منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات أونلاين و مقالات الكتاب (https://www.liilas.com/vb3/f743/)
-   -   د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط - كاملة (https://www.liilas.com/vb3/t185203.html)

عهد Amsdsei 02-03-13 11:29 PM

د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط - كاملة
 
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (1)



http://www.boswtol.com/sites/default...shat%201-1.jpg


كان المطعم الصغير لا يتجاوز فرجة بين جدارين (رسوم: فواز)
-1-
لن أطيل عليك..

أنت تعرف تلك المنطقة جيدا، فلن أضيع وقتا في وصف ما تعرفه فعلا، تعرف كذلك المطعم الصغير الذي لا يتجاوز فرجة بين جدارين.. هناك مقلاة طعمية وقدرة فول وهناك منضدتان تقفان بمعجزة ما على ثلاث أرجل، حيث يقف رضا يبيع الفول في حماس ومعه يبيع الخبز والمخللات لمن يريد، هناك منحدر تحاول أن تعبره دون أن تقع، وهناك سلم هابط مكوّن من صخور مهشّمة سوف يقودك إلى ذلك الشارع الممتد.. شارع المشاط..

هذا ليس بالشارع القبيح والمنطقة ليست بالعشوائية، في الواقع هي أقرب إلى الهدوء والجمال؛ أمس رأيت هناك هدهدا وهو مشهد لم أره منذ ثلاثين عاما، الأرض ليست أسفلت بل هي أقرب إلى صخر نما عليه العشب، وطبعا لا داعي لأن أقول لك إنه لا توجد هنا سيارات، ثمة دراجات أطفال فقط، هناك أكثر من شرفة في الطوابق الأرضية يجلس فيها رجل مسن يشرب الشاي أو سيدة تقوم بتنقية الأرز في طبق كبير وهي تراقب الشارع، هذه من البيوت التي تجلس فيها قطة مشمشية على حاجز الشرفة، وقد نفشت صدرها وثنت يديها تحتها في ذلك الوضع الذي أسميه "العبوة".

بعد قليل سوف تكتشف أن الشارع طويل جدا، أطول مما كنت تظن، وهو يمتد إلى مرمى البصر حتى يبلغ فتحة بين بنايتين، ثم تجد نفسك في الشارع الرئيسي حيث السيارات والزحام.

كنت أشعر بتناقض منظرنا مع هذا الجو الموحي بالسلام، لوحة رعوية رسمها فنان بريطاني تمشي عليها صراصير سوداء خشنة، الفكرة هنا أنك تحتاج إلى الصراصير أحيانا لأنه ما من أحد آخر يقبل أن يقوم بمهنتنا هذه.

-2-
المنزل رقم 13..
هذا العنوان الذي جعله فيلم كمال الشيخ القديم خالدا وموحيا، هو مجرد بيت هادئ من تلك البيوت المتجاورة له مدخل تفوح منه رائحة الفنيك..

هناك نباتات ظل في إصيص عند المدخل، وهناك جو عام من السلام الذي أفسده الحادث بالتحديد، وقف عزت جوار جثة شذى الصغيرة، كان الوجه مكسوّا بالدم طبعا، لكنك تدرك بسهولة أنها فتاة مراهقة حسناء ترتدي ثياب البيت، راقدة هناك في الصالة على ظهرها ويدها على وجهها في محاولة أخيرة لحماية نفسها.

القصة شبه واضحة، هناك من قرع الباب؛ ذهبت لتفتح، هنا هوى على رأسها بعصا حديدية ثقيلة ففجر الدم من رأسها، هوى مرة أخرى ثم توارى بسرعة، لا بد أن هذا وقع في السابعة مساء، معها في الدار أم مسنّة ثقيلة الحركة، لا بد أنها استغرقت عدة دهور حتى تسأل:
- من الطارق يا شذى؟ لم لا تردين؟
ثم تنهض في صعوبة فيمر قرن آخر، إلى أن تبلغ الصالة لتجد جثة الفتاة جوار الباب.

تصرخ، يسمع الجيران الصراخ بعد شهر؛ لا بد أن القاتل في الصين الآن، لاحظ أن هناك فرجات بين البيوت يمكن أن يعبر منها ليتوارى في الشوارع الجانبية؛ لقد ذاب.
رجال المختبر الجنائي يلتقطون الصور ورجال الإسعاف يقومون بمهمتهم العسيرة، لا دور لي لكن أحدا لا يقدر على طردي من هنا، يعرفون أنني مهم.

دنا مني عزت وأشعل لفافة تبغ، وقال:
- هل لديك تفسير؟ لم يسرق شيء والفتاة لم تُمس.
قلت شارد الذهن:
- ربما لم يجد الوقت الكافي ليفعل أي شيء، صراخ الفتاة أو صراخ الأم جعله يجهض العملية.

رحت أجول وسط الشقة، كلها تحمل ذات الطابع المريح الموحي بالسلام والسكينة، هذه شقة لم تصمم كي يجدوا جثث الفتيات المراهقات فيها..

كنت في هذا الشارع من قبل..
كنت هنا منذ ثلاثة أشهر.. وهذه هي المشكلة..

إن العثور على جثث مراهقات شيء بشع لكنه من لوازم المهنة بالتأكيد، يمكن القول إن مهنتي هي جمع أخبار جثث المراهقات المقتولات، يوم يتوقف هذا نكون قد بلغنا حالة النرفانا أو الكارما وانتهت مهمتي، كأنك طبيب وقد انتصر العالم على المرض والموت، هكذا حقق الهدف من وجوده لكن دوره انتهى.

منذ ثلاثة أشهر كنت في هذا الشارع..
لم أنس هذا، ولم أنس أننا فشلنا..



http://www.boswtol.com/sites/default...shat%201-2.jpg


أخبروني أن هناك جريمة قتل والضحية طفل (رسوم: فواز)


-3-
أذكر اليوم جيدا..

كنت أعمل في الجريدة عندما اتصل بي أحدهم قائلا إنه ترك لي طردا مهما في سلة المهملات أمام باب الجريدة، بالطبع يمكن أن تكون قنبلة لكننا -والحمد لله- ما زلنا بعيدين عن أساليب المافيا هذه، نزلت في حذر ونظرت حولي فلم أر شيئا، طلبت من رجل أمن أن يصحبني إلى صندوق القمامة، مددت يدي بحذر واشمئزاز فوجدت علبة مغلقة..

فتحت العلبة في حذر.. شعرت أن الاتصال بخبراء المفرقعات سوف يجلب على رأسي السخرية، لم أجد في داخلها سوى حزام من الجلد، حزام عتيق لا يساوي شيئا تقريبا وهو مهترئ بشدة..
هذه مزحة لا شك في ذلك..

بعد ساعة أخبروني أن هناك جريمة قتل في شارع المشاط، لا أذكر رقم المنزل، لكن الضحية طفل في الثالثة كان يلعب أمام بيته ظهرا، هناك من تسلل وراء الطفل وجذبه إلى مدخل العقار وخنقه بكل قسوة.
بالطبع توارى القاتل، ترك جثة الطفل ومعها ترك ذعرا لا يوصف، وترك كذلك شعورا غامرا بعدم كفاءة رجال الشرطة.

لم يسرق أحد شيئا، لم يلمس أحد الغلام، هذه جريمة لا سبب لها، أو ربما هو الانتقام، هناك زوجة سابقة حانقة، من الوارد أن تكون قد قررت تنفيذ أبشع انتقام ضد الزوجة التالية لها، لكن البحث لم يثبت شيئا، والزوجة الأولى كانت في عملها وقت الحادث وهناك ألف شاهد على ذلك.



هكذا توارت القضية..
هناك جرائم كاملة كثيرة؛ من قال إن الجريمة الكاملة غير موجودة؟! يتلقى القاتل عقابه كاملا يوم الحساب، لكن ليس كل القتلة يتلقون عقابهم في دنيانا هذه.

أنا كنت هنا منذ أشهر..
أشعر بالجو مألوفا وبأنني رأيت هذا كله منذ قبل..
يجب أن أحكي لك كذلك عن الطرد الذي تلقيته.. تلقيته في مقر الجريدة قبل إبلاغي بالنبأ بساعات..

يُتبع..

عهد Amsdsei 02-03-13 11:39 PM

رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (5)
 
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (2)



http://www.boswtol.com/sites/default...shat%202-1.jpg


فتحت الطرد المقصود وكان يحوي شيئا غير معتاد (رسوم: فواز)
-4-

كما قلت لك: تلقيت الاتصال قبل اكتشاف الجريمة بعدة ساعات..
الاتصال الهاتفي قال إن هناك طردا مهما لي في سلة المهملات أمام الجريدة، بالطبع تذكرت على الفور القصة السابقة.. الطرد الذي تلقيته منذ ثلاثة أشهر..

ما لاحظته هو أن صوت المتكلم عادي جدا كأنه يتكلم في موضوع يتعلق بالعمل، أنت تعرف هذا الداء الشيطاني الذي يصيب من يهددون هاتفيا أو يمارسون دورا إجراميا، شيطان التمثيل يتقمصهم فيتكلمون بصوت مبحوح مفتعل، يصعب أن يتكلم أحدهم بطريقة طبيعية..
وضعت السماعة كالعادة وطلبت من رجل الأمن مسعد أن يرافقني، لا أعرف ما سيفعله بالضبط لو كان الطرد يحوي قنبلة مثلا، لكني شعرت أن رجل الأمن يقدم بعض الأمن فعلا.

وجدت الطرد المقصود ففتحته، كان يحوي شيئا غير معتاد، رباط حذاء!
هذه دعابة سخيفة قاسية فعلا، من أسخف الدعابات التي تعرضت لها في حياتي، وبدأت أكيل السباب لهذا المتظرّف الرقيع الذي لا يجد تسلية سوى تعذيب أمثالي من الجادين.. و..

بالطبع كان هذا عندما دق الهاتف يخبرني بجريمة قتل في شارع المشاط..
لست غبيا.. الارتباط واضح وقوي جدا..
لكن كيف أشرح الأمر لرجال الشرطة وماذا أقول لهم؟


-5-

عزت صديق قديم ويثق في رأيي، إنه رائد في الشرطة، ونحن نتبادل علاقة التكافل الشهيرة، سأعطيك أخبارا عن الجرائم وأنت تكتب أن الرائد عزت الدريني تولى التحقيق أو كشف الجاني، نفس علاقة التكافل بين التمساح وطائر الزقزاق: التمساح يمنح الطعام المحشور بين أسنانه والطائر يمنح تنظيف الأسنان.

حكيت لعزت قصة تلك الطرود فابتسم.. ازدادت ابتسامته اتساعا وهو يصغي لكل كلمة، وفي النهاية كان وجهه كاريكاتوريا إذ صار فمه يمتد من أذن لأذن، وقال لي:
- أنصحك.. لا تحك هذه القصة لأي رجل شرطة مصري..
قلت محتجا:
- هناك سفاحون كثيرون ينذرون ضحاياهم، أنت تعرف زودياك! زودياك قد أنذر كثيرين قبل قتلهم، ومنهم الصحفية التي كانت تنشر أخباره في الجريدة.

ضرب رأسه بكفه المفتوحة في ضجر وقال:
- ليس لدينا زودياك ولا أعرف من هو زودياك، ما أعرفه هو أن مجرمينا بسطاء جدا ويتصرفون ببساطة ودون تخطيط، هذه تعقيدات لا نفهمها ولا ننتمي إليها، نحن في عالم الرجل الطيب الذي يقتل زوجته بالساطور ثم يضع جثتها في طست تحت السرير ويذهب لتدخين المعسل مع رفاقه.

كان هذا مقنعا، لكن هناك شيئا لا يمكن تجاهله، هو هذه الطرود وهذه المكالمات.
قال لي في ضيق:
- ليس بيدنا عمل شيء سوى أن نفحص الطرد جيدا، لكن أؤكد لك أنه لن يقودنا إلى الفاعل، وفي النهاية سيكون علينا الانتظار.. الانتظار إلى أن تأتي مكالمة أخرى تعرف أنها لن تأتي.

وهكذا انتهى النقاش..
لكني حرصت على البحث عن معنى رباط الحذاء، هل له معنى معين؟! بالطبع لم أجد؛
نسيت الأمر تماما ومرت فترة لا بأس بها.

لقد مر شهران تقريبا عندما حدثت الجريمة الثالثة..
أنت تعرف أن هناك جريمة ثالثة، وإلا لما حكيت لك هذه القصة أصلا..



http://www.boswtol.com/sites/default...shat%202-2.jpg
كان رأس الفتى مهشما والدم متناثر على الإفريز (رسوم: فواز)


-6-

يعرف علماء الجريمة عدة أنواع من القتلة.. هناك قاتل الجموع Mass murderer الذي ينقضّ على مدرسة أو حفل ليطلق السلاح الآلي ويردي عشرات من الأشخاص في وقت واحد في مكان واحد.. هناك القاتل الذي يقتل على نوبات Spree murderer أي أنه يقتل عدة أشخاص في وقت واحد في عدة أماكن.. وهناك القاتل التتابعي الذي يقتل شخصا كلما مرت فترة زمنية معينة، يشعر بعدها بالحاجة إلى القتل من جديد..

لا بد أن فترة شهرين كانت كافية كي يشعر هذا الرجل بظمأ جديد للجريمة.
وكنت في ذلك اليوم في الجريدة ألتهم شطيرة من الفول راحت تتساقط على المكتب، وكنت في ورطة فبحثت عن مناديل ورقية، هنا دق جرس الهاتف؛ أمسكت بالسماعة بيدي اليسرى وأنا أحاول أن أحمي ثيابي من الفول، تبا للزيت الحار هذا.

هنا سمعت صوتا يخيّل إليّ أنه صار مألوفا يقول:
- هديتك في السلة أمام الجريدة.
صعد الفول والحمض كله إلى أعلى المريء وشعرت بحريق في صدري، سألته في لهفة وبصوت راجف:
- هلا أنهيت هذه اللعبة وقلت من أنت؟
- أنا لا ألعب.. من قال إنني ألعب؟
- تتصل بي وفي كل مرة...
- أنا لم أتصل بك من قبل.
ووضع السماعة.

جلست أرقب السماعة في توتر، ثم وضعت باقي الشطيرة في ورقة الجريدة وتخلصت من هذا كله في القمامة، وهرعت إلى المصعد أهبط إلى الطابق الأرضي، هناك كان صندوق القمامة الشهير وهو صندوق عميق به كيس بلاستيكي أسود عملاق وله غطاء، يمكن أن تخفي فيه جثة فيل لو أردت، فتحت الغطاء وعبثت وسط القمامة المقرفة وفضلات الأكل، فوجدت طردا صغيرا من الورق المقوى.. نفس الطرد المعتاد..
قلت لنفسي: لو حدثت جريمة قتل في شارع المشاط فأنا أمام فيلم رعب جيد..

هذه المرة لم أستطع الانتظار ففتحت الطرد وأنا في الشارع، لو احتجنا إلى خبير بصمات بعد هذا فلسوف يمكنهم حذف بصماتي أنا.
هنا اصطدمت يدي بطبق صغير، طبق كالذي تضع فوقه قدح الشاي، هذا الطرد لا يحوي أي شيء سوى قدح، هذا غريب..

عدت إلى مكتبي في الجريدة ورحت أواصل عملي وأنا أشعر بأن معدتي تتقلص جدا.. هذه ليست معدة بل هي مخبار حمض هيدروكلوريك مركّز محفوظ في مختبر مدرسة ثانوية، ولم أشعر براحة إلا عندما دخلت الحمام فأفرغت كل شيء..
سوف تأتي المكالمة حالا، لا شك في هذا..

بعد ساعتين دق جرس الهاتف.. هذا عزت يخبرني أنهم ذاهبون إلى شارع المشاط، هناك جريمة قتل..
قلت له وقلبي يتواثب:
- لقد صارت هذه عادة، ثلاث جرائم قتل في وقت قصير نسبيا، وكلها تحوي موضوع الطرد هذا؛ أنا على حق دائما.
قال في نفاد صبر:
- قابلني هناك حالا.

الجريمة هذه المرة كانت أكثر إحكاما..
شاب يُدعى هشام في البيت رقم 20 ويقيم في الدور الأرضي، يبدو أن هناك من دق الباب فذهب ليفتح، لم يجد أحدا فخرج من الباب إلى الشارع ليرى أفضل، لم ينظر لفوق ولم يتوقع أن يكون هناك من ينتظر على سطح البناية -لاحظ أن ارتفاعها طابقان- ليلقي من أعلى أصيص زهور ثقيلا.. تصويب محكم وتوقيت دقيق، وقد هوى الأصيص في المكان المنتظر بالضبط؛ رأس الفتى مهشم وقد تناثر الدم على الإفريز..

صدفة مؤسفة؟ مع الأسف لا.. لأن رجال الشرطة وجدوا باب السطح مفتوحا حيث تسلل القاتل، ووجدوا المكان الذي رقد فيه على بطنه يراقب المدخل، ورأوا الحبل الذي يتدلى من أعلى وتتدلى منه صخرة ضخمة استخدمها في دق الباب وهو على السطح..

قال عزت وهو يفحص الجثة:

- برغم كل شيء لا تنكر أن وضعنا صار أفضل؛ هناك شيء يربط بين ثلاث الجرائم، أو يربط بين هؤلاء الأشخاص؛ سنكون يقظين والجريمة الرابعة ستكون أصعب وأصعب.


يُتبع..

عهد Amsdsei 02-03-13 11:40 PM

رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (5)
 
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (3)



http://www.boswtol.com/sites/default...ashaat%203.jpg
دق جرس الهاتف حين كنت في مكتب الجريدة



-7-القتلى:
طفل صغير..
فتاة مراهقة..
شاب..

وسائل القتل هي الخنق.. ضربة قوية على الرأس في حالتين..
كلهم من سكان شارع المشاط..
في كل الأحوال لا توجد استفادة واضحة؛ لا يمكن تحديد هدف الجريمة، هذا قاتل فنان يمارس القتل للقتل كما أن الفن للفن "آرس جراتيا أرتيس"، لا يريد سوى الذعر والدم..

ليس هناك مكسب مادي من هذه العمليات..
في كل مرة هناك مكالمة هاتفية وهناك طرد يصلني في صندوق القمامة، كان هناك رباط حذاء وكان هناك طبق شاي صغير وكان هناك حزام جلدي..
ما معنى هذا؟

كنت جالسا في مكتب عزت والدخان ينعقد في هواء الغرفة، يمكنك أن ترى الأشباح تنتظر وتحملق فيك منتظرة ما ستقول، فإذا نهضت فرّت منك مبتعدة وتبددت.
قال عزت:
- النقطة الأكثر أهمية، لماذا أنت بالذات؟

هذه هي المشكلة، يحسبون أنني لست بالأهمية التي أراها في نفسي، لذا قلت بكبرياء:
- أنا صحفي حوادث مهم، لو كنت قد لاحظت هذا..
- ليس هذا مبررا؛ نحن لسنا في الولايات المتحدة؛ عدد الأميين عالٍ هنا والناس لا تهتم بالصحف؛ لن تحدث مقالتك ذعرا عاما أو تمنح القاتل شعورا بالأهمية.

ابتلعت الإهانة في غيظ وواصلت التفكير.. ثم سألته:
- لماذا شارع المشاط؟
تثاءب وفك ربطة عنقه قال:
- طبعا لأن أهل الشارع آذوه نفسيا في وقت ما، أو هو يتصور أنه المهدي المنتظر وقد كلّفته السماء بقتل سكان هذا الشارع بالذات، يمكنك أن تكتب عدة قصص تتخيل فيها سبب اختيار الشارع، لكن الخيارات محدودة.
- وماذا يجمع بين الضحايا؟
- ربما كان الأمر عشوائيا..
- لا أعتقد.. هناك نوع من التخطيط لا شك فيه.
ساد الصمت.. بعد قليل قال لي:
- أعتقد أننا سنراقب الشارع لفترة، وأنت سيكون عليك أن تخبرني بمجرد تلقي الهدية القادمة.

-8-

الكلام سهل على كل حال؛ يمكنك أن تكون حذرا مفتوح العينين ليوم.. يومين.. أسبوع.. شهر، لكن الزمن عدو الحذر، بعد قليل تتعلم أنه لا شيء يحدث وتتراخى قبضتك ويتدلى جفناك وتتثاءب.

كانت هناك مراقبة على هاتف الجريدة، استمرت ثلاثة أسابيع ثم توقفت، عندما تكون سفاحا يجب أن تتصل بانتظام حتى لا يملّك الجميع وينسون أمرك..
هكذا كان هناك مخبران أو ثلاثة، بعد قليل صارا يذهبان إلى مقهى بعيد لتدخين الشيشة، بعد فترة لم يعد أحد يراقب الشارع، بعد فترة نسي الكل القصة.

وكنت في مكتب الجريدة أكتب عن مشاجرة حدثت في شبرا بين تاجرين، وكانت عزة زميلة العمل تفرّغ بعض الصور التي التقطتها بالكاميرا الرقمية، هنا دق جرس الهاتف..
رفعت السماعة، جاء الصوت المألوف:
- هديتك في السلة أمام الجريدة.

هذه المرة لم أتردد ولم أطلب عون أحد، اتصلت بعزت أخبره أن يرسل رجاله إلى شارع المشاط فورا وأن يكثّفوا الرقابة..
- على ماذا؟ الشارع طويل..
- لا بد من الوجود الأمني، لا بد أن يعرف الجميع أن هناك وجودا أمنيا؛ أرسلوا سيارتي شرطة تطلقان سرينة عالية، ولتمضيا في الشارع عدة مرات.
ثم ابتلعت ريقي لاهثا وأردفت:
- سوف أرى هديتي هذه المرة وأخبرك بها.

انطلقت إلى الخارج حيث صندوق القمامة، الناس ينظرون إليّ بشك وأنا أمد يدي في الصندوق في لهفة؛ لا أبدو لهم جائعا إلى هذا الحد.
وجدت الطرد اللعين فأخرجته، وفتحته حيث أنا، يوم يقرر الرجل أن يرسل إليّ قنبلة فلن أنجو منها حتما..

هذه المرة لم تكن هناك هدية معينة، كان هناك صورة صغيرة من مجلة، والصورة تمثل قطعة ياقوت كبيرة يبدو أنها كانت في إعلان عن صائغ باريسي مشهور، مجلة خليجية على الأرجح، دسست الصورة في جيبي وحملت الطرد الفارغ.

لقد حلل رجال الشرطة الطرود السابقة فلم يجدوا بصمات سوى بصماتي بطبيعة الحال، لا يوجد أي شيء يدل على المرسل، بالطبع لأنه وضع الطرد بنفسه ولم يرسله من مكتب بريد..
هرعت إلى الجريدة فاتصلت بعزت أخبره بما وجدت.. صورة ياقوتة.. لا توجد معلومات أخرى.. سلام..

وانطلقت إلى شارع المشاط بأسرع ما أمكنني..
شارع هادئ جميل؛ بالفعل يحب المرء أن يعيش فيه وينعم بهذه السكينة التي تختلف تماما عن عالم القاهرة الصاخب المزعج الملوّث بالعادم، لكن وغْدا ما قرر أن يفسد هذا كله..

منذ اللحظة الأولى أدركت أن رجال الشرطة قاموا بعمل ممتاز؛ هناك عدة سيارات تجوب الشارع الهادئ الذي لم يعرف إلا الدرّاجات، وهناك أكثر من رجل يقف، رجال الشرطة بالثياب المدنية المفضوحة جدا إياها، والتي تجعل أي أعمى يدرك أنهم رجال شرطة، هذه الأكتاف العريضة والشوارب الكثّة والنظرات المخيفة، لكن ليكن، مهمتهم هي ترويع القاتل وليس خداعه..

كان عزت يقف هناك أمام بيت من طابقين، وضحكت عندما رأيته ولوّحت بذراعي لكنه كان واجما فلم يكلف نفسه بهز رأسه.
عندها عرفت ما حدث..
لقد تأخرنا، أو لعل القاتل أرسل الطرد بعد الجريمة وليس قبلها..

عندما هرعت إليه نظر إليّ في حيرة وقال:
- تأخرنا.. امرأة في الثالثة والأربعين من عمرها، هناك من تسلل إلى البيت وطعنها حتى الموت، كانت وحدها لأن زوجها في العمل والأولاد في المدرسة.
- وهل حدث شيء؟
- لا شيء كالعادة، لا سرقة، لا اغتصاب، لا خلافات معروفة، هذه من جرائم المزاج لا أكثر، قتل للتسلية.

كانت الإسعاف تعوي عواءها الكئيب الشبيه بالندّابات الأجيرات، وهي تحاول أن تجد وقفة مناسبة تسمح بنقل الجثة، ثم ظهر رجلان يحملان محفّة عليها ملاءة ملوثة بالدم.
هنا لاحظت شيئا تكرر في حوادث القتل السابقة..
هؤلاء القوم غير مهتمين؛ لا توجد علامات لوعة من أي نوع، كنا سنرى جارة باكية وجارة منهارة وأطفالا فضوليين، لكن هؤلاء القوم يتعاملون ببرود غير معتاد.

ملحوظة غريبة ومهمة، لكن لا سبيل لنقلها لعزت، سوف يسخر مني..
وقفت أنظر إلى مدخل البيت، مدخل جميل تحيط به النباتات ويوحي بالسلام، رقم البيت هو 40، هل يستخدم السفاح متوالية هندسية معينة للقتل؟

دعنا نتذكر..
أول بيت حدث فيه القتل رقمه هو.. لا أذكر..
البيت الثاني رقمه 13..
البيت الثالث رقمه 20..
هذا البيت رقمه 40..

سألت عزت عن رقم أول بيت، البيت الذي قتل فيه الطفل خنقا، بدت عليه الدهشة ثم فتح مفكرته وراجعها، قال لي:
- رقم ثلاثة..
رحت أفكر في عمق..
وفجأة وصلت إلى الحل الصحيح..
الأمر واضح وليس معقدا على الإطلاق..


يُتبع..

عهد Amsdsei 02-03-13 11:43 PM

رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (5)
 
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (4)



http://www.boswtol.com/sites/default...shat%204-1.jpg


عندما تراك الأرانب الصغيرة تتدافع نحو قدميك (رسوم: فواز)
-9-

الأرانب الصغيرة أهم شيء في الكون، وبعدها فليذهب الكل إلى الجحيم..

عندما تراك الأرانب الصغيرة فإنها تتدافع نحو قدميك، وهي تحرك أنوفها بتلك الطريقة الساحرة.. أقدامها الصغيرة تدوس على أصابع قدميك برفق جميل، أما عندما يمسك الأرنب الصغير بأذنه ليمشط فراءها فهو يذكرك بحسناء تجدل ضفيرتها عند النهر، العيون الواسعة المفعمة براءة وتهيبا.. كتل بيضاء تتواثب كأنها ندف قطن حي..

هكذا كانت لمياء تفكر وهي تقف في الحديقة الخلفية للبيت تلقي فتات الخبز للأرانب. هي ليست حديقة بالضبط بل هي أقرب إلى مسقط أو سماوي تم استغلاله للزراعة.. هناك شجيرتان صغيرتان وأسرة أرانب وأسرة دجاج.. هناك قط رمادي صغير يتمنى لو ظفر بشيء يوما ما لكن هذا مستحيل، لذا تعلم أن يحترم نفسه ويتعايش، كأنه زير نساء يتعامل مع زميلات عمل حسناوات ولا يريد أن يُطرد بسببهن..

تفرغ من هذا ثم تتجه إلى مقدمة البيت التي تطل على شارع المشاط، حيث تجلس أمها هناك خلف سور الشرفة وقد وضعت عليه كوب الشاي بالنعناع.. أوراق خضراء نديَّة تطل وسط البخار، وفي يدها طبق من الأرز تنقيه.. هناك مشكلة بصرية، لذا تجهد عينها في النظر من تحت إطار النظارة..

بعد قليل يأتي القط ليثب إلى حاجز الشرفة ويجلس جوارها ويقر.. هنا تتربع لمياء على الأرض جوار القدم المجعدة المليئة بالعروق، وتتأمل مسام الجلد في شغف وفضول..
كسول.. لا تعرف شيئا عن العالم.. مفعمة بالجمال.. هادئة الطباع.. هذا هو مزيج الطباع الذي تتوقعه من فتاة نشأت في شارع المشاط.

كانت تسأل أمها في فضول:
ـ هل تسمعين عن حوادث القتل هذه؟
فتقول الأم في شرود:
ـ أسمع.
ـ كلها في شارع المشاط.. لقد مات أربعة.

تقول الأم:
ـ كلنا يعرف ذلك.. ونعرف أن القصة مستمرة.. سوف يموت آخرون.
ـ والسبب؟
ـ نحن لا نسأل أسئلة.. سوف تعرفين عندما تكبرين.
وتواصل الأم تنقية الأرز في هدوء تام.. بينما لمياء تتأمل الشارع الهادئ من جديد متسائلة عن البيت القادم والضحية التالية..

-10-

كنت جالسا في الجريدة أدخن وأرمق الفضاء من النافذة الضيقة.
هنا دق جرس الهاتف فرفعته في كسل.. جاء الصوت المميز يقول:
ـ هديتك في السلة أمام الجريدة.

بالطبع كان من المستحيل أن نراقب سلة المهملات للأبد أو نضع كاميرا تراقبها.. ربما يصير هذا حتميا فيما بعد. أما الآن فعليّ أن أهرع للصندوق لأرى.. ليس لي من دور إلا التيقن من صحة نظريتي أو فسادها لا أكثر.. من الصعب أن أمنع جريمة القتل التالية..

هرعت خارج الجريدة وبحثت في صندوق القمامة.. خمس مرات في شارع المشاط.. هذا رقم مرتفع جدا.. السفاح الذي قرر أن واجبه إبادة سكان الشارع، وهم قوم مسالمون جدا ينتظرون دورهم كالخراف في المذبح.. هذا شعور قوي أشعر به كلما رأيت شارعهم..

في شارع المشاط لا توجد سياسة.. في شارع المشاط لا توجد دولة ولا حكومة.. في شارع المشاط لا توجد أوبئة.. إنه شارع غريب متفرد على هامش الوجود.. على هامش التجربة الإنسانية ذاتها، وعلى الأرجح سوف أبحث عن شخص يعرف تاريخ هذا الشارع.. من هو المشاط؟

كنت أفكر في هذا وأنا أعبث في صندوق القمامة..
أخيرا أخرجت الطرد.. فتحته في لهفة كالعادة..
كان مبطنا بورق الزبد الشفاف.. وقد التفَّ حول حرف ذهبي صغير.. حرف D يبدو أنه منزوع من قلادة ذهبية.. خفيف جدا، فلا أحسب أنه كلف صاحب الطرد الكثير من المال..
هرعت إلى داخل الجريدة وطلبت عزت..

جاء صوته المتململ شأن من أيقظته من نوم محبب.. فقلت في انتصار:
ـ شارع المشاط من جديد.
أطلق السباب على الفور:
ـ الله يخرب بيتك! ما الهدية هذه المرة؟
ـ حرف ذهبي..
ـ ومعنى هذا؟
ـ البيت الذي يحمل رقم خمسين طبعا..
أطلق سبة أخرى وأدركت أنه يرتدي ثيابه والسماعة تحت ذقنه.. سوف يفتح أبواب الجحيم حالا..

http://www.boswtol.com/sites/default...shat%204-2.jpg
أرسل إلينا القاتل قطعة من ذهب ليقصد البيت رقم 50 (رسوم: فواز)
-11-

في لحظة رائقة من التفكير ، أدركت أن القاتل ينذرنا بجرائمه بطريقة مبتكرة، هي العناصر التي ترمز لانقضاء السنين.. أنت تعرف العيد البرونزي والعيد الماسي... إلخ.

عندما أرسل إلينا حزاما جلديا في طرد، ماتت الضحية في البيت رقم ثلاثة.. العيد الثالث هو العيد الجلدي..
عندما أرسل إلينا رباط حذاء كان يتحدث عن البيت رقم 13..
عندما أرسل إلينا صورة ياقوتة كان يتحدث عن البيت رقم 40.. العيد الأربعون هو العيد الياقوتي..
وعندما أرسل لنا طبقا من الصيني في طرد كان يتكلم عن البيت رقم 20..
اليوم هي قطعة من ذهب.. إذن هو يتحدث عن البيت رقم 50..

هذا يسهل الأمور.. ليست كل الأرقام مرتبطة بعناصر.. هذا يعني أن البيت رقم 23 مثلا أو البيت رقم 51 آمن تماما.. سوف يكون الخطر مقتصرا على الرموز المعروفة..
هذا يسهل الأمور كما قلت.. لكن السفاح يغش بشكل واضح، صار يرسل إليّ الطرد بعد الجريمة وليس قبلها.. هكذا لا يمنحنا فرصة الاستعداد..

النقطة الثانية هي الفهم.. لماذا يفعل ذلك ولِمَ اختار هذه الطريقة؟ لِمَ اختار شارع المشاط أصلا؟ ولماذا ينذرني أنا؟
ألغاز لا نهاية لها.. وفي نفسي تلاعبت رغبة خبيثة كريهة؛ لا تدعه يتوقف الآن يا رب! لو توقف لمتنا والفضول يخنقنا لمعرفة المزيد.. فلتستمر الجرائم إلى أن يرتكب خطأ جسيما أو نصير نحن عباقرة ونعرف كل شيء..

كنت أفكر في هذا كله بينما السيارة تندفع نحو شارع المشاط.. السرينة تنطلق مولولة.. وعند مدخل الشارع أبطأ السائق السيارة ومضى بسرعة الرجل العادي نحو البيت الذي يحمل رقم خمسين..
ترجّلنا سريعا وهرع عزت يدق الباب بقبضته كما يرى في السينما.

قلت له في هدوء:
ـ لا تتحمس جدا.. أعتقد أننا جئنا بعد فوات الأوان كالعادة.
انفتح الباب.. هنا تراجعنا للخلف بسبب هذا الوجه الرقيق الذي تفتَّح في وجوهنا فجأة كزهرة.. فتاة شابة كانت ترمقنا في رعب، فشعرنا بأننا ألعن مجموعة من الأوغاد في التاريخ.. كيف تقع وجوهنا على هذه الشبكية الرقيقة؟

قال لها عزت بصوت مبحوح:
ـ نحن من الشرطة.. هل أمك هنا؟
استدارت للخلف وصاحت:
ـ ماما!
ومن مكان ما ظهر قط فضولي.. ثم ظهرت سيدة عجوز تمشي كالبطة بسبب الروماتيزم المفصلي، وترتدي قميص نوم باهتا رثَّا..

كانت عيناها متسعتين في ذعر.. وتساءلت ورائحة البهارات تتصاعد منها:
ـ شرطة؟ لماذا؟
ابتلع عزت ريقه ثم قال:
ـ هل أفراد أسرتك بخير؟ كم عدد أفراد أسرتك؟
ـ أنا وابنتي فقط..

نظر إليّ عزت نظرة ذات معنى.. إما أنني أحمق وغبي، وإما أن الجريمة لم تقع بعد.. وهذا يعني أن استنتاجي كان ذا منفعة أكيدة.

يُتبع

عهد Amsdsei 02-03-13 11:44 PM

رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (5)
 
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (5)



http://boswtol.com/sites/default/fil...t%205%20-1.jpg


جاءت الفتاة الحسناء حاملة صحفة عليها أكواب الشاي (رسوم: فواز)
لم يمت أحد..
لا أتجاوز الحقيقة بكثير لو قلت إن هذا سبّب لي خيبة أمل! أنا بشري، ومن طباع البشر أن أتمنى أن أكون حكيما ملهما.. لم يمت أحد.. إذن عليَّ أن أعيد حساباتي..

لكني لن أعيد حساباتي من البداية.. هناك نقطة مهمة هي أن هذه الرموز التي تصلني لها ارتباط قوي بالأرقام.. لها ارتباط بفكرة اليوبيل. حتى أنني قد أطلق على هذا السفاح اسم "قاتل اليوبيل".

نفس الهواجس دارت في ذهن عزت..
صارحني بها وهو يتفقد الفناء الخلفي، والأرانب الصغيرة تتشمم حذاءه. قال لي:
- كل شيء جاهز كي يصير اسم القاتل هو "قاتل اليوبيل" ونتحرك على هذا الأساس.. لكن الوغد مصمم على أن يحيرنا.. لو لم يرتكب جريمة هنا الآن فنحن نبني على تربة مخلخلة..

ثم اجتاز المنزل إلى الشرفة.. هناك كان ذلك المقعد من الخوص والذي يطل على الشرفة المنخفضة. جلس عليه وأراح ظهره وتنهد وفرد ساقيه أمامه.. قال وهو يغمض عينيه:
- كمية سلام غير عادية في هذا الشارع.. آخر شارع تتوقع أن يمرح فيه سفاح.

ثم قطف بعض أوراق النعناع من نبتة جواره، وفرك الأوراق وتشممها ثم بدأ يلوك بعضها.. إنها غير نظيفة ملوثة بالغبار، لكننا كنا نعرف أن غبار هذا الشارع غير ملوث.. نفس المنطق الذي يجعلك تشرب قطرات المطر بلا تردد..

جاءت الفتاة الحسناء حاملة صحفة عليها عديد من أكواب الشاي الصغيرة أعدتها في المطبخ، وراحت تقدم لكل واحد منا، بينما كل واحد يشكرها ويطري جمالها بطريقته وثقافته.. متشكرين يا عروسة.. تسلم إيدك يا شابة.. شربات فرحك يا رب.. إلخ...
قدمت لنا كوبين، ثم مدت يدها ببساطة واقتطفت المزيد من الأوراق الخضر -بلا غسيل- ووضعتها في كوبينا. رفعت الكوب لأشرب وسألتها:
- ما اسمك؟
- لمياء.
- في أي مدرسة أو كلية أنت؟
- أنا أنهيت دراستي في كلية التجارة.

نظرت إليها مليا.. تبدو صغيرة جدا على أن تكون متخرجة.. بكل فراسة لن تجد لها سنا أنسب من المدرسة الثانوية.. ومعنى هذا أنها في سن الخطبة.. هناك كثيرون سوف يفكرون في الأمر بلا شك..

جاءت أمها من مكان ما بالداخل.. منحنية تمشي كالبطة. قالت لها:
- نحن بحاجة إلى بصل يا لمياء. اذهبي لأم ميمي وخذي منها ستة أو سبعة رءوس كبيرة..
كان الأمر واضحا.. الأم تنوي أن تطهو لنا وجبة سريعة ما دمنا ننتظر..

قال عزت في أريحية:
- ما هو رقم البيت؟ سأرسل أحد رجالي.
احتجَّت العجوز.. بالطبع بدا غريبا أن يذهب مخبر لجارتها لاقتراض البصل، لكن عزت طمأنها.. لا نستطيع المجازفة بأن تذهب الفتاة لأي مكان الآن.. إما أن يجلب رجلي البصل وإما أن تنسي الموضوع.. لا داعي للبصل أصلا..

هكذا ذهب بسطويسي ما من رجال الشرطة إلى المنزل رقم 55، فتحت له أم ميمي الباب وأصابها الهلع طبعا.. احتاجت لفترة حتى تستوعب أن مخبر شرطة جاء ليقترض منها بصلا.. دخلت البيت على حين وقف ابناها ينظران للمخبر في فضول..

بعد ثوان سمع المخبر صرخة ذعر.. اندفع داخل البيت، هناك في الكرار كانت الزوجة واقفة وقد غطت فمها وبدت في أسوأ حال ممكنة.. عند قدميها ووسط حزم البصل المتناثرة، كانت جثة رجل قام أحدهم بتمزيق عنقه من الخلف.. هذا الرجل هو زوجها..

هكذا نسينا موضوع البصل والغداء، ونسينا كل شيء عن الأرانب..
انطلقنا نركض نحو ذلك البيت الهادئ الذي تحول إلى مسرح مذبحة..
رقم 55.. ما معنى هذا؟
هل أصيب القاتل بالعجز عن العد أم أن قوانين اللعبة تغيرت؟

هناك وقفنا في بلاهة نرمق الجثة.. الجثة التي ذبحها أحدهم ولا نعرف من.. لقد صار شارع المشاط أخطر شارع في العالم..
سؤال آخر: هل أنا عبقري أم غبي آخر؟
مجرد عجزي عن الإجابة يعني أنني غبي..

-12-

فترة صاخبة أخرى من البحث.. تحقيقات , أسئلة عن أعداء الرجل..
إنه مدرس جغرافيا.. هذا يعني أن لديه أعداء كثيرين، لكن ليس لدرجة قتله طبعا.. أعداء مدرس الجغرافيا لن يساعدوه عندما يرونه وهو يقتل، لكنهم لن يبدءوا بالقتل على ما أظن..
لا توجد بصمات على قطعة الذهب سوى بصماتي طبعا.. لا توجد علامات على العلبة.. لقد صار الأمر معقدا..

كنت جالسا أدرس تفاصيل الموت.
هنا لاحظت وجود تطابق شبه تام بين سن الضحية ورقم المنزل..
حزام جلدي ثم قتل طفل في الثالثة.. الفتاة المراهقة ورباط حذاء.. نحن نتحدث عن رقم 13.. بدا لي بديهيا أنه المنزل رقم 13 بسبب عنوان الفيلم.. الياقوتة.. ماتت بعدها امرأة في الثالثة والأربعين.. الحقيقة أن هذا لم يكن دقيقا.. عندما راجعنا تاريخ الميلاد عرفنا أنها في الأربعين.. عندما تلقينا الطبق الصيني كنا نتحدث عن شاب في العشرين.. لم نكن نعرف السن بدقة..

الجريمة الأخيرة.. الزوج الميت في الخمسين..
هكذا تتضح الأمور أكثر..
ما زالت النظرية صحيحة وقابلة للاختبار..


http://boswtol.com/sites/default/fil...t%205%20-2.jpg
لماذا ينذرني أنا دون سواي؟ (رسوم: فواز)
اتصلت بعزت لأخبره:
- الرموز تدل على سن الضحية القادمة.. هذا أقرب للمنطق وفكرة اليوبيل..
قال محتجا:
- لكن رقم البيت كان يتفق مع الرمز في كل مرة باستثناء الأخيرة
- هذه دعابة قاسية منه على الأرجح.. عرف أننا سنفكر في رقم البيت بينما هو يفكر في السن.. اختار بيوتا تحقق الخيارين معا.. فكر في أننا سنبلع هذا الطعم.. وهذا على فكرة يعقد الأمور جدا، لأن البحث عن البيت رقم 25 سهل، أما حماية كل شاب في الخامسة والعشرين من عمره فأمر عسير..

كانت الأسئلة كثيرة.. وكنا على كل حال قد تجاوزنا ترف السؤال: من القاتل؟ صار هذا نوعا من الدلع يبلغ مبلغ قلة الأدب والوقاحة.. نحن الآن نسأل أسئلة معقولة مثل:
لماذا هذا الشارع بالذات؟
لماذا يختار القتلى بطريقة اليوبيل؟
لماذا ينذرني أنا دون سواي؟ هل أحدث فارقا سواء بجهلي أو بعلمي؟ سواء وصلت للسر أو لم أصل فالجريمة ستقع.. فلماذا يتعب نفسه؟
لماذا يتعامل سكان الشارع بلا مبالاة مع الأحداث؟

كنت أفكر في لمياء.. سكان هذا الشارع يخفون شيئا ما.. ولمياء على الأرجح تعرف هذا السر، لكنها الأقرب إلى البوح به.. عرفت هذا من نظراتها..
سوف أحاول الاقتراب منها أكثر لأفهم..

-13-

أحلام كانت تموت فعلا.. وقد أدركوا أنها حامل. حامل وهي غير متزوجة..
كانت هذه هي اللحظة التي أدركوا فيها أن عليها أن ترحل.. أن تموت في مكان آخر، لقد غيرت حياة الجميع وأفسدت كل شيء.. لم يعد أحد يتحملها ولا يتحمل نظراتها..

وكنت أنا في الصورة.. ربما كان حظا حسنا أو سيئا.. لكني أعتبرت أن الله تعالى أرسلني من أجلها..
هذه قصة أفضل أن أنساها على كل حال.. لا تسألني عنها ثانية من فضلك.

يُتبع

عهد Amsdsei 16-03-13 08:47 AM

رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (5)
 
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (6)



http://www.boswtol.com/sites/default...shat%206-1.jpg

فتحت لمياء الباب ونظرت إليّ في دهشة وحيرة (رسوم: فواز)




هكذا فتحت لمياء الباب ونظرت إليّ في دهشة وحيرة.. ابتسمت ملطفا ورفعت حاجبيّ بمعنى (أنا هو ذلك الرجل.. هل تذكرين؟)، ثم تهلل وجهها قليلا ودعتني للدخول.. لا بد أنها حسبتني من رجال الشرطة، فقلت لها بصوت خفيض:
- هناك أشياء أريد أن أسألك عنها..
قالت في ارتباك:
- تفضل واسأل..

بالطبع ليس هذا هو المكان ولا الزمان.. إن ما لديّ هو حديث طويل وأتوقع منها حديثا أطول، لو كان هناك شيء فعليها أن تخبرني به.. وإن لم يكن فعليّ أن أرهقها وأزعجها بالأسئلة إلى أن أؤمن أنها لا تعرف..

- أولا كم سنك؟
- سني خمسة وعشرون عاما.. وما زلت لا أفهم.
- هل يمكن أن نتكلم في مكان منفرد بعيدا عن هنا؟
- لا.

قالتها في بساطة وبراءة ومن دون حدة أو غضب.. كأنها تقرر حقيقة مطلقة، وأدركت أنها بالتأكيد تحسبني أريد ما يريده أي شخص آخر يراها، الغزل.. أن أخبرها كم أنا مقروح الجفن مسهود، وأضحى التنائي بديلا عن تدانينا.. إلخ.

الحقيقة أنني كنت أتمنى ذلك، لكن هذا ليس وقته كما ترى، كنت بحاجة إليها لأنني أرى أمامي جدارا محكما شديد القوة والصلابة.. هناك جزء هش نوعا أو هو أقرب إلى الصلادة، وأنا أريد أن أطرق على هذا الجزء فقد أجد ثغرة.. لمياء هي الجزء الهش في الجدار أو هذا ما حسبته..
لم أتكلم.. لم أبحث عن كلمات..
فقط استدرت لأبتعد، وفي نفس اللحظة تقريبا انغلق الباب بصرامة من خلفي..
-14-

قلت لك ألا تسألني ثانية عن أحلام..
أنا لا أمزح.. من السهل أن تثير غضبي فأكف عن سرد هذه القصة؛ لقد أنذرتك من قبل..

أنا لا أذكر إن كانت أحلام أنثى أم لا.. أعني أنها كانت حاملا وكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ لا بد أنها كانت أنثى إذن، لكن لم أرَ فيها أي أنثى؛ رأيت كيانا سقيما شاحبا وبين ساقيها كانت بركة من الدم تنزف، هناك إلى جانب الطريق كانت ملقاة، ووقف عدد من عابري السبيل يخشون أن يساعدوها أو يمدوا لها يد العون؛ بدت لهم مخيفة، بدت هي الموت نفسه ينتظر من يمد يده ليخطفه معه..

كان هذا هو الشارع الرئيسي.. لم أعرف وقتها أن هذه الفجوة بين بنايتين تقود إلى شارع المشاط..
لم أكن أصلا أعرف أن هناك شارعا بهذا الاسم..
وكانت سيارتي العتيقة من طراز 1100.. انحنيت وحملت الجسد المنهك النازف لأضعه في المقعد الخلفي، ونظرت إلى الناس في قرف.. ماذا تخشون يا أيها المشئومون؟ هل تتوقعون أن هذه الفتاة لص متنكر سوف يذبحكم؟ تبا لكم وللامبالاتكم..

حتى قبل أن أبلغ المستشفى أدركت من منظر ساقيها أنها تلقت ركلات كثيرة جدا..
قصة واضحة.. الحامل لا تتلقى ركلات إلا لو كانت حاملا بشكل غير شرعي، وبالتأكيد معظم هذه الركلات لنساء مسنات؛ الرجال لا يملكون أبدا الأعصاب الكافية لركل امرأة حامل، النساء يستطعن.

من أنت؟
من أنت؟
عرفت من شفتيها الجافتين أن اسمها أحلام.. هذا كل شيء..
وعرفت أنها فقدت جنينها..

وما لم تقله هو أنها جاءت من شارع المشاط.. عبرت تلك الفجوة بين الجدارين لتصير في الشارع العمومي.. ثم سقطت أرضا..
ولكن..
قلت لك ألا تذكرني بهذه القصة.. انسَها وانسَ أنني ذكرت شيئا منها..
***

http://www.boswtol.com/sites/default...shat%206-2.jpg

وجدت طبقا صغيرا بحجم طبق فنجان القهوة (رسوم: فواز)

كما قلت لك، لم أستطع الوصول إلى شيء مع الفتاة لمياء، لكي أعرف أي شيء فلا بد أن أنفرد بها؛ بالطبع لن أستطيع معرفة أي شيء في وجود الغراب المسن أمها، لكنني على كل حال مسرور لأن الموت لم يحدث في بيتهم في المرة السابقة، احتمال فقدها كان 50% وهو احتمال مقلق لو كنت تفهم ما أعنيه..




واصلت الحياة بعيدا عن شارع المشاط.. تصور هذا! هناك مشاجرات في السلخانة، وهناك سرقات سيارات، وهناك سطو مسلح، وهناك من يجدونهم قتلى في بيوتهم، تصور هذا! هناك عالم كامل عملاق خارج شارع المشاط، وهذا العالم قادر على جذبي داخله..

كنت غارقا في هذه التفاصيل، دعك من أنني أحب عزة زميلتي فعلا، أعتقد أنني سأخطبها عما قريب، لكن لنبقِ هذا سرا، المشكلة هي أن لمياء تظهر كالشبح بيننا كلما دنوت منها..
دق جرس الهاتف فرفعت السماعة..
الصوت الذي عرفته جيدا من مجرد الشهيق، من مجرد التنفس، يقول لي:
- هناك هدية لك في صندوق القـ...

لم أنتظر للفهم.. طبعا لم يكن الهاتف مراقبا؛ هذا الوغد يتصل بشكل غير منتظم وعلى فترات متباعدة جدا، وهكذا هرعت أركض في الشارع لأبحث في صندوق القمامة عن هديتي..
مزقت اللفافة بسرعة وفتشت فيها..

هذه المرة وجدت طبقا صغيرا بحجم طبق فنجان القهوة، طبقا من فضة..
حملت اللفافة مسرعا عائدا إلى المكتب، وطلبت عزت، ثم تذكرت..
الفضة.. خمسة وعشرون! يا للمصيبة! اليوبيل الفضي، خمسة وعشرون عاما..
عندما جاء صوته صحت في جنون:
- عزت.. سوف يقتلون لمياء! عمرها هو.. تصرف من فضلك!

كان قلبي يتواثب حتى صرت واهنا جدا.. لو جريت لفقدت وعيي وسقطت أرضا.. لا بد من أحد يفعل لي هذا..
قال عزت مهدئا:
- صبرا.. لا بد أن الشارع يعج بمن هم في نفس السن، لا يوجد دليل..
- هناك دليل، أنا منحوس! بالتأكيد ستموت هي..

قال كأنه يكلم طفلا:
- صبرا.. الحقيقة هي أن لديّ ستة رجال يحومون في هذا الشارع أو حوله.. سوف أرسل رجلين يراقبانها الآن.. لن يحدث لها شيء.

قلت وأنا أرتجف:
- على الأرجح سيكون كل شيء قد انتهى، انتهى كما في كل مرة..
انفجر في غيظ:
- يمكن أن أنقذها لو كففت أنت عن تضييع وقتي والبكاء كالمطلقات في محكمة الأسرة.

هكذا وضعت السماعة وأسرعت أضع سترتي وأدير محرك سيارتي قاصدا شارع المشاط اللعين.. لقد تلفت أعصابي فعلا؛ سوف أتحاشى الرد على أي مكالمات في المرة القادمة..
ترى كيف ماتت؟ مشنوقة أم مذبوحة أم سقط شيء ثقيل على رأسها؟ سنعرف حالا..

عندما وصلت عند المنزل رقم 50 أدركت أن هناك مصيبة فعلا..
كان عزت يقف مهموما أمام البيت ذي الأرانب.. وهناك رجلا شرطة يتكلمان وقد بدت الخطورة على وجهيهما، وفي الخلفية رأيت ما توقعته: السيدة العجوز.. الأم.. حية.. تبا!
من الواضح أنها قلقة ولا تفهم ما يحدث..

دنوت من عزت ولامست ذراعه.. نظر إليّ في جدية ثم قال:
- الفتاة ليست هنا.. غادرت الدار منذ ساعة مع صديقة لها.. الرجال يبحثون..
ابتلعت ريقي..
لن تكون جولة هادئة إذن.. لا بد أن القاتل سينهي مهمته الآن مع مجيء رجال الشرطة.
هنا سمعت ضوضاء ورأيت ما أثار ذهولي..
يُتبع..

عهد Amsdsei 16-03-13 08:50 AM

رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (5)
 
د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط (الأخيرة)



http://boswtol.com/sites/default/fil...shat%207-1.jpg

كان رجلا شرطة يحملان ما بدا لي كجثة فتاة (رسوم: فواز)




المؤلف: والآن حان الوقت كي نتفرق.. لن نبقى جميعا في مكان واحد. قد أقدم لك نهاية لا تروق لك، لذا أنصحك من اللحظة الأولى أن تختار النهاية التي تناسبك، وتريح نفسك من قراءة نهايات أخرى..

هذا ليس اختراعا خاصا بي.. معظم قصص إيلري كوين البوليسية كانت تضم أكثر من نهاية. لو كنت قد قرأت جوهرة النجوم السبعة -التي ترجمتها أنا منذ فترة- لرأيت أن برام ستوكر اختار لها نهاية كئيبة مخيفة، وبعد وفاته قام مؤلف آخر بكتابة نهاية باسمة، وأنت تختار النهاية الأنسب حسب مزاجك السوداوي.

هناك قراء يحبون طراز قصص الفنديتا والمنتقم العائد.. أقترح أن يطالعوا النهاية "أ".. ساعة الانتقام..

هناك قراء مولعون بالرعب والجو الشيطاني لذا أنصحهم بالنهاية "ب".. اليوبيل..

هناك قراء يحبون النهايات المفتوحة المستفزة التي لا تقول شيئا وتترك لخيالك الكثير.. أنا شخصيا من هذه الطائفة، لذا أقترح النهاية "ج".. اللعبة.

هناك قراء لا يحبون أي شيء أكتبه.. حسن.. لا أملك لهم سوى الاعتذار..

*******************
النهاية "أ" ساعة الانتقام

عندما رأيت الموكب قادما من بعيد أدركت من يحيطون به..
كان رجلا شرطة يحملان ما بدا لي كجثة فتاة.. صرخت الأم في هلع وارتمت على ركبتها، لأن ساقيها لم تعودا قادرتين على حملها..

عندما دنوت أكثر رأيت الوجه الجميل نائما نومته الأخيرة.. وأدركت أن الرأس تهشم تماما..
كانت دموعي تسيل بلا توقف.. هذه المرة فقدت وقاري وانحنيت أطوقها بذراعي، وسمعت عزت يكرر السؤال:
- أين صديقتها؟
- كانت وحدها..

صاح في الأم بجنون:
- ما اسم صديقتها؟ أين تسكن؟
لم ترد المرأة.. كانت قد تحولت إلى نوع من النباتات العاجزة عن الكلام واتخاذ قرار..

لقد وجد رجال الشرطة الفتاة عند تلك الفتحة التي تقود للشارع الخارجي. يبدو أنها كانت تحاول العبور عند المنحدر وبائع الفول إياه.. هناك كان القاتل ينتظرها ووجه لها ضربة عاتية على رأسها.. خمسة وعشرون عاما انتهت في لحظة..

لقد فشلنا.. فشلنا مرارا.. القاتل أقوى مننا بمراحل..

-15-
كان هذا منتصف الليل وأنا في بيتي.. أحملق صامتا في نار الموقد الذي وضعت عليه بعض الشاي.. لقد جف الشاي تماما لكني صرت عاجزا عن اتخاذ قرار.. لا أستطيع أن أطفئ النار..

دق جرس الباب فاتجهت لأفتحه متسائلا عمن يكون هناك..
كان عزت يقف هناك.. بدا لي مهموما ومعه كل الحق في ذلك..
سمحت له بالدخول، ثم بحركات آلية أعدت ملء البراد لأعد له الشاي من جديد..

وقف على باب المطبخ يراقب ما أقوم به، ثم قال في حرج:
- أنت كنت تميل لها.. أليس كذلك؟
هززت رأسي موافقا أن بلى.. بعد صمت اتجه إلى شطيرة محشوة بالجبن الرومي على الموقد، وتناولها وقضم منها قضمة كبيرة.. سألته إن كان يريد أن يأكل فقال:
- لا.. لم أظفر بشيء من الطعام منذ الصباح.. قضيت معظم اليوم مع أم لمياء هذه.

نظرت له في حيرة، فقال:
- عرفت منها أشياء كثيرة.. عرفت أن أهل الشارع يعتقدون أن لعنة حلت بهم، بسبب سوء معاملتهم لفتاة حملت سفاحا.. كانوا يكرهونها ويشعرون أنها ساحرة شريرة.. ثم اكتشفوا حملها فعاقبوها بشكل جماعي قاس.. ضربوها بقسوة وألقوا بها خارج الشارع.. أنت تعرف كيف تكون هاته النسوة ساديات قاسيات.. كان اسم الفتاة أحلام. هنا تذكرت شيئا.. تذكرت قصة حكيت لي عنها عن فتاة أنقذتها وأخذتها إلى المستشفى لكنها ماتت في يوم عيد ميلادها.. كان اسمها أحلام.. أنت وجدتها قريبا من الشارع، لكننا لم نعرف أي شيء عن كونها من شارع المشاط..

نظرت له في تحد وتساءلت:
- ماذا تريد قوله؟
- أعتقد أنك ارتبطت بهذه الفتاة أحلام جدا.. ولم تتحمل فكرة موتها بين ذراعيك. عندما ماتت.. حسن.. لم يحدث شيء.. لكن هل تعرف أننا كنا نراقب هاتف الجريدة منذ فترة؟ لم يتصل بك أي شخص اليوم ولا أمس.. أعتقد أن أحدا لم يتصل بك قط!

ثم ابتسم في شيء من الشفقة وقال:
- هناك فتاة اتصلت بنا وقالت إن رجلا دفع لها مالا كي تذهب لبيت لمياء وتصحبها معها إلى نقطة عند نهاية الشارع.. رحلت بعدها فلم تعرف ما حدث، لكن الرجل الذي وصفته يشبهك كثيرا.
بدأت أتراجع.. بالفعل أنا لا أفهم عن أي شيء يتحدث.. الشاي يواصل الغليان على الموقد..
- هناك شيء آخر.. في كل زيارة للشارع كنت تتعرف بالناس.. هذا معقول.. لكنك مهتم جدا بمعرفة سنهم.. هل تعرف سببا لهذا؟

ثم أردف وهو يواصل المضغ، حتى شعرت بدهشة بسبب الحزن المرتسم على وجهه مع أنه مستمر في الأكل..
- هناك اثنان من رجالي رأياك في الشارع صباح الجريمة.. لم يبد لهما هذا ذا أهمية.. أنت تتردد على لمياء منذ فترة.. لكنك لم تقل قط إنك قابلتها يوم الحادث
- لم ألقها..

- هذا أثار عدة أسئلة.. طلبت رأي طبيب نفساني.. هل تعلم ما قاله لي؟ قال إن هناك احتمالا أنك عشت طفولة قاسية وكنت طفلا منبوذا.. مشهد موت الفتاة البريئة قد هز توازنك النفسي ، وقد تمرد جزء من عقلك الباطن ليجعل منك قاتلا.. قاتلا ينتقم من سكان ذلك الشارع.. هكذا كان القاتل يرسل لك تلميحا صعبا من وقت لآخر. طبعا كنت تتخيل أن هناك اتصالا تم بك.. يضع لك الهدية في الصندوق لتخمن وتحاول أن تمنع.. الفارق هنا هو أنك كنت تقتل أولا ثم تهرع لتبعث بالإنذار لنفسك.. وكان الجزء الثاني منك يجري من الجريدة مذعورا ويحذرنا وهو في هذا صادق..

كنت أرتجف بلا توقف.. هذا هراء.. كلام فارغ بالتأكيد..
لكن.. في الوقت نفسه ثمة جزء من ذاتي يعرف أن هذا حقيقي.. حقيقي تماما..
قال عزت في أسى:
- أرجو أن ترتدي ثيابك وتأتي معي.. أنا آسف.. لو كنت بريئا سيكون علي أن أثبت هذا
لم يكمل العبارة.. كنت قد تناولت براد الشاي وقذفته في وجهه.. سمعت الصرخة الشنيعة وهو يغطي ملامحه ويتلوى ألما.. فتحت باب الشقة واندفعت جريا قبل أن أبدل ثيابي..
أحلام.. لمياء.. شارع المشاط.. الانتقام.. من أنا؟

أريد أن أنفرد بنفسي لأحاول الفهم.. ولكي أستطيع الفهم يجب أن أفر إلى مكان بعيد. لا يجب أن أسمح لهم بالقبض عليّ الآن.. ربما فيما بعد..
سامحني يا عزت.. أنت تعرف أنني لست على ما يرام..
يجب أن أعود لشارع المشاط بحثا عن إجابات. يجب..

تمت
*********************
النهاية "ب" اليوبيل

رأيتهم قادمين..
وعرفت على الفور أن رجلي الشرطة يجران فتاة يلوون ذراعها خلف ظهرها وهي تبكي.. لمياء بالذات.. ومن خلفهما كانت فتاة أخرى منكوشة الشعر تتحسس حلقها وتتهانف. صحت في عصبية محاولا منعهما:
- صبرا.. سوف تهشمان ذراعها!

أمرهما عزت بأن يخففا الوثاق، وهرعت الأم تصرخ وتولول فأمرها في خشونة أن تصمت.. استدار لرجليه فقال أولهما:
- كانت هناك عند نهاية الشارع بين الجدارين، وكانت تلف الإيشارب حول عنق صديقتها الأخرى.. أعتقد أننا جئنا في الوقت المناسب!

هل هذا صحيح؟ نظرة واحدة لوجه لمياء كانت كافية لتخبرك أن هذا صحيح..
ولكن كيف؟ لمياء استدرجت صديقتها لتخنقها.
لمياء هي القاتل..

كنت أنا في حالة مزرية من الحيرة والدهشة. ولا أعرف كيف ولا متى وجدت أنني أنقض على لمياء لأضربها.. كنت غاضبا وشعرت بالإهانة لأنني مخدوع. لكن رجال الشرطة أمسكوا بي فورا، ورأيت عزت يغطي وجهه في إرهاق بكفه، ثم يقول لي وهو يلهث:
- أرى أن ترحل الآن.. أنت بالذات سوف تسبب مشاكل لو بقيت هنا..

ومن جديد لا أعرف كيف وجدت نفسي في سيارة شرطة تنهب الأرض لتعيدني لبيتي.. كانت في رأسي بؤرة مجانين.. لمياء هي القاتل؟ كيف ولماذا؟ هل استطاعت هذه الرقيقة أن تقتل هذا العدد ومنهم رجال أقوياء وأطفال؟ وما دوري أنا؟

ارتميت في الفراش في شقتي بثيابي وحاولت النوم..
-15-

اتصل بي عزت وطلب أن ألحق به في مكتبه بمديرية الأمن حالا..
لم أفهم ما يريد، لكنه طلب معتاد على كل حال.. صحفي الحوادث يذهب لمديرية الأمن أكثر مما يذهب لبيته..

بعد ساعة كنت هناك، ودخلت مكتبه.. لأجد أن هناك اثنين معه، وكانت العجوز أم لمياء جالسة ترتجف.. وأمام العجوز كانت فتاة نحيلة ضامرة لها وجه سقيم كئيب لم أرها من قبل.. والكل كان يبكي كأنه مهرجان للعويل..

قال عزت في لهجة انتصار:
- السيدة أم لمياء قد تكلمت.. خوفها على ابنتها جعلها تحطم جدارا سميكا..
نظرت للسيدة في عدم فهم فأضاف عزت وهو يشير للفتاة السقيمة:
- سامية.. من سكان شارع المشاط.. كانت لها أخت ربما سبق لك أن عرفتها.. اسمها أحلام.
سقط الاسم عليّ كالصاعقة فانتفضت.. لو كان هذا فيلم سينما لسمعت صوت ضربة الوتريات الشهيرة.. ما معنى هذا؟ ما دور أحلام هنا؟

قال عزت:
- سامية رأت أختها تموت وأرادت أن تنتقم من الشارع كله.. كانت تعرف عنوانك وعملك وتعرف أنك حاولت إنقاذ أختها؛ لذا بدأت ترسل لك هذه الرموز لعلها تساعدك في الفهم.. كانت تتحدث بالرمز لأنها خافت أن تكون صريحة جدا..

قلت معترضا:
- لكن صوت المكالمــ...
- لا مشكلة في أن تجعل رجلا يتكلم بدلا منها طلبا للتمويه.. طبعا نفس الرجل في كل مرة
ثم أشار إلى العجوز التي راحت تحملق فينا بعينين لا تريان تقريبا وقال:
- ما تحكيه أم لمياء يعود لزمن بعيد.. كل سكان شارع المشاط يعرفون أن التضحية الكبرى قادمة، والسبب هو أنهم يمتون لعقيدة قديمة.. ليس هذا دينا سماويا نعرفه.. إنهم يعتبرون أنفسهم خطاة.. منذ قرن ينتظرون هذه الأيام. وعندما يلتقي الحكماء في بيت أحدهم ليلا ينفخون في البوق المصنوع من قرن الخروف.. معنى قرن الخروف بالعبرية هو اليوبيل.. كان العبرانيون يمارسون هذا في أسبوع الأسابيع كما يقولون. واليوبيل هو الاحتفال.. وهكذا يختارون الضحية القادمة ويختارون قاتلها.. طبعا لديهم قائمة بسن كل سكان الشارع.

نظرت للعجوز في ذهول.. لا أفهم. القاتل هو..
قال عزت:
- القاتل هو كل أهل الشارع.. كل جريمة قتل كان لها قاتل مختلف من سكان الشارع.. يقتل صاحب الرقم المختار.. معظم سكان الشارع لا يعرفون السر إلا وقت التنفيذ، وعندها يجد القاتل نفسه تحت تأثير المخدرات.. مع تهديد بنبذه وانتحاره اجتماعيا.. هكذا بعد أيام من الضغط يفعلها.. لمياء لم تكن تعرف أساطير الكبار ثم عرفتها.. وقضت أياما تجاهد نفسها إلى أن اقتنعت ونفذت..

ثم أشار إلى سامية وقال:
- واحدة فقط حاولت خرق صمت الشارع.. السبب أنها لم تغفر لهم قتل أختها.. القتل الذي لم يتلق أي واحد عقابا عليه.
كانت الفكرة أقوى مني..
إذن سكان الشارع كانوا ينتظرون مصيرهم كالخراف.. كانوا يعرفون أن الذبح قادم لهم. ولماذا؟ من أجل عقيدة لا نعرف عنها أي شيء..

لمياء كانت مرغمة على أن تقتل.. تقتل فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها.. صديقتها ومن أترابها..
قال عزت وهو يشير للمخبر كي يأخذ العجوز:
- سوف يستغرق الأمر الكثير من العمل.. تحقيقات لا حصر لها.. لكننا سوف نصل للنتيجة. أعتقد أن مشكلة شارع المشاط قد انتهت.

نظرت لسامية طويلا.. بالفعل أرى ملامح أحلام.. أحلام البائسة التي حولوها لجسد دام باك على قارعة الطريق.. القساة..
قالت سامية بصوت مبحوح:
- أنا اعتبرتك أخا لي.. برغم أنك لا تعرفني..
لم أرد وغادرت المكان مهموما..

-16-
جاءت المكالمة الهاتفية وأنا في الجريدة.. رفعت السماعة فسمعت ذلك الصوت المميز يقول:
- هديتك في سلة المهملات!
هل جن الجميع؟ لقد انتهت القصة.. سامية كانت ترسل الطرود.. صحيح أنهم لم يقبضوا عليها لكن لا أعتقد أنها ستعود لتمارس عملها بهذه السرعة..

نزلت إلى الصندوق وبحثت.. أخرجت العلبة وفتحتها.. كانت تحوي قطعة من شعبة مرجانية جافة.. نحن نتكلم عن المرجان إذن.. هل أبلغ عزت؟
عدت لمكتبي وجلست أرمق القطعة. مرت عزة جواري فقالت ضاحكة:
- كل عام وأنت بخير.. سوف يصير عمرك ستة وثلاثين عاما بعد أسبوع! أردت أن أستبق الأحداث وأهنئك!

ابتسمت في عصبية..
مرجان.. خمسة وثلاثون.. هل هي صدفة؟ أنا اعتبرتك أخا لي برغم أنك لا تعرفني.. هكذا قالت سامية.. هل يعني هذا شيئا؟ هل يعني أنهم يعتبرونني من سكان شارع المشاط ويسري عليّ ذات العهد؟
هذا احتمال خطر لو أردت رأيي..

سأظل قلقا لفترة إلى أن أتخلص من عقدة الخمسة والثلاثين عاما هذه..
أين ذهب الجميع؟ المكتب خال.. هذا ليس معتادا في هذه الساعة. بيني وبينك أنا أشعر بقلق بالغ.. يجب أن أرحل بسرعة..
خمسة وثلاثون.. مرجان..
شيء مقلق فعلا..
تمت
******************

النهاية "ج" اللعبة

كانت لمياء قادمة مع رجلي الشرطة..
ممتقعة الوجه منكوشة الشعر لكنها حية وسليمة..
لما رأتني هتفت في دهشة:
- ماذا هناك؟ لماذا يلاحقونني؟

برغمي ركضت نحوها وأمسكت بيدها.. قلت لها:
- كنت خائفا.. حسبت أنك الضحية القادمة.
لم ترد ونظرت لي طويلا.. كانت ترتجف كورقة.. ترتجف أكثر مما يمكن أن يفسره الذعر من شرطيين. هل حدقتاها متسعتان أم أنني أتخيل؟ أطرقت إلى الأرض ورحت أنظر لقدميها. القدمين الصغيرتين كقدمي يمامة.. عندما تكون قدما الفتاة رقيقتين كهذه فإنها تقابل عددا هائلا من الرجال الخجولين المطرقين لسبب لا أعرفه! غير أنني لم أكن أنظر إلى القدمين.. كنت انظر إلى الحذاء الأسود، وأقسم أنني أرى عليه قطرات دم..
ابتلعت ريقي.. وحاولت أن أنسى..

بعد ساعة بالضبط جاء رجلا شرطة يخبراننا أن البيت رقم 23 فيه مشكلة خطيرة.. هناك فتاة شابة مذبوحة.. الفتاة في الخامسة والعشرين من عمرها، ويبدو أن الذبح تم من الخلف.. هناك من وقف خلفها ثم مرر النصل تحت ذقنها..

لا.. لا يوجد سلاح جريمة.. القاتل تخلص منه أو أخذه معه..
ابتلعت ريقي من جديد مع خواطري.. لن أندهش لو عرفت أن القتيلة صديقة لمياء. لم نعرف اسمها بعد لكن لمياء سوف تكتشف الاسم وتصرخ..
-15-
كنا نمشي على كورنيش النيل، ونحن نعرق كوزي الذرة الساخنين..
لمياء الجميلة التي تغلغلت في حياتي.. لا أريد شيئا سوى أن أهجر العالم وأعيش معها في شارع المشاط للأبد.. حكيت لها عن حياتي وعن وحدتي. حكت لي عن.. لا شيء.. هي لا تعرف شيئا في العالم سوى أمها وقطتها والأرانب..

قلت لها إنني أريد الزواج منها.. أريد الحياة في شارع المشاط.. أريد أن أربي الأرانب معها ونجلس في العصر نراقب الشارع الهادئ..
قالت متحاشية النظر لي:
- للشارع سر.. سر مخيف.. صدقني لن تحب الحياة فيه.

سألتها:
- هذا يتعلق بجرائم القتل تلك؟
قالت وهي تقذف بقايا كوز الذرة:
- نعم.. لكن ليس الأمر كما تتخيل.. هناك قصة أعقد..

نظرت في عينها بثبات وسألت:
- أنت قتلت تلك الفتاة.. في اليوم الذي جئت لك ملهوفا..
لم تتكلم.. كأن كلماتي صفعتها. لكن كلماتي كانت صادقة.. أعرف هذا.. هي لم تذبح أرنبا قبل أن تأتي لتقابلني يومها لكن حذاءها كان ملوثا بالدم.. لماذا كانت مذعورة؟

قالت بصوت كالفحيح:
- أنت تعرف أشياء كثيرة.. أنا أريد شيئا واحدا.. أن تلحق بي في الشارع الليلة.. هناك أشياء لابد أن تراها..
وعدتها بذلك وحددنا مكان اللقاء..
وعند منتصف الليل كانت واقفة في الظلام على بعد أمتار من بيتها..
لما رأتني رفعت إصبعها لتسكتني ثم مضت مسرعة وأنا ألحق بها..

رأيتها تدخل مدخلا مظلما بين بيتين. ثم أننا وجدنا سور شرفة صغيرا يطل على خرابة خلفية فوثبت لتكون بالداخل.. لحقت بها وقلبي يتواثب.. لا أعتقد أنها ستقتلني لكن لو فعلت فلن ألومها.. وقفت جوار باب شرفة موارب.. خلف الباب هناك غرفة واسعة مظلمة تنيرها بضعة شموع.. دنوت منها وحبست أنفاسي..

أستطيع أن أرى داخل الغرفة خمسة أو ستة أشخاص ملتفين حول مائدة..
أسمع كلاما غريبا يقال.. ثم سمعت صوت رجل يقول:
- نفخنا في اليوبيل قرن الخروف.. والآن فلتمد أختنا يدها في الجوال وتلتقط الوحي القادم.

ثم سمعت جلبة خافتة.. بعدها جاء الصوت يقول:
- العاج.. لقد تكلم بعل.. سوف يكون العاج اختيارنا..
رفعت لمياء يدها من جديد تشير لي أننا سنعود.. ثم وثبت من جديد في خفة لتخرج من الشرفة، ولحقت بها في الظلام.. كانت تركض لاهثة متجهة نحو بيتها وأنا أركض خلفها..

وقفت تلتقط أنفاسها المتقطعة ووضعت رأسها على كتفي وهمست:
- هل فهمت؟ هل فهمت؟
- هذه طقوس ما...
- هذه طقوس اختيار الضحية القادمة طبقا لاختيار اليوبيل.. العاج.. سوف يبحثون عن ضحية في الرابعة عشرة من عمرها بين سكان الشارع.. هذا نوع من القربان يتم بصورة دورية. لديهم تاريخ ميلاد كل سكان الشارع. القاتل سيكون من أبناء الشارع.. لا نعرفه لأنهم سيكلفونه بالمهمة قبلها بيومين.. أنا مثلا لم أكن أعرف أنني سأقتل ولم أكن أعرف موضوع اليوبيل هذا، ثم خضعت لضغط نفسي وعلاج بالعقاقير حتى صرت جاهزة..

- لكن لماذا؟
- لأن معظم سكان الشارع من عبدة بعل. وهذا قربان قديم..
- هذا مخيف.. معناه أن دورك آت يوما ما.. لا بد أن هناك أكثر من قطعة فضة عندهم..
- هذا وارد.. الآن تفهم.. لو جئت لتعيش معنا في الشارع فعليك أن تقبل المرور باللعبة.. كم عمرك؟
- خمسة وثلاثون.
- المرجان. المرجان سوف يحدد مصيرك يوما ما..

سألتها في حيرة:
- ولماذا تصلني هذه الطرود؟ ولماذا ينذرونني أنا بالذات؟
- أنت مددت يد العون قديما لفتاة من الشارع اسمها أحلام.. أعتقد أن واحدا من أقارب أحلام أو أخوتها يحاول أن يوقف الجرائم ويرسل لك تلميحات كي توقف هذه الجرائم..
كانت عيناها واسعتين خائفتين..

تذكرت شوارع القاهرة الكئيبة.. تذكرت الزحام والدخان.. تذكرت الجريدة.. تذكرت حياتي..
الحقيقة أنني أنتمي لشارع المشاط.. أنا من سكانه..
ربما أتلقى طردا فيه قطعة من المرجان وربما لا.. هذه مقامرة لا تستحق أن أفقد لمياء خوفا من خسرانها.. وبعد قليل سوف أفلت من قبضة المرجان.. سوف أتقدم في العمر وأدخل دائرة الياقوت..
ربما لا يصلني الطرد أبدا..

ثم ما أروع هذه الإثارة! لعبة خطرة تشبه الروليت الروسي.. لن يكون هناك ملل في الحياة بعد هذا.. تصور أنك مهدد بالقتل في كل دورة جديدة.. وعندما تموت الضحية التالية تتذوق أنت الحياة كما لم تتذوقها من قبل.. حياتي قبل شارع المشاط كانت هباء فعلا..
سوف أبقى..
ولثمت أنامل لمياء الرقيقة وهمست:
- هل أمك متيقظة في هذه الساعة المتأخرة؟
تمت

احمد خميس 21-05-13 12:33 AM

رد: د. أحمد خالد توفيق يكتب.. في شارع المشاط - كاملة
 
متميزه كالعاده


الساعة الآن 01:40 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية