منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات أونلاين و مقالات الكتاب (https://www.liilas.com/vb3/f743/)
-   -   [قصه قصيره ] المريض التالي - للد. أحمد خالد توفيق - كاملة (https://www.liilas.com/vb3/t174269.html)

عهد Amsdsei 16-04-12 09:27 AM

د. أحمد خالد توفيق يكتب.. المريض التالي (4)


http://www.liilas.com/up/uploads/liilas_13345611082.jpg
تأمل الضابط الوجه إنه قد تشوه بالرعب وآثار دماء (رسوم: فواز)

هناك عند هذا المنحنى في الطريق، حيث اصطدمت عشرات السيارات بالحاجز الحديدي من قبل فالتوى وتشوّه، كان السياج تالفًا.. وكان ذلك المنحدر الذي يقود إلى الترعة..

هذا هو المكان الذي توقّف عنده المهندس مينا.. كان واثقًا من أنه رأى شيئًا أسفل هذا المنحدر، لكنه لم يستطع أن يحكم ما هو.. فقط هو شيء لا يبعث الراحة في النفس، توقّف بعيدًا عن مسار العربات المندفعة وانحنى ليلقي نظرة أدقّ..

بالفعل.. هذا ثوب أو معطف ممزق.. جسد بشري يتعلق بغصون الأشجار البارزة من المنحدر، ومن الجلي أنها أنثى كذلك.. كان قلبه يتواثب بين الضلوع عندما مدّ يده لجيبه وطلب رقم الشرطة.

عندما جاءت سيارة الشرطة بعد وقت طويل، استطاع شرطيان أن يجرّا الجثة إلى أعلى.. القصة واضحة، لقد قتلها أحدهم ثم ألقى بها من فجوة السياج للهاوية، وتعلّقت بالغصون، تأمل الضابط الوجه..

إنه قد تشوه بالرعب وآثار دماء، لكن يمكن بسهولة أن تدرك أنها كانت جميلة يومًا ما، كانت تلبس معطفًا.. وجد يده تمتد لتعبث في جيبها ثم خرجت ببطاقة هوية صغيرة.. هي إذن من النساء اللاتي يحملن الهوية في الجيب وهذا يسهّل الأمور..

قرّب البطاقة من عينه وقرأ:
ـ "شاهنده منصور محمد.. مهندسة اتصالات".

ثم نظر إلى الوجه المذعور، وغمغم:
ـ "ترى من قتلك أيتها الحسناء؟.. والأهم.. كيف قتلك؟".

***********

عندما فتحت الخادمة الباب وجدت تلك السيدة النحيلة واقفة هناك.. ثمة قوة نفسية كاسحة لدى بعض الأشخاص الناحلين -حيث تتكفل العينان القويتان اللتان تضخمتا من فقدان الوزن- بجعل نظرتهم لا تقاوم..
ـ "د. هجرس موجود؟".

أرادت الخادمة أن تغلق الباب فلم تستطع.. لم تجد في نفسها القوة، وعندما أفاقت كانت تقف داخل البهو جوار المزهرية العملاقة، والسيدة النحيلة تقف أمامها...

قالت كلامًا بصوت مبحوح لا تعرف ما هو.. وهنا سمعت صوت سيدتها ثريا تسأل عما هنالك..

قالت وهي تعرف أنها ستتلقى اللعنات:
ـ "مريضة تسأل عن د. هجرس".
قالت ثريا في عصبية وتوحش:
ـ "مريضة؟ منذ متى يأتي المرضى للبيت؟".

ونظرت للسيدة النحيلة، كانت ترتدي ثيابًا أنيقة.. أنيقة لو أننا في الستينيات.. نفس التأثير الغريب لو أنك رأيت رجلاً يلبس طربوشًا نظيفًا مكويًا اليوم، قالت السيدة النحيلة وهي تنظر لها بذات الثبات:
ـ "أريد كشفًا منزليًا.. إن ابنتي مريضة".

ونظرت ثريا للعينين الغائرتين والشحوب الشديد وشعرت بقشعريرة.. في عصبية قالت:
ـ "الدكتور لا يقوم بكشوف منزلية.. أعطيها عنوان العيادة واصرفيها يا زكية".
ـ "أريد كشفًا منزليًا.. إن ابنتي مريضة".

المخيف أن السيدة تتصرف وتتكلم كأنها لا تسمع حرفًا مما يقال...
- سوف ترحلين وإلا طلبت الشرطة.
لكنها أدركت أن الأمر يتجاوز طلب الشرطة.. هذه السيدة مخيفة فعلاً، وعلى الأرجح...

على الأرجح غير حقيقية..

بدأت ترتجف.. يدها تهتز بلا توقف... ولا تعرف متى ولا كيف ظهر الطباخ العملاق من المطبخ، هذه المرة قبض في صمت على ساعد السيدة واصطحبها إلى الباب وأخرجها وأغلقه...

لا تعرف كيف كانت ستتصرف لو طال الأمر.. هناك قوة ساحقة غلبتها لكن ما هي؟
وفي عصبية تحسست الهاتف وطلبت رقم زوجها..

***********

http://www.liilas.com/up/uploads/liilas_13345611081.jpg
بعد دقائق عاد السائق وهو يلهث بسبب كرشه الضخم (رسوم: فواز)


نظر د. هجرس للهاتف الذي يتوهج بلا توقف.. اصمتي يا ثريا فلست بسعة نفسية لسماع هرائك الآن.. فيما بعد أرجوك..

كان جالسًا في سيارته وقد قام بتشغيل المكيف.. يرقب المساحة الخالية أمامه..
مساحة يلعب فيها الصبية وتنبح الكلاب على بعضها. لم ترد شاهنده حتى اللحظة وقد بدأ يقلق.. يقلق من أن تكون هي البادئة بالرحيل.. ليس هذا من حقها.. هو الذي سيرحل..

كم هو بحاجة إليها.. لا بد من امرأة في مكان ما كي تدفن حزنك العميق بين ذراعيها.. لا بد من امرأة تبكي بين خصلات شعرها.. هذا غير عادل..

هناك تمتد المقابر الريفية.. بعضها ينمّ على ثراء وفخامة، وبعضها ينمّ على فقر وتواضع حال.. طين جاف. يصعب عليه أن يصدق حالة التساوي التي يتكلم عنها الزاهدون والشعراء.. لا يرى مساواة حتى في الموت؛ هناك من يموت ثريًا وهناك من يموت فقيرًا.. هناك من ينام في بيت من رخام ثمين، وهناك من يغطى بطين جاف..

نظر لساعته.. موعد العيادة يقترب والسائق صبري ما زال هناك في المقبرة، كان يتخلص من صبري في اللقاءات النسائية طبعًا، لكنه يعترف بأنه مفيد، يساعده على التعامل مع الحثالة دائمًا.. دعك من أنه يشعر بحنين للأيام الشعبية الأولى.. من حين لآخر يحلم بطبق من الكشري أو لحمة الراس أو السمين... هنا كان السائق يتصرف..

هذه المرة كان العنوان موجودًا في سجلات المستشفى وكان واضحًا، القرية.. المركز...

بعد دقائق عاد السائق وهو يلهث بسبب كرشه الضخم. جلس خلف المقود وهو يتنهد براحة بسبب الجو المكيف..

سأله د. هجرس في برود:
ـ "خيرًا؟"
قال السائق وهو ينظر للخلف ليتراجع بالسيارة:
ـ "بالفعل يا سيدي.. لقد نبش اللحاد مقبرة (عز الشباب عبد السميع) ليلة أمس.. يجب أن أقول إنه طلب الكثير من المال".
ـ "والنتيجة؟"
اندفع السائق نحو الطريق المرصوف وقال:
ـ "فارغة طبعًا! لا توجد جثة!".
لا توجد جثة...

هناك من تحمل نفس الاسم في المستشفى الآن....
فرك د. هجرس يديه وقال في شرود:
ـ "كنت أتوقع هذا..".
***********

"اشفني يا دكتور.. سأحمل لك هذا الجميل ما حييت".
***********

كان الهاتف ما زال يتوهج عندما اجتازت السيارة بوابة المستشفى..

لا بد أن الأطباء المقيمين أصيبوا بالشلل الذهولي أو العقم عندما فوجئوا بظهور د. هجرس في هذه الساعة.. إنه موعد عيادته، ومن المستحيل أن يظهر في هذه الساعات، وهو على كل حال لم يكن ألطف أستاذ في المستشفى..

كان طلبه محددًا وهو يفتح باب مكتبه:
ـ "أريد أن تجلبوا لي المريضة التي تدعى (عز الشباب عبد السميع).. حالاً!".

يُتبع

عهد Amsdsei 28-04-12 03:49 PM

د. أحمد خالد توفيق يكتب.. المريض التالي (5)

http://www.liilas.com/up/uploads/liilas_13356208951.jpg

أمر هجرس السائق أن يشتري له رغيفان حواوشي


نظر السائق إلى د. هجرس متسائلاً، فقال له في وقار:
ـ "رغيفان من الحواوشي.. وليكثر من الشطّة".

ابتعد السائق في الظلام على حين جلس د. هجرس يراقب الشارع.. حركة السيارات.. الكشّافات.. المارة.. الهاتف لا يكفّ عن التوهج.. لا بد أن الممرضة تعيش ألعن حالاتها الآن في العيادة وهي تواجه طوفان غضب المرضى.. إنه لم يتصل ولم يعتذر.. لا يملك سعة نفسية لذلك..

فقط هو يشعر بالحاجة إلى أن يجوب الشوارع الليلية.. يريد أن يأكل "حاجة حرشة" كما يقولون، لذا طلب من السائق أن يذهب به لهذا الحي، حيث يكمن في الظلام ويفكّر..

عندما عاد السائق بالرغيفين، وجد هجرس أنهما دسمان جدًا.. سوف يستحمّ في بركة من السمن لو أكل في السيارة، لذا اقترح أن يذهبا لمقهى قريب في الهواء الطلق..

هناك جلسا.. ناول السائق رغيفًا ثم ملأ فمه باللفت المخلل، وراح يلوك اللحم الدسم ويتذكر أيام النوبتجيات الأولى، عندما كان يذهب مع رفاقه من الأطباء الشباب إلى هذا المطعم في السيدة زينب أو ذاك.. كان يؤمن يقينًا بأنه سيتذكر تلك الأيام وهو ثري وهذا ما حدث فعلاً.. الكثير من الأكل.. الكثير من التدخين.. الكثير من النساء (نوعية أقلّ رقيًا بكثير).. هكذا كان شبابه..

في المستشفى لم تكن هناك مريضة في الفراش..
نعم.. هذا ما حدث عندما ذهب الأطباء المقيمون لينادوا عز الشباب عبد السميع.. وقد قالت المريضات حولها إنها قد تكون في دورة المياه، لكن البحث المدقق عنها برهن على أنها ليست في المستشفى أصلاً.. أين هي يا سادة؟ لا داعي للتفكير الكثير..
بالنسبة للأطباء الشباب هي قد هربت.. ربما عادت لبلدتها؛ لأنها سئمت المستشفى ويئست من العلاج...
وبّخهم ولامهم وهددهم بعقاب صارم...
لكنه يعرف ما هو أفضل..

لسبب ما يؤمن إيمانًا شديدًا بأنها الآن في قبرها.. لن يرسل أحدًا ليتحقق على كل حال.. إن الجزء العلمي من عقله يرفض القصة جملة وتفصيلاً، لكن الجزء البشري يقول: لمَ لا؟ في النهاية ينتصر الجزء العلمي.. هناك تفسير منطقي سوف يتضح قريبًا..

جاء الشاي الثقيل الذي يعتقد العامة أنه يذيب الدسم.. رشف رشفة قوية منه وهو غارق في همومه ومخاوفه الخاصة...

لن يذهب للعيادة باقي الليلة.. حالته النفسية مرهقة، والحقيقة أن هذا التوتر يمكن أن يؤذي مهنته فعلاً لو استمر..

أخرج منديله.. هنا لاحظ تلك اللطخة من أحمر الشفاه على طرفه، لطخة قديمة أبت وتمرّدت وأصرّت على ألا تزول بالغسيل.. تكرر هذا مرارًا من قبل لكن من حسن حظه أن زوجته لا تغسل بنفسها، ولكن من السذاجة أن نتوقع أن الأمر لم يصل لعلمها.. لا بد أنها تشكّ في أمره كثيرًا.. تكون ساذجة لو لم تفعل..

نظر لأرقام الهاتف.. شاهنده لم تتصل بعد...
*********

ثريا كانت تعرف الكثير عن زوجها..
الواقع أنها كانت تعرف أكثر من اللازم، وكانت قد راجعت أرقام الهاتف مرارًا وهو نائم، ولديها شبكة تجسس صغيرة في العيادة، وقد استطاعت فتح اللاب توب الخاص به، إنه يستعمل كلمة سر هي اسم حبيبة مدونة على الهاتف.. بعد فترة فقدت قدرتها على العد، وأدركت أنها لن تستطيع متابعة كل مغامراته.. هكذا لم تعد تراقب..

هي أصلاً باردة وعلى شيء من القسوة، لذا لم يُدْمِها هذا كما يجب أن يدمي سيدة أخرى.. فقط شعرت بإهانة، وتمنت لو تنتقم..

لكنها أدركت أنها ستواصل الحياة معه.. لن ترحل.. لن تتخلى عن مكانتها الاجتماعية وكل هذا الثراء.. فقط تم نوع من الطلاق النفسي بينهما فلم يعودا يتكلمان أكثر من 170 كلمة كل شهر.. يسافران معًا ويذهبان للمؤتمرات ويؤديان العمرة على سبيل الوجاهة الاجتماعية.. لكنهما لا يتكلمان ولا يتلامسان.

لقد تعلمت كذلك أن تمضي وقتها بألف طريقة ممكنة، وبعض هذه الطرق كان خطرًا..
كانت تفكر في هذا وهي تقود سيارتها على الطريق الدائري عائدة للبيت..

السيدة النحيلة التي اقتحمت البيت أمس وأثارت ذعرها.. من هي؟ من أين جاءت؟ ولماذا لم يردّ هجرس على مكالماتها؟ لم يظهر طيلة اليوم ولم يردّ.. أين هو؟ ولماذا لم يذهب للعيادة؟ شيء يثير الجنون..
و....

طاخ!
اضغطي الفرامل يا مجنونة!!!
إيي ي ي ي ي ي ي ي ي ي ي ي ي ي ي!
سوف تنقلب.. تمسكي بعجلة القيادة.. لا تفقدي تماسكك..

لقد صدمت شابًا.. صدمت شابًا يقف أمام السيارة في منتصف الطريق.. صدمت شابًا وهي مندفعة بسرعة 120 كلم.. لا بد أنه تهشّم تمامًا.

توقفت السيارة أخيرًا.. سحابة غبار كثيفة تتصاعد حول العجلات.. نزلت منها على ساقين من عجين وركضت نحو مكان الحادث..

هناك كان الشاب الذي تلقى ضربة عنيفة..
كان هناك في الظلام تراه على ضوء مصابيح الطريق.
هنا أدركت أنه حي..

رأته ينهض... لقد التوى عنقه ويبدو أن ساقيه تهشمتا لكنه ينهض.. الوغد! ينظر لها بوجه نحيل ضامر وعينين غائرتين، ثم يقف كأنه دمية من قماش.. رخوة.. متيبسة نوعًا.

إنه يمشي خطوة ثم يسقط أرضًا.. يزحف كدودة نحوها..
لا.. هي لا تريد..

كانت قد اتخذت قرارها وركبت السيارة.. الجبناء يتخلّون عن ضحايا الحوادث التي سببوها.. هذا ما يسمى بـ"اضرب واهرب Hit and run".. لكن الوضع هنا استثنائي..

هكذا ركبت سيارتها وانطلقت تحرق الأسفلت حرقًا..

يُتبَع

عهد Amsdsei 28-04-12 03:51 PM

د. أحمد خالد توفيق يكتب.. المريض التالي (6)

http://www.liilas.com/up/uploads/liilas_13356208952.jpg
قرأ خبر وفاة شاهندة في الجريدة

وفاة مهندسة اتصالات في ظروف غامضة
رأى العنوان في الجريدة ثم توقف عند متن الخبر.. اسمها بالطبع شاهنده منصور محمد.. كما توقع.. لا يعتقد أنها جُنّت وقررت أن تقطع علاقتها به بلا سبب.. السبب المنطقي هو أنها ماتت.. علامات رعب واضحة.. سقوط في المنحدر..

ابتلع ريقه، ولو كان رجلاً أكثر رقة لارتجف أو شعر برهبة، لكنه كان أكثر تمرسًا وبرودًا من هذا.. ما أقلقه فعلاً هو تأثير هذا الخبر على سمعته.. لا يريد أن يزج باسمه في هذه القصة.. وهذا لن يحدث على كل حال لكن.. من يدري أن الحمقاء لا تحتفظ بمذكرات أو صور تفضح كل شيء؟

هذا ما ضايقه فعلاً.. أما ما ضايقه كذلك فهو السؤال: كيف حدث هذا؟
كل شيء يدل على أن هذا حدث في الليلة التي تناول فيها العشاء معها، عندما جلسا في المطعم وأوصلها للمرآب.. ما حدث حدث بعد ذلك.. يحلو له أن يعتقد أنه حادث، لكن أي حادث يلقي بفتاة من فوق سياج في منحدر وهي وحدها ولا تركب سيارة؟ طبعًا هناك من فعل هذا..

هو آخر من كان معها.. هذه حقيقة.. لكن هل هو آخر من شوهد معها؟ هل رآهما أحد؟ لو حدث هذا فالأمر لا يتعلق بسمعته فقط بل بحريته وحياته أيضًا.. من يُشاهَد آخر مرة مع قتيل هو الفاعل غالبًا..
من فعل هذا؟ لماذا؟

حادث؟ الأمر أعقد من هذا والصدف ليست بهذه الكثرة...
فتح الدرج وأخرج قنينة صغيرة من الشراب.. تلك التي ابتاعها من سويسرا ولم يرد أن يستعملها إلا في ظروف حالكة جدًا، ويبدو أنه بحاجة لجرعة الآن.. شرب جرعة ثم أغلقها، وضغط الجرس لتأتي الممرضة..

دخلت الغرفة فقال لها وهو يغلق الدرج:
ـ "المريض التالي"

لم تكن على ما يرام.. كانت شاحبة ترتجف.. قالت وهي تغلق الباب بإحكام:
ـ "دكتور.. المرضى ليسوا على ما يرام هذه الليلة"
نظر لها في حيرة.. لماذا لم يندهش جدًا؟
ـ "ماذا تعنين؟"

تفلتْ في فتحة قميصها، ثم قالت وهي تدس القلم في جيبها:
ـ "شاحبون.. ساهمون.. صامتون.. لهم قسمات كالحة.. العيادة مليئة بهم.. لا يوجد شخص واحد منظره طبيعي"
قال لها لائمًا:
ـ "دعك من هذا الهراء.. عندما أدق الجرس أدخلي المريض الأول"

خرجت من الغرفة، هنا أدار المقعد ليواجه الشاشة الصغيرة التي يضعها عن يساره في مستوى أقل من مستوى المكتب.. الكاميرات الثلاث تمسح أرجاء العيادة من موضع مرتفع ويمكنه أن يلقي نظرة عاجلة هناك..
كانت النظرة الأولى كافية ليرتجف..

الممرضة لم تكن تملك قدرة على الوصف ولا فراسة برغم أنها حاصلة على درجة في الآداب.. لطالما ضايقه هذا.. تقول إنهم شاحبون ساهمون صامتون.. هذا تعبير ركيك هش.. هؤلاء موتى.. موتى أحياء بلا زيادة أو نقصان ، والأسوأ أنه لا يجد أي تفسير...

بحث بالكاميرا عن الممرضة فلم يجدها.. لقد فرّت على الأرجح..
أخرج منديلاً ورقيًا وجفف العرق على جبينه.. يمكن باختصار القول إنه هنا في غرفة الكشف بينما تعج العيادة بالأشباح أو الموتى الأحياء. لا يفصله عنهم سوى هذا الباب..

لا يريد أن يخرج ويعرف ما هنالك.. لا يريد أن ينادي المريض التالي.. لا يريد تفسيرات.. يريد الخروج من هنا بأي ثمن..
نزع المعطف وارتدى سترته الأنيقة، ثم نهض...

كان يعرف وجهته الآن.. ما لا يعرفه هؤلاء هو أن لغرفة الكشف بابًا آخر.. بابًا يقع على السلم وهو مغلق دائمًا؛ لأنه يفضّل استعمال المصعد طبعًا.. لكن وقت التدريبات الرياضية قد حان..

بحذر فتح الباب ثم تسلل للخارج حيث كان السلم الرطب المتسخ.. لا أحد يستعمله بتاتًا..
أغلق الباب وهبط في الدرج بسرعة وخفة..
وعندما وجد نفسه في الشارع تنفس الصعداء..
***********
http://www.liilas.com/up/uploads/liilas_13356208953.jpg

ثريا كانت عند موكابوكو الساحر السنغالي
ثريا كانت عند موكابوكو..
نفس المعالم التي عرفتها عشرات المرات.. الشقة المستأجرة الواسعة في تلك البناية بشارع البطل أحمد عبد العزيز.. جلود النمور على الجدران.. صوت الطبول ينبعث من مشغل أقراص حديث.. البخور في كل مكان... كل هذا جعلها تؤمن بأنه ألعن نصاب عرفته..

لكن صديقاتها جرّبنه مرارًا وقلن إن سره باتع..
مصر تعج بهؤلاء السحرة الماليين والسنغاليين والغانيين على كل حال، ولهم تأثير قوي وسحر خاص.. تقول صديقتها نانسي إن هؤلاء هم مصدر سحر الفودوو والعقيدة الودونية التي حملوها معهم إلى أمريكا، صديقة عاد لها زوجها، وصديقة عرفت أين سرق عقدها الماسي... إلخ.

إن موكابوكو البدين الأسود ذا اللحية الشائبة هو الأفضل..
اليوم تجلس أمام موكابوكو، وتقول له إن اللعبة أفلتت..
ـ "لقد طلبت منك الانتقام وأن تملأ حياته بالذعر.. طلبت أن تطارده أشباح المرضى الذين تسبب في قتلهم بإهماله وقسوته.. لكن هذه الأشباح صارت في كل مكان.. صارت تطاردني أنا نفسي.. تأتي للبيت وتلاحق سيارتي.. أنا لم أطلب منك الانتقام مني أنا!!!"

قال بلكنته العربية الثقيلة التي تجاهد كي لا تخرج سواحلية:
ـ "يعني أنت تريدين وقف اللعنة التي ألقيتها على زوجك؟"
ـ "حان وقت ذلك"

فكر حينًا وألقى ببعض البخور في النار ليؤججها، ثم قال:
ـ "عندما طلبت معونتي طلبت منك عدة أشياء من زوجك.. متعلقات منه.. ثم أعطيتك تلك اللفافة.. اللفافة فيها دمية قماشية صغيرة، لا أستطيع رفع اللعنة من دون أن تجلبي لي هذه الدمية"

ثم اتسعت ضحكته والتمعت أسنانه:
ـ "بالطبع سوف أحتاج إلى أجر لرفع اللعنة كما احتجت إلى أجر لجلبها"
ـ "لك هذا"

وأخرجت دفتر الشيكات والقلم، وبيد مرتجفة كتبت له المبلغ... لكنه رفع كفه ليمنعها:
ـ "هذه المرة نقدًا.."
نظرت له في غلّ.. ثم مدت يدها في حقيبتها وأخرجت بعض الدولارات..
ـ "هذا مقدم.. لا أحمل مالاً معي.. والآن؟"
ـ "أريد الدمية.."

الدمية في حشية الفراش وقد خاطت المرتبة بعناية لتختفي وسط الحشو.. سيكون عليها أن تقوم بجراحة مشابهة...
ـ "سوف أجلبها لك غدًا مع بقية المبلغ.."
ثم تذكرت ما تمر به والهول الذي صار عند كل زاوية، فقالت:
ـ "لا.. سأحضرها لك اليوم"

اتجهت إلى الخارج وضغطت زر المصعد.. رائحة البخور الخانقة هذه...
أخيرًا توقف المصعد.. لحظة وانفتح الباب..
وللحظة وجدت أنها تحدق في عيني هجرس زوجها...
يُتبَع

عهد Amsdsei 19-05-12 11:19 AM

د. أحمد خالد توفيق يكتب.. المريض التالي (الأخيرة)

http://www.liilas.com/up/uploads/liilas_13374191101.jpg
قال لها هجرس وهو يملأ كأسها: هل تريدين الرقص؟ (رسوم: فواز)


الفرقة تعزف لحن تانجو رقيقًا هو (لا كومبارسيتا).. والإضاءة تتغير. فجأة يغمر المكان لون أزرق غامض كأنه بريق أقمار (بلغوريا).. ما هي أقمار (بلغوريا)؟ لا أعرف لكن لابد أنها ساحرة كهذا الضوء..

قال لها هجرس وهو يملأ كأسها:
ـ"هل تريدين الرقص؟"

كانت تشعر بخوف لا شك فيه مع حرج بالغ لأن ثيابها غير مناسبة للسهرة في مكان كهذا.. عندما يكون هجرس لطيفًا معها فهو مرعب. أفضل طريقة للتعامل معه هي عندما يكون غير مبال. كان الآن رقيقًا ويبدو رائق المزاج فعلاً..
هزت رأسها أن لا..
قال بصوت ناعم:

ـ "هل تذكرين أيام زواجنا الأولى؟ كنا نقصد أماكن كهذه ونمضي فيها ساعات وساعات"
قالت وهي ترشف من كأسها:
ـ "كان هناك طبيب شاب اسمه هجرس.. وكان يحبني"

ابتسم تلك الابتسامة الفاتنة التي تنم عن وقار وتنم عن خبث وتنم عن فهم للكون، وقال:
ـ "كنت أتمنى أن أقول إنني ما زلت ذلك الطبيب، لكن أشياء كثيرة تغيرت.. ولنقل بصراحة إنني لا أحمل لك أي مودة.. لكن هذا لا يعني الحرب.. لا أتمنى أن يتهشم عنقك"
ثم حكى لها قصته..
لقد ظل اسم (موكابوكو) في ذهنه لفترة طويلة.. كان يعرف أنه ساحر تولع به البلهاوات من نساء الطبقة الأرستقراطية وهو حبيب الممثلات وموضة العصر.. نوع من الروشنة أن يكون لكل سيدة ساحر أفريقي..

اسم موكابوكو تكرر على الشيكات ولدى المصرف في حسابهما المشترك. لكن د. هجرس لم يهتم بالأمر.. فلتعبث كما تريد.
ـ "من حق المرأة أن تتسلى كما تريد إذا كان زوجها يعاملها كديكور في البيت"

لكن فجأة بدأت الأمور تتغير وبدأ يشعر بقلق بالغ.. هو متأكد من أن أشباح ضحاياه –أو ضحاياه أنفسهم– يلاحقونه. هناك دائرة تنغلق حوله ببطء.. هناك شيء قد تغير..

في البيت تفحص ما تحتفظ به ثريا في غرفتها.. وجد صورًا له.. وجد شعرًا أشيب لا يمكن إلا أن يكون منه.. وجد مناديل قديمة تخلص منها..
زوجته تمارس السحر.. لكن كيف؟

ثم ربط بين هذا واسم موكابوكو. ماذا يمارسه الساحر الإفريقي بالضبط؟
ذهب إلى موكابوكو مساء وقدم له نفسه، ثم قدم عرضه.. سيجزل له العطاء ويقدم له مبلغًا ضخمًا، لو أخبره بما تقوم به ثريا.. لو لم يتكلم فلسوف يجد هجرس نفسه آسفًا مضطرًا للاتصال بمكافحة الدجل ووزارة الخارجية وسفارة غانا.. سوف يدمر الرجل تمامًا ..

هكذا تكلم موكابوكو.. تكلم كثيرًا جدًا.. وعندما قابلها منذ ساعتين على باب الساحر الإفريقي كان هذا لأنه أخبره أنها ستأتي له اليوم..
ثريا هي التي بدأت هذه اللعنة وهي التي تستطيع أن تنهيها..

كان ينظر لها بعينين لائمتين فيهما رقة وحنان، حتى أنها شعرت أنه مجنون..
أخرج بطاقة الائتمان ليدفع.. وقال وهو يزيح المقعد لها:
ـ "الآن نعود للبيت"

قالت:
ـ "يجب أن تثق بي.. مرة أخيرة على الأقل.. يجب أن أعود لموكابوكو"
ـ "سوف نعود للبيت ثم نفكر"

وهكذا وجدت نفسها تجلس جواره في السيارة صامتة..
لقد آذاها كثيرًا.. ولهذا خطر لها كم من الممتع أن تتركه يتعذب وسط ضحاياه.. كل من ماتوا وتعذبوا بسببه.. كان انتقامًا جميلاً قاسيًا يناسب طبيعتها..
لكنها الآن لا تعرف ما تقول ولا ما تفعل..
السيارة تنهب الطريق نحو الدار نهبًا..

توقف بالسيارة في بقعة تطل على النيل الذي يغفو في الظلام. هبط من السيارة ومشى في تؤدة نحو حاجز الكوبري وأشعل سيجارة.. ثم ناداها:
ـ"تعالي يا ثريا "
هبطت من السيارة مترددة.. كل هذا البرد والظلام والوحشة..

وقفت جواره تطل على النيل وتشم رائحة الدخان، فقال:
ـ"أنت تعرفين بعد هذا الاكتشاف أن حياتنا صارت مستحيلة.. لكن الطلاق سوف يمتص دمي امتصاصًا.. ثم هو لن يتيح لي الانتقام. تصوري أنك رجل وأنك عرفت أن زوجتك تمارس السحر الأسود ضدك"

قالت في تحد:
ـ "تصور أنك زوجة وزوجك على علاقة بكل فتاة على وجه الأرض.."
ثم أضافت وهي ترتجف:
ـ"هناك تلك الدميـ.. التي.."

لم تكمل العبارة لأنه كان قد انحنى على الأرض وأمسك بعقبيها معًا، ثم رفعها بقوة مذهلة ليضعها على الحاجز.. لم تفهم.. غرست أظفارها في صدر قميصه وحاولت أن تتشبث بربطة العنق، لكنه كان قد وضعها على الحاجز كأنه يجلس طفلاً.. ثم دفعها بقوة عضلية مذهلة لتسقط في النيل.. لم تصرخ ولم تجد الوقت لتفهم..

أصلح من سترته وربطة عنقه..الغريب ان لفافة التبغ كانت ما زالت في فمه فسحب منها نفسًا أخيرًا ثم طوح بها بدورها..
وعاد للسيارة وقد أدرك أن أحدًا لم يره..

*************

http://www.liilas.com/up/uploads/liilas_13374191102.jpg
كانت ثريا منتفخة الوجه (رسوم: فواز)


جلس في العيادة في اليوم التالي شارد الذهن..
سوف يمر بعض الوقت قبل أن يدرك الناس أن ثريا اختفت.. سوف تكون هناك أسئلة بالتأكيد، لكن عليه أن يتمالك أعصابه.. لا توجد جثة طبقًا لقاعدة (هابيوس كوربوس) إذن لا جريمة.

موكابوكو النصاب لن يتكلم.. السحرة الأفارقة الذين يمارسون السحر الأسود ويبتزون النساء الثريات، لا يبلغون الشرطة عند اختفاء عميلة..
سوف تختفي ثريا وسوف يكون هناك لغز حقيقي.. لكن الجثة لن تظهر ولو ظهرت سيقال إنه انتحار.. زوجها كان يعاملها معاملة سيئة.. لا بأس..

استجمع أعصابه ودق الجرس..
على الباب ظهرت الممرضة المبهوتة كالعادة فقال لها:
ـ "المريض التالي!"
لم تتكلم.. تراجعت..

وبعد لحظات انفتح الباب..
رأى وجهين لم يميزهما أولاً ثم عرف الحقيقة..
ثريا.. ثريا وشاهنده!

كانت ثريا منتفخة الوجه وقد بدت بالضبط كيدك لو أنك قمت بغسل الصحون في مطبخ دارك.. الجلد يوشك على أن يتسلخ.. الشعر منكوش ومتلاصق الخصلات. أما شاهنده فكانت مذعورة.. ورقبتها في وضع غير مريح بتاتا..

ماذا كانت ثريا تحاول قوله؟
قالت له:
ـ"هناك تلك الدميـ.. التي.."

ثم قتلها..
يمكن القول إذن أن القصة تتعلق بدمية.. والدمية لم يتم التخلص منها وهو لا يعرف أين أخفتها ثريا. إذن اللعنة موجودة وقائمة للأبد، وحسب اللعنة سوف يحاصره ضحاياه.. لقد كانت شاهنده من ضحاياه بالتأكيد والآن صارت ثريا مثلها..

كان د. هجرس – كما قلنا - عمليًا سريع التفكير لا يندهش أبدًا..وهكذا كان قد كون في ثوان تقييمه للموقف..

نهض من مقعده.. تراجع للخلف.. ثم أصلح من ربطة عنقه.. نزع المعطف وألقاه على المشجب، وارتدى سترته..

كانت المريضتان تتقدمان نحوه في ثبات..
في ثبات مماثل اندفع نحو النافذة العريضة التي تحتل جدارًا كاملاً، وتظهر بانوراما لشارع البطل أحمد عبد العزيز، وهشمها بكتفه..كرااااااش!
وبعد لحظة كان يهوي نحو الشارع العريض.
تمت

fo2eta 25-09-12 04:37 PM

جامده جدااااااااااااااااااااااااااا شكرا:55:


الساعة الآن 06:46 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية