الزوايا، مُصغّرة، وتكـادُ تكونُ شبـه فارغـةٍ من الكتب، طـاولةٌ مكتبيّةٌ بجانِبها، من فوقِها قبعَت دفاتـر في أغلفـةٍ من الواضِح أن سارة لم تستعملها حتى الآن ولازالت جديدة، ربّما كانت تجهيزاتها للعامِ الدراسيّ الجديد، رغم أنها لا تظنُّ ذلك .. ابتسمَت وهي تتحرّك بخطواتِها نحو الطـاولةِ المكتبيّةِ ذات اللونِ الخشبيّ المُحترِق، أخذَت إحدى الدفـاتر لتقلّبه في كفّها وتكتشفَ أنه مفتوح، عقدَت حاجبيها بفضول، كـان الغلافُ قد أعِيد ليضمّه لكنّه مفتوحٌ من قبـل! .. لم تستطِع منع فضولها، لذا أخرجَت الدفتـر من غلافه، وضعتهُ جانبًا وبقيَت ممسكةً بالدفتـر ، وما إن كـادَت تفتحُ أوراقه حتى انسلّت مجموعةٌ لا بأس بِها من الصورِ التي كانت تندسُّ بين الأوراق.
عقدَت غيداء حاجبيها باستغرابٍ وهي تهمسُ بخفوت " يوووه! "، ومن ثمّ انحنَت إليها كي تجمعها بعدَ أن أسقطَتها، لملمتها إلى نقطَةٍ واحدةٍ كي ترفعها جميعها، لكنّ يديها تجمّدتا وهي تنظُر بعينينِ مصعوقتينِ لإحدى الصورِ التي كـانت ظاهرةً لها ولم تُطبـق على بطنِها، اضطربَت وتصاعدت نبضاتُ قلبها بذهولٍ وهي تُشيح عينيها بحَرجٍ وصدمة، كـانت صورةً إباحية !! . . لم تدرِي أنّ وجهها في تلك اللحظـةِ كان يشتعلُ بحمرةِ ذهولٍ وحرج، أن أصابعها توتّرت برعشـةٍ وهي تقلبُ إحدى الصورٍ المرميّة كي تتأكّد أن تلك الصورة وحدها ما كـانت خليعةً وغيرَ أخلاقية، ربّما جـاءت بين أغراضِ سارة خطأ!!
لكنّها ما إن قلبَت الصورةَ حتى ابتلعَت ريقها وهي تراها لا تقلُّ عن الأولـى بل أشدُّ منها !! . . تنفّست بعمقٍ مُضطرِب ، شتّت أحداقها بصدمةٍ وهي تشعُر بالهواءِ ينسحبُ من رئتيها وأنّ وجهها فقدَ ملامِحه . . جاءَت خطأ! بالتأكيد ، لم تكُن سارة قد . . قد . . . ابتلعَت ريقها وأفكـارها تُبترُ لرؤيتها لسارة التي دخلَت وهي تلفظُ بإشراق : حيّ الله من زارنا ..تو ما نوّر البيت بحضـــ ...
صمتت ببهوتٍ وصدمـة وعينيها تسقطـانِ عليها ، تجلسُ القرفصـاء، في يدها صورةٌ مقلوبة، دفتـرٌ سقط، وصورٌ عديدةٌ متنـاثرة لم يكُن من الصعب على سارة ألا تدركَ ماهيّتها . .
وضعَت الصينيّة الحاملـة لكوبيّ العصيرِ جانبًا على الطاولـة وهي تعضُّ شفتها السُفلـى ، تقتربُ منها بينما كانت غيداء قد وقفَت بربكـةٍ وهي تمرّر طرفَ لسانها على شفتيها، تُشيح بأحداقِها عنها، تعانِق بكفّها اليُمنى عضدها الأيسر وهي تلفظُ بتساؤلٍ خافتٍ ومتردّد : شكلها وصلت لأغراضِك بالغلط ... يعنــي . .
صمتت باضطرابٍ ما إن ظلّلتها بوقوفها مباشرةً أمامها على نحوٍ قريب، ارتبكَت وهي تتراجـع للخلفِ ونظرةُ عينيها جعلتها ترتعب! إلا أن سارة كانت قد مدّت يدها إليها لتُمسكها من معصمها وهي تبتسمُ بلطفٍ ماكـر : شفيك متوترة؟! .. لا مو بالغلط هذا لي.
غيداء بصدمة : هـــاه !!
سارة ببساطة : أيه لي .. ليه وش فيها؟ كل شخص حر بتوجّهاته واهتماماته.
غيداء تبتلعُ ريقها بصدمة، لم تتخيّل أن تقولها ببساطةٍ وتعترفَ أنّها لها ولم تصِل إليها خطأ !! لفظَت بخفوتٍ باهِت : بس .. بس .... ما يجوز!!
سارة بسخرية : ما شاء الله أمداك تتثقفين زين بهالمواضيع خلال هالشهور وبعد ما كنتِ جاهلة .. أي حرام بس وش نسوّي عاد !!
فغرَت غيداء فمها دون أن تصدّق ، لم تستوعِب مدى الوقاحـةِ في حديثها البسيط وكأنها تقومُ بأمرٍ من موجباتِ الحيـاةِ وليسَ شيئًا فادحًا لا يمتُّ للأخـلاق بصلة !! . . لم تجِد ما تقوله، لكنّها أشاحتْ وجهها عنها بصمتٍ بينما انحنَت سارة لتجمع الصور وتعيدها لمكانها السابِق بين الورقِ وهي تلفظ بهدوءٍ كمن لم يُفتـضح أمرهُ في حرام! : دامك شفتيها وأتوقع من باب الفضول ما أستبعد بعد أمّي ما تنتبه لها من باب الفضول بعد . . شكلِي بغيّر مكانها * وقفَت لتتابِع وهي تتّجه لطاولةِ المكتب * أمي تثق فيني مرّة ، عشان كذا معطيتني الحرّية الكاملـة ، ما أبي أطيح من عينها طبعًا.
تشنّجت حُنجرةُ غيداءْ وكل الأحرفِ حُشِرت فيها لا طائلَ منها أمام بساطَةِ صوتها فيما تقول. استدارَت سارة نحوها وهي تبتسمُ بصفـاءٍ وتردف : مثل ما طحت من عينك !!!
غيداء ببهوت : هاه !!
اقتربَت سارة منها وهي تُميلُ رأسها ومعهُ فمها في ابتسامةٍ وقحـة : ما علينا .. كنت بحكي لك عن هالموضوع أصلًا.
غيداء : تحكين لــي !!
سارة تُمسِك بيدِها كي تسحبها معها حتى تجلسُ على السرير وهي بجانِبها، استرخَت في جلوسِها، تناولَت كمًّا كافيًا من الأكسجينِ باسترخاءٍ وهي تُغمـض عينيها للحظـاتٍ سريعة، ومن ثمّ أدارت رأسها نحو غيداء التي كـانت تراقبها بذهولٍ ودون استيعاب!
سارة تعودُ لملامِحها الرقيقةِ وصوتها : بخصوص سالفتك اللي صارت لك من شهور . .
اتّسعت عينـا غيداء، رعشـةٌ مرّت في مفاصِل أصابعها، عينيها اتّجهتا إليها بشكلٍ عنيف، وبعتبٍ بين زواياهما المُظلمـة، كـانتا قد اتّفقتا على عدمِ ذكر هذا الموضوع، على عدمِ إيلاجِه في أحاديثهما مهما حدَث ، على عدمِ جعله يزعزعُ لحظـة استرخـاءِ عقلها ونفسِها !
فهمت سـارة حديث نظراتِها، لذا ابتسمَت بوداعـةٍ وهي تلفظ : لا تحاتين حبيبتي .. ما ذكرته إلا عشان راحتك . .
غيداء بغصّة : شلون؟!
سارة : سبق وقلت لك دام اللي صار صار فبتصيرين منبوذة ، محد بيقبل فيك كأخت أو حتى زوجة.
كلمـاتها تُصيبها في صميمِ حسرتها لتعودَ دائمًا فتكرّر " ما ذنبي أنا؟ " ، كلمـاتُها القارسـة مفتـاحُ الجليدِ ليغزوها باندفاعِه إلى أوردتها، يهزِمها، يقتل أعضاءها ببرودتهِ دون تباطؤ . .
غصّت بعبراتِها، أشاحَت وجهها عنها لتنظُر لحجرها بخيبة، تاهَت قليلًا عن الواقِع ، تتألـم رغمًا عن تمرّدها الوليدِ حين تتجرأ برفع صوتِها على والدَتها، حين تتأفّف دون أن تشعُر، وحين تتباعَد عن عنـاد ! لا يحبّونها كمـا يجب، ما ذنبها إن نقصَت؟ ما ذنبها إن مسّتها الأقدارُ بسوء ، وكانت في كلّ الأحـوال ككلّ البشـر ، مسيّرةً لا مُخيّرة.
كـانت قد تاهَت عن الواقِع لبعض الوقت، للحظـاتٍ سريعةٍ قبل أن تُوقظها كفّ سـارة التي استقرّت على خدّها وهي تبتسمُ برقّةٍ وتمسح عليه بطريقةٍ غريبة! : ما عليك حبيبتي .. ليه زعلانة؟ يخسون كلهم لا تزعلين.
تراجعَت غيداء بنفورٍ غريبٍ في الجهةِ الأخـرى، لم تكُن قد ابتعَدت احتذاءً لعقلها أو للمنطـق، بل ابتعدَت بشكلٍ تحفّزي، تلقائيّ، وكأنها كـانت لسعـةَ احتراقٍ استشعرتها أعاصبها وجعلتها تبتعدُ في خضمِ عدمِ استيعابها !!
ابتسمَت سـارة ابتسامتها الوقحـةِ تلك وهي تُخفـض كفّها ، وبهدوء : شفيك؟ أوووه صح ، خليني أكمّل الموضوع وأوضحه لك أكثر ، ومتأكدة صرتِ فاهمة كفاية عشان ما أشرح بشكل تفصيلي.
غيداء بربكة : وشو؟
بضعُ كلمـات موجـزة ، تعبيريّة ، كافيـةً لتشرحَ مقاصِدها تلك ، بضعُ كلمـاتٍ كانتْ تكفي لتجعل غيداء تقفُ منتفضةً بصدمةٍ وهي توسّع عينيها دون تصديق ، هذهِ المرّة كـان الاستيعابُ سريعًا، كـان سريعًا ركـض إلى عقلها دون تباطؤ ، شهقةٌ اختنقَت خلف شفاهِها، لم تُظهرها وهي تتراجـع بصدمةٍ وتخبّط .. وبنبرةٍ ترتجف : أنا ... أنا ... يعني قد مرّت .. مرت نص ساعة ... لازم أرجـع للبيت.
وقفَت سارة بسرعةٍ تمنعها، أمسكَت ساعدها بينما انتفضَت غيداء بنفورٍ وحاولت أن تبتعدَ إلا أن قبضة سارة كانت أقوى وهي تلفظُ بنبرةٍ مبتسمةٍ بمكـرٍ وقذارة : لا لا وين ! تو ما بدت الجلسة تحلو .. باقي ما خلصت كلامي .. بعلّمك أشيـاء كثييييييرة .. صدّقيني بتحبين السالفة بس جربي.
زاغَت عيونها والأكسجِين يهربُ منها، ارتفعَ صدرها باختناقٍ ليهبطَ بشدّةٍ وهي تشعُر أن الهواءَ يغدُر بها كمـا غدرَ عقلها الذي لم يستشعرْ زيفها وقذراتها، ساقيها انتفَضت منهما الصلابةُ وشعرت بِتكوينهما يتبدّل لهلاميّةٍ جعلتها تترنّح وهي ترتجفُ بخوفٍ وضيـاع ، لا تدري ما الذي ستفعله ، ما الذي . . .
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ لاختناقِها، نظـرت لملامِح سارة التي كانت تراقبها بصلابةٍ وثقة ، وبخفوتٍ مرتعشٍ لا تدري كيف امتلكَت الصوت الذي سمَح لها أن تتحدّث : بـ .. بروح الحمـام . .
في بادِئ الأمـر لم تتركها وظلّت تنظُر لها بشك، إلا أنها تركتْ ساعدها أخيرًا وهي تنظُر نحو حقيبتها الموضوعةِ على الطاولة، كما أنّ عباءتها هنا ، بالتأكيد لن تستطِيع الخروج! . . ابتسمَت بتفهّمٍ وهي تلفظُ بنعومة : لا تخافين .. أدري عشانك مو مستوعبة وشيء جديد فبتخافين ... بس صدقيني ما فيه شيء ينخاف منّه.
أومأت غيداء ودموعها تكادُ تفرُّ من عينيها المحتقنتين .. وباختناق : وين الحمـام؟
تحركت سارة تسبقُها : تعالِي .
مشَت خلفَها بتردّد، خرجتـا من الغرفـةِ لتوصِلها لأقربَ حمامٍ منها، دخَلت غيداء للحمـامِ بينما تراجَعت سارة لتجلُس على مقعدٍ في الممر يجعلها ترى البـاب بوضوح ، في حين وقفَت غيداءْ أمام المغسلة، تسندُ كفيها عليها، وتسمحُ لدموعها أن تفر! ما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث يا الله!! ما هذا الجنـــون؟! هل تتوهّم ، هل تعيشُ وهمًا أم كابوسًا؟ أم أنها في حقيقةٍ محضةٍ وحسب!!! .. هل كـان هذا هو ما يجعلُ أمّها تخشاها ، عنــاد! يحذّرونها منها وهي لا تستمِع!! أنّها .. أنّها غيرُ سويّة !!!
لا ، ربّما تمزحُ معها وحسب، مجرّد مقلب .. نعم ، مجرّدُ مقلب!! لا يمكـن أن تكتشف الآن بأن سارة بهذهِ القذارة! .. مجرّد ... مجرّد مقلبٍ وحسب! تمزح . . . " آه يا رب ! "
زمّت شفتيها كي تكتمُ نحيبها الخائف، ماذا تفعل؟ ماذا تفعل؟ أغمَضت عينيها بقوّةٍ تحاولُ التفكيرَ بحلّ، كيفَ ستخرج ببساطةٍ ودون صعوبـات! كيف !!! ليسَت مزحـة، لن توهم نفسها أنّها مزحـةٌ لتقعَ أخيرًا في وهمها ضحيّة!
فتحَت عينيها لتنظُر لوجهها الطفوليّ في المرآة، الدمـعُ بلّل أهدابها ونشرَ السوادَ حول عينيها من كحلها الذي انسكَب مع ظـلالِ هذهِ الليلـةِ المرعبة! لو تتّصل بأمها ، لو كان عناد هنا فتتّصل بِه !! . . . لحظة !! هاتِفها !!!
اتّسعت عيناها بإدراكٍ مُتأخر، أخفضَت كفيها لتتأكد من جيبي بنطالِها الجينز، نعم ، نعـــم ، إنّه معها !! . . أخرجته بلهفةٍ لتُضيئهُ مباشرةً وتُصـدمَ بالاتصالاتِ التي تجاوزَت العشـر من أمّها !! بالتأكيد اتّصلت بها مرّةً لم تشعُر فيها بها بعد أن أخرسَت الهاتِف ، سكبَت القلقَ في صدرها . . . يا الله ما أقبحها !!
رغـم أنّ ملامِحها كانت متشنّجة، إلا أنها ارتخَت قليلًا وهي تبتسمُ بحسرة، قرّرت أن تتّصل بها وتطمئنها ومن ثمّ تقول لها أن تأتِيها وتأخذها من هذا المكـان الموبوء! . . كـادت تتّصل بها، لكنّها تراجعَت في اللحظـةِ الأخيرةِ وهي تعبس، هل من الحكمةِ أن تتّصل بأمها أم ... أم . . . لحظة ، كيفَ نسيت سلطان ! اتّسعت عينيها قليلًا ، ورغمَ أنه كـان قد يكفيها أن تتّصل بأمها إلا أنها شعرت بالخوفِ من تلك الفكـرة ، تشتّت ذهنها، ربّما من الأفضـل أن يكون سلطـان ، نعم ، يجبُ أن تتّصل بغزل وتخبرها أن تأتِي مع سلطـان إليها ... غزل ، نعم! هي قد تقابلت مع سارة من قبل !!
تنفّست بعمقٍ وهي تحرّك ابهامها على الشاشةِ وتبحثَ عن رقمِ غزل، جـاءها اتّصالٌ قاطــعها كان أمها ، ودون شعورٍ منها وبتشتّت عقلها " رفضته " وأكملت خطّتها لتتّصل بغزل أخيرًا، وضعَت الهاتِف على أذنها وأنفاسها تتسارعُ بطريقةٍ لم تشعر فيها بارتفاعِ صدرها وهبوطِه الشديد . . لم تتأخّر في الردّ عليها ، بل جاءها صوتها سريعًا لتلفظَ مباشرةً باندفاعٍ باكِي : الحقيييييني .. الحقيـــــــني . . .
ذعرت غزل من الجهةِ الأخـرى لتنتفضَ واقفةً من على سريرها وهي توسّع عينيها بصدمة : شفيك وش صاير !!!
غيداء ببكاءٍ تحاول أن تخفض صوتها كي لا تسمـع سارة انفعاله : هالبنت مجنونة ، تعالِي بسرعة أنتِ وسلطان .. اسمعي * بتشتّت * أول ما تجون اتّصلي علي وبعطيك تكلمينها عشان تقولين لها تفتح لك الباب وتدخّلك .. بعدها مباشرة جيبي أي عذر عشان تسحبيني معك .. قولي لها سلطـان مستعجل ويبيني معه لأي مصيبة أو بس جاء لي بعد ما قالت له ماما .. ما يهم أي عذر بس طلعيني من هنا !
غزل بحدّة : لحظـة ... فهميني أنتِ وين؟!!!

خرجَت بعد دقائقَ من الحمـام، وجهها مُحمرٌّ من بكائها، لم تستطِع أن توارِي احمرارهُ وآثـار البكاء واستسلمَت لتخرجَ أخيرًا وقد قرّرت أن تضيع الوقت قبل أن يأتِيا، بضعُ سوادٍ أُحِيل لرماديّةٍ حولَ عينيها، حاولتْ مسحه كلّه ولم تستطِع . . . سقطَت عينيها على سارة التي كـانت تجلسُ منتظرةً لها، زفـرت بضجرٍ ما إن رأتها ومن ثمّ ابتسمَت لتهتفَ بمداعبـة : تأخرتِ، خفت لا تكوني انتحرتِ على سبيل الهرب !
ما الذي أوصلها هنا !! .. سذاجتها ! نعـم هي ساذجـة، غبيّة ، لكنْ إلى هذهِ الدرجةِ المُدمِّرة!! . . أردفت سارة : الحين وش مبكّيك؟ ليش خايفة !! . . تعالي تعالي خلينا نسولف ومثل ما قلتِ لا تخافين ... ترى منت خاسرة شيء ليه ما تجربين؟
ابتسمَت باهتزاز، رفعَت كفّها لتعانِق عضدها، وبخفوتٍ مهتزٍّ دون أن تنظُر نحوها : قولي اللي عندك.


،


" حطّ ببالك ما راح أسمـح لهالمهزلة تستمر. "
كـانت آخر ما سمِع قبـل أن ينسحبَ دون ردّ، دون أن يبـالي، وفي اللحظـةِ ذاتِها يُبـالي! فقط لم يعُد يهتمُّ بطريقةٍ فيها اهتمـامٌ باهِت/لا حضور له، انزلقَت المفاهيمُ كلّها في لسانٍ أعجميٍّ في تقوى السكينة ، هو ليسَ تقيًّا فيها ، أما يكفيه – بِضع -؟ أما يكفيه منها ولو محض فتات وبقايا؟!
مــال فمه قليلًا، خرجْ ، ليجيء إليه صوتُ رنينِ هاتِفه يقاطـع الضجيجَ فيه نفسِه، والهدوءِ من حولِه.

نظـر للاسم الذي ارتسـم على شاشةِ هاتِفه مليًّا ، ملامحـه الجامـدة تمُوجُ بفوجِ السخريـة التي عُتِّقَت في تقاسيمه عن قرنٍ ونيف . . لم يكُن ليتجـاهل اتّصالها تحديدًا بعدَ سيلٍ من الأحاديثِ المُتراشِقة بينه وبين سلمان والذي ذُكر فيه اسمها ، مرّر لسانه على شفتيه وأقدامهُ تخطو نحو سيّارتِه ، أصابعـه لم تتردّد إطلاقًا في أن تُجيب عليها ، رفـع هاتفهُ إلى أذنه ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ جافّة : نعم !
لم يكُن صوتهُ كالمعتـادِ على قلبها ، كـانت مندفعـةَ حدّ أن صوتهُ لم يملك الوقت الكافي كي يدغدغ مسامعها بمكنونيّته ، لفظَت مباشرةً بصوتٍ ذاهب الأنفاس : سلطــان آسفة لأني اتصلت فيك ، بس يعنِي غيداء ما تدرِي إنّنا منفصلين و . . .
كان قد عقدَ حاجبيه في بادئ الأمـر من صوتِها ، كفّه تمسك زاويـة الباب المفتوح دون أن يكون قد دخـل. حين حلّ اسم " غيداء " في الحديثِ اتّسعت محاجـره ليقلقَ مباشـرةً مع صوتِها وأسلوبِ حديثها المُنفعـل ، ومن ثمّ قاطعها دون أن ينتظـر اكتمـال تبريرها : شفيها غيداء؟
تنفّست غزل بعمقٍ بعد أن شعرت بالأكسجينِ تناقـص في رئتيها ، لم تستغرق كثيرًا في الصمت والتقاطِ الأنفـاس لتلفظَ أخيرًا بتِيه : ما أدري وش بالضبط ، بس اتّصلت فيني تو وهي خايفة ومرعوبة ، وكل اللي قالته لي إنها تبينا نروح لها . .
سلطان وعيونه تتوسّع أكثر " نروح لها "؟ وخائفةٌ ومرعوبة!، أين قد تكون الآن سوى المنزل ؟ لا يُمكن أن يكون أصابها ضُرٌّ مـا !!! ... لم يضيّع الوقت أكثر في التحليل ، إذ صعدَ للسيـارةِ مباشـرةً ليطبق الباب بقوّةٍ ومن ثمّ يحركها وهو يلفظُ بصوتٍ يغادرهُ الهدوءُ ويمضِي على ردبِ الانفعـال : وينها هي بالضبط؟
غزل بتوتّر : في ، في بيت صديقتها.
سلطان ينفجِر بصوتٍ غاضِب : اسمها!! مو وقت غبائك عطيني اسم أبوها أو زوجها عشان أعرف البيت !
ابتلعَت غزل ريقها ودون أن تلتقطَ شهيقها لفظَت بخفوتٍ مرتبـك : سارة عبداللطيف العلـي . .
عقدَ حاجبيه قليلًا حينَ ذكرَت الاسم وكأنه يحاول استيعاب هويّته ، ضاقَت أضـلاعُ صدرِه بتوتّرٍ وهو يمرّر لسانـه على شفتيه ، لم يعقب بكلمـةٍ أخرى وهو يحرّك أصابعه استعدادًا لإغلاقِ هاتِفه دون أن يضيف كلمـة ، لكنّ غزل كانت قد سبقته حين لفظَت بصوتٍ مُستعجـل : أنا جاهزة بلبس عبايتي الحين وأنتظـرك.
عقدَ جبينه بانفعـال : نعم !! ليه منتظرة إن شاء الله !!!!
توتّر صوتها أكثر لتشتّت عينيها في زوايا الغرفـة وتجلسَ على السرير بعد أن كانت واقفةً بجانِبه ، وبصوتٍ مُضطرب : غيداء قالت أول ما نوصَل أتّصل عليها بنفسي.
سلطـان يكبتُ ارتفاعَ صوتهِ بنبرةٍ ساخـرةٍ وهو يرفعُ حاجبه : ما عندي جوّال أتصل عليها أنا؟
غزل بإصرار : بس هي قالت أنا !!! روح لها ورجّعني مباشـرة لا تظن إنّي مستغلة الفرصـة عشان أكون قربك .. تطمّن ولا فكّرت فيك الحين.
ارتفعَت حواجبـه بذهول .. لكنّه سرعان ما أخفضهما وهو يضحكُ ضحكةً ساخرةً ، وباستخفاف : خليك جاهـزة ، بيتكم على طريقي من الأسـاس .. خمس ثوانِي بس أوقف فيها وأمشي يعني كوني عند الباب ما أبي أضيع وقت.
أغلـق مباشرةً ليرمِي هاتِفه في المقعدِ بجانِبه ، شدّ على أسنـانِه بانفعـالٍ وهو يزيدُ سرعـة السيـارة ، تأتيهِ الأفكـار وترحـل لتستقرّ على نقطـةٍ واحـدة ، غيداء قريبـةٌ من امرأةٍ يدرك جيدًا ما الصيتُ المنتشـر عنها! أيّ أنها في خطــر !!
كـان يقودُ بسرعةٍ ، تجـاوزَ الإشارات ، لم يهتمّ للمخالفـاتِ التي دوّنها في تلك الدقائق ، وصـل سريعًا لمنزل أم غزل ، ووجدها بالفعـل تقفُ عند البابِ وما إن رأته حتى اندفعَت إلى السيـارةِ لتركبَ في المقعدِ الأمـاميّ وتغلـق البابَ من خلفِها .. لم يندلـع بينهما حديث بعد ركوبها، بل كان سلطـان قد تحرّك مباشـرة بالسرعةِ ذاتها التي احتكّت مع الطريقِ الخشِن بقوّة وأصـدرت صوتَ اعتراضِها . .
بينما تراجعَت غزل للخلفِ لتسندَ ظهرها على ظهرِ الأريكةِ وهي تزفُر، للمرّة الأولـى لا تتأجّج في صدرها حرائقُ لرائحته المستوحاةِ من بذخِه، سيّارته تعجُ بعطرِه رغم ذلك لم يتحرّك فيها شيءٌ من قلقها على غيداء.
أدارت رأسها نحو سلطان الذي كان قد نظر لها بشكلٍ خاطِفٍ وهو يلفظُ بتساؤل : وش اللي قالته لك بالضبط؟
غزل بقلق : ما قالت شيء غير إنها تبينا نمرها وأول ما أوصل أنزل لها بنفسي وأتعذّر بأي شيء عشان تطلع.
سلطان باستنكار : عشان تطلع؟ ليه هي مو قادرة تطلع وإلا وشو!!!
غزل تهزُّ رأسها بالنفي : ما أدري ... بس واضح إنّها خايفة ويمكن ما عاد درت وش كانت تقول وقتها.
شدَّ بقبضتِه على المقودِ وأقدامُه تمارسُ الضغـط على سرعـةٍ لم يعتَد أن يقودَ بِها ، لفظَ من بين أسنانهِ بغضب : ووينه عناد؟! فلح بس في مقابل سلمان !! وغيداء آخرتها على علاقة بذيك !!!
عقدَت غزل حاجبيها دون فهم، نظرت لهُ بتساؤلٍ لم يقرأه، كـان مركّزًا حواسّه على الطريقِ كي لا يتسبّب بحادثٍ لا يسعفه للوصولِ إلى غيداء .. استنكَرت حديثه، قالت غيداء عنها أيضًا " مجنونة " ولم تفهم أيّ جنونٍ تقصد! والآن حديثُ سلطـان ينمُّ عن الكثير الذي أربكها ودفعها لأن تهتفَ بتساؤلٍ متوجّس : ليه شفيها سارة هذي؟!
سلطـان دون مبالاةٍ بها كـان يلفظُ وحواسه كلّها تركّزُ على غيداء وحسب : الله العالـم إذا كان اللي فيها صدق أو لا ... ما يهمنِي القِيل والقـال بس اللي يهمنِي هو إنّ اثبات الصحّة من عدمها ما يكون بغيداء !
غزل بتشويش : أي صحة وعدمها اللي تقصدها!!!
سلطان بغضبٍ يشدُّ على أحرفِ تلك الكلمـةِ بغضب : هالبنت ماهي صاحية ، شاذّة.


،


تناثرت من حولها صورٌ ومن جُرفها بسمات، كانت قد بقيَت تحمِلُ صورتينِ فقط، أحداهما لها في يوم عقدِ قرآنها بمتعِب، والأخـرى لها مع شاهين في ليلةِ زفافِهما، تنهّدت بضيقٍ وهي ترمِيها بجانِبها، تشعُر باختنـاقٍ بيقتكُ بمجرى التنفّس لديها، ترفـع كفّها إلى عنقها لتضغطَ على حنجرتها وتتنفّس بعمـق، شيءٌ متينٌ يجعلـها تقلق ، لم ينتهِي كلّ شيءٍ كمـا أنه لم يبدأ كمـا يجِب ، جانبٌ منها يريد أن يفهـم الأحاديثَ كلّها، وجانبٌ آخـر يكابِر، من العارِ عليها أن تطلُبَ التبريرات ، رغـم أنها في عمـق تفكيرها ... كانت تريد أن تعلـم !!
زفـرت وهي تنهضُ وتتّجه للبـابِ حتى تخرج، كـانت قد دخَلت غرفتها كي تبدّل ملابِسها إلا أن عينيها سقطَت على مجموعةٍ من الصورِ كانت أسفـل ملابِسها، كـانت صورها مع متعب! لم تستطِع أن تمنـع نفسها من أن تأخذها وتتأملهـا ، ولم تستطِع أن تمنـع نفسها أيضًا من الصورِ الأخرى الموجودةِ هنا لليلةِ زفافها . . كانت تعقدُ المقارنـات، بسمتها هنـا وبسمتها هنـاك ، يا صـدقَ الأولى ويا زيفَ الثانية! .. والآن يا زيفها فيهما معًا . .
نزلَت للطابِق الأسفـل لتصلها أصواتٌ جـاءَت من غرفـةِ الجلوس، عقدَت حاجبيها باستغراب، وبشكلٍ تلقائيٍّ كـانت تتوجّه نحو الغرفـةِ لتدخـل في اللحظـةِ التي كـادَت فيها أمّها تخرج، ابتسمَت لها أم فواز وهي تلفظ : جيتِ وريّحتيني من الطلعـة.
انتبهت أسيل للتي وقفَت وهي تلفظ بابتسامة : مع إنّي توقعتك نايمة والله.
ابتسمَت أسيل لتقتربَ من ديما، سلّمت عليها ومن ثمّ جلَست وهي تهتف : متى جيتِ؟
ديما : من شويْ .. كنت بطلع لك بنفسِي بس حلفَت علي أمي أجلس ... حسّستني إنّي حامـل لا سمـح الله.
قالتها بمداعبـة، إلا أن أسيل عقدَت حاجبيها وكذلك امها التي استدارَت وهي تلفظُ باستهجان : لا سمح الله؟! ما تبين العيـال !!
ديما بابتسامةٍ ناعمـة : أمزح يمه شدعوى.
ام فواز بحسرة : الغريب إنكم كلكم ذقتوا مرارة فقد الضنا ومع كذا ماخذين الموضوع مصخرة !
أسيل بصدمة : وش قلت أنا؟ شفتِ شلون أوجعنِي إجهاضي يمه !
ام فواز : حتى ديما ظلّت فتـرة نفسيتها سيئة والحين شوفي كلامها ، حتى لو مزح! .. المفروض تعرفون قيمة ضناكم ... وتحمدون ربكم على النعمة.
صمتتْ ديما دون تعليق، هل تظنُّ حقًا أن مقارنتها بأسيل عادلـة؟ هي امرّأةٌ ذاقَت شعور الحمْلٍ بعدَ ثلاثِ سنينَ وأكثر، كـانت محرومةً وتتمنّاه بملءِ الحيـاة ، وما إن جاءها حتى فقدته! ... فهل من العدلِ أن تقارنِها بأسيل؟
أشاحَت وجهها عنهما لتنظُر لهاتِفها الذي كان في يدِها، عقدَت حاجبيها ما إن انتبهت لرسـالةٍ كـانت قد وصلتْها قبل دقائقَ قليلة من سيف ! . .
فتحتها بهدوء، قرأت الكلمـات الغزليـةَ / الموضّحةَ ببطء : " عينـاكِ سرابٌ يخدعُ الظمآن يا ديما . . . ترى * مي * معناها عندي له قصّة، سرْ .. لو عرفتيه بتعرفين مكانتك عندي ، من بديت أناديك فيه ، وهذي مكانتك . . تقدرين تجيبينها يا دِيمِي ؟ "
دِيمي؟ بمعنـى المطـر ، خفيفٌ وناعِم، متواصِلٌ يغيثُ الظمآنَ في ظمأهِ وفي ارتوائه ، اغاثتـه هادئة، ناعمـة ، تفتحُ الأفواه شغفًا ولا تغلقها بكلمـاتِ الامتنـان ... كيفَ أكون سرابًا وديمًا لك معًا؟
ابتسمَت دون تعبير، رغـم أنّها كـانت في داخِلها تريدُ أن تفهـم معناها، إلا أنها لم تحاول التفكير! بل وضعَت هاتفها جانبًا وهي تتنهّد . . تعمّق الحديثُ بينهم ، كـانت تريدُ أن تختلِي بأسيل لتسألها عمّا استجدّ في موضوعِ شاهين ومتعب ، لكنّها أجّلت ذلك حتى قبل نصفِ ساعةٍ من ذهابِها.
مرّت السـاعاتُ لتقتربَ من العاشرة، ذهبَت ام فواز للمطبَخِ كي تشرب، رغـم أنها كانت قد خرجَت عديدًا في خضمِ الحديث وفي وقتِ العشاءِ تذهبُ وتجيء أيضًا إلا أنها لم تحاول فتحَ الموضوعِ وقتها، نظـرت لأسيل يطريقةٍ غريبة جعلتها تستنكِر وتعقدُ حاجبيها : بسم الله وش الطاري لهالنظرة الاستخباراتية؟
ديما : قلتيها استخباراتية * بجدّية * وش صار مع موضوع متعب؟
بهتت ملامِح أسيل فجأةً بعدَ أن كانتْ مُبتسمة، وببرود : ولا شيء .. على حاله.
ديما بنبرةٍ مكبوتة : الله يفشلهم ، الله يفشلهم !!! كنت مع شاهين بس معليش وش هالأسلوب البايخ !!
أسيل بهدوءٍ وقنوط : ما ألومه يا ديما .. صدّقيني ما ألومه ، لو كنت مكانه كنت بسوّي كذا ... ما أنكر إنّ الموضوع مزعّلني ، بس ما ينلام ... العتب على متعب، حاقـدة عليه !
صمتتْ ديما وهي تنظُر لها بوجوم، تريد أيضًا أن تسألها سؤالًا قد يبدو تافهًا! لكنّ جانبًا منها أرادَ السؤال! . . أفرجَت شفتيها كي تتحدّث، إلا أنها صمتت فجأةً حينَ اعتلى صوتُ هاتِفها برنينهِ الصاخِب، عقدَت حاجبيها باستغرابٍ وهي ترفعُ معصمه-+ا لتنظُر للسـاعة، أيعقل أن يكون سيف وهي التي أخبرته أن يأتيها في العاشرةِ والنصف؟
تراجعَت قليلًا لتسندَ ظهرها على ظهرِ الأريكةِ وتنظُر للمتّصل الذي كـان سيف فعلًا، زفـرت وهي تردُّ وترفـع الهاتِف إلى أذنها، وبهدوء : نعم.
صوتٌ أنثوي : وعليكم السلام ... زوجة الأستاذ سيف؟
اتّسعت عينـا ديما فجأةً بصدمة وهي تقفُ بتحفّزٍ واستنفار ، وبنبرةٍ منفعلة : نعم! أنا هي مين أنتِ؟!
: أعتذر من حضرتك .. زوجك وشخص ثاني أتوقع إنّه زوج أختك عندنا بالمستشفى . . .


،


دخـل للمبنـى بعدَ أن ظلّ يسيرُ لساعاتٍ وبعد أن أعادَ جنان للمنزِل في وضعٍ مشحونٍ بالغضب، صعدْ ، في الحقيقةِ لم يتّجـه للطابِق الرابِع الذي يقطِن فيه، بل اتّجه للثانـي ، والذي يحتضِن جسدَها ! .. في بدايـةِ الممرِّ وقفْ ، أسندَ ظهرهُ على الجدارِ ليكتّف ذراعيه ، لم يكُن قد جـاءَ إلى هنـا مختاراً بل سُيّر دون أن يشعُر ... جنون ، كلّ ما حدَث ، وكلُّ ما قيل ، كـل شيءٍّ كـان جنونًا ، ما الذي فعلته جِنان! كيفَ تغمسها فيهِ من جديدٍ وتغمِسهُ فيها؟ لم يُستخلصا حتى الآن من بعضهما ، هـل كان فضلًا منها أن تعيد الامتزاجَ بينهما وتجدّده؟ .. زفـر وهو يضعُ كفّه على فمِه بغضب، جزءٌ منه يريد أن يغضبَ على جيهان وحسب! ليس على جنان وما فعلته من جنونٍ وحمـاقةٍ نظرًا لامرأةٍ من الفطـرةِ أن تحاولَ امتلاكَ الرجـل الذي يرتبطُ بها .. يريد أن يغضَب لأنها تهزّهُ بطريقةٍ متمكّنـةٍ حتى في بُعدها، فكيفَ وهما تفصلُ بينهما مجرّدُ خطواتٍ باهِتة؟
مرّر لسـانهُ على شفتيه، وجّه عينيهِ نحو بابِ الشقّةِ التي تحتضِنها بشكلٍّ أعمـق، تنفّسَ بعمقٍ جلَبَ بهِ ذرّاتِ الهواءِ بغضبٍ صامِت .. ومن ثمّ فرّغَ ما في صدرِه من زفيـر ... ومضى.


،


تجلسُ على الكرسيّ الذي كـان يقابِل والدها لتفصِل بينهما الطـاولة، تسندُ مرفقها عليها وأصابعها تتلاعبُ بالملعقـة التي كانت تقلّب بها السكّر في كوبِ قهوتها، تضحكُ لهُ بنعومةٍ وتشدّهُ بأحاديثِها لتُخرِجه من مزاجـه السيء منذُ أيـامٍ طوال، أصبحَ يغضبُ سريعًا على عكـس ما كـان، مزاجـه لا يلين بينما كان في السابقِ لا يتصلّبُ على سوئه.
هتفَت بحُب : اضحك للدنيـا تضحك لك يا وسيمي.
يوسف يرفـع أحد حاجبيه وهو يكتـم ضحكته : الحين أنا اللي أبوك واللي أنتِ اللي أمي؟
أرجوان : ههههههههههههههههه تدري وشو؟ تذكر يوم ليان تقول تبي تتزوّجك؟ لو ما كنت أبوي كنت تمنّيتك زوجي ... عاد كلّ فتاة بأبيها معجبة ، إن شاء الله يجيني واحد يشبهك.
يوسف يتصنّع الغضب : ما تستحِين على وجهك تقولين هالكلام قدامي؟
أرجوان : يوووه يبه سنّة الحيـاة تبيني أكذب وأقولك ما أبي أتزوج؟
يوسف : الله يرحم الحيا أول.
أرجوان بحرج : شدعـــوى ! أمزح لا أطيح من عينك بس.
ضحكَ بهدوءٍ وهو ينهضُ واقفًا، وباستعجال : كملي قهوتك عشان نمشي .. ما ودّي أتأخر على خواتِك.
وقفَت أرجوانْ وهي تبتسِم : خلصت أصلًا .. أحلـى قعدة رومانسية والله.
يوسف : ههههههههههههه لا تلعبين على عقلي بهالغزل .. امشي قدّامِي أشوف.
استدارَت وهي تضحكُ لتسبقهُ خطواتٍ قليلةٍ بينما كان هو يدفـع الحسابَ على عجَلٍ ومن ثمّ يلحَقُ بها، توقّفت فجأةً وهي توسّع أحداقها متفاجِئة، اضطربَ قلبها بخوف، رغمًا عنـها خافَت حينَ رأت وجهه أمامها على بعدٍ قصير، وتشتّت أحداقها قسرًا ما إن سقطَت عيونه الجريئة عليها ليبتسـم ابتسامةً باردةً ومن ثمّ يرفـع أحداقه نحو يوسف ، بحضورٍ عنيف ، ومُظلــم !!


،


اقتربـا من الوصول، كانت السيّارة قد دخَلت للحيّ المقصودِ وقد مرّت أقـل من ربـع ساعـةٍ من سرعـةِ سلطـان كما أن المنزل لم يكُن بعيدًا ، أدار سلطان رأسه سريعًا إلى غزل ليلفظَ بعجـل : اتّصلي فيها الحين.
كـانت غزلْ متجمّدة الحـواس، تستقرُّ ببهوتٍ بعد تلك الحقيقةِ وفي صدرها احتراقاتُ ذنب، وندمْ! كـانت هي من دفعتها لمعـرفتها ومن حثّها على التمرّد فوق أخيها، من قالت أنّه يريد فقط أن " يسيطر "! بكلّ سذاجـةٍ ووقاحةٍ تدخّلت في حياةٍ رسمَتها بريشةِ التمرّد ، والخطـر !!! .. إن كـان تمرّدها السـابِق وحرّيتها مع رجـلٍ فالآن هي دفّعت مراهقـةً بريئةً لأقـذر طريق! مع امرأةٍ ليسَت سويّة !!
يا الله كانت السبب! ما الذي فعلته! ما الذي فعلته لها!! . . هل كـانت بكلِّ الطـرق المباشرة وغير المبـاشرةِ مؤذيـةً لمن حولها! سلطـان بقصد، وغيداء بدون قصد!! . . ابتلعَت ريقها باختنـاق، لم تسمعْ سلطـان الذي عقدَ حاجبيه بحدّة، لا وقت لشرودها وغبائها !! . . صرخ بغضب : اتّصلي فيها مو وقت تناحتك !!
انتفضَت من صوتِه الغاضِب، نظرت لهُ ببهوتٍ قبل أن تشهقَ وتنظُر نحو هاتِفها الذي كـان في حُجرها، رفعتهُ بسرعةٍ وهي تعضُّ شفتَها السُفلـى وتهمسُ داخلها باختنـاق ، بغصّة ، بطلبٍ للسمـاح " آسفــة لأني سوء ، آسفـة لأني ســـــوء دايم ! "
اتّصلت بِها، في اللحظـةِ التي كانت فيها غيداءْ تجلسُ على الكرسيَ وتستمعُ على مضضٍ لما تقوله سارة ، للكلمـاتِ التي تقاومُ فيها تجعّد ملامِحها بغثيـانٍ وصدمـة! لا تفهم كيفَ كانت ترى فيها كلّ ما هوَ حسنٌ حتى تمرّدها ورغبتـها في الحريّةِ كـانت تراه أمرًا مثاليًا .. لكن ليست هذهِ الحرّية! ليستْ هذِه !! الحريّة أمرٌ فطريٌّ لكنّ التمادِي فيها يُحيلـها إلى قذارة !!
كـانت تختنق ، رغـم تشوّشِ عقلها إلا أنها كـانت تسترجِع أحاديثَها عن عنـاد، وعن أمّها ، عن عقدةٍ لم تكُن في الحقيقةِ عقدة! .. لا تدري من كـان المُخطِئ في كلّ هذا ... لكنّها تعلم أنّها كـانت ساذجة، غبيّةً حين سارَت خلفها وتجاهلت من ترعرعت معهم، تجاهلت أن تلجأ إلى عنــاد، أمّها وأحاديثِها اليوم! .. وفي ذاتِ اللحظـةِ تشعُر بالخيبـة، أنّ امرأةً مثلها كـانت تعتقِد أنها تفهمها اكتشفَت فيها هذا الظـلامَ والقتامة!
أخفضَت نظراتِها عن ملامِح سارةْ وهي تبتلعُ عبراتِها، لا تريد أن تبكِي الآن أمامها، متى سيصِل سلطـان؟ هذهِ الدقائِق كـسنين، طويلـة .. كدهر ، ألن ينتهي !!! . .
انتفضَت فجأةً ما إن سمعَت صوتَ هاتِفها يصدحُ في جيبها، تركتهُ فيه وتغافلَت عن إخراجِه حتى لا تدرك سارة أنّها قد اتّصلت بنفسِها حينَ دخَلت للحمـام ! . . دسّت كفها في جيبِها وهي تقفُ بربكـة، أخرجتهُ أسفـل أنظـارِ سارة التي وسّعت عينيها وهي تلفظُ بغضب : اتّصلتِ عليهم !!!
غيداءْ بارتباكٍ تراجعَت وهي تردُّ دون أن تبـالِي بالإجابـةِ عليها : هاه غزل.
غزل : احنا برى .. اطلعي.
غيداءْ باهتزازٍ وهي تشتّتِ عينيها عن سارة : طيب ... * باختناق * خليك على الخط.
غزل : طيب .. بنزل لك بنفسي أصلًا ... البيت فاضِي؟
غيداء ورغـم شعورِها بنظراتِ سارة الغاضبـة والمكبوتةِ إلا أنها كانت تتجاهلها بخوفٍ وتلفظ : أيه فاضي ..
فتحَت غزل بابَ السيّارةِ وهي تلفظُ بحدّة : خلي هالوصخة اللي معك تفتح لي الباب.
بسبب هدوءِ المكـانِ واستقرارِه كـان صوتُ غزل يصِل خافتًا إلى مسامِع سارة التي ابتسمَت بحنقٍ وهي تتحرّك نحو الباب وتهتف : طيب يا غدّو .. طيب ، ما حاولتِ حتى تسمعيني زين ! .. ما عليه بتقتنعين بعدين بعذرك هالشيء غريب عليك وخايفة منه عشان كذا.
لم تُجِبها غيداءْ وهي تتابعها بعينٍ قلقة، صوّر لها خيالها وخوفها أن تغلقَ البابَ وتهجمَ عليها مثلًا!!! خرجَت سارة من الغرفـةِ وهي تلفظُ بصوتٍ غاضِب : قلعتك مردّك ترجعين لي ... بفتح للثانية نشوف وش وراها بعد.
ابتعدَت عنها لتستنشِق غيداءْ نفسًا منفعلًا بعد اختنـاق، ارتعشَت شفاهها وصوتُ غزل غابَ عن مسامِعها، ترتعشُ أهدابُها أيضًا بدمعٍ أثقلها واهتزّ من فوقِها ساقطًا على وجناتِها كوادٍ جافٍّ استقبـل السيل بكلّ حرارةٍ وندم!
تحرّكت حيثُ علّقت سارة عباءتها والحديثُ الذي وصـل إليها مُدارًا بينَ سارة وغزل لم تسمعهُ كمـا يجِب، لكنّها أدركتْ فيهِ حدّة النبراتِ وغضبِها ! .. أخذت عباءتها، لم تكُن تريد أن تترك الهاتِف وكأن وضعهُ على أذنها يشعرها بالأمان! لكنّها اضطرّت لذلك أخيرًا، وضعتهُ جانبًا دون أن تنهِي الاتصـال، ارتدَت عباءتها بسرعةٍ ومن ثمّ اتّجهت لتحمـل حقيبتها وهاتِفها ... وتهرولَ أخيرًا للخروج.

في الأسفَل، لفّت غزل إحدى ذراعيها حولَ خصرها والأخـرى ترتفعُ بكفّها إلى أذنها لتستقرّ بالهاتِف عليه وهي تلفظُ بنبرةٍ مشدودة : غيداء.
اعتلَى صوتُ خطواتِها السريعةِ على الدرجِ هي تلفُظ بصوتٍ مستعجلٍ ذاهبِ الأنفـاس : جيت جيت.
أنهَت غزل الاتصـال ما إن تراءَت غيداءْ أمامها وقد غطّت وجهها، تندفِع إليها وكأنّ أحدًا ما يركـضُ خلفها، تجاوزَت سارة التي كـانت تقفُ أمام غزل وجهًا لوجهً لتقفَ خلفَها وهي تلفظُ بنبرةٍ تضطرب بخفوتِها : يلا.
أومأت غزل برأسها لترمِي نظـرةً أخيرةً على ملامح سارة البـاردة، لم تنظُر غيداء نحوها إطـلاقًا .. بل خرجَت، دون أن تلتفِت بعينيها إليها حتى.


،


بينما في الجهةِ الأخـرى كان سلطـان يطرُق بأصابعهِ على المقودِ بصبرٍ نفدْ، يطمئنُّ برؤيـةِ غزل عند البـاب إذ لم تدخُل كما ينبغي بل بقيّ جزءً منها ظاهرًا لعينيه، جانِبٌ منه يرغَبُ بالاتصـالِ بعناد وصبّ غضبه منه عليه، لمَ لم تتّصلْ بِه غيداء وأين هو منها؟ ما الذي حدَث ليتجاهلَ الانتبـاه إليها وهو يدرك أنّها في عمرٍ حسّاسٍ وقد تسقُط في أيّ خطأ كهذا .. وإلى أين وصَلت في هذا الخطأ؟ حديثها مع غزل يُثبت أنها لم تصِل للنقطـةِ المحرّمة ، كلمـة " مجنونة " تُثبت ذلك لكنّه من الجهـةِ الأخرى يخشى أن تكون قصدت شيئًا آخر وقد تعمّقت في ذلك الذنب وانتهى الأمـر !!
زفـر بغضبٍ وهو يتمتمُ باسم عناد بخفوتٍ غاضِب، يدقّق النظـر للبـابِ وحواسّه كلها تتّجه إليه وحسبْ حتى رآها ! .. نعم كـانت غيداءْ تخرجُ بصحبـة غزل.
اتّسعت عينـاهُ وبشكلٍ تلقائيٍّ كـان يفتـح البـاب ويتّجه إليهما مباشـرة ، بينما التمعَت عيونُ غيداء بالدمعِ ما إن رأته، لم تستطِع أن تندفِع إليهِ بل اعتلى بكاؤها ما إن أمسك كتفيها وهو يلفظُ بتساؤلٍ قلق : وش صار؟! أنتِ بخير صح؟!!
كـان سؤالهُ ذا معنـى أعمـق، لا يقصدُ حالَها بحجمِ ما يقصدُ حالَ الذنبِ وعدمه، هل أنتِ بخير؟ دون أن تُخطِئي ذاك الخطأ؟! . . انتحبَت أكثـر وهي تومئ بصمتٍ وترفـع كفّها لتضعها على فمها من فوقِ نقابِها، بينما زفـر سلطـان بغضبٍ ليُمسكُ يدها ويسحبها معه، فتحَ بابَ السيـارةِ الخلفيّ لتصعَد، في حين صعدَت غزل من الجهةِ الأخرى لتجلس بجانِبها كي تكون قريبةً منها أكثـر ، قُربٌ معنويٌّ ربّما، فجلوسُها في الأمـام ليس بعدَ مسافاتٍ بعيدة، إلا أن جلوسها بجانِبها في الخلفِ لهُ عمـقٌ آخـر قد يخفّف عنها ولو قليلًا . .
حرّك سلطـان السيـارةَ بعدَ أن صعَد، نظـر لها عبـر المرآةِ بتشوّشٍ بعـض الشيء ، لا يفهـم كيفَ وصلَت إلى هنا دون أن ينتبه عناد أو أحدًا منهم، منذُ متى تعرفها وكيفَ سمحت لها امه بخروجِها؟!! .. كـانت تبكِي بخفوتٍ ورعشـةُ كفِّها واضحـةٌ لعينيه، تحاول أن تُخرسَ بكاءها وهي تهتفُ لعقلها " لا يستحقُّ الموضوعُ أن تبكِي ، هي بخير ، لمَ تبكي؟ " إلا أنها رغم حديثها لنفسِها تُكمـل بكاءها الخافِت رغمًا عنها، وجلدُها يستشعِر لمسـة غزل على كتِفها بندم ، تنظُر لها بعينٍ تهتزُّ بأحادِيثها، أنا السبب في كلّ شيء! كـان هذا هو معنـى ما تقوله ولم تقرأه غيداء التي كانت تنظُر بعيدًا، أنـا السبب في كلّ شيء! أمسُّ البيـاضَ وأحوّله لرماديّة، أمُس البراءةَ وأجعلها تهترِئ! أنا السبب ، من أوصلها إلى هنــا !!
لم تنتبِه غيداءْ لأحاديثِ غزل الصامتـة، كـانت تنظُر لكفيها المُستقرّتينِ على حُجرِها بصمتٍ يقطعهُ شهقـاتٌ متقطّعة، تنظُر لهما بضيـاعٍ وتشتّت ، لا يلتقِي بهما ممحاةٌ تُحيلهما إلى وهم !
لفظَ سلطـان بهدوءٍ ظاهريٍّ بعد لحظـاتٍ من الصمت : شلون عرفتيها يا غيداء !
رفعَت غيداءْ رأسها باضطراب، تقوّس فمها بحسـرة، لم تردّ عليه في اللحظـةِ التي زفـر فيها سلطـان بقنوطٍ وهو يهتف : نكمّل كلامنا لما نوصل .. لا تبكين.
غيداء باختناق : ما أبغى أرجع بيتنا .. اتّصل على ماما وقولها إنّي بنام عندكم .. الله يخليك سلطان هي زعلانة مني ... ما أبيها تشوفني كذا وتزعل أكثر.
عقدَ سلطـان حاجبيه، ملامِحه رقّت بحنـان، رغـم غضبِه كـانت عينـاه ترمقها عبر المرآةِ بحنانٍ جعل عينيها تحتقنانِ بالدموع أكثر ، أومأ بهدوء، ومن ثمّ تناوَل هاتِفه ليتّصل بأمـه ويُعلمـها أنّه ذهبَ إلى غيداء التي اتّصلت بهِ كي تعود معه ، وأنّه يريدها أن تنـام عنده اليـوم ... في بادِئ الأمـر ذعرت أمّه التي كـانت قلقةً لوقتٍ طويـل ، لم تكُن غيداءُ تجيبُ على اتّصـالاتِها، لذا كـان صوتُها يشـرح مرحلـة القلق الأموميّ الذي جعل سلطـان يتنهّد، ويغمـض عينيهِ لا يريد أن ينظُر لغيداء بعتبٍ في وضعها الآن فيضاعفَ حُزنها.
أغلـق سلطـان ليرمِي هاتِفه على المقعدِ بجوارِه، هذهِ المرّة لم ينظُر نحو غيداءْ وهو يلفظ بتساؤل : وينه عنـاد؟ بينكم شيء عشان ما تتّصلين عليه وإلا خايفة منه !!
غيداء تمسـح دموعها من فتحةِ نقابها الذي تبلّل به، وباختنـاق : مسافر .. راح اليوم الدمـام وبيرجع بعد يومين عشان شغل.
عقدَ سلطـان حاجبيه وهو يومِئ .. عدمِ معرفتـه لذلك أوضـح لهُ في هذهِ اللحظـاتِ كـم أنّه تباعـد عنه بشكلٍ كبيـر ، تباعَد بشكلٍ تلقائيّ ، عدوانيّ !!
مسحَت غزل على رأسِ غيداء وهي تعقدُ حاجبيها، تريد أن تلفظَ اعتذارها بصوتٍ يصلها، رغـم أنها تخشـى ، أن ينزلقَ صوتُها نحوَ سلطـان ويدرك يدها في الموضوعِ وأنها السبب، تخشى أن تزيدَ من فرصِ كرهه لها أكثر !!
هزّت رأسـها بالنفي ، ألهذِه الدرجـةِ يهمّني رضـاه ويهمّني أن لا أكونَ بأسوأ صورةٍ في عينيه؟ أنا التي تحمّلت كل السوءاتِ وانتهى الأمـر ، لكن ، لكن السوءاتِ كلّها تعلّقت بنفسي وبه، ليست غيداء! وبالتأكيد معرفتـه لذلك سيجعل صورتي أشدُّ قبحًا . . . وإن يكُــــن !!! لا يعقل أن تظلّ طيلـة حياتِها تهتمُّ لنظرةٍ انكسَرت ولن تعود، هي تُخطئ، تُخطئ كثيرًا ، لكنّها الآن لم تفعلها بقصد! لم تكُن تقصد أن تؤذيها كمـا قصدَت أن تكذِب على سلطـان، لم تكُن تقصِد ما حدَث، ومن حقّ غيداء أن تعتذِر لها حتى لو علـم ، لن تهتمّ بغضبِه وبكرههِ لها أكثـر ، فهما انتهيـا! انتهيــا وانقضـى واقعهما معًا.
رغـم كلّ المحـاولات لإقنـاعِ ذاتِها كـان صوتُها مهتزًّا، قلقًا، خائفًا ... وهي تقولها باختنـاق : آسفة غيداء.
نظـرت لها غيداء من زاويـة عينيها دون فهم، في اللحظـةِ ذاتِها التي ارتفعَت فيها عيونُ سلطـان لتراقِبها بترقّب، لم يفهمْ اعتذارها، لذا كـان في نظرهِ نحوها وكأنه يترقّب أن توضّح لمَ تعتذِر! . . لم تنتبِه غزل لعينيه، لم تهتمّ من الأسـاس أن تنظُر نحوهُ وتتأكدَ من ردّةِ فعله تجـاه اعتذارها رغـم أن صدرها كـان يموجُ بانفعالاتِه وهي تقولها. أردفَت بغصّة : أنا السبب .. آسفـة ، لو ما شجّعتك تتعرفين عليها من باب الحريّة الغبيـة ما صار اللي صـار.
ابتسمَت غيداء دون تعبيرٍ بعدَ أن فهمَت قصدها، بينما اتّسعت عينـا سلطـان بصدمـة، دون تصديق !! ليسَ لأنه لا يتوقّع منها ذلك، بل لأنه لم يتوقّع فعليًا أن يكون لها يدٌ في علاقـةِ غيداء بسـارة !!!!
غيداء بخفوت : ما عليك ... مو منّك ، أنا اللي كان المفروض أسمع لعناد وأمي من البداية وما أمشـي ورى أحد.
شدّ سلطـان قبضتـه على المقودِ وملامِحه تقسو بغضبٍ أسـود، لم يهتمّ للتفـاصيل، للتعمّق في ما حدَث، لم يهتمّ لمعرفـةِ كيفَ ومتى وأين !! لكنّ غزلْ كـان لها جانبٌ فيما حدَث ، فعلتها !! .. كـانت غزل من ستودِي بأختـه في غياهِب هذا الجنون !!!
لم ينبـس بشيء، كـان صمته ذو صيغةٍ تُدركها غزل جيدًا ، صمتـه الذي طـال، حتى التفَتت إليه بتردّد ... لتسقطَ عينيها مباشـرةً على أحداقه التي كـانت تنظُر لها عبر المرآة . . . بوعيد !


.

.

.


" ابتسمَ تلك الابتسامـة العابثـةَ وهو يضعُ كفّهُ على شعرها ليُشعثهُ لها ويلفظَ بخفوتٍ شغوف : أبي أول من يجينا بنت ، ويكون اسمها هيفاء.
رغـم أن ملامِحها كانت قد اضطربَت بحرجٍ إلا أنها عقدَت حاجبيها وهي ترمقهُ باعتراض : لا ما أبي البكر بنت ... ولد وأسميه ليث ،
عقدَ أدهم حاجبيه وهذا الاسم ارتبطَ تلقائيًا بـ شاهين . . . "


،

" غزل باختناق : لو لا سمـح الله طاحَت غيداء بهالحرام بدون قصد ، أو حتى بقصد بس بجهل .. كنت بتشوفها قذرة مثل ما تشوفني؟
: تقارنين نفسك بغيداء !!!! "


انــتـــهــى



موعدنا الخميس القادم إن شاء الله

ودمتم بخير / كَيــدْ !

أبها 15-10-16 07:30 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
سلمت يمناكِ كيد ..

جزء شد الأعصاب .. من بداية فقرة غيداء وأنا متوترة
أسابق الاسطر أبي أشوف نهاية الموقف المرعب ..😓
الله يحمي بناتنا و شبابنا عن الحرام ..

أجدتِ يا كيد في توضيح دور الأسرة والأم خصوصاً في
أهمية متابعة بناتهم وملاحظة التغيرات التي تطرأ عليهم وأهمية
التقارب بينهم وفهم مشكلاتهم ..
غيداء ذات معدن طيب وأصيل وتربية .. لم أشك يوما أنها سترجع
إلى جادة الصواب وخاصة وهي تملك أم وأخ متفهمين ..
والحمدلله أن الأمور لم تتطور إلى الأسوء ..

كل الشكر والتقدير المبدعة كيد .
🍃🌸🍃

fadi azar 16-10-16 05:43 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
مسكينة غزلسيعاقبها سلطان اكثر وسيقتنع انها مليئة بالشر

كَيــدْ 20-10-16 09:16 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضـا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافيـة


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(83)*1




" متأكدين من كونه رجَع .. مافيه شك من هالموضوع "
عقدَ حاجبيهِ من خلفِ البابِ الذي كان يقفُ عندهُ وقدْ شدّهُ اسـم " متعب "، ينبعِثُ صوتُ سـالمْ بحدِيثه الذي يهدأ تارةً، ويحتدُّ تارةً أخـرى كالآن وبعدَ ثلاثِ ثوانٍ من الصمتِ من خلفِ جملته تلك : وبعدين مع هالكلام! .. ترى كل اللي أنت فيه من قبله أحمـد ، ماهو أنـا .. هو اللي فتّح العيون من سنين ... متعب مو مقيـاس على مين الغلطـان بيننا، بطّل تكرر هالكلام على راسي.
صمتَ قليلًا وهو يزفـر بصبْر، مرّت لحظـاتٌ قليلـةٌ على صمتِه حتى لفظَ أخيرًا : بلاقيـه ، بوقتها ما راح يحدنِي شيء على موته ، هالمرة بقتله بيديني أنا وأتأكد إنّه انتهى.

اتّسعت عينـا سندْ من الجهـةِ الأخـرى، متعب! .. يتحدّثون عن متعب!! أخُو شاهين بعينيهِ أم مجرّد تشابهِ أسماء! زمّ شفتيه وهو يبتعدُ عن البـابِ أخيرًا بعدَ أن سمعَ صوتَ سالِم يودّع الطـرف الآخر، كـاد أن يبتعد، إلا أنه تراجـع عن قراره، واقتربَ أكثر من البـاب، طرقَه دون تردّدٍ ليصله صوتُ سالِم الذي كان لا يزال محتدًا : ادخـل.
فتحَ سند البـاب ليدخـل، ابتسمَ سالم على مضضٍ ما إن رآه وهو يلفظ : تفضل اجلس .. وش عندك؟
سند بهدوءٍ اقتربَ حتى جلسَ على الكرسيّ الذي كـان أمام مكتبِه، وبنبرةٍ ثابتة : آسف .. سمعتك بالغلط وقت ما كنت واقف ورى الباب عشان أدخـل.
اتّسعت عينـا سالمْ متفاجئًا في بادِئ الأمـر، إلا أنه سرعـان ما ابتسـم ابتسامةً حادّةً خطـرة ، ومن ثمّ هتفَ بصوتٍ بارد : تتجسّس؟
سند يهزّ رأسه بالنفي : لا .. بس أعترف لك شدّني اسـم متعب.
تصلّب سالِم الذي كـان جالسًا وهو يوسّع عينيه دون فهم، وبتساؤلٍ هادئ : ليه شدّك؟
سندْ بشك : أنت كنت تقصد متعب محمد نفسه؟
هذهِ المرّة وقفَ سالـم بانشداهٍ وهو يسندُ كفّيه على سطحِ المكتب، وبخفوتٍ لفظ : أفهـم من سؤالك عنه إنك تعرف شيء حديث ومهم وإلا مجرد أمور قديمة مالها معنى!
سند يبتسم : ليه اخترتني؟ أتوقع تدري إنّ أخوه عدوِّي .. اختيارك لي عشان أشتغل معكم ومعرفتي الحين إنّ فيه لكم علاقة مع متعب تخليني أشك بالوضع.
سالم يتراجـع للخلفِ كيْ يسندَ ظهرهُ على الكرسيّ المكتبي وهو يبتسِم : لا تعتبر هذا سبب أساسي .. قول اللي عندك.
سند : أدري إنّه حـي.
اتّسعت ابتسـامة سالِم أكثر وأكثر : حلو ... حلو مرّة .. يعنِي تدري بأشيـاء أكثر ... قولها عشان ما أشك فيك.
سند بثقة : هذا كل اللي أعرفـه ... بس اللي ممكن أفيدك فيه إنّه قبل فترة جانِي أخوه شاهين يسألني عنّه .. وكان سؤاله يقول إنّه شاك بحقيقة كونه عايش.
ظلّ سالِم صامتًا للحظـةٍ وهو ينظُر لسطحِ المكتبِ بتفكير، يبتسِم ، ولابتسامتِه حكاياتُ مكـرٍ وشرْ . . وقفَ بعدَ لحظـاتٍ وضحكةٌ تنفلتُ من بين شفتيه قبل أن يرفعَ عينيه إلى سند وهو يلفظُ بنشوة : كنت شاك عالعموم وأنت أكدت لي .. انتظر مُكافئتك . .

*

اتّسعت بسمتـهُ وهو يقفُ أمـامهُ بكلّ ثقـة، يردُّ نظراتهُ الحاقـدةَ بأخـرى ماكِرة .. مرّر شاهين لسانـه على شفتيه، ومن ثمّ هتفَ بصوتٍ جامِد : اكلمك بعدين.
كـادَ يُنهِي مكالمته مع متعب إلا أن صوتَ سندْ جـاءَ بسرعةٍ يسبقه : تكلم متعب؟ ممكن تخليني أكلمه وأتحمّد له بالسلامة؟!!
اتّسعت عينـا شاهين بصدمـة، إلا أنه وبسرعةٍ كـان يُغلـق الهاتِف قبل أن يجيء ردّ متعب الذي يكـادُ يجزم بأنه سمِع حديثه، نظـر لسند بحدّة، ما الذي يفهمه ممّا قالـه؟ لا يعتقِد أنّه استطـاع استنتاجَ عودتِه في آخـر مرةٍ التقيـا فيها؟ إذن ما علاقتـه بالأمر!!!
رغـم أنّ فكرَه تشوّش لكنّه لم يسمَح بأن يشردَ طويلًا أمامه، رفـع عينيهِ إليه بثقةٍ وهو يهتفُ بصوتٍ ثابِت : محشوم متعب من صوتك ... ولو إنّي ما أدري ليش استنتجت إنّه هو بشكل خاص! وأيش قصدك من أتحمّد له بالسلامة !!
غمزَ سندْ بمكرٍ وهو يفهـم جيدًا ما معنـى أسئلته تلك وهدفـه الذي لم يكُن سوى تضييعه من الفكرة الخطيرة " أنّه يتواصَل مع متعب "، لم يكُن يريد أن يثبتَ أن متعب عاد وهو قريبٌ جدًا منه .. يأخذ حذره منه بما أنه لا يثق بِه ! .. هتفَ بنبرةٍ خبيثة : علينـا دكتور شاهين؟ أنـا شبـه واثِق إنّ سؤالك ذاك اليوم عن متعب ما جـاء من فراغ، كـان راجـع وطالـع لك مثل الشبح عشان كذا كنت تبي تتأكد مني؟
استشعرَ شاهين الخطرَ من صوتِه ونظراتِه .. اتّسعت عيناه قليلًا بشكّ، هل لهُ يدٌ فيهم؟ فيمن آذوا متعب؟ لا معنـى للريبـة التي يستشعرها تجاه صوتِه ونظراتهِ إلا هذا ، أنّ لهُ يدًا معهم !!
رغـم أنّه شعـر في ذاك الوقتِ برغبـةٍ في ضربهِ إلا أنه ابتسمَ ببرودٍ تصنّعه ومن وراءِ ابتسامتِه تلك نيرانٌ اندلعَت تريد أن تؤذيه كما فعلوا بمتعب، وبجمود : طالع مثل الشبح؟ هالكلمـة ما تنقـال عن متعب يا حبيبي ... قول طالع مثل حياة ثانية ! كذا أنت تحط كل شخص بمكانه الصحيح ..
سند يضحكُ بعبث : طيب ممكن أعرف مكاني أنا وين دام الدقّة لي؟
شاهين باحتقـار : بجهنم إن شاء الله.
سند : هههههههههههههههههههههههه أفا !!
شاهين يتحرّك مبتعدًا قبل أن يقتلـه بشكلٍ فعلي، لكنّ سندْ كـان قد تبعهُ بعجلٍ وهو يلفظُ بضحكـة : لحظـة .. بنعطيه قرصـة أذن بسيطة.
استدار شاهين باستهجانٍ وعينيهِ تلتمعـانِ بشرر : نعــــم !!
سند : هذي للتحيّة بس.
لم يكَد يستوعب بردّةِ فعلٍ دفاعيـةٍ حتى كـانت يدهُ التي امتدّت إليه أسرعَ وهي تحمـل جهازًا أدرك أنها " صاعقٌ كهربائي " .. أصابته في صدرِه قبل أن يرتدّ للخلفِ ويبتعد، تشنّج جسدهُ وعضلاته في لحظـةِ ذهول، بينما ابتعدَ سند للخلفِ وارتفعَت قبضـةُ يدهِ اليُمنـى لتتّجه لصدرِه مباشـرةً وتصيبَ أضـلاعهُ بقوّة أدرك معها أنه كان يرتدِي شيئًا صلبًا جعل قوّةَ قبضته كافيَةً لتحطِيم أضلاعـه ... جلسَ شاهين على ركبتيه وهو يضعُ كفيه على صدرِه ويسعلَ متقيّئًا دماءه .. اختنـاقٌ حبَس القدرةَ على التنفّس فيه، انحنَى إلى الأرضِ وهو يريد أن ينهضَ إليه ويردَّ ضربته التي غدرهُ فيها لكنّه لم يستطِع .. بينما ابتسمَ سندْ بنشوةٍ وهو يتراجـع ببرودٍ للخلف ... هاتفًا بصوتٍ مستخف : لنا لقـاء ثانـي ... هذا قرصـة أذن بس ... وأنصحك ما تقول اسمي لأحد ، عشان سلامة متعب بس.


،


عمّ الصمتُ في البقيّة البـاقيـةِ من مسـافةِ الوصول، كان حديثًا سريعًا ما قُرِئ من عيونه وما لُفظَ من حرارةِ غضبـه، انتهزَ ثانيـةً فقطْ استطـاع فيها أن يرسـل إلى عقلـها وعيدهُ لهـا تجاه ما تسبّبت بِه، تجـاه الضيـاع الذي كـانت ستساعدهُ ليتشبّث في حيـاةِ غيداء، أو على الأحـرى صارَ يُلامسـها وإن لم يُمسكْ بها بشكلٍ كليّ.
أغمضَت عينيها بعدَ أن وصَلت رسـالتهُ الصقيعيّة إليها، ورغـم أنّ اضطرابها تضاعفَ إلا أنّها هدأتهُ قسرًا، لن تهتمّ كثيرًا لغضبـه، لن تهتمّ كثيـرًا لكرهه لها أكثـر، لن تهتـم لكونِها تكْذِب على نفسها الآن !!
أغمضَت عينيها وهي تقاومُ العبراتِ التي تدافعَت إلى حنجرتها وبنَت فيهِ سدًّا من خـرابٍ مسّ انتظـام أنفاسِها . . دقـائقُ لم تكُن طويلـةً جدًّا حتى وصلوا ، أوقفَ السيّارةَ في اللحظـةِ التي كـانت فيها غيداء تنظر لحجرها منذُ زمـنِ الاعتذَارِ الذي جـاءها من غزل، من بعدِه وهي تتوهُ في ضياعِها أكثر! تتعمّقُ في أفكـارها التي أحالتـها لبؤسٍ أكبـر، تشعُر أنها تريد الذهـاب إلى أمّها كي تعتذِر منها لكنّها في الوقتِ ذاتِه لا تريدُها أن تعلـم بما حدَث، لا تريد أن ترى في عينيها العتَب، كمـا أنّها تخشـى رؤيتها بعدَ التمرّد الذي كـان فيها وبعدَ الكمّ الكبيرِ من التمادِي معها . . ويبقَى سؤالٌ واحِدٌ رغـم أنّها تنفي الإجابـة فيه بـ " نعم " لكنّه يزعزعُ طمأنينتها مهما حاولت : هل يحتقرون كونها ابنتهم بالفعـل كما قالت سارة؟ هل ما حدَث لها سابقًا دافـعٌ كيْ تُبنـى بينها وبينهم أسوارٌ من البُعـد؟
رفعَت رأسها حين شعرَت بكفِّ غزلْ تمسكُ كفّها التي كانت تستقر في حُجرها، وبصوتٍ حنونٍ هتفَت : وصلنا غدو .. انزلي.
نظـرت لها غيداء في بادِئ الأمـر بضيـاع، إلا أنها رمشَت بعينيها مرارًا ومن ثمّ أومأت كي تستدير إلى البـاب وتفتحه كيْ تنزِل .. تردّدت غزل قليلًا قبل أن تمدّ يدها لبابِها في اللحظـةِ التي كانت تسمعُ فيها صوت بابِ غيداءْ يُغلـق، تنفّست بحشرجة، ومن ثمّ وجهت نظراتها نحو سلطـان الذي نظـر إليها وابتسمَ بسخرية : انزلـي .. في النهاية محتـاج إنّك تكونين معها دامك بنت مثلها وممكن تحتاجك.
ابتلعَت ريقها بارتباك، أشاحَت عينيها عنه وهي تلفظُ بخفوت : بس الليلـة ، رجّعني قبل الفجـر.
سلطـان باستخفاف : يصير خير.
زمّت شفتيها وهي تمدّ يدها أخيرًا للبـابِ وتفتحه لتنزل، بينما قـام سلطـان بالمثـل، وقتذاك كـانت غيداءْ تقفُ عند بابِه بارتبـاكٍ وهي تعانِق عضدَها الأيسـر وتنظُر للأرض .. ابتسـم سلطـان بعطفٍ وهو يقتربُ منها، وقفَ بجانِبها ليمرّر يدهُ اليسرى من خلفِ ظهرها إلى كتفها الأيسر ويمسك بهِ بكفٍّ دافئة، بينما يدهُ اليُمنـى كانت قد عانقَت كتفها الأيمـن وصوتهُ يخترقُ مسامعها بخفوتٍ حنون : ليه أحسّ إنك خايفة مني؟
غصّت بشهقـةِ بكاءٍ سرعـان ما انسابَت من حنجرتها بعد أن غصّت فيها، عضّت شفتَها السُفلـى تكتُم بكاءها، لكنّها لم تستطِع وبدأت بالأنينِ من جديدٍ ليجذبها سلطـان إلى صدرهِ وهو يهمسُ لها بحنان : تعالي.
تحرّك وهو يشدُّ على كتفيها، اتّجه للبـاب، بينما تابعتهُ غـزل بعينينِ بائستين، شعرَت باختلاجاتٍ عنيفةٍ في صدرِها، ابتلعَت المرارةَ التي غصّت بها، ومن ثمّ تحركتْ من خلفِهما وهي تشعُر أنّ جسدها يتشنّجُ وإبرٌ تغزو مساماتِها وتخزُها.

بعدَ دخولِه اتّجـه مباشـرةً بها نحو الصـالة، التقـى بسالِي في طريقه والتي كانت قد عقدَت حاجبيها ما إن رأته ومعه غيداء، لم تنتبه لغـزل التي كـانت على بعدِ خطواتٍ منهم .. نظـر سلطـان إليها بحزمٍ ليلفظْ : جهزّي وحدة من الغرف.
أومأت ببلاهـةٍ ومن ثمّ تحرّكت كي تذهبَ للأعلـى إلا أنها تجمّدت فجأةً وهي ترى غزلْ التي ابتسمَت لها ببهوت. سالي باستنكـار : ماما غزل !!
سلطـان يلتفِتُ إليها بحدّة : استعجلي سالي، اتركيك من غزل الحين.
ارتبكت سالي لتومئ برأسها ومن ثمّ تحركت نحو الدرج كي تصعَد وتجهّز إحدى الغرف، بينما جلَس سلطـان على الأريكةِ وبجانِبه غيداء التي كـانت تبكِي بخفوتٍ مختنـق، مسحَ على رأسها وهو يضمّها إلى صدرِه، وبحنان : مع إنّي معصب منك بس تهزمني دموعك .. تعرفين شلون تلعبين بمزاجِي.
لم تردّ عليه بل بكتْ بصوتٍ أعلـى وكأنها كانت في تلك اللحظـةِ تشعُر بذنبٍ عميقٍ من نفسِها ومن تهوّرها وسذاجتها .. فتحَ نقابها ليرميهِ بجانِبها ومن ثمّ أرخـى من طرحتها وهو يلفظُ بهدوء : ما أبـي أحاسبك وأنتِ بهالحالة ولا تظنين إنّي بسكت لو بكيتي ... اسكتي عشان أهاوشك وما أحس بالذنب.
غيداء باختنـاق : آسفـــة ..
ابتسم : اعتذرِي لنفسك مو لـي ، أنا ماني زعـلان منّك ، زعلان عليك عاد هالزعـل خاصَةً كايد ، شلون بتراضيني الحين؟
ابتعدَت عنه قليلًا لترفعَ وجهها المنتفـخ إلى وجهه، كـانت عينيها قد انتفختـا من بكائِها، شفتيها ترتعشـانِ وصوتُها مبحوحٌ غـادرهُ الوضوحُ من عبراتِها : أنا غبيّة .. ولو إنّه صـار شيء أستاهل .. من البداية ما كنت أسمع كلام ماما وأعاندها . .
سلطـان بحزم : لا تقولين هالكلام .. وش أستاهل وما أستاهل هذي !! امسحي دموعك وبسّك بكا .. بخلّي سالي تحضّر لك شيء تاكلينه الحين وبعدين نتفاهم زين .. بعرف شلون بالضبط عرفتيها ومن متى وليش محد حدّك لهاليوم.
لم تقُل شيئًا وهي تتراجـع للخلفِ بعدَ أن نهضْ، دمعٌ كثيفٌ يغطّي عينيها ويشوّش انحناءَ حدقتيها، رفعَت يدها كي تمسحَ دموعها، شهقةٌ انسلّت من صدرِها دون أن تستطِيع حتى الآن أن تتحكم بشهقاتِها، زفـر سلطـان وهو يقفُ أمامها مباشرةً ليمدَّ كفيه ويحيطَ وجهها، بدأ بمسحِ دموعها بإبهاميه وهو يهمسُ لها بحزمٍ رقيق : يكفي بكاء .. وإذا خايفة منّي أو من امي أو حتى عنـاد فمافيه داعـي لهالخوف ، تدرين إنّنا نحبك ومستحيل نقسي من باب القسوة. . . عيونك الحلوة ما تناسبها الدموع ، ابتسمي أشوف.
حاولَت أن تبتسِم، ولم تستطِع سوى أن تميل بفمها قليلًا ليبتسمَ سلطـان بالمقابلِ ويقبّل جبينها بحنان، في حينِ وقفَت غزل على مقربةٍ منهما، تراقبُ حنـانه الذي اشتاقته والذي فقدته في ظلِّ الأيـامِ السابقـة، رغـم حسرتها في فقدِه ابتسمَت، رغـم الحُزنِ في صدرِها ابتسمَت، رغـم كلّ الأوجـاع كانت تبتسِمُ لأجلِ غيداء، وتغبطُها في اللحظـةِ ذاتها، تبتسِم .. لأجلها، وتمتّعًا بحنانِه وكأنها تتذوّقه بنفسِها.
تراجَعت عنهما لتخرج، اتّجهت للمطبَخِ كيْ تحضّر شيئًا لتأكله غيداء، لم تكُن لتتهوّر في الطبـخ لذا استقرَت على دهن التوست بالجبنـة، وقهوةٌ جاهـزةٌ أضافت لها الماءَ والسكّر .. شغّلت الغلايـة الكهربائيّة ووضعَت الكوبَ بجانِبها تنتظرُ غليان المـاء، وبجانِب الكوب صحنٌ يحمـل شريحتيْ التوست المحمّصة والمدهونة بالجُبن.
أسندَت مرفقيها على الرخـامِ وهي تتنهّد، كيف اعتلَت خيبتها أكثر؟ كيفَ عادَت في غمضـةِ عينِ إلى هنـا، تشتمُّ من الجدرانِ رائحتـه، وتسمـع من الزوايـا حفيفَ أنفاسِه، كيفَ عادَت إليه وكأنه الهُدى؟ ولأنه الهدى ، هو فعلًا طريقْ، كيفَ يُهدى الضـلالُ بذاتِه إليه؟ .. عضّت شفتها وهي ترفـع عينيها إلى المـاءِ الذي كـان يرتفـع في غليـانه، تتابـعهُ وصورةٌ مشوّشـةٌ لها تنعكـس، ومن خلفِها .. سُلطـان! .. استقرّ المـاءُ أخيرًا وهدأ ثورانُه، ابتلعَت ريقها بصعوبـة، لم تلتفِت إليه وهي تحمل الغلّاية، تتجاهـل رائحتـه العنيفة التي استشعرتها هذهِ المرّة بقوّةٍ بعد أن فقدَت الشعور بها في سيّارته، يدغدغُ حاسّة الشمّ ويعنّفها، تنسـى كل الروائح عدا حضوره القاسِي على قلبها، القاسـي واللذيذ في ذاتِ اللحظة ! . . صبّت من المـاءِ في الكوبِ بينما كان سلطـان يقتربُ منها بصمتٍ وهدوءٍ حتى وقفَ خلفها، ارتعشَت أصابعها حتى كـادت تُسقطُ الكوب والغلّاية معه، أخفضَت رأسها، كـانت لا تزالُ ترتدِي عباءتها، خلعَت طرحتها ونقابها وحسب بينما عباءتها تغطّي جسدها الذي اعتنَت في إبرازِ فتنتِه اليومَ كنوعٍ من التغيير .. كتّف سلطـان ذراعيه إلى صدرِه وهو يرمقها ببرود، راقبَ أصابعها المضطربة بوضوحٍ رغـم أنها كانت تشدُّ على مقبضِ الغلاية كي تسترُ اضطرابها، بيـاضُ طـلاء الأظـافر انعكـس بجاذبيّة على بشرتها السمراء .. وضعَت الغلاية في مكانها، ومن ثمّ تحركت للخلفِ قيد أنملةٍ وعادَت لتقف بتوتّر، يقفُ قريبًا منها جدًا لذا توقّفت بخوفٍ من الالتصـاق بِه .. لفظَت بخفوتٍ حاولت أن تجعَل نبرتها فيها ثابتةً لا تُظهر وهنها بقربه : ممكن تبعد شوي؟!
ابتسمَ سلطـان ابتسامةً باردةً وهو يتراجـع للخلف، تنهّدت براحـة، كـانت تشعر أنها في سباقِ مارثون من الإرهاقِ الذي هزّ جسدها، قُربه ليسَ عاديًا، قُربه يستفزُّ كل معالِم الجمودِ ويحوّلها إلى ذرّاتٍ تتناثـر مبتعدَةً عن قلبِها، يُرعِشها مهما حاولت الصلابة.
حملَت الكوب، لم تكَد تمدُّ يدها للصحنِ الذي كان يحمل التوست حتى وصلها صوته الهادِئ هدوءً مُرعبًا! : وش مسوّية لها؟
ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وهي تشتّتُ عينيها، وبنبرةٍ واهِنة : ولا شيء ... كوفي جاهز وتوست.
سلطان : همممم حلو .. ما ودّي تذوّقينها مرارة أكلك بعد ما ذوّقتيها مرارة قناعاتك.
أغمَضت عينيها بقوّة، جــاءَ وقتُ الحسـاب منه سريعًا، سريعًا لم تتمكّن حتى من استيعابِ كونها تكلّمت بكل جرأةٍ أمامه. هتفتْ بنبرةٍ متشنّجةٍ وهي تشدُّ بقوةٍ على عينيها : ما كنت أقصد أضرها.
سلطـان : قناعاتك بكبرها ضرر. وش اللي قلتيه لها بالضبط عشان تتعرف عليها وتصير قريبة منها؟
لم ترد، بل صمتت وهي تشدُّ على الكوبِ بقوّةٍ وصدرها يرتفعُ ويهبطُ بشدّةِ توتّرها. تصلّبت ملامِحه أكثر وقسَت عيناه وهو يكرّر بصوتٍ يخفتُ بقسوة : الجرأة اللي خلّتك تحكِين قدامي بالسيارة وين راحت عنك الحين؟ ورّيني غزل القويّة اللي تتصنّعينها.
فتحَت عينيها قليلًا، كـانت أجفانُها مُسدلةٌ كستارٍ أسودَ لا حولَ لهُ ولا قوّةَ إلا السقوطُ والارتفـاع معلنًا بداياتِ خيبة دون الانتهاء! لا ينسدِل كنايـةً عن انتهاءِ مسرحّيتها، بل ينسدِل مضاعفًا لها.
استدارَت بهدوءٍ كـان في الحقيقةِ صعوبةً في حركتِها، نظرتْ لملامِحه وأجفانها لا تزالُ متهدّلة بتلك الطريقة الخائبة، زمّت شفتيها بألمٍ قبل أن تهمسَ بصوتٍ خافِت : كونِي حرّة، لا تخضعين لأحد.
رفـع ذقنـه بغضب، ضيّق عينيهِ بحّدةٍ وهو يسمعها تُتـابعُ ببحةِ حُزن : ألـزم ما عليك حريّتك .. لا تهتمين لكلام أخوك المعقّد ..هو يبي يضيّق عليك وبس! ... استانسي.
شدّ على أسنـانه وفي لحظـةٍ خاطفـةٍ اقتربَ منها وهو يزفُر زفـرةً أقرب لزمجرةِ أسدٍ غاضِب، انتفضَت بقوّةٍ بعدَ اقترابِه المُرعبِ ذاك، ومن فرطِ الانتفاضةِ التي هزّتها كـان صوتها يعتلِي بصرخةٍ مذعورةٍ مع كفّها التي اهتزّت وتنـاثرَ نصفُ القهوةِ بلسعتِها الحارةِ على يدِها وبطنِها.
أمسكَ سلطـان بكفّها التي احترقَت بقوّة، شدّها إليهِ بغضب ليهتفَ بنبرةٍ حادّةٍ غاضبـة امتزجَت مع صوتِ تحطّم الكوبِ وتنـاثره على الأرضِ شظـايا : حريّة؟ حريـــة؟!! أيّ حريّة هذي؟ أي ضرر تبينها توصل له! تبينها تصير مثلك؟ وحدة بدون شرف !! هذا اللي تبينه هاه! هذا اللي تبينه يوم إنّك حثّيتيها على قناعاتك الحقيرة!!
عضّت شفتها بألمٍ من يدِه التي تكـادُ تحطّم معصمها وقبلها الحرارة التي ابتلعَت جلدَها بهيمنةٍ مؤلمـة، لم تتأوّه، حكـى عنها صراخها الأوّل ملخصًا آلامها الجسديّة والنفسيّة، تركَ سلطـان يدها بغضبٍ وهو يتراجعُ للخلفِ ويلفظُ بصوتٍ مشدودٍ وغاضب : منتِ أحرص عليها من عنـاد ومنّي .. بأي وجه رحتِ تنصحينها وأنتِ فاقدة كلْ شيء يدل على شرفك وأخلاقك! بأي وجه رحتِ لها؟ بــأي وجه وجّهتيها للخراب؟!!!
أخفضَت وجهها وهي تُغمـض عينيها بقوّة ، تحتـرق ، تحتــرق ، ليسَ احتراقًا من لسعـةِ سائلٍ ملتهبٍ بحجمِ ما كـان احتراقها براكينَ تثورُ في قلبها ... آلام الجسدِ تسقُط يا الله أمام ألـمِ قلبي، تسقُط! .. ما الذي يشرحُ مقدارَ احتراقِي؟ ما الذي يشرحُ ترمّدِي بعدَ أن أصبحتُ غابةً خضـراءَ في عينيه؟ هل أسمّي ما يعتري لحظـاتي – سوء منقلب -؟ وأنا التي كُنت بعيدةً عنك يا الله والآن أدركت طريقَ الهدى، وخسرته من الجهةِ الأخرى! فهل ما أصابني سوءٌ منقلب! أم أنّ الدنيا بدناءتها لا نحصـل فيها على كلّ ماهو خيـر .. وهو خير، أثقُ يا الله أنّه خيرٌ وخسرته.
فتحَت عينيها بقوّةٍ ما إن سمعَت صوتًا مبهوتًا غير صوتِ سلطـان حضر، كـانت غيداء التي دخَلت للمطبـخِ مذعورةً من صراخ غزل وصوتِ تحطّم الكوب : وش صــار !!!
فتحَت غزل عينيها، بينما استدارَ سلطـان نحو غيداء بوجهه المتصلّب والذي يشرحُ تمامًا كيفَ هو مزاجُه الآن، أفرجت غيداء شفتيها وهي تنظُر لوجه سلطـان بارتبـاكٍ تحاول فهم سبب هذهِ الملامِح التي ابتسمَت لها إلا أن ابتسامتها لم تُخفِي غضبها، وقبل أن ينطُق شيئًا سبقته غزل بصوتٍ واهنٍ وهي تنخفضُ للأرضِ كي تحملَ أجزاءَ الكوبِ المكسور : ما صار شيء ، الكوب طاح من يدّي بس وأنا انخرشت ... هذا اللي صار.
غيداء تنظُر لها بخوف : احترقتي؟
غزل بصوتٍ باهتٍ مغمور، وباختنـاقٍ لا تدري لمَ أصابَ صوتها فجأة : لا ، روحي اجلسـي على ما أجيب لك شيء تاكلينه.
فتحَت غيداء فمها كي تعترض، لكنّ حالتها النفسيّة كانت سيئةً تحتـاج أن يكون أحدًا بجانِبها، لا تنكـر أنها جائعة، ولا تنكـر أنها تريد الراحـة ، وأن تنـام أيضًا. لذا أومأت بصمتٍ ومن ثمّ ابتعدَت لتعودَ حيثُ كانت تجلس، قلبها لازال خائفًا، لكنّها تحاول أن تُخفِي خوفها، وتجلسَ وحدها.
جمعَت غزل الأجزاء المكسورة، رمتها في حاويـةِ القمامـة ومن ثمّ اتّجهت للخزانـةِ لتُخرجَ ظرفًا آخر تصنع بهِ قهوةً عوضًا عن القهوةِ التي ذهبَت أدراجَ السقوط، لم تحتَج أن تعيدَ تسخينَ المـاء، أضافت السكّر سريعًا من ثمّ أخذَت الصحنَ وتجاوزَت سلطـان الذي كـان قد استدارَ إليها بعدَ خروجِ غيداء وظلّ يراقبها بنظراتٍ غريبـة ... خرجَت من المطبـخ، وقلبها ينبِضُ بجنون .... لمَ كان صامتًا بعدَ خروجِ غيداء! ما سببُ هدوئه!!


يُتبــع ..


كَيــدْ 20-10-16 09:19 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 





،


تصلّبت حواسُها وعينيها التمعتـا بكُرهٍ واحتقـار، تراجعَت للخلفِ بتلقائيّة، رغبـةٌ في صفعـه أرعشَت كفّها، رغبـةٌ في تمزيقِ ابتسامتهِ الحقيـرة ..نظـراتها كـانت كالحممِ التي انسكبَت إلى عينيهِ مباشـرة، لم تحرقـه بل ضاعفَت متعته، ابتسَم أكثـر وهو يقتربُ منها .. ارتبكَت قليلًا، تدرك أنّه لن يتجرّأ على شيءٍ في هذا المكـان، وفي طريقه إليها لن يستهدفَ إلا شيئًا واحدًا، أو شخصًا واحدًا !!
زمّت شفتيها زهي تستديرُ وتعودُ لوالدها الذي لم ينتبِه بعدُ على تميمْ، وقفَت أرجوان بجانِبه، أحاطَت عضده بكفّيها بتشنّجٍ ليُدير رأسه إليها مباشرةً باستنكـار بعد أن دفـع حسابهما . . هتفت بصوتٍ راجِي ونبرةٍ خافتـةٍ أصابها الوهن : خلنا نرجـع بسرعة .. لا توقف أكثر ... أحس إنّي تعبانة شوي.
عقدَ حاجبيه مباشـرةً وبحركةٍ خاطفـةٍ كـانت يدهُ تُمسكُ إحدى كفيها وصوتهُ يلفظُ بقلقٍ عنيف : وش تحسين فيه؟
ابتسمَت أرجوان باهتزاز : لا تحاتِي بس أحس بشوية دوخـة ...يلا نرجع.
لم تكُن تريده أن توقّف، تحتَ أيّ ظـرف، لم تكُن تريده أن يوقفهُ ويحادِثه، يُخادِعه أكثر، يتمـادى ... يتمـادى كثيرًا في خداعِه لوالدها !!
تحرّك يوسفْ بقلقٍ مباشـرةً وهو يُمسكُ كتفيها ويسندها إليه، لم يكُن جسدها متداعيًا بل كـان يُسندها بشكلٍ تلقائيٍّ خوفًا عليها. لفظَ بصوتٍ قلق : كنتِ بخير وش صار؟
أرجوان تبتسمُ بشحوبٍ حقيقيّ، رؤيتها لهُ والتفكـير فيما يريد بوالدها يجعلها تستشعر التعب والإرهـاق فعليًا ، لفظَت بابتسامةٍ ناعمـة : وأنا للحين بخير .. قلت لك بس إرهاق بسيط ودوخة.
سقطَت عينـا يوسف على تميمْ الذي كـان قد وقفَ قريبًا يُتـابعُ تلك التمثيليّة بملامِح باردة، لم يهتمّ يوسفْ لرؤيته، بل أعـاد نظراته بشكلٍ تلقائيٍّ إليها وهو يلفظ : ما عليه حبيبتي .. بس ترتاحين وتكونين بخير.
أرجوان وابتسامتها تتّسع : إن شاء الله ...
خرجـا من المطعمِ وهذه المرّة كـان تميمْ بعيدًا لم يقدِم على الاقترابِ بعدَ رؤيتهِ لتلك التمثيليّة التي ستمنعه بالتأكيد من محاولة القُرب. ابتسَم بسخريةٍ هو يهز رأسـه : تستحق أحطها براسي ... مو مشكلة دامها تتذاكى علي !



،


جلـس في سيّارتهِ وهو يسعـل بقوّة ليتضـاعفَ ألـم صدرِه أضعاف، أغمـض عينيهِ بقوّة، يُغلـق البـابَ الذي ترافـق صوتُ إغلاقِه مع رنينِ هاتِفه، يصدحُ بإصرارٍ ويدرك أنّ المتّصل متعب.
رفـع الهاتِف وهو يجعّد ملامحـه، مع كلّ شهقةٍ وزفـرةٍ يشعُر بألمِه يتضاعفُ ممّا جعلـه يدركَ أنّ أضلاعـه قد أصيبت بكسرٍ أو شروخ، لم يُجِب عليه، بل رفـض مكالمتـه ومن ثمّ ذهبَ يبحثُ عن رقمِ سيف، لا أحـد قد يستطِيع الاتصـال بهِ الآن سواه، اتّصل بِه وهو يحرّك السيـارة، لم يتأخّر سيفْ في الرد، وصَل إليهِ صوته في اللحظـةِ التي كـان فيها شاهين يرفعُ ذراعهُ إلى خلفِ عنقهِ حتى يخفّفَ من الضغطِ الناجِم على كتفِه، هتف سيف : السلام عليكم.
كـان قد توقّف سعـالهُ وبقيَ الألـم يتضاعفُ من تنفّسِه، لفظَ بصوتٍ متوجّع : وعليكم السلام .. وينك؟
عقدَ سيفْ حاجبيهِ باستنكـارٍ من صوتِه، وبشك : تعبان؟
شاهين : لا بس * صمت لثانيتنِ وهو يشدُّ على أسنانِه بغضبٍ قبل أن يُردف وهو يشعُر بصدرِه يحطِّمهُ الألـم * ما أدري شلون طحت مباشرة على صدري وأتوقع صار لي كسر بالأضلاع ... بعقل وما أثقل كثير على نفسي عشان كذا أبيك تمرني.
سيف بعينينِ اتّسعتا : كسـر أيش! بسيط والا ؟
شاهين يزفُر بغضبٍ ليتأوّه فجأةً آهـةً خافتـة، وبخفوتٍ متوجّع : بسيط ...
سيف : طيب إنت وين؟
شاهين : بسيارتي ... قدام البيت.
سيف : عشر دقائق وأكون عندك.



،


تراقبُ عينيهِ خلسـة، لا أدري عن ماذا أبحثُ في شرودهما، ما الذي يدفعنِي للنظـر خلسةً إليه وكأنّني أسـرقُ شيئًا ليسَ من حقّي، كأنّي أقومُ بمعصيةٍ ستودِي بيديّ قصاصًا لأجـل عينيه المرتدّتين على شريعةِ الاستواء! . . . بللت شفتيها بلسانِها تطردُ الجفـافَ الذي زحفَ إليهما بعدَ انسحابِ الرطوبـة، وكأنها كـانت في حربٍ سجـال مع كلماتٍ صامتـةٍ تلَتها في صدرها، بل كـانت في حربٍ نزحَ النصـر فيهِ إليه هو حتى في صمتِه وغيابِ حواسّهِ عنها . . يسترخي بصمتٍ وسكينةٍ برأسِه على حُجـر سُهـى، كثيرًا ما يتصرّفُ كطفلٍ مدلّل، يأتِي إليها وحينَ ترمقـه بنظراتِها الغاضبـةِ يبتسـم لها بعنادٍ ويريحُ رأسه في حجرها، وفي مرّاتٍ قليلـةٍ كالآن ينسحبُ إلى سهى التي تستقبلـه بدلالِ أمٍّ وتلاعبُ شعره.
ما الذي يجعلُ النصرَ ينحنِي إلى عينيهِ الشاردتينِ إلى التلفـاز؟ لمَ أراقبهُ وكأنّي عاشقـةٌ في أوجِ الصبـا تسرقُ اللحظـاتِ لتُمتّع ناظريها بملامِح عشيقها، تلتمـع عينيها ببراءةٍ لأنها فقط رأتـه فارسًا يمتطِي أحلامـها . . كشّرت بشكلٍ تلقائي ، حاشاني! أن أنصّبكَ فارسًا على أحلامِي فذلك الجنونُ بعينِه! الجنونُ الذي يرتسـمُ في أحداقكَ عشقًا لـي وفي جنبـاتِ عناقِك امتلاكًا، في صدرِي حضورٌ وفي عيني سرقـاتُ نظـر !! ... يا الله هل جُننت أم مـاذا؟!
ابتسمَ أدهم الذي لم تنتبه لكونِه قد نظرَ باتّجاهِها ليسرقَ نظرةً إليها في المقـابلِ بعدَ أن شعرَ بأن عينيه غابتا عنها دهرًا : بتتعبين قلبك من كثر هالتفكير فيني.
انتفضَت حواسُها ما إن وصلَ إليها صوته، نظـرت إليه ببهوتٍ في بادئ الأمـر ودون استيعاب، إلا أنها سرعـانَ ما شتّت عينيها بحرجٍ وقهرٍ منه أمام عمته التي كـانت تتابـع التلفازَ وتتصنّع عدمَ المبـالاةِ بحديثهما.
إلين من بينِ أسنانها بحنق : القلب اللي يفكّر؟
أدهم يُميل فمه بغرور : الحُب محفّز للقلب عشان يسرقْ إمكانيات غيره.
اتّسعت عيناها بصدمـة، تنمّلت أصابعها وكأنه رشَّ عليها مـاءً باردًا كان في حقيقةِ الأمـر " وقاحتـه " .. ابتسَم بعبثٍ وهو يرفعُ حاجبـه، كان قد شعرَ بمراقبتِها لهُ وحين التفتَ وجدها بالفعـل شاردةً تنظُر نحوه، في لحظـةٍ خاطفـةٍ كشّرت بملامِحها وراقبَ هو تبدّلاتِ تضاريسها في صيفٍ وشتـاء، في عواصِف باردةٍ وأخـرى ساخنـة ... تُلهبينَ الجُرحَ وتُثلجينه في آن، أيجتمعُ الضدّانِ في لحظـةٍ واحدة يا نجلاء؟ أنـا الغارقُ فوقَ جفائك، الهائمُ لأجلِ وصالك، أرتجِي القُرب منكِ ، ليسَ قربَ الجسد بل تذوّق لحظـةٍ تنهزمُ فيها صلابـةُ قلبكِ ويذوبَ في فمـك بـ : أحبّك! .. إن تلوتُها كذبًا فالوهمُ صدّقنِي، وإن كذّبتُها كمدًا فالقلبُ في وصلكِ مسفـارُ .. لن يكلّ!
كيفَ يجتمعِ بردكِ وحرارتكِ على جرحٍ واحِد؟ كـان جرحُ اعترافـي ... لم أكُن يومًا أميلُ كلّ الميلِ الآن للفصـح التـام ، لكنّك تهزمين بعينيكِ الصمت وتخضعِينه.
لم تردْ، اتّسعت ابتسـامته أكثر بانتصـارٍ وهو يدرك أنّ نيرانًا اشتعلتْ في صدرها، لم تستطِع الردّ عليه أمام سهى لكنّ عينيها كـانتا حاقدتين/متوعّدتين، كـاد يضحكُ وهو ينظُر إليهما إلا أنه كتـم ضحكته وهو يحرّك رأسه لينظُر لسهى التي كانت تُخفي ابتسامتها وهي تنظُر للتلفـاز بتركيزٍ كـاذب، لفظَ بصوتٍ هادئٍ ورقيق : عمتي الجميلة.
ابتسمت هذهِ المرّة دون أن تحاول إخفـاءْ ابتسامتها، أخفضَت نظراتها إليه وهي تلفُظ بشك : ما تمدح لله ... وش عندك؟
أدهم يرفـع جسدهُ ليجلـس وهو يضحك : ههههههههههههههه أفا بس !
سهى : اخلص علي.
مرّر أدهم كفيه على شعره الفوضويّ ليُهذِّبه، وبابتسامة : ما تبين تتزوجين وتفكينا منّك؟
اتّسعت عيناها بصدمة : نعــــــــم !!!!
أدهم يكرّر بهدوء : ما تبين تتزوجين وتفكينا منك؟
اشتدّت ملامـح سهى بغضبٍ لتشدّ على أسنانها وهي ترفـع الوسادةَ وتضربـه بها : يا قلييييييييييل الحيا والمروءة ... هذي كلمة تقولها لي؟ إذا قاعدة على قلبك قولها واخلص عليْ.
أدهم يحكُّ شعره وهو يضحك : شدعـــوى .. بس ودّي أشوفك عروسه وإلا لو ودّي سكنتك أنتِ ورجلك هنا عشان ما أفقدك.
سهى ترمقهُ بحدّة : تلعب على عقلي بهالكلمتين؟ أجل تسكّني أنا ورجلـي يا الرمّة.
أدهم : ههههههههههههههههههه هذا اللي ناقص.
سهى ترفـع حاجبها : وش طاري هالسؤال؟ أنت تدري إنّي مطلعـة الزواج من راسي وخلاص مثل ما يقولون فاتني القطار.
أدهم : فاتك القطار؟ توّك بالثلاثين وشحليلك جميلة وتشبهيني ما يبيلها شهادة.
سهى : هههههههههههههههههههههههههه أنت تفتخر لما تشبّه وجهك بوجه مرّة؟!
أدهم : جات المتخلفة الثانية.
سهى تعقدُ حاجبيها : ليه مين المتخلفة الأولى؟
زمّ شفتيهِ يكتـم ضحكته بعدَ أن انزلقَت منه الكلمـة دون شعور، رمقتـه إلين بغضبٍ نـاري، فهمت أنه يقصدُ يوم رفضَت أن تتزيّن لـه بداعي ألا تكون كالجـارية ... بينما نظرت لهُ سهى ببلاهة، انتبهت لعيونه التي اتّجهت لإلين واستدارَت معه تنظُر إليها .. حينها فغرت فمها وهي تلفظُ بعد أن فهمت : آآآه . . .
صمتت مباشـرةً بحرجٍ دون أن تُكمـل الكلمةَ التي كادَت تقولها وهي تصدُّ عن إلين التي احمرّت ملامحها بحرجٍ وهي تُخفضُ وجهها، غضبٌ تأجّج في صدرها أكثـر إلا أنها أخفتـه أمامها، بينما كـان واضحًا لأدهـم الذي يكـادُ يضحك ويكتـم ضحكاته بصعوبة.
سهى تغيّر الموضوع وهي تنظُر لأدهم بغضب : أيه وش تتمنّى يكون أول أولادكم؟ بنت وإلا ولد؟
شعـر بقلبِه في تلك اللحظـةِ ينقبضُ وابتسامـةٌ ارتسمَت على شفاهِه بشغفِ اللحظـةِ التي يحمِل فيها طفلهما، مخلوقًا يُشبههما معًا! .. اتّجهت نظـراتهُ بتلقائيّةٍ إليها ليلمـح مباشـرةً احمرارَ وجهها بخجلٍ وهي تشتِّتُ عينيها، اتّسعت ابتسامته أكثر، ومن ثمّ وقفَ ليتّجه إليها وهو يلفظُ بشغف : شرايك؟
عضّت طرفَ شفتها بربكـة، لم تنظُر نحوه وهي تتخيّل طفلًا يُشبـه ملامِحها ومزاجّية والدِه ، شعره المتشابكِ مثله، لم تخطّطْ يومًا لهذا! لم تخطّطْ للحظـةِ التي تحمِل فيها طفلًا يحمِل جزءً من أدهم! .. كـانت ككلِّ أنثـى، بالتأكيد قد خطّطت لأموميّتها، لكنّها بالتأكيد .. لم تخطّط لها مع أدهـم.
وقفَ أمامها مباشرةً بينما كـانت هيَ جالسـة، لا يدري أينَ اتّجهت أفكـارها، لكن الفكـرة كـانت لذيذةً بدرجةٍ لم تسمحْ لهُ بتخيّل أن تكون أفكـارها ناحيتـها سلبية، لذا حافظ على ملامِحه الشغوفة، وابتسمَ تلك الابتسامـة العابثـةَ وهو يضعُ كفّهُ على شعرها ليُشعثهُ لها ويلفظَ بخفوتٍ شغوف : أبي أول من يجينا بنت ، ويكون اسمها هيفاء.
تصلّبت للحظـةٍ سريعةٍ قبـل أن تنظُر باتّجاهه، رغـم أن ملامِحها كانت قد اضطربَت بحرجٍ إلا أنها عقدَت حاجبيها وهي ترمقهُ باعتراض : لا ما أبي البكر بنت ... ولد وأسميه ليث ،
عقدَ أدهم حاجبيه وهذا الاسم ارتبطَ تلقائيًا بـ شاهين، كشّر باستهجـانٍ وهو يتمتمُ في نفسِه " هذا الناقص "!! .. ومن ثمّ تراجـع وهو يُميل فمه بقرف : تعقبين .. إلا ولدي ما يتلوّث بهالاسم.
نظرت لهُ بعينينِ اتّسعتا صدمة : نعـم !!!
أدهم : دورِي اسم غيره .. هذا لا.
ضيّقت عينيها بحنـق، وبتلقائيّةٍ بـزغ الجُزء الطفوليّ فيها بعنـادٍ تمارسهُ بأسذجِ حلّةٍ له : لا .. هذا عاجبني وأبيه .. ولدي وكيفي لو أسميه جهنم ما لك شغل.
أدهم بسخرية : ما شاء الله يصير اسمه جهنم أدهم؟ عزّ الله فلحت أنا وهو.
إلين : لو قبر أدهـم بعد ترضى وإنت ما تشوف الدرب.
ضربَت سهـى جبينها وهيك لا تصدّقُ ما تسمـع من جنونٍ طفوليٍّ منهما، لمْ يُظهرها هذا الجانِب أمامها قبلًا، لذا كـانت تراقبهم وهي توسّع أحداقها وتضـع كفها على جبينها بذهول.
أدهم بضجـرٍ يمرّر كفّه بين خصلاتٍ شعره : يصير خير .. اللي يسمعك يقول تارس بطنك الحين .. انثبري بس.
إلين ترفـع حاجبها باستهجان، وبمحاولةٍ واهيةٍ في استفزازِه : أهم شيء لا تعطيه جينـات شعرك .. اتفقنا؟
أدهم يكتُم بسمتهُ وهو يرفـع حاجبَه : ولا تورثينه غبائك.
إلين بحنق : الله يستر عـاد من طيشك.
أدهم : وبرودك.
إلين : ومزاجيّتك.
أدهم : وجمـالك.
غصّت فجأةً بما لا تعلـم لتبدأ بالسعـال بينما اندفـع أدهم إليها وهو يضحك : بسم الله عليك . .
سهى من خلفِهم ابتسمَت وهي تنهضُ كيْ تبتعِد : الله يخلف عليكم.
لم يبدوا أنهما سمعاها، بل على الأرجـح تناسيا وجودها قريبًا منهما .. نظـرت إليهما نظرةً خاطفـةً وهي تبتسِم، أدهم يضحكُ وهو يضعُ كفّه على ظهرها بينما إلين كانت قد ضربت صدرهُ ومن ثمّ وضعَت كفها على فمها دون أن يتوقّف سعالها إلا أنه خفَت .. كـانت تريد شتمه ولم تستطِع ، باغتـها بتلك الكلمـةِ الغزليّة السريعـة، وباغتَ قلبها بانتفـاضةٍ ربّما هي التي غصّت فيها، بدأت تخـافه، تخـاف لحظـاتِ تأمّلها له، تتبّع التفافاتِ شعره، عبثَ عينيه، همزةَ الوصلِ ما بينَ حاجبيه، والألفُ المقصورةُ على شفاهِه المنحنيَة بمزاجٍ ملتـاع.
" جمالك " ما فيها من سُلطـانٍ حتى تهزَّها بقرارٍ متين؟ ألـم تعتَد على أساليبهِ الملتويَة؟ لازالت في كلّ مرةٍ يلتوِي بغزلِه يُصيبها الذهولُ والبهوتُ أمـامه، تظهر بسذاجـةِ صبيّةٍ تسمـع الغزل من حبيبها لأول مرّة.
ابتسَم وهو يمسَح على ظهرها، وبمكر : عيب تكونين جميلة بزيادة، حتى لو تكرهيني ترى الفتنة أشدّ من القتل، كم مرة فتنتيني وكم مرة أقدمتِ على جُرم بهالشدّة؟
زمّت شفتيها بانفعـال، لم تنظُر لهُ وهي تمسحُ بظاهِر كفّها على فمها، بينما أخفضَ أدهمْ كفّه عن ظهرها ليتّجه إلى وجهها، أزاحَ خصلاتِ شعرها الساقطـة عن ملامِحها، لم تنظُر إليه أيضًا بل ظلّت تنظُر للأرضِ حيثُ تصتدمُ عينيها بموضعِ قدمِه القريبةِ من أقدامِها . . . شعَرت بِه يُمسكُ ذقنها ومن ثمّ يرفـع وجهها ويلتقِي بها كسفينـةٍ تاهَت عن مينائها والتقَت بها الآن، ارتعشَت كفوفها، ورغـم أنها كـانت تتجاهلـه قبل لحظـاتٍ بعينينِ مفتوحتين ها هـي الآن تنشدُّ إليه بعيونٍ مُغلقـة، أسدَلت أجفانها وهي تشعُر بكفّه تستقرُّ على خصرها لترفعها قليلًا حتى تقفَ بعد أن كـانت جالسَة على الأريكةِ وهو أمامها . . إن كـان للقبـلاتِ قاعـدةٌ اختلقها المترفون بمشاعـر لم تُبـادل فستكون أمـلًا، وإشعـاعُ نور ، بأنها لا تُصبـحُ واللهِ قاتلـةً إلا إن كـانت المشاعرُ ترتحـل عبر الشفـاه، تجيء وتذهب بانتظـام، في طريقٍ لـهُ جانبين ، لا تسمـح إطلاقًا بأن يعبُرها واحِدٌ وحسْب .. تلك القاعدةُ أختلقُها الآن كيْ أدرك فقط أنّك تحبّينني زيفًا وأنّني أدركُ حبّك حتى أُدركهُ فعلًا، تلك القاعـدةُ " تصبيرةٌ " حتى تحينَ الحقيقة التي سأجرّها قسرًا إلينـا.
شعرَ بها تدفعهُ من صدرِه، تراجـع لتجلـس مباشرةً كمـا كانت وكأنها كانت تستندُ للوقوفِ على كفّه تلك التي لم تكُن تحملها في الحقيقة، لكنْ لربّمـا كـان الاستنـادُ معنويًا وما إن ابتعدَت وفقدتْ ملمسَها حتى سقطَت جالسـة .. عضّت شفتها السُفلـى والتي تضطربُ بقبلتـه المترسّبةِ عليها، شتّت عينيها وكأنها تبحثُ عن شيءٍ مـا .. أو شخصًا .. حينها ابتسمَ أدهم وهو يمرّر لسـانه على شفتيه ويهتف : شفيك مرعوبة؟ ماهِي حولنا.
ابتلعَت ريقها وهي ترفـع عينيها إليه، وبخفوتٍ مرتبـك : تخيّل لو شافتنا؟ لا عـاد تسويها بالصـالة.
أدهم : ههههههههههههههه كنت بقول شيء بس بتردين عليْ بـ " قليل أدب " عشان كذا سكت.
عقدَت حاجبيها، تشعُر أنها فهمَت ما كـان سيقوله، بالتأكيد سيتعلّق بالمكـان ، وبما أنها ذكرَت موضِع قبلةٍ في الصـالة فسيتمادَى في كلامِه .. لوَت فمها وهي تصدُّ عنـه وتلفظَ بتكشيرة : قليل أدب.


يُتبــع ..

كَيــدْ 20-10-16 09:21 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




،


" شلون طحت أنت ووجهك؟ وعلى أيش بالضبط! "
ابتسمَ شاهين دون تعليقٍ وهو يستلقِي نصفَ استلقـاءٍ على السرير، في حينِ مطّ سيفْ فمـه باستخفافٍ وهو يُردف : ما استحيت وأنت تقول طحت؟ .. زين ما انصابت أعضاءك بشيء وكان كسـر خفيف.
شاهين بهدوء : تبالـغ ، عادي كل انسان ممكن يطيح.
سيف : طول وعرض وما تعرف تتّزن.
شاهين بضحكـة : صدمتْ بشيء خلانِي أطيح .. مدري وش كـان.
سيف : كنت تفكّر بزوجتك أتوقع! .. واضِح مشتاق وتكابِر.
تبدّلت ملامِح شاهينْ فجأة، وبحدّة : سيف .. عن البزرنة!
سيفْ : بزرنة؟ لا تخليني أخلف أطلع لك جزء البزر بداخلـي وأخليك تشوفه بشكل جدّي ... ترانِي رجّال وأفهم مُكابرتَك.
ابتسمَ سيفْ بعبثٍ وهو يلحـظُ جمودَ عينيهِ وقساوةَ ملامِحه وكأن ذكرَ هذا الموضوعِ أغضبه! .. تراجـع وهو يلفظُ باستهزاء : الله يخلِف ... أنا بنتظِرك برى على ما يخلصْ الدكتـور من إجراءات القلق.
لم يردّ عليه شاهين، أشـاحَ وجههُ عن البـاب بعدَ أن أغلق وهو يزفُر زفـرةً آلمَت صدره، هو لا يُكـابرُ إطلاقًا، بل يشتـاقُ ويعترفُ لنفسِه بذلك، لا يحـاولُ أبدًا أن يُولِّفَ شوقهُ في مهبِّ المكابـرة ، يشتـاقُ لعينيها، لوجنتيها البارزتين ونحالـةِ وجهها، لشعرها ... لا يكذِب الشوق، لا يتجرّأ على تكذيبِه، للشوقِ قدسيّةٌ لا تُمسّ بتصنّع عكسِه . . أغمـض عينيه، يقـاومُ تنهيدةً قد تؤلِم صدرَه .. ليسَ وقتَ التفكيرِ بها، ليسَ وقته، المهم الآن هو متعب ! .. ما علاقـة ذاك الأحمـق بما حدَث له؟ ما علاقـته بِه؟!


،


أوقفَها بصوتٍ رزينٍ لا يُظهِرُ تعابيـرَ خطّتهِ الشيطـانيّة، والعابثـةِ عبثًا لا يلِيقُ بِه ... نظرَت لهُ الممرّضـةُ باستنكـار، اقتربَ منها سيفْ وهو يُخفِي ابتسامتهُ ليظهـر بجدّيـةٍ فيها القليلُ من الحـرج، مدّ هاتِفهٌ نحوها لتنظُر ليدِه الحاملـةِ لها باستغرابٍ ودون فهم ، وما إن رفعَت نظراتها نحوه بتساؤلٍ حتى لفظَ وهو يشعُر بحرجٍ حقيقيٍّ كـان يُخفيه : هذا جوّال خويّي اللي مسوّي حادَث قبل شوي .. منحرج أكلّم زوجته ممكن تكلمينها عني؟
استنكَرت أكثر، كـان يستطِيع أن يتّصـل برجُل، أخوها أم والِدها أم أيّ شخصٍ قريبٍ منها قد يُخبـرها ... رغـم استنكـارها إلا أنها أخذَت الهاتِف وهي تومئ برسميّةٍ وتهتف : اسمه لو سمحت.
سيف بابتسامةٍ وديعـة ، ورغـم " بزرنةِ " خطوتِه هذهِ التي لا تليقُ بالصورةِ التي من المفترضِ أن يظهرَ عليها رجلٌ ينتصِف الثلاثينَ إلا أنّه كـان يريد أن يُشعـل قلبها عليه .. وفي اللحظـةِ ذاتِها ... يتلاعَبُ بشاهينْ وحمـاقته! : سيف ... بس طمّنيها إنه مافيه إلا العافية وكـان حادِث بسيط .. فيه شخص ثانِي بعدْ كـان معه وهو زوج أختها . . . .


،


ارتجَف صوتُها ، كفّها التي كـانت تحمِل الهاتِف ... هوى قلبُها في وادٍ ساحِق، فـراغٌ أحاطَها ورعشـةٌ هزّت حواسّها وهي تهتفُ بخفوتٍ باهِت، مذعور! : سـ ... سيف .. شفيه سيف؟ وش صار له وش ....
قاطعتها المُمرّضـةُ بهدوء : هو بخير لا تحاتين .. صار له حادث بسيط مع الثانِي وحاليًا حالته كويسَة ..
أغمَضت عينيها بقوّةٍ وهي تُرجـع رأسها للخلفِ وتقـاومُ دمعًا سحقَ مقلتيها، قلبُها هوى في نبضـاتٍ تسارعتْ حتى شعرت أنهُ سينفجِر ويحطّمُ أضلعـها .. تتخيّل أن يُصيبهُ شيءٌ ويصيبها هيَ معـه بكلّ العنفوانِ القاسِي والموجِع .. تتخيّل أن يمسّهُ شوكٌ ويكون شوكًا يخِزُ خاصِرتها .. بتلقائيّةٍ ما يُصيبهُ يُصيبها .... في مقتل! يُصيبها واللهِ في مقتل !!
ابتلعَت ريقها، صُيِّرَت ساقاها إلى هُلاميّة، تشبّعت بالوهنِ بينما كـانت أسيلْ قد انّشدّت إليها بقلق، نهضَت لتقتربَ منها وهي ترى ديمـا تشدُّ على الهاتِف بقوّةٍ متشنّجةٍ وتسمـع البقيّة من حدِيث الطرفِ الآخـر ...
ارتفعَت عينيها فجأةً نحو أسيل، جلدُها الشاحِبُ صبّ فيها الذعـر لتقتربَ أكثـر وهي تلفظُ بخوف : وش اللي صار لا تفجعيني !!
ديما بارتبـاكٍ تُشتّت عينيها ، تلفظُ بصوتٍ مختنـقٍ باكِي : اوكي .. اسم المستشفـى لو سمحتِ.
أغلقَت بعدَ لحظـاتٍ بينما كـانت أسيل تندفعُ جالسـةً بجانٍبها بذعرٍ وهي تهتفُ بصوتٍ ذاهب :مين في المستشفى؟ سيف؟!
ديمـا تبتلعُ ريقها وهي تُقاومَ دمعـةَ خوفٍ تريد أن تنسلَّ من عينيها، رمشَت مرّارًا وتكرارًا وهي تبتلعُ ريقها، تترقّب ملامِح أسيلْ الخائفـةَ والشاحبـةَ فوقَ شحوبِها المُعتـاد . . . لفظَت بصوتٍ خافتٍ يرتعِش : سيف ... و ... وشاهين.
اتّسعت عينـا أسيـل بصدمـة، تصلّبت للحظـاتٍ بطيئـة، انسكبَ البهوتُ في ملامِحها وانسلّ عنها تواضُع السكونِ فيها واحتلالـه .. تصلّبت كغصنٍ خريفيٍّ جـاف، اصفرَّ بشحوبِ ملامِح الفصلِ النائيْ عن نضـارةِ الطبيعيةِ ورنقها ، بذهبيّةٍ مُفرغة! ..لم تستطِع ديمـا قراءتها، لم تكُن الآن تهوى قراءتها في الحقيقة! لم تُحـاول، بل وقفَت بأقدامٍ هُلاميـة ، وصوتُها لفظَ بحشرجـة : بروح المستشفى ، السواق موجود؟!
لم تردَّ عليها أسيـل، كـانت تسبحُ في أفكـارها وهي تتخيّل ما حدَث لهُ بالضبْط ، لمَ هو في المستشفى! لم توضّح لها ديمـا شيئًا، ما الذي حدَث له؟ ما الذي أوصلهُ للمشفـى؟ ما الذي ... ما الذي . . . .
اختنقَت ، لم تستطِع قولَ شيء، حامَت الكلماتُ فوقَ الصمتِ وأُخرسَت، بينما هزّت ديما كتفها بانفعالٍ وهي تلفظُ بحدّة : أسيــــــل .. مو وقت تناحتك ، السواق موجود؟!
نظـرت لها أسيل ببهوت، لم تستوعِب ما قالتْ في بادِئ الأمـر، لكنّها وبعدَ لحظتيْنِ أومأت وهي تلفظُ برجفـة : أعتقد موجود ، بـ .. بتّصل عليه.
ديما بانفعال : طيب بسرعـة .. ركّزي . .
حرّكت أسيلْ رأسها تبحثُ عن هاتِفها بضيـاع، وما إن سقطَت نظراتُها عليه حتّى اتّسعت وهي تنهضُ بصعوبةٍ نحـوه، حملَته بيدٍ مرتجفـة ، بحثَت عن رقمِه حتى وجَدته لتتّصل بِه وتتأكد من تواجُدِه بينما كـانت ديمـا في ذاك الوقتِ ترتدِي عباءتها وهي تبحثُ بانفعـالٍ عن عذرٍ تلفّقه لأمها لخروجِها الاضطراري، لحظـاتٌ مرّت قبـل أن تسمـع من أسيـل " موجود " .. ومن ثمّ أردفَت بتساؤلٍ متوتّرٍ بعدَ أن استوعبَت كلّيًا ببطء : ليه في المستشفى؟
ديمـا تحمِل حقيبتها، تتغافـل عن نبرتِها، عن رعشـةِ صوتِها، عن توتّرها وهي تلفُظ سؤالها المتوجّس ذاك والمختنـق بخوفِها ... ردّت باستعجـال : صـار عليه حادِث . . . * نظرتْ لها لتردف باستعجـال * أنا رايحة .. مافيني أنتظر لين تجي امي وأكلمها بنفسي .. قوليلها أي عذر ممكن يجي ببـالك . . .
قاطعتها أسيل وهي تنهض وتغمـض عينيها باختنـاقٍ أكبـر ، يجفُّ من حلقها التعبيرُ ويخرجُ صوتُها فارغـًا ، هادئًا ، هدوءَ ما قبـل السقوط : بروح معك ...


،


لازالت عيناها تتبّعانِ حنانَه، ابتسامةُ شغفٍ تتكوّن تـارةً وتارةً أخـرى تستذكِرُ ما هـي فيهِ لتُمحيها، تحاولُ تهذيبَ عضلاتِ وجهها فلا تقدِر، كلّ شيءٍ فيها يمتزجُ بِه ويُصدِر تعابيرًا فوقَ تحكّمها . . كلّ ما أعلَمه أنّني فقدتُ نفسِي ووجدتها أيضًا فيك، خسرتُ مجابهـةَ الجمودِ وذابَ سكونُ وجهِي أمـامَ ابتسامتكِ التي توزّعها لكلّ من يبتغيها وتبخلُ بها عنّي وأنـا أحتـاجها ، أحتـاج ابتسامتكَ طيرًا لا يُجيدُ الطيرانَ دون جنـاحين، زهـرةً لا تُزرعُ دون تربـة/دون مـاء، أحتاجُكَ غمـامةً تريدُ الانحلالَ لتُظهرَ فيّ تعبيرَ الحيـاة، صوتً موسيقيًّا مُقدّس، ولحنـًا لا يبرأُ من الجمـال، أحتاجُك كمـالًا وأحتـاجكَ حيـاة فإنّ الموتَ الحيّ لم يُلائمنِي.
كـان يجلسُ بجانِب غيداء، اختـارَ عدمَ الإكثـارَ من محاسبَتها والأسئلةِ المستفسِرةِ عن الحقيقة، يريدها فقط أن ترتـاح الآن والصبـاحُ رباح. ابتسمَ لها بعدَ أن رآها تضعُ كوبَ القهوةِ على الطـاولة، وبصوتٍ حنونْ : الحينْ بتروحين تنـامين وترتاحين ، وبكرا نشوف شلون بنتفاهَم.
ابتسمَت دون حيـاة، لم تكُن ابتسامتُها وضّاءةً في الحقيقةٍ بل كـانت زائفَة، أومأت دون اعتراض، لا تستطِيع أن تقول له الآن أنّها خائفـةٌ لا تعلَم لمَ ! لأنّها لاحظـت اتّصالاتٍ منها؟ منذُ ذهب للمطبَخِ خلفَ غزل شقّ هاتِفها سكون المكـان، أخرستهُ بسرعـةٍ لكنّ الاتصـالاتِ لم تتوقفْ لذا كـانت تضعُ هاتفها على وجههِ كي لا يلحظَ سلطـان اضاءته.
نهضَ سلطـان وهو يُشير لها أن تنهضَ كيْ يوصلها للغـرفةِ التي جهّزتها لها سالِي، وقفَت وهي توجّه عينيها لغزل، وبحبْ : تسلم يدّك .. المرّة الثانية أبي أذوق طبـخك مو بس توست.
غزل تبتسمُ بنعومةٍ وهي تهتفُ بضحكة : بتندمين على قرارك ترى.
غيداء : ما يضـر نذوق ونتسمّم من بعدك .. حرام سلطـان بس يتذوّق طبخك واحنا لا.
تحوّرت بسمتها للزيف، كان فمها قدْ اهتزّ يريد لابتسامتها أن تتلاشـى لكنّها قاومَت اهتزازها وأبقَت على بسمتِها تلك .. يعودُ وحيْ الأيـام التـي ذاقَ فيها مـذاق طعامِها اللاذِع وابتسـم بمجاملـة، ومرّاتٍ قليلـةٍ كـان يقولها لها بكلّ صراحـة " هالمرة أسوأ من قبل ، تعلمي " .. يعودُ إليها ذاك النهـارُ الذي طبخَت لهُ لأوّل مرةٍ في حيـاتها، يومَ رأى الغزوَ الذي حلّ في ظهـرها ، وواساها .. واحتواها بقُربـه . . . ابتلعَت ريقها ، نظـرةٌ سريعةٌ ألقاها إليها سلطـان ببرودٍ قبل أن يصعدَ ومعه غيداء .. تركـاها وحيدةً مع الذكـريات، ومع مشاعِرها المحمومةِ بحمّى اشتياقِه .. ليسَ سهلًا! ليسَ سهلًا واللهِ أن تتجـاوز، ليسَ سهلًا أن تحاولَ التناسـي وتقدِر .. هو أكبـر من مصطلحـاتِ التجاوزِ وأكبرُ من أن أحـاول حتّى ، كلّما قُلت في نفسي " سـأتناسى " تنفصِل السينُ عن الإرادةِ وتتباعدُ الأحـرفُ لأصدقَ القول أخيرًا مع نفسي " لا أقـدر ، ولا أريد أن أنسـاك "! إن كـانت المرارةُ كبيرةٌ فمحاولـة نسيانِك أشدّ مرارةً في روحي.
مرّت دقـائقُ طويلـةً بعضَ الشيء، نزلَ من بعدِها سلطـان وما إن سمعَت صوتَ خطواتِه حتى رفعَت وجهها الشاحِب إليه، ستقول له الآن بأن يُعيدها، لن تبقَى معه هذهِ الليلـة، لا تريد تجديدَ أوجاعِها والشعور بأنها تحتاجُه أكثر!
اقتربَ سلطـان بهدوئه منها، عقدَت حاجبيها بمرارةٍ ومن ثمّ أفرجَت شفتيها وهي تقفُ وتسمـح لصوتِها المبحوح أن ينسـابَ إليهِ منهزمًا : خلاص ما يحتـاج أجلس معك أكثر ... رجّعني.
رفـع سلطـان حاجبه، لا تدري إنْ كـانت رأت في عينيهِ نظراتَ استخفافٍ وسخريةٍ أم أنها توهّمت! .. شعرت بالاضطرابِ من نظرته تلك، شتّت عينيها لتسقطا على طرحتها ونقابها الموضوعينِ على الأريكـة، مدّت كفّها إليهما باضطرابٍ تريد أن ترتديهما في تعبيرٍ حـازمٍ على رغبتها في الخروج، إلا أنه كـان قد استدارَ دون مبـالاةٍ وتحرّك مبتعدًا .. هاتفًا بأمـرٍ جـاف : تعالي وراي ....


،


بينما في جهةٍ أخـرى استلقَت غيداءْ على السريرِ وهي تقبضُ على هاتِفها بقوّة، تُستنفدُ أعصابُها من إنارتِه بإصرار، كانت تخشى أن ينتبِه لهُ سلطـان حينَ صعودِهم لذا كـانت تدسّه في حقيبتها ولم تخرجه إلا بعدَ خروجه، لازالت مصرّةً على الحديثِ إليها ... لا تريد الرد! لا تريد أن تسمـع صوتها، تشعرُ أنّها ستتقيأ من التقزّز ، ومن خيبتِها أيضًا! .. كـانت الوحيدة التي تشعرُ بها، أو تتصنّع؟ كـانت الوحيدةَ التي تفهمها، أو تمارسُ ذلك تمثيلًا؟ هل كلّ ما قالته عن عناد وأمها تلفيقٌ أم حقيقة؟ هل أصبحَت الآن وحيـدةً دونها؟ بعدَ أن كـانت من تشغُر ألامها! .. هل كـانت تشعُر بها فعلًا؟
شدّت على أجفانِها، لا تريدُ أن ترى الهاتِف وهو يُضيءُ معلنًا عن اتّصـالها ... لكنّها في الحقيقة .. تريد ! تريد أن تحدّثها، تعاتِبها، تسألها لمَ؟ وتحاولُ أن تجعلها تستفيقُ من تلك القذارة !
لم تستطِع فعلًا أن تتجاهلـها، فتحَت عينيها لتنظُر لشاشةِ الهاتِف القريبةِ منها بإصرارٍ حزين، رغـم ما اكتشفتهُ فيها إلا أنها لم تكُن تريد إطلاقًا أن تفقدَ من كـانت تشعُر بها ... ردّت ، بعدَ هزيمـةِ الأشهر التي عرفتها خلالها لها .. بل لم تكُن تعرفها! في الحقيقةِ لم تكُن تعرفها ... ولازالت تكذبُ تلك الحقيقة.
ابتلعَت ريقها باختنـاقٍ وهي تضعُ الهاتفَ على أذنها، أغمضَت عينيها بتلقائيّةٍ وصوتُ سارة العنيفْ يصِلها غاضبًا : ليه ما تردّين يا جبــانة؟ أنتِ أيش؟ طول عمرك تظلين غبية وتمشين ورى كلامهم !
ارتعشَت شفاهُ غيداء بضعفٍ قبل أن يغصّ صوتُها في خيبتها وتهمسَ لها : مانِي غبية ..
سارة بوحشيّة : إلا غبية ... ومليووووون علامة استفهام ورى غبائك .. جبرتك على شيء؟ قلت لك غصب توافقين على اللي أقوله؟ كنت أقنعك بكل هدوء .. وأنتِ رحتي تراكضين للمتخلفين اللي حولك ..
سقطَت دمعةٌ من عينِها بضعفٍ وأسـى ، تستميل بالدفـاع في صورةٍ واهنـة، في صورةٍ هشّة : لا تسبينهم.
سارة بسخرية : كـالعادة ما ترضين عليهم مع إنهم مقيدين حريّتك ومخلينك مثل العبيد المسجونين ... ما يتحرّكون إلا بعدْ صدور الأوامـر الملكية منهم.
غيداء بحدّةٍ هشّة : ماهم كِذا ... هم يخافون عليْ وبس.
انفجـرت سارة بضحكـةٍ مستخفّةٍ أجفلت بها ملامِح غيداء جفولًا متداعي، ابتلعَت غصّتها، ولازالت تغصُّ بأحزانٍ أكبـر .. هتفتْ سارة بسخريةٍ واستخفاف : يخافون عليك؟ كثّري من عذر المُستعبدات هذا ... صيري غبيّة مثل كل بنت تشوف كلام أهلها وحيْ مُرسـل.
غيداء باختنـاق : كلام الوحيْ المُرسل يقول إنّ اللي أنتِ فيه غلط وحرام ... ليـــه؟! ليه يا سارة والله أحبك ما أبيك كذا.
ابتسمَت سارةْ على براءةِ صوتِها وهي تنطُقها ببكاءٍ وخيبـة، وبصوتٍ رقيقٍ فقدَ حدّته : يا حبي لك غيودة ويا حبي لبراءتك بس.
اقشعرّ جسدها، هذهِ المرّة لم تأتِي كلمـاتها عفويّةً وطبيعية، بل استشعرت منها النفور، شتّت عينيها وفمها يتقوّس ببكـاءٍ ووهن .. في حين أردفَت سارة برقّة : اللي مثلك ما راح يفهمون الموضوع أو يقدّرونه .. أنتِ تمشين ورى كلامهم ، عشان كذا تشوفيني غلط لأنك ما تعرفين شيء اسمه حريّة . . .
غيداء ببكـاءٍ غرقَت فيه، جسدها بدأ في الارتعـاشِ كأنّ نزلـةً حلّت عليهِ واحتلّت سكونه : هذي مو حرية ... حرام اللي تسوينه ، ومقرف !!
سارة بجدّية : كلمـة مقرف هذي مالها معنـى .. أنا طيب قاعدة أشوف انهزامـك وركضك وراهم مقرف! يعني لا تاخذين كلامك بعين الاعتبـار ... وبالنسبة للحرام والحلال خلّيك منهم ... الأغاني حرام .. الكذب حرام .. الغيبة حرام ... وكلها حتى أنتِ سويتيها .. يعنِي لا تدخّلين الحرام في النهاية أنتِ تسوينه وما تنتبهين لكونك سوّيته ... ما تاخذينه بعين الاعتبـار من الأسـاس ...
ورغـم وقاحـة تبريرها الذي جعـل غيداءْ تعقدُ حاجبيها، تستنكـر ربطها بينَ ذاك وذاك ، إلا أنها شعرت بكلمـاتِها تُلجمها ، لم تجِد ردًّا عليها وصمتت بهوان، في حينِ ابتسمَت سـارة بغيظ .. غيداءْ سهلـةٌ في الاقنـاع ، تدركُ ذلك ، ساذجـة، لا تفهمُ الحيـاةَ كما يجِب لذا من السهلِ أن تجذبَها لعالمـها دون الكثيرِ من التعب.
همسَت بصوتٍ ناعـم : نامِي الحين حبيبتي ... أكلمك بكرا ، ولا تخافين منّي! أنا أقدّس الحرية ، وبحاول أقنعك وإذا رفضتِ براحتـك.
أغمضَت عينيها بقوّةٍ تكتـمُ شهقـة البُكـاءِ التي زاحمَت أنفاسَها .. كـادَت سارة تغلقُ بعدَ أن تأكدَت بأنها لن تجيب، لكنّ غيداءْ خيّبت ظنها حينَ همسَت برجاءٍ مهتزٍّ وهشّ : ما عاد أبي أتواصل معك ... لا تتّصلين علي.
ابتسمَت سارة بسخرية : أنـا راح أتّصل أكيد .. لا شفتِ رقمـي لك حريّة الرد وعدمه.
أنهَت جملتها تلك ومن ثمّ أغلقَت مباشرة، تركتها ترتعشُ بجنون، لا تعلـمُ لمَ تحديدًا، خوفًا ، أم ضعفًا .. أم من فرطِ الحُزن ... بقيَ الهاتفُ على أذنِها لحظـاتٍ قصيرةٍ صيّرتها لبُكـاءٍ عنيف ، حاولَت كتمهُ بكفّها المرتعشـة ، بخيباتِ الحديثِ والشكوى في فمِها.



يُتبــع . .

كَيــدْ 20-10-16 09:32 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


،


اختلقتا عذرًا من العـدم، عذرًا لا تعلمـان مقدارَ إقنـاعه لكنّه يكفِي لخروجهما ، في كذبٍ أنهما " سيزوران صديقةً مريضةً لديما " . .
دخلتـا للمشفى بخطواتٍ تضطرب، يُخفيـان الانفعالَ القائمَ فيها، استعلمتـا عنهما ، لم يكُن هنـاك معلوماتٍ عن سيف، لكنْ كـان هنـاك عن شاهين . . عقدَت ديمـا حاجبيها باستغراب، وبتوجّسٍ في ذات الوقت ، لم تفهم لمَ لا يوجدُ ما يخصّه ! نبـض قلبها بخوف، تحرّكت أسيـل تسبقها خطوةً وهي تلفُظ بعجلـة : بخير .. لا تحاتين ، أكيد بخير ... بس شاهين !!
توقّفت ديمـا وهي تمرّر لسـانها على شفتيها بوجَع، رفعَت هاتِفها، اتّصلت برقـمِ سيفْ ثلاثَ مرّاتٍ في طريقها ولم يكُن يجيئُها الردّ، كـانت تسيرُ خلفَ أسيل وهي تعودُ للاتّصـالِ بهِ من جديد، استقلّتا المصعدَ ليصعدا للطـابقِ الذي كـان فيهِ شاهين .. لم يأتِها رد .. عضّت شفتها السُفلـى، تكادُ بشكلٍ فعليٍّ أن تبكِي بينما تلك تغرقُ في خوفِها، تغرقُ في قلقها عليه والذي لم تستطِع إخفاءه . . لم تستطِع أن تكـابرَ على مشاعِرها بعدَ أن وصـل إليها أنه ليسَ بخير ! لم تبالِي الآن بالذي بينهما .. تريد فقط أن تطمئنّ عليه .. بعدها ليحدث ما يحدث ، المهم أن تطمئنّ عليه !!
توقّف المصعَد لتخرجـا ، عادَت ديمـا لتتّصـل برقمِه وأسيل تتقدّمها، وصَلت لبابِ غرفته، وقفَت، بينما رفعَت ديمـا عينيها إليها وهي تبتسمُ ابتسامةً شاحبـة : ادخلـي .. بتاكلين عمرك يا متصنّعة !
متصنّعة ، نعـم ، تدرك معنـى ما تقصِد ، تتصنّع عدمَ اهتمـامِها به، عدم الاهتمـام ، والذي جـاءَ الآن عكسُه بطريقةٍ لم تعرفْ ترجمتَها ، الاهتمـام بِه .. في مشـاعرَ غلّفت قلبها، وهزمتها أخيرًا !
عضّت شفتها السُفلـى باختنـاق، أصابها تردّدٌ أمام بابِه، كيفَ تستطِيع أن تطمئنّ دون أن تلِجَ إليه؟ كيف!! ..
لفظَت ديما بجدّيةٍ وهي تُخفـض الهاتِف وتعودَ لتتّصل بِه : ادخلـي أسيل .. آخرتها بتحرقين عمرك ... ما تتنازلين هالمرة بس عشان تتطمّنين * ابتسمَت باهتزاز * هذاني أتنـازل للمعفن اللي عندي من خوفي عليه !
شدّت على شفتِها بأسنـانِها أكثر ، هل تدخُل؟ هل تدخُل فعلًا؟ كيفَ ستكون صورتها لو كـان مُستيقظًا؟ هو بخيـر ، نعم ، يبدو من الغرفـة التي فيها الآن أنه بخير !! . . . لم تستطِع ، وهُزمَ ضياعها أخيرًا باختيـارِ الدخول، وضعَت كفّها على مقبضِ البـابِ لتحرّكـه ، ومن ثمّ تدخـل . . .
في حينِ استندت ديمـا على الجدار، تكادُ دموعها أن تسقط، تحـاول من جديدَ أن تتّصـل ، تنتظـر ، لا تدري كم مرّةً اتّصلَت لكنّها لازال يُدغدغها الأمـل أنّه بخيـر ، ربّما هنـاك خطأ ، خطأٌ غريب ، لا تدري كيفَ وصـل فيه هاتفها إلى الممرّضـة .. نعم ، هو بخير ، وهنـاك خطأ !!
سقطَت دمعةٌ من عينِها اليُسرى سرعان ما مسحَتها بسبّابتها قبل أن تلتحمَ بنقابِها، وصـل إليها رنينٌ بعيد شدّها لترفـع عينيها بتلقائيّةٍ وعفويـة، تتحرك أحداقها بحثًا عنها بشكلٍ غريزيّ وكأنه لهُ هو ! ... توقّف الرنينُ لتنتهِي مكالمتـها أيضًا بفعلِ يديه !! .. يديه !!!! .. عقدَت حاجبيها بشدّة ، بينما كـان سيف قريبًا ، أغلـق الهاتِف وهو يزفـر ويتمتمُ بتذمّر : يبيلها فيلم هندِي بكبره عشان تعرف وقتها تهتـم !
توقّف فجـأةً ما إن لمحَها، اتّسعت عينـاه بصدمـة ، ديمـا ! فعلًا ... كـانت ديما تقفُ عندَ بابِ غرفـةِ شاهين !!! ... عضّ شفتهُ السُفلـى يكتـم ضحكته، كـان يتوقّع قدومها ، لكنّها جاءَت أسـرع ممّا تخيّل.
تحرّكت أقدامه بتلقائيّةٍ نحوها وهو يبتسـمُ كنايةً عن ضحكةٍ يكتُمها، وما إن اقتربَ منها حتى لفظَ بدراميّةٍ سمِجَة : حبيبتي جـاءت على بساطٍ أحمـر .. حبيبتي جـاءت كقطعةٍ من سُكّر . . .
شهقّت بذهولٍ وهو تستديرُ من صوتِه الذي كـان قريبًا وخافتًا كـي لا يُعلـن فضيحةً في المشفى، اتّسعت عينـاها بصدمةٍ وهي تنظُر إليه، سيف ! سيف يقفُ أمـامها .... وبخير !!!!!
ابتسمَ سيف بحرجٍ وهو يحكُّ عنقه، يدرك أنّه كـان سخيفًا كمراهقٍ سـاذجْ لكنّه لا ينكـر أنه تلذّذ باتّصالاتها واهتمامِها : معليش ديمـي ... كان مقلب.
عقدَت حاجبيها، كـان قلبها ينبِضُ بشدّة، ينبِضُ بانفعـال، دون تصديقٍ بأنه يقفُ أمامها وبخير ، ينبِضُ بذعرِ اللحظـاتِ السـابقة، بعنفِ الانفعالاتِ التي مزّقت سكونها . . . . أيقول ... أيقول مقلب !!!!
عضّ شفته بضحكـةٍ وهو يُمسِك عضدها ويسحبها معه وهو يهمس : لا تسوّين فضايح .. مضطر أنتظر الدلخ الثاني بما أنه جاي بسيارتي ولو بيدي كنت خليته عايش هناك .. في قصّة روميو وجوليت بعد لقاء ؟؟ أدري مراهق . .
ديما ببلاهـة، كـان جسدها يرتعـش بشدّة ، يستشعرُ ارتعـاشهُ المذعور ، جعلته يبتسـم رغمًا عنه بندمٍ وعطفٍ وهو يلفظُ بخفوت : أدري إنّي سامـج بس ما عليه .. شويّة خوف عليْ ما يضر . .
ما الذي يقصد؟ ما الذي يقصـد ... هل هو ... هل هو مجنون أم فعلًا كان . كان يكذِب !!!!


،


يستلقِي بتلك الاستلقاءةِ ذاتِها، يُغمـضُ عينيهِ هذهِ المرّة، يتعمّقُ بالتفكيـر المنسكبِ في أحـرفِ متعب، سنـد ، ويتناسَى أسيل لوقتٍ قصير .. تلك الأحجيات لا تجِد سوى حلٍّ واحـدٍ فقط، سند لهُ يدٌ في كلّ شيء! وربّما منذُ البدايـة ، لم يعلَم أن متعب حيٌّ من بابِ الصدفـة، كـان يعلـم ، نعم ! بالتأكيد كـان يعلمُ لأنّه معهم !!!
شدّ على أسنـانهِ بغضب، سمـع صوتَ البـابِ ليرتخِي وجههُ وهو يعتقدُ أنّ من دخَل هو سيف، لم يُبـالي ولم يفتحْ عينيه، بقيّ يتعمّق في التفكير ويتجـاهلُ وجوده .. بينما اقتربَت أسيل ببطء، عينيها المرتعشتين لم يستطِع تبيّن ملامِحه، إن كـان مستيقظًا أم لا ، كـانت عيونها تغشوها دموعٌ لم تسقط، ولم تكُن لتسمـح لها بالسقوط ... سكونهُ أخبرها بأنه نائم، لذا اقتربَت بتردّد، كتمَت زفرتها، تمرّر أحداقها على صدرِه العاري وهي تعقدُ حاجبيها، لا ترى شيئًا يدلُ على حـادِث سيرٍ كـان خطيرًا عليه ! هو في غرفـة ملاحظـةٍ عاديّة ، وهيأته أيضًا عاديـة ... كيفَ إذن قالت الممرّضة أنّ إصابتهُ ليستْ بسيطة؟
اقتربَت أكثر تريد أن تتأكد، وقفَت بجانِب السريرِ وهي تمرّر عينيها على جسدِه، فتحَ شاهين عينيهِ ببطءٍ وهو يشعُر بوقوفِ جسدها بجانِب السرير، نظـر نحوها بلا مبـالاة ، لكنّه سرعـان ما انتفضَ جالسًا بشدّةٍ تنـاسى فيها أضـلاعَ صدرِه ... تأوّه بقوّةٍ وهو يضعُ كفَه على صدرِه، عـاد للاستلقـاءِ وهو يتأوّه بقوّةٍ وألـم ، بينما كـانت أسيل قد انتفضَت بذعرٍ وهي تتراجـع للخلف، اتّسعت عينـاها، كادَت بشكلٍ تلقائيٍّ أن تخرجَ سريعًا .. لكنّه منعها ، منعها وكيفَ لا يعرفها حتى وإن كـانت تغطّي وجهها؟ كيفَ لا يعرِفها؟!
أمسكَها من معصمِها يمنـع ذهابَها وهو يشدُّ على أسنـانِه بألـم ، وبنبرةٍ واهنـة إلا أنها كانت في اللحظـةِ ذاتِها تعصفُ بعواصِف صاخبـة ، كـانت كالحُلم، لم يتوقّع أن يراها .. وربّما بالفعـل .. كان في حُلمٍ أوحـاه إليه اشتياقه! : . . .


،


فتَح بـابَ غرفتـه بهدوء، كـانت تسيرُ من خلفِه بارتبـاك ، وجدَته فجأةً يُسيّرها بعدَ أمرِه إلى غرفته، اضطرابـاتٌ اتّسعت في صدرِها بشكـلٍ أكبـر، تردّدٌ أصابَ أقدامها في رعشـة، وحضورُ القوّةِ الزائفـةِ تلاشـى ... ما الذي يريده منها ليقودها إلى غرفتـه التي غابَت عنها لوقتٍ طويل ، وتذوّقت فيها حضورهُ في آخـر صدامٍ كلاميٍّ بينهما؟!
توقّفت بعدَ دخوله، لا تريد أن تنصـاع لاتّباعِه ، أن تنهزِم بأوامـره وتسيرَ حيثَ الخطـر .. حيثَما تفقدُ إصرارها أكثـر وتضعفَ أكثـر ... وتتمنّاه أكثر !
انتبهًت حواسُّ سلطـان لتوقّفها، ابتسـم بسخريةٍ وهو يستدِير ببطءٍ إليها، رمقـها من أعلاها لأسفلـها بصورةٍ جعلتها ترتبِك أكثـر .. شتّت عينيها، وابتلعَت ريقها ترجو رطوبـةً تسقِي جفـاف حنجرتها المشروخـةَ بكلماتِ الحُب والشـوق .. أن أحبّك يا سلطـان ذلك أمرٌ حتمِي، أمرٌ ضمـن طبيعـةِ الحيـاةِ وقوانِينها، أن أحبّكَ يعنِي أن أعيشَ في تضاريسَ حارّة، تسقيني اكتمالًا وتسقيني بُكـاء! تسقيني جفافًا يُثمـر بالاستمرارِ على هذهِ الأرضِ البائسـة ... ماذا يعني أن لا أحبّك؟ أن أسيرَ وفقَ قوانِينَ الفـراغِ وأبتئس أكثـر من بؤسي في حبّك.
سلطـان بصوتٍ جـاف : ادخـلي.
ارتعشَت كفوفها ما إن سمعَت صوتهُ القاسي وهو يقولها بخشونةٍ تحتكُّ بقلبها وتمزّقه، لم تشعُر بنفسها وهي تهزُّ رأسها بالنفـي .. وبنبرةٍ معترضـة : رجّعنـي لأمي .. ما أبي أجلـس معك أكثر.
سلطـان يبتسِم باستخفاف : ليه خايفة؟ أنـا سلطــــان ... من متى تخافين منّي؟
اهتزّت حواسُها، تحشـرجٌ أصـابَ روحها المغموسَةَ فيه، منذُ متى أخافك؟ لا أعلـم ، لطالمـا كُنت مؤمنـةً بأنّي لن أخـافك ولازلت متشبّثـةً بإيمانِي .. لكنّ شيئًا ما يمنعنـي من الاقتراب، ليسَ خوفًا وإن وصفتَه بالخوف ... شيءُ يا سلطـان أكبرُ منّا ومن شعورِي بالأمـان بقربِك.
يقولها باستخفاف، ويدرك كم تُرعـش صدرها، وتتلاعبُ بنفسيّتها المُهدَرة ... ابتلعَت ريقها باختنـاق، وتحرّكت خطواتُها أخيرًا لتدخـل للغرفـة بصمتٍ وانهزام . . اتّسعت ابتسامةُ سلطـان الباردة قبل أن يلفظَ بهدوءٍ آمر : قفلي البـاب وراك.
رفعَت وجهها إليه بشحوب : ليه؟
سلطـان : مو عشان أضمّك وأبوسك أكيـد.
شعرَت بقلبها ينقبـض بسخريتِه ، استدارَت لتُغلـق البـابْ ، وما إن أعلـن صوتُه الخافتُ غلقه حتى جـاءَ صوتُ سلطـان بجمودٍ هادئٍ من الجهةِ الأخـرى : فصخي عبايتك.
اتّسعت عينـاها بصدمـة، لم تستوعِب في بادِئ الأمـر أمره الغريبَ ذاك وارتعشَت حواسّها بتأهّبٍ وهي تستديرُ إليه بأقدامٍ مُنفعلـة .. وببهوت : هــاه !!
سلطـان يرفـع أحدَ حاجبيه بصلابـة : ليه للحين لابستها؟
ابتلعتْ ريقها بغرابـةٍ من سؤالـه، وبصوتٍ مُضطرب : ليه تسأل؟
سلطـان : انكبت القهوة عليك ... وعشان ما نشوف آثارها على ملابسك ظلّيتي لابستها !
اتّسعت عينـاها بصدمة، لم تستوعِب معنـى سؤاله، هل يهتم؟ هل يهتـم لها أم مـاذا !! ... انتفـض قلبها في استجـابةٍ هزمتها، لم تستطِع السيطرة على نبضاتِها والأدرينـالين المندفـع في جسدها بانفعـال، بضعُ اهتمـامٍ يكفيها، بضـع التفاتٍ إليها يُنجيها من عذابِ البؤس التـام .. قاومَت ابتسامـةً عاشقـةً كادتْ تغدُر بفمِها وهي تلفظُ بنبرةٍ كـاذبةٍ في هدوئها : مهتم؟
سلطـان بسخريـة : أكيـد مو الاهتمـام اللي في بالك .. فصخي عبايتك.
تراجعَت للخلفِ وهي تقبِضُ كفّها إلى صدرها بربكـة، رغـم خيبتِها بجوابِه إلا أنها هزّت رأسها بالنفيِ وهي تهتفُ : ليه؟
سلطـان يرفـع حاجبيه : بشوف حرقك.
أجفلتْ ملامِحها بصدمة، لحظتيـن فقط قبل أن تحمرَّ ملامِحها بانفعـالٍ وهي تشدُّ يديها وتنظُر لملامِحه دون تصديق ... وبكلمـاتٍ متلعثمـةٍ متعثّرة : لا .. أكيد لا ... مستحيل أخليك تشوف بطنِي!
في البدايـةِ نظـر إليها باستنكـار، لكنّه سرعـان ما ضحكَ بسخريةٍ وهو يلفظُ بصوتٍ ملتوِي : مستحية مثلًا؟ الله يخلف على الأيـام اللي كنتِ تلبسين فيها عاري بكل بجاحـة وفخر بعد .. وش صار؟
غزل باضطرابٍ تشتّت عينيها : مالها دخـل ، وبعدين لا تعايريني على شيء ماضي!
سلطـان بجفاء : صح .. المفروض ما أعايرك على هالغلطة .. ما كـان لها أثـر ثابت ما يختفِي .. بعكـس عهرك.
غزل بهوانٍ يختنـق صوتُها بكلمـاتِها المتوجعـة : لا تتمادى !
سلطـان بأمر : فصخي عبايتك.
غزل بصوتٍ احتدّ فجأةً بانفعـال : لا ..
رغـم أنّه لم يكُن مصرًّا في الحقيقة ، حتى اهتمـامه لم يكُن بدرجـةٍ تجعله يصرّ الآن إلا أنه بعدَ اعتراضِها الحاد وجَد نفسه يرفـع حاجبه بحدّةٍ وهو يقتربُ منها بخطواتٍ هادئـة، بينما صوتُه ينطِقُ ببطءٍ استشعرت منه الخطـر : مستحية؟ وإلا متحسّسة من إنّه أنـا! تتمنينه من غيري؟!
شحبَت ملامِحها وهي تتراجـع للخلفِ حتى التصَق ظهرها بالبـاب، وبرجفـةٍ تشعُر أن كلمـاتِه كالسهمِ يُصيبُ قلبها مسمومًا ، كحصى تسدُّ حنجرتها وتحشِر وضوحَ الكلمـات : بديت تخربط!
سلطـان بسخريةٍ مريرة : خايفة لا تغويني؟ وإلا العكـس ... تخافين تشوفين إنّ تأثيرك عليْ ولا شيء ، وتنحبطين أكثـر ... لأنّ أمَلك وقتها بيختفي.
لم تجِد مساحـةً تبتعِد فيها للخلفِ أكثر، لذا وبتلقائيّةِ تحرّكت ، تريد أن تهربَ من قربِه الذي يهزمُها، من سيطرتِه، من كلمـاته، من عينيهِ القاسيتين ومن نفسِها ! .. تريد أن تكسـر الخطواتِ بينهما وتعودَ للملجأ الزائف .. عن أمّها ، وليس في وكرِ الانهزامِ والشغف !
تحرّكت بشكلٍ جانبيّ كي تهربَ قبل وصولهِ إليها، إلا أنه كـان أسرع، قبضَ على عضدها ليُعيدها أمامه وهو يبتسِم ببرودٍ وجفـاء، انتفضَت في ردّةِ فعـل كانت عبـارةً عن شهقـة ، وكفّين ارتفعتـا إلى صدرِه كي تدفعانِه عنها وهي تهتف بنبرةٍ اعتلَت بذعر : ابعد ... ما أبيك تهتم ، ما أبي أغويك ولا يهمني انجذابك لي ..
سلطـانْ بهدوءٍ مستفزٍّ سـاخِر : أجـل خايفة تضعفين قدامـي؟
زمّت شفتيها بعذَاب ... كـانت تلك هي الحقيقةُ التي تئدُ كلّ صلابتِي أمامك، أن أضعف أمام عينيك، وأحتاجك أكثـر من احتياجِي .. أن أتمنـاك أكثر ، ولا أجـد منك سوى المزيدِ من الجفاء والألـم . .
أصابَ الحقيقةَ في مقتل .. أغمضَت عينيها، تكتـمُ شهقـةَ حُزن، ودمعـةَ حُزن، وانهـزام، تكتـمُ بكـاءً لن يظهر! لن تخلقهُ فيّ من جديد .. لن أبكـي .. نعم ، أنا الآن لا أريد البُكـاءَ ولا أريد سوى أن أُصيَّرَ مخلوقـةً أخـرى غير تلك المثيرةِ للشفقة! .. مخلوقةً لا يُضعفها الحُزن، مخلوقـةً من صلابـةٍ لا تهوى الاهتزازَ والهوان !!
فتحَت عينيها بعدَ لحظـاتٍ لتصتدمَ بعينيهِ الساخرتين، كـانت أحداقها ترتعِش بوهن، لمستـه لبشرتها أكبـر من إصرارها الذي لا تزال تحاولُ تضخيمه، إلا أنها كـانت تحاول، وتفرزُ محاولتها في صوتِها الصلب، المتمرّدِ على أحزانِها : تجاوزت مرحلـة ضعفي قدّامك .. ما صـار يهزني قُربك ولا يستفزّ قلبي.
ابتسـم لإجابتها، ابتسامةً جعلتها ترتبكُ أكثـر، ابتسامةً ماكـرةً بطريقةٍ لم تعهدها في وضوحه ! . . لفظَ بصوتٍ رقّ فجأةً وفقدَ جموده ... صوتٍ يُشـابه الصوت الذي دغدغها بحنانِه أشهرًا : متأكدة؟ ... غزالتي !
إن كـانت الصلابـةُ تهتزُّ لقُربـه فالآن يكـادُ التلاشِي أن يبتلعها، يا الله كيفَ ينطُقها بسخريةٍ تلفظها عيناه؟ كيفَ لا يستشعرُ مشاعري كلّها في نبرةِ التملّك المنسكبَةِ في صوتِه .. كيفَ لا يقرأني؟ يقرأ نبضاتَ قلبي الملتاعة، يقرأُ شغفي بها، اشتيـاقي لـ " غزالـةٍ " ترتبطُ بملكيّةٍ لم يكُن يقولها عادة ، يكتفِي بتسميتها بها ، لم يكُن يلحقها بيـاءٍ تعني أنّها تخصّه .. تعنِي أنها منـه، وأنها إليـهِ تعود . .
يا الله ! ما الذي فعلتها تلك الكلمـةُ بي؟ لمَ قلتها .. وتهوى بِها ضعفي؟ لمَ قُلتها؟ واستثرتَ بأحرفِها عشقي لك ... لو لم تكُن يدهُ تُمسك بعضدها كـانت لتسقطَ جالسةً على الأرضِ من رعشـةِ أقدامِها ضعفًا ، عيناها غشتهما غلالةٌ حزينـة، بحجمِ ما تعشـق أن يسمّيها بدلالِ تلك الكلمـةِ إلا أنها الآن ورغـم إعصارها الذي دغدغَ قلبها قامَت أيضًا بإوجاعِها ... سخرية! .. يقولها سخرية، ورغبـةً في إظهـارِ كذبها!
همسَت بنبرةٍ مرتعشـة، أخفَت منها الحُزن ولازالت تُخفِي كلّ معالـم الضعف عدا الرعشـةُ لم تستطِع : متأكـدة ... ومليون مرّة أقولها لو تبِي.
ارتفعَت كفّه التي تُمسِك عضدها وابتسامته تلك تتّسع، أسندَ ذراعهُ على البـابِ بجانِب رأسها، انحنَى إليها أكثر وهو يرفـع كفّه الأخـرى نحو وجهها مباشـرة .. وبتملّكٍ كـانت أصابعهُ تستحوذُ على ذقنها، يُضيّق عينيهِ القريبتين منها، تتّسع عيناها بذعـر ، وقلبها الذي كـان ينتفـض بقربِه وكلمـاتِه شعرت أنه الآن يتوقّف وينصـاعُ لاستحواذِ حضوره، تتجمّد أحداقها المرتعشـة، ويهوى السكونُ في بطنِ الضجيج ، تسيطِر الأنفـاسُ على هدوءِ المكـانِ وتحيله إلى سـراب ..
سلطـان بنبرةٍ هادئـة، رقيقة، يهزّها بمهارةٍ ويرعـش بها صلابتها : ما اشتقتِ لي؟
يكفي! .. يكفـــي ! .. كيفَ تصرخُ بها لعينيهِ المُخادعتين؟ كيفَ تصرخُ بها وصوتُها انهزم! كيفَ تُعيد الآن ترميمَ ما حطّمه؟ كـانت تبنِي إصرارها وقدرتها لساعاتٍ طويلة ، كيفَ حطّمها في لحظـاتٍ امتدّت في مسـافةٍ مُقتبسَةٍ من الانبسـاطِ بين حاجبيه، من جبينه، من خدّيه ... لا نهايـة لها! لا قـرار ... لا مصيرَ مرتسـمٌ فيها إلا العشـق ، إلا الموتُ بحبّه !
تقوّسَ فمها، وانهزَمت الصلابـة، انقشَع زيفُ ما تصنّعت وظهرت لعينيهِ أخيرًا بضعفها تجاهه، تعترفُ الآن بأحداقِها الثابتةِ على ملامِحه أنها اشتاقت ، وأنها ضعيفةٌ أمامه ، ضعيفــة .. مهما تصنّعت العكس !
استرخَت ملامِحه بانتصـارٍ مُتلذّذ، مالَ إليها أكثر وهو يشدُّ على ذقنها ويرفـع رأسها إليه قليلًا، قُبلـةٌ لا تدرِي ما دافِعها، بالتأكيد ليسَ سوى إضعافها أكثر، إثبـاتِ ملكيّته على شفتيها، على قلبها ... قُبلـةٌ عميقةٌ تسلّلت بهدوئها إلى صدرِها، غزَت قلبها كجيشِ حربٍ سلّ السيوفَ من غمدِها بعدَ أن اشتـاقوا الدمـاء . . كـان أعظَم ، أكبَر من سيطرتِها ... هزمَها في أوّل جولـةٍ عن كلّ الجولاتِ القادمَة . . كفوفها ارتعشَت تريدُ الارتفـاع ، تريد أن تُحيطَ عنقه، أن تتعلّق بِه وتبكِي نفسها! ترجوهُ أن يسامحـها ويولّف خطأها في النسيـان ، أليسَ هنـاك من دافـعٍ يدفعـه للمحاولـة؟
لم ترفعّ كفيها وبقيَت تعلّقها في الهواءِ بانهزام، يستحوذُ على المتبقّي منها، يُطيل قبلته التي تمكّنت من قلبها، يُلصقُ صدرهُ بصدرِها ويُخفضُ ذراعه التي كانت تستندُ على البـابِ ليحيطّ بها خصرها ويشدّها إليه في عنـاقٍ صاخِب بتمرّدٍ على الحقيقـة ، أن يحتقرها وينفُر منها .. يخالِفُ القوانِين البديهيّةَ ويشذُّ عنها في قبلتـه وعنـاقه ، في قبلتـه التي لم تنتهي حتى وضعَت كفيها على صدرِه .. ودفعته بوهن ، ليتراجع بشكلٍ تلقائي، ليسَ بقوّةِ كفيها بل بشعورِه لتلك الدفعـة . .
لم يترُك خصرها، بقيَ ينظُر لوجهها المُنخفـض ، المُحمرُّ بانفعـال، صدرها يرتفـع وينخفضُ بشدّةٍ كصدرِه المُعلـنِ عن تسارعِ أنفاسِه ... ترتعشُ كفوفها، تصخُبُ بتأثيرِ قبلتِه، لازالت تترسَبُ على صدرِه برعشتها المنفعلـة، لازالت تستقرُّ فوق أضلاعِه وتستشعر مضخّةَ قلبـه .. لازالت تتذوّقها في فمِها، تنسكبُ حلاوةً إلى حنجرتها، تصِل إلى قلبها الموجوعِ وتعمـل كمخدّرٍ موضعيٍّ لأوجـاعِه . . .
ابتسَم ابتسامةً لا معنـى لها بعدَ لحظـاتٍ هدأ فيها صدرُه، تركَ خصرها ببطء، تراجـع للخلفِ لتسقطَ كفّها وترفـع رأسها إليه بشحوبٍ وهي تسمـع صوته الذي لفظَ بجفـاء : ما عرفت قدراتك ... ما ضعفتِ بشكل تام.
شتتْ عينيها وهي ترفـع كفّها لتُلامِس بأصابعِها شفتيها، بينما ابتعدَ عنها سلطـان وهو يمسح على فمِه وكأنّ قذارةً قدْ مسّته . . تشوّشت عيناها عنـه، لا تدرِ أينَ اتّجـه، كلّ ما تعلمـه أنها تراجعَت للخلفِ أكثـر لتسندَ ظهرها على البـابِ وترفـع وجهها للأعلـى وهي تضيّقُ عينيها بانهـزام، لم تضعفْ بشكلٍ تـام ، والتمـامُ كـان فقط في كفيها اللتينِ قاومتْ ارتفاعهما إليـه .. كـانت تلك معنـى تمـامِ الضعف ، لكنّها فعليًا .. ضعفَت ، وسبحَت في أمواجِه ، مرحّبةً بكلّ حبٍ في شدّتِها.
فتـح أزرارَ ثوبِه، بضعٌ من التفاصيـل الصغيرة التي تعنِي ملكيّتها، أنها زوجتـه، بضعُ تفاصيلَ كانت لا تتجـاوزُ هذهِ الغرفـة، يفتحُ أزرارَ ثوبه كيْ يتنفّس كمـا يجِب، يجلسُ على طرفِ السريرِ ليخلـع حذاءه، جوارِبه . . ارتحـل بضعُ التشوّش واستطـاعت أن تراهُ بثُلثيْ وضوح، يمرّر لسـانهُ على شفتيه، لترتعشَ شفاهها أكثر، تبتلعُ ريقها، وهي لا تزالُ تشعُر باستحواذِه عليهما . .
رفـع وجهه نحوها بعدَ برهـةٍ واستقامَ بظهرهِ جالسًا كمـا يجِب وهو يلفظُ بهدوءٍ قارسْ : أبـي أفهم سالفـة غيداء من أولها لآخرها .. من متى وشلون وكيفْ بالضبطْ تدخّلتِ حضرة سموّك فيها.
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، نظـرت لهُ ببؤس، تحـاولُ سحبَ الكلمـاتِ للردّ ، تستطِيع .. لكنْ بنبرةٍ متوجّعة : كلها كـانت بدون قصد مني .. وبس! ما فيه داعـي تحاسبني لأني ما راح أتدخـل مرّة ثانية بشيء يخصّها . . . رجّعني لأمي!
رفـع حاجبـه وفمهُ يلتوِي بابتسامةٍ ساخرة، مُستفزّة : الموضوع كذا ! .. بكل بساطة !!!
غزل ببرودٍ ووهن : مو بسيط ... أبدًا مو بسيط ... بس مافيني حيـل ، تعبانة بشكل كافي منّك ، وقبلك من قلبـي .. وقبل قلبي من نفسي.
أردفَت بشفتينِ ترتعشان، بصوتٍ مختنـق، يهوى تعاليـمُ البكـاءِ الخطّ عليه، دون أن تبكِي فعلًا لأنّ البُكـاءَ نفد! : أحب عيونك .. أحب صوتك .. أحب كل شيء فيك ... كل شيء فيك أكبر منّي! أعترف إنّك أكبـر من تصنّعي وإنّي أحبك للموت في بُعدك وللحيـاةْ في قُربك! .. وأنت اخترت الموت ، وأنا أشتهي الحيـاة ولا أقدر أوصلها ... الحيـاة أكبر طموحاتِي واللي ما أستحقها.
سلطـان باستخفاف : عارفـة قدرك.
غزل باختناق : لو لا سمـح الله طاحَت غيداء بهالحرام بدون قصد ، أو حتى بقصد بس بجهل .. كنت بتشوفها قذرة مثل ما تشوفني؟
اتّسعت عينـاهُ في بادئ الأمـر بصدمـةٍ من سؤالها – الوقح! .. لم يشعُر بنفسِه إلا وهو يقفُ بعنفٍ ويلفظَ بشرارةٍ من بينِ أسنـانه : تقارنين نفسك بغيداء !!!!
غزل تهزُّ رأسها بالنفيِ وصوتها الهادئ كـان كصوتِ نـايٍ بحّ من إرهـاق السيرِ في الحيـاة، من عزفه المتواصِل والذي توانَى في إبرازِ نضـارتِه، ليعيش! : ماهي مسألة مقارنة ... بعيد عن مين أكون ، ومين تكون ... هل كنت بتعتبرها قذرة بسبب هالغلط؟
سلطـان بتحذير : تسمّين هالمحـاولة تحجير غبي وفاشِل؟
غزل : لا ... أسمّيها عـدل .. .
سلطـان : عدل في غلط أنتِ تسبّبتِ فيه؟ وفوق هالشيء كـانت عارفـة ، عارفة إنّ اللي صار اليوم غلط ، وانتبهت قبل لا تضيع ... أنتِ أيش؟ استمرّيتي للنهايـة ... وجايّة تقارنين؟
غزل بألـم : ما استمرّيت! .. ما استمريت ... اللي صار في النهاية ما كـان برضاي ... غدر فيني ... كـان . . .
قاطعها بكفّه التي ارتفعَت في الهواء توقفها عن تكملـة الحديث، عينيهِ التمعتـا بنارٍ غاضبـة، تكـادُ تحرقها وتحرقُ المكـانَ بأكملـه . . تلك النـارُ تدرك كيفَ تبتلعهُ هو أيضًا بقهرٍ جدّدته فيه . . أغمضَت عينيها بقوّة، ابتلعَت ريقها بصعوبةِ تدافـُع الغصّاتِ في حنجرتها وهي تهمـس بوجَع : لو صـار ... لو صـار وما انتبهت لنفسها ... لو صـار وطاحت بهالوحـل ... وش كنت بتسوّي؟
سلطـان بحدّةٍ يُهديها الاجابات، الفروقاتِ التي لن تصِلها أبدًا ، المكـانة التي لن تمسّها أبدًا ، الاستثناءات : أختــي ... مهما عصّبت ، ومهما كان كبر غلطتها ، مهما صار منها ... بقسي ، بس تظل أختي وبحنْ ... لا تتوقّعين بيوم راح توصلين لمكـانة غيداء ... فيه اختلافْ كبير بينك وبينها ، أنتِ فوق غلطتك تلاعبتِ ، كِدتِ ، كذبتِ ... أي براءة ممكن أشوفها فيك بعدْ كل هذا ومو بس مجرّد جسمْ وامتلكه غيري! روح قـذرة ..
شدّت قبضتيها بقوّةٍ وهي تشدُّ معهما على أجفانِها ، تُسكـنُ رعشـةَ أصابعها، وهذهِ المرّة ... انقباضاتُ مقلتيها أثمرتْ بدمعـة ، أثمَرت بحُزنٍ انسكبَ مالحًا مُذابًا ، لامـس شفتيها اللتين امتدّتـا في هوان ، لامسَت قُبلتـه، وامتزجَت حلاوتها مع ملوحةِ حُزنـها . .
اللهم اهزم هذا الألـم، اللهم ردّ كيدهُ في نحرِ استحواذِه .. لستُ استثنائيّةً في فؤادِه ليـغضب ، ومن ثمّ يُسـامح ، لستُ ذاتَ مكـانةٍ تخوّلُ لـه السمـاح ، لستُ سوى امرأةٍ قذرةٍ امتزجَت مع وحلِ الحُزنِ وبكَتكَ يا سلطـان .. بكتكَ أربعةً وعشرينَ عامًا قضتها ميّتة .. وبعثتَ أنتَ فيها الحيـاة ... لتتذوقَ الموتَ الأقسـى من بعدِك.
انفلتت شهقةٌ من بينِ شفتيها ، تلاها صوتُها المغموسُ في اختنـاقِه، في عشقها المتيّمِ في وصالِه! : كيدَ النسـاء .. في الحُب! تسبّب في سجن يوسف ، وأنا من هالكيد .. تسبّبت بخيبتك وقهرك ... لأنّي أحبك تلاعبت، لأنّي أحبك كذبت، لأنّي أحبـك كِدت ... كـان كيدي في سبيلك، في سبيل عيونك يا سلطـان.
سلطـان بابتسامةٍ لا معنـى لها : وصلتِ ... ورجعتِ لتحت ... للدرك الأسفـل من كُرهي!


،


كـان الانتظـارُ يطولُ هذهِ المرّة أمـام العيادة ، زفـرت أرجوانْ وهي تفركُ كفيْها، تشعُر بالبردِ قد تضاعفَ اليوم ، كفيها تحمرّانِ دلالـةَ صخبِ الجوّ في جلدِها . . نظر لها يوسف ليعقدَ حاجبيه بقلقٍ ويهتف : تحسين إنّك تعبانة أو شيء؟!
ابتسمَت بنعومةٍ وهي تهزُّ رأسها بالنفي، وبخفوت : لا .. اللي أمس كانت بس دوخة عادية .. يمكن لأني ما أكلت زين.
يوسف بعتب : وليه ما أكلتِ زين؟ مو من عادتك تهملين صحتك.
اتّسعت ابتسامتها بدلالٍ لتُميلَ رأسها إلى كتفِه وتسندهُ عليها : أتدلّع شوي. .
رنّ هاتفها في تلك اللحظـةِ لتبتسِم وتبتعدَ عنـه ، أخرجَته من جيبِ معطفِها لتنظُر للرقمِ الغريبِ الذي التمـع فيه، عـقدت حاجبيها باستغراب، كـان رقمًا بلجيكيًا ، لا تعرفُ أحدًا قد يتّصل بها هنا !! . .
استغربَت ، إلا أنها ردّت عليه لتلفظَ بصوتٍ هادئ : ألو ...
جـاءهُ صوتُه من الطرفِ الآخـر : ابعدِي عن أبوك شوي . . .

.

.

.

انــتــهــى . .

سوري على القفلات :$ فيه مواقف كان المفترض ما تكون قفلة بس اضطريت يوم حسّيت إنّي ممكن أخبص فيها وما أعطِي كمـا يجِب مثل شاهين وأسيل + سيف وديما :$

نلتقِي الأسبوع القادِم إن شاء الله ، أحـاول أنزل بارتين بالأسبوع مو بس بارت :( وعسى بس أقدر . .
+ اللي متحمسين مع أرجوان وتميم ومُخلصين في طلب مواقف لهم :* حبّة حبّة يا جميلين ، كل شيء بوقته حلو ()
- هالمرّة أكيد أكيد برجـع لتعليقاتكم ، نصها عندي ومحتاجة بس إرسال - :(


ودمتم بخير : كَيــدْ !



fadi azar 21-10-16 12:22 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 27-10-16 08:30 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 







السلام عليكم ورحمة الله وبركـاته ، مساءكم سعادة ورضا من الرحمـن ،

البارت عجزت أخلصه اليوم ، طوال الأسبوع مشغولة بالتجهيز للميد فما أمداني أخلصه :(
اسمحولي أنزله في الغد ، بحـاول قد ما أقدر يكون بطول مقبول ، لأنّي بضطر أنقطع أسبوعين لوقت ما أخلص امتحانات الميدتيرم ...
أتمنى تتفهّمون ظروف الدراسة اللي ما خفت يتأخر موعد انتهاء الرواية إلا منها :(


استودعكم ربّي . .


كَيــدْ 28-10-16 07:23 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



-
-


مساء الخير ، بكل مكان أحط موعد ههههههههههههه - تضحك بدون نفس -
قايلة بالآسك قبل 9 بينزل إن شاء الله والحين بقول خلال ساعتين * فيس مستحي *
بديت أراجع من شوي ، عسى تتسهّل وينزل خلال هالساعتين من جد ....


شكرًا لانتظـاركم ولكلمـاتكم اللطيفة ، جعلني ما انحرم منكم ()

كَيــدْ 28-10-16 09:55 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
سلامٌ ورحمـةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(83)*2



زفراتٌ غاضبـةٌ كنـايةً عن فرطِ ما تشعُر بهِ في هذهِ اللحظـات، عن النـارِ التي تأجّجت في حنجرتها لتُذيبَ كلمـاتها، لم تُجِد التعبيرَ وهي تسمـعُ ما يقول، صفعَت كفّه الممسكَة بيدِها بقوّةٍ ومن ثمّ تراجَعت للخلفِ وهي تهتفُ بارتعـاشاتٍ هزّت بدنها، بانفعالاتٍ تكـادُ تبتلعُ الأخضر واليابس فيها : مقلب!!! هدفك مقلب !!!!! أنت .. أنت صاحي ! مستوعب وش قاعد تقول؟
سيف يمرّر لسانه على شفتيه ومن ثمّ يلفظُ بخفوتٍ جاد : خفضي صوتك.
اتّسعت عينـاها بغضبٍ حـادٍ يجرحُ السكون ويجرحُ صمتَ المكـانِ وهدوءه، شدّت على أسنانِها بغضب، خوفُ الدقائِق الطويلـةِ السابقةِ كـان " مقلب "! كـان كذبةً غبيّةً من طفـلٍ ساذجٍ كالذي أمامها !!! ذُعر الدقائق الطويلةِ السابقةِ كــان زيفًا، قلبها الذي كـاد يتوقّف استمـالهُ إليهِ بخداع ! . . تصاعدَ الغضبُ أكثر، ربّما لو لم تكُن في مكانٍ عامٍ لانفجرّت! شدّت على أسنانِها بشكلٍ أشدّ وهي تهتفُ من بينِها بقهر : أنت مستوعب كم عمرك على هالحركة؟ مستوعب إنّك بعد كم سنة بتوصل للأربعين ! شلون تطلع منّك هالحركة السخيفة والساذجة! شلون تكون بهالبزرنة !!!
سيفْ يزفُر بقلّةِ صبـر ، وبجدّية : مو كذا الموضوع .. بس عمومًا نتفاهم بالبيت . .
ديما بغضبٍ تشدُّ بهِ على قبضتيها : نعــم !!
ابتسَم بلؤم وهو يرفـع حاجِبه : اشتقت لانفعالك وعصبيتك .. حلو طلعنا بفايدة ... قلبك خاف علي!
ديما بقرفٍ تُميل فمها : مبسوط على سواد وجهك؟
اتّسعت ابتسامته، كـان يكتمُ ضحكـةً لربّما صخبَت بفضيحةٍ في الممرّ ، لذا كتمها وهو يهتف : مو سواد وجه .. عادي نطلـع شوي من نمط الهدوء التافه.
ديما بنبرةٍ وحشية : والله ما التافه إلا أنت وحركاتك.
تحرّكت بعدَ كلماتِها الغاضبـةِ تلك لتبتعد، لم تتصوّر أن يصِل إلى هذهِ المرحلـة التي استفزّ فيها كل مشاعر الخوف وكل مشاعـر التمسّك في حضورِه، لم تتخيّل أن يصير بسخافةٍ كالآن كيْ يمسَّ الخطـر والأوجـاع بمزاح! ابتسَم سيفْ وهو يسيرُ من خلفِها، وصَل إليها ليضَع كفّه على كتفها وهو يلفظ : بعدين أنتِ غبيّة .. حركك قلبك ... واضح إنّ الموضوع فيه إنّ مو محبوك كويس.
أبعدَت كفّه بغضبٍ لتُكمـل سيرها وهو يغرقُ في ضحكةٍ عميقـة لم يستطِع إخفاءها، لكنّه في المقـابلِ لم يُخفـي نبرةَ الحزمِ التي خُلقَت في صوتِه الآن مناقضةً ضحكتـه قبل ثوانٍ : وأكيد ما ننسى حساب طلعتك بدون إذنـي، نشوف العلم بالبيت.
نظرت لهُ ديما وهي توسّع عينيها دون تصديق، فتحَت فمها تريد أن تردَّ بشيءٍ مـا، غاضبْ، منفعـل، أن تصرخَ بأيّ وقاحـةٍ يهدّد؟ .. لكنّها في النهايـة صدّت عنه وهي تتابـع السيرَ بصمتٍ مُنفعـل.


،


بينما في الجهـةِ القريبةِ منهما، في الهدوءِ انقشـع مكنونهُ الفعليّ، خطواتُها التي كـان وقعها سخيًّا لم يُدركها في بادئ الأمـر، من الغريبِ ألا يُدركَ حسَّها؟ من الغريبِ أن لا يقرأها في خطواتِها، أن تمرَّ ولا يشعُر أنها هـي، من المُلام؟ قلبـه أم المسافات؟!
ما إن فتـح عينيه حتّى اتّسعت، لم يتوقّف الزمـن في النظـرة الأولـى، لم يتحرّك استيعابـه سريعًا وسُيّر دون مأوى للإرادة ليوقفها، لم يكُن إيقـافها بإرادته، كلّ ما فيه نهـض، وكل ما فيـه خضـع لقُربها، رغـم الألـم الذي انتشـر سريعًا إلا أنه أمسكَ بِه، ورغـم عدمَ الاستيعـاب لحضورِها وخطواتِها إلا أنه أدركَ هيئتها دون تفكيـر، بل غيّب عقله في الحقيقةِ وأدركها قلبـه ... أمسكَ بها من معصهما قبل أن تهرب، شهقتـها اعتلَت لتضجّ في قلبِه حكـاياتِ عِشقٍ يريد انتهاءها ولا تريد، حكاياتِ شوقٍ دفعتـه لإمساكِها، لأسرها بقبضتِه ... مرّت شهقتـها كسيفٍ مسنّنٍ على قلبِه، أدمتـهُ لينزفَ بكلمـاتٍ خافتـة، مذهولةً بوجودها، كلمـاتٍ رغمَ الألـم في صوتِها ورغم البهوتِ إلا أنها كانت تضجَّ بمشـاعر لم يعلم ما كانت وقتذاك من تداخـلها بانفعالاتِه : أسيل ! شلون جيتِ؟ و .. وليه !!!
برودةٌ تسلّلت إلى عظامها وحوَت جلدَها، ذبُلتْ كفّها التي كـان يُمسكُ بمعصمِها، حـاولت سحبَها وهي تشعُر بأنّ قدميها ترتخيـان، بأنّ تكوينَها يُصيّرُ رخويًا، لكنّ شاهِين شدّ على معصمِها أكثر وهو يعقدُ حاجبيهِ باعتراض، تهزمُ مشـاعر الشوقِ كلّ قراراتِه ويتناسـى اتّجـاهاتِ حياتِه الفارغـةِ منها، يتنـاسى العبورَ فيها ويسرقُ الآن من بشرتِها لمسـة، ويحـاولُ من الجهةِ الأخرى أن يسرقَ معها صوتًا . . أردفَ بخفوت : ليه جيتي؟
لم تردّ أيضًا، كـانت تحاولُ سحبَ يدِها وعينيها تضيقان، تظلمـان، ندمَت على حضورها، هوَ بخير! .. لا ترى فيهِ ما أرعبها ودفعها للمجيء عنوةً ضدّ الظروف القائمة، لا ترى فيه أصاباتٍ أصابَتها هي قبلًا، كـانت زيفًا ، إذن لمَ جاءَت؟ لمَ تهوّرت وجـاءَت! . . . لم يجئهُ صوتُها، لم تردّ عليهِ وهي تضيقُ بعينيها أكثـر وتحاولُ سحبَ يدها منه بكبريـاءٍ لكمتـه حينَ جاءَت إليه على حينِ غرّة، حينَ هزمها قلقها ومشاعرها !
لم تنظُر لملامِحه التي تغضّنت وغزَتها تجاعِيدُ الشوق، تُثقِلهُ ستّونَ عامًا يشيخُ بِها في خضمِ لحظة، تُثقِلهُ في غياهِبِ هذا الجنونْ الذي أوصلهم إلى هنـا، والطريقَ الذي عبـروا فيه .. شدّ على معصمِها أكثـر وهو يهتفُ بخفوتٍ مُكرّرًا : ليه جيتي؟ وشلون عرفتِ إنّي في المستشفى !
التفّت أصابعها في انقبـاضةِ كفّها التي تجمّدت بصلابـةِ الصقيع، ارتعشَت شفاهُها بربكـةِ الهواءِ من حولِها واضطرابـاتِ ذرّاتِه، شعرت بالاختنـاقِ يتمكّن منها وهي تهمسُ بصوتٍ رغمَ ثباتِه إلا أنه كان خافتًا، مختنقًا : اترك يدّي ..
تنفّست بعنفٍ ما إن ارتسمَت على شفتيه بسمـة، أغمضَت عينيها بقوّةٍ عنها، عن ملامِحه، عن تقاسيمِ الشوقِ في عينيها، أغمضَت عينيها عنـه بقهر! بينما أصابعها ظلّت تشتدُّ بقهر، كـان في ابتسـامته يشرحُ فتنـةَ صوتها الذي انتظـره والذي اشتـاقه، كـان في ابتسامتِه يحكِي لها انتـصارهُ بحدّيثها أخيرًا ، وبعبُورِ صوتِها على دربِه، لتصـل إليهِ أخيرًا ... إن كـان صوتُها بحضورِه قد فعـل بِه ذلك فكيفَ إذن إن ابتعدْ؟ إن كـان صوتُها بعثَ في صدرِه شعورًا لذيذًا كالآن، شعورًا بالنشـوة، فكيفَ سيتأقلـم على غيابِه كما لم يتأقلم حتى الآن؟!
رقّت ملامِحه قليلًا بعدَ أن أغمضَت عينيها عن ملامِحه، حرّك إبهامـه على موضِع النبضِ في معصمِها ليُرعشـَها أكثر، ومن ثمّ وبخفوتٍ متسائل، يحكِي لها ما يدورُ في صدرِه، بنبرةِ حسـرة ، يُخبرها فيها أنّ كلّ شيءٍ يسيرُ وفق ما يريد، وفي اللحظـةِ ذاتِها بعكسِ إرادتِه : شلون بعتـادْ على أيامِي من دونك؟
رفعَت أجفانَها قليلًا، ارتعشَت أهدابُها، لم توجّه أحداقها المُعتمـةِ إليه وهي تُحشر بالفراغِ المستولي على سكُون الحواسّ، لم تنظُر نحوه، ومن خلفِ النقـابِ الذي كـان يُخفِي ملامِحها التامّة عنه، مـالَ فمها بسخـرية، ارتخَت يدها التي كـان يقيّدها، وامتهنَت الشدّةُ صوتها عوضًا عن عضلاتِها التي ارتخَت ، لفظَت بسخريةٍ مريرة : مثل ما اعتدت على غيابه.
مرارةٌ كالصديد، مذاقٌ مرُّ، تضخّم في حنجرتِه وطردَ لذّةَ شعورِه بها حتى وإن خالطَها وجع! .. هتفَ وهو يُغمـض عينيه وآلامٌ تكتنزُ في صدرِه يكتــم آهتها ولا تظهرُ سوى في ملامِحه التي كـانت تتعجّن، كيفَ يعتادُ غيـابَ متعب؟ لم يكُن إطلاقًا يحتـاج للذكـاءِ كي يفهم قصدها، لم يكُن أبدًا يحتاجه! : مين قـال اعتدت؟ مو لازم الحزن يكون جهوري.
أسيل بابتسـامةِ حسـرة : بس لازم يكون حُزن الفقد غلّاب ... ما كنت بقلبك بهالمقام ويمكن بعد متعب! أنـاني ، أنـاني إنت يا شاهين.
فتحَ عينيه وهو يعقدُ حاجبيهِ بشدّةِ اعتراضِه على حديثها الذي يُهينه، يُهين مكـانةَ متعب في قلبه، يُهينُ حتى مشاعـره! .. بطريقةٍ ملتوية، كـانت تقارنُ حزنها على متعب بحزنِه هو .. تقارنُ بطريقةٍ جعلتْ قلبهُ ينقبض، لازال رغـم الظروفِ يشعُر بأنها ملكـه! رغـم حبّه لمتعب، رغـم قراراته، رغـم كلّ شيءٍ كـان يهزمهُ حبّه لها وامتلاكـها بطريقةٍ لا يُظهرها ولا يسمَح أن تتحكّم بأفعـاله .. عقدَ حاجبيه، باعتراض، وبشيءٍ خافتًا من الحدّةِ لم يعتلِي سطـح ملامِحه إليها، بل بقيّ يترسّب أسفـل جلدِه ويذوقه بمرارةٍ مُهلكـة : حُزنك كـان نفسِي أكثـر .. الانسـان السويّ ما ينسى، بس يعيش.
لم تعُد تهتمُّ ليدها التي كـان يُمسكها، أمـالت رأسها بسخريةٍ وهي ترفـع حاجبها وتهتفَ باستخفافٍ وقهر : آآه صح ، نوستالجيا .. كنت كذا ، مجرّد مريضة نفسيَة تأسر نفسها بالذكريـات ... إذا كـان الموضوع كذا فأنا أفتخر بمرضي، وأفتخر إنّي وفيّة بعكسـك ..
شاهين بريبـةٍ من معنى حديثها : وش تقصدين بهالكـلام؟!
أسيل بقهرٍ وكأنها تنتقم، تنتقـم من رُخصِها أمـامه والذي تدرك أنّه ليسَ رخصًا بحجمِ ما كـان متعب في مقامٍ ثابتٍ لا يُساوَم ، لكنّها كـانت مقهورة! مقهورةٌ لأنّ كلّ ما حدَث كـان على حسابِها هي، على حسابِ مشاعرها : قدرت تتجاوز موته بسرعة وهو أخوك الوحيد، قدرت تنجح بحياتك، تتزوج حتى أرملته! .. كـانت حياتك أثمن وما اهتميت لكونك تزوجتني ، تزوجتني وأنا اللي كـان يحبني وكنت أحبه وظلّيت لهالوقت.
تركَ معصمها فجأة، تراجعَت للخلفِ بانتصـارٍ وهي ترى ملامِحه التي قسَت، عينيهِ رغـم قساوةِ ملامِحه كان لهما ردٌّ آخـر، رغمَ قساوةِ ملامِحه كـان فيهما لينـًا من ألـمٍ وكأنّها ضربتهُ في صميمِ قلبهِ بسيفٍ مسموم، ضاعفَت آلامِ صدرِه وأضلاعِه المكسورة، ضاعفَت من قهرِ امتلاكِه ، لكنّها ورغـم حديثها المُستفزّ لرجولته، صدّ عنها وهو يلفظُ بصوتٍ باردٍ جـاف : أتوقع خلّصتِ كلامِك اللي جيتي عشـانه ... اطلعي.
لم تبتعِد أكثر، كـان تراجعها محض خطوتينِ للخلف، لم تكُن قد ارتاحت، لم تكُن قد انتقمَت لنفسِها، لم تكُن قدْ تأرثْ للشعورِ بالانكسـارِ فيها، كسراها كلاهما! ورغـم أنّ ذلك كـان رغمًا عن شاهين، إلا أنها كـانت تريد أن تؤلمـه كما آلمها، تريد إوجاعه، كسـره كما كُسرت! .. لذا أردفت بحقدٍ وهي ترفعُ ذقنها بكبرياءٍ مهدور : أكثر شيء قهرني باللي صار لليـوم إنّنا تزوجنا .. يمكن لو ما صارت بيننا هالعلاقة كـانت ردة فعلي لرجعته بتكون مختلفة ، مقهورة لأن ابتعاده حطّني بهالموضع! ابتعاده سمـح لزواجنا ، وصرت بمكان مثير للشفقة! يقهر .. يقهر كثييييير يا شاهين!
شاهين بصوتٍ يحتدُّ ودون أن ينظُر إليها : اطلعــي !
إلا أنها تابعَت بقهر : كنت بنبسط ، بفرح لرجعتـه ، وبتجاوزْ عن غيابـه وموته الكاذب .. بس الحين أنت بيننا ، وهذا مخلّي وضعنا مختلف.
نظـر إليها بغضب، تشتدُّ ملامحـه، ترتعشُ أطرافـه ، حديثُها كـان أكبر! كـان أكبـر من الهدوءِ ومن الصـلابـة، أشـهر، أشهـرٌ طويلـةٌ كـانت تنامُ فيها بأحضانِه وبالتأكيدُ تفكّر فيه، يدرك أنّها كـانت تفكّر فيهِ في لحظـاتٍ كثيرة، لكنّه الآن وبعدَ حديثِها بدأ يفكّر بطريقةٍ أشدّ وجعًا! أشدُّ سميّةً في نصلِها الموجّهِ إلى قلبـه ، ربّما تخيّلته فيه حين يعانقها، حينَ يقبّلها، حينَ يقتربُ منها بتملّكٍ وتراهُ هو ... كـانت حتى هذهِ اللحظـةِ تحبّه ، قالها لها مرّة، يتفهّم! يتفهّم مشـاعرها، لكنّه لا يريدها أن تفصِح، يتجـاوزُ وقد تجاوزَ آخرَ مرّةٍ ليـلة زفافهما، أمرها أن تصمت، وأن تتنـاسى! انتهَت الفرصُ بينهما ولا فـرصَ أخـرى قد يُهديها لها وها هـي الآن تُكرّر ما كـان ، بوقتٍ أقسـى ، وبطريقةٍ أشدّ إيلامًا !!
رغـم أنّ ملامِحه كـانت قاسيـة، تُشتّت الثبـاتَ بغضبِها ، إلا أنها بقيَت ثابتةً أمامه بقوّةٍ انعكَست إليها من شدّةِ القهرِ في صدرِها، لم تتحرّك أو تتراجـع ، بل بقيَت تنظُر نحوهُ بإباء. شاهين بصوتٍ خافت، غاضِب : روحي قبل لا يصير ردّي مؤذي لك! .. هالمرة بلومك ، مثل ما ألومْ نفسي .. رغـم تجاوزي قبل ورغم الظروف الحين إلا إنّي ما أبي أتجاوز! بس بتمهّل ... عشان كذا روحي من قدّامي.
أسيل تبتسمُ بحسـرة : لا تتوقّع أكثـر من هالحقيقة اللي أوجعتك ... إنت أناني ولا زلت ، مع إنّه رجع بس ظليت تبي تمتلكني .. فكرة انفصالنا ترضيك شوي بس لأنك ضامنْ متعب ما راح يفكّر يرجعني بعد ما صرت لك ... شايف الفرق بينك وبينه؟ أنت أناني ، بينما هو لا، وفـي! وفـي لك، وإن مـا وفى لي.
كـانت كلمـاتها مؤثّرةً بساديّةٍ ربّما كانت تدركُ وهي تقولها أنّه في ذلك الوقتِ ضائع، ضـائعٌ من جوانِب كثيرةٍ منذُ عـاد متعب، قالتها وتدرك مدى تأثيرها على نفسِه ، كـان جسدهُ مجروحًا منذُ البداية، وهي نثرت الملـح الآن انتقامًا بأنّ تجعله يجلِدُ ذاتـه أكثر، بأن تجعله يضيعُ أكثـر ويتحسّر على ما فعـل . . ارتفعَ صدرهُ في نفسٍ حـاد، برعَ في مضاعفةِ ألمـه الجسديّ كمـا برعَت هي في مضاعفَةِ ضياعِه وألمـه القلبيّ النفسيّ ، خطأوه بحقّ متعب استشعره أكثـر الآن، أضافَت عليها صفـة " الأنانيّة " والتي قد تكون حقيقة ... هل هو بالفعلِ أنانيّ؟ هل هو بالفعـل كذلك لمْ يحتـرم أنّها كـانت زوجة متعب؟ حتى وإن كـان دافـع زواجِه أمه ، كان من المفتـرضِ أن يرفض وإن كـان ذلك مؤلمًا لها قليلًا ... هو أنـــانيّ؟!
مرّرت لسـانها على شفتيها وهي تُشيـح عينيها عنه، ذاقَت مرارةً كالصديدِ في بقيّة الكلمـاتِ التي أرادَت بثّ سمومها إليه وكأنّ آلامه حين بزغَت على وجههِ وترسّبت على سطحِ ملامِحه بوضوحٍ جعلتها تتراجـع . . صدّت عنهُ وقلبها شعـر بألمٍ ممـاثل، لن يصـل ربّما لمـا بثّته فيه . . . تراجعَت ، بينما صمَت هو وظلّ يراقبها بعينينِ صامتتين ، يراقبـها بعينينِ ينتشـر فيها ظـلامٌ عانقـه الضبـابُ وضاعفَ فيه الضيـاع، هزّ من أوتـارِه لحنَ - فقديْن، ولحـنًا آخـر يلومُه، لحنًا مُنكسـرًا، يكسِر أضلاعه أكثر.
خرجَت ، وفي قلبـه اعتذاراتٌ كـانت لهُ هو!، لمتعب الذي شعـر رغمًا عنـه وفي هذهِ اللحظـة ... بالنفورِ منه!
في قلبِه محبّةٌ موجوعـة، وصوتٌ منكسـر يتلو " آسفْ " ويصله محوّرًا إلى : نفور. كـان هذا معنـى أن يبقى ما حدَثَ حاجزًا بيننا، مهما حاولتُ تصنّع أنّ لا شـيء، لا شيء أبدًا سيُحيـل بيننا من جديد! كـان هذا معنى أن نبتعِد.


،


خرجَت تتخبطُ في خيبتِها، تتقوقعُ في ندِمها، نعم ، شيءٌ من الندمْ، وكثيرٌ من الرضـا! كـانت تنتقمُ لكبريائها الذي امتهناه، لكنّها أيضًا حين رأت نظرات الضيـاعِ والحُزنِ في عينيهِ شعرتْ بالنـدم . . . أغمضَت عينيها وهي تستندُ إلى الجدارِ وتتنفّسُ بحدّة، كيفَ تتلذّذُ بانتقـامٍ وضيعٍ كهذا! كيفَ تُسيء لنفسها قبـل أن تسيء لـه؟ . . رفَعت كفّها وهي تفتحُ عينيها، مرّرت سبابتها أسفل عينيها وكأنها تمسحُ دمعًا ما! لم تكُن قد بكَت، لكنّها شعرت وكأنها كـانت تبكِي، كـانت تنزفُ من عينيها.
ارتفعَ صدرُها بانفعـالٍ وهبطَ بشدّة، عضّت طرفَ شفتها السُفلـى والتي كـانت ترتعشُ اضطرابًا، تحرّكت كفوفها إلى حقيبتها، تشعرُ بالضيـاعِ هزّها، عينيها تتحرّكان بتلقائيّةٍ تبحثُ عن ديما وحين لم تجدْها بدأت تفتحُ حقيبتها بأصابع ترتعـش، أخرجَت هاتِفها وهي تشعُر بخواءٍ في صدرها ، صوتٌ يعبُر يا الله، صوتٌ جـائر من مزاميرِ الشيطـانِ يعزفُ فيّ ويتلو خيباتِي، بأنّي امرأةٌ ثكلت الحيـاةَ بموجَبِ الابتسـامة، ثكلتْ ارتباطينِ حين سقطـت معهما في بحرٍ من الخذلان ، لا أدري ما مضمونُ ما أعبـُر فيه وما يعبـران، نحنُ نسيرُ في دربٍ تشعّبت أطرافه واختارَ كلٌّ منّا العبور في إحدى تلك الشُعب، كلٌّ منا يفقدُ القُرب من الآخر ، هذه قصّتنا، نسيرُ معًا، ونبتعدُ في نهاياتِ الطريق، فارغين! يعبُرنا الهواءُ ويصخبَ بصريرٍ من صدَئنا.
بحثَت عن رقمِ ديمـا لتتّصلَ بها مبـاشرة، في اللحظـةِ التي كـانت فيها ديمـا تجلسُ في إحدى كراسي الانتظـارِ وسيف يتّكئ على الجدار بجانِبها، لم يحاول أن يُحـادثها وهي كذلك تجاهَلت قُربه منها ، تشتعلُ بصمتِها ممّا فعـل، لازالت لا تستوعِب كونَه يتعامـل بهذهِ الصبيانيّةِ معها.
رنّ هاتِفها الذي كـانت قدْ دسّته في حقيبتها بعدَ جلوسِها، مدّت يدها إليه وهي تتوقّع أن تكون أسيل، أخرجته لتمرّر لسانها على شفتيها ما إن رأت أنها هي فعلًا، ردّت عليها لتهتف : هلا .. نمشي؟
نظـر نحوها سيف من زاويةِ عينيه هو يبتسِم ويكتّف ذراعيه إلى صدرِه، بينما عقدَت ديما حاجبيها من صوتِ أسيل المختنق لتتساءل بشك : وش فيك؟ صاير معك شيء؟!
أسيل من الجهةِ الأخـرى : لا ... بس كنت خايفة عليه، هو بخير.
وجّهت ديمـا نظراتٍ حادّةٍ إلى سيفْ الذي ابتسمَ لها ببراءة، لتهتف من بين أسنـانها : زين .. تعالي أنا بأول كرسي بالممر اللي على أول لفة يمينك.
أسيل : اوكي.
أغلقَت لتُخفض الهاتِف إلى حُجرها ونظراتها تنظُر لسيفْ بحدّةٍ أكبـر بينما هو رفـع حاجبيه ليهتفُ بغرور : نعم!
ديما بغضب : كذَبت بعدْ بخصوص شاهين صح؟ كـان بخير!
سيف بابتسامةٍ تملأ وجهه، تستفزّها أكثـر بلؤمها : وبنجي المستشفى ويكون اسمه موجود بين المرضى عباطـة؟ ليه الموضوع بهالسهولة !
ديما بحنق : بسهولة كذبتك التافهة ... أنت صاحي تسوّي هالمقالِب على هالعمر؟
أمـال فمه بضجر : مو مقلب ، كنت أساسًا أبي زوجته تدري، يمكن ينصلح حالهم ويردون لبعض وبطريقي أجنب على قلبك البارد.
ديما : وظّفت نفسك مصلح اجتماعـي ساذَج؟ الله ياخذك.
سيف : منّك لله اشتقت لدعواتك علي والله، بس لو تكرّرينها قطعت لسانك، تأدّبي.
كشّرت بوجهها لتصدّ عنه، بينما ابتسَم هو بتلقائيّة ، وفي تلك اللحظـةِ كـانت أسيل تقتربُ منهما، وحين انتبهت لسيفْ تباطأت خطواتُها قبـل وصولها إليهما، ارتبكَت لتُخفِض نظراتها للأسفلِ وهي تقفُ قريبةً من الجهةِ الأخرى للكرسيّ، في حينِ وقفَت ديما التي كـانت بينهما وصوتُ أسيل ينبعثُ خافتًا غادرهُ اختنـاقه : شلونك سيف؟
سيف بابتسامةٍ هادئة : الحمدلله عساك طيّبة.
أسيل رغـم استغرابِها لفظَت : سلامتك؟
سيف يكتـم ضحكته وهو يوجّه نظراتهُ نحو ديما الغاضِبة، وبحرج : أنا بخير ما صار لي شيء، شكل الممرّضة كبّرت الموضوع ، كل اللي صار إن أضـلاع شاهين صار لها كسر وجبته للمستشفى بس أنا بخير ما صار لي شيء.
رغـم أنها تساءلت في نفسها " كيفَ وصل هاتفهُ للمرضة " إلا أنها صمتتْ وهي تومئ بأدبٍ منهيةً حديثها معه.
تحرّك سيفْ مبتعدًا عنهما قليلًا ليلفظ : بترجعون معي إن شاء الله فاصرفوا السواق ، بدون نقاش! ، شوي ويطلـع شاهين.
لفظَ أمره ذاك ليبتعدَ عنهما نحو غرفـةِ شاهين. أيْ أنّه يريدها أن تكون مع شاهين في نفس السيّارة؟ قريبـةً منه من جديد؟ تشعُر بأنفاسِه وحضورِه ، بعدَ كلّ ما قالتـــه !!
اتّسعتْ عينـاها بذعرٍ لينتشلها صوتُ ديمـا فجأة : وش صار؟
نظـرت لها بضيـاع ، ما الذي حدّث؟ غير أنّي انتقمتُ لنفسي بأبشعِ طريقة، ما الذي حدّث؟ غيرَ أنّي رضيتُ عن انتقـامي، وأُوجعتُ أيضًا معه، كيفَ يكون مرضيًا؟ كيف؟!!!
ارتعشَت شفاهها وهي تتحرّك بهوانٍ لتجلـس أخيرًا على الكرسيّ وتسندَ مرفقيها على ركبتيها، بينما عقدَت ديما حاجبيها بتوجّس، جلسَت بجانِبها وأسيل تسندُ رأسها على كفيها وتتأوّه بوجَع ... وبتساؤلٍ قلِق : وش صار أسيل؟ قلتِ إنّه بخير !!
ابتلعَت أسيل ريقها، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تتنفّس بانفعـال، وبخفوت : ما صـار شيء ، بس أهنتني، وأهنتـه .. جرحتني ، وجرحته ، هذا كل اللي صار لي قبل لا يصير له!


،


ينظُر للأرضِ بصمتْ، هاتفُه في يدِه اليُمنـى يتدلّى يمينًا وشمالًا وعينيهِ تشتعلانِ بغضبٍ يُصاحِبهُ قلقٌ عميق، وخوفٌ أعمـق، منذُ انتهـى الاتّصال وهو يتقلّب على جمرٍ من القلق، وصلتـه الكلمـاتُ التي لُفظَت من ذاك الذي كان يحادث شاهين * سند *، وإن كـانت موجاتُ صوتِه غيرَ واضحةٍ كمـا يجِب إلا أنه أدركها .. اتّصلَ بِه مرارًا بقلقٍ ولم يردّ، وحتى هذهِ اللحظـةَ لم يرد!
شدّ على شفتِه السُفلـى بغضبٍ وهو يضغطُ على هاتِفه حتى كـادَ يُحطِّمه، ومن بينِ أسنانه لفَظ : لو تكون بخير بعدْ كل هذا بذبحك بنفسي أنا !!!
رفـع هاتِفه من جديدٍ ليعُودَ بالاتصـالِ بـه، رنّتين ومن ثمّ انطفأ! هذهِ المرّة لم يستمرّ الاتصـال حتى وقوفه ، بل كـان هو شاهين من أوقفه ! هو؟ أمْ .. أم من ! هل هو بموضِع خطِر وهاتِفه ليسَ معه!!
أغمَض عينيهِ وهو يشدُّ على شفتِه بقوّةٍ حتى كـادَ يُدمِيها، شعـر أكثـر بالضيـاعِ والتّشتت الذي يجعـل الخوفَ يتفاقَم من أن يفقدهُ من جديد، قلبـه يتسارعُ بنبضاتِه ويشعر أنه على مشارِف الوقوفِ والوفاة! ، هذهِ المرّة شعـر بالندم لأنّه ظهـر له! لأنّه كـان غبيًا ليصدّقَ فيه ذلك الوهم وذلك الخداع ، ومن ثمّ يظهـر لهُ بحجّةِ الانتقـام، وظنًا بأنه يدركَ حياتـه ، شعـر بالندمِ لغبائه الذي قدْ يورّطُ شاهين في دربٍ الموتِ هذا.


،


يمِيلٌ المقعدَ للخلف، عيناهُ تنظُرانِ للطريقِ المُظلـم بظلامٍ أكبـر، يعمُّ الهدوءُ أجواءَ السيّارة، لم يكُن يقاطـعه شيءٌ سوى أنفاسِهم الهادئـةِ وفي هدوئِها صخبٌ يعلُو أمواجَ الخذلان، تجلِسُ من خلفِه، مقعدهُ يميلُ إليها حتى ضـاقَ بها المكـان، لكنّها كـانت صامتة، تنظُر عبـر النافذةِ ببؤس، تشعُر أنّ أكسجينها كـان زفيرهُ المتمرّغِ في وحلِ كلمـاتها التي أطلقتها عليه اليوم، كلمـاتها القارسـة، القاسيـة، المنتقمَةِ انتقـامًا بشعًا لم تتصوّر أن تمارسهُ يومًا وأن يصِل بها الحقدُ إلى هنـا ، تشعُر أن كلمـاتِ اللومُ تخرجُ من شفتيه لتتنفّسها وتضيقَ أكثـر.
كـان الطريقُ مزدحمًا كعادةِ شوارِع الريـاض، تتوقّف السيارةُ مرارًا وتبهتَ عيناها بأضواءٍ من حولِها تحـاولُ زعزعـةَ ظلامِ أحداقِها ولا تُجيد. لم يكُن ينقصُها أن تعودَ معه في نفسِ السيّارة ، لم يكُن ينقصها أبدًا !
نظـر سيفْ نظرةً خاطفـةً نحو شاهين الذي كـان متباعدًا في مشاعره عنهم، وجده بهذا الفراغِ منذُ دخـل للغرفـةِ إليه ولم يحتَج للذكـاءِ حتى يدركَ بأنّ حديثًا دارَ بينه وبين زوجتهِ أحـالهُ لهذهِ العتمـة، الأسـى، وغضبٌ ما أيضًا!
هتفَ بخفوت : شاهين ارفع المقعد شوي ضيّقت على مرتك ، ما أظـن يحتاج تخليه بهالشكل عشان تخفّف على صدرك.
لم يردّ عليهِ شاهين ولم يُبـالي بما قـال أو بكونِه فعلًا يضيقُ على أسيل، حينها رفـع سيفْ حاجبه ليهزّ رأسه بالنفيِ ويصمتْ.
في حينِ كـانت أسيل في الواقـع لا تُبـالي، ولم تهتمّ بحديثِه، بالضيقِ الذي لم تشعُر بهِ حقيقةً سوى أنّ ضيقها كـان في شعورِها بِه، وتنفّسها أســاه، وحدّةِ أنفاسِه.
وقفَ سيفْ بعدَ وقتٍ من العراكِ ضدّ الزحـام أمام منزل ام فواز، مدّت أسيلْ يدها للبـابِ ومن ثمّ فتحتـه بصمت، وجّه سيفْ نظراته إلى شاهين وهو يقطّب جبينه بغيظٍ منـه ومن عدمِ مبالاتِه، لا يدرِي أنّه الآن ، وفي هذهِ اللحظـةِ يفكّر بشيءٍ واحدِ وحسب .. لو كـانت هنـاك نسبـةُ 1% أن يعيدها إليه .. فالآن تلاشَت! تلاشَت مع غبـارِ حديثها!
ابتسمَت أسيل باهتزازْ وهي تنظُر لديما ، وبخفوت : أشوفك على خير.
ديما تنظُر نحوها ببسمةٍ وهي تلوّح بكفّها : انتبهي على نفسك وعلى أمّي ..
أومأت ومن ثمّ أغلقَت البـاب لتبتعِد، وكأنّها لم تكُن متواجدةً قُربـه، كلّ الاضطراباتِ التي جالَت في صدرِه حينَ رآها قريبةً منه غادرته الآن، كلّ الانفعـالاتِ اللذيذة، أصبحَت الآن نفورًا، وسرابًا .. لا يشعُر بلذّتها سوى أنه يريدها أن تبتعد، لا يريد أن يشعر بتواجدها خلفِه.
انتظـر سيفْ حتى دخلَت، ومن ثمّ حرّك السيـارة ليستديرَ بنظراتٍ غاضبـةٍ إليه ويصرخَ في وجهه فجأة : حيــــواااان أنت؟ صاحي والا تستهبل !!
نظـر لهُ شاهين وهو يعقدُ حاجبيه دون فهم : وش فيك؟
سيف ينظُر للطريقِ ومن ثمّ يُعيد نظراته إليه سريعًا : دامك مو قدّ الزواج ليه تزوّجت وإنت بترمي بنت الناس قبل لا تكمّل معها سنة حتى !
ارتبكَت ديما من خلفِهم لغضبِ سيف، بينما تنفّس شاهين بعمقٍ وهو يلفظ : لا ترمِي بيت الناس بالحجارة وإنت بيتك من زجاج ... ناسي إنّك مطلّق؟
سيف يعقدُ حاجبيه بغضب : مافيه وجه للمقارنـة ... استحى على وجهك!
شاهين يُشيحُ بوجههِ عنه وهو يلفُظ ببرود : وأنت لا تحاول تدخل بمواضِيع ما تفهم جوانِبها زين ... اترك عنّك حركات الحريم.
هزّ سيفْ رأسه بالنفي وهو ينظُر للأمـامِ ويتجـاهل أيّ حديثٍ قدْ يُدارُ بينهما من جديد. رنّ هاتِف شاهين فجأةً بعدَ مرورِ دقائق، رفعـه لينظُر للرقمِ الذي لم يكُن سوى رقـم متعب، اعتلا اسمه في الشاشـة، لم يغيّر اسمه حتى الآن ، لازال كمـا هو " متعب " .. ليسَ الشبيه بالاسم والصوتِ كمـا قال لأمّه ، بل هو نفسه ، متعب بعدَ أن عـادَ فجأة! ليلخبطَ مشاعره، وأيـامـه ، بلذّةِ البعثِ وأسـى الفقدِ من الجهةِ الأخرى.
لم يكُن يريد أنْ يردّ ، إن كـان سابقًا يتجاهلهُ حتى يصمتَ بنفسِه ... فالآن أغلقه في وجهه.

بينما دخَلت أسيل لغرفتِها ، كـانت تدعو الله أن لا تجِد أمها في طريقها، وحدَث ذلك، تريد أن تهربَ مباشـرةً في خلوةٍ مع نفسِها، ومن ثمّ تبكـي بقهر، بندَم ، وبانتصـارٍ حزين ... على انتصارها !


،


في بدايـات الفجر، تقلّبت على السرير، صوتٌ عنيفٌ يجيءُ من عُقر الصمت والهدوء، يضيقُ بصدرِها، يقطّب ملامِحها التي كـانت هادئةً قبل ثانيتنِ فقطْ في نومٍ هادئ، دون أحـلامْ، دون كوابيس، دون شعورٍ بالبرد والخواء! دون الشعورِ بخوفِها المعهودِ حينَ تكون وحيدة ، تلك الليلـةُ التي نامَتها في منزلِ أمّها كـانت موجعَة ، بـاردة، أرعبَت هدوءها .. كـانت خائفةً فيها أضعافَ خوفِها حينَ انفصَلت في غرفـةٍ أخـرى بعيدًا عن غرفتها معـه .. مأواها هُنـا، حيثُ كـانت منذُ شهور، حيثُ سكنَت بأمـان ... وبعيدًا هناك، في ملجأ الأحزانِ القديم، حين عـادَت صبّت الذكـريات نفسها فيها، وظلّت خائفـة! أمّا هنـا، فشعورها بمفرشِ السرير، وبرائحتـه ، كان كافيًا لأن تنامَ نومًا متواصِلًا ومشبعًا بالسكينة.
شيءٌ ما أيقظها، لم تدري ما هو، فقط وفجأةً تقلّبت وهي تعقدُ حاجبيها، قبل أن تفتحَ عينيها بهدوءٍ يعمّها ويعم المكـان، ورغـم أنها كـانت لتشعرَ فيه بأيّ صوتٍ ضئيلٍ إلا أن مسامِعها لم تنتبه للكفوفِ التي أغلقَت الخزانةَ بهدوء، ورغمَ هدوئه إلا أنه أصدر صوتًا خافتًا كان يجب أن يصلها في معمعةِ الهدوءِ هذه .. نظـر سلطـان من زاويـةِ عينيه إليها بعد شعورهِ بتحركّها فوقَ المفرش بتعابيـر جامـدة، وسرعـان ما أشـاح عينيهِ عنها دون مبالاةٍ وهو يتحرّك نحو الحمـام، بينما جلسَت غزل بحواسٍ تأهّبت حين شعرت به، اتّسعت عيناها تنظُر إليه وكأنها استوعبت مكانها، استوعَبت أنها عادَت إليه، إلى السرير الذي جمعهما قبلًا، عادَت إلى غرفته من جديد! .. لحظـة، متى نامت ومتى صارَت على سريره!
ابتلعَت ريقها، شتّت عينيها تنظُر حولها بضيـاع، لا تدري كيفَ نامت بل متى! .. كلّ ما تذكره أنّها وبعدَ حديثها الطويل مع سلطـان وبعدَ الصدامِ الذي أثقلَ عِشقها أكثـر خرجَت من الغرفـة، اتّجهت للصـالة العلويّة وبقيَت فيها تفكّر طويلًا، تفكّر بحديثهما، بحديثه، والذي انتهى بـ " وصلتِ "! ظلّت تغرقُ في معناها، ظلّت تنغمـس في توتّرٍ أخـرس، غادَرها التعبيرُ صمتًا في ومضـةِ ضيـاعٍ اتّسعت بنورِها حتى التهمتها، ظلّت لا تدري كيف كـانت تفكّر، لم تدرِي وقتها ما الحديثُ الذي صخبَ في داخِلها .. الآن فقطْ تعودُ للتفكيـر في لحظـةِ صدمتها بوجودِها هنـا، تفكيرٌ سريعٌ في عمـق ثوانٍ، وصلت إلى مـاذا! إلى السبيل الذي عبرتْ إليه ، إلى عينيه! .. وصلَت إلى ماذا؟ إلى قلبـه؟ أم ... أم ماذا تحديدًا! ... تلك التعابيـر الباردةُ انتظـرتها زمانًا كي تجيئها بحرارةِ شعورِه وجاءتها البارحـةُ وقد وُئدَت، جاءتها يا الله! ... جاءتها؟! ... اتّسعت عيناها أكثر وصدرها يرتفعُ في شهيقٍ عميقٍ نسيَ الزفير، حُشر الأكسجينُ في دمها ونسيَت إطلاقَ هوائها الملوّث، اختنـاق ، اختنـاق ... وكأن الاستيعابَ حينَ جاءها بعدَ ليلةٍ اتّكأ على رئتيها، حشـر عنقها بين كفيه، وخنقها . . يا الله! .. يا الله !!! .. كيفَ يُلهبُ صدريَ الآن وأنسى ما ، كـان بعدها؟ كيفَ يغزونِي كجيشٍ نثرت خيولهُ رمل ساحةِ المعركةِ على وجهِي ، لترسُم من لدنْه أحجيـةَ حُبٍّ لم أستطِع فكاكها، لم أستطِع والله أن أتجاوزَ صعوبتها وأعبـر لمرحلةٍ أخـرى في حياتي، كسبتهُ في حقبةٍ ما؟ كسبتُ قلبـه، عينيهِ التينِ كـانتا سبيلَ الرشـادِ ومهدَ الحضـاراتِ والتاريخ، مهدَ الحيـاةِ في عينيّ ومهدَ الوئـامِ بيني وبينَ الحبور .. هل .. هل قال فعلًا : وصلتِ؟
لا تدري كم دقيقةً مكثَت تختنق، في الحقيقةِ كـان كلّ ذلك في ثوانٍ لم تمكّنه من الوصولٍ إلى بابِ الحمـامِ وشعرتْ هيَ أنّها دقائقٌ طالت، غصّت بأنفاسِها، وفي لحظـةِ خيبةٍ وخذلانٍ شهقَت بقوّةٍ ومن ثمّ بدأت بالسُعـال، تقدّم جذعها للأمـامِ لترتفِع كفوفها إلى صدرها وتتعمّقَ في سعـالٍ مُحشرج شعرت بأنّ روحها تُلفَظ معه دون خيباتِها وآلامِها، تغادرها روحها ويبقى قلبها الذي يقتاتهُ حيـاة .. وقفَ سلطـان ليُدير رأسه إليها دون تعبير، لم يبدو شيئًا على ملامِحه وهو يراقبُ اختناقها بسعالها حتى توقّف لتتنحنحَ وهي لا تزالَ تنخفضُ بجذعها للأمامِ وتتكوّر على نفسها، تنفّست بتسارعٍ وهي ترمشُ بعينيها، تمسحُ على فمها، تمرّر لسانها على شفتيها أخيرًا ومن ثمّ ترفـع عينينِ خائبتينِ إليه، تصتدمُ بأحداقِه المُعتمـة، ترفعها نحوه ، وتعتذر! لأنّها خيّبت ظنونه، تعتذر، لنفسِها أيضًا ، تعتذر، للوصُول الذي مـات، تعتذر، لأنّ فرصتها ارتحلَت بعيدًا قبل أن تدركها ... تعتذر، لعيونه، والتي لم تصدّق حتى الآن أنها وصلت إليها.
وكأنّ سلطـان أدرك اختلاجاتِ عينيها، اعتذاراتها، خيبتها، حُزنها وانكسـارها، أمـالَ فمهُ دون إجابـةٍ لتلكَ الاعتذارات، ومن ثمّ استدارَ متجـاهلًا لها .. بكلّ برود.
أخفضَت عينيها من جديدٍ وهي تسمعُ صوتَ بابِ الحمـامِ يُغلـق، ماذا إن أثمر الحُب في صدري خيبةً؟ وماذا لو أدمـى قيدكَ معصمي؟ أدمنتُ هذا القيدَ منك يا سلطـان حتى ارتأى نسيانِي عن رغبـاتي، لا أحبّذُ تجـاوزك ولستُ فقط لا أجيده، لا أحبّذُ الصحوةَ التي تلي ليلـة أقسمتُ فيها النسيـان ولن تجيء، لا أحبّذُ حزنِي الآن رغـم كلّ هذا! يا الله يا سلطـان لو أنّ لشجرةِ اليأسِ ثمرةَ أملٍ فأقطفها؟ لو أنّ في عينيكَ دربٌ تجهلهُ يصلنِي إليكَ من جديد، لو أنّني يا سلطـان أغزوك كمـا غزوتني!
شدّت على اللحـاف، عقدَت حاجبيها، نظراتها تلتحمُ بالأسفـل بحسرةٍ وحتى الآن لازالت تكرّر كلمـاتِه ولا تصدّقها، وكأنها وصَلت للشمـس بنورِها، واستطـاعتْ لمسها دون احتـراق، لمستها، وصلت إليها، ولم تحترق إلا الآن !!!
قطّبت جبينها فجأةً وعُقدتها تتضاعف، انتبهَت لملابِسها التي كـان آخرُ عهدِها بها قبل أن تجهل كيفَ وصلت هنا تتلاشـى خلفَ عباءتها! .. متى خلعت العباءة؟ بل .. بل بالفعل متى جاءت ونامَت على السرير؟
ارتعشَت شفاهُها باضطراب، دون شعورٍ أمسكَت كفوفها بطرفِ قميصِها لترفعهُ مباشرةً وتكشِف بطنها وكأنها تتأكدُ من موضِع الحرق الذي أراد سلطان منها البارحـةَ أن تكشفه، تنفّست بانفعالٍ وهي تُلامـس بطنها وكأنها تبحثُ عن آثارٍ تدلُّ أنه عالجَ حمرتها التي اختفَت، رائحـةٌ استطاعت إدراكها الآن تدرك ماهيّتها، جعلتها تشدُّ بقوّةٍ على عينيها وتتأوّه برجفـةٍ سرَت في أوصالِها، نامَت هنـاك، في الصـالة، وأحضرها هو إلى هنـا، على سريره! ومن ثمّ خلـع عنها عباءتها، وداواها! تلك رائحـةُ مرهمٍ تُدركه !! ... لا حلّ آخـر لوصولها إلى هنا دون أن تذكر ذلك، لا حلّ آخـر لكونِها بدون عباءتها ! . . . عضّت شفتها المرتعشـةِ وهي تخفض كفيها ببطءٍ عن قميصها، تتنفّس بانفعـال، ترتبكُ حواسّها وهي تتخيّل أصابعه تمسُّ بشرتها السمراء، لتداويها ! . . اقشعرّت وهي تشدُّ على أجفانِها بقوّة، لمَ؟ لمَ؟ .. ما معنـى هذه اللا منطقية والتي يتعامـل بها معها؟ ما معنـى أن يهتم! نعـم ، أن يهتمّ بها بهذهِ الطريقـةِ حتى في نومها؟!!!
شعرت بالغصّاتِ تتوالـى على حنجرتها، تضطربُ مشاعرها أكثر، يتضاعفُ الحُزن في صدرِها أكثـر، تتمنّى البكـاءَ أكثر وتقاومـه .. لم يهتمُّ بي؟ ما معنـى هذا الاهتمـام وما معنى أن يسرقَ في منامِي مقتضـاه؟ أن يحملنـي إلى هنـا ، أن .. أن يعاملَني بنقيضِ احتقارِه وتقزّزه!
مرّت لحظـاتٌ من الضيـاعِ كانت تنظُر فيها للفراغِ بكآبـة قبل أن تنكسـر بصوتِ البـابِ الذي فتحه، انتفضَت بذعرٍ وهي ترفـع وجهها لتصتدمَ نظراتها بوجهه الذي لم ينظُر نحوها حتى وهو يمشِي باتّجاه التسريحةِ ويجفّف كفيه المبلّلتين بالمنـاديل، ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ وهي تتابعـه بنظراتٍ مرتعشـة، لم تستطِع أن تُخرسَ تساؤلاتِها، أن تصمتَ عنْ حيرتها وأن تمرّر ما هي فيه من ضيـاعٍ دون إجابات : ليه شلتني لهنا؟
وضَع العطر على التسريحةِ بعدَ أن نثـر منه وجودَه المعتـاد وشتّتها أكثر، استدارَ ببطءٍ نحوها وهو يرفعُ حاجبًا، أسندَ كفيه على طرف التسريحةِ من خلفِه وهو يجيبها باستهزاء : لا يروح ظنّك لبعيد .. شكلك كان غلط وأنتِ نايمة بالصالة.
غزل تبتلعُ ريقها وهي تشدُّ على طرفِ المفرشِ بارتباك، تشتّت عينيها عن ملامِحه وتهمسَ باختنـاق : كنت تقدر تاخذني لغرفـة ثانية مو . . .
سلطـان يقاطعها ببرود : نفس الإجابـة ، شكلك نسيتِ إن غيداء قربنا.
نظرتْ لهُ بعنف : ماهو مقنع هالسبب!
احتدّت نظراته في مزاجٍ مُلتهبٍ ظهـر لها الآن ، لم يكُن برودًا معتادًا وحسب، بل مزاجـه كـان سيئًا ولم يظهر لها هذا الشيء إلا حينَ احتدّت نظراته ليلفظَ بصوتٍ مشدودٍ رغمَ خفوته : وش قصدك ست غزل؟
شعرتْ بالرجفةِ تغزو صوتها بتردّد، لكنّها هزمَت تردّدها بثباتٍ هشّ، أن تبقَى للأبدِ هكذا، مهزوزة القوام، مكسورةُ الجنـاح، لا تضمِّد ضعفها بقوّة، لا تهزمُ هشاشتها بصلابـة، تريد أن تتغيّر! تريد أن تصير أقوى ، بطريقةٍ مـا . . . لذا تجاوزَت عن تردّدها ورجفـة صوتها الذي خرجَ إليه لافظًا بتساؤلٍ مختنق : ليه تهتم فيني؟
ابتسم، ربّما في الحقيقةِ كـادَ يضحك، لكنّه ابتسمَ فقطْ ابتسامةً مستخفة زعزعتْها بعض الشيء، أمـالَ فمهُ للأسفلِ وهو يلفظُ بنبرةٍ مسترخية : أي أنواع الاهتمام اللي قاعدة تشوفينه؟
حكّت شفتيها ببعضهما بتوتّر، يُربكها، يزعزعُ الثباتَ الذي ترتدِيه حلّةً للمكوثِ أمامه دون بكـاء : النوع اللي تمارسـه ، وش ما كان.
أخفضَ كفيه عن التسريحةِ وهو يرمقها بنظراتِه الصامتـةِ تلك، يُقيّدُ عينيها بِه، تحـاول تشتيتهما عنه ولا تقدرُ سوى على النظرِ باتّجاهِه قِبلةً لها، .. لفظَ بصوتٍ تشتـاقُ فيه صوتًا آخر، صوتًا لم تنساه وخادعها بِه البارحـةَ قبل قُبلته : لا تتأملين كثير بغبـاء .. مجرّد عادة.
ارتعشَ هدبُها لترتخِي ملامِحها دون فهم، بتوجّس! .. لم تفهم ما مضمونُ العادةِ هذه، ما معنـى أن يكون اهتمـامه عادة! ما مـدى تأثيرُ هذهِ العادة! .. خافَت من الإجابة، لذا أخفضَت نظراتها عنه، ولم تسأله! عـلى أملٍ باهت، أنّ تلك العادةَ لها عُمقٌ حمـل عاطفةً خاصّةً لهـا هي! عاطفـةً تُنعِشُ حزنها.
وكأنه يهوى قتـل أمالها الواهنة، قتـل ذرّات السعادةِ فيها ، تابَع بتحذِير : لا تتأملين .. لأن هالعادة ما لها علاقة ولو واحد بالمئة في مكانتك عندي ... مالك مكانة، حتى اللي مالهم مكانة عندي لو تعوّدت أفرّحهم بظل أفرّحهم، وأنتِ قرابة السنة تعوّدت أهتم فيك! العاداتْ حاكمـة.
شعرت بالغصّاتِ تتوالـى أكثر على حنجرتها، أغمضَت عينيها بشدّةٍ وهي تضمُّ المفـرشَ إلى صدرِها، بانكسـارٍ يتصيّد من طموحاتِها – الأكبر منها -، ويَئدها . . . همسَت بوجَعٍ دون أن تنظُر إليه : وقُربي؟
وقُربها؟ كـان في خضمِ أشهـر وسبَق اهتمـامه أيضًا ، كـانت قريبـةً منه قبل أن يبدأ بالاهتمامِ بها، وقُربها؟ .. أمـال فمهُ في ميلانٍ بارد، غير مبالِي وهو يردُّ بصوتِه ذاتِه، البعيدِ جدًا عن صوتِه! : شيء بديهي إنّي تعوّدت عليه بعد.
انقبضَ قلبها، هذهِ المرّة لم تسمـح بأمـل، لم تسمحْ أن تقعَ في مصيدةِ النشـوةِ التي حلّت على قلبها، ماذا تعنِي العادة؟ ماذا تعنِي؟ ليسَ ضروريًا فيها أن ترافقَ عاطفـةً تخصّها، العاداتُ كمـا قال، تحكِمنا، ليسَ بالمشـاعر، ولكن بكونِها صارتْ ضمنَ روتيننا المعتـاد، هل أصبحتُ إحدى معالـم " العاداتِ " وروتينًا لديه أن يهتمَّ بي، وأكون قريبةً منه! .. هل وصلتُ في النهاية إلى اعتيـاده ... المفترضُ أنها لم تسمَح للذّةِ أن تحتلّها، لكنّها فشِلت، فشِلت وهي تَعقدُ حاجبيها، وتوجّه عينيها باختلاجاتِهما الموجوعةِ إليه، العاشقـة، والتي تحتاجُ قربـه فوقَ الاعتيـاد.
بينمـا كان هو يراقبُ عينيها، نعمْ ، عـادة، صارتْ عادةً قهريّةً كأن يتّجهَ لمسحِ وجههِ صباحًا، كأن يشربُ قهوتهُ في ساعةٍ مـا من المسـاء، ككلّ العاداتِ التي يصعبُ عليهِ تركها، وجودُ امرأةٍ لأشهرٍ قربـه لا يمحِي اعتيادهُ عليها أنّه باتَ يكرهها، اعتـادَ أن يراها كلّ يوم، اعتيـادًا يجعـلأ غيابها يعني – نقصًا - ... والعاداتُ دومًا .. ليس من الضرورةِ أن ترتبطَ بمشاعر الحب والكره، لذا واليوم، حين كـانت نائمةً على سريره كـان ما حولهُ مختلفًا، وكأنه عـادَ إلى الجوّ المعتـاد، إلى المنـاخ الذي اعتادَ جسدهُ عليه وتكيّفَ فيه، رغـم أنّه كـان ينفُر حدّ أنه لم ينـمْ على السريرِ بجانِبها، لكنّ الشعورَ كـان مختلفًا ، أكثر اعتيادًا! بعكسِ تواجدِه وحيدًا حينَ كانت على بُعدِ مسافاتٍ منـه !
بقيَ يراقبُ عينيها ويرى مشاعرها التي صخبَت بسذاجةِ الحُبّ وتمكُّن الحب، لم يحاول أن يوضّح لها الوضعَ أكثر وكأنه يتلذّذُ بشعورِ أن يكسر آمالها بعدَ أن تتكوّن .. لذا انتظر حتى رأى تلك النظـراتِ الخاضعـةِ في عينيها، ومن ثمّ ابتسمَ وهو يتحرّك بخطواتِه نحوها، اضطربَت وتحفّزت عضلاتُها بربكـةِ حضوره، جلـس على طرفِ السريرِ دون أن يفقدَ ابتسامته، وضـع ساقًا على أخـرى، كـانت قريبة ، قريبةً منه، وقُربها ذاك ضاعفَ ضعفها، أردفَ بنبرةٍ مسترخيَةٍ وصوتٍ بارد : صارت عادة ... بس غير حاكمة ، أن اللي حكمتها، بس بحدود ما خلّتني أذبحها إلى الآن ، بس مو مثل ما اعتدت اهتمامي .. قُربك بذبحه وإن ما ذبحت اعتياده، بينما اهتمامِي لا صرتِ عندي بهتم غصب عني ، عشان كذا بذبح القُرب بكبره.
أغمضَت عينيها التي التهبَت بوجَعِ قلبها المذبح وتصاعَدت دماؤه المهدرةُ إلى مجرى دمعِها، أحـرق أحداقها، ورغـم كلّ مشاعـر الانكسـار فيها، رغـم حُزنها، رغـم الخيبة، همسَت دون أن تفتحَ عينيها : طلّقني ، ريّحني قبل لا تريّح عمرك.
سلطـان بسخرية : أريّحك؟ متأكدة من هالنقطة؟
فتحَت عينيها ببطءٍ لتصتدمَ بعينيه، قوّست فمها قليلًا ، ويثقةٍ زائفـة : حُبّك مو حاكِم لي، مثل ما اعتيادي ما يحكمك.
غرقَ في ضحكةٍ عميقةٍ ساخـرةٍ جعلتْ كفيها تبردان، ضحكـةٍ تمزّق قلبها أكثـر، تحطّم أضلعها، تُطيحُ بالثقـةِ الزائفةِ والثباتِ الزائف ... لفظَ بسخريةٍ وتسليـةٍ كالبارحـة، يتسلّى بتلاعبـه بها، وبمشاعرها : أثبَت لك كذبك أمـس ، أمداك ترجعين للمحاولة؟
غزل وصوتها لازال يحافظُ على ثقتِه : علميًا تصنّع الثقة يجعلها حقيقة ، عشان كذا بظلْ أحاول ، لين ما يصير التصنّع واقِع.
سلطـان بقرفٍ يقف : هالمرة مو مستعد أثبت، بس عيونك تفضحك.
رغم أنها ارتبكَت من حديثِه و " الاثبات " الذي يقصده إلا أنها رفعَت نظراتها إليه مع وقوفهِ لتلفظَ بأسـى : غريبـة ما ودّك تكذّب مشاعري مثل ما سوّيت قبل وقلت تمثيليّة بعد!
سلطـان يُميل فمه بتلذّذ : لأني أبي أصدقـها .. وأوجعك أكثر.
غزل باختنـاق : طلّقني أجـل ... عشان توجعيني أكثر.
سلطـان : لا طبعًا .. هنا فيه إمكانية تحاولين ترجعين للحيـاة ، واحتمـالية إنّك تحبّين من جديد ويروح وجعك .. وكلّه على حسابِي.
ابتسمَت ابتسامةً تتقوّس للأسفـل، ابتسامـة فقد، وانكسـار : اللي يحدنِي عن ماقاومتك هو ذنبي! بس ذنبـي .. أحبّك وهذا يضعفني ، بس الضعف أكبر لأني مُذنبة بحقّك ، وباليوم اللي أعرف فيها إنّك أخذته بقدر أصير قويّة.
سلطـان بحدّة : وقحـة يوم تتكلّمين عن الحقوق!
أسدلَت أجفانها بأسـى، في اللحظـةِ التي طُرقَ فيها البـاب والتفتَ سلطـان إليه دون أن تلتفتَ هي، إلا أنها نظـرت من زاويـةِ عينيها إليه دون أن تلفظَ شيئًا، بينما نهضَ سلطـان دون تعبيـر ليتّجه إليه، فتحهُ وهو يتوقّع أن تكون غيداءْ لكنّ من ظهرت أمامه كـانت سـالي التي أخفضت نظراتها بتوتّرٍ وهي تحمـل " قوزال " والتي ما إن فُتِح البـابُ حتى انسلّت من يدِ سـالي وركضَت للداخِل ، إلى غـزل.
ارتبكَت سالي التي مدّت يدها في بادئ الامـر لكنّها في النهايـة جذبتها وتراجعَت للخلفِ وهي تلفظ : سورِي .. ساعة فيه يزعج أنا وماما صغيرة.
عقدَ سلطـان حاجبيه بعدَ أن أدرك بأنّها تقصِد غيداء، وبهدوءٍ متساءل : غيداء صاحية؟
هزّت رأسها بالإيجـاب، بينما كـانت غزل من خلفِه تحتضِن قطّتها بعدَ أن شهقّت بسعادةٍ حين تراءت لعينيها وقفَزت إلى حُجرها ، كـانت تُزعجهما ، لأنها شعَرت بتواجُدِها! بـ حضورها قربها! اشتاقتها كما اشتاقت لها غزل ! . . ابتسمَت بسعادةٍ لم تلامـس قلبها أيـامًا، بدأت تداعِبُ شعرها وهي تضحكُ بخفوتٍ وتهتفَ بصوتٍ نسيَت فيه نفسها أمامه : يا حبيبتي ! اشتقت لك والله، وأنتِ؟ اشتقت للفضفضة والشكوى لك.
نظَر لها سلطـان في ذلك الوقتِ بصمت، بينما بدَت هي قدْ نسيتهُ تمامًا، نسيَت أنّه واقفٌ عند البـابِ ولم يخرجْ حتى الآن، نسيَت ، ولربّمـا كادَت تبدأ بالشكـوى التي تقصد، لكنّ سلطـان لم يبـالي بالانتظـار حتى تصلَه، نظـر لسالِي بجدّيةٍ ومن ثمّ لفَظ : جهّزي الفطـور.
أومأت سـالي ومن ثمّ ابتعَدت، في حينِ تحرّك سلطـان ليخـرج، أغلَق البـابَ من خلفِه ولم يفكّر حتى بأن يستمع لها، واتّجه للغرفـة التي نامَت فيها غيداء.


،


" ابعدِي عن أبوك شوي "
اتّسعتْ عينـاها بصدمـةٍ ما إن تخلخلَ ذاك الصوتُ مسامِعها، ارتعشَت أطرافها لتقفَ مباشرةً وكأنّ عقربًا لدغها، نظـر لها يوسفْ باستنكـارٍ وهو يهتف : شفيك؟
ابتلعَت ريقها وهي توجّه نظراتَها إليه، وقبل أن تلفظَ شيئًا كـان تميمْ يهتفُ بصوتٍ هادئ، بـارد، وعابِث! : لا توضحين له شيء.
أرجوان ببهوت : هاه! آآآ * ابتلعَت ريقها مرّةً أخرى لتردفَ وهي تنظُر ليوسف باضطراب * صديقتي ... صديقتي يعني.
استنكـر يوسف ربكتـها، بينما كـادتْ تشهقُ هي بعدَ أن استوعَبت أنّها أدّت ما أمرها بِه، وبطريقةٍ مثيرةٍ للشفقـة! بخوف !! ... لا ، لم تكُن خائفة! لكنّ صدمتها وربكتها جعلاها تتخبّط بهذهِ الطريقةِ التي هزمتها أمامه!
شدّت على أسنـانها بقهر، ورغـم أنها كـانت لاتزال مرتبكـةً إلا أنها ابتعدَت قليلًا عن يوسف، اتّجهت للجدارِ المقـابِل لهم في نفس الممرّ، بينما نظراتُ يوسفْ تتابعها باستنكـارِ وتوجّس ... هتفتْ بصوتٍ كـان خافتًا لا يصِل يوسف إلا أنها كـان يصلُ حادًا إلى تميم : نعم ! وش تبغى متّصل علي ومن وين جبت رقمي؟
تميم بصوتٍ مسترخي، يبتسمُ بتلاعُبٍ ويلفظ : أسأل عن أحوالك، أتطمّن عليك، وأنبّهك بس تكونين بعيدة شوي عن أبوك ، أما من وين جبت رقمك هذا بالله سؤال؟
اتّسعت عينـاها بصدمة، لم تستوعِب الوقاحـة التي يتحدّثُ بها . . بينما أردفَ تميم بصوتٍ ماكـر : بتضرّين نفسِك يوم تحـاولين ، مجرّد تحـاولين تساعدين أبوك ... لا تخليني أحطّك براسي عشان ما تتعبين!
أرجوان بغضب : أنت صاحِي ! تبيني مثلًا أتفرج على هبـالك لين ما تضرّ أبوي؟
تميم : تبين تصيرين بالقائمة؟
أرجوان : أعلى ما بخيلك أركبه.
أغلقَت مباشـرةً بغضب، تشتعـل عينيها بحرارةِ القهر، لم تلتفِت إلى والدها وهي تقضِم من نفسِها سكونها، كيفَ وصلَ إلى رقمها؟ كيفَ يراها وأدرك وضعها؟ كيفَ يتجرّأ بكل وقاحـةٍ أن يقول لها " ابعدي عن أبوك "؟ أمـالتْ فمها بقرف، رغبـةٌ تحثّها على الاتجـاهِ لوالدها كيْ تخبره بكلّ شيء، وتنقذُه من مكرِه ، رغبـةٌ تخشى أن لا تكون إنقاذًا بل عمليّةَ اغتيـالٍ غير مباشرة! . . كيفَ إذن قد تتصرّف؟
تحرّكت وهي تبتلعُ ريقها بقهر، عـادتْ حيثُ كـانت تجلسُ بجانِب يوسف الذي لفظَ بهدوءٍ بعدَ جلوسِها، بهدوءٍ قرأت فيه الشك : منتِ على بعضك.
ابتسمَت وهي تُريحُ كفّيها على ركبتيها، ودون أن تنظُر إليه هتفت : ما فيني شيء بس اللي متّصلة مروى واشتقت لها.
أومأ دون اقتنـاعٍ وهو يُدير رأسه عنها إلى جيهـان التي خرجَت من بـابِ مكتبِ الطبيبـة لتبتسِم ابتسامـةً واهيـة وهي تلفظْ : خلصنا.


،


أثنـاءَ عودتِهم جاءها اتّصـالٌ منه من جديد، اتّصالٌ جعلها متفاجئةً أكثـر من وقاحته، ماذا كـانت تظنُّ من رجُلِ عصاباتٍ كهذا؟ .. يا الله ماهذا الجنونُ الذي تعيشه! ما هذا الجنونُ الذي صُوّرَ لها في قصّةٍ كهذِه، أن يسقطوا في دهاليـزِ خطرٍ كهذا !!
أغلقَت هاتِفها بقهرٍ وهي تخشـى أنْ يتّصلَ بها من جديد، انتبهَت لنظرات يوسفْ الذي كـان ينظُر لها باستنكـار، خافَت أن يدركَ شيئًا، لا تدري كيفَ قد يدرك ذلك لكنّها خافَت .. أشاحَت نظراتها عنه لتنظُر للأمـامِ بربكـة، لم تنظُر سوى لفراغٍ رأتـه فيه وجعلها تتوقّفُ منتفضَةً بذعرٍ مفاجئ !
توقّف يوسف بقلقٍ وهو ينظُر نحوها : أرجوان شفيك؟!
ابتلعَت ريقها وهي تُغمـض عينيها بقوّة، لا يعقـل أن اضطرابِ عقلها بدأ يصوّره لها؟! . . تنفّست بانفعـالٍ يرتفـع فيهِ صدرها وينخفِض بشدّة، وبصوتٍ مكبوت : مافيني شيء.
يوسف : لا فيك شيء .. منتِ على طبيعتك .. تعبانة؟
وجَدت نفسها تنغمـس أكثر في تلك الكذبـة رغمًا عنها : شويْ.
اقتربَ منها يوسُف ليُحيطَ كتفيها بحنانٍ ويقرّبها من صدرِه وهو يهمـس : ما تشوفين شرْ حبيبتي ... شوي ونوصل وبترتاحين وقتها.
شعرتْ بالاختنـاق لتبتلـع ريقها، تخيّلت فجأةً أن يُصيبهُ شيء! بـاتَ ذلك هاجِسها في الساعاتِ الطويلةِ السابقـة، في الأيـام التي تلَت صدامها الأول بتميم، أن تفقدَه! يعنِي أن تفقَد الدافـع لتبتسمَ للحيـاة.
اقتربوا من الحيْ الذي بدا مزدحمًا أكثـر من المعتـاد، عقدَ يوسف حاجبيه باستنكـارٍ وهو يلحظُ تجمّعًا كثيفًا أمـام المبنـى، اقتربَ باستنكـارٍ ليتبيّن لعينيهِ أشخـاصٌ يرتدون لبـاس الشرطـة، سياراتٌ ميّزها جيدًا ، يُحيطُون المبنـى بشريطٍ يمنـع أيّ أحدٍ من الدخول.
لفظَت جيهان باستغرابٍ وهي تعقدُ حاجبيها : بسم الله وش صاير!
يوسفْ يبتعدُ قليلًا عن أرجوان ليتحرّك بخطواتٍ أسرعَ وهو يهتِفُ بتحذير : خلوكم قريبين .. بتأكد من اللي يصير وبرجع.
أومأت جيهان بينما نظـرت أرجوانْ إلى ليـانْ بتوجسٍ وخوف، أمسكَت بيدها لتلفظَ بقلق : خليك ماسكة بيدّي.
ليان بفضول : طيب وش صار؟
أرجوان : ما أدري اتركي الأسئلة لبعدين.
جيهان بفضول : شكلها جريمـة قتل أو سرقـة أو شيء من هالكلام.
أرجوان تنظُر نحو التجمّع بقلقٍ وقلبها تشعُر أنّه ينقبِض وكأنها تخشـى أن يكون معلّقًا بِهم ، كيف؟ لا تعلـم .. فقط تشعُر بالخوف، بأنّه قد يكون لذلك الرجُل يدًا ! لفظَت وهي تعانِق خصرها بذراعِ يدِها المتحرّرة من يدِ ليـان : أكيد إنّها جريمـة ، ما يبيلها.
جيهان تحكُّ بكفّها على عضدِها، تشعُر ببردٍ تخلخلَ عظامَها ، بضجرٍ وبرودٍ هتفَت : عسى تتورّط فيها بأي شكل.
نظـرت لها أرجوان باستنكـارٍ وهي تعقدُ حاجبيها : مين تقصدين.
جيهان ببرودٍ دون أن تنظُر باتّجاهها : محد.
اشتعلَت نظراتُ أرجوان فجأةً بغضبٍ بعدَ أن فهمَت قصدها، نبرتها وهي تقولها رغـم برودِها إلا أنها كـانت حاقدَة بطريقةٍ باهتـة، ورغـم بهوتِها واضحة ! : صاحيـة أنتِ! تدعين على البنت تتورّط بجرائم وما أدري وشو؟! .. حتى لو حاقدة عليها ترى ما يسوى !
جيهان بضجر : خلاص يا كلمـة ردّي مكانك الله ياخذها وياخذه هو معها.
أرجوان بسخريـة : تكذبِين على نفسك وإلا لو إنّ الجريمة الحاليـة قتل وهو المقتول بتموتين وراه.
جيهان : يخسي الخاين.
أرجوان : هيّن.
تحرّكت بقهرٍ مُفاجئٍ حاولَت أن تظهر في ملامِحها البرودَ بعكسِه ليعتلي صوتُ أرجوان من خلفِها باعتـراض : جوووووج ! أبوي وش قايل !!
تجاهلتها لتقتربَ من الجموع، وكلمـاتُها اليوم مع الطبيبةِ تصبُّ في أذنها معدنًا مذابًا يحرِقها ، يحرِقها بأقصـى ما يُمكن! .. كلمـاتها أثارتْ في قلبـها كلّ معالـم الحقدِ عليه ، أنـا يفعلُ بي كلّ ذلك! أخسرُ بسببِه تحدّي الغضب، أبدو ضعيفةً أمامها، عاشقـة! ولمـن ! لخائِنٍ مثلـه !!
اقتربَت من جموعِ الناسِ دون أن تبـالي بحدِيثِ أرجوان ودون أن تبـالي بالغضبِ إن صبّ من والدِها كلمـاتٍ حادّةٍ إليها، تدرك أنّها باتت تتمرّد كثيرًا في هذهِ الأيـامِ عليه لكنّها تريد أن تفرّغ، تريدُ بطريقةٍ ما أن تفرّغ بعدَ أن عادَت لتتقوقَع أمـام الطبيبـة، بعدَ أن عادَت اليومَ للكتمِ وكأنها تدخُل إليها كأوّل يومٍ جاءتها.
دخلَت بينَ النـاسِ ولم تبـالي إن كـانت قد اصتدمَت بامرأةٍ أو رجـل، وقفَت في الأمـامِ بعدَ جُهدٍ لتقفَ مباشـرةً أمـام الحاجِز الذي يمنعها من المتـابعة، الكثيرُ من رجـالِ الشرطـة، الكثير من الأضواءِ المزعجـة، والكثيرُ من الأصواتِ التي كـانت تتداخَلُ في أذنيها وتُصيبها بالصـداع .. يرتفـعُ صدرها بقهرٍ وينخفضُ بألـمْ ، تريد أن تبكِي، ولا تريد، تريد أن تصرخ، ولا تريد ، أن أظهـر بضعفٍ أكثـر يعنِي المزيدَ من الفشـل أمامه ومن انتصاراتِ حبّه ، يعنِي أنّه أقـوى، رغمَ كونِي أدرك أنّ حبّه لـي أكبر إلا أن قوّته كذلك أكبـر ، أم أنه فقطْ تجاوزنِي! تجـاوزني وحسب ! ...
تقوّس فمها في بؤسٍ وجسدها يقشعرُّ ما إن شعرتْ بكفٍّ تُمسكها من خصرها لتعيدها للخلفِ وصوتُ جاءها محذّرًا بلغـةٍ فرنسيّةٍ ولكنةٍ مزعجـة : ابتعدِي يا فتـاة .. مكانُك خاطئ.
نظرت لهُ بانزعاجٍ وهي تلتوِي بجسدها ليُبعدَ كفّه التي أصابتها بالقشعريرة، تحرّكت خطواتٍ تبتعدُ بها عنه جانبًا وهي تلفّظ للرجُل بضيق : تستطِيع أن تقولها لي دون أن تلمسنـي ... وقح!
عادَ هذهِ المرّة يُمسكُ كفّها وهو يبتسِم بوقاحـة، حينها انفعلَت ملامِحها لتصفعَ يدهُ ومن ثمّ تتحرّك مبتعدّةً كيْ تغادِر الجموعَ هذهِ المرّة . . . ورغمًا عنها، سقطَت دموعها في ذلك الوقت، كـانت تقاومها، لكنّها الآن وكأنّ لمستـه تلك دغدغَت مقلتيها أكثر ، فبكَت !
اصتدامُها بالأجسـادِ كـان يُبكيها أكثر، لا تدرِي لمَ، لكنّها كـانت فقط تبكِي وتمسحُ دمعها حتى خرجَت من التجمهـر الكثيف، كـان خروجها من جهةٍ أخـرى غير التي دخلَت منها، لذا لم تصتدِم بها أعيُن أرجوان التي كـانت تهزُّ ساقيها بغضبٍ منها تنتظِر عودتها.
تحرّكتْ بساقينِ مرتعشتينِ مبتعدّةً عن ضجيجِ النـاس لتتوقّف أخيرًا على بُعدٍ ليسَ بكثيفٍ عنهم، تنفّست بعنفٍ ومن ثمّ بدأت تمسَحُ على وجهها كامـلًا محاولـةً أن تدسَّ حـالةَ الحُزن التي واجهَتها الآن وحالـة الضعفِ خلفَ قنـاعٍ زائفٍ من الثبـات.
وفي تلك اللحظـةِ اقتربَت منها خطواتُه ليتوقّف خلفَها مباشـرةً ويلفظَ بصوتٍ حادٍ جعلها ترتعـش بصدمـة : وين عمي يوسف؟
رمشَت بعينيها مرارًا وتكرارًا وهي تتنفّس بانفعـال، هاجَمها صوتُه الآن مستفزًّا حالـةَ الضعفِ التي كـانت تعانِي منها وقتذاك، لذا لم تستدِر إليه وبقيَت تتنفّس بانفعـالٍ تخافُ أن يرى أحزانِها إن التفتت.
رفـع فوازْ حاجِبه بغضب، عينـاهُ كـانتا قد رأتها منذُ اللحظـةِ التي أمسكَ فيها ذلك الرجُل يدها وحتى خروجها بين الناس لتصتدمَ بالأجسادِ دون أن تبالي بذلك، تشتعلانِ بنارِ غضب، تمنَى لو كـان يستطِيع سحقَ عنقه بعدَ أن يحطّم أصابعه التي تجرأت على لمسـها، لا يدرِي كيفَ استطـاع في ذلك الوقتِ أن يسيطرَ على أعصابِه ولا يفعلـها، وفقط تبعها بنيرانِه المتأجّجة.
لفظَ بصوتٍ مشدودٍ كالأوتـار : أدري إنّك تبكين .. لا تحاولين تسترين ضعفك عنّي وأنا أكثر شخص يفهمك ... التفتي.
أغمضَت عينيها بقوّة، تنفست بحدّةٍ وهي تعضُّ شفتها السُفلـى قبل أن ترخيها وترخي معها كآبـةَ ملامِحها، ومن ثمّ تستديرَ ببطءٍ إليـه ، تواجِهه ، تنـاظِر الغضَب في أحداقِه، الرغبـة الكامنـةَ في قتلِها، تُنـاظِر بوجهها حلّةَ الحدّة ، وتغيبُ عن عينـاها عاطفـةُ الشوق التي لم يشعُر هو بها حتّى من شدّةِ غضبه!
مرّرت لسـانها على شفتيها وهي ترفـع وجهها المُحمرّ بحُزنها الذي يدركهُ وبحالـةِ البكـاءِ الذي يعلـم مقدّمـاتهِ وآثـارِه من بعد رحيله، ذقنها ارتفعَ بكبرياءٍ اتّسَم في صوتِها صلبًا ساخرًا : أستر ضعفي؟ اللي تظنّه فيك؟!
فواز دون أن ترقّ ملامِحه أو أن تظهر بوادِر السخرية فيه والتي تمكّنت من صوتِه الغاضب : ما أظـن .. أدري بهالشيء لأنه ما يحـتاج ظن وشكّ.
كـادتْ في تلك اللحظـةِ أن تصـرخ، أن تضربـه، أن تصفعهُ بغضبِها وخيبتِها، كـادت أن تظهـر ضعفها دون أن تحـاول ستره بشفافيّةٍ يراها من خلفِ ستارِها، كـانت لتظهرهُ له مباشرةً دون أن تحـاولَ تكذيبـه .. كـان فقط ينقصها الآن أن ترى عينيه! أن تستشعِر حضورَه قُربها، كـان فقطْ ينقصها أن تمسَّ من عينيهِ شوقها إليه، أن تنعكـس صورتها في أحداقِه .. وتشتاقهُ أكثـر!
لفظَت بسخريةٍ مريرةٍ من نفسها قبل أن يكون منـه : ضعفي عشان نفسي .. مو لك ... لا تطمحْ بالمستحيلات.
فواز وقد ابتسـم هذهِ المرّة ابتسامـةً باردة، جـامدة، متصلّبةً دون تعبيـر : المستحيلات عيونك وقربك ... بس مشاعرك، وضعفك لـي، وشوقك لي .. ماهي من ضمنها.
تشنّجَ فكّها وتصلّبت حنجرتها بكلمـاتِ التكذِيب، ظلّت تنظُر لهُ بعينيها اللتين كـان فيها حُمرةٌ تُخبـره عن ملوحةِ الدمـع الذي انسكَب قبـل لحظـات، ملامِحها المحمرّةُ تفضـح بُكـاءها، ملامِحها المحمرّة ، والتي اشتـاق لحظـاتِ توسّدها على صدرِه بتشكِّي، أنفاسُها حينَ تتخلخلُ قميصَه لتصلَ إلى جلدِه بحرارتها فتذيبُ قلبه بعدَ أن تخترقَ مساماتِه ... هو غاضِبٌ منها الآن! غاضِب!! ولا يريدُ إطلاقًا أن يستشعِر شوقه، غاضِبٌ منها على وقاحتها في تخلخلِ الأجسـاد، على لمـس تلك الكفّ لجسدها، غاضِب ويشتـاق! .. ترسّبَ شوقهُ أخيرًا على ملامِحه، ككلّ مرة، ككلّ مرةٍ يراها ولا يستطِيع أن يتغلّب على مشـاعره ، ككلّ مـرة ، يراها ويشعر بأنّ حبها يتضاعف، بعكسِ ما يريد!
تنفّس بغضبٍ وهو يعقدُ حاجبيه، كـان ردّها هو أن تصمتَ وتتقوقعَ على خيباتِها، كـان ردّها أن تنظُر لهُ بصلابةٍ كـاذبةٍ افتضَحت حُمرةُ ملامِحها كذِبَه . . . لفظَ بنبرةٍ متسائلةٍ بغضب، برغبـةٍ في قتلها! : فيه بنت محترمـة تدخـل بين تجمهر ؟ تعرّض نفسها للموقف الدنيء اللي من شوي!!
رفعَت حاجبيها في بادئ الأمـر دون استيعاب، وبتمهّلٍ استوعبَت لتتّسِعَ عيناها، شعرتْ بالحـرجِ لأنه رأى، لكنّها رغمَ ذلك صدّت عنه وهي تكشّر بملامِحها وتلفظَ بسخرية : ومين حضرتك عشان تحاسبني! مالك دخـل فيني.
فواز يقتربُ بخطوةٍ غاضبـةٍ منها : أنا ولد عمّك .. وبكسر راسك لو أشوف منّك هالحركات الغبيّة مرة ثانية.
جيهان تنظُر لهُ باحتقارٍ من أسفله إلى أعلاه ، وباعتلاء : تكسر راسي! إنت مصدّق سخافـة ولد العم هذي! .. هالكلمـة تمارسها على أرجوان وليان مو عليْ .. كونك كنت زوجي وتطلقنا فأنت فقدت معنى هالكلمـة بعد .. لا تضحك على نفسك.
فواز بوعيد : جيهان . . .
قاطعته بعنف : ولا تقول اسمـي على لسانك الخائن.
ابتسمَ بسخريةٍ وهو يرفـع حاجبهُ الأيسـر باستخفاف، وبصوتٍ ماكر : وش قالت لك؟
اضطربَت قليلًا وكأنها فهمَت قصده، شتّت عينيها عنه لتهتفَ بصوتٍ حاولَت جعله يثبتُ عن رعشـةِ الاضطرابِ ولم تستطِع : شقصدك؟
فواز باستهزاء : فاهمـة قصدي .. وش قالت لك جنان؟
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، كـان ظهورُ اسمها بينهما ومن شفاهِه وبصوتِه ذا وقعٍ موجِع ، أن ينطُق اسمها بطريقةٍ مباشـرةٍ اعتـادها، أن يقولها وتقرأ فيها حُبًا يغرسـه الشيطـانُ في نبرتِه ويستفزّها أكثـر، تصنَعُ تلك النبـرةَ من العدم، تصنعها من قهرها وغيظِها ومن شيطـانِ الحُب والتملّك الذي يوسوسُ لها حبّه لسواها. هتفَت بنبرةٍ لم تستطِع أن تُخفِي منها انفعالها : وش قالت؟
فواز يبتسِم رغمًا عنه بانتصـار، ورغمَ كونِه كـان غاضبًا من جنان وممّا فعلته إلا أنّ نتائجها الآن ظهرت لهُ في اعترافٍ صامتٍ منها على مدَى تأثيرهِ فيها : كنتِ تقولين لـي مهما ظلّ حبك لي فيك للحين بتقدرين تبدأين من جديد .. وتتجاوزيني ، ليه أحس صوتك الحين يكذِّبك!
شعرتْ بجفافٍ في حلقها صبّ في عينيها تمزّقًا وجرحًا أكبـر ، هتفَت بصوتٍ مغمورٍ في بهوتِها : واهِم !
فواز : مهما كـان اللي قالته لك لا تاخذينه بعين الاعتبـار ... ما طلّقتك وأنا أفكر برجعتك لي.
ابتسمَت ابتسامةً مهتزّة، كـانت تسخَرُ فيها منـها، كـانت ابتسـامةَ ساخرةً بفشَل! .. كـانت خائبة! خائبـة! .. إن كـانت رأت في كلامِها كذبًا لتُبعدَها عن فواز وحسبْ فحديثُه الآن كـان كاللكمـةِ إلى صدرِها، أوجعتها بقوّة ، أصابَت قلبها في مقتَل! ... كـانت ابتسامـةً منكسِرةَ الكبـرياء، متعاليـة، تتصنّع فيها أنها لا تهتم، وأنها هي بذاتِها .. لا تفكّر بِه ، لا تفكّر بمسألةِ العودة، لا تفكّر بأن تشتــاقه وتطمـح من بعدِ حدِيث جنان أن تعود !
لفظَت بصوتٍ سمعته قويًّا، ساخرًا، متمكّنًا من لحظـةِ الاهتزازِ فيها، صوتًا ثابتًا لا يهتزّ ، خدعها ، وكـان في الحقيقةِ مختنقًا، موجوعًا ، سمعَه هو بوضوحٍ ليعقدَ حاجبيه حينَ استقبله : إنت تفكّر إني طمعانة برجعتي لك وبنبسط بكلامها؟ واهــم .. للمرّة المليون واهم وغبي!
صمتَ للحظـتينِ دون تعبيرٍ وكأنه يترجِم صوتها، يُعيدُ تدويرهُ في مسامِعه، يسمعهُ من جديد ، ليبتسـم أخيرًا ... ويهتف بتملّكٍ أعمـى : سألتك قبل وما جاوبتي .... اشتقتِ لي؟


،


وفي جهةٍ أخـرى، عقدَ يوسف حاجبيه بعدَ سماعِه لما قِيل له، استفسـر عمّا يحدُث واكتشفَ أنّ حارِس المبنـى قد انتحر! .. رمـى بجسدِه من السطحِ وانتحر !! . . مرّر لسـانه على شفتيه باستنكـار، شعرَ بقليلٍ من الضيقِ وهو يبتعِد، كيفَ لذلك العجوزِ الذي كـان يرى فيه الوقارَ وحبَّ الحيـاةِ أن ينتحِر؟ لا يُعقــل !!
وصـل إلى حيثُ كـان واقفًا معهن، عقدَ حاجبيه فجأةً حين وجَد المكـان فارغًا، التفتَ بعينيهِ يتأكّد، ربّما كـان مُخطِئًا بالمكـان ، أو . . . .
مرّ على ملامِحه قلقٌ عنيفٌ وهو يبحثُ بعينيه، تحرّك بخطواتٍ سريعـة، لا يرى إحداهنّ! لم يخطئ بالمكـان، نعم يدرك أنّهن كـنّ واقفـاتٌ هنـا ... لمْ . . .
توقّف فجأةً بصدمةٍ وهو يلمـح من قريبْ جيهان ، تقفُ مع فواز من جديد ، ولربّما لمراتٍ كثيرةٍ لا يُدركها . . .


.

.

.


ضمّت ليـان بقوّةٍ إلى صدرِها، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تدفَن وجهها فيها ، وتهمسُ باختنـاقٍ لا تدري كيفَ تقولُ تلك الكلمـاتَ بثباتٍ رغمَ أنّها خائفة، لا تدري كيفَ كـانت لا تهتزُّ كارتعاشاتِ قلبها : رح تكونين بخير .. راح نكون كلنا بخير.

،

: الرجّال ما يبدّل كلمتـه.
نظـر لها من زاويـةِ عينيه بطريقةٍ أرعبتها ، رفـع حاجبـه وهو يبتسـم ببرودٍ ساخِر، ابتسامةً كـانت تحمل من خلفِها وعيدًا جارفًا : صح ، الرجاجيل بعيونك اللي يروحون للحـرام ، أمثال اللي أرخصتِ عمرك له.

،

عقدَ حاجبيه فجأة، اعتلَت على ملامِحه نظـرةُ الاستنكـار، ما بـاله لا ينظُر إليه؟ يُشيح نظراته عنه منذُ البدايـةِ وكأنه لا يريد النظر إلى وجهه!
متعب : شاهين! .. شفيك؟ ليه قاعد تبعِد عيونك عني!



انــتــهــى

حِرصت إنّه ما يكون فيه قفلات قويّة ،عسى بس أفلحت

اللي دايِم يوصّوني بظهور سلمان ، أدهم ، إليـن ... الخ . . . صعبة أظهرهم بغير وقتهم!

+ نلتقي إن شاء الله بعد أسبوعين ، بحدّد لكم اليوم بالضبط بعدهم ، " نزلت هالبارت وحاولت أجتهد فيه بنيّة اسعادكم، وبنيّة إن هالسعادة تكون عمل صالح أدعي فيه لي بالتوفيق بالميد " يا رب عاد يفرّحكم ، ودعواتكم لي ()


ودمتم بخير : كَيــدْ !

أبها 29-10-16 08:41 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
سلمت يمناك كيد ..

ربي يفتح عليك ،ويسهل أمورك .

بانتظارك ان شاءالله .

fadi azar 29-10-16 11:47 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
مشكورة على الفصل الرائع

كَيــدْ 14-11-16 12:03 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



السلام عليكم والرحمة ، صباح الخير جميعًا . .

عذرًا على الانقطـاع هذهِ الفترة الطويلة ، ولأني ما تواصلت معكم بالمنتدى بشكل مباشر واكتفيت بالتواصل بالآسك ، كان من حقكم أعطيكم موعد التنزيل هنا بعد :*
بس يمكن أعتبر للموضوع جانِب مشرق إنّي ما حكيت عن الميعاد هنا واللي كان من المفترض قد مرّ ومعه البارت ،
البارت جاهِز أعوائي ، فقط أعانِي مشكلة بسيطة في اللاب أحاول أحلّها بأسرع ما يمكن ومن ثمّ سيكون بين أيديكم إن شاء الله . . .


دمتم بخيرٍ دائمًا ،

كَيــدْ 15-11-16 03:25 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 







سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحّة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(83)*3




قضيّتنـا شائكة، لم نكتشِف شيئًا من ألغازها، عُقدتها لم تُحلّ حتى الآن وصِيتُها شـائعٌ في مستعمرتنـا، نحنُ من ارتكبناها ونحنُ من خطّطنا لجعلها بهذا التعقيد ، جريمتنا فينا، لم نُسيء لأحدٍ بل أسأنا لنفسنا، مارسناه علينـا بداعـي الكبرياءِ ربّمــا ، وكُتبَ عنوانها على ملفّها : ابتعاد!
كـانت قدْ صدّت عنهُ فقط دون أن تضيفَ شيئًا وحين جاءها سؤاله الذي لفظَه بداعِي الاستفزاز " اشتقتِ؟ " نظـرت لهُ من زاويـةِ عينيها بقهر، كلمـاتٌ تلفظُها في صراعٍ يُدركُ منـه " نعم " ، رغمَ أن ما قالته في عينيها هو غضبٌ واستخفافٌ بهِ وكأنها تكذِّبها، وكأنها تصـارعِ الحقيقةَ ببراعةٍ والواقــع عكسُ ما تظنّ، تكذبُ بحدقتيها المشبعتينِ بِه حيـاةً ووجودًا وألمًا آخر!، ومن الجهةِ الأخرى، يقرأ فيهما بسهولةٍ الإجابـة الحقيقية بملء الصفحـاتِ الواضِح فيها انحناءاتِ قلمٍ غُمسَ في محبرةِ الوضوحِ لأنها جيهان ، جيهان فقط! والتي يدركها كما يُدركُ نفسه . .
أمـالت فمها، رفعَت حاجِبها بازدراءٍ لتلفظ : تقولها دايم وكأنك تقرّر واقـع .. ما تحس نفسك أوفر؟
ابتسمَ فواز دون تعبيرٍ وهو يهتف : أثبتِ النفي .. أتطلّع لهالشيء.
تشنّج فكّها وطلبهُ الأخير والساخر استفزّها، إن كـان يرى الحقيقةَ فيها، فكيفَ تثبتُ وعينيها وكلّ ما فيها يتمرّدُ ويفضحها؟ كيفَ تُثبت !!
طـالت النظـراتُ بينهما حتى رفـع حاجبهُ الأيسـر، وحين أفرجَ شفتيه ليلفظَ بشيءٍ ما بهتَت الكلمـاتُ في فمِه ما إن تراءى لهُ يوسف خلفها مباشرة ! وعينيهِ رغمَ البرودِ فيهما قرأ في زواياهِما غضبًا، واعتراضًا ممّا يراه الآن، من وقوفِه معها ووقوفها معه بكلّ هذهِ البساطةِ ودون حدود . . عقدَت جيهان حاجبيها بتوجّسٍ من نظراتِه التي التحمَت بالخلفِ لثوانٍ قصيرة، لم تجفـل كثيرًا حين استشعرت عدمَ الاطمئنانِ واستدارَت مباشرةً لتصتدمَ عينيها بيوسفَ وتشهقَ شهقةً دون صوت، فقطْ صدرها ما ارتفعَ في نفسٍ حادٍ لم يصدُر معهُ رنينٌ يُنبئ بحدّته، تجمّدت حواسُّها بعدَ تلك الشهقةِ الصامتـة، اتّسعت عينـاها رويدًا رويدًا وهي تراقبُ ملامِحه الجامدَة بتعبيرٍ لم تفهمْه، رغمًا عنها أخفضَت رأسها بعدَ لحظـاتٍ قليلة، داهمها شعورٌ بالخزيِ بعدَ صدمتها برؤيتـه، انبثقَ في جلدها قشعريرةٌ جعلتها تقبضُ كفيها والحديثُ الذي دارَ بينها وبينهُ في غرفته تكرّر الآن على مسامعها ليُشعرها بعظيمِ قُبحها أمامه الآن. ابتلعَت ريقها لتُفرجَ شفتيها، تريد أن تبرّر، تريد أن تقول لهُ أيّ شيءٍ ولا تملكُ تبريرًا، لكنها في النهاية همسَت بوهن : أنـــا ...
قاطعها يوسفْ بصوتٍ صلبٍ جافٍ لا يحمـل أيّ تعبير : بنرجـع .. امشي معي.
ارتعشَت أهدابها بتوترٍ لتومئ دون أن تنبسَ بكلمـةٍ أخـرى، شعرت بالخوفِ لكنّ شعورها بالخزي الآن كـان أكبر، تحرّكت بخطواتٍ منكسرِةٍ ليستديرَ يوسفْ دون أن ينظُر حتى لفواز الذي كـان قد ارتبكَ من خلفِه، لم تكُن نظراتُ يوسِف قد سقطَت عليه أبدًا طيلةَ وقوفه، شعر بالحرجِ وهو يقبضُ يديه بقوّةٍ ويهتفَ بصوتٍ معتذر : عمـي ، . .
لم يسمحْ لهُ هو أيضًا بالمتابعـة، باغتـه بجملةٍ أخـرى، بأمرٍ من نوعٍ آخر بعيدًا عن الطريقةِ التي أمرَ بها جيهان، هذهِ المرة نظَر إليه من زاويةِ عينيه بغضبٍ مكبوتٍ حـاد، دون أن يلتفتَ بكامِل جسدِه ... وبصوتٍ رغمَ حدّته كـان خافتًا، أوقـع في قلبيهما من حدّته الكثير : دق بـابــي .. عشان لما توقف مرة ثانية معها تكون حلالك.


،


قبل وقت، راقبتها بعينينِ يائستينِ وهي تراها تبتعدُ متجاهلـةً ما قالـه يوسف، لم تستمِع لها ولم تكُن هي لتتبعها فهي لا تضمن أن لا يأتِي والدها بعد قليلٍ ولا يجِد أحدًا . . زفـرت بأسى وهي تنظُر لليـانْ التي كـانت تنظُر حيثُ ذهبت جيهان بصمت، وبتمتمةٍ هتفت : يعني ما يمديه أبوي يرضى عليها ترجع تخربها !
استدارتْ إلى ليـانْ بكامِل جسدها وهي تزفُر، تغمـض عينيها بقنوط، لا فـائدةَ ترجى، رغـم أنّها تغيّرت بشكلٍ نسبيٍّ إلا أنها لازالت تحمِل الكثيرَ من تهوّرها أو على الأصحْ عدمَ السيطرة على انفعالاتها والتي تجعلها تتهوّر لما لا يُحمَد عقباه.
أرجوان بيأسٍ تُحادِث ليان : اسمعي ليّون ، لو رجعَت قبل يجي أبوي لا تعلمينه إنها راحت عنّا طيب؟
أومأت بصمت، بينما عضّت أرجوان شفتها السُفلى، كتّفت ذراعيْها، وطـال وقوفها انتظـارًا دون أن تأتِ، يا الله! .. لا تتخيّل ما سيحدُث إن جـاءَ يوسِف ولم يجِدها ! .. رفعَت حقيبتها كيْ تُخرجَ هاتِفها وتتّصل بها، وحينَ كـانت تبحَثُ عنه مرّت منها عاصفـةٌ هوجـاءَ اقتلعَت في غضونُ ثوانٍ حقيبتها من يدِها، شهقَت بصدمـة، لم تكُن صدمتها كافيـةً كيْ لا تستوعب أنّ العاصفـةَ التي جاءَت لم تكُن سوى سرقـةٍ هوجـاءَ في هذا الزحـام.
لم تشعُر بنفسها إلا وهي تصرخُ صرخـةً كـانت كافيـةً لجّذبِ بعض الأنظـارِ إليها، وأقدامها كردّةِ فعلٍ عشوائيّةٍ وبديهيّةٍ تحرّكت بسرعةٍ خلفـه : robbeeeeeeeeeeeeeer !!


،


وقفَ يوسف في المكـان الذي كـانوا يقفونَ فيه قبل أن يذهبَ هو لتفقّد ما حدَث، لم ينبس ببنت شفة بعدَ أن ابتعدَ وهي عن فواز، بينما كـانت هي تنبسُ بأحاديثِ الضيـاع، تنغمِسُ سفينةُ إدراكِها في بحرِ التيه، هل ما قـالهُ لفوّاز حقيقي؟ هل رمـى إليهِ معنى الاتيـانِ إليها من جديد! هل ... هل يريد أن يُعيدها إليه؟!
تلك الكلمـاتُ الآمرةُ رنّت على مسامِعها سمفونيّةً مهتزّة، سمفونيّةً رغـم اهتزازها أنّت بوجَع! أوتـارُ صوتِها انقطعَت رهبـةً، لحـنُ الثباتِ تهاوى في صدمةِ الضيـاع ، لا يُمكن أن يفعلها! لا يُمكـن أن يفعلها ! ..
ارتعشَت شفاهُها باختنـاق، تنظُر للأرضِ وورقـةٌ سقطَت من شجرةٍ مـا كـانت تُلامِس أقدامَها، ورقـةٌ تخلّى عنها غُصنها، تخلّى عنها مأواها. ابتلعَت ريقها وغصّةٌ تتضخّمُ بتكتّلها في حلقها، مرّت عيناها بضيـاعٍ على تقاسيمِ الأرض، كـانت تلك الورقةُ وحيدة، كـانت وحيدة! هل يعاملها والدها كورقةٍ وحيدةً يومًا! ويتخلّى عنها فقطْ ليُعيدها إليـه في حجّةٍ رغـم أنها لا تستطِيع مجابهتها خزيًا لكنّها لا تكفي !
همسَت بصوتٍ لم تدرِي إن كـان وصلَ إليهِ أم لا، إن كـان واضحًا أم مختنقًا، إن كـان يصِل بمماتِه الوجُود : تبغى ترجعني له؟
في تلك اللحظـةِ كـان يوسف يحرّك أحداقه بحثًا عن أرجوان، كـان غاضبًا رغـم صمتِه وهدوءِ وجهه، كـان غاضبًا من أحداثِ ما قبـل لحظـات، لكنّه فقطْ كـان صامتًا وهو يسيرُ مع جيهان إلى هنـا وكأنه تعبَ منها بعدَ وعودها لهُ بأن لا تفعلها من جديد، وبعدَ فرصتـه لها.
وصَل إليه صوتُها الخافِت ليوجّه عينيه مباشرةً نحوها، عقَد حاجبيه وكأنه استهجَن سؤالها، كيفَ تمتلكُ الجرأة لتسأل؟ كيفَ تمتلكُ الجرأةَ لتخوضَ أكثـر في بجاحَةِ ما فعلت؟
رفَع حاجبهُ ليلفظَ بنبرةٍ متهكّمة : ما راح أجبرك ، بس لو جاء ما راح أرفضه ويبقى الجواب منك .. وأعتقد بتوافقين .. لو ما وافقتِ فما أدري وش أقدر أسمّي اللي شفته من شوي.
ابتلعَت ريقها من جديدٍ وهي تنظُر للأرضِ بأحداقٍ مهتزّة، ماذا سيسميه؟ أن تكون قريبةً بذلك الشكلِ من رجلٍ إن جاءَ يريد الزواجَ منها سترفضه! . . أكملَ يوسفْ بخيبة : انصدمت فيك بما فيه الكفاية، بس ما راح أكسرك رغم كل اللي سويتيه.
شتّت عينيها وهي تشعُر بالاختنـاقِ يتفاقَم، تسلّلت زفـرتهُ الحارقةُ إلى مسامِعها، ومن ثمّ صوته الذي لفظَ بغضب : وين راحت هي بعد !


،


في جهةٍ أخرى، توقّفت أرجوان وهي تنحنِي للأسفـل واضعـةً كفيها على ركبتيها، تتنفّس بسرعةٍ وبصوتٍ عالٍ، تشعُر أنها فقدَت الأكسجين الذي كـان في دمها كلّه من الدقائق التي ركضتْ فيها خلفه! رفعَت رأسها وهي تمرّر أحداقها هنا وهناك، شفاهُها منفرجـةٌ يعبُر من بينهما الهواء، فقدَته، لم تعُد تراه على بعدٍ تستطِيع حاسة النظر أن تصلها . . ضربَت كفّها المقبوضَة على فخذِها وهي تشدُّ على أسنانِها، لازال صدرها يرتفعُ ويهبطُ بشدَّة، اعتدَل جسدها في وقوفه، رفعَت جذعها وهي تُحيطُ ذراعها على خصرها، وبتمتمةٍ مقهورة : حسبي الله ونعم الوكيل ..
أغمَضت عينيها للحظـات، توقّعت أن يُمسكه أحد، أن يساعدها أحد، حتى الأيادِي التي حاولَت إيقافـه حينَ كـان يركضْ استطـاع أن ينسلَّ منها بعنف، للمرّةِ الثانيـة تقعُ فيها ضحيّةَ سرقةٍ ساذجَة! . . مررت لسانها على شفتيها وهي تفتحُ عينيها وتنظُر من حولِها، يهبطُ الأدرينالين بعدَ أن ارتفعَ بقوّةٍ في الدقائق القليلة، تهدأ أنفاسها رويدًا رويدًا ، وتستوعبُ في وقتٍ متأخر ، متأخرٍ جدًا .. أنها ركضَت خلفَ ذلك الرجـل وغفلَت عن ليـان !
شهقّت بقوّةٍ وهي تضعُ كفّها على فمها، عـادَ الأدرينـالينْ مرتفعًا بشدّةٍ مع نبضاتِ قلبها التي تسارعت بقوّة، يا الله ليــــان !!
دارَت حولَ نفسها بضيـاعٍ وهي توسّع عينيها قبل أن تعودَ بهرولـةٍ إلى الطريقِ المعاكـس ، كيفَ غفلَت ، كيفَ غفلَت عنها؟ بالتأكيد لم تكُن لتقفَ في نفس المكـان، بالتأكيد تبعتها بشكلٍ تلقائيٍّ ولم تتمكّن بالطبْع من مجاراتِها .. همسَت باختنـاقٍ وصوتٍ بُحَّ وانزوى خلفَ ضبـابِ اليأس : يا رب ظلّت بمكانها ، يا رب إنها ظلّت هنـاك ! . .
سارَت مسافـةً إلى حيثُ كـانت تقف، وفي أثناءِ سيرِها السريعِ كـانت تبحثُ بعينيها علّها تجدُها قريبـةً بعدَ أن لحقتها!
مرّرت لسانها على شفتيها، رمشَت بعينيها مرارًا وهي تقِف في مكانِها، قبل أن تبتسِم فجأةً ابتسامةً اتّسعت بسعادةٍ وهي ترى ليانْ تقفُ وبجانِبها رجلٌ يُمسكُ بيدِها، لم تهتمّ له كثيرًا وهي تتقدّم بخطواتٍ واسعـة إليها، وكلّ ما جـال في عقلها أنّه بالتأكيدِ رآها طفلةً ضائعـةً فبقيَ معها حتى يجدها ذويها ، كـانت ابتسامتها تُشرقُ أكثر براحةٍ وهي تقتربُ منهما، تحرّكت الرجُل فجأةً وليـان تسيرُ معه بشكلٍ تلقائيٍّ من كفّه المُمسكةِ بها، لينحنِي أخيرًا ويحملها وكأنهُ ضجِر من بُطئِها.
عقدَت أرجوان حاجبيها بريبـة، تسارعَت خطواتها أكثر، انقبضَ قلبها بعنفٍ مُفاجِئ وهي تشهقُ دون صوتٍ ما إن رأتهُ يدخُل إلى إحدى المبـانِي المجاورةِ وهي معَه .. ما معنـى ذلك ! . . اتّسعت عينـاها وخطواتُها تتباطَؤُ بجفول، هنـاك أمرٌ خاطِئ! تستشعرُ مقاليدَ الخطأ، أو على الأحرى الخطر ! كـان من المفترضِ أن يبقى يبحثُ معها بين العامّةِ إن كـان هدفهُ البحث! لمَ إذنْ قد يتّجه للاختبـاءِ بعيدًا عن أنظـارِ الناس !
ابتلعَت ريقها بربكـةٍ ومئةُ فكرةٍ تغزُو عقلها، مئاتٌ من الاحتمالاتِ المُمكنـةِ لأهدافِه ، ماذا؟ ماذا بالضبط ! .. أم تذهبُ خلفهُ وتتأكد! قدْ تكون أساءت الظن وقد . . .
قاطعَ أفكارها المتشتّتة، والمتداخلـةِ في غياهِب الذعرِ صوتٌ آخـر من الخلف، صوتٌ غيرَ صوتِها الداخليِّ والذي كـان يصرخُ تارةً خوفًا على ليـان، ويهمسُ تارةً مُطمئنًا لها أنّ كلّ شيءٍ بخير! وهي قد أساءت الظن وحسب.
صوتٌ آخـر ، ضاعفَ الذعر فيها أضعافًا . . .
: تجّار أعضــاء . .
اتّسعت عينـاها رويدًا رويدًا ، رعشـةٌ تسلّلت في جسدها ببطء، رعشـةٌ احتلّت مواطِن النبضِ في جسدها لتتحوّل من طبيعةِ النبضِ إلى انتفاضاتٍ أشبـه بصرعٍ قلبيٍّ أصابها بموجـةٍ عاتيـةٍ من الفراغ، وكأنّها الآن فقدَت جزءً من ثباتِها عند تلك المعلومة التي همَسَ بها صوتُه ببرود، أجابها إجابـةً كافيةً لتُدركَ معانِي " تجارة الأعضاء " هذِه . . .
ارتعشَت شفاهها، أصابعها بردَت، تسلّحت بثلجيّةٍ باهتـة، وجسدها استدارَ نصفَ استدارةٍ عدا رأسها توجّه إليه بالكامِل، توجّه إليه بعينيها وحواسّها التي رجَته دون شعورٍ منها أن يكون مُخطِئًا ! .. مُخطِئًا وحسب!
ابتسمَ تميمْ ابتسامةً مستخفّةٍ وهو يدسُّ إحدى كفيه في جيبيه، كـان يبتعدُ ثلاثَ خطواتٍ منها، يقرأ تعابيرها بوضوح، تعابيرها الواهنـة والتي لم تكُن كذلك يومَ حشرها في زقاقٍ وحادثها بتهديداتٍ أخافتها، إلا أنها ظلّت ثابتـة، متسلّحةً بالقوةِ رغـم خوفِها، والآن ، كـان ما ظهر أمامه هو اهتزازٌ ضعيف، اهتزازٌ ظهر منها حينَ مسّ الخطرُ من تحبُّ وليسَ هي !
لفظَ بسخرية وهو يرفعُ كفّه الأخرى : عشان هذا نسيتيها وراك .. كفو والله . .
ارتفعَت حواجِبها بصدمةٍ وعيناها تنزلقانِ إلى يدِه التي كـانت تحمِل حقيبتها، ارتفعَت من جديدٍ إلى وجهه، ومن ثمّ عادَت إلى يدِه دون أن تستوعبَ ما معنـى ذلك !!
مالَ فمهُ للأسفلِ بسخريةٍ وهو يهتف مُجيبًا حيرتها : أتمنى ما تكونين غبيّة وتظنين للحظة إني السارق أو اللي أرسله ! .. تطمّني يا حلوة ، أسترجعتها منه بالقوّة بس ... عشان عيونك.
تراجعَت للخلفِ وجسدها تشنّج بنفور، نارٌ عنيفةٌ اشتعلَت في عينيها بغضب في خضمِ التشتّت الذي كـانت تعيشه، بينما ضحكّ تميمْ وهو يرمِي الحقيبة باتّجاهها لترتفعَ يديها بردّةِ فعلٍ تلقائيّة هي تشهق، كادَت تسقُط من يديها إلا أنها انحنَت وتشبّثت بِها بقوّةٍ وجسدها المُنحنِي ظلّ كمـا هو، تنظُر للأسفـل بعينينِ مصدومتيْن، لا تريد أن تستوعِب، لا تريد أن تستوعِب أنّ ما يحدُث الآن حقيقة! ليان قريبـةٌ منها لكنّها في خطـر، بين أيدي تجّار أعضـاء انتزعَت من صدورهم الرحمـة، ما الذي فعلته؟ يا الله كيفَ انفعلَت في لحظـةٍ خاطفـةً لتتبعَ السارقَ دون شعورٍ ونسيّت أنها ليسَت وحدها !
شعرت بأقدامِه تتحرّك، صوتُ خطواتِه وصَل إلى مسامِعها، يدهُ الأخـرى والتي كـانت مندسّةً في جيبِه خرجَت حاملةً هاتِفها، لم تتحرّك! ظلّت كمـا هي، جامِدة، تجتاحُها رغبـةٌ لتبكِي هذا الضيـاع الذي لفّها، ماذا تفعل؟ ماذا تفعلُ فقط!
ثوانٍ قليلـةٌ حتى تحدّثَ صوتُه بهدوءٍ آمـر، رفعَت رأسها ببهوتٍ وكأنها لم تستوعِب ما كـانت تسمعْ، بضعُ كلمـاتٍ فهمتها، لكنّها كـانت كافيـة .. بضعُ كلماتٍ في الواقعِ لم تستوعِب مقصدَه فيها كما يجب !
كـان يتحدّث باللغـةِ الانجليزية، ما فهمته أنّه يطلبَ من رجلٍ ما أن يرسـل إليه مساعدةً ومن ثمّ قدّم لهُ إحداثيـاتِ المكان الذي كـانوا فيه . . . فغَرت فمها وهي ترفعُ جذعها لتقفَ كمـا يجِب، تضمُّ حقيبتها إلى صدرِها وعيناها المتسائلتينِ تنظُران إليه دون فهْم ، هل يُريد أن يساعدَ ليـان كما فهمَت أم مـاذا !


،


تنظُر من حولِها بضيـاع، كـانت الإنارةُ خافتـةٌ هنـا لا تستمدُّ الضيـاءَ إلا من نورِ النهارِ الذي يتسلّلُ ضئيلًا عبر النافذة المُحطَّمِ زُجاجُها ، أصواتُ حديثٍ عابـرةٌ إلى مسامِعها في نقاشٍ هادِئ، تنظُر لذاك الرجـل الذي أحضرها إلى هنا وهو يتحادَثُ مع آخر، تقطّبُ ملامِحها البيضاء دون أن تفهمَ شيئًا من لغتهما تلك، يضحكُ ويردُّ عليه الآخر بضحكةٍ أخـرى صاخبـة . .
نظَرت للبـابِ المفتوحِ بضيقٍ من مكوثِها هنا، وخوفٍ في اللحظةِ ذاتها! رغـم أنها لم تقاومْ حينَ أحضرها معه، لكنّها الآن بدأت تشعُر بقليلٍ من الخوفِ يتضخّم رويدًا رويدًا من هذا المكـان الغريب، من وجههما الغريب دون أن يكون هناك زخمُ وجوهٍ كمـا في الشارع، ضحكتهما المُرعبـة أيضًا ّ!!
ارتبكَت ، أرادت أن تنهضَ من حيثُ جلوسها لتخرج، لكنّها في الوقتِ ذاتِه شعرتْ بالخوفِ من أن تسيرَ وحدها في مكانٍ شبه مظلمٍ لا تعرفـه، نظـرت للرجُل الذي أحضرها إلى هنـا وكأنها تطلبُ منه أن يخرجها، رغـم أنها خائفةٌ من الاثنين لكن لكونها حضرت مع أحدِهما فخوفها منه أقل، ولا تمـانع أن تخرج من هنا معه كما دخَلت معه كذلك.
لم يكُن ينظُر نحوها، ينغمِسُ في أحاديثِه مع الآخر، وضعَت كفّها على الأرضِ المُمتلئةِ بالغبار، ضغطَت عليها كي تسندَ نفسها للوقوف، حينها انتبـه لها أحدهما، ليسَ الذي أحضرها بل الآخر .. ابتسمَ لها وهو يرفـع حاجبه، ومن ثمّ تحدّث حديثًا ساخرًا لم تفهمْ منه شيئًا للغتـه غير العربية : قد تهرب !
نظر له الآخر وهو يضحك : إنها طفلة .. لا تتوقّع منها أن تقاوم.
كـانت تنظُر لهما بضياعٍ ودون فهم، وقفَت بشكلٍ بطيء وهي تعقدُ حاجبيها، خطَت بتردد إلى الذي أحضرها، لكنّها لم تتمكّن من الوصولِ إليه لبعض الخوفِ الذي كـان يعتريها، وقفَت على بعدِ خطواتٍ منه ومن ثمّ نظـرت للغرفـةِ من جديدٍ بخوف لتعيد نظراتها إليهِ أخيرًا وتلفظ بخفوتٍ باكي : أبغى أرجوان.
لم يفهمها، لكنّه اقتربَ منها وهو يرفـع حاجبه ويهتفُ موجّهًا حديثهُ لمن معه : متى سيصلُ ذلك الأحمق .. بدأت تخاف وستُرهقنا حين نخرج.
ما إن وقفَ أمامها حتى تراجَعت ليـانْ خطوةً خائفةً للخلف، لكنّه أوقفَها حينَ وضع كفيه على كتفيها وجلسَ القرفصاء أمامها ليبتسمَ محاولًا تهدِئة خوفِها، قوّست فمها مستعدّةً للبكـاء، حينها دسّ يدهُ بسرعةٍ في جيبهِ الخلفيّ ليُخرجَ قطعةَ شوكلاة مغلّفة ومن ثمّ مدها إليها ، لكنّ خوفها في تلك اللحظـةِ لم يكُن ليُخرسه شيءٌ كهذا ! لربّما لو كـانت أصغر ذي ثلاث سنينَ ستنطلي عليها حيلـةُ الشوكلاة هذِه، لكنّ طفلةً ذات سبعِ سنين تحتاجُ لما هو أكثر إغراءً كيْ تطمئنّ حواسها مع الغربـاء، طفلةٌ ذات سبعِ سنينَ يكفيها أن تفهم أنّها في موضعٍ مُرعِب.
بكَت فجأةً بقوّةٍ ليقفَ الرجُل موسّعًا عيناهُ بغضب وهو يشتُم ، رمَى الشوكلاة ومن ثمّ دسّ يدهُ في جيبِ سترتِه هذهِ المرّة كيْ يُخرجَ قنّينةً زجاجيـةً احتوَت مخدّرًا أرادَ استخدامه كحلٍّ أخيرٍ بعدَ أن ظنّ أن هدوءها وطواعيتها سيكفيانه، لكنّ حركـةً من ليان التي تراجَعت تريد أن تخرج جعلت يدهُ ترتبكُ وتسقطَ القنينةَ قبل أن يُخرجها من جيبِه كما يجِب، شتمَ من جديدٍ شتيمةً بذيئةً صارخـة وهو ينظُر لقنينةِ التي تحطّمت وتناثرت شظاياها بجانِب قدميه، صرختـه تلك جعلت ليـانْ ترتعبُ أكثر، تراجعَت وهي تنظُر لهُ بذعر، في حين رفـع هو رأسه إليه بشرّ ، ملامِحه التي كانت وديعةً قبل لحظـاتٍ تلاشَت وحلّ محلها تعبيرٌ شيطانيٌّ أرعبها أكثر، ارتعشَت وهي تعودُ خطوةً أخرى للخلف، بينما اختـار ذاك هذهِ المرّةَ أن يرفـع يدهُ ويلجأ لضربها كيْ يُخرسها.


،


مُستلقٍ على السرير، إحدى كفيهِ يدسُّها أسفل رأسه والأخرى تُمسِك بالهاتِف الموضوعِ بجانِب أذنه : زمـان عنّك يا أخْ .. وينك فيه الحين؟
من الجهةِ الأخـرى بصوتٍ فاتِر : مالي خلق أحد .. بتّصل فيك بعدِين.
رفـع أدهم حاجبهُ الأيسـر ليلفظَ باستنكـار : الشرهة مو عليك على الحمار اللي مضيّع وقتي يحاتيك ومتّصل فيك وفوق كذا تقوله مالي خلقك!
متعب يتنهّد دون حيـاة، وبهدوءٍ فارغٍ يصحّح له : مالي خلق أحد .. مو إنت بعينك.
أدهم بتعجّب : وش فيك؟
متعب : إن شاء الله خير.
أدهم : يعني صاير شيء؟
متعب وكأنه كان ينتظر أحدًا حتى ينفجِر بانفعالاتِه التي ظلّت تموجُ في دمِه أدرينالينًا متأجّجًا بحرارته : شاهين .. الأخ أتّصل عليه وما يرد من أمـس ..
أدهم باستنكار : وهذا اللي مضيّق خلقك؟ من جدّك أنت !
متعب بغضب : وشفيه – هذا – بعد؟
أدهم بسخرية : مستواك العصبي في تدنّي .. الحين لأنه ما يرد عصّبت وزعلت وانفعلت يا الكيوت أنت؟!
لم يكن له مزاجٌ لسخريةِ أدهم، لذا فسّر على مضض : كلمته أمس ، وقفّل بعد ما التقى بواحد فيهم ومن وقتها وهو ما يرد عليْ في النهاية جوّاله تقفل! ..
فقدَت ملامِحه سخريتها وهو يعقدُ حاجبيهِ ويجلسَ تاركًا للجدّيةِ أن تتسلل إلى نبرةِ صوتِه الذي لفظ : التقى فيهم؟ مين تقصد!
متعب بفراغ : مو متأكد .. بس مافيه تفسير ثاني .. سمعت يكلّم واحد وكلامه معه شكّكني إنه منهم .. بيضرّونه بسببي !
مرّر أدهم لسانه على شفتيهِ ليشتّت عينيهِ بزوايـا الغرفـة، لا يحتـاج الكثيرَ من التفسيرِ حتى يفهم من يقصدُ بالضبطِ بصيغةِ جمعٍ غائبٍ زخمَت بالأسـى والقلقِ أضعافًا، لا يحتـاج كثيرًا من التفكيـر ليدرك من " هم " .. هتف بصوتٍ هادئٍ يحاولُ بها أن يطردَ القلقَ عنه : مو شيء أكيد، قلتها ، منت متأكد .... وكونه ما يرد ما يعنِي بالضرورة إنّه مو بخير!
أغمضَ متعبْ عينيه، كـان يجلسُ على كرسيٍّ حمِل من ثقلِه ثقلًا آخرَ في صدرِه، تندسُّ بينَ أضلاعِه كحويصلاتٍ تمنـع الفراغَ المتواجِد بينها، في حنجرتهِ كسدٍّ منيـع عن عبورِ الهواءِ عدَا من بؤرةٍ صغيرة ، يعبُر منها الأكسجين بصعوبة .. أعـادَ ظهرهُ للخلفِ وهو يتنهّدُ تنهيدةً مُثقلةً بالضيقْ، وبخفوت : قلبي قارصني .. ما أتخيل أفقد واحدْ منهم قبل لا ألتقي بالثاني!
كـان يقصد بالثاني " أمه ". صمتَ أدهم بينما تابَع متعب بيأس : جربتْ شعور " المصائب لا تأتي فرادي " ، وش عظم هالخيبة عشان ما تصير الأفراح لا تأتِي فرادى بعد؟ وش هالدنيـا الكئيبة ، الموحشة ببخلها؟
زفـر أدهم وهو يُخفِض ساقيهِ عن السريرِ ليُلامِس بقدمِه العارية برودةَ الأرضية، وبأمر : اششش اسكت لا تزعجني ... لا تغنيلي الحين موال سخيف بروح بيتكم ومتأكد إنه بخير بس يمكن جواله انسرق، نايم لهالوقت، مشغول بشيء وما انتبه له .. فكّر بالإيجابيات قبل السلبيات .. لا تصير كئيب.
زمّ شفتيهِ وهو يومئ وكأنه يراه، وبخفوتٍ وكأنه لا يملك الطاقـةَ الكافيـةَ ليعلو صوتَه بإجابـته : أعتمد عليك.
أدهم : فمان الله.
تحرّك وهو يزفـر بعدَ أن أغلَق الهاتِف ووضعه على الكومدينة، اتّجه للخزانةِ حتى يبدّل ملابسَه في اللحظـةِ التي دخَلت فيها إلين، التفتَ بعينيهِ إليها، بينما عقدَت هي حاجبيها باستنكار، إلى أينَ سيذهبُ الآن؟ لفظَت سؤالها ذاك باستنكارٍ وهي تتحرّك مقتربةً منه : وين رايح؟
أدهم يفتَح بابَ الخزانةِ ويُشيحُ بنظراتِه عنها وهو يُجيبها : بقابل حبيبتي السرية.
رفعَت حاجبها بغيظٍ من إجابتهِ المستفزة، وبحدّة : عن السماجة وين رايح؟
ابتسمَ وهو ينظُر إليها رافعًا حاجبيه : بشريني .. غرتِ؟
إلين : باقي فيه غبية تغار على جملة مثل هذي؟
أدهم : أتوق للحظة اللي تصيرين فيها ضمن فئة الغبيات.
اتّجهت ناحيـة التسريحة بعدَ أن التقطَت عيناها هاتِفها الذي دخلَت تبحثُ عنه، وباستخفاف : بعيدة عنّك يا حبيبي.
أدهم : لا تقولين حبيبي .. باردة على لسانك .. إذا صارت من قلبك قوليها.
إلين : أوامر ثانية؟
ابتسمَ وهو يُغلقُ باب الخزانة : سلامتك.


،


استكـانَ الصبـاحُ في عينيها، ملامِحها، خطواتِها التي حطّت على موجِ السكينـةِ في هدوءٍ آخـر يناقِضُ صخَب الأمواجْ، مينـاءٌ يبتعدُ رغـم خطواتِ السفينةِ الفاقـدةِ لرتابةِ الخطوات، تركضُ على عجـل، حتى الهرولةُ لم تعترفْ بها، لكنّها لا تصِل! .. هنـاك حزنٌ يتعمّقُ في أوصالِها، هنـاك حزنٌ يغمسُ نفسَه في وحلِ الساعاتِ الماضيـةِ والآن، هنـاك حزنٌ نمـا وتشعّبتْ جذورُه في قلبها باسـم " متعب " الشبيهِ ومتعب الفقيد.
هنـاكَ حُزنٌ لا يريدُ أن يضمُر بمجرّد الحقيقة، كيفَ تؤمنُ بالشبـه وقلبها يريد أن يكون هو؟ كيفَ تؤمن بالشبـه وروحها تريدُه في معجزةِ عودة.
لا تعلَم كيفَ شُفيَت من آلامِ البارحـة واستطـاعت المسيرَ خارجَ غرفتها باحثـةً عن شاهين، لكنّها في النهاية شُفيت وحسب . دخَلت للمطبَخ، في هذا الوقت من أيامِ إجازة نهاية الأسبوع كـان عادةً ما يجهّز لها الفطور قبل أن يتزوّج أسيل وانقطعَت هذهِ العادةُ قسرًا بعدَ زواجـه إذ حلّت أسيل عوضًا عنه، لكنّه بعدَ انفصالهِ عنها عادَ إليها.
قطّبت جبينها حينَ وجدَت المطبَخ خاويًا، تنهّدت لتلتفتَ وتخرجْ متّجهةً لغرفـة الجلوس، وكما توقّعت كـان هناك كخيارٍ تالِي. ارتخَت عقدَةُ حاجبيها باستغراب، كـان متمددًا على الأريكـة، يبدو نائمًا أو ربما كـانت هيئتهُ تنمُّ عن كونِه نائمًا، لمَ نـامَ هنا؟ .. اقتربَت منه باستنكـارٍ وحين وقفَت بجانِب رأسها وجدته بالفعلِ نائمًا، مُغمضًا عينيهِ وملامِحه لا يجدُ الاسترخـاءُ لها طريقًا، تجاعيد خفيفةٌ بينَ حاجبيه في عقدةٍ تخبرها جيدًا أنه غير مرتاحٍ في نومِه. شكّت أنه مريض، لذا وبشكلٍ تلقائيّ وبشعورٍ بالقلقِ ارتفعَت كفّها لتضعها على جبينه تقيسُ حرارته، شعرتْ بارتفاعٍ رغمَ ضآلتِه إلا أنه أرعبها، وضعَت كفّها على صدرها بانفعالٍ مباشرٍ وهي تهتفُ بخفوت : شاهيــن . . .
قاطعتها آهتهُ العاليـةُ وهو يفتحُ عينيهِ ويتحرّك مبتعدًا عن يدِها كردةِ فعلٍ تلقائيةٍ كيْ يهربَ عن الثقلِ الذي وطأ على صدرِه، رغـم أنها لم تضغَط بقوّةٍ إلا أن ثقل كفّها – الواهِنة – لم يكُن ليكُون كذلك على ضلعٍ مكسور.
تراجَعت كفّها بسرعةٍ وهي توسّع عينيها بخوف، نظـر لها شاهين بملامِح مرهقـة، ملامِح لم تستوعِبها بعد، اتّسعت عينـاه تدريجيًا ليجلسَ مباشرةً متحاملًا على آلامِه التي أخفاها وابتسمَ كيْ لا يوضحِها لها ويقلقها، وبصوتٍ مبحوح : صبـاح الخير.
ظلّت صامتـةً لوقت، تنظُر لهُ بملامِح واجِمة، كفّها تقبِضها أسفل صدرِها وعيناها تلتمعـانِ بشراراتِ القلق التي أدركها شاهين لتتّسع ابتسامته ويقف، لن يؤرقها لأجـل كسرٍ بسيطٍ سيلتئم خلالَ أسابيع، حتى تلك الآلام البغيضة والتي تغزوه قسرًا سيُغيّبها بالمسكناتِ التي يبغضها.
لفظَ بحُب : طوّلت بنومي .. وش تطلبين هالمرة على الفطور؟
مرّرت عينيها على وجهه، أخفضتها إلى صدرِه بصمت، تفقَّدته بعينيها بقلقٍ واضِح، بخوفٍ من أن يمسّه الضُر، دائمًا ما يهذّبنا الفقد، يجعلنا نُدرك قدرَه، نخافـه، ونحترمه أيضًا .. كلُّ المخاوفِ قدْ لا تُحتَرمْ عدا الفقدُ ينزعُ من شوكتِنا وخزَ الاستخفاف. من ذاق الفقدَ مرّةً يؤلمـه التفكير بتالِيه حتى قبل أن تجيء بوادره من جديد.
همسَت بصوتٍ كـان ميّتًا، انفعالها الداخلـيِّ لم يظهر فيه وكأنّ الفقدَ يرهقها بالتفكير بِه ويسحبُ قواها منها : مصخّن.
مرّر شاهينْ لسانـه على شفتيْه وهو يقطّب جبينه، رفـع كفّه ليتحسّس وجههُ وهو يبتسـم ويلفظ : يمكن داخلنِي برد .. ماني مصخّن مرة، لا تحاتين.
عُلا : وصدرك؟
اتّسعت ابتسامته أكثر وهو يمسحُ بهدوءٍ على صدرِه لافظًا : شفيه؟
كـان يتصنّع أنه لم يُدرك آهتـه تلك ، صوّر لها أن ذلك كـان تحت تأثيرِ نومِه بطريقةٍ أو أخـرى، ليسَ مصابًا بشيءٍ سوى أنّ آهتـه كـانت تعبيرًا لا معنـى لهُ سوى غيـابُ وعيهِ عن الدنيـا، ربّما فُجِع، كابوس ، أو أيُّ كذبةٍ سوى الألـم.
هزّت رأسها بالنفيِ وهي تضيّق عينيها بشكْ، تعودُ لبعثـرةِ أنظـارها على وجههِ وصدرِه .. وتصمت. تحرّك شاهين أخيرًا ليقتربَ منها أكثر، وقفَ أمامها لينحنِي بشفاهِه إلى جبينها مقبّلًا لهُ ومن ثمّ يكررُ بصوتٍ رقيقٍ غادرَته البحّة : صباحَ الخير، شلونك اليوم؟
ليسَت بخير، وضاعَف ذلك خوفُها الآن من الفقدِ بطريقةٍ مباغتـة، لمَ جاءتها فكرةُ الفقدِ حين رأتْ عقدَة حاجبيه وهو نائم؟ حين تحسّست حرارته، حينَ تأوّه لملامستها صدرَه، لمَ تنبّأت بالفقدِ وخشيته مباشـرة؟ .. ابتسمَت بفراغ، كـان لسؤالِه أبعادٌ أخرى، كيفَ حالكِ اليومَ يا أمّي بعدَ رحلـةِ الحُزن البارحة؟ أتمنّى لكِ الراحـة وأن يكون ألمـي الذي نمـا في صدرِي انتقالًا من قلبكِ إليّ، أتمنى أن ألمـي لن يكون دون فائدة تجاهك .. لا تتألّمي أرجوكِ، أريد أن أتألـم أنا فقط من بينكم ... آه! لو ينتـزعُ كلّ الأوجـاع، كلّ المشقّاتِ العابثـةِ على أنغامِ أنفاسِهم، على نبضاتِ قلوبهم، ويزرعها في صدرِه .. رغـم أنّه الآن ، رغـم أنّه الآن سيؤلـم متعب! .. عقدَ حاجبيه .. لا يدرِي لمَ تنبّأ بذلك، هل سيؤلمـه أكثـر من كونِه تزوّج بأسيل؟ لأجـل الكلمـاتِ التي لفظَتها أسيل البارحـةِ على ملامِحه بتلذّذٍ في إيلامه والانتقـامِ منه؟
" أنت أناني ولا زلت .... أنت أناني ، بينما هو لا، وفـي! وفـي لك، وإن مـا وفى لي. "
تردّد صوتُها، تردّد صدى انتقامِها ، لم يكُن مجرّد انتقـام، كـان حقيقة! تلَت الحقيقةَ التي كـان يدركها في أعماقِه، " كـان يحبني وكنت أحبه وظلّيت لهالوقت. " . . . ابتسَم .. يا الله ما أقسى تلك العبارات! نعم يا أسيل أنا أنانيٌّ بِك وأدرك الآن أن ذلك كـان ملخّص العقباتِ التي ستجيء مستقبلًا بيني وبينـه، وقد لا نتجاوزُها! .. الأمـر ليسَ بسيطـًا، مهما بلغت مكانته، كـانت تلك العقبـة أكبر.
همسَ بخفوت : بروح أجهز الفطور .. * تحرّك ليتجاوزها وهو يردف * كم الساعة؟ يا الله أكيد تجاوزنا وقت دواك.
تابعتهُ بنظراتِها بصمتٍ حتى تلاشى من أمامِ عينيها. " كـانت حياتك أثمن وما اهتميت لكونك تزوجتني " .. أغمضَ عينيهِ وهو يقفُ عند بابِ المطبَخ ، " قدرت تنجح بحياتك، تتزوج حتى أرملته! " .. عضّ شفتـه، يريدُ أن يطردَ صوتها، يريد أن يطردَ الانقباضاتِ التي توجِع قلبـه، يتجـاهل آلامَ صدرِه، يتجـاوزهُ رغـم أنّه كـان يجبُ عليه أن يسترخي، يستريحَ ولا يتحرّك ، لكنّه استطـاع، تحرّك واستطـاع أن يتجاوزَ آلامه، آلامُ الجسدِ تتداعـى، ماذا عن ألمِ الروح؟ ماذا عن كلّ ما سرّبتِه في روحِي يا أسيل واستطعتِ ببراعـةٍ أن تُحدِثي فيها شرخًا لن يلتئم، إلهي عالِج شرخِي بمعجزاتِ النسيـانِ الكاذبَة، أن أعودَ لما قبلَ عامـين، لا شيء بيننا! لا شيء، أن أتجـاوزَ تلك العقبـة،بعدَ أن أتجـاوزَ أوّل خطوَة، صدى صوتِها المتكرّرِ منذُ البارحـة.
كــنت أنـــانــي ولا زلــــــــــــت
كـــــــــــــنت أحبــــــــــــه وظلّيــــــــــــت لهالــــــــــوقت
يا الله ! فقطْ لتغادرنِي تلك الكلمـات مغادرةَ روحٍ تحتضـر من جسدِها، ليغادرنِي صوتُها من جسدي!
" كنتْ أحبــه وظليت لهالوقت ! "
فتـحَ عينيهِ وملامِحه يتعمّقُ فيها الوجُوم، تتبلّد تبلدًا كاذبًا ، يُكمـل سيرَه كمَن لم يعُد يسمَع خطواتَه حتّى، لم يعُد يسمـع أيّ شيء، كـان ذلك مظهرهُ بينما صوتُها لازال يحضُر كماردٍ يقضِي على هدوئه.


،


مزيدٌ من الوجوم، مزيدٌ من عدمِ الرضا، منذ الأمس وهي كذلك، لم يجِد منها ماهو أكثـر . . يبتسِم الآن وهو يراقِب صدّها عنه، تضعُ ساقًا على أخـرى وبين أصابعها جهاز التحكّم بالتلفاز، تقلّب ما بينَ القنواتِ باحثةً عن شيءٍ ما يُسلّيها ويجعلها تهربُ من نظراته.
منذُ عادا البارحـةَ وهي تواجههُ بجفاءٍ وحدّة . . تراجـع سيفْ بظهرهِ للخلفِ وهو يضعُ ساقًا على أخرى كمـا كانت، وببرود : صبي لي شاي.
لم تنظُر له، بل بشكلٍ مباشرٍ وقفَت لتتّجه للطـاولةِ وتصبّ لهُ الشاي، اقتربَت منه لتضعَ الكأس على طاولتـه ومن ثمّ التفتَت كيْ تعود، لكنّ يدهُ كـانت أسرَع، لم تشعُر إلا وهو يُمسكُ معصمها ليجذبها إليهِ حتى أجلسها على حجره، شهقَت بصدمةٍ لتحاولَ الوقوفَ مباشـرةً إلا أنه أحاطَ خصرها وهو يهمسُ بكلمـاتٍ هرولَت مع أنفاسه
إلى ظهرها فأذابَت بدفئها بشرتها السمراء : تماديتِ .. أنا ساكتْ عنك بمزاجِي.
ارتفعَت حواجِبها بتعجّبٍ من وقاحته، لم تلتفتْ إليه وهي تحاولُ النهوضَ هاتفـة : فيه أوقح من كِذا؟ فوق سوادْ وجهك عندك ال . . .
قاطعها سيف بسخرية : لو بنتكلّم عن سوادْ الوجه نتعب يا ديمي !
صمتت للحظـةٍ وهي تعقدُ حاجبيها، بينما ارتفعَت كفُّ سيفْ ليُزيحَ شعرها المُستريحَ جانبًا إلى كتِفها الأيمن، اقشعرّ جسدها من دفء كفّه ، حاولتْ الوقوفَ من جديدٍ وهي تلفظُ بنبرةٍ غاضبـةٍ إلا أنها أخفتْ منها الغضبَ وظهرت لمسامِعه باردة، لا تحمـل أيّ تعبير : يعني !
شدّ على خصرها ليسحبها قليلًا إلى جانِبه على الأريكة، إلا أنه لم يتركها لتنهضَ وتبتعدُ هاربـةً منه، بل أحاطَ خصرها بذراعه وهو يلفظُ بهدوء : يعني كلنا غلطنا على بعض بما فيه الكفاية.
أمالتْ فمها بسخرية، كادتْ تضحكُ في تلك اللحظـة لكنّ كل ما ظهر من بينِ شفتيها هو صوتٌ مختنقٌ بالسخريةِ والاستهزاء : نعم ! أنت صاحي وأنت تقولها . .
سيفْ ببرود : أيه .. ماركيز دي ساد لا تتوقعين يحط الغلط على نفسه وبس !
ديما : والنعم والله ! .. عارف قدر نفسك .. بس ما أسمح لك تغلّطني وأنا ما غلطت !
سيف : ما أبـي أرجع أكرّر المواضيع القديمة ، بس كان ممكن يكون حالنا أفضل من الحين.
عقدَت حاجبيها، يستفزّها! يقصد أن يستفزّها أم ماذا ! لا يعقلْ أن يكونَ جدّيًا بما يقول ، بدأت تغضبُ بالفعل، لكنها كبتت غضبها وهي تلفظُ ببرود : كل تمرّدي كـان كردّة فعل ... على الأقل ردّة فعلِي ما كانت غبية مثل ما سوّيت أمس ... ما كانت تصرّف طالع من مراهق!
كـاد يبتسِم، لكنّه غلّف وجهه بالجمودِ وهو يرفـع أحد حاجبيه هاتفًا دون مقدّمات : تواصَلت مع دكتورتك أمس بخصوص إمكانيّة حملك بهالوقت . .
اتّسعت عينيها بصدمـة، شعرَ بتشنّج جسدها بجانِبه، هذهِ المرّةَ ابتسمَ بتحدّي ما إن هزمَت قوّةَ ذراعِه ووقفَت بعنفٍ وهي تنظُر له بغضبٍ واستهجان : مين اللي قاعدْ يتمادى الحين !
سيف : بهاللحظة محد .. على الأقل أنا أشاركك قراراتي دايم .. ما تنحسب لي؟ بينما أنتِ يوم قرّرتِ تتمردين تمرّدتِ بدون ما توقفين بوجهي بكل علانية ، أعتقد هذا هو الغلطْ اللي غلطتيه بحقي ... دايم كنت أغلطْ بحقك بكل وضوح ، مو من وراك !
عضّتْ شفتها السُفلى وهي ترفـع وجهها، لا تتخيّل البجاحـةَ التي وصَل إليها، كيفَ يتجرّأ؟ كيفَ يتجرّأ !!! .
ديما بحنقٍ ارتفعَ حاجبها الأيسر ومالَ جسدها في وقوفِه من فرطِ انفعالها : تقولها بكل ثقة ، ونسيت أو تناسيت شلون عرفت أنا بخطّة إرجاع بثينة لعصمتك!
سيف بجمود : كـان ممكن أعلمك على فكرة .. بس سمعتيني بوقت مبكر.
ديما : ممكن؟ يا وقاحتك ! حججك ضعيفة .. بأي وجه تحاول تطلّعني الغلطانة معك؟ محنا متعادلين .. للأبد محنا متعادلين لو تحاول بمليون حجّة سخيفة مثلك.
سيف يرفعُ حاجبه بغرور : أكيد محنا متعادلين ... أنا الظـالم بس لأنك في حبك لي عجزتِ تكونين ثابتة ، بينما أنا جيتك بكامل ثباتي ، عكسك.
ديما بقهر : جيتني مـــاااااارد .. الله حسيبك !
سيف يتلذّذُ بانفعالها، لذا لم يُمانِع في استفزازِها أكثر : أيه مارد .. وأنتِ كنتِ مجرّد تابع ساذج ، هذا هو الوضع في كل زمان ومكان ... النساء ساذجات في الحُب! مؤمنين إنتوا بأن الحُب حُفرة تطيحون فيها بغياب وعي ، مو اتجاه تهدفون له بكامل إرادتكم.
كانت عيناها تتّسعان أكثر وأكثر، لا تستوعبُ الوقاحـة التي ترتفعُ في صوتِه وفي حديثِه المتجبّر ! أينَ الوجـه الذي كـان يُخبرها بوداعيّته أنه ينتظر السمـاح بصبر؟ ينتظِر في موضِع العِشق الطَّموحِ بودِّها دون أن يفكّر من جديدٍ بإيذاءِ مشاعرها؟ أينَ ذهبَ سكون الأشهر الماضيَةِ بعدَ أن كـان فقدانها لجنينها القشّة التي قصمت ظهر الانصيـاعِ فيها؟
تراجَعت للخلفِ قليلًا، كانت تشتعل، الاشتعال الأقسى دائمًا على النفس، ذاك الذي تتصنّع من أمامه البرودِ بينما أسفل قشرته تكون كبركان! يحرقُ ذاتَه لا من حوله !
ابتسامته تزيدُ من غيظِها، ما بِك؟ ما بِكِ يا ديما ! لا تتركِ له استفزازك، منذُ البارحـةِ وهو ينجح .. لا تتركِ لهُ استفزازكِ وعودي للوضعِ الذي يستفزّهُ دائمًا .. لا تتركي لهُ النجاح في مبتغاه !
لم تتمكّن ، هذهِ المرّة لم تتمكن ، انزلقَت عيونها من حولها بتشتّتٍ واضح، في صراعٍ يُقامُ داخِلها، بينما كـان هو يتابعها بمتعة، يُخفِي ابتسامته المتسلّية ويتركُ على شفتيه ابتسامةً متغطرسَةً وحسب. مُستمتع ، ها هيَ الأيـامُ تعودُ رويدًا رويدًا، ينجحُ كمـا يريد ، وكلّ ما يريدُ هو النجاحُ في استردادها وحسب، ليسَ اغاظتها ، هدفُه إطلاقًا لم يكُن إغاظتها بل استعادةَ عينيها الشغوفتين بِه !
لاحظَ تجمّد عينيها على نقطَةٍ ما، تابعها بعينيهِ بتسليةٍ لم تكُن ظاهـرة ليتصلّب فجأةً ما إن رأى أنها كـانت تنظُر لكوبِ ماءٍ كـان بجانِب كأس الشاي الذي وضعته قبل لحظـات، لم يملك الوقتَ الكافي وعقله استطـاع ببساطةٍ أن يفهمها، لفظَ بصوتٍ غاضبٍ وهو ينتفضُ واقفًا بتحذير : بذبححححــ . . .
لكنّها كانت قد سبقته ورمَت الكوبَ على الأريكةَ بجانِبه بعدَ أن رشّت الماءَ الذي انتصفَه على وجهه لتلفظَ أخيرًا بوحشيـة : مجرّد انســاااان مغـــــــــــــــرور وتافه !
مسحَ على وجههِ وهو يوسّع عينيه الغاضبتينِ ويقتربُ منها بحدّة : قد هالحركة الغبية؟
لم تتراجـع كما كـانت تفعلُ قبل أشهر ، تنتقمُ منه ومن ثمّ تركـض هاربةً بخوف! هذهِ المرّة وقفَت أمام وجهه بصلابةٍ وثقةٍ وهي ترفعُ ذقنها لأجـل الكلمـاتِ المُهينةِ التي لفظَها قبل لحظـاتٍ لها، هي مجرّد تابعٍ ساذِج! هي مجرّدُ واقعةٍ في الحب بينما هو سارَ إليه بكاملِ رغبته؟! . . لفظَت بتحدّي ونبرةِ صوتٍ ثابتـة : مثل ما كِنت قد حركتك الطفولية أمس يا مُراااااهق . .
سيف يقتربُ منها أكثر حتى وقفَ أمامها، رفـع حاجبهُ بحدّةٍ وهو يبتسمُ بشرّ ، وبخفوت : عارفة يعني إنّ حركتك طفولية؟
ديما : بعضٌ مما لديك دي ساد.
رغـم أنه كـان غاضبًا بالفعل، إلا أنه كـادَ يضحكُ على لفظِها ذاك الاسم في خضمِ غضبها في المقابل، ارتفعَت حواجِبه ، ابتسمَ هذهِ المرّة بلؤمٍ وهو يمدُّ يدهُ إلى عنقها ليشدّها إليه من مؤخرّته في اللحظـةِ التي اتّسعت فيها عينيها بتأهبٍ وترقّب.
سيف باستمتاعٍ يُمسكُ معصمها بيدِه الأخرى ويرفعُ يدها إلى وجههِ المُبلّل ، مسحَ خدّه الأيمن بكمّ قميصِها البُنيّ وهو يهتفُ متصنعًا الحيرة : والحين وش بيسوي فيك دي ساد؟


،


" أعتقد بيكفيك اللي صـار واللي حسيتِيه أمـس "
رفعَت عينيها المتعبَتينِ بحُزنها إليْه، لم تجِد ابتسامتهُ المعتـادة، تقوّس فمها بتلقائيّة، حينها عقدَ حاجبيه وهو يمدُّ كفيهِ إليها في ظلِّ استعدادِها المبدئيٍّ للبكـاء، وضعَهما على خديها، بعدَ مسيرةٍ من الحديثِ العاتِب قليلًا، بعدَ رحلـةٍ فوقَ بحارِ ما تعانِيه وأدركَه ، أينَ عنـادْ منها؟ فقطْ يريد أن يعلَم أينَ كـان عنادْ منها؟ .. كـاد يبتسِم في تلك اللحظـةِ بغضبٍ ساخِر، لكنّه هزمَ بسمتَه قبل أن تلِدَ وهو يربّت على وجنتها اليُمنـى، ويهتفَ بهدوء متسائلًا عن الذي تعانِيه بالضبط، ماهو تحديدًا! : احكي .. وش اللي مضيّق خاطرك؟!
شتّت عينيها عنه وهي ترمُش بأهدابِها المنعكِفَةِ أسفلَ أطنـانِ الخيبـة والكثيرِ من الوهنِ في قلبِها. لمْ تكُن تريد أن تقولها لهُ علانيـة، أنّها تعانِي من الذي حدَث هنـا قبل أشهر، لم تكُن مستعدّةً لتقولَ لأحدٍ بعدَ سارَة، لذا ابتلعَت ريقها لترمـش بسرعةٍ أكبـر وتسقطَ دمعـةٌ كـانت تعلّقها على أهدابِها، أو هي تعلّقت مقاومـةً الضعفَ الذي اعتراها والذي لطالمـا كان يعتريها. همسَت برجفَة : ولا شيء.
سلطـان لازال يحتفظُ بهدوءِ صوتِه وثباتِه دون أن ينحنِي رقّةً وحنانًا : ليه ولا شيء؟!
غيداءْ تبتلعُ ريقها بصعوبة : كذا ولا شيء.
سلطـان : ما تبين تحكين لي؟
نظـرت لهُ بأحداقٍ ترتعِش، وبصوتٍ متردّد : لا .. مو ... مو كِذا.
تنهّد وهو يُخفِضً كفّيه عن وجهها ومن ثمّ لفَظ : طيب .. ما ودّي أضغط عليك بالكلام، ولو إنّي ما أحس نفسي بعيد عن الموضوع بس ما ودي أحكي وأنا مو متأكد.
أشاحت نظراتها عنه بربكة، في حينِ وقفَ سلطـان بهدوءٍ وهو يردف : انتبهي غيداء ، أنا قريب منك، وأمي وعناد بعد ... لو احتجتِ شيء منّا لا تترددين .. بس لا تقربين من أمثالها.
أومأت بصمتٍ وهي تشعُر بغصّاتٍ تخنقها، بينما ربّت سلطـان على كتفها وهو ينطُق بخفوت : راجِع بعد شوي ، وعلى فكرة ترى بنروح لأمي بعد الظهر ، اتّصلت علي عشان نتغدى عندها واضح ما تحمّلت نومك بعيد عن عيونها.
كـان يريدها أن تبتسِم، لكنّها لم تفعل، بل تضاعفَ حُزنها ولومُها الداخليّ لذاتِها، عبَست أكثر وهي تُخفضُ رأسها، حينها زفر سلطـان ومن ثمّ تحرّك ليبتعدَ عنها كيْ يذهب إلى غزل!

في الأعلـى ، أدخَلت هاتِفها في حقيبتها بعدَ أن ارتدت عباءتها، ملامِحها غمسَتها في جدّيةٍ وبعضِ الغضب، كـان غضبًا من نفسها قبل أن يكون منه، لأنها ينَ عاشَت لساعاتٍ قربَه شعرتْ بالضعفِ أكثر، قوّتها الزائفةِ أمامه نثرها ببساطـةٍ بقربِه . . . تنفّست بانفعالٍ وهي تُغمِض عينيها، ساقيها تلتصِقانِ بالسرير، تحملُ بيديها حقيبتها السوداء، أصابعها شاردَة كعقلها المشوّش في فهمِه، تقطِّب جبينها ، لم تعُد تدري هل تبدّلت خُططه! ألمْ يكُن يريدُها أن تكون بعيدة! إذن لمَ تخافُ الآن أن يكون بدّل تلك الخطّة بسكونِه، لم يقُل لها أن تتجهّز ليُعيدها إلى أمها رغمَ أنه صرّح بأنه سيقتل اهتمامهُ بها بابتعادِها ! .. لذا وبشكلٍ هجوميٍّ استعدّت بنفسها كيْ تقولها لهُ مباشـرة، لا تريد أن تبقى أكثر ! رغـم اللهفـةِ ورغـم الحنينِ إليه وطنًا مهما عانَت فيه هو مأواها .. إلا أنها لا تريد أن تعودَ ضعيفةً أكثر من الآن.
سمعَت صوتَ البـابِ يُفتَح، تصلّبت حواسها للحظـة، قبل أن تستدِير وهي توسّع عينيها وكأنّ حضورهُ يُفاجِئ حواسّها الخاملـة، حضورهُ يستفزُّ فيها الثورانَ ويغذّيها لتنفعل! . .
رمقَها سلطـان من الأسفَل للأعلـى وهو يرفعُ إحدى حاجبيه، ابتسمَ فجأةً ابتسامةً لا معنـى لها ليهتفَ أخيرًا : حلو .. ما احتجتْ أقولك تجهزين ، ولا ضيّعنا وقت.
تحرّك مديرًا لها ظهره، لم يكُن قد دخـل بل بقيَ واقفًا عند البـاب .. عقدَت حاجبيها قليلًا، بينما هتفَ صوتهُ بهدوء : أنتظرك بالسيارة.


،





عـادَ لغرفـة الجلوسِ بعدَ نصفِ ساعةٍ تقريبًا، نظَر لهاتِفه الموضوعِ على الطاولةِ قريبًا من حيثُ كان نائمًا، لا يزالُ نائمًا منذُ البارحـة، حتى بعدَ أن نهض.
الدليل الأوّل للنفور : تجاهُل اتّصالاتِه.
تنهّد وهو يُغمِض عينيه، أحمَق! ما الذي يفعله! كيفَ يتجاهلهُ حتى هذا الوقت؟ وهو الذي حينَ تجاهلهُ البارحـةَ لساعاتٍ قليلة زرعَ فيه الرعب من فقدِ أمه، بحجّة أنه كـان غاضبًا وقتها، تجاهله! فما حجّته الآن، بل ما الذي سيجري في عقله لهذا الوقتِ الطويل جدًا !
فتحَ عينيهِ وهو يجلِسُ على الأريكةِ ويدهُ تحمِل هاتِفه، فتحَه ليقفَ من جديدٍ وكأنه غيّر رأيه، ليسَ من الجيّد أن يحادثـه هنا، ماذا لو سقطَ اسمه سهوًا في حديثه وسمعته أمه؟ .. تحرّك متّجهًا إلى الدرج، عقدَ حاجبيه دون أن يستغرب عدد الاتصالاتِ التي وصَلت إليه، لم يستغربها، بل زادَ فيه شعورٌ مُرُّ، شعورٌ بالملامَةِ على نفسِه، لاذعٌ جعلهُ يبتسمُ في ردّةِ فعلٍ عكسيّةٍ لما يشعُر به.
صعدَ العتباتِ وهو يبحثُ إن كـان أرسلُ لهُ رسـالةً يسألهُ فيها عن حالِه، بالتأكيد سيكون أرسَل له، يُدرك ذلك! . . عضّ شفتهُ بعدَ أن توقّفت أقدامهُ في آخرِ عتبـة، المذاقُ المرّ ازدادَ مرارة، كلمـةٌ واحِدةٌ اختلطَت بمرارةِ مشاعـره، كلمـةٌ واحدة يتمنّى أن تكون تكفيرًا لما يحسُّ بِه الآن، كلمـةً واحِدة، لو أنّها تمحو كلّ الأخطـاء، كلّ الذنوبِ التي قامَ بِها تجاهه، كلّ المشاعرِ السلبيّة التي استشعرها نحوه، كلّ شيء ... - آسف - .. واللهِ آسف، على كلّ شيء، لأنّي تزوجتها، وأوجعتك، أحببتها، ولا زلت حتى الآن، لأنّي كمـا قالت، أنانيّ !
لم يكُن قدْ وجَد شيئًا حتى الآن، كـان شاردًا، أصابعهُ شردَت على شاشةِ هاتِفه، ولم ينهضْ من شرودِه إلا على صوتِ جرس الباب الذي اقتلعَه من غيابِه، عقدَ حاجبيهِ قليلًا باستغراب، من قدْ يجيء في هذا الوقت!

في الأسفَل، وقفَ أدهم خلفَ البابْ وهو يفركُ جبينه بكفّه، يمرّر لسانـه على شفتيه، يطرقُ بأصابعه على الجدارِ بجانِب مكبسِ الجرس وشعورٌ بالغضبِ يجتاحه دون بوادِر، في داخِله يتمنّى أن يكون بخير، أن يفتحَ البابَ الآن ليطلقَ قبضته إلى وجهه الأحمَق ويحطّمه !
مرّت ثوانٍ قصيرةٍ شعر أنها طـالت، عادَ يطرق الجرسَ مرّةً أخرى وهو يزفـر، في اللحظـةِ ذاتها التي فُتحَ فيها البـاب.
تصلّب شاهين بصدمةٍ ما إن رأى ملامِحه واستوعبـها، بينما كـان أدهم كمن نسيَ خطّته التي رسمها قبل لحظـاتٍ قليلة بضربه، أجفـل وهو ينظُر إليه بحاجبينِ مرتفعين قبل أن تنزلقَ عيناهُ فجأةً يتفقّده ! . . عقدَ شاهين حاجبيهِ بريبـةٍ بعدَ لحظـاتٍ من نظرةِ الصدمة التي اعتلتْ عينيه، وبقليلٍ من القلقِ لتواجدِه أمامه! أيعقل أن يكون أصابه شيء ! لمَ قد يجيء أدهم إليه في وقتٍ مبكّرٍ من الصباح !
طردَ تلك الأفكـار من رأسهِ وهو يزيحُ جسدهُ عن الباب داعيًا لهُ للدخول وملامِحه لا زالت مستنكرةً قدومه، في اللحظـةِ التي كـان فيها وجه أدهم قدْ احتدَّ بعدوانيّة، ابتسمَ بسخريةٍ أخيرًا وهو يهتف : تسلم .. تكرّم بس على أخوك ورد عليه ، ما فيه داعي تحرق قلبه أكثر.
بهتَت ملامِحه، في حينِ أردفَ أدهم بهدوء : اتّصل عليه وطمّنه عليك .. أتوقع ما راح يشيب راسه إلا منك هذا إذا ما شاب .. ببعده ما حرق قلبه أحد غيرك والحين مدري وش مستفيد من مسألة تطنيشه !
لم يستمرَّ بهوتُه لوقتٍ طويل، رغـم أنّ كلمـاته كانت تصبُّ في عمـق الحقيقةِ إلا أنه استهجنَها، قطّب جبينه والحدّةُ ترتسمُ بينَ خطوطِ التجاعِيد في وجهه، تجاعِيد ما قبـل الحديثِ الصاخِب بالعدائيّة : كأنك قاعد تتمادى معي يا الطيب ! لا يكون صدّقت إن لك مقام بس عشان أفضالك!
أدهم يرفعُ حاجبهُ الأيسر بتعجّبٍ دون أن يفقدَ ابتسامةَ السخريةِ على فمِه : منت صاحي .. الله يخلفْ على أخوك بس.
لم يكُن بمزاجٍ جيّد، لذا صمتَ عن الحديثِ أكثر كيْ لا يضاعفَ من موقِفه الساذج أمام أدهم، بينما استدارَ ذاك كيْ يُغادِر بعدَ أن أدّى ما عليه واطمأنّ لكونِه بخير.
إلا أن شاهين زفـر أخيرًا يُحاولُ أن يستفيقَ على نفسه، أغمضَ عينيهِ لثانيتينِ ومن ثمّ فتحهما، وبهدوء : تفضّل، مو من اللباقة توصل لعند بابي وما تدخل.
كـاد أدهم أن يضحكَ في تلك اللحظـةِ وهو يستدِير إليه هاتفًا بسخريةٍ لاذعـة : بديت أشك بوضعك .. ولو إنّه ما تهمني مسألة اللباقة هذي .. أخوك أولى تحاتيه منّي.
شاهين يومئ بملامِح هادئـةٍ هدوءً أقربَ للقنوط! : بتّصل عليه الحين ... ادخل.
شعرَ أدهم بأنّ هنـاك شيئًا خاطئًا فيه ! لكنّه لم يدقّق كثيرًا وهو يستجيبُ لدعوته ببرود، ويدخل.

خرجَ شاهينْ من المجلسِ وهو يستعدُّ لكتـابةِ رسـالةٍ سريعةٍ إليه، لم يكُن يريد من متعب أن يستنبطَ الحقيقةَ من صوتِه، رسـالةٌ صامتـة، كـاذبةٌ بعضَ الشيء ، تكفيه فقط ليطمئنّ أنه بخير ، وسيلتقِي بهِ فيما بعد عوضًا عن اتّصاله.
" أنا بخير ، انشغلت أمس مع واحد من أخوياي صار عليه حادث فاضطريت أقفل الجوال .. بشوفك اليوم بمطعم *** بعد العشاء لو تقدر "


،


نزل بخطواتٍ هادئـةٍ إلى الأسفـل، اتّجه لغرفة الجلوس حيثُ كانت غيداء تجلس، ابتسم ما إن دخل ليلفظَ لها على عجل : ماني متأخر عليك ، بس بوصّل غزل لبيت امها وبرجع.
عقدَت غيداء حاجبيها قليلًا، بربكةٍ بعض الشيء! وكأنها لم تكُن تريد أن تبقى وحدها ! شتّت عينيها عنه كي لا يقرأ ما جـال فيهما من رهبَة . . وبخفوتٍ متسائل : ليش؟
لم يعلِم لمَ لم يحُب إخبارها بمصيره مع غزل، لم يحُب أن يُحبطها الآن ويُدرك جيدًا أنها متعلقةٌ بها ولن يكون خبر انفصالهما مجرّد لفظٍ عابرٍ على مسامعها. اتّسعت ابتسامته، وبهدوء : امها تبيها تجلس عندها كم يوم.
أومأت بصمتٍ وهي تُخفض نظراتها بشرود، يلفّها اضطرابٌ عنيف، تريد أن تطلبَ منه أن يأخذها معهم!! لا تشعُر بالاطمئنانِ لوحدها ، لا ليست لوحدها فخادمتهم هنا . . ابتلعَت ريقها بربكة، رفعَت كفّها لتحكّ مؤخرة عنقها ومن ثمّ تهتف بخفوت : ما فطرتوا للحين ، على الأقل انتظر لين تاكل قبل تروح.
سلطان : امها منتظرتها على الفطور.
قطّبت جبينها بانزعاج، ولم تُضِف شيئًا بينما مرّر سلطان لسانه على شفتيه وهو يرفعُ حاجبه بسخرية، تلك الأنثى أصبحَت دافعًا ليكذب بهذه الطريقة المثيرة للشفقة !
سمعَ صوت خطواتٍ من الخلف، خطوات غزل التي كانت تتمتمُ بكلماتٍ مـا ، حسرة، خيبة، خذلانًا من الحيـاة! تتمتمُ لقطّتها التي شكَت لها قبل ساعةٍ ربّما !
في لحظـةٍ خاطفة كان كلّ ما حدثَ أن انكسرت آمـالٌ أخرى لم تدرك حتى الآن أنها بنَتْها، لم تدرك إطلاقًا أنها بُنيَت تمرّدًا وعصيانًا على الحقيقةِ الواضحَة لعينيها .. الزمنُ الفاصِل بصمتٍ بينَ اللحظةِ التي قالَ فيها " أنتظرك " وما سبقها كـانت ببساطةٍ بُرهانًا على كونِه لا يريدها أن تذهب! يا الله أيّ غبـاءٍ هذا، أيّ حماقةٍ زرعه فيها حبّها له؟ . . . أمالتْ فمها بسخرية .. رفعَت رأسها لتنظُر إليهما وهي تبتسم ابتسامةً فاترة، وبهدوءٍ وهي تقتربُ من غيداء حتى تمدّ لها قوزال كي تأخذها منها : نمشي؟

تنطوِي الأرض ويمرُّ الوقت سريعًا، المسافاتُ تخذلُ رغبتها للعيشِ على أنفاسِه ورائحته وقتًا وجيزًا من الزمن، لا تدري كيفَ انطوَت الأرض وقصرت المسافاتِ لتصل بسرعة! كيفَ يمحو الزمنُ توقيعًا على حصولِ الاقتراب، كيفَ يقذفُ اللحظاتِ في مهبِّ التسارع !
دخلَ للحي الذي تعيشُ فيه، لم يحدُث بينَ صوتيْهما تصادمٌ كلاميّ، يُجيد تجاهلها ببراعـة، رغم كونها بجانِبه إلا أن ذلك لم يستفزّ بروده وهدوءه بل بقيَ بهيئةِ الوحيدِ في اللحظـات التي سرَت، كأنها لم تكُن ترافقه في السيارة سوى شبحٍ لم يتمّم تواجده.
تنهّدت دون صوت، تُميل رأسها قليلًا، عيناها تنظُران للنافـذة، تقتربُ رويدًا رويدًا من المنزل ويظهر في كلّ اقترابٍ مأسـاة ! حُزنٌ جديدٌ ربّما .. كان قُربه رغم تمنّيها لهُ يعنِي أن تحزَن أكثر، لذا تفضّل الابتعاد مهما تمنّت القُرب في تناقضٍ آخر !
أغمضَت عينيها وصدرها يتحشرجُ بأنفاسه، ربّما كـان الافضل هذا الصمت، لم يكُن ليلائمَ حُزنها أن يجيئها صوته، وتشتاقه أكثر في قُربه !
لحظـاتٌ قليلةٌ قبل أن تقفَ السيارة على جانِب الطريق، فتحَت عينيها استعدادًا لتنزل، لكنّها شهقَت بقوّةٍ في اللحظة التي كان فيها سلطان ينزلُ فيها من السيـارةِ بعجلٍ ويتّجه إلى المنزل الذي كـان أمامهم، وخطٌّ عريضٌ قاتِم من الدخـان يتصاعد برماديّته !


،


أغلقَ باب السيارةِ وهو يخرج هاتِفه من جيبِه حتى يُخرسَ الرنين المتواصِل منذُ خرج من بابِ منزله، أجـاب على المتّصل وهو يبتسمُ ويحرّك السيارة : أهلين ..
الطرف الآخر : يا هلا والله بالشيخ سلمان .. شلون ظهرك اليوم؟
سلمان بابتسامة : طيّب ، بدت الأدوية تأدّي مفعولها.
: أقدر أخمّن إنك ما صدّقت على الله وطالع؟
ضحك رغمًا عنه : وُفِّقت في تخمينك.
: الله يصلحك بس .. دامك مرهق روحك وخالص مرني اليوم ، فيه موضًع بكلّمك عنه يخص أحمد.
عقد سلمان حاجبيه بريبةٍ وابتسامته تلاشت ، وبجمود : شفيه؟
: وصلتني كم شغلة مهمة من شخص اسمه سعد
سلمان : سعد؟


،




أنهـى اتّصاله السريعَ ومن ثمّ تحرّكت خطواتُه إلـى بابِ المبنـى المهجور، كان البابُ يحكِي حالـة الهجرانِ فيه باهترائِه، النوافذُ خُلعَت وبعضها باقٍ مُحطَّم.
نظـرت لهُ أرجوان بضيـاعٍ يهزّها، لم تعُد تدرك هل هي في الواقع فعلًا أم ماذا! هل ينوِي مساعدتها أم ماذا ! . . وعند السؤال الثاني تنغمـس في ضياعها وحيرتها أكثـر !
تحرّكت خطواتُها من خلفهِ بربكـةٍ وهي تهتفُ بصوتٍ وصلَ إليه واضحًا رغـم خوفِها : وش بتسوي؟
التفَت تميم إليها وهو يبتسِم ابتسامةً مُتلاعبـة : بكسب قلبك.
تصلّب وجهها واتّسعت عيناها لينفجِر تميم ضاحكًا وهو يهزُّ رأسه بالنفي هاتفًا بحسرة : وش اللي ورطتي مع غبية مثلك!
ابتلعَت ريقها وصدرها يرتفع ويهبطُ باضطراب، شتّت عينيها، لربّما لو كـانت في وضعٍ آخر لتبدّلت ردّات فعلِها عوضًا عن وهنِها الآن وربكتها أمامه. في هذهِ اللحظـاتِ لا شيء قد يستفزّها سوى التفكير بما يحدُث، بليـان، بالخطَرِ الذي بدأ يدورُ من حولِها، لا شيءَ مهمٌ لديها في هذا الوقتِ إلا أن تصبـح ليـان بخير ، فقط!
مرّر تميمْ لسانـه على شفتيه وهو يرفـع كفّه ليدلّك عنقـه ويهتفَ ببرود : بتكون بخير.
أخفضَت رأسها ببطء، كفّها اليُمنى ارتفعَت لتعانِق بها عضدها الأيسـر ، لا تفهم! لا تفهمُ هذا الرجـل ، أليسَ مجرمًا مثلهم؟ أليسَ شخصًا يسعى لإيذائهم! .. إذن لمَ يهتمُّ الآن لإنقاذِ ليـان؟ . . . عندَ تلك النقطـة ، تأوّهت فجأةً وهي تشعُر بالدوارِ أحـاطَ برأسها، رفعَت كفّها إلى جبينها وهي تنظُر لظهر تميم الذي تشوّشّ من أمامِها، خمولٌ تسلّل سريعًا في جسدِها، رغبـةٌ جامحـةٌ بأن تبكِي وهي تتخيّل ليـان الآن ، ما الذي يحدُث لها؟!!
دقائِقُ قليلـة قبل أن يبتعدَ تميمْ عنها وهو يرفـع هاتِفه الذي كـان يرنُّ معلنـًا البدء.


،


كانت عيناها تتّسعان صدمةً وهي ترى الدخـان الذي كان يهدأ رويدًا رويدًا، تحاول أن تستوعب ، ما الذي حدَث؟ .. سيّارتيّ إسعافٍ تستعدُّ للمضي، سلطان يقفُ قُرب أحدِ المُسعفين يتحدّثُ معه بحديثٍ سريعٍ وفقَ ملامِحه . . شيءٌ من التبلّد أصابَها وهي ترفعُ نظراتها من جديدٍ للمنزل وترمشُ بعينيها ببلاهة ، حريق؟ لا شيء آخر قد يستفزُّ الدخـان بهذا الشكـل، الدخـان الذي كان دائمًا ما يتصاعدُ في صدرِها دون أن يتسرّب من مساماتها ويغادرها، يخنـق أعضاءها باسمه، الحرائِق التي تفتّتُ ثباتَ قوّتها الكاذِبـة . . هذا الحريق ، وسيارتيّ الاسعافِ ماذا يعنيـان؟
قبضَت كفوفها على حقيبتها وكأنها بدأت تستوعِب ببطءٍ أنّهما لا يعنيان إلا شيئًا واحدًا ... لا يُعقل! أمّها !!! . . اتّسعت عيناها وهي تتحرّك في جلوسها بربكة، تقبضُ على الحقيبةِ أكثر، ما الذي حدَث؟ ولمَ ... لمَ تشعر أنّها مهتمة وفي اللحظة ذاتها قلبها لا ينبضُ منفعلًا خوفًا! . . أغمضَت عينيها وهي ترى سلطان يقترب بعد دقائق طالت ولم تكُن تعلم أنها طالت من سرعـة عبورها، تنفّست بعمق، تحاول أن تفهم ما الذي تشعر به الآن، خائفة؟ على آخر من سيسندها لتبتعد عن سلطان؟ خائفـة، عن آخر من تبقّى لها من معنى " عائلة "؟ خائفة! إذن لمَ تشعر أنّ الاهتمام الذي في داخِلها - بارد - !!!
فتَح سلطان الباب وهو يتحوقل، بينما فتحَت هي عينيها لتنظُر نحوه مباشرةً بضيـاع، أغلق باب السيارة ليلفظَ مباشرةً بتفسيرٍ تلقائيّ للعيون التي يظنُّ أنها الآن مرعوبة، للقلب الذي ينتفضُ خوفًا على أمه : المصابين اثنين ... وحدة من الخدامات * التفت برأسه لينظر إليها ويردف بصوتٍ انخفض * والثانية أمك ، وحروقها أخطر.
ابتلعَت غزل ريقها، هذهِ المرّة سرت رعشـةٌ ضئيلةٌ في جسدها، أغمضَت عينيها وهي تومئ، لا تدري لمَ كانت تومئ! كانت فقط تستجِيب للحديثِ بثباتٍ كمـا تظن. في حين حرّك سلطان السيارة ولم يُضِف مزيدًا من التفاصيل التي لا فائـدة منها ، سياراتُ الاسعاف كانت قد تحرّكت، وقوقعةٌ أحاطَت غزل في صمتٍ غزيرٍ بالضيـاع، تُمطر عليها السمـاء من سوداويّة التفكير ، يشردُ تفكيرها، تلك الرعشـة الخافتـة، الهامسـة في قلبي، تلك الرعشـةُ التي تسلّلت في فؤادي كدبيبٍ خافت، ما معناها؟ هل أهتمُّ فعلًا لامرأةٍ سُمّيت لي أمًا لأيـامٍ قليلةٍ اقتربَت فيها عن أربعةٍ وعشرين عامًا من البُعد؟ .. يا الله ! كم هو موجُعٌ أن تفكّر الآن بسبب تلك الرعشـة، كـانت أمّي مدينةٌ لي بتلك الأعوام، مدينـةٌ لي، ولم تردَّ لي دينها! لذا اقتربَت ، اقتربَت وقبل أن أتعلّق بمعنى اقترابِها وقعَت في محنةٍ مـا .. مُبكرًا جدًا! مبكرًا !!!
أغمضَت عينيها ووجعٌ حفر في صدرها ومرّر من الهواء الحارّ ما أذابَ أعضاءها، ربّما كانَ قبسًا من ذلك الدخان وليسَ مجرّد هواءٍ حـارّ .. جاء إلي، انجذَب يبحثُ عنّي ليضاعفَ من التهاباتِ جسدي !
أيقظها من تفكيرها صوت سلطان الذي هتف بحزم : مافيه داعي آخذك للمستشفى الحين ، عارف اللي تفكرين فيه الحين بس ما عليه بوقت ثاني، مافيه داعي لتواجدك . .
عقدَت حاجبيها بغرابة، لم تكُن قد فكّرت بما ستقوله الآن بل خرجَ منها بشكلٍ عفويٍّ يعبّر عن حقائقها : أصلًا ما أبي أروح ... أ . . .
صمتت وهي توسّع عينيها بربكة، فغرَت فمها، بينما وجّه سلطان عينيه إليها باستنكـارٍ قبل أن يعقدَ حاجبيه ويزفُر مغمضًا عينيه . . ببساطةٍ فهمها! كيفَ لا يفهمها؟ وكيف لم يكُن ليُدركها رغمَ كلّ ما بينهما ورغم النفور الذي امتدَّ من بينهما مسافاتٍ ضخمَة ! . . لوى فمه وهو يهدّئ من سرعة السيارة .. وبهدوء : راح تهتمين لها .. وإن ما صار هالشيء الحين.
ابتلعَت ريقها وهي تُشتت عينيها بعد أن وجّهت رأسها للنافذة، تفرك كفيها ببعضهما، صرّحت بمشاعرها أمامه دون شعورٍ منـها، لذا لفظَت الآن تبرّر بتلعثم : ما أقصد ... يعني .. كان قصدي . . .
قاطعها سلطان بهدوء : فاهم قصدك ، وما فيه داعي توضحين أكثر ... * تنهّد قبل أن يردف * برجّعك الحين ، وبروح أنا للمستشفى وأشوف الوضع . .
غزل باستنكارٍ نظرت نحوه دون أن تتركه يُكمـل حديثه : ترجعني؟ وين!
رفعَ حاجبه الأيسـر وهو ينظُر إليها، وبهدوء : وين؟ أكيد للبيت!
غزل بضياعٍ لا يُجيد عقلها الآن التفكير بالمنطقِ والاحتمالاتِ الواردة : أي بيت؟
سلطان لازال محتفظًا بهدوئه : أكيد مو بيت أمّك.
يعني أنّها عائـدةٌ إليه من جديد! . . اتّسعت عيناها بتمهّلٍ وأنفاسها اضطربَت بربكـة، عائـدةٌ إليه؟ إليه هو !! وستعود أيضًا فُرص الصدامِ والبكـاء والضعفِ من جديد !! عائـدةٌ إلى وطنها لأجلٍ غيـر موثوق !



.

.

.


انــتــهــى

موعدنا القادم يوم الجمعة بإذن الله

ودمتم بخير / كَيــدْ !


كَيــدْ 18-11-16 04:53 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 




السلام عليكم ورحمة الله ، مساءَكم سعادة :$

صايـرة بطيئة بزيادة في كتابتي، + قبل كنت لو ما خلصت البارت من بدري يمدي في سباق مع الوقت أنزله بعد منتصف الليل، مو بعدْ يومين :(
^ واضح من المقدمة إنّي ما خلصت البارت للحين؟ باقي جزئية مو هينة، أحاول قد ما أقدر أصير أحط موعد وما أتخلف عنه بس غصب عني ما يصير!
ترى داخلـة وأنا متفشلة :$
على فكرة، بخصوص سالفة مُهملة أو مماطلة / من غير ساعات النوم كل الساعات فاتحة فيها اللاب على الوورد عدا ساعتين تقريبًا لشحن اللاب :) فمو عن إهمـال أو تقاعس

بينزل البارت خلال هاليومين ، لازم لازم ينزل بارتين بأسبوع الأجازة عشان اللي تقول أنتِ زين تنزلين بارتين مدري وشو :P

- نقطة أخرى بخصوص بعض التعليقات اللي تحكِي عن النهايات التقليدية ، فكرة رجوع فواز وجيهان لبعض، أو حياة وغزل وسلطان وأيش ممكن يصير فيها
كلامي الحالي ماله دخـل بـ " نفي توقعاتكم أو لا" ، لمجرّد التوضيح فقط، أنا قراءتي في النت قليلة جدًا، فما أدري إذا هالفكرة بالنسبة لروايات النت تقليدة أو لا ! وما يهمني بشكل أدق ،
دامنِي مخططة لنهاية محددة في بالي من بداية الرواية ما راح أبحث بروايات النت ونهاياتها عشان أخالفها وأجيب شيء جديد لمجرّد أبتعد عن التقليدية! دائمًا وأبدًا ما فيه رواية راح تخضع لرواية أخرى وتبني نفسها بعد ما تدرسها! لنهاية غير معتادة في أخرى! كل كاتب له قناعاته وتخطيطه وزاوية يرى منها أحداثه، فما راح أهتم إطلاقًا لسالفة نهاية معتادة ..
النهايات يميّزها منطقيتها وإنها تكون بمكانها الصحيح، مو إنها شاطحة أو مختلفة وحسب!

لمجرّد التوضيح طبعًا، كل شخص وقناعاته.
نهاية روايتي اللي رسمتها ما أدري لو هي فقط تقليدية بشكل بايخ! أو مختلفة أو مميزة! أنا فقط مقتنعة إنها المُلائمة :**


وشكرًا ()



fadi azar 19-11-16 01:10 AM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
فصل رائع جدا

كَيــدْ 26-11-16 08:29 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


-

-


مسـاءَ الخيـر جميعًا ،
بإذن الله في السـاعات القادمـة سيتمّ طـرح الجزء الرابع والثمانون ،
وواجِب عليْ تبرير هذا الغيـابْ بعدَ التنزيـل ، وحـل أخير لكثرة أعذاري وغياباتي،
إن شاء الله على قد ماهو مُحبِط بعضَ الشيء تتقبلونه وتشوفون الجوانِب الإيجابيّة فيه.

لي عودَ خلال ساعات - ما راح أحدد الساعة والدقيقَة عشان لو تأخرت عنها مضطَرة -

توا 26-11-16 10:00 PM

لاااااا تقولين بوقف تراااا بزعل بليييز






مسـاءَ الخيـر جميعًا ،
بإذن الله في السـاعات القادمـة سيتمّ طـرح الجزء الرابع والثمانون ،
وواجِب عليْ تبرير هذا الغيـابْ بعدَ التنزيـل ، وحـل أخير لكثرة أعذاري وغياباتي،
إن شاء الله على قد ماهو مُحبِط بعضَ الشيء تتقبلونه وتشوفون الجوانِب الإيجابيّة فيه.

لي عودَ خلال ساعات - ما راح أحدد الساعة والدقيقَة عشان لو تأخرت عنها مضطَرة -
[/COLOR][/QUOTE]

كَيــدْ 27-11-16 08:55 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 



سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،


بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(84)*1




حملها بأيدٍ قاسيـةٌ اشرأبّت بالحُمرة، بيـاضٌ يغشى وجهه بحُمرةٍ باهتةٍ في جلدِه عدا من عينيه، كـان بياضهما يميل لاصفرارٍ مُرعِب.
ابتسمَ الآخر وهو يهزُّ رأسه بالنفي مُردفًا : قسوتَ عليها ، إنّها مجرد طفلة.
تحرّك ذاك حاملًا ليـان ليضع جسدها الصغير أخيرًا على أريكـةٍ مهترئة جـار عليها الزمـن ومضى، كـانت ضمن القليل ممّا كـان في هذهِ الغرفـة الشبه فارغة! . . . وبهدوءٍ غير مبالِي : لا بأس في ذلك.
أغمضَ ذاك عينيهِ وهو يبتسِم، كـان يحمِل قداحةً في يدِه، يُشعلـها ويُعيدُ إطفاءها بداعِي تمضيـة الوقت قبل أن يصِل رفيقهم الثالثْ والذي كـان يطوفُ في الحيّ لغرضٍ مـا، زفـر وهو يوجّه كفّه إلى جيبِه ويُدسُّ القداحة فيه، وبضجَر : هل كـان يجب أن ننتظر في هذا المكانِ العفِن؟
الآخر بهدوء : إلى أن يأتِي فقط ، أخشى أن يراها أحد ذويها وتذهب منّا أو ندخل في مأزق * يقصد ليان * كما أنّ الفنادق لا تلائمنا الآن ..
مطّ ذاك شفتيهِ ومن ثمّ أسند مرفقيه على ركبتيه وهو يتنهّد ، وفي جهـةٍ أخـرى، خـارج المبنى تحديدًا .. اقتربَ شخصٌ ما من تميمْ الذي وقفَ على بُعدِ سانتيمتراتٍ طويلـةٍ من أرجوان. راقبتهما بربكـةٍ وهي تعانِق عضدَها الأيسر بكفّها اليُمنـى، همسَ لهُ بكلمـاتٍ ما ، ليردّ له تميمْ بأخرى ومن ثمّ يبتعدُ ذاك.
ارتفـع صدرَها بربكـة، الهواءُ يضطربُ من حولها والأرضُ بطريقةٍ مـا بدأت بالدوران، ضبـابٌ غشى عينيها فجأة، ترنّحت قليلًا وهي تضيّق عينيها وتعقدُ حاجبيها، حاولت تثبيت ساقيـها عنوة، لكنّها لم تستطِع .. هزمها الضبـاب ، كـانت تتوهُ في وهنٍ غريبٍ شدّها إلى الإغمـاء، يضغطُ على جسدها ويُخفضُ برودتـه ليُمرضها أخيرًا باللا وعـي . . .


،


وقريبًا جدًا ، وقفَ يوسفْ بقلقٍ يحمـل هاتِفه، يتّصل برقـم أرجوان ورنينٌ يتفاوتُ باتّساعـه دون ردّ ، يمرّر لسـانه على شفتيه ويقطّب جبينهُ إزاءَ القلق ، أين ذهبت هي وليـان؟ ولمَ قد تكون ذهبت ! ليس من عادتها أن يقرَّ بشيءٍ وتخالفَه ، ليسَت كجيهان وتمرّدها . . لذا شعرَ بالخوف ، من الدافـع وراء اختفائها إلى الآن !
زفـر بحرارةٍ وهو يُخفـض الهاتِف عن أذنـه بعدَ أن طـال الرنينِ دون أن يجيئه الرد ، بينما كـانت جيهان بجانِبه تعانِق كفيها ببعضهما، تنظُر للأرضِ بصمتٍ أجوَف، تعودُ لتتذكّر حديثَ والدها، من قبلِه صوتُ فوّاز الذي يعودُ ليعصرَ قلبها ويمزّقه، ما الذي باتت تفعله؟ ما الذي باتت تفعلهُ حتى وصلَت إلى هذهِ المرحلـة! هل يزرع الحُب فينـا كلّ تلك الحماقـةِ ويُخرسَ المنطقيّة منّا؟ هل يقترفُ فينا الانزلاقَ نحوَ منحدَر الخضوعِ إليه؟ هل نحبُّ فنفقدنا؟
كـانت تُدرِك أنّها مُخطئة، تدرك أنّها تستحقُّ أنْ يكسِرها والدها لو أراد! أن يُعيدهما إلى بعضهما قسرًا ليُمحـق تلك اللقاءاتِ القليلـةِ المُحرّمة ! ... ابتلعَت ريقها، نعم محرّمة، وتقعُ هي في ذلك الذنبِ حينَ تُجـاريهِ وتُطِيل الوقت في وقوفها دون أن تبتعِد، تسقُطُ هي وهو في حُفـرةِ حوارٍ أحمـق عن وعثـاءِ البُعدِ بطريقةٍ ملتويـة، يحاولانِ ألا يفتضحـانِ آثـارهُ إلا أن لحظـاتُ الوقوف دليلٌ أكبـر ، بطريقةٍ محرّمةٍ ومتماديـة!
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وصدرُها يرتفـع باضطراباتٍ عاتبـةٍ على روحها قبلًا ، إلى أيّ منحدرٍ تصِل؟ إلى أي منحدَر؟!
سمعَت زفـرةً حادّةً صدرَت من صدرِ يوسف، فتحَت عينيها لتلتفتَ إليهِ وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب، إلى أين يمكن أن تذهبَ أرجوان؟


،


فتحَت البـابَ بعدَ تواصُلِ صوتِ الجرس، كـانت تتذمّر في داخِلها، أين فارس مثلًا منه؟ أحدَ إخوتها على سبيل المثـال ! أيعقل أنهم حتى الآن نائمون على غير العادة ! .. استقبلَت الطارقَ بملامِح ضجرّه، لكنّها سرعـان ما أرختها، وسّعت عينيها وهي تتراجـع بتحفّزٍ وابتسامـةُ هيثـم ترتسِم على وجههِ أمـامها بكلّ وقـاحة ، ما الذي قدْ يدفعـه للمجيء بكلّ جرأةٍ إليهم !
تشنّج عنقها، رغـم اضطرابِها إلا أنها نظـرت نحوَه بصلابـةٍ وهي ترفـع حاجبَها الأيسـر، في حينِ لم يستطِع هيثَم أن يكتـم ضحكتـه القصيرة والخافتـة، لفظَ بتهكّم : شفيك خايفة وأنتِ ببيتك يا حلوة !
جنان ترفـع ذقنها وهي تتأكدُ بكفيها من حجابها الذي ارتدَته على عجلٍ وفوضويّة حين كـانت تقتربُ من البـابِ كي تفتحـه : احترم نفسك ، وعن الوقاحـة.
هيثـم بإحباط : الفوضويّة زادَتك جمـال ، ليه رتبتيها؟
أمـالتْ فمها بتقزّز ، أغلقَت البـابَ في وجهه، لا تحتمـل وقاحتـه، تتجاهـل كونه كالضيفِ الآن ، بالنسبـةِ لها غيرَ مُرحّبٍ بِه! . . وقفَت لوهلـةٍ وصدرُها يرتفـع وينخفِضُ بانفعـال ، تصاعَد فيها شعور الغضب ، وقح! .. وقح !!
لم تتراجـع، كـانت تنتظِر أن يعودَ لضربِ الجـرسِ بإصرارٍ يلائمُ وقاحتـه، والغريبُ أنّ الوقتَ طـالَ دون أن يفعـل ... رفعَت حواجبها باستنكـار ، هل رحـل فعلًا؟!
لم تهتم كثيرًا، وببساطـةٍ كـانت أقدامُها تتحرّك متراجعـةً لتبتعِد عن البـاب، في اللحظـةِ التي اهتزّ فيها هاتِفها في جيبِها برنينٍ صامِت، أخرجته بتوجّس ، جزءٌ منها صوّر أن يكون هو ، ليسَ احتمـالًا بعيدًا بل هو الأقربُ في الحقيقة . . لكنّ الراحـةَ كـانت بلونٍ مشرقٍ تتكوّن في ملامِحها وهي ترى رقـم فوّاز ، المهم أنّه ليسَ هو ، لا تنكـر أنها اعتادَت فواز وإن لـم يكُن بشكلٍ عميقٍ إلا أنه يكفي لترتـاحَ حين ترى اسمه عوضًا عن هيثَم . . ردّت عليهِ وهي تبتسم بنعومـة، وبهدوء : أهلين.
فواز من الطرفِ الآخر : خليك جاهـزة بمرّك.
عقدَت حاجبيها فجأة، الراحـةُ التي غشَت ملامِحها تلاشَت، حلّ محلّها اعتراضٌ وضجرٌ عنيفٌ جعلها تنفخُ الهواءَ من فمها وتلفظَ بامتعاض : لا يا أخ !
فواز بجمود : لا تقولين أخ! بمرّك الحين خليك جاهزة.
استغربَت جمودَ صوتِه، عـادةً ما يكون مازحًا ينسكِبُ إلى أذنيها برقّة . . لفظَت رغـم استغرابها بنبرةٍ واضحـةِ المعـالم : هالمـرة لا ، مصختها ما صارت والله ! مو يعني فارس معطيك الضوء الأخضر ما تاخذ برأيي!
فواز بصبرٍ فارغ : أيش عذرك مدام جنان؟
جنان ترفـع حاجبها بتحدّي : مدام أيش يا أخ! لا زلت آنسـة لو سمحت.
صمتَ للحظـةٍ قصيرةٍ انسكبَت فيها زفـرتهُ الحـادة قبل أن تنقطـع فجأةً بقطعِه للاتصـال . . .
قطّبت جبينها باستنكـارٍ متفاجِئ، هل فعلًا أغلـق الهاتِف في وجهها ! . . " اوووف " .. أصدرتها من فمِها لتردفَ في نفسِها بتفكير : يبدو بأنّ مزاجـه سيءٌ بما فيه الكفايـة لينفجر كبركان ! ... ومن الجيّد أنه أغلق ، فهي بشكلٍ تلقائيٍّ كـانت لتجابهه بالحديث.


،


ديما : بعضٌ مما لديك دي ساد.
رغـم أنه كـان غاضبًا بالفعل، إلا أنه كـادَ يضحكُ على لفظِها ذاك الاسم في خضمِ غضبها في المقابل، ارتفعَت حواجِبه ، ابتسمَ هذهِ المرّة بلؤمٍ وهو يمدُّ يدهُ إلى عنقها ليشدّها إليه من مؤخرّته في اللحظـةِ التي اتّسعت فيها عينيها بتأهبٍ وترقّب.
سيف باستمتاعٍ يُمسكُ معصمها بيدِه الأخرى ويرفعُ يدها إلى وجههِ المُبلّل ، مسحَ خدّه الأيمن بكمّ قميصِها البُنيّ وهو يهتفُ متصنعًا الحيرة : والحين وش بيسوي فيك دي ساد؟
استقبلتْ سؤالـه ببرود، رفعَت حاجبـها كمن يُجيب بسؤالٍ آخـر " ماذا سيفعل؟ " بنبرةِ استخفافٍ هتفَت بها عينيها، مرّر سيفْ لسانـه على شفتيهِ دون أن يتركـها، يشدُّ على معصمها ويُميل ببسمتِه أكثر وهو يهتف : عندك فكرة؟
ديمـا ببرود : ياكل تراب.
انحنـى بوجههِ إليها بسرعةٍ خاطفـة ليطبـع قبلـةً رقيقةً على أرنبـةِ أنفها، شعرَ بها تقشعرُّ إلا أنها لم تُبـاليْ بشكلٍ فعلي، إن عبـرت المُبالات على جلدها فهي لم تتجاوز الأمـر إلى سطحِه.
هتف سيفْ وهو يبتسم ولتوّه ينتبه : خشمك أحمـر .. مزكمة؟
ديما بنظرةٍ لا مبـالية : أنا مخليتك تبوسني براحتك عشان أنقل لك الزكـام.
سيف : ههههههههههههههههه أحلـى عدوى والله.
ديما بجدّية : ما فيه امكانيـة للحمـل بهالوقت ولا بعدين، لا عاد تسأل الدكتورة ولا تعلمني جوابها لأني مو موافقة! وبعَد ما راح أترك شغلي .. إذا بترجع سيف الأولاني فصدقني إنت كذا ما تكسب كثر ما تخسرني.
سيف يبيتسمُ وهو يمرّرُ كفه على شعرها : هدفي مو أكسبك لأني ضامـن عدم خسارتك ، وين بتروحين من قُربي وأنتِ منّي؟ الهدف أعيشك من جديد ، أعيـش انفعالاتِك.
ديما بغيظ : أها زين وضّحت أهداف خططك أكثـر ، تخسي دي ساد.
سيف : ههههههههههههههههههه يا حلو تخسي منّك ويا حلو دي ساد من صوتك ... قوليها مرة ثانية.
يستفزّها أكثر ! يجيدُ ذلك في اللحظـةِ التي أوضحَت أنه لن يصِل إلى أهدافِه ! مدّت شفتيها بغيظٍ لتلتقطَ عينـاهُ تلك الحركـة البسيطـة ويضحك أكثر بانتصـارٍ وتسليـة، كـانت فاشلـة، وقتها رغـم أنه طـال على قلبـه إلا أنه فعلًيًا لم يكُن كذلك واستطـاع أن يعيشها سريعًا وإن لم يكُن بشكلٍ تـام.


،


يقفُ عند النـافذة، عادَت يدهُ تتلاعبُ بالقداحة، يُشعلُ نارها ويطفئها بتنـاغم، يعشّش في صدرِه ويلات الانتظـارِ التي تفتّت الصبـر وتُلاشيهِ في ريحِ الغضب. رنّ هاتِفه لتتوقّف يدهُ عن التلاعبُ بالقداحة، مدّ الأخرى بسرعةٍ إلى جيبِه كي يُخرج الهاتِف على أمـل أن يكون شريكهم الثالث قدْ جـاءَ أخيرًا وسينتهي هذا الانتظـار، وكـان لهُ ما تمنّى ، ردّ بانفعـالٍ ليلفظَ بحدّةٍ منفعلةٍ مبـاشرة : أين أنت أيها الاحمـق؟
الآخر بصوتٍ منفعلٍ حادّ : اخرجـا بسرعةٍ من هذا المكـان حالًا !!
اتّسعتْ عينـاهُ بصدمةٍ وتجمّدت ملامِحه، كفّه الحاملـةِ للقداحة ارتخَت، دسّها في جيبِه ببطءٍ ليلفظَ بخفوتٍ مترقّب : ماذا حدث؟
الآخر : هنـاك رجلٌ دخـل إليه ومعه رجلان ..
بتساؤل : شرطة؟
هزّ الآخر رأسه بالنفي : لا أعلـم ، لا يرتدون ما يثبت ذلك لكنّني لمحتُ مسدّسًا مع أحدهم. لذا اخرجا سريعًا.
لفظَ بصوتٍ ارتبكَ قليلًا وهو ينظُر لرفيقه : قد يكونون منّا ..
الآخر : لا أظن ذلك ، كنّا لنعلمَ بقدومهم.
زفـر ليومئ وهو يتحرّك ، وبهدوءٍ مستعر! : حسنًا ، سنخرجُ قبل أن يصلوا لهذا الطـابِق المرتفع ، كُن قريبًا بسيّارتك .. إياك أن تبتعد.
أغلـق ومن ثمّ اقتربَ من ليـانْ بخطواتٍ متّسعة وهو يلفـظ لرفيقه : احملها بسرعة .. هناك مسلّحون دخلوا إلى هنـا ...
وقفَ ذاك بسرعةٍ موسّعًا عينـاه : ماذا !! وكيف سنخرج إن كانوا قد دخلوا !!
الآخر يحمـل ليـانْ على كتفِه رغم أنه أمره هو أن يحملها إلا أنه لم يكُن ليتنظر، أجابه بصوتٍ مُحتدّ يكـادُ يرتفـع ويفضحَ الغرفـة التي يجلسان فيها : عبر بابِ الطوارئ .. كُنت قد تفقّدته لحظـة دخولنا وكـان مفتوحًا ... تحرّك هيـا !!

خرجـا من الغرفـة بهرولةٍ سريعة، بـابُ الطوارئ الصدِئ كـان قريبًا منهما، لم يحتَج الأمـر أكثر من عشرِ ثوانٍ إلا وضوءُ النهارِ يغشى وجوههما دون ظـلامِ الممرّ ، كـانت تستقبلهما الشمـس وضيوفٌ أيضًا ، رجـلانِ آخران وقفـا بعدَ عتبتينِ من درجِ الطوارئ.
تراجَع الذي كـان يحمـل ليـان وهو يعضُّ شفته السُفلـى ليشتـم شتيمـةً بذيئة بصوتٍ صـارخ ، وفي تلك اللحظـةِ وصـل تميم من خلفِه باسمًا ليلفظَ بهدوء : لا داعـي للغضب ، لا ننوي أن تضرّكم يا عزيزي.
التفتَ مباشرة وقد كـان ليلتفتَ بردّةِ فعلٍ تلقائيّة كيْ يهربُ من الجهةِ الأخرى بعدَ أن واجـه هؤلاءِ في طريقه، لكنّ الهدفَ تغيّرَ في سرعـةٍ خارقـة، والتفاتهُ الآن لم يكُن للهربِ بل للصوتٍ الذي جـاءه لينظُر إليه متأهبًا ، والآخـر كـان قدْ مدّ يدهُ إلى جيبِه ليُخرجَ سلاحـه ، لكنّ أحدَ رجـالِ تميم من خلفِه قبـض على معصمِه ولواها إلى الخلف بقوّةٍ كـادَت تحطّمه.
صرخَ ذاك بألمٍ ليهتفَ تميمْ بحدّةٍ إلى رجُلِه : عامـله بمهل ، في النهايـة نحنُ نعيشُ للأهدافِ نفسها ولا نريد أن نقفَ في وجهِ الآخر.
أرخى من شدّهِ على ذراعِه بينما عقدَ الذي كـان يحمِل ليانْ حاجبيه بشك، كـانت يدُه اليُسرى تقتربُ من سلاحِه بينما الأخرى تثبّت ليـانْ على كتِفه ، لم يتسرّع في إخراجه، كـان يعلم أنه أصلًا لن يستطِيع للذي يقفُ خلفَه منتظِرًا أمرَ تميم . . بتساؤلٍ حـاد : من تكون؟
تميمْ بنبرةٍ تحمـل من الاستخفافِ الكثير : شخصٌ يشبهك ، ولا يريد إيذاءك.
كـان ببساطةٍ يكفُر بما قـال، قالها بسخريـةٍ واحتقـارٍ واضـح استفزّ الآخـر ليهتفَ بصوتٍ اعتلى بغضب : ماذا تريد إذن.
تميم ببرود : الطفلـة.
بقهر : مــاذا !!
تميم يبتسمُ بسخرية : لستُ أتـاجرُ بنفسِ اتّجاهِك .. أنتمي للخارجينَ عن القانون مثلكما لكنْ بأسلوبٍ آخر ، لذا لا تقلق ، لا أريد سرقتها منك بل استردادها ... ابحثْ عن سواها حولَك .. هذهِ الطفلـة تخصّني.
اتسّعت عينـاه بغيظ، رغـم أنه استوعبَ مكنونـاتِ حديثِه إلا أنه شعر بأنّ من العـار أن يردَّ غنيمتهُ إلى أحدْ ، تصلّب جسدهُ باعتـراضٍ واضـح التقطَهُ تميمْ ليبتسِم أكثر ويلفظَ بنبرةِ وعيدٍ امتلأت بالخطـر : لا أنصحكَ بشيءٍ خـاطئ ، فُرَصُك بسيطة ، أنتَ هنـا ونحنُ من حولك .. لا نريد إيذاءك .. لذا سلّمها فقط .. وابحثْ عن غيرها .... الخيار لك ، أن تموت ونأخذها قسرًا أو تسلّمها لنا وتحيـا لتعوّض نفسك بآلافِ الأجسـاد.

،


" مامتي "
باستنكـار : مامتـي؟
ضحكَت من ملامِحها المستنكـرةِ للفظـها المفاجِئ ذاك بدلالٍ ناعِم، مالَت برأسها قليلًا إليها حتى وضعتهُ على حُجرها وهي تبتسـم برقّة، وبصوتٍ ناعِم متطلّب : العبـي بشعري مامتي.
ضحكت أم فواز مستغربـةً الدلال الغريب الذي تمارسه، إلا أنها خلخلَت بأناملها بين شعرها وهي تلفظ : تدلعي يا عمري جعل ما يتدلعْ غيرك.
أسيل بضحكـة : ترى مامتي مزحـة ، بس حبيت أغيّر جو.
ام فواز : شكلك اشتقتي لهالحركة صايرة تحطين راسك بحضني كثير هاليومين.
أسيل تبتسمُ بحبّ : أي والله ، آخر مرة سويتها قبل زواجي بشاهين عشان كذا مشتاقة لها.
ام فواز بحنان : خذي راحتك ، بتلاقيني دايـم منتظرتك تحطّين راسك عشان ألعب بشعرك.
أسيل بصوتٍ شـردَ فجأة في تفاصيلِ الطاولـة البنيّة أمامها : أي ، بلاقيك .. دايم بلاقيك.
كـان لكلمـاتِها أبعـادٌ أخـرى ، شعرتْ أمها بالشكّ نحو معناها إلا أنها صمتتْ، بينما ظلّت أسيل تنظُر للأمـامِ باختنـاق، لم يعُد هنـاك في حياتِها الآن ودائمًا شخص تعودُ إلى أحضانِه سواها، لا أحـد عدا فواز الذي قدْ ينشغـل إلا أن أمها تبقـى دومًا أمـام عينيها ، لا أحـد إطلاقًا ، هاهـي تنبذُ شاهينْ ومتعب من حياتِها ، لمْ يعدْ لهما وجود حتى إن بقيَت لهما ذكـرى.
عقدَ حاجبيها فجأة ، كيفَ يجتمـع الاثنـان؟ كيفَ قدْ تحبُّ مرّتين ! إن كـان معنـى مشاعرها أنّها أحبّت مرّتين فهي بهذا تخونُ إيمـانها الذي اقتضى أنّ من يحبُّ لا يحبُّ مرتين ، فكيفَ قدْ يحدُث هذا؟ كف !!
عضّت شفتها السُفلـى، تعودُ لتتذكّر الكلمـاتِ التي ألقتها على مسامِع شاهين انتقـامًا ، أوجعته ، تدرك ذلك وتدركُ شدّة وجعها لـه ، رغـم أنها شعرَت ببعضِ النـدمِ إلا أنها الآن تمنّت لو أنّ الوجـع أضعافًا أصابَ متعب .. هو الذي أذنبَ بحقّها أكثـر ، هو الذي أذنب بحقّها أكثر !!


،


بعدَ أن أغلقَ فوازْ اتّجهت نحو المطبـخ وهي تفكّ حجابها وتُريحه على كتفيها، شغلت الغلّايـة الكهربائيّة لتصنـع لها قهوةً تعدّل مزاجَها الذي سـاءَ منذُ الصبـاح ، أخرجَت الكوبَ لتفرّغ كيسَ القهوةِ السريعَة ومن ثمّ وضعَت السكّر ، كـانت غاضبـة، كيفَ تستطِيع الصبـر أمـام كلّ هذا؟
عادةً ما تحبُّ السُكّر معتدلًا إلا أنها هذهِ المرّة ضاعفَتهُ وهي تبتسمُ بتحدّي ساذَج أمام حبيباتِه التي كانت تتجانَس مع بودَرة القهوة، علّ زيادَة السُكّر تمحو مرارةَ غضبِها.
سكبَت المـاءَ عليه ومن ثمّ خرجَت من المطبـخ دون أن تخلطَ مكوّناته، صعدَت عتباتَ الدرجِ وهي تحرّك الملعقـةَ وتتمتمُ بغيظ : صباحي سكّر وعفَن بعد ... اثنين يا ربي! اثنين شلون دخلوا بحياتي ما أدري !!
دخلَت غرفتَها لتضع الكوبَ على الكومدينَة ومن ثمّ جلست على طرفِ السرير وهي تدندنُ أبياتًا للعنودِ كيْ تعدّل مزاجَها السيء وكفها تسحب حجابها وترميه على السرير : هنا عتمة .. وأنا في داخلي قنديل ... أنا عتمة ومن حولي كثير أضواء
هنا كذّب علي ( ابريل ) .. وراح ابريل .. وخلاّني لبيبة خانها الإيماء
ربع ساعة وتجيني النادلة بتشيل .. بقايا قهوتي .. : عفوًا أبي لي ماء
قاطَعها صوتُ هاتِفها الذي رنّ في جيبِ بنطـالها الخلفيّ ، وقفَت لتُخرجه وهي تعقدُ حاجبيها وجانبٌ منها دعا بخشوعٍ داخليٍّ ألا يكون هو ، لقد أغلقَ وهو غاضب ، لمَ قدْ يتّصل بِها من جديد؟
عضّت شفتها بإحباطٍ ما إن رأت أنه كان هو بالفعـل، زفـرت لتردّ عليه مبـاشرةً بغضب وهي تلفظُ بحدّة : نعم !
فواز : أنا تحت افتحي لي.
اتّسعت عينـاها بصدمـة، تجمّدت كفيها للحظـةٍ إلا أنها سرعـان ما عبـرت فيها حرارةٌ صاخبـةٌ لتهتفَ من بينِ أسنانها بغضب : وليه إن شاء الله !
فواز ببرود : بتطلعين معي.
جنانْ ترفـع حاجبها باستهجان : ما قلت هالشيء ..
فواز : أنـا اللي قلته.
مرّرت لسـانها على شفتيها، يستفزّها وجدًا ! إلا أنها رغـم ذلك ابتسمَت بتحدّي لتلفظْ : ومين تكون أنت؟ ... وعلى فكرة عشان مرارةْ صوتك اللي سمعتني فيه قبل حطّيت السكر بالقهوة دبـل.
فواز بغضبٍ احتدّ صوته : شكلك تبيني أكسر راسك دبـل !! * بأمـرٍ غاضِب * افتحي البــاب !
تأفّفت بغضبٍ لتتحرّك باتّجاه البـابِ وهي تهتفُ بقهر : نشوف وش وراك !

في الأسفـل ، يدسُّ كفهُ اليُسـرى في جيبِه والأخـرى تثبّت هاتِفهُ في أذنـه ، غاضِب ! يكـادُ ينفجـر ، غاضبٌ من مصدريْن، أحدهما موقفهُ أمام عمّه يوسفْ من قبلهِ لحظـاتِ وقوفهِ مع جيهان ، والآخَر ضاعفَته فيه جنـان الآن ! كان مشتّتًا بعدَ حديثهِ مع يوسف، هذا التشتّت استفزّه بما فيه الكفاية ليصدأ الهدوء فيه.
يكـاد بالفعـل يحطّمُ شيئًا ما ! . . . أغلقَ الهاتِف وأخفضَه ليدّسّه في جيبِه ما إن رأى البـابَ يُفتـح ، لم تكن قد فتحتـه كمـا يجب بعد، مدّ يدهُ دونَ صبرٍ ليدفعـه ويدخـل مبـاشرةً دون انتظـار .. بينما تراجَعت جنان وهي تنظُر نحوه بشرارةِ الغضبِ في عينيها بعدَ استفزازِه الكافي اليوم ! كـان شكلها فوضويًّا برتابـةٍ فاتنـة، ترتدِي بنطالًا من الجينزِ و " تيشيرت " أسود بينما شعرها ينسكبُ على ظهرها وتتنـاثر العديدُ من خصلاتِه حولَ وجهها.
نظـر لها فواز بحاجبٍ مرتفـع وهو يدسُّ كفّه الأخرى في جيبِه لافظًا بحدّة : صايرة تقلّين أدبك معي بزيادة !
رفعَت ذقنها بتحدي : ما قللت أدبي .. أنت اللي تماديت وهذي مجرّد ردة فعل.
فواز يُشير لها أن تذهَب : روحي اجهزي وتعالي عشان نطلـع.
جنان بسخريـة : ما قررت للحين أطلـع معك. تفضّل للمجلـس أخ فواز.
فواز بتحذير : جنان .. امشي دام النفس عليك طيبة.
جنان : ما أبغى .. * أشـارت للبـاب * تقدر تتفضل لو ما تبي تدخل للمجلس.
رفـع حاجبه باستنكـار : تطرديني يا آنسه؟
جنان وقد فهمت تلمِيحه بـ " آنسة " جيدًا، وضعتْ يديها على خصرها وهي ترفعُ ذقنها وتهتف : أي آنسة عندك شيء؟ وبعدين وضعك غريب وراك صاير مختل؟ ما تبي تتفضل للمجلس والحين تقول تطرديني ! تبينا نوقف هنا مثلًا عشان الفضايح؟ ترى هالمرة أبوي وفارس موجودين.
فواز ببرود : أدري.
جنان بتهكم : ما شاء الله وتدري بأحوال اللي بهالبيت بعد !
فواز : اتّصلت عليه وكان صوته نعسان .. قال بيرجع ينـام.
أغاظها أكثـر، اقتربَت منه تكادُ تنفجِر صارخـةً في وجهه لتجلبَ فضيحةً إلى نفسها لا محـالة ! هتفتْ بصوتٍ غاضب وهي تقبضُ كفيها بقوة : وهذا طبعًا بيخليك ما تحشم أحد بهالبيت وتاخذ راحتك !!!
ابتسـم ابتسامةً كـانت شفّافـةً لا وجودَ لها، زائفة : تبالغين .. اتّصلت عليه عشان أقوله بطلع معك وأنتِ ما عندك مانع.
شهقَت بصدمـةٍ لتتّسع عينيها دون تصديق، تشنّج جسدها ، هذهِ المرّة كـادَت تصرخ في وجههِ دون أن تبـالي، اقتربَت منه أكثر بغضبٍ بينما كـاد هو أن يضحكَ رغـم أنه لا مزاجَ له لذلك ، قـاومَ ضحكتـه وابتسَم وحسب وهو يرفـع يدهُ ليمدّها إليها ، وفي لحظـةٍ سريعةٍ كـانت تستقرُّ على رأسها قبل أن تستوعِب امتدادها إليها، اتّسعت عينـاها، تصلّبَ جسدها بينما هتفَ صوتهُ بابتسامةٍ متسائلة : شربتِ قهوتك أم السكر الدّبـل؟
ابتلعَت ريقها بقهرٍ منـه، كفّه التي كانت على رأسها أربكتها، شتّت عينيها عنه وهي تُرجِع قدمها اليُسرى للخلف بهدفِ الابتعاد، وبصوتٍ خافتْ : لا.
سبقها فوازْ ممانعًا ابتعادَها، كـانت عينـاهُ تعبُر ملامِحها بطريقةٍ مُربكـة ومن ثمّ إلى شعرها بشرودٍ مفاجئ، تخلخلَ خصلاتها فجأةً بطريقةٍ منعتها من الابتعاد ، بطريقةٍ جعلت عينـاها تتّسعان أكثـر بنفورٍ وهي تحاول أن تبتعدَ إلا أنّ كفّهُ ثبّتت رأسها . . ابتسمَ أكثـر ليلفظَ بشرود : شعرك عامِل فتنَة !
شهقَت بصدمةٍ دونَ صوتْ، صدرها ما كـان قد ارتفـع بقوّةٍ دون أن يهبـط، ورغـم النفورِ ورغـم ضيقها من قربهِ هذا إلا أنّ حمرةً خجولـةً تسلّلت إلى وجهها، حمرةً عفوية كـان مفتاحُها خجلٌ من كلمـاتٍ لم تعتدَها من رجُلٌ سوى فارس ووالدِها،
أغمضَت عينيها بربكـةٍ وهي تشعُر بأصابعه تستشعرُ خصلاتها، تشعُر أنه ليسَ من نوعِ الرجـال الذين ينجذبون ويعشقون بمقوّمات الجمـال، ليسَ ممّن تهزمـه فتنتهُ بملامِح جميلةٍ أو جسد، أو فتنـة شعر، لذا فتحَت عينيها لتنظُر لوجهه الشاردِ بوهن، صوتها الذي كـان قويًّا محتدًا خفَت الآن بربكتها، تساءلت بشكّ : يشبه شعرها؟
عبـرتْ الصدمـةُ على وجهه لوحـةً من تفاصِيلَ واضحـة، انسّلت كفه من شعرها ليسحبها مباشـرة إليه، خُصلـةُ التفّت حولَ سبّابتـهِ لتغادِر رأسها حينَ جذبَ يده، غادَرت معه لتضيّق عينيها من الألـمِ الخفيفِ لنزعِ خصلةٍ من رأسِها.
بينما تراجـع فوازْ للخلفِ بصمتٍ جامـد، هذا الصمتُ تدرك منه الغضب، لذا ابتسمَت بانتصـارٍ بعدَ أن أدركته ، وبتحدّي : يعني ما غلطت.
تعلّقت أحداقـه بِها بجمودٍ غاضب، ملامِحه احتدّت، عبـر بين تجاعيدِ- ما بينَ حاجبيه - سفينةٌ من الغضبِ سكبَت شراعها على صوتِه : غلطتِ !
جنانْ بابتسامةٍ وهي ترفـع ذقنها للأعلـى : ما غلطت.
فواز بحدّة : وبعدين معك ؟!!
جنان : شعرها يشبه شعري .. وتبيني أظـل زوجتك وأنت الحين ما قربت مني إلا عشان هالشبه !
فواز بصوتٍ انفجـر بالحدّةِ وهو يقتربُ منها : يعني مشكلتك مع القُرب ؟!!
صدمَت من تفسيرهِ لما قالت، تراجَعت بذعرٍ للخلفِ وهي توسّع أحداقها وقد استوعبَت تعبيرها الخاطئ للأمـر .. هتفتْ بحدّةٍ وخوف : لا تقرب ... مو هذا قصدي.
لم يسمَح لها بالابتعاد، كـان ذراعه التي التفّت حولَ خصرها بقوّةٍ أسـرع، شدّها بقوّةٍ إلى صدرِه لتشهقَ بشدّةٍ شعرَت معها أن رئتيها انفجرتا، وضعَت كفيها على صدرِه بخوفٍ تحاوِلُ دفعـه بينما صوتُه هدَر بغضبٍ جنونيٍّ في مسامعها : إذا مو هذا قصدك وش هو أجـل؟ .. وش بتكون مشكلتك بالضبط !!
حرّكت رأسها بانفعـالٍ لتتنـاثرَ خصلاتُ شعرها على وجهها وتعبَث بوضوحِه، دفعتـه من صدرِه إلا أنها لم تستطِع أن تزحزحَه وهي تلفظُ بذعـر : أنت مجنون ... ابعد عني .. ابعد !
فواز : بالأول علميني ، أيش المشكلة اللي تعانِين منها! ليه مو راضيـة تقبلين بهالزواج !
شدّت على أسنـانِها، ضربَته في كتفِه بغضبٍ لتهدُر بصوتٍ غاضبٍ صاخِب بالقهر : لأنـي ما أبييييك ... هذا هو السبب وبس ، ما أبي شخص مريض بحب من قبـل ، يا أكون الأولـى أو ما أكون ..
فواز بسخريـة : لهالدرجة ما عندك الثقة بنفسك؟
جنان بنظرةِ احتقـارٍ وتحدّي : لأني واثقـة من نفسي ما أبيك ، ماني يائسة عشان أقبل بزواج بهالطريقة ... من بعدَك أنا واثقة بجذب عشرات الفرص للزواج ... أنت اللي منت واثق من نفسك ... مُثير للشفقة لأنك ما تقدر تحارب عشان حيـاة تبيها بقرارة نفسك !
ظلَّ ينظُر لها بعينينِ مشتعلتين، بوجـه فرغَ من تعاليـم الهدوء، كـانت أقدامُها قد ارتفعَت قليلًا عن الأرض، تقفُ على أصابِعها بفعلِ ذراعِه القويّة والتي شدّتها بقوّةٍ كادَت تعصر خصرها. ابتلعَت ريقها وهي تشدُّ قبضتيها وتهمـس : احترم اللي بيننا لليوم .. واتركني.


،


جلسَت في إحدى الكراسي العموميّة، تضعُ كفيها على وجهها ولازال الدوارُ يتلاعبُ برأسها، بجانِبها امرأةٌ كـانت قد أمسكَت بها قبل أن تسقطُ فاقـدةً الوعي وساعدتها لتصِل إلى هذا المقعدِ القريبِ وترتـاح عليه، لم تفقدْ وعيها بالكـامل، كـانت تعِي الأصواتَ وبعض الكلمـات .. ارتشفَت قليلًا من الماء من قنينةٍ أحضرتها لها.
رفعَت وجهها قليلًا والكثيرُ من الدوارِ غلبَها، لا تدري لمَ وهنَ جسدها فجأة، ربما من الضغطِ الذي كـان يتحكّم بتفكيرها وجسدها، لذا تمايلَ ثباتها وسقطَت.
يا الله يا ليـان ! . . رفعَت وجهها الشاحِب بضيـاع، وصوتُ رنينِ الهاتِف لمْ يتوقّف ، بالتأكيد والدها، كيفَ تحدّثه وهي خائفة؟ كيفَ تقول بأنهما عائدان وهي لا تدري إن كـانت ستعود؟ كيفَ تلفّق عذرًا لغيابهما وهي لا تضمنُ صدقَ العودة؟
لا لا .. لا يا الله ! هي بخير .. ستكون بخير .. رغـم أنها لا تثقُ بذلك الرجـل ، بالتأكيد لن تثق، لكنْ هنـاك أمل ، بطريقةٍ ما هناك أمـل !
مرّرت لسانها على وجهها الجـاف، نظـرت من حولِها بتيهٍ وهي تومئ لسؤال المرأة بجانِبها : Are you ok?
إلا أنها وقفَت فجأةً موسّعةً عينـاها وهي تشهقُ بقوّة، غادَرها الأكسجِين وكـان كلّ ما شهقتْ بِه بُكـاء، بكـاءٌ هزمـها أمامه كما هزمها جمودُ جسدها الذي توقّف عن الحركـة وحين أرادَت أن تذهبَ لها ... لم تقدِر بطريقةٍ قهرتها ! حـاولت محاربـةَ تصلّب جسدِها ، لكنّها لم تستطِع، دموعها سقطَت بتتابُعٍ تحكِي الذعـر الذي كـادَ يفتُك بها ولم تعبّر عنه سوى بالوهن.
اقتربَ تميم دون أن ينظُر لها بعدَ أن لمحَها جالسـةً هنا، وضعَ جسدَ ليان الصغير على المساحـة الواسعةِ في الكرسيّ ومن ثمّ ابتسَم ببرودٍ وهو ينظُر ناحيـةَ أرجوان هاتفًا : في المرة الجايـة راكضي ورى شنطتـك وانسيها .... تدرين المشكلـة وين؟ إني دايم ألاحظها معك أنتِ بشكل خاص.
ارتعشَت شفاهها، لم تنظُر إليه، كـانت جامـدةً للأمـام ودموعها تعبّر عنها وحسب، أمـال تميمْ فمهُ وهو يتتبّعُ دموعها، اعتدَل في وقوفهِ وهو يردفُ بصوتِه اللا مبـالي ذاتـه : أنصحك اللي صار يكون مجرّد سر بيننا، مو من مصلحتك أبوك يدري * ابتسمَ باستخفافٍ ليُردف * لأنه بيثق فيني أكثـر، وأتوقع ما تبينه يثق بمجرم حتى لو ساعدتك فهذا لأسباب خاصـة . . . انتبهي لها يا حلوة، وجهها مورّم وعلى الأرجح انضربت.
تحرّك بعدَ كلمـاتِه تلك مبتعدًا، بينما التفتت أرجوانْ أخيرًا نحوها ببطءٍ ودموعها تتساقطُ أكثـر، جلَست أخيرًا بانهيـار، كـانت المرأة القريبـة منها لا تفهم شيئًا مما يحدث وتراقبُ بفضول، رفعَت جسدها النائمَ إليها، وضعتها في حجرها في شبـه جلوسٍ وهي تنظُر لوجهها وتبكي أكثـر من التورّم الطفيفِ على خدّها.
ضمّتها بقوّةٍ إلى صدرِها، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تدفَن وجهها فيه، وتهمسُ باختنـاقٍ لا تدري كيفَ تقولُ تلك الكلمـاتَ بثباتٍ رغمَ أنّها خائفة، لا تدري كيفَ كـانت لا تهتزُّ كارتعاشاتِ قلبها : راح تكونين بخير .. راح نكون كلنا بخير.


،


قـاربَ على الجنونِ وهو يتّصـل دون ردٍّ يُريحـه، هذهِ المرّة بدأ يسير ومعه جيهان، يبحثُ عنهما بخوفٍ وانفعـالٍ يُرعـش كفّه وهو يتصوّر أن يكون أصابهما ضرر ، لمَ لا ترد! لمَ لا ترد! ما الذي يمكن أن يكون أصابهما؟
بينما كـانت جيهان تسير معه وهي أيضًا وصلَت لمرحلـةٍ كبيرةٍ من الخوف، تنظُر لهاتِفها بعدَ أن أرسلَت رسالةً قصيرةً إلى أرجوان " وينك؟ أبوي بينجن! " تمنّي نفسها أنّ ردًا جاءها.
رفعَت رأسها بسرعـةٍ ما إن سمعَت صوتَ والدها يهتفُ بقوّةٍ وانفعـال : وينك أنتِ وأختك؟ أتصـل ما تردين بتجنوني أنتم اليوم والا . . .
صمتَ وهو يتنفّس بانفعـالٍ غاضب، يستمـع لكلمـاتِ أرجوان التي يشعُر بها اهتزّت في أذنها ولم يسمعها كمـا يجِب ، ابتلعَت جيهان ريقها بخوفٍ عليه ، كـانت كفّه ترتجِفُ بانفعـالٍ واضـح من فرطِ ما مرّ بِه في هذهِ الدقائق الطويلـة، رفعَت كفّها بتردّدٍ لتضعها على عضدِه وكأنها ترجوه أن يهدأ، بينما هتفَت أرجوان باختنـاقٍ من الجهةِ الأخـرى : ليـان طاحَت ، هذا اللي خلاني ما أرد على الجوال .. مدري شلون بس أحس تشوشْت . .
يوسف : طاحت؟!!!
أرجوان تغمـض عينيها وهي تحاولُ حَبكَ القصّةِ كمـا يجِب : أيه .. وطيحتها كانت قوية حتى وجهها ورّم * لم ترِد أن تخبره أنها فاقدَةٌ للوعيِ على الهاتِف لذا أردف * تعال يبه أحس رجولي ماهي قادرَة تشيلني . .
يوسف بخوفٍ رغـم أنّه خفّف من وطأتهِ إلا أنه لازال يعبثُ بقلبـهِ ودمِه، تحرّك بسرعةٍ بعد أن أشـار لجيهان بأن تمشي ، وبصوتٍ حاد : وينك بالضبط؟


،


أنا يا سيّدي رؤيا تداعت
لأنّي حينَ زُرتُ نومك استيقظتَ قسرًا
من بابِ الجفـاء دون آسفْ
أنا يا سيّدي قهرًا بكيتُ
وقهرًا عزّيتُ روحي في المرايا
لينعكس في وجهي الحُب - واجِف !

زفـرتْ بقوّةٍ وهي تتراجَعُ للخلفِ وتمرّر لسانَها على شفتيها، هذهِ المرّة جربتْ أن تكتبُ بالحِبر على ورقـة، اكتفَت من الكتابةِ على " الكيبورد " لتسكبَ من قلبها إلى عينيها، تريد أن يكونَ الانسكـابُ من قلبها ممتدًّا إلى أنامِلها ومن ثمّ الورق !
نهضَت فجأةً بعدَ أن سمعَت خطواتًا جاءتْ قريبـةً من الغرفـة، أغلقَت الدفتـر لتضعَ من فوقِه مجموعـة كتبٍ أخـرى ليدخـل أدهم مباشـرة، لا تستبعدُ أن يفسِّر كلمـاتِها كمـا يريد، كمـا أنها لا تضمـن أبدًا أن تفكيرهُ " برَد " ناحيـة حبها القديمِ ليـاسِر. تمـارسُ الكتـابةَ كطقوسٍ للحيـاة، ليسَ مهمًا أن تحكِي قصّةً عنها هي ! فهي بالتأكيد لم يحدُث لها مكنونُ ما في الكلمـات، هي طريقةٌ لتعزيـة كلِّ شيءٍ في الحيـاةِ فقط، لا تعني أنّها تعيشُه كما هو بالضبط، لكنّها فقطْ تتقمّصُ أدوارًا وترثيها.
تحرّكت بعدَ دخُول أدهـم ناحيـةَ السريرْ بشكلٍ تلقائيٍّ وهي تهتفْ : تأخّرت .. كل هذا تشوف حبيبتك؟
أدهم يبتسمُ وهو يرفـع حاجبَه : مشتـاق لها مرّة!
إلين : عاد الله يكون بعونها ، ما لقت غيرك؟ موعودة بالجنّة إن شاء الله.
هزَّ رأسـه بالإيجاب : بإذن الله ، عشان تكون زوجتي بالجنـة بعد.
حملَت منشفـةً كانت على السريرِ لتطويها بفوضويّةٍ وهي تشتّتُ عينيها بربكـةٍ وحيـاءٌ يصبُّ في وجنتيها دون بوادر جعلَه يضحكُ بتسليَةٍ ومن ثمَّ تحرّكت خطواتُه ليتّجه ناحيـة الحمـام.
زفـرتْ ما إن سمعَت صوتَ البـابِ يُغلق ومن ثمّ بقهرٍ رمَت المنشفةَ على السريرِ وتحرّكت باتّجاه البابِ كي تخرجَ وهي تتمتم : وش هالسذاجة ! للحين أستحي منه ومن كلامه المعفن مثله !!!
لوَت فمها بغيظ، توقّفت بعدَ أن تجاوَزت الباب، تذكّرت أنها وضعَت دفترها على الطاولـةِ دون أن تُخبِّئها كمـا يجِب، لذا زفـرت وهي تتراجـع لتتّجه إليه، سترتّبه بين أغراضها الخاصّة بالجامعـةِ كيْ لا تشدّه، لديها الكثير من الدفاتِر المشابهة، رغـم أنها كـانت تكتُبُ عادةً في هاتِفها أو في حاسُوبها إلا أن مراتٍ كثيرةٍ كانت تستعمِل الدفاتِر كسلاحٍ لتكتب، وكلّها بالطبـع تحتفظُ بِها، نصفها في غرفتها القديمـة ونصفُها هنـا ، ولأنها لا تلعلـم حتى الآن مستوى فضول أدهـم أرادَت أن تخبِّئها في موضعٍ لا ينتبِه له.

بعدَ لحظـاتٍ قليلـة . .
ابتسَمت ما إن دخلَت للمطبَخِ ووجَدت سُهى تستعدُّ لطبخِ الغداء، لفظَت باستنكـار : من متى صحيتِ؟ نزلت أكثر من مرّة وما حصلتك فقلت أكيد نايمة!
سُهى تنظُر نحوها وهي تبتسِم : قولي صباح الخير أوّل.
إلين تضحكُ ضحكـةً قصيرة : صبـاح الخير قبل لا يدخـل المساء بعدْ ربع ساعة، وش تطبخين !
سهى : أدهم مشتهي سمك اليوم، توّه جايبه
كادَت ملامِحها تحتدُّ بغيظٍ منه إلا أنها احتفظَت برقّتها قسرًا ، أيضعها في مواقِف سخيفةٍ كالآن عمدًا أم ماذا ! لمَ لم يخبرها بذلك منذُ الصبـاح! هتفتْ وهي تقفُ بجانِبها مُبتسمة : بساعدك.


،


تكـادُ تحطّمُ أظـافرَها بأسنـانها، متوتّرة! يتموّجُ الهواءُ من حولِها ويتسرّبُ الأكسجِين منه عبر زفراتِها التي ثقبَت أوزُونَ المُحِيطِ حولها، أخفضَت يدَها عن فمِها لتعضَّ شفتها هذهِ المرّة وصدرها يرتفـعُ وينخفضُ بشدّةِ تنفّسها ، يا الله ماذا أيضًا؟ لم تستوعبْ كمـا يجِبُ حتى الآن ما حدَث؟ حريق! لا تدري كيفَ افتُعِل! أصِيبَت فيهِ أمها ! ذهبَت للمشفـى وتبعَها سلطـان ، قالت له أنها لا تريد الذهاب إليها ! . . .
شدّت على شفتِها السُفلـى أكثر، تكـادُ تجرحها وتكـادُ تدميها وجعًا لمـا آلَت إليها مشاعـرها ، تبلّدت لزمنٍ مـا ، أو تصنّعت التبلّد بطريقةٍ بارعـة ، لم تعُد تهتم، لا تريد عنايـةً أموميّة ، لا تريدُ بوادِر الأب ممّن سُمِّيَ والِدها، لا تريد أن تقرأ الثراء الفاحِش في معنـى " أسـرة " كـانت دائمًا لا تهتم ..
قبل عامينِ وقعَ حادثُ سيْر كـادَ والدها أن يموتَ فيه، تلك الليلـة التي اتّصلَ فيها المشفى على والدَتها وتداعَت يومها بضعفٍ لا تراهُ فيها عـادةً ، تلك الليلة عبَرت باردَة ، استطاعَت ألا تهتم! وفعلًا لم تشعُر بأنّ شيئًا كبيرًا قدْ يختلفُ إلى ماهوَ أسوأ ... عبرَ خبرُ احتمـالِ موتِه كموسيقّى أرادَ عازِفها أن يجعلها مؤثّرةً على مُستمِعيها ولم يُجِد ذلك.
واليـوم ، جـاءَ النهـارُ محمّلًا بخبـر الحريقِ الذي مسّ أمها، إن كـانت قبل عاميْنِ لم تُبـالي وعبرَت تلك الليلـة باردة، لا معنـى لها، فاليومُ نهارُها مشتّت .. لا تدري ما معنـى أن تموت والدتها ، هل لهُ معنـى في نفسِها؟ هل تهتمُّ أمْ أنّ نبضـاتِ قلبها المضطربـة الآن تقول بأنّها متلهّفةٌ للشفـاء ، لم يمضِي كثيرًا ! لم تُجِد حتى الآن العودَة إلى صدرِ أمّ ، لمْ تُجِد .. وجرّبت ، بطريقةٍ .. بطريقةٍ أحبّتها !
ابتلعَت ريقها وهي تُرخِي من شدِّ أسنـانِها على شفتِها .. حُبّ، قدْ وصـل هنـا أيضًا لمرحـلةِ الاحتيـاج ، كما حدَث مع سلطـان لتقعَ في هذا العذاب ... لكنّ ذلك مُختلف! مختلفٌ عن احتياجِها وحبّها لسلطـان وحضنِه! مختلفٌ جدًّا لأن هذا الحُضن منذُ جرّبته نوى أن لا يُجافيها مهما حدَث ، ألا يفرّق بينهما شيءٌ كالغضب، كالحقد، كالاحتقـار .. هذهِ الحاجـة الفطريّةُ الملحّة لا تبور ، لا تنتهي إلا في واحِد .. في أن تموت !
نظـرت للفـراغ، اضطربَت أحداقها واهتزّت، موجٌ من العُتمـةِ مرّ على عسليّةِ عينيها، لونٌ قـاتمٌ امتلأ في بيـاضِ عينيها كـان شفافًا لا يريى ، لكنّ مشاعـرها كـانت تدركُ قتامته رغـم كونهِ شفّافًا ! .. هذا التنـاقضُ يعني المزيدَ من الضيـاعِ ويعني أنّني رغـم الضيـاعِ أهتمُّ وأريدُ النجـاةَ لروحها، هذا التناقـض يعنيني ، ولطـالما كُنتُ التنـاقضَ في حُبّي دون كرهـي.
كيفَ يكون الحبٌّ مهتزًا ضائعًا بينما الكُره ندركهُ بثباتٍ دون أن نتوهَ في توقّعه؟
انتزع منها شوكـة الشرودِ والضيـاعْ صوتُ غيداء التي هتفَت باستنكـار : غزل !
وجّهت غزلْ أحدَاقها القاتمـةَ إليها بملامِح شاحبـة، لتردِفَ غيداءْ بقلق : لهالدرجة حال أمك سيء؟
لم تملِك إجابـةً في خضمِ الضيـاع، هي حتى لم تتّصل على سلطـان لتسأل رغـم مرورِ الساعات! هزّت كتفيها وحسب، حينها زفـرتْ غيداءْ بضيق، أشـاحَت وجهها لتنظُر للأمـام ، بينما مرّرت غزل لسانها على شفتيها لتغمِض عينيها لثوانٍ قليلـة تحاولُ بها استردادَ ذاتِها ... وبنبرةٍ واجفَة تحاولُ بكلماتِها أن تُزعزعَ هذا الموضوعَ الشائكَ من دماغِها ومشاعرها : اتّصلتْ عليك مرة ثانية؟
بهتتْ ملامِح غيداءْ فجـأةً بصدمـةً من سؤالها المُباغِت، شتّت عينيها بربكـةٍ عنها وهي تبتلعُ ريقها وتهزُّ رأسها بالنفي، حينها قطّبتْ غزل جبينها بشكّ ، وهدفُها وصَلت إليه، استطـاعَت زعزعَة ما أضاعَها وركّزت بحواسِّها في موضوعِ غيداء ، وبجديّةٍ استعادَت فيها ثباتَ صوتها : رجعتْ تتّصل عليك صح؟ مع إنّي كنت السبب ومتأكدة سلطـان بيعصّب لو تدخّلت من جديد بس ما راح أتركك ...
نظـرت غيداء إليها بربكـة، وبضيقٍ لفظَت : أنـا . . .
لكنّها صمتتْ فجأةً بخوفٍ ما إن دخـل سلطـان بخطواتِه الواضحِ معالمِها إلى الغرفـة، أخفضَت رأسها بينمـا وجّهت غزل عينيها إليه وهي تُفـرجُ شفتيها بجفافٍ غزا فمها وحنجرتها، لفظَ سلطـان وهو يخلعُ شماغهُ ويتنهّدُ بتعب : ما جهزتوا ! شوي وطالعِين لأمـي ..
غيداء بخفوتٍ مرتبكْ : أنـا جاهزَة.
ابتسمَ سلطـان : أجـل خلّي عبايتك قربِك شوي ونازل ... * تحرّك مبتعدًا ليُردفَ بأمرٍ هادئ * تعالـي غزل.
قطّبت جبينها وهي تزفـر زفـرةً صامتـة/ساخنـة، شعرت بالحرّ يُصيبُ جسدها، لكنّها وقفَت بهدوءٍ وتبعَته بعدَ أن ألقَت بسمـةً عابـرة إلى غيداء.

في الأعلـى، دخَلتْ من خلفِه هي تفركُ كفيها بفخذيها بتوتّرٍ واضـح، تتكرّرُ صورٌ في هيئةِ لحظـاتٍ تستمرُّ بالولادةِ دون أن يموت أثرها، البـارحةُ دخلَت من خلفِه بشكلٍ مماثل ، تبعتهُ حتى دخلَت ليلفظَ بصوتهِ الجاف " قفلي الباب وراك " .. لذا والآن أغلقَته قبل أن يأمرها بذلك الصوت.
لم تكُن تعلـم ما يريد ، قدْ يكون يريد أن يخبرها ما بِأمّها، لمَ لا تبادِر هي بالسؤال من بابِ الثبـات؟ لازالت تريد المحاولـة في الثباتِ أمامه، لذا مسحَت على فمِها بظاهِر كفّها اليُمنـى ومن ثمّ هتفت : شلونها أمي؟
رفـع سلطـان حاجبًا بعدَ أن استدارَ إليها، وبهدوء : حروقها خطيرة.
غزل وعينيه ما إن وقعَت على عينيها حتّى شتّتها، لكنّها رغـم ذلك ثبّتتها في أحداقه لتسأله بهدوءٍ مماثِل عدا أنه كـان زائفًا : إلى أي درجة؟
سلطـان : للدرجة اللي ممكن تذبحها !
اتّسعت عينـاها بصدمـة، توقّف قلبها للحظـةٍ وهي تتراجـع للخلف، رعشـةٌ سرَت في جلدِها، اضطربَت أصابعِها وأحداقُها تشتّت عن ملامِحه، لم تجِد ما تقوله ولم تعلَم ما كانت تشعر بهِ بالضبطِ سوى أنها رفعَت يدها إلى شعرها لتُعيد خصلاتٍ تمرّدت منه إلى خلفِ أذنيها، وبخفوتٍ كانت لا تعلـم ما الذي انسكبَ في فمها وعجَّ بالرغبـةِ في الحديثِ والنهوض! : ما قد حبيتها ... حرام تموت الحين !
سلطان بجمودٍ يضيّق عينيه : لا تقولين كذا ..
ابتلعَت ريقها وصمتت، أخفضَت رأسها أكثر لتنسدِلَ تلك الخُصلـةُ من جديد إلى وجهها، نظـرت بعينٍ فارغـة إلى قدميْه، تتوهُ في اتّجاهاتٍ لا تدرِي النهاياتِ منها، تتشّت أكثر، يغشـى وجهها الضيـاع، إن كـان في أحادِيث الصمتِ حكاياتٌ فعنوانُها عجزٌ عن الوجودِ بصوت، إن كـان هنـاك شوكةٌ تخِزُ الصمتَ وتقتله ! كيفَ تفهم نفسها وكيفَ تُجيد التعبيرَ دون أن تتعثّر بخطأ الأسـى؟
هتفَت بصوتٍ مختنـق : ما يصير تموت يا سلطـان !
سلطـان : ما راح تموت إن شاء الله.
رفعَت وجهها إليه بأسـى : ما أبغى أجلس هنا .. رجعني.
رفـع حاجبـه، لكنّه حافظَ على هدوئه وهو يهتف : أرجعك لوين؟ البيت معدوم وبروحك !
غزل تقطّب جبينها بضيق، جزءٌ منها خافَ فكرةَ موتِ أمها ، ليسَ لفكرةِ الفقدِ في خضم الاعتيادِ وحسب، بل ماذا سيحدُث! هي وحدَها من وقفَت معها ضدَّ سلطـان ، وقفَت معها كيْ تكمِل حياتها من جديد ! . ماذا سيحدُث لو أصابها مكروه؟
لفظَت متجاهلـةً المنطـق : ما يهمني! مستحيل أظـل هنا ولا أنت تبي يعد .. والا غيّرت رأيك مثلًا !
هل تحاول استفزازهُ بغباءٍ أما ماذا! لم يتغيّر شيءٌ في ملامِحه إلا أنها ازدادَت صلابـة ، لفظَ بتهكّم : نظـرتك للأمور غبيّة !
حكّت شفتها السُفلـى وملامِحها تحتدُّ باستهجـان، وقبلَ أن تردّ كان هو يسبقها مردفًا ببرود : لو أمّك بخير وكنتِ معها تدرين شلون بيكون الوضع؟ كوننا منفصلين ما يعنِي إنّي بتجاهل مسؤوليتي تجاهكم .. ما عندكم رجّال بعد طلاق أحمد لأمّك ، أنا المسؤول عنكم في النهايـة!
اتّسعت عيناها قليلًا بربكـةٍ لتهتفَ بتساؤل : يعني أيش؟ ما كأننا منفصلين !
سلطـان بسخرية : وش مفهومك عن مسؤوليتي تجاهكم ! أصبّح بوجهك وأمسّي عليه؟
أشاحَت وجهها عنهُ باضطراب، شدّت قبضتيها وحلقها يتشنّج ، وبصوتٍ متضايق : ما أبي أبقى معك! قلت كلمتك قبل بتبعدنِي عنك ... الرجّال ما يبدّل كلمتـه!
نظـر لها من زاويـةِ عينيه بطريقةٍ أرعبتها ، رفـع حاجبـه وهو يبتسـم ببرودٍ ساخِر، ابتسامةً كـانت تحمل من خلفِها وعيدًا جارفًا : صح ، الرجاجيل بعيونك اللي يروحون للحـرام ، أمثال اللي أرخصتِ عمرك له.
ما الذي قالتـه يا الله ! .. تجمّدت حواسّها هذهِ المرّة ، قالتها لهُ سابقًا ، لكنّ نظرتهُ الآن ردًّا عليها كـانت مرعبـةً أكثر من ذي قبـل . . . عضّت باطِن خدّها بتوتّر ، في حينِ احتفظَ سلطـان بابتسامتهِ تلك وهو يقتربُ منها خطوةً ويهتفُ بخفوتٍ مرعب : علّميني .. وش مفهوم الرجّال عندك؟
لم تنظُر نحوه وهي تلفُظ بصوتٍ باهِت : يمسك بإحسان .. أو يسرّح بإحسـان !
سلطـان بصوتٍ مُتفاجِئٍ وهو يرفـع حواجبِه دون تصديق : أيه ... وأيش بعد؟
نظـرت هذهِ المرّةَ إليه وقلبها ينبِضُ بشدّة، كـان قدْ اقتربَ منها حتى وقفَ أمامها مباشرةً وظلّلها بجسدِه ، يُربكـها قربـه بهذهِ الطريقة لذا تراجَعت خطوةً للخلفِ وهي تردفُ بقهر : علمتنِي أعرفْ ربّي وأنت عاجـز تتعامـل بوصاياه! .. حاول يكون خلقك القرآن لا تتعامـل معي بقهرك !
أمـال فمهُ بغضب، كتّف ذراعيهِ وهو يبتسِم ابتسامـةً متشنّجةً يستعدُّ لتحويلها في أيّ لحظـةٍ إلى كلمـاتٍ يغرسها في قلبها كنصلٍ مسموم : فشلتِ ! لا تردّين باللي أنتِ ضعيفة فيه .. تطلبين منّي المغفـرة من قبل وتتأملين منّي اللي فوق قدرة البشـر ، والحين تجيبين وصف اختصّ فيه النبـي !
شعرتْ بهِ يكسرُ المسـافةَ التي خلقتها، لذا تحرّكت لتبتعدَ من أمامه ، أدارته ظهرها بعدَ ابتعادها خطواتٍ جانبًا ليلتفتَ معها سلطـان، وبضيق : ماهي فوق قدرة البشـر ! أنت اللي رافـض تحاول وتشوفني بمرتبـة ال***** ، مو الغلطـانة في جانِب واحد ، وبسبب غلطها الأول طاحت بواحدْ ثاني غير مقصود !
وصَلت إلى مستوى يكرهه، يضاعفُ من غضبِه أمامها ويضاعفُ من قهره، مرّر لسانـه على شفتيه والأدرينـالين يندفـع في جسدِه بقوّةِ الانفعـال الذي طرأ عليه، اتّسعت عينـاه قليلًا وهو يرفـع ذقنه باحتقـارٍ لافظًا : كنّا نحكِي عن جانِب واحدْ هو اللي بدينا فيه كلامنـا ... بس لاحظي من ذكرت المغفرة تجاهلتِ كلْ اللي كنا نقوله ... وركّزتِ بالكلام عليه .... تخدعين نفسك أو تخدعيني بإصرارك على الطلاق؟
فغرَت فمـها بصدمـة، مرّت قشعريرةٌ سريعـةٌ في جسدها، التفتت إليه ببطءٍ مرتبكٍ وهي تبتلـع ريقها بعدَ وقوعها في هذهِ الحفـرة بسذاجـةٍ حمقاء ! . . . نظـرت لوجههِ بربكـةٍ وهو تهتفُ بنبرةٍ برزَ فيها التشنّجُ أضعافًا : ولا زلت مصرّة.
سلطـان باستخفافٍ يبتسم : أضعف تمثيليّاتك الرخيصـة
غزل تغيّر دفة الحديثِ بألم : موضوعنا أبي أبتعد ... ما أبي أبقى معك تصرّف.
تحرّك سلطـان باتّجاهِ البـابِ وهو يلفظُ بنبرةٍ غاضبـةٍ كمنْ يكرهُ بقاءها أكثر من رغبتها هي في نفيه : إلى أجـل غير معلوم ... انثبري !
فتـح الباب وقبل أن يخرجَ التفتَ برأسه إليها ليُردفَ بوعيدٍ : وبخصوص كلامك اللي قبل شوي مع غيداء ... لو أدري إنّك تدخلتِ مرة ثانية هالمـرة بيكون لي تصرف ثاني معك.


،


في الليل ، اقترفهُ الغضبُ على عجل، طول الساعات التي مرّت كـان يقتربُ من أن يقتل أحدًا ما، أن يحطّم زجـاج مرآة التسريحة، أن يكسِر المزهرية التي تنزوي بجانب النافـذة المفتوحة. هواءٌ دافئ ، يتسلّلُ عبرها ويهبُّ على وجههِ دون برودةٍ ليليّةٍ تُذكـر ، مُحمّلًا بنأيِ الصبـاح المستوِي في برودتهِ ونأي الحريّةِ المطلقـة، مُحمّلًا بأهازيجِ الاستفزاز التي تزيدُ فيهِ بشدّةٍ مُستفزّةٍ بذاتها !
خرج من الغرفـة ليطبقَ البـاب من خلفهِ بقوّة، لكنّه توقّف فجأةً ما إن التقى بعبدالله، عقدَ حاجبيه وابتسم ابتسامةً خافتةً زائفة، مدّد بها شفتيه على مضَض : نادر أشوفك هالوقت.
عبدالله بابتسامة : جيت أشوفك ، طالع؟
رنّ هاتِفه في تلك اللحظـة ليرفعـه وتتلاشى ابتسامته، أعاد رفعَ رأسه إليه، وبهدوء : لا ما عليه .. تفضل.
تحرّك نحو الباب ليفتحهُ وهو يرفـض مكالمة شاهين بغضبٍ صامِت.

في الأسفـل ، كان قد قرّر أن يمرّ عليه ويقلّه بنفسِه، عقدَ حاجبيه باستغرابٍ حين قُطِع اتّصاله، لحظـاتٌ قليلة فقط قبل أن يتنهّد ويعيد ظهره للخلفِ وقد أدرك جيدًا أنه غاضبٌ منه ويعامله بالتجاهُل ذاتـه . . . ابتسمَ ابتسامةً فارغـة وهو ينظُر للأعلى، الظلامُ يُخبّئ التفاصيل ويجعل عينه لا ترى سقف السيارةِ كمـا يجب، منذُ متى كنّا كالأطفـال بهذهِ الطريقة؟ لطالمـا كان يُصدَر منهما بعض ردّات الفعـل الطفوليّة التي لا يراها أحدٌ سواهما وأمه ، ينقشعانِ من رتـابةِ الكِبَر إلا أنهما لم يصلَا يومًا لإيذاءِ بعضهما كما يحدثُ الآن !
أغمضَ عينيه للحظـات، يتنفّس بضيقٍ يضغطُ على صدرِه ويوجع كسرَه أكثـر، عاد ليفتحَ عينيه ، ومن ثمّ نظـر لهاتفِه ليكتب إليه رسالةً سريعة : ( انتظرك بالسيارة تحت ).


،


تنظُر لها بشرود، حتى الآن لازالت تنظُر لها بخوفٍ من فقدانِها، كفّها تعبُر بينَ خصلاتِ شعرها الناعمـة بعنايـةٍ بالغـة، تبتسِم لها ، تنحنِي إلى وجنتها المتورّمة وتقبّلها، بينما كانت ليـانْ منذُ نهضَت ساكنـةً بعضَ الشيء، في بادِئ الأمـر اشتكتْ إليها بخفوتٍ أنها كـانت مع رجـالٍ أخافوها، إلا أن أرجوان حين أخبرتها بأنهم أرادوا أن يلعبوا معها وحسب، ودون أن يريدُوا ذلك أخافوها جعلَها ذلك تتقبّل تلك الفكـرة ، ولا تكرّر ما حدَث على مسامِع أحدٍ سواها كما طلَبت منها.
دخَلتْ جيهان إلى الغـرفـةِ لتبتسِم ابتسامةً هادئةً قليلًا وهي تلفظ : خايفة عليها بزيادة ما صارت طيحة ! يكفي إن أبوي فوق فجعته باختفاءكم كان بيذبحه اغماءها أول ما شافها.
ابتسمتْ أرجوان بربكـة، لا تريد لليـانْ أن تنتبهِ لمعنـى ما تقول جيهان وتصحّح لها بعفويّة، لفظَت بسكون : إذا ما خفت عليها أخافْ على مين؟
اقتربَت جيهان منها وابتسامتها قدْ تلاشَت، زفـرتْ بضيقٍ وهي تجلسُ بجانِبها، عقدَت حاجبيها قليلًا ناظـرةً للأمـام وهي تهمسُ بشرود : طلـع سبب تجمهر النـاس حول المبنى انتحـار الحارس؟ العـم مارك !
نظـرت أرجوان من زاويـةِ عينيها إليها، كـانت قدْ سألتْ والدها عن التفاصيل بعدَ أن طلبَت منها جيهان أن تسأله، عـادَ يوسفْ يتجاهلها من جديد! في كلّ مرةٍ تكرّر خطأها يعاقبها بما تكـره، بما يوجِعها ويُشعرها بالعجـز.
هتفتْ أرجوان بهدوء : ويمكن تكون جريمة قتل في النهاية هو رمى نفسه من السطح فمشكوك بسالفة الانتحـار هذي.
ضيّقتْ جيهان عينيها ببؤس، كـان لهذا العجوزِ ذكـرى في طفولتِهم، حينَ كـانت أمهم معهم! .. يعرفونه منذ الطفولةِ لذا موتهُ أشعرها ببعض الحزنِ والألـم. ومن زاويـةٍ أخـرى ، يستفزُّ مصطلحُ " انتحـار " فيها آلامًا أكبـر !
نهضَت أرجوان بعدَ أن ابتعدَت ليـانْ عنها تريد أن تذهبَ إلى والدِها، ابتسمَت إلى جيهان برقّةٍ لتهتف : صـار لك شيء اليوم ، ملاحظـة إنّ أبوي مجافيك من بعدْ ما رجعنا وأقدر أخمن وش سوّيتي .. بس بيرضى كالعادة ، وترجعين تحبطينه.
نظـرت لها جيهان بحدّة : نعم ! شقصدك؟
أرجوان : هههههههههههههه آسفة هذا الواقع.
جيهان بحنق : انقلعـي !
ابتعدَت أرجوان وهي تضحكْ، لكنّ ضحكتها تلاشَت ما إن خرجَت، جـاءتْ صورةُ تميمْ أمامها فجأة ، عـادت إليها تساؤلاتٌ تسألها لنفسِها منذُ عادوا ، لمَ فعل ذلك الرجـل هذا؟ إن كـان مجرمًا يسعى لإيذاء والدها فلمَ قـامَ بإنقـاذِ ابنته التي لو كـان مكروهًا قد أصابها لكُسِر؟
حيـرة ، حيـرةٌ تلتهمها وتُشعـرها بالضيـاع، تساؤلاتٍ أصابتْ رأسها بالصـداع إلا أنها لم تكُن كافيـةً أبدًا لتطمئنَّ نحوه، بل على العكـس، أصبحَت تقلقُ وتخافُ قربـه من عائلتها أكثـر.


،


خرجَ عبدالله من عندِه ، ابتسَم بعدَ أن تجاوزَ البـابَ وهو يهتفْ : هذا اللي كـان عندي ... آسف صدّعت راسك ، بس لازم تقلّل من طلوعك.
أومأ متعب بهدوءٍ وهو يلفظ : من بعدَ اليوم إن شاء الله .. مضطرْ أقابـل أخوي الحين.
عبدالله يتنهّد : انتبـه ... حرّيتك إلى الآن غلط تاخذها بهالشكـل !
متعب : لا تحاتِي . .

دخـل بعدَ أن ذهَب ، أخذَ هاتِفه من على الكومدينةِ وهو يبتسمُ بغضب، نصفُ ساعـةٍ مرّت منذُ قرأ رسـالةَ شاهينْ وتجاهلَها دون أن يُعطِي تلميحًا لعبدالله أنه يريد الخروج ليُعجّل في حدِيثه، بل تركهُ يسرد التفاصيل كما يريد.
خرجَ بعدَ أنْ دسَّ الهاتِف في جيبِه، ثوانٍ طويلة قبل أن تصتدمَ عينـاهُ بسيّارةِ شاهين التي كـانت تنتظِرُه حتى الآن ، رفـع حاجِبَه وهو يتقدّم منها حتى فتحَ البابَ وصعد، كـان شاهين وقتذاكْ يُعيدُ رأسه للخلف، يغمـض عينيه وذراعـه تغطّيهما، ما إن سمـع البابَ يفتحْ حتى أخفضَ ذراعـه ونظـر باتّجاهه نظرةً خاطفـةً سرعـان ما أشاحها وصدّ عنه ليبتسمَ ابتسامةً واهيـة : تنتقم مني؟
أطبـق متعب البـابَ دون أن يردّ، بينما حرّك شاهين السيّارةَ مبـاشرةً دون أن يفقدَ ابتسامتـه تلك ودون أن ينظُر باتّجاهه : مرة ثانية آسف.
متعب ببرودٍ ينظُر نحو النافـذة : ما يهم.
كـان قدْ تفقّدهُ باهتمـامٍ وقلقٍ بعدَ دخوله، يتأكدُ أنه بخيرٍ ولم يُصبْه شيء، وما إن رآه كمـا كان آخرَ مرّةٍ حتى صدّ عنه ونظرَ للنافِذةِ دون أن يحاول النظـر إليهِ من جديد.
شاهين بأسـى وابتسـامتهُ تُزرَع فيها المرارةُ وتهزمـه : كنت بخير بس . .
قاطعـه متعب بهدوءٍ وهو ينظُر لهُ من زاويـة عينِه : ما كنت بخير ... صار لك شيء ومتأكد.
ضحكَ شاهينْ ضحكةً قصيرةً مرتبكـة : قاعدْ تخلق لي الأعذار !
متعب بسخرية : من مصلحتَك يكون لك عذر .. من مصلحتَك يا شاهين ! تقدر تقولّي وش عندك مطنّشني طول الوقت اللي مرّ؟ أدري إنّك عارف شلون بيكون تفكيري لو ما ردّيت ، منتَ بخير! ومع كذا تركتني خايف عليك وكأنك تتلذّذ بهالشيء أو ما يهمّك !!
تنهّد شاهِين بتعَب، كيفَ يمكنه في هذهِ اللحظـةِ أن يعيشَ صراعاتِه ويبقى هادئًا؟ كيفَ لا ينفجـر الآن أو يمـرضَ بما يعانِيه ... أن يبتسِم، أن يعتذِر، أن يحاولَ إظهـار " لا شيء هناك في صدري " بينما صدرهُ يكـادُ يتمزّق بمشاعـر عديدة لا يريدُها أن تغلبَه وإلا آذى بها متعب !
لفظَ بيأس : لا تفسّر على كيفك.
متعب بحدّة : عشان كذا أقولك .. من مصلحتك يكون لك عذر. أيش صار؟ أمّي بخير؟ صار لها شيء بعد اللي أمـس؟
هزّ شاهين رأسهُ بالنفيِ دون أن ينظُر باتّجاهِه، حينها احتدَّ صوتُ متعب أكثر وهو يلفُظ بأمر : ناظرني وقولها ، صار لها شيء؟!
شدّ شاهِين كفّه على المقودِ أكثـر وهو يعضُّ باطِن خدِّه، حاولَ أن ينظُر إليـه ، حـاول ! لكنّ هنـاك شيئًا ما يمنعـه، شيءٌ ما يرفـض أن يجعله يوجّه حواسّه إليه، شيءٌ مـا يمنعهُ من التحديقِ بعينيهِ ليتذكّر الواقـع الذي بينـه وبين أسيـل ، وهو منعهم.
لم يستطِع أن ينظُر نحوه ، لذا لفظَ بثقة : والله ما فيها شيء ، في إثبات أكثر من الحلف؟
زفـر متعبْ بحدّةٍ ليُغمـض عينيهِ للحظـة، بينما كـان شاهينْ يعدُّ في نفسِه، مقرّرًا أن يصِل للرقـم عشرة ومن ثمّ سيكسِر حاجِز " عدم النظـر تجاهه " ، إلا أنه ما إن أنهى العدّ للعشـرةِ ظلّ ثابتًا بنظرِه للأمـامِ بطريقةٍ أشعرته بالغضب.
لفظَ متعب بتساؤلٍ ساخـر : أجل! وش كان عذرك .. إذا كنت بخير وشو؟ * أردفَ بجدّية * مين اللي سمعت صوته وقال اسمـي؟ قولها وخلصنا أيش اللي صار أمـسْ؟
كـان شبـه متأكدٍ أنّه سمِع، والآن هاهـي الـ " شبه " تُحذف ويبقى التأكيدُ وحسْب، عقدَ حاجبيه بضيق، بارتبـاك، وصمتَ دون إجابـة ، في حدِيثه سيظهرُ كذِبه وفي الصمت أيضًا اعتراف ! هاهـما وصلا إلى طريقٍ مسدودة.
اتّسعت عينـاه ما إنْ سمـع صوتَ ضربـةٍ كـانت من متعب الذي ضربَ بقبضتِه على البـابِ بغضب، تنفّس شاهِين بحدّةٍ وهو يدركُ أنه وصـل أخيرًا للإجـابةِ الصحيحة، بينما صرخَ متعب غاضبًا شاتمًا بحدّةٍ وقهر : الله يلعـــ * بتَر كلمتَه بالاستغفـار ليردِف مباشرةً بصراخٍ غاضبْ وهو ينظُر باتّجاهِ شاهين * هذا اللي كنت حاسْ فيه .. هذا اللي كنت حاسْ فيه . . .
بصرخةٍ أكبر : ناظـرني أنت بعدْ . . .
إلا أنه صمتَ فجأة، وكأنه لتوّه ينتبـه، عقدَ حاجبيه، اعتلَت على ملامِحه نظـرةُ الاستنكـار، ما بـاله لا ينظُر إليه؟ يُشيح نظراته عنه منذُ البدايـةِ وكأنه لا يريد النظر إلى وجهه! لم ينتبِه لذلك إلا الآن، هل فعلًا يُشيـح نظراته عنه أم أنّ عدم النظر نحوّه كـان مجرّد أمرٍ عفويّ!
متعب : شاهين! .. شفيك؟ ليه قاعد تبعِد عيونك عني!
هذهِ المرّة ارتبكَ بطريقةٍ أخـرى، سرَى في أوردتِه تيّارٌ كهربائيٌّ انتفَض بِه ونظـر من بعدِه باتّجاهِه وكأنّ اكتشافـه كـان وحدَهُ محفّزًا ليُلغـي رحلـةَ الصدِّ البغيضة على قلبِه، والتي لا يدري أبدًا ... كيفَ يُمارِسها !
هتف بابتسامةٍ مرتبكةٍ يمنع أعينهُ من التشتّت عنه : صاحي أنت! وش هالفكـرة اللي جايبها بعد ليه ببعدْ عيوني عنك مثلًا !
متعب بشكّ : أيه صاحِي ، وفيك شيء غلـط اليوم !
شاهينْ بضيقٍ يصدُّ عنـه : واهِم.
متعب لا يريد أن يضايـق نفسه أكثـر بموضوعٍ كهذا لا يدري كيفَ جـاء ، بل كيفَ سيمارسـه شاهين ! ، لفظَ بقلق : مين هو؟

.

.

.


انتــهــى


ودمتم بخيـر / كَيــدْ !


كَيــدْ 28-11-16 12:48 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 









مساء الخير عليكم جَميعًا، كان المفترض يكون هالكلام نزل بعد البارت مباشَرة بس من نزلته رحت أنام من التعب :$

كلّي أسَف على التأخير اللي صار ومتأكدة معظمكم إذا ما كان الكل كان يعتقد إنه بعودتي بيكون قدامه جزء بحجم ثلاث أجزاء كحد أدنـى. لكن خاب ظنّكم :( صح جزء اليوم دسم أشوفه - وليس روتيني بحت - بس مو قد الغيَاب ...

غيابي ما كان بهدَف أرجع بجزء كبير ، وبنفس الوقت ما كان اختيَار قد ما كنت مسيّرة فيه ، مدينة لكم بتبرير رغـم أنّي ما كنت حابة أذكـر تفاصيل مثل هذي.
أمي وأبوي وقع عليهم حادث وطوال الأسبوع اللي مر ما كنت أفضى للكتابة، يعني زين مني أكتب سطرين على بعض وهذا اللي منعني أكتب كما ينبغي. أرجَع من الجامعة العصر والوقت الوحيد اللي أكون فيه فاضية هو من بعد رجوعي للمغرب، ومن بعد المغرب أنشغل بسَالفة ضيوف وووووو والكَثير . . لذلك أنا أعتذر مرّة ثانية، ذكري لهالتفاصيل مو بهدَف أكسب عطفَكم وأعترف هذا اللي كان يمنعني أسردها. لكنّي في النهاية مدينة لكم بتبرير.


* الحين نجِي لحلّ التأخير اللي تكرر بكثرة ونعاني منه جَميعًا ، أعتقد ومتأكدة أغلبكم بيحس إنه غلط وسيء ووووو رغم إنّي بنفسي كنت أرفضه من قبل لما اقترحته علي كم قارئة ، في النهاية صديقتي قالتها لي " فكري زين تراه أفضل ".
واضح إنّ أسلوبي في الفترة الماضية صابه فتور وأغلبكم ملاحظ هالشيء ، المواقف كان ممكن تكون بشكل أفضَل وقاعدة أتراجع بدل ما أتطوّر ، والسبب الأول والأخير هو " الضغط "، ذهني طول الوقت يفكّر بالدراسة ، امتحانات ، موعد البارت ، لازم طويل ولازم بالوقت المحدد ... الخ .. وآخرتها ما يكون بالوقت المُحدد ومو بالطول المرضي ولا الأسلوب.
أعتقد إنّ التفكير الطويل بالطول والمواعيد مخليني مو قادرَة أنجز ومشتّت ذهني ونفسيَتي بعَد تجاه الرواية. لذك كان الاقتراح " أغلق الرواية " لفترة أكتب فيها بقيّتها بأجوَاء أقدر فيها ما أفكر " الموعد الفلاني والطول وعدد المواقف والشخصيات اللي لازم تظهر ووووو " وبعدها أرجع أطرح الرواية كاملة بإذن الله.
أعترف إنّي ما كنت أبغى هالشيء ، أبدًا أبدًا ، كان المفترض تخلص الرواية بديسمبر يعني بعد شهر ، هالكلام قلته بالإجـازة بس مع التأخير في المواعيد واضح ماني مخلصتها لين ديسمبر القادم بعد ! رفضْت من قبل هالاقتراح بحجّة - الرواية راح تطوّل أكثر -، وإحدى المتابعات قالت لي : ماهي أصلًا مطوّلة مطوّلة دامك تتأخرين بهالشكل ومو ملتزمة! الأفضل تقفلينها وتخلصينها أول.

خلاص اقتنعت بهالفكرة بالأيـام اللي راحت ، وأعتقد هي الحل الأمثل في النهاية.

فيه اللي بيعصّب واللي بيقول منتِ قد الرواية لا تنشرين، فيه اللي بيفقد ثقته فيني ، واللي بيطفش ويحط هالرواية بالأرشيف بالنسبَة له وفيه اللي بيصبر ويثق فيني .... أقدر هالشيء. لكم الحريّة في ردّة فعلكم في النهاية مليون عين بتزعل بسبب التأخير والانقطاع هذا، وملايين العيون بترضى على الرواية وأسلوبها فيما بعد اكتمالها، ما أبـي أخاطر وأكمـل على هالنحو الضعيف، ولا أبي أخربْ الرواية على النهايَة. وثقتكم بإذن الله أستردّها بعد عودتي.


إضافة بسيطة : اللي يطالبوني أحط قفزة زمنية بالرواية ، تدرون إنّ القفزات الزمنية حسّاسة ومو متى ما قلنا " يلا نحرّك الأحداث أكثر " نلجأ لها ! كما أنّ للرواية خطّة زمنية الكاتب أدرى فيها ، ما أقدر آخذ كل طلب ورأي من القارئ بعين الاعتبَار خصوصًا فيما يخصّ الأحداث نفسها.
يمكن سالفة البرود اللي تحسونها أو أقول متأكدة بتختفي بإذن الله إذا قفلت الرواية وكملتها وبعدين طرحتها من جديد بأوقات متقاربة.


أستودعكم الله ، أتمنى الرضا منكم،
رغم أنّ رضا البشر غاية لا تُدرك لكنّ رضا معظمكم غاية لي، وهذا اللي خلاني ألجأ لهالقرار ، على قدْ سلبيات القرار " بالتوقف " إيجابياته أكبر من أن أستمر بهالشكل وتطفشون أكثر من انتظارات متكررة وليس انتظار واحد بينما يحبطني أنا تراجعي.


لـي عودَة بإذن الله ()





طُعُوْن 28-11-16 11:43 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 
تغلق الرواية حتى عودة الكاتبة


الساعة الآن 06:55 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية