منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات أونلاين و مقالات الكتاب (https://www.liilas.com/vb3/f743/)
-   -   (قصص) مجموعة قصصية للدكتور أحمد خالد توفيق (https://www.liilas.com/vb3/t174114.html)

عهد Amsdsei 17-03-12 07:18 PM

مجموعة قصصية للدكتور أحمد خالد توفيق
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركااته

الآن راح أقدم مجموعة قصصية للدكتور أحمد خالد توفيق

بدل ما نخلي لكل قصة موضوع راح أعملها بموضوع واحد :52_asmilies-com:

أرجوا أن تستمتعوا بها


:8_4_134:

عهد Amsdsei 17-03-12 07:20 PM

1 - قصة الصفقـــــــــــــــــــــة

************************

الصفقــة
(1)

الرجل كان يُدعى (أبو هيبة).. اسم مُوحٍ فعلاً..

قال له (مصطفى) إنه سيجده جالسًا هناك في ذلك المقهى في الحادية عشرة
ليلاً، وهو يفضل مقعدًا هناك في الخلاء بين أغصان الأشجار.. يلتهم طبقًا من الحساء ولحم الرأس والفتّ.. في كل ليلة يأكل ذات الوجبة مؤكدًا أنه (يشقى).. يقولها في نوع من الرثاء للنفس.. بعد هذا سيشرب الشاي الكشري ثم تأتي التعميرة.. هذا هو الوقت المناسب للكلام..
كان (ممدوح) من الطراز العصبي الواهن المتوتر للأبد، لذا لم يستطع بدء المحادثة فورًا.. كانت ساقه ترتجف بلا توقف، وجف ريقه، كما أن قلبه لم يعد يدق ثلاث ضربات متماثلة.. هكذا اضطر إلى أن يجلس إلى أقرب مقعد مصنوع من الخوص المجدول.. وقبل أن يفهم كان القهوجي غير المبالي قد وضع أمامه كوبًا من الماء اتسخ بالشحوم ووقف ينتظر طلبه دون أن ينظر له..
ـ "هل.. هل لديكم عصير ليمون؟"
لم يقل القهوجي نعم أو لا بل انصرف على الفور، وظل (ممدوح) ينظر في ثبات إلى ظهر يده التي ترتجف.. كأنه لو رفع عينيه لعرف الجميع ما يريد...
ببطء شديد راح يتلمس طريقًا لنظراته.. أخيرًا سقطت عيناه على (أبو هيبة).. كان يلتهم طعامه في استمتاع وثبات.. رجل يعرف حقوقه كاملة ويحصل على أكثر منها بكثير. تأمل كيف يلقي بأصابع الممبار في فمه غليظ الشفتين، وكيف يمضغ بثبات وتؤدة.. الرجل الذي يتناول كل ليلة عشاء من لحم الرأس ليس رجلاً سهلاً....
يرفع بين أنامله قطعة من اللحم ويلقيها للقطط التعسة المتزاحمة حوله، لكن لا يظهر على وجهه أي تعبير. من السهل أن تصدق أن هذا الرجل قتل عشرين ولم يُقبَض عليه.. عشرين كائنًا حيًا لهم أحلام وآمال وماض وشهوات وأسرار... أزالهم من على وجه الأرض، وبرغم هذا هو قادر على أن يستمتع بعشائه ويطعم القطط..
كلما نظر له شعر بأنه أمام لغز حقيقي.. ربما قوة تتجاوز فهم البشر..



جاء الليمون الرديء جدًا فشربه مرة واحدة كأنه يشرب دواء ملينًا ثم نهض مترنحًا نحو مائدة (أبو هيبة).. غمغم:

ـ"سلامو عليكو"
ولم ينتظر دعوة بل جلس دون أن يرفع عينيه عن الأرض..
(أبو هيبة) يمسك بماسورة ويدقها دقًا على حافة الطبق ليسيل منها النخاع. يالأعصابه!.. يمضغ بلا توقف وهو يدرس جليسه بعينين حادتين..
لم يكن (أبو هيبة) يبدو كرجل العصابات أو مطاريد الصعيد لو خطر لك هذا.. كان مجرد رجل قوي البنيان يلبس بذلة صيفية ذات كُمَّين غامقة اللون، كالتي دأب المسئولون عندنا على ارتدائها منذ عقدين مضيا.. رجل خشن لكن لا يوحي بأنه قاتل. فقط يضع على رأسه طاقية بيضاء صغيرة وله شارب رفيع على حافة شفته العليا.. الغريب أنه كان حليق الذقن بدقة شديدة..
قال (ممدوح) وقد شعر بأن غموضه طال:
ـ "جئت من طرف (إبراهيم الأبيض).. يقول لك إن دور الطاولة بينكما لم ينتهِ بعد"
بدا نوع من الفهم في العينين، ثم واصل الرجل عملية المضغ. هذا الرجل لن يتكلم.. سوف يصغي بلا توقف.. لقد اعتاد هذا.. لو لم يرق له الكلام فلسوف يطرده شر طردة أو يضربه لو أصر على موقفه.
قطعة لحم أخرى لكلب ضال أجرب يبصبص بذيله، ثم تجشأ الرجل وأزاح الطبق جانبًا.. وكأنما يرى بقفاه أو يتحرك بعصا ساحر، جاء القهوجي ليضع أمامه طستًا نحاسيًا صغيرًا به ماء وقطعة صابون.. ثم وضع كوبًا من الشاي الكشري على المنضدة المجاورة وبدأ في رفع الأطباق.. وبيد واثقة مسح المنضدة ووضع عليها كوب الشاي... في ثوان لم يعد هناك أي أثر لعملية الافتراس السابقة. وخلال ثوان كان مبسم الشيشة بين شفتي (أبو هيبة) الغليظتين..
بدا الرضا على (أبو هيبة).. كأنه أنجز عملاً ستتقدم به البشرية، ونفث سحابة كثيفة من الدخان وراح يرمق (ممدوح) في حدة متسائلاً..



قال (ممدوح):

ـ "قال لي (إبراهيم) إنك يمكن أن تقدم لي هذه الخدمة.. قال إنك بمثابة أخيه.. لكنه طلب مني أن أعطيك قائمة بالأماكن التي يتواجد فيها الزبون.. تريد صورته كذلك..."
ومد يده وأخرج ورقة مطوية وناولها للرجل الذي فتحها بيد واحدة وراح يقرأ بعينيه فقط:
ـ"شركة (الصفا) للتجارة.. باب اللوق.. من 9 إلى 3 بعد الظهر.. المنزل في....... من السادسة مساء يعمل في حسابات سوبر ماركت........."
قال (ممدوح):
ـ "لم نتفق على السعر.."
للمرة الأولى تكلم (أبو هيبة)، وكان صوته هادئًا ككل شيء فيه كأنه كان يتدرب عليه منذ أعوام:
ـ "خمسة.."
ـ "خمسة آلاف؟.. لكنه قال لي...."
ـ "خمسة آلاف..... وما اسمه؟.. أين صورته؟"
قال (ممدوح) وهو يبتلع ريقه:
ـ"اسمه (ممدوح أحمد)... لا داعي لأن أجلب لك صورته.. فأنا هو!"

عهد Amsdsei 17-03-12 07:20 PM

الصفقــة
(2)

في نصف الساعة التالي حكى (ممدوح) للرجل الرهيب قصته.. طبعًا استنشق الكثير جدًا من دخان الشيشة وسعل مرارًا وهو يحكي.. لكن (أبو هيبة) ظل يصغي وهو لا يبعد عينيه تقريبًا ولم يتكلم إلا بضع جمل مقتضبة..

القصة معروفة على كل حال.. (ممدوح أحمد) يملك شركة أعمال صغيرة جدًا، وله أسرة جميلة صغيرة مكونة من زوجة محبة وطفلة.. الحياة هادئة منتظمة والربح قليل لكنه ثابت، وهنا جاءه من يُحدِثُه عن البورصة.. الحلم الواعد الوحشي.. هناك كثيرون نجحوا.. هناك من حققوا الملايين في أسابيع.. هكذا ابتاع حافظة وعرف طريق شركات السمسرة، وبالطبع باع كل ما يملك وسحب كل مدخراته.. في النهاية هوت الأسهم إلى الحضيض.. إن من لم تؤذه البورصة في مصر مؤخرًا محظوظ بشكل غير عادي أو هو (تايكون Tycoon ) متوحش الثراء...

البورصة لم تؤذ (أبو هيبة) لأنه لا يثق بهذه الأمور.. لا يثق بالمصارف أصلاً.. لهذا لم يفهم معظم ما قيل.. فقط فهم أن (ممدوح) لم يعد يملك من العالم سوى خمسة آلاف جنيه..
قال (ممدوح) دامع العينين:
ـ "هكذا رحت أرمق أسرتي الهانئة الغافلة وأنا أرتجف رعبًا على مستقبلهم.."
نفث (أبو هيبة) سحابة دخان وقال:
ـ "هناك من قتلوا أسرتهم بسبب البورصة.. ألا تقرأ الحوادث؟"
قال (ممدوح) وهو يتحسس شعره الناحل:
ـ "أنا سأفعل العكس.. سأقتل نفسي.."
ـ "تنتحر ؟"
ـ "ليس بالضبط.."

القصة -كما لابد أنك استنتجت- هي أن (ممدوح) قام بعمل وثيقة تأمين لنفسه. في حالة وفاته ستنال زوجته مبلغًا ممتازًا يحميها من الغد.. طبعًا لو قتل هو نفسه فلن تنال مليمًا.. هناك الانتحار الذي يبدو كأنه حادث، مثل سقوطه في النيل أو من فوق بناية، لكن شركات التأمين تشم هذه الألاعيب من بعيد.. لن يصعب على الشركة أن تعرف أنه كان يمر بضائقة مالية وأنه ابتاع بوليصة التأمين وهو مفلس تمامًا.. هكذا يموت هو وتضيع أسرته..

الآن بدأ (أبو هيبة) يفهم..
ـ "تريد أن أقتلك ويبدو الأمر كأننا لم نتفق على ذلك.."
ابتسم (ممدوح) وجفف العرق على جبهته وقال:
ـ "مهمة سهلة كما ترى.. سوف تعرف كل أماكن وجودي.. سوف أتيح لك أسهل الظروف الممكنة.. سأمشي وحدي في حي مقفر مهجور.. سأتركك تجرب مرة ومرتين. فقط يجب أن يبدو الأمر كسطو مسلح.. يجب أن يقتنع رجال الشرطة بهذا.."

نظر (أبو هيبة) حوله في حذر، ثم طلب من (ممدوح) أن يرافقه خلف الأشجار..
هتف (ممدوح) في ذعر:
ـ "هل ستفعل هذا الآن؟.. لست مستعدًا بعد"
ـ "أفعل ماذا يا أستاذ ؟.. عم تتكلم؟.. تعال معي.."

وهكذا غادر الرجلان المقهى إلى منطقة خالية وراءه تناثرت بها الأشجار، وهناك طلب (أبو هيبة) من (ممدوح) أن ينزع ثيابه كلها فيقف بالثياب الداخلية فقط.. أطاعه (ممدوح) المذعور، بينما (أبو هيبة) يفتش الثياب بدقة غريبة، ثم تفقد حذاء (ممدوح) ورفع الفانلة الداخلية ليتفحص بطنه..
هنا أدرك (ممدوح) الأمر.. الرجل حذر ويخشى أن يكون هذا العرض المريب كمينًا.. ربما تنقل المحادثة بالكامل عبر جهاز تنصت إلى الشرطة.. سوف يسجلون قبوله للصفقة، ثم يصورونه قبل التنفيذ ويعتقلونه في اللحظة المناسبة..

أشار لـ (ممدوح) كي يرتدي ثيابه من جديد، وأمره أن يمشي معه بين الأشجار. هذه هي الطريقة المثلى للتأكد من عدم وجود أجهزة تنصت.. تكلم وأنت تمشي..

أشار لـ (ممدوح) كي يواصل الكلام، فقال هذا:
ـ "يمكنك البدء بعد ثلاثة أيام.. الآن سوف أعطيك نصف المبلغ.."
ـ "وماذا يجبرني على تنفيذ الباقي؟.. قد يكفيني هذا.."
ـ "أنت الخسران.. متى قتلتني سوف تجد في جيب القميص باقي المبلغ ومعه جزيل الشكر"
ثم عاد (ممدوح) يشرح شروط الصفقة:
ـ "أرجو ألا تجعلني أعرف ما أنت موشك على عمله.. حاول أن تكون ضربتك مفاجئة.. لا عنف من فضلك.."
ابتسامة ساخرة تلاعبت على شفتي (أبو هيبة) وقال:
ـ "هل بعد القتل عنف؟"
ـ "نعم.. أنت تعرف هذا خيرًا مني.. قطع الحلقوم وبقر البطن مثلاً.. لا توسعني ضربًا حتى الموت.. لا تعذيب من فضلك.. الأسلحة النارية مفضلة دائمًا.. وطبعًا لا أريد أن تتركني كفيفًا أو مصابًا بشلل رباعي.."
ـ "تريد قتلاً خمسة نجوم.."
ـ "بالضبط.. هذا ما أريد.. موعدنا بعد ثلاثة أيام.. سوف أعود من عملي ليلاً في ساعة متأخرة وسوف أضطر للمشي في منطقة مهجورة.. لِنَقُل العاشرة مساء الثلاثاء.. هذا مناسب جدًا"
وقبل أن يفهم السفاح ما حدث، كان (ممدوح) قد دس حفنة من الأوراق المالية في يده وتوارى مبتعدًا بين الأشجار...

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:21 PM

الصفقــة
(3)

عاد (ممدوح) إلى داره في ساعة متأخرة من الليل راضيًا عن نفسه..

ها هي ذي (هناء) غافية في غرفة النوم وقد دست الصغيرة (مي) يدها الرطيبة في كفها، وفي يدها الأخرى دبدوبها الصغير..

فلتناما في سلام.. هما لم ترتكبا أية حماقة ولا خطأ.. هما لم تجازفا بمال الأسرة في البورصة ولا تعرفان أي شيء عن الخطر المحيط بهما..

هو يعرف.. وهو سوف يسدد فاتورة أخطائه بالكامل. هكذا نزع ثيابه وارتدى المنامة وجلس في الصالة يفكر في لقائه الرهيب بذلك الرجل الصموت الغامض (أبو هيبة)..


من أين يأتي هؤلاء؟.. متى ولدوا؟.. ما الظروف التي جعلتهم يتحولون إلى قتلة؟ هل لأبي هيبة هذا أسرة؟.. هل له أطفال؟.. هل كان هو نفسه طفلاً يغفو في حضن أمه؟... مستحيل. بالتأكيد يأتي هؤلاء من أعماق بركان أو من غياهب كهف.. وهم لا ينامون أبدًا ويقتاتون بالدماء..
ـ "هل عدت يا (ممدوح )؟"
صوت زوجته الناعس اللطيف.. تنهض وتفرك شعرها ثم تضع الملاءة على كتفي الصغيرة.. ملاءة هفهافة رقيقة تغريك بالنوم..
ـ "لقد أعددت لك العشاء..صبرًا.. سوف أسخنه لك.."
حاول إقناعها بمواصلة النوم لكنها مصرة.. تنهض وتعد له المائدة.. طعام بسيط لذيذ.. علبة من السردين مع رغيفين من الخبز قامت بتدفئتهما في الموقد. كوب من الشاي بالنعناع..
تقول له:

ـ "كف عن الشقاء والتعب.. كف عن تعذيب نفسك.. كما ترى نحن ننعم بحياة طيبة.. لقد تناولنا على الغداء بعض الكشري وكان شهيًا بحق.. الحياة لا تستحق كل هذا التعقيد.."
التهم الطعام شاعرًا بأنه قطعة من الحجر..
كفي عن أن تكوني لطيفة من فضلك.. كفي عن الرقة فأنت تجعلين الأمر أصعب.. الليلة أنهيت إجراءات تحويلك من زوجة راضية إلى أرملة ثرية فلا تخذليني. أرجوك لا تفعلي..

ثم ماذا تعرفين أنت عن الحياة؟.. عن الفقر؟.. لا تعرفين أي شيء على الإطلاق.. مجرد طفلة ساذجة اعتادت أن تجد ما تريد أمامها فلم تعد ترى للمال نفعًا.. أنا اخترت القرار الصحيح.. أعرف أنه القرار الصحيح..

لكن الأمور تزداد تعقيدًا.. الطفلة قد استيقظت.. إنها تضحك في الفراش وحدها.. تنهض الزوجة وتدعوه كي يغسل يده ويلحق بها ليداعبا الصغيرة قليلاً..
قال لنفسه:

ـ "لقد اتخذت القرار الصحيح.. نعم.. لن تنجح هذه الحيل التافهة في تغيير قراري "
وأغمض عينيه ونام راضيًا..

في الصباح جاء النبأ عبر الهاتف.. جاء ليعلن مصيبة حقيقية..

السمسار يبشره أن الأسهم بدأت ترتفع في البورصة.. لو استمر الحال على هذا المنوال فلسوف تستعيد قيمتها خلال أيام:
ـ "لقد نصحتك بألا تبيع والأسهم في الحضيض.. هذا هو الوقت المناسب للانتظار.. لقد تبين أنني على حق"
وضع (ممدوح) السماعة غير مصدق.. هذا ضد كل التوقعات التي قالت إن تلك الأسهم لن تقوم لها قائمة..

جاءت الطفلة تزحف واحتضنت قدمه في رفق، فمد يده يحملها ووضعها على ركبته.. من سمح له بأن يحرمها من أبيها؟ ثم استدرك وعاد إلى صوابه.. ما حدث أمس هو القرار الوحيد السليم..

هنا حدث شيء غريب.. لقد نهضت الطفلة على قدمين واهنتين متخاذلتين ومشت بضع خطوات قبل أن تسقط..

(مي) قد مشت اليوم.. اليوم بالذات!
إلا أن الأقدار واصلت سخريتها منه..
عند العصر جاءه هاتف من شريكه السابق، يخبره أن المستورد الروسي يطلب شحنة أخرى من البصل الممتاز الذي قاما بتصديره. هذا يعني.... قام بعمل بضعة حسابات على الآلة الحاسبة وأدرك أن الأمور تتحسن فعلاً...

هكذا مضى الحال في اليوم التالي.. من حسن إلى أحسن.. منذ عشر سنوات لم يظفر بفترة من الحظ الحسن كهذه....

الأسهم ترتفع.. الصفقات تكثر.. زوجته تزداد لطفًا ورقة.. الطفلة تتشبث به.. وتمشي..

هكذا عندما جاء المساء كان قد اتخذ قراره: لقد ارتكبت خطأ جسيمًا..

نزل من سيارته عند ذلك المقهى النائي، ومشى بضع خطوات بحثا عن المائدة التي قابل عندها (أبو هيبة) أمس..

كانت خالية.. لا توجد كومة من لحم الرأس ولا قطط...

نظر بعينين متسائلتين إلى القهوجي وتساءل:

ـ "أين (أبو هيبة)؟"
لم ينظر له الرجل ولم يحاول أن يعرف من هو.. مر بجواره وقال كأنه يكلم الهواء:

ـ "لم يأت منذ يومين.."
ـ "وأين أجده؟"
ـ "لا أحد يعرف أين يوجد (أبو هيبة) عندما يختفي.. هو سوف يجدك.. تأكد من هذا.."
نعم.. هو سوف يجدك.. (ممدوح) ليس بحاجة لمن يخبره بهذا !!

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:22 PM

الصفقــة
(4)

(إبراهيم الأبيض) نقاش وصاحب سوابق وهجام سابق يزعم أنه تائب.. عرفه (ممدوح) عندما كان الأول يقوم ببياض الشركة..

بشكل ما نجح في استدراجه إلى أن ينصحه باسم قاتل أجير يخلصه من عدو استولى على قطعة ارض تخصه. وكان اسم (أبو هيبة) أول اسم ذكره..


يرفع (ممدوح) عقيرته صائحًا ليسمعه (إبراهيم) عبر سماعة الهاتف المحمول الرديء... طبعًا هو هاتف مسروق كذلك:

ـ "أنا أبحث عن (أبو هيبة).. إنه مختف تمامًا.."

ـ "هل كلفته بالـ.. بالمأمورية إياها؟"

ـ "نعم.."








قال (إبراهيم) في ثقة:

ـ "إذن لا تقلق..!.. سوف ينفذها.. هذا الرجل يعتمد على سمعته الحسنة.. سمعة كالذهب.. وهو لن يجازف بفقدها.. اعتبر المهمة أنجزت"

ـ "لكني أريد أن ألغي ما اتفقت عليه.."

ـ "للأسف ما دمت لم تجده فهو سينفذ.. هو لا يلعب بل هو رجل مسئول.. رجل محترف.. كان عليك أن تتريث قبل أن يغادر السهم القوس.. سأحاول أن أجده وأقنعه.. لكن أشك في أن أجده"

صاح ممدوح في لهفة:

ـ "اسمع..!.. قل له أن يحتفظ بالمال.. فقط يتركنـ.. يترك الرجل في حاله!"

ووضع السماعة شاعرًا بتقلص في معدته..

لا يمكن أن يتصل بالشرطة ويخبرهم بكل ما دار بينه والرجل.. مستحيل..

طلقة في الظلام.. غالبًا من الخلف.. هذا هو السيناريو الذي اتفقا عليه.. من الممكن ألاّ يمشي في تلك البقعة المظلمة، لكن (أبو هيبة) يعرف عنه كل شيء.. كل شيء.. عنوان الشركة.. عنوان الشركة الأخرى.. عنوان البيت.. يمكن أن يفعلها في أي وقت..

اتصل بسكرتيرة شركته الأصلية وقال لها إنه سيتغيب أسبوعًا..

ـ "لكن صفقة البصـل تلك.. نحن نحتـــ..."

ـ "قلت لك إن أسبوعًا واحدًا لن يخربنا.."

ووضع السماعة.. سوف يزعم أنه بالخارج، لكنه سيسافر مع زوجته إلى قريتها... بضعة أيام هناك لن تؤذي أحدًا.. سوف تصل الرسالة لـ (أبو هيبة) أن الضحية تراجع عن الصفقة.. لا شك أنه سيمل البحث... هذا رجل مشغول ولن يضيع وقته من أجل صفقة واحدة..

في الثامنة مساء اتجه إلى الشركة التي يدير أعمال المحاسبة فيها، وقال لهم إنه سيتغيب أسبوعًا.. حرص على أن يذهب بسيارته حتى لا يضطر للسير، وهو يعرف أن (أبو هيبة) لم يرها قط . كان لابد أن يذهب بنفسه لينهي بعض الأوراق..

هكذا يمكن القول إنه فعل كل شيء ممكن.. بعد ساعة عاد بالسيارة قرب تلك البقعة التي وصفها لـ (أبو هيبة).. البقعة المهجورة المظلمة.. راح يرمي ببصره في كل صوب.. في مكان ما ينتظر الرجل.. باردًا مصممًا كالموت.. ثابت اليد كجراح أعصاب.. ينتظر أن ينهي حياته.. كانت الفكرة فاتنة مخيفة، وخاصة أنه يعرف أن (أبو هيبة) لن يبحث عن راكب سيارة بل سيبحث عن رجل راجل... إذن أنت في أمان....

هنا حدث أسوأ كوابيسه..

الدخان يتصاعد من محرك السيارة!.. الرادياتور فارغ!.. لقد نسي أن يملأه..

أغلق المحرك وهو يسب ويلعن، ثم.. لابد من أن يترجل.. لابد من أن يفتح غطاء المحرك ويديره ليصب بعض الماء.. كم الساعة الآن؟.. نحو العاشرة.. مساء الثلاثاء!.. إنها اللحظة...

نظر حوله فلم ير أحدًا.. كان يرتجف كورقة..

"لا توسعني ضربًا حتى الموت.. لا تعذيب من فضلك.. الأسلحة النارية مفضلة دائمًا.. وطبعًا لا أريد أن تتركني كفيفًا أو مصابًا بشلل رباعي.."

هل قال هذا حقًا؟.. لقد كان مجنونًا.. ابنته تزحف ثم تمشي.. زوجته تضحك.. الملاءة هفهافة تغري بالنوم.. الأسهم تتحسن.. بصل.. بصل.. محرك ساخن.. بخار أبيض يتصاعد كسحابة كثيفة.. كشري.. شاي بالنعناع.. بصل..

سوف يزيد الماء بسرعة ويرحل. كان مجنونًا عندما قرر أن يعبث قليلاً حول حدود الموت الذي ينتظره... الآن يوشك على السقوط فيه..
طاخ!.. طاخ!

لقد وجده!.

صرخ وأغمض عينيه.. (أبو هيبة) لا يخطئ التصويب... لابد أن الطلقتين أصابتاه...

ارتمى على الأرض على ركبتيه أمام كشافي السيارة المضائين وصرخ:

- "لقد ألغيت الصفقة!.. ألغيت الصفقة يا (أبو هيبة)!!"


سائق التاكسي العجوز عم (جابر) راح يرمق المشهد في ذهول.. استدار للزبون الجالس جواره وقال:

ـ "في هذه المهنة ترى أشكالاً وألوانًا من الناس.. لكني لم أر قط من يحدث هذه الضوضاء لأنه سمع انفجار شاكمان سيارتي.. أعرف أنه مثقوب وأنه لابد من إصلاحه، لكن صوته ليس مرعبًا لهذه الدرجة!"


قال الزبون في استمتاع:

"الغلاء قد أطار عقول الناس.."



********







فرغ (أبو هيبة) من رص حجارة الطاولة وسحب نفسًا عميقًا من الشيشة، بينما كان (إبراهيم الأبيض) يعد نصيبه من المبلغ.. ثم سأل (أبو هيبة) وهو يدس المال في جيبه:

ـ "ألن تنفذ ما طلبه؟.. هذا هو الموعد.."

قال (أبو هيبة) بهدوئه المخيف المعتاد:

ـ "دعه وشأنه.. هذا رجل طيب.. رجل غلبان.. رجل مدني.. أنا لا أقتل أمثال هؤلاء"

ـ "لقد دفع لك مقدمًا كبيرًا"

ـ "هذا هو العلاج المفضل له عندي.. عندما تقابل بلهاء مثله اجعلهم يدفعون الكثير من المال.. فقط خسارة المال تجعلهم ينسون بلاهتهم.. لقد استحق هذا العقاب. عليه أن يتحمل الحياة مثلنا.. وعليه أن يلوم نفسه ألف مرة لأنه غبي أضاع ماله.."
ـ "لابد أنه سيموت ذعرًا.."

قال أبو هيبة وهو يلقي بالنرد:

ـ "طبعًا.. لن يمشي في الشارع مطمئنا قبل شهرين على الأقل.. والآن كفانا كلامًا عن هذا الغبي... العب!"



تمت...

عهد Amsdsei 17-03-12 07:23 PM

القصة الثانية

***********************

فالوذج

فالــوذج - الحلقة الاولي

منذ طفولتي أعشق كلمة (فالوذج) بما لها من رنين عربي أصيل، خاصة عندما تقرؤها في قصص أشعب الطفيلي، وما توحي به من شيء شهي لا أعرف كنهه.. فيما بعد عرفت أن الفالوذج نوع من الحلوى العربية اللذيذة. لهذا شعرت بنشوة حقيقية عندما رأيت اللافتة المضاءة في ظلام المدينة.. نقوش شرقية لا شك فيها مع عبارة (مطعم فالوذج) بخط فارسي جميل.
قال (ديمتري) وهو يغلق ياقة معطفه المبطَّنة بالفراء -فلا تنس أن حرارة الجو تقترب من الصفر:
ـ"مطعم تركي.. أعتقد أنك ستحل مشكلتك هنا"
قلت في انبهار وكلماتي تستحيل بخارًا أبيض كثيفًا:
ـ"الاسم وحده وجبة كاملة"
ـ"لا أعرف معناه.. لكن يُقال إن المطعم جيد.."

منذ جئت إلى هذا البلد وعندي مشكلة مزمنة فيما آكله. كل شيء لحم خنزير أو طُهي مع لحم الخنزير أو مغلف بدهن الخنزير.. لن أندهش لو كان هنا عصير خنزير كما يقول (عادل أمام).. كنت وحيدًا مترددًا متباطئًا في العلاقات الاجتماعية، وربما لم أعرف شخصًا سوى (ديمتري).. فيما عدا هذا لم أكن أفارق النُزل الذي أقيم فيه أبدًا..

عامة يطلق مصطلح (تركي) على كل شخص عربي أو مسلم في هذه البلاد، حتى لو لم يكن تركيًا على الإطلاق، لكني عندما دخلت المطعم ورأيت صاحبه جالسًا يدخن النارجيلة، وسمعت الموسيقى التي تبدو كأنها أسطوانة لأم كلثوم تدور بالمقلوب، وعندما رأيت النادل بشاربه الكث وقامته الفارعة وصوته الغليظ ، عرفت أنهم أتراك فعلاً..

هكذا جلست مع (ديمتري) إلى مائدة وضع عليها شرشف أبيض نظيف، مع مزهرية بها ورود وأداة لصب الماء تشبه الدلة الخليجية. جاءنا النادل يقدم لنا القائمة، وكانت مليئة بمصطلحات تركية لا أعرفها. خمن أنني عربي لكن ظلت مشكلة التفاهم قائمة؛ لذا خاطبته بالإنجليزية وسررت لأنه فهمها..
قال (ديمتري) في دهشة:
ـ"عندما أرى عربيين مثلكما يستعملان الإنجليزية أندهش.."
ـ"هو ليس عربيًا.. العرب والأتراك يختلطون في أذهانكم لكنهم مختلفون تمامًا.. "

جاء طبقان من الحساء.. شممت رائحته فخمنت أنه يحوي لحم الضأن غالبًا، ثم جاء بعدها طبق مليء باللحم المشوي.. نكهة ممتازة فعلاً.. غير معتادة لكنها تروق لي بشدة.. يبدو أن مشكلتي انتهت.. انتهت إلى أن أعرف قيمة الفاتورة طبعًا، فلربما كانت غلطة عمري هي الدخول هنا..

بعد قليل جاء طبق يشبه حساء الخضر.. أكلنا في حماسة.. وراح (ديمتري) يقول وقد بدأ جبينه يتعرق:
ـ"توابل كثيرة جدًا.. لكن هذا يجعل الأمر رائعًا.."

ملأت فمي بالطعام ثم نظرت حولي في المطعم. كانت هناك ثلاث فتيات جميلات يأكلن ويضحكن بصوتٍ عال، وأدركت أنهن من نفس بلد (ديمتري).. هناك واحدة في الوسط بدت لي جميلة بشكل خاص.. طابع الأنامل الطويلة والأنف الطويل والعنق الطويل الذي يميز رسوم الفنان المصري (بيكار). نظرت لي وأشرق وجهها للحظة ثم عادت تحدث صديقتها...

قلت لـ (ديمتري):
ـ"يبدو أن هذا المطعم راق فعلاً.."
لكنه لم يرد لأنه كان قد تناول قطعة من العظم من الطبق وراح يتأملها ثم رفعها أمامي وقال:
ـ"طويلة جدًا.. من أي جزء جاءت هذه العظمة؟"

بحثت عن لفظة (رَيَش) بالروسية في ذاكرتي فلم أجد.. هكذا أشرت إلى ضلوعي وابتسمت..

قال وهو يتأملها في اهتمام:
ـ"المفترض أن هذا لحم ضأن.. هل رأيت في حياتك خروفًا بهذا الحجم؟"
ـ"هل هناك مشكلة مع السيد؟"
كانت هذه من الساقي الذي وقف خلفي وكان ينظر لديمتري وقطعة العظم. التفتُّ له.. أقسم أن نظرته كانت تطلق نارًا.. سوف يمزقنا إربًا لو لم يَرُق لنا الطعام. سمعت كثيرًا عن مزاج الطباخين الأتراك والإيطاليين الناري، لدرجة قتل الزبون الذي ينتقد طهيهم..
كرر (ديمتري) السؤال فقال الساقي وهو يرفع بعض الأطباق الفارغة:
ـ"إنه.... نوع من الماعز الجبلي.. يشبه الوعل كثيرًا ويعيش في الأناضول"

فهمت.. فهمت...
ومن جديد رفعت عيني فوجدت تلك الحسناء تنظر لي في ثبات...
يتبع..

عهد Amsdsei 17-03-12 07:24 PM

فالــوذج
(2)

منذ طفولتي أعشق كلمة (فالوذج) بما لها من رنين عربي أصيل، خاصة وأنت جالس في مطعم بهذا الاسم، ترى تلك الحسناء ترنو لك في إعجاب.. نحن الرجال نرنو بإعجاب فتتذمر النساء ويتجاهلننا.. غريب أن تنقلب الآية، لكني لم أتذمر على كل حال..

قال لي (ديمتري) باسمًا وقد لاحظ نظرتي:
ـ"اسمها (رادا)... إنها تدرس الهندسة معي في ذات المعهد.. لو أردت أن أقدمك لها فلسوف أفعل.."
ـ"أرجو أن تفعل.."

وهكذا نهضنا لنجلس مع (رادا) وصديقتيها.. وعندما خرجنا كانت تتأبط ذراعي في مودة بينما صار الآخرون يمشون خلفنا. كان المبلغ الذي دفعناه للعشاء معقولاً جدًا.. يبدو أن الأتراك قنوعون..


بعد يومين خرجت مع (رادا).. لقد صارت تعرف عني كل شيء تقريبًا، وكان أن اقترحت عليّ أن نتناول العشاء في مطعم (فالوذج).. تنطقها بلغتها الكسيحة فتبدو ساحرة.. مضحكة لكنها ساحرة..

تسألني:
ـ"كيف تتحمل الوحدة؟ يقولون إنك لا تخرج أبدًا تقريبًا"
ـ"أقرأ كثيرًا.. إنني لذئب وحيد ولا أنكر هذا، لكن طباعي بدأت تتغير منذ.. منذ يومين !"

الثلج والبخار يتجمد على ياقة معطفي.. ويد (رادا) النحيلة في معطفها الجلدي تخرج من الفجوة التي صنعها ذراعي. في الداخل تنزع (رادا) المعطف... الثلج يذوب من على أكتافنا ليصنع بركتين صغيرتين عند أقدامنا.. تنورة أنيقة (كاروهات) وحذاء طويل العنق..

نجلس.. الصنف الذي نختاره اليوم لا أعرف كنهه لكنه نوع من اليخنة.. لحم مطبوخ بالكثير من البصل والبهارات.. نأكل في نهم.. أحب مذاق هذا الطعام كثيرًا.. هي كذلك تحبه..

أقسم أنها نظرت نظرة جانبية للنادل وهو يمر بنا.. كأنها تقول له: كما اتفقنا. سألتها وأنا أملأ فمي باللحم:
ـ"هل يعرفونك جيدًا؟"

ترتبك:
ـ"لا.. لا.. إنه لم ينسَني من المرة السابقة.. أنت تقول إنني جمال نادر يصعب نسيانه.. هل سحبت كلامك؟"

الطعام جميل.. لكن.. أنا أمقت الشَعر كأي واحد آخر. شعرة طويلة سوداء التفت حول الملعقة. لماذا لا يلاحظون هذه الأمور؟.. هل أخبر الساقي؟... لا.. لا داعي..

كل شيء هنا غريب.. الرائحة.. التوابل الكثيرة جدًا.. لماذا يفرطون في التوابل لهذا الحد؟.. أنا جربت الأكل التركي من قبل.. ليس كثير التوابل كالأكل الهندي مثلاً... ومن جديد هذه العظام الطويلة الغريبة.


كان ذلك الرجل البدين يجلس على منضدة قريبة يلتهم أطنانًا من اللحم المشوي وأصابع المحشو.. يأكل في لهفة ولوعة لا مبرر لهما.. يسيل العرق على جبهته.. يفك ساعته ليتمكن مِن مد ساعده أكثر.. يرفع كأسًا من الفودكا ويجرع ما فيه مرة واحدة.. خاتم مرصَّع بأحجار كريمة لكنها تبدو قبيحة جدًا عليه.. كأن إصبعه مليء بالثآليل الملونة. هذا الرجل مؤهل جدًا للموت بنوبة قلبية خلال أيام.. سيموت سعيدًا على الأقل... الساقي يدنو منه ويخبره بشيء ما فيلقي بالفوطة التي علقها في صدره وينهض معه إلى خارج القاعة..

قلت لـ (رادا):
ـ"نمط هذا الرجل لابد أن يعلق الفوطة في صدره كأنه رضيع.. بينما الفوطة يجب أن توضع تحت الطبق لتغطي البنطال.."
ـ"لقد انتهى الزمن الذي يراقب فيه الناس بعضهم.. كُل ما تريد كما تريد ما دمت ستدفع الحساب"

هذا الشعور المقلق.. هذا الشعور الغريب.. أشعر بالشعيرات تتوتر في مؤخرة عنقي. أحب الطعام في هذا المكان لكن هناك شيئًا ما لا يريحني..

طبقان من الخضر باللحم.. أملأ ملعقتي بالخضر وأرفعها لفمي.. هنا رأيت شيئًا في الملعقة.. دققت النظر أكثر..
ـ"هل هناك مشكلة ما؟"

تسألني (رادا) فأقول وأنا أتفحص هذا الشيء:
ـ"لا شيء.. لا شيء.."

ثم ألقي بالمنشفة في الطبق.. يجب أن ندفع الحساب ونرحل.. الآن.. ولا تسأليني عن السبب...

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:24 PM

فالــوذج (3)

منذ طفولتي أعشق كلمة (فالوذج) بما لها من رنين عربي أصيل، لكني بدأت أتوتر كلما سمعت هذه الكلمة. هكذا فكرت وأنا في غرفتي أتفحص هذه الجوهرة الصغيرة التي وجدتها في طبق الخضر.. جوهرة بحجم الحمصة لكني رأيت مثلها من قبل..
كان هناك خاتم قبيح في يد رجل بدين.. هذه الجوهرة الصغيرة كيف سقطت منه؟.. ربما دخل المطبخ وعبث بطبق ما. هي مصادفة غريبة جدًا..

اتصلت بي (رادا) الحسناء عند الظهيرة واقترحت علي اقتراحًا جديدًا من نوعه:
ـ"لماذا لا نتناول العشاء في مطعم (فالوذج) ؟"

تفكير ثوري جدًا.. قلت لها إنني سعيد لحماسها، لكن ألا تلاحظ أننا نأكل هناك للمرة الثالثة خلال أربعة أيام؟.. قالت لي إن المكان يروق لها.. فيه دفء شرقي محبب والطعام جيد.. لا تنكر هذا..

وضعت سماعة الهاتف. هنا دق من جديد.. هذه المرة كان صوت (ديمتري).. كان متحمسًا وقلقًا. قال لي:
ـ"هل تعرف أنني سرقت عظمة من عظام ذلك الماعز الجبلي الذي أكلناه منذ أيام في مطعم (فالوذج)؟"





ارتجفت واحتبس صوتي للحظة ثم سألته بقلق:
ـ"أنت سرقت عظمة من....... "
ـ"نعم.. دسستها في جيب المعطف خلسة.. كنت أريد أن يراها خبير.. طبيب بيطري أو من يشرّح الحيوانات.. لقد قال إنها غريبة جدًا، ووعد بأن يجري عليها اختبار الترسيب المناعي لمعرفة نوعها. هناك حل أفضل هو الحمض النووي لكنه باهظ الثمن ويستغرق وقتًا.. سوف يخبرني بالنتيجة الليلة؟"

قلت في توتر وأنا أشعر بغثيان:
ـ"ماذا ؟"
ـ"سوف أخبرك بكل شيء الليلة.. على الأرجح سوف أطلب من رجال الشرطة مداهمة هذا المطعم. هناك أسئلة كثيرة في ذهني.. على فكرة.. هناك أشخاص أكلوا في هذا المطعم مرة أو مرتين ثم اختفوا. القومسيير (يوسفاكي) صديقي وقد عرفت منه أشياء كثيرة، ويبدو أنه مقتنع بوجهة نظري.."
ـ"التي تقول...؟"
ـ"لن أشرح الآن.. فقط لا تأكل في هذا المطعم حتى أخبرك بما عرفته.. صدقني.. الأمر خطير"

وضعت سماعة الهاتف من جديد ووقفت شاردًا ومعدتي تتقلص..
كل شيء يؤكد ما كنت أفكر فيه ولا أجرؤ على تصوره..
و(رادا) ؟.. النظرة التي تبادلتها مع النادل لا تفارق ذهني. هل هي تحب المطعم فعلاً أم تحب استدراج الناس له؟.. أنظر لوجهي في المرآة.. وجه عكر قبيح يثير الكآبة في النفس ويوحي بالسقم، وهي نضرة كالزهرة.. كأرنب صغير رشيق.. قل لي ما هي المعجزة التي تجعل فتاة كهذه تعجب بي بمجرد النظر..؟..
إننا نصير أغبياء أمام الجمال.. هذه حقيقة..





هكذا قضيت ساعات قلقة حتى المساء.. لم أذهب للمطعم طبعًا. خرجت لقضاء بعض الأعمال، وعندما عدت استحممت بالماء الساخن وجلست جوار الهاتف..

طبعًا لم يتصل بي (ديمتري). اتصلت بي صديقته (ماشا) تسأل عنه.. لقد خرج ولم يعد.. اتصلتْ به في كل مكان ممكن فلم تجده.. لم أقل لها إن (ديمتري) لعب دور من يعرف أكثر من اللازم في أفلام العصابات أو (الفيلم نوار)..
قلت لها:
ـ"اسألي عن القومسيير (يوسفاكي).. لابد أنه يعرف مكانه"
وجلست جوار الهاتف..
عندما اقتربت الساعة من الثانية صباحًا أدركت أنني لن أستطيع البقاء ساكنًا للأبد.. سأجن.. يجب أن أعرف.. سوف أقتحم مطعم (فالوذج) وأعرف الحقيقة بنفسي..




يتبع..

عهد Amsdsei 17-03-12 07:25 PM

فالــوذج
(4)

منذ طفولتي أعشق كلمة (فالوذج) بما لها من رنين عربي أصيل، وحتى هذه الليلة أشعر بحنين لهذه الكلمة وأنا أرى اللافتة المطفأة في آخر الشارع. أشعلت لفافة تبغ بصعوبة بالغة لأن يدي تجمدتا فعلاً بسبب الصقيع والثلوج والريح الباردة..
مشيت حتى بلغت باب المطعم ثم بدأت أدور حوله بحثًا عن طريقة للدخول.
بالطبع لابد من باب آخر.. باب يخرج العمال منه ويدخلون، وتدخل المؤن ويخرجون القمامة. القمامة التي لو فحصتها جيدًا لفهمت كل شيء. هكذا واصلت المشي. فجأة تصلبت وقد رأيت بابًا مفتوحًا.. أرى رجلاً لعله عامل بالمطعم يخرج صندوق قمامة كبيرًا ثقيلاً مبتعدًا.. طبعًا لا وقت لفحص هذه القمامة لأن الباب مفتوح والفرصة سانحة.. تسللت إلى الداخل بسرعة قبل أن يعود، لأجد نفسي في كواليس مطعم (فالوذج) لو اعتبرنا أن خشبة المسرح هي قاعة الطعام..

بالفعل كان هناك مطبخ كبير مظلم. أخرجت الكشاف الصغير الذي أحمله ورحت أتفحَّص عشرات الآنية وأدوات الطعام وصفوفًا متراصة من السكاكين.. لا بأس من أن أنتقي أكبرها على سبيل الاحتياط..
ثم الثلاجة!.. الثلاجة العملاقة الجديرة بمطعم والتي يمكن أن يسجن فيها إنسان. اتجهت وفتحت المقبض.. كانت أكياس اللحم معلقة على خطاطيف.. فتقدمت ومزقت أول كيس وفحصته على ضوء الكشاف.. لا شيء.. هذا
لحم بقري ولا شك في هذا.. أنا لا أخطئ في هذه الأمور.. الكيس الثاني.. هناك رأس وعنق حيوان يشبه الوعل.. هل هذا هو الماعز الجبلي غريب المذاق؟
ربما لو فحصت الأرضية.. لن يعلق أحد أشياء كهذه لتبدو واضحة للعيان.. لا شيء..
كنت منحنيًا أتفحص الأرض عندما شعرت بالمسدس يلتصق برأسي من الخلف، ومن يقول بروسية ثقيلة:
ـ "انهض بلا حركات عصبية"
نهضت وقد أدركت أني أسأت الحكم على مدى ثقل صندوق القمامة. لقد تخلص منه بسرعة جدًا. استدرت ببطء لأجد الوجه التركي الفظ والعينين المحتقنتين.. إنه نفس الرجل..
ـ "ماذا تريد مِنَّا؟"
قلت بثبات وأنا أنظر في عينيه:
ـ "الرجل البدين الذي كان يلبس خاتمًا مليئًا بالمجوهرات.. أين هو؟"
دهش من السؤال.. ثم قال وهو يتراجع للخلف:
ـ"صاحب المطعم؟.. ماذا تريد منه؟.. هو لا يقيم هنا.. يأتي للأكل وتفقُّد الأمور.. لكن ما شأنك أنت؟"

كنت أشعر بخيبة أمل.. إنه صادق.. لا شك في هذا.. مطعم يقدم لحم الماعز الجبلي المليء بالتوابل لا أكثر.. مطعم صاحبه بدين يفقد مجوهرات خاتمه في أطباق الطعام.. مطعم ينسى بعض الشعر في الأطباق.. (رادا) كانت بريئة إذن.. هي أحبت المطعم ولم تكن تستدرجني له..
خيبة أمل شديدة.. لم يدرك الرجل كم أنا سريع الحركة ولا كم أنا شرس خطر إلا عندما ركلت المسدس الذي يحمله، ثم أغمدت السكين في عنقه.. فظل ينظر لي في شيء من الدهشة واللوم قبل أن يسقط على الأرض..
لشد ما أنا حزين.. حسبت أن هذا المطعم قد حل مشكلتي وأنني سوف أجد فيه نوع اللحم الذي أريده والذي اعتدت أكله، والذي هربت من مصر كلها لأبحث عنه في مكان لا يعرفني... لكنه مجرد مطعم بريء آخر..
لقد دفع (ديمتري) صديقي الوحيد حياته؛ لأنني لم أرد أن يبلغ الشرطة ويفسد عليّ هذا الاكتشاف الجميل.. والآن اكتشف أنني قتلته بلا داع.. يا للعار!
لكني لن أخرج خالي الوفاض.. النادل التركي يرقد على الأرض والمطبخ تحت أمري حتى الصباح. لدي ما يلزم كي أشبع حاجتي وكي أقاوم نفسي لفترة أخرى.. أيام.. أسابيع.. و(رادا)؟.. على الأرجح ستكون الضحية القادمة ما لم تقطع علاقتها بي لسبب أو لآخر..
منذ طفولتي أعشق كلمة (فالوذج) بما لها من رنين عربي أصيل، لكن كلمة (فالوذج) سوف تكتسب مذاقًا خاصًا هذه الليلة بالذات.


تمت

عهد Amsdsei 17-03-12 07:26 PM

القصة الثالثة

هذا الجدار

****************

هذا الجدار الحلقة الأولى

عزيزي عصام:
كيف حالك وكيف الحياة في (ولنجتون) عاصمة نيوزيلندا؟.. أعتقد أنك نسيت كل شيء عن مصر منذ فترة.. لا ألومك كثيرًا فقد عانيت كثيرًا في الأعوام الأخيرة حتى إنك صرت تشتهي الفرار اشتهاءً.. لكن الوطن لفظة معقدة كثيفة، تشتمل على الأرض ورائحة الجو والبشر والسماء و.. و.. و.. لكل وطن نجوم خاصة به.. لكل وطن رائحة ليل خاصة به.. لا تقل إنك تعبت من كل شيء في مصر.. لا تقل إنك تعبت مني مثلاً..

يعزينا عن فراقك أننا نقيم في شقتك بالعجوزة.. على الأقل هي تحمل رائحتك ولمساتك في كل شيء.. إنها الشقة التي عشت فيها أعوامًا طويلة وحدك، وهي الشقة التي أثارت خيال الكثيرين، حتى راحوا يتهمونك بأشياء كثيرة ناسين أنك مجرد أستاذ جامعي غريب الأطوار.. لست سفاحًا ولا ماجنًا ولا غارقًا في الفساد.. مجرد علامة استفهام آدمية أخرى، والبشر يمقتون علامات الاستفهام.. تذكر عندما رأينا تلك الحشرة الغريبة في شرفة دارك.. لم نتردد ونزع كل منا حذاءه واندفعنا نسحقها.. نحيلها غبارًا تناثر في الريح..

هل كانت تلك الحشرة ضارة؟.. هل كانت سامة؟.. بالطبع لم نعرف وعلى الأرجح كانت حشرة بريئة، لكنها غامضة.. كانت علامة استفهام لذا كرهناها.. ولذا سحقناها..

هكذا أنت.. شخص غريب الأطوار لابد أن يعتبره الناس عدوًا مخيفًا...

في النهاية سئمت أنت كل شيء وقررت الفرار.. حصلت على تأشيرة للهجرة إلى ذلك البلد البعيد النائي (نيوزيلندا).. لا أحد يعرف عنه إلا أن فيلم (سيد الخواتم) وحلقات (زينا) صوروا هناك.. من الواضح أنك لن تعود أبدًا..

على كل حال أنا وزوجتي أحببنا شقتك فعلاً.. إنها جميلة بحق وتنم عن ذوق راق. مكتبتك ما زالت هنا وكذا معظم قطع الأثاث.. أنت لم تتزوج لهذا توقعنا أن نجد شقتك مقلب قمامة أو ساحة حرب، لكنك منظم تهوى النظافة بشكل مرضيّ..



لم نحدث أي تغييرات كما تعلم لكن ذلك الجدار. ذلك الجدار الذي بنيته أنت والذي يقسم غرفة الصالون إلى نصفين.. هذا الجدار بصراحة يضيق علينا الغرفة كثيرًا.. كان طول الغرفة أربعة أمتار، فجعلها الجدار مترًا ونصف المتر.. كما أنك جعلت الجزء المعزول من الغرفة بلا أبواب ولا طريقة للدخول له. باختصار أنت جعلت الجدار مزدوجًا..
هذا بيتك وأنت حر، لكن من حقي بعد أن صرت أعيش هنا وبعد ما صارت الشقة لي بعقد تمليك أن أفهم لماذا تصر على هذا الجدار. عندما سألتك عنه قلت لي إنك جمعت وراءه كل ما تملك من مهملات لا تريد أن تراها ولا تجرؤ على التخلص منها.. مثلاً مهدك وأنت طفل رضيع.. هذا شيء لا تريده ولن تستعمله أبدًا لكنك كذلك لا تطيق أن تلقي به في مقلب قمامة، أو تبيعه لبائع روبابكيا وغد يستعمله كمبصقة..
مثلاً مجموعة صورك طيلة مشوار حياتك .. نحو خمسة صناديق مليئة بالصور.. هذه لا تريدها لكنك كذلك لا تطيق أن تحرقها. هكذا قررت أن تضع كل هذه الأشياء في هذا المخزن، وبنيت ذلك الجدار.. كانت شروطك واضحة هي أنك ستعطيني الشقة بسعر لا يصدق.. شقة فاخرة كهذه في حي راق كهذا بهذا السعر؟.. فقط هناك هذا التعهد الشرفي بعدم إجراء أي تغييرات.

طبعًا هذا يتضمن عدم هدم الجدار.. لكن لم هذا الإصرار الغريب؟

المخلص محمود
يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:27 PM

هذا الجدار - الحلقة الثانية

عزيزي عصام:

كما قلت، كان من الواضح أنك راغب في عدم هدم الجدار.. أفهم هذا والله العظيم لكن زوجتي لا تفهمه.. بعد أيام من الحياة في الشقة قالت لي:
ـ"كيف نستغني عن ثلثي حجرة الصالون بهذه البساطة؟"
ـ"لأننا أخذنا الشقة بهذا الشرط.. هناك من يلعبون الشطرنج فإذا خسروا اكتشفوا أن اللعبة سخيفة ومملة ومضيعة للوقت.. نحن لن نكون كهؤلاء.."
هكذا صمتتْ.. بعد أيام عادت تطلب مرة أخرى..
أنت تعرف قصة (ذو اللحية الزرقاء).. إنها تعبر بدقة عن فضول الأنثى.. زوجة ذي اللحية الزرقاء منحها زوجها قصرًا به 99 غرفة، لكنه اشترط ألاّ تفتح الغرفة المائة.. النتيجة هي أنها لم تعد تطيق الحياة، ولم تعد ترى في الكون كله إلا تلك الغرفة المائة.. ثم فتحت تلك الغرفة.. حسن.. أنت تعرف باقي القصة، وإن القلم ليسقط من يدي رعبًا.. لا داعي لهذه الخواطر، لكن قل هذا لزوجتي بالله عليك..
مشكلة الزواج بالنسبة لشخصية كشخصيتي هي أن طلقاتك لا تصل لهدفها أبدًا.. هناك من يلوي معصمك في آخر لحظة، أو يضع حاجزًا أمامك أو يغطي عينك.. وأنا اعتدت أن أريد الشيء فيحدث..
منذ أسبوع جاءت زوجتي مكتئبة وقالت لي:
ـ"هناك روائح غريبة آتية من خلف هذا الجدار.. فلتقطع ذراعي إن لم يكن صاحبك نسي قطة ميتة هناك!"
ـ"لا أدري لِم تخاطرين بذراعك يا عزيزتي.. إن بتر ذراعك لن يجعلك أجمل، فأنت – عدم المؤاخذة – لا تشبهين فينوس ميلو في شيء.. إن ما تقولين مستحيل.."
السبب هو أن الجدار مبني بالقرميد وهناك طبقة ملاط سميكة، مع طبقة دهان.. حتى لو كان الجيش الإسرائيلي كله ميتًا بالداخل فلن تتسرب رائحته. ثم إننا نتحدث عن عدة أشهر.. هذه هي الفترة التي تنتهي فيها البكتريا من مهمتها المقززة التي تقوم بها ببسالة وبلا اشمئزاز: إعادة النتروجين للتربة من جديد. أي أن أية جثة تتحول بعد هذه الفترة إلى عظام صقيلة نظيفة رائعة الجمال عديمة الرائحة..
قالت لي زوجتي في إلحاح:
ـ"لم لا نجلب أحد العمال ليحدث فجوة في هذا الجدار لنرى؟"
قلت في حزم:
ـ"لأننا وعدنا صديقي المسافر أولاً، ولأنني أعرف ما سيحدث.. سوف تصنعين الفجوة وتطلبين توسيعها.. ثم ترين أنه لا داعي لسدها من جديد.. تعالَ نوسعها أكثر.. وفي النهاية نجد أنك أزلت الجدار فعلاً برغم إرادتي، وأنني للمرة الألف لعبت دور الطفل الأبله.. لا.. أنا أرفض بعنف"




على كل حال رحت أتشمم رائحة الجدار بعناية.. للنسوة حواس أكثر حدة من حواس الرجال هذا أكيد.. لكن لا رائحة لشيء ميت.. لو شئت الدقة لقلت إنها رائحة حساء الفاصوليا.. هذا لا يثير القلق..
أنت تعرف النساء يا صديقي.. زوجتي تنهض في منتصف الليل صارخة غارقة في العرق... زوجتي تخشى الاقتراب من الجدار ليلاً...
لقد جعل هذا الجدار حياتي جحيمًا بالفعل..
أمس قالت لي في قلق:
ـ"فلتقطع ذراعي إن لم يكن هناك شيء حبيس بالداخل.. هناك صوت خدوش على الجدار من الداخل.. أنا متيقنة من ذلك.. ثمة شيء يحاول الخروج..!!"

المخلص محمود

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:28 PM

هذا الجدار .. الحلقة الثالثة

عزيزي عصام:
كيف يظل شيء حياً كل هذه الأشهر؟.. لا يوجد مدخل لهذه الغرفة المغلقة.. إن جدار البناية نفسه يحدها من الخلف، لكن من الوارد أن يلعب الصوت بعض الألعاب الغامضة.. أحياناً في منتصف الليل كان الجيران يخرجون لنا من بالوعة المطبخ، وكنت أسمع مدام (عواطف) تتشاجر مع أستاذ (مصطفى)؛ لأنه لا يبدل جواربه إلا كل أسبوع.. ربما هم يخدشون جدران غرفتهم الآن..
قالت زوجتي في إصرار:
ـ "فلنهدم الجدار"...
- "لا"..
تلحُّ بشدة حتى تذكرت تلك الأسطورة التركية الشعبية عندما يردد الناس: "حطم الصخرة يا "فرهاد".. حطم الصخرة يا فرهاد"، والبطل يقول: "سأحطمها.. من أجلكم سأحطمها".. زوجتي كانت تردد: "اهدم الجدار يا محمود.. اهدم الجدار يا محمود".. وأنا على وشك أن أقول: "سأطلّقها.. من أجلكم سأطلّقها".
سوف أعترف لك بشيء...
أنا نفسي أخاف هذا الجدار.. لقد كنت أقف جواره ذات يوم، فسمعت حفيفًا.. كأن هناك ثوبًا يحتكّ به من الجانب الآخر... وقف شعر رأسي رعبًا ورحت أتنصت..
يخيل لي أنني سمعت طرفًا من محادثة، لكن بصراحة لم أتبين أي مقطع سوى كلمة (لا يُطاق).. من جديد ألقي باللوم على ألعاب الصوت..
قمت بالطرق عدة مرات على الجدار فلا صوت سوى: تونك.. تونك.. تونك.. ما وراء الجدار أجوف فعلاً... لكن كيف تتحمل أن توجد في شقتك الخاصة غرفة لم تدخلها قط؟.. أحيانًا أشعر أن هذا الشرط اختبار منك لفضولنا.. هذا اختبار يفوق الطبيعة البشرية، وفي النهاية سوف تعود من مخبئك الخفي وتمنحنا زكيبة من الدنانير مكافأة لنا على أمانتنا..

صباح اليوم حدث شيء غريب..
لقد وجدت زوجتي جاثية هناك جوار الجدار فلما رأتني ارتجفت وبدأت تشهق وتصرخ، واكتشفت أنها تحمل مثقابًا تريد أن تصنع به ثغرة في الجدار.. تريد أن ترى.. وكيف ترى من دون ضوء؟.. هل تنوي إدخال منظار ليفي ضوئي من الفتحة كما يفعلون مع مقابر الفراعنة؟.. لكنها أشارت في ثقة إلى مفتاح ضوئي صغير على الجدار الأيمن. قالت: إن هذا المفتاح كان يضيء مصباحًا ما بهذا النصف من الغرفة قبل أن ينفصل. ربما ما زال المصباح سليمًا ويمكن أن يضيء لنا هذا القبر المغلق.. أضاءت المصباح فخيل لي أنني سمعت صرخة!...
هناك كائن بالداخل لا يطيق النور!.. أم أنني أهلوس؟.. أمرتها أن تطفئ النور حالاً فقد تكون هناك أسلاك كهربية عارية.. شرارة وكومة من الورق.. ربما لا يوجد أكسجين يسمح بالاحتراق بالداخل لكني لن أجازف...

الحق أنني أزداد عصبية وتوترًا بسبب هذا الجدار الكريه.. لا أعرف إن كانت عصبيتي الخاصة أم هي عدوى من زوجتي، لكن المصاب بالدرن لا يتساءل كثيرًا عن مصدر العدوى وإنما يطلب العلاج.. وعلاجي عندك بلا شك..

ما الذي يوجد في تلك الغرفة يا (عصام)؟
لا أتكلم عن الصور والمهد وذكريات الطفولة.. أتكلم عما هو موجود حقًا..
أرجوك أن ترد.. أشعر أنني أكلِّم نفسي.. هل ما زلت حيًا أم أن قبائل الماوري قامت بطهيك تحت التربة والتهمتك في احتفالها السنوي؟

لو حدث هذا فهو شيء مؤسف، لكن أتمنى أن أعرفه لو حدث؛ لأن هذا يحررني من قسمي.. يومها سوف أزيل هذا الجدار وأعرف الحقيقة.. سوف يتسرب نور الشمس والهواء إلى هذه الظلمة الملغزة الرطبة، ولسوف نشفى من تساؤلنا عما ينتظرنا خلف الجدار.

أرجوك أن ترد يا (عصام)....
المخلص محمود

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:29 PM

هذا الجدار .. الحلقة الرابعة و الاخيرة

عزيزي أستاذ "عصام":
للمرة الأولى أكتب لك.. أنا مدام "ثريا القماش" التي بِعت لها تلك الشقة بالعجوزة..
أعتذر إن كنت أسبب لك أي إزعاج، لكن بصراحة لم أعد أطيق ترك ذلك الجدار الذي بنيته أنت في غرفة الصالون.. لقد كان طول الغرفة أربعة أمتار، فجعلها الجدار مترين ونصفًا.. أعرف أنني قبلت هذا الشرط منك، بل إننا ذهبنا للمحامي لتوقيع عقد الشقة، وبعد التوقيع جعلني المحامي أوقِّع على تعهد بعدم عمل أية تعديلات في الشقة..
لكن الأمر لا يطاق فعلاً.. أهم غرفة في شقتي التي هي ملكي ضيقة جدًا. ثم إنني بالفعل لا أعرف ما تضعه خلف هذا الجدار باستثناء ذكرياتك المزعومة.
هناك رائحة عفن دائمة تتسرب من تحته.. أذكر أنني دعوت ضيوفي ذات مرة للغداء وقد أعددت حساء فاصوليا ممتازًا له رائحة رائعة، لكنهم عزفوا عن الأكل؛ لأن رائحة العفن تلك تزايدت فجأة فصدّت نفوسهم..

وماذا عن الأصوات؟.. أصوات واضحة تتكلم بالداخل.. أحيانًا أخدش الجدار بظفري متوقعة أن يسمعني أحد بالداخل...
ذات مرة تعالت الأصوات فعلاً، فأصابتني نوبة هستيرية ورحت أصرخ في وجه زوجي: "هذا الجدار يثير جنوني.. إن هذا لا يطاق!.. لا يطاق!!"
الأدهى أن هناك من يدق على الجدار كثيرًا كأنه شخص يستوثق من وجود فراغ خلفه. وذات مرة فوجئت بنجفة الصالون تضاء من دون أن يضغط أحدهم المفتاح، وسمعت صوتًا كأنه صوت مثقاب يدار في الجهة الأخرى من الجدار، فصرخت بقوة.. عندها انطفأ النور ثانية..

عزيزي أستاذ "عصام".. أكره أن أقول هذا لكني أخطرك أنني سأهدم الجدار ومهما كانت المسئوليات القانونية. فقط أردت أن تعرف؛ لأنني شخصية واضحة تتحرك في النور.

مع الشكر.
"ثريا القماش"

"بص وطل" - الحوادث:
بناء على بلاغ من "محمد القماش" (تاجر) للعقيد "هاني الحفناوي"، انتقل رجال الشرطة إلى شقة صاحب البلاغ بالعجوزة، حيث تبين أن مالك الشقة السابق "عصام محمد فتحي" -في نيوزيلندا حاليًا- قد قام ببناء جدار في غرفة في الشقة، وأصر على ألا يهدمه المالك الجديد، لكن السيدة "ثريا" زوجة المالك الجديد للشقة أصرت على أنها تشم رائحة كريهة عبر الجدار، وقامت بجلب عمال لهدمه. بعد الهدم فوجئت بوجود جثتين لرجل وامرأة في حالة تحلل تام، ويبدو أن صاحب الشقة السابق قد قام بقتلهما ودفنهما في هذا الجزء ثم بنى جدارًا بنفسه. أثبت فحص الأوراق الخاصة بالقتيلين أن الجثة لـ"محمود الشيمي" وزوجته، ويبدو أن القاتل دعاهما لشقته بحجة اقتراب سفره ثم دس لهما مخدرًا في الشراب، وقام بجرهما إلى هذا الجزء من الغرفة، واستكمل بناء الجدار الذي كان قد بدأه فعلاً قبل ذلك. وفي الأيام التالية استدعى عمال المحارة والنقاشة ليتأكد من أن القبر مموه بالكامل. يعتقد أن سبب القتل هو خلافات مالية بينه وبين القتيل. أمرت النيابة باستكمال التحقيقات.

عزيزي "عصام":
أعتقد أن خطاباتي لم تصل لك.. ربما لأنني لم أرسلها قط.. ربما لأنني لم أكتبها قط. على كل حال فهمت أشياء وأشياء، وقد بدأت أخيرًا أستوعب الحقيقة الشنيعة التي لم أستوعبها قط بسبب سذاجتي، وإنني لأتذكر بجلاء كل ما حدث يوم دعوتنا لدارك لتصفية ديونك لي.. زوجتي تتحدث عن أننا يجب أن نلحق بك في نيوزيلندا لاستعادة الود القديم.. وأعتقد أني أوافقها على ذلك، فما رأيك أنت؟
المخلص "محمود"
تمت

عهد Amsdsei 17-03-12 07:31 PM

القصة الرابعة

بعد الثانية صباحا ً

*****************

الحلقة الاولي :

ليكن يا أستاذ (مراد)..

صدقني أنا مصغ جيدًا لما تقول، لكني كذلك أتابع ما نراه على الشاشة.. أنا من النوع الذي يركز أفضل إذا لم ينظر لعيني محدثه أثناء الكلام، وهذا لا يعني أنني أستخف بك. فقط أرجو أن تعيد الشريط لبدايته..



كنت أتساءل منذ البداية عن سبب اهتمامك برأيي كمصمم للخدع الجرافيكية للأفلام. نحن نحقق نتائج لا بأس بها في مصر، لكن هذه الأمور تكلف مالاً وتحتاج إلى سخاء في الإنتاج.. الإعلانات هي مصدر دخلي الأول كما تعلم..


عندما دخلتْ عليّ السكرتيرة (شاهنده) وقدمتْ لي بطاقتك حسبت أنك تنوي عمل سلسلة من الإعلانات عن المول الخاص بك.. (شاهنده) حسناء؟.. أرى هذا من نظراتك وعينيك الموشكتين على الجحوظ، لكن لا تنس أنها واجهة إعلانية أخرى ولابد أن تكون براقة أكثر منها صادقة أو بارعة.. تفضل..اسمي (كمال جودة).. أرجو أن تشرب القهوة وأن تحكي لي سبب هذه الزيارة الكريمة..

كان ما قلته لي ببساطة شديدة هو:
ـ" افتتحنا المول منذ شهر.. أشياء غريبة تحدث"

هذه معلومة غير معتادة.. في العادة نتظاهر بأن كل الأشياء تحدث بالكيفية التي رسمناها لها وأننا لا نتلقّى مفاجآت. هذه طبيعية تجارية مهمة. لكنك تكلمني عن المول الخاص بك وتحكي قصة عجيبة بعض الشيء:
ـ" العاملات يقلن هذا في الصباح وأنا لا أصدق.. العمال يؤكدون هذا وأنا أتهمهم بأنهم يبتلعون مخدرًا ما.. إنهم يلاحظون أن أوضاع المانيكانات تتغير في الصباح عن الوضع الذي تركوه أمس.. هذه أشياء تلاحظها النساء أفضل لأن الرجال......."


ـ"نعم.. نعم.. الرجال حمقى لا يلاحظون أي شيء على الإطلاق.. هذا معروف"

-"بالضبط.. هناك ذراع موديل ترتفع وأخرى تنخفض.. هناك ساق تحركت.. هناك مانيكان كامل تغير موضعه فصار بقرب الدرج الداخلي.. أنا لا أصدق أن لصًا يتسلل للمول ليلاً – برغم الحراسة الممتازة - فلا يسرق أي شيء وإنما ينقل بعض التماثيل من مكانها.."


ـ"كل هذا جميل لكن – وسامحني على غبائي – لا أرى علاقة قوية بين هذا والخدع الجرافيكية"


هززت يدك مضمومة الأصابع على شكل قمع بمعنى أن أنتظر قليلاً وقلت:
ـ"بالطبع كان أول ما فعلته هو أن جعلت أحد رجال الأمن يمضي النوبتجية داخل المول، وبصرف النظر عن كونه فعل ذلك أم نام كلوح الخشب حتى الصباح، فهو يؤكد أنه لم ير شيئًا، والمانيكانات لم تغير موضعها.. لو كانت تغير مكانها فعلاً فهي خجول جدًا لا تفعل ذلك أمام العيون...."



لكنك تقول إن هذا الحارس كف عن مراقبة التماثيل ليلتين، وعندها تكرر الشيء ذاته وعدت تسمع القصص عن المانيكان الفلاني الذي أدار رأسه وذلك الذي رفع ذراعه. قمت أنت بتكوين شبكة من الوشاة كالتي يصنعها طغاة العالم الثالث.. الكل يراقب الكل. وكل عاملة مكلفة بأن تعرف آخر ما قامت به زميلتها قبل أن ترحل.. هل هناك من يبقى في المول وحده بعد انصراف الآخرين؟.. لا شيء..


أنا أفهم هذا.. وأكون شاكرًا لو كففت عن النظر إلى سكرتيرتي كلما دخلت الغرفة.. لا يعني هذا إنني أغار عليها، لكنه يشعرني بأنك تتجاهلني، دعك من أنه يعطيني فكرة سيئة جدًا عن أخلاقك، وهي الفكرة التي تزداد قوة كلما رأيت عينيك المحتقنتين وشاربك الرفيع وذلك الفم المفتوح الذي يتصاعد منه دخان السجائر كما يتصاعد غاز الميثان من مستنقع..


هنا فقط خطر لك أن تشغل الدائرة التلفزيونية المغلقة لتسجل ما يحدث ليلاً..
بيني وبينك هي فكرة مرعبة.. كابوس يطاردني طيلة حياتي هو أن أرى ما يحدث في شقتي المظلمة الخالية المغلقة أثناء سفري.. ماذا يدور فيها بالضبط؟


أنت قمت بتشغيل عدة كاميرات من التي تراقب العملاء، وكلفت رجل الأمن السهران أمام الشاشات بتسجيل أي شيء غريب يراه دون تدخل.. إن الإضاءة الليلية في تلك القاعات خافتة مرعبة تجمد الدم في العروق، لكنها تسمح برؤية صورة معقولة..

هذا هو الشريط إذن.. هذا ما صورته الكاميرات أمس...


فلنر معًا...
يتب

عهد Amsdsei 17-03-12 07:31 PM

بعد الثانية صياحاً الحلقة الثانية

اقترب يا أستاذ مراد
التوقيت على الشاشة يدل على الثانية والنصف وخمس دقائق صباحًا.. ماذا نراه هنا؟..

هناك فتاة.. فتاة لا أرى وجهها ولا ملامحها، لكنها تتقدم بحركات متصلبة بطيئة لتعبر الكادر.. انتظر.. سوف أثبت الكادر وأكبر ملامحها.. هل ترى؟.. سأزيل الضوضاء البصرية قليلاً.. هل تعرف هذا الوجه؟.. لا.... بيني وبينك أعتقد أن هذا ليس وجهًا بشريًا على الإطلاق.. أقرب لوجه دمية من الدمى التي تضعون عليها الثياب في المحلات..

إنها تدور.. تواجهنا.. لحظة.. أرى شخصًا آخر يتحرك.. إنه ذلك الموديل الذي كان في ركن المكان.. يتحرك بنفس الحركة المتخشبة..

هذه المانيكانات حية إذن.. بصراحة لا أعتقد أن هذه خدعة جرافيكية ما.. أليس هذا ما تريد معرفته؟.. أمن أجل هذا جئت تطلب رأيي؟

لا توجد حيلة.. ليس هذا تحريكًا بإيقاف الكادر Stop motion.. في بدايات السينما العالمية عرض الفرنسيون على العالم فيلمًا اسمه (بيت الأشباح) يظهر أكوابًا وأطباقا تتحرك تلقائيًا، وقد حير هذا الأمر الأمريكيين الذين راحوا يبحثون عن خيوط خفية.. في النهاية عرفوا مبدأ التحريك بإيقاف الكادر.. حرك الكوب ملليمترًا ثم التقط صورة.. حركه ملليمترًا آخر والتقط صورة.. عند عرض الفيلم يبدو الكوب حيًا.. لكن هذا ليس الحال هنا..

تفسيري؟.. تفسيري الوحيد هو أن هؤلاء أناسٌ متنكرون كالدمى.. هناك قصة قرأتها قديمًا عن لصوص تنكروا كدمى وظلوا ثابتين حتى أغلق المتجر أبوابه. أرى أنه لا بد من أن تفحص هذه التماثيل في الصباح. تقول إن شيئًا لم يسرق من المول ليبرر هذه الخدعة؟

لا أعرف.. كل ما أستطيع قوله هو أن هذه الصور أصلية تمامًا.. هل هذا كل شيء؟..

لا؟.. تقول أن أنتظر حتى الدقيقة 2:46؟.. ماذا فيها؟

إن عددهم يتزايد وهم يتحركون في كل اتجاه.. في الواقع يبدو أن المول واقع تحت غزو هذه الدمى. مشهد كابوسي مريع.. لا أحب أبدًا أن أجد نفسي بينهم..

ولكن.. هناك جوار قاعدة الدرج أرى هذه البقعة الضوئية.. ماذا يحدث؟.. إنها تزداد وضوحًا.. أرى الشكل الخارجي يظهر.. إنها فتاة.. سلويت فتاة رقراق شفاف.. برغم كل شيء يمكن أن أرى موضع العينين والفم.. إنها تستطيل وتفرد ذراعيها.. هذا تجسد..

لا.. لا أعتقد أن هناك أي عبث بهذه الصورة. لا تعتقد أنك ضحية خدعة ما. ما تراه هو الصورة ذاتها.


ما هذا؟.. لا أعرف.. يذكرني بتجسد الإكتوبلازم في تجارب تحضير الأرواح. إن شبكة الإنترنت تعج بصور كهذه لكنها جميعًا زائفة، أما هنا فأنا فعلاً لا أعرف ما أعتقده.. لو سمحت لنفسي بالتعبير فأنا أعتقد أن هذا شبح.. لا أجد تفسيرًا آخر..



هذه ظاهرة غريبة.. لكن دعني أقل شيئًا: أنا لست طفلاً يا أستاذ (مراد) وإنني لأرى في نظرات عينيك أنك تعرف أكثر بكثير مما تقول.. لنقل إنك لست مذعورًا بما يكفي.. لست مصدوًما بما يكفي.. أن للمشهد خلفية عندك..

أراك تريد الكلام.. هلم.. تعالي يا (شاهنده) وقدمي لضيفنا بعض المياه الغازية الباردة.. هيا.. حاول أن تكون صريحًا معي كما يجب على كل إنسان أن يكون صريحًا مع مصمم الجرافيك الخاص به.. ماذا تقول؟

أقول إنني أعرف مصدر هذا كله.. هناك من مات في هذا المول.. لم نجد الجثة قط، لكن الكل يجمع على أن حالة وفاة مرعبة حدثت هنا.. نحن لا نحكي هذه القصة علنًا، فهي مضرة بسمعة المول، لكن ما يحدث ليس له تفسير آخر.. أنا طلبت رأي من يفهم هذه الأشياء وقال لي إن حالات الوفاة التي يصحبها عنف تترك الكثير من الطاقة النفسية في مكان الوفاة.. هذه الطاقة تتردد كما الصدى بلا توقف.. طاقة تحرّك وتُحدِث جلبة وتتجسد أحيانًا.. فقط كنت آمل أن تؤكد لي أن الشريط ملفق وأن هناك من يريد العبث بي

اطمئن من هذه الناحية!.. لا أحد يعبث بك على الإطلاق.. سوف تحكي لي هذه القصة بالتفصيل، وفي الوقت ذاته أريد أن ترتب لي السهر ليلة في هذا المول.. وحدي!.. نعم.. أنت لم تخطئ سماع ما أريد!

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:32 PM

بعد الثانية صباحا ً .. الحلقة الثالثة

نعم يا أستاذ "مراد"..
أنا أتصل بك من المول..
الساعة الآن الثانية والنصف وأنا متوارٍ هنا في غرفة المراقبة. واضح أن هذه الظاهرة خجول ولا تتم أبدا أمام عيون المشاهدين.. آمل أن أرى شيئًا يؤكّد ما رأيناه أمس.. لهذا السبب طلبت منك أن تصرف رجل الأمن الليلة..


أنا متحمس فعلاً.. هذا ليس عملي ولا مجال اهتمامي، لكنني أكره أن أرى ظاهرة بلا تفسير.. دعك من أنني أريد التأكد من عدم وجود ألاعيب لا أعرفها. الشريط سليم ولم يمسّ لكن هذا لا يستبعد قيام شخص ما بألعاب ضوئية أمام العدسة.. لا أعرف كنهها لكن لو كانت موجودة فمن الضروري أن أرى وأن أفهم..

الفتاة اسمها (عزة) إذن؟... فتاة فقيرة حاصلة على شهادة متوسطة، وكانت تعمل بائعة في المول وقت افتتاحه.. لقد اختفت ولم يستطع رجال الشرطة العثور عليها، لكن زميلاتها يقلن همسًا إنها ماتت هنا..


أنت تعتقد أن شبحها يحوم في المول ليلاً.. لكن ما الذي تجنيه من تحريك المانيكانات؟.. الأشباح تظهر لتخيف لكنها لا تتسلى، دعك من أنها لا تخفي آثار عبثها.. ما قيمة التخويف الذي لا يراه إلا أقوياء الملاحظة؟
ما هذا؟.. هناك من يفتح الباب!.. النجدة!
صبرا.. إن......
لا عليك.. هف ف!... الحمد لله.. إن هناك قطا حبيسا هنا والباب كان مواربًا.. لقد نظر لي للحظة ثم توارى.. مخيفة هذه القطط فعلاً.. عيونها تنطق بالكثير...


أنت تعرف أنني أمقت جلستي هذه، وبالتأكيد أفضّل أن أذهب لأمضي الليلة في داري. لكن ما قيمة هذه السهرة إذن إن لم أر ما يحدث؟
أنا أراقب الشاشات.. لو رأيت شيئًا غريبًا سأتصل بك.. سأسجّل ما يحدث طبعًا.. في هذا الضوء الخافت الواهن أرى قاعات العرض وأرى المانيكانات.. مفزعة حقًا ولو أطلت النظر لشعرت بأنها تتحرك لكن هذا وهم طبعًا..

ما هذا؟.. فعلاً هذا المانيكان يتحرك.. الضوء خافت واهن، والصورة تهتز قليلاً، لكنه يتحرك.. الآن أرى هذا الضوء يتجسد... بقعة تتجسد ببطء على شكل فتاة ترفع يديها صارخة..

أنا لا أهذي صدقني.. كل شيء على الشاشات أمامي..



سوف أتركك الآن.. يجب أن أرى بنفسي.. لم أعد أريد أن أصدق.. سوف أجد الوقت الكافي لأرى كل شيء رأي العين قبل أن تكف الأجسام عن الحركة..

رحمتك يا رب!... لقد دبت الحياة في كل شيء.. ما أراه هو رقصة بطيئة بلا هدف محدد تدور في الضوء الخافت حول مركز تتجسد فيه بقعة الضوء هذه.. إن التماثيل تتراجع ثم تتقدم.. وداعًا.. سوف أخرج لألقي نظرة وأعود إليك...
.........................................
.........................................
.......................................

نعم يا أستاذ "مراد"..
لقد عدت.. هذا أنا..

لقد فهمت كل شيء الآن وعرفت سبب هذه الظاهرة.. اسمع.. هل يمكنك أن تلحق بي هنا؟.. نصف ساعة من الآن؟.. سوف أشرح لك كل شيء.. فقط أحضِر معك "رفشا" واستعد للمفاجأة.. لا تضيع الوقت فلا يمكن الشرح على الهاتف.. تعالَ حالاً..



يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:33 PM

بعد الثانية صباحا ً .. الحلقة الرابعة :

مرحبًا يا أستاذ مراد..
جئت سريعًا كما أرى.. إنها الثالثة والنصف صباحًا.. جميل أنك أحضرت معك الرفش..

لا يوجد شيء يتحرك الآن لكنك تلاحظ أن كل التماثيل غيّرت مكانها. بالطبع لا تعتقد أنني نقلت كل تمثال من مكانه، دعك من أن الشريط موجود.. لقد سجلت المشهد كاملاً..

أنت محق بصدد الطاقة النفسية ومحق بصدد التماثيل.. هذه الطاقة النفسية الكاسحة حركت كل شيء هنا، وكان مصدرها تلك البقعة الضوئية أسفل الدرج..
هل تعرف ما يوجد هناك؟..


هات الرفش.. سوف أحفر هنا.. عملية شاقة طبعًا لكني سأفعلها بسرعة.. سوف أبدأ بتحطيم طبقة السيراميك هذه ثم أنتزع الملاط من تحتها.. أرجوك أن تتركني أفعل هذا.. لو اتضح أنني مخطئ فلسوف أصلح كل شيء على نفقتي الخاصة..


تلك الفتاة البائسة لقيت حتفها بطريقة شنيعة.. لقد هوى قاتلها على رأسها بجسم ثقيل عدة مرات، فلما سقطت أرضًا وجد نفسه في مأزق.. كانت عملية استكمال الدرج جارية، وكانت هناك حفرة مليئة بالرمال لذا ألقى بجثتها هناك وواراها بالرمال.. كانت هناك أجولة بها أسمنت.. هكذا قرر أن ينتهز الفرصة ولعله استعان بمعونة واحد آخر، وهكذا دفن الجثة وفوقها طبقة من الرمال ثم صب فوقها طبقة من الأسمنت فالمزيد من الرمال.. وفي الصباح أشرف بنفسه على تركيب السيراميك في الموضع ذاته لتدفن الجثة إلى الأبد..


لهذا يبدأ ذلك الضوء الغامض عند أسفل الدرج.. هذا هو المكان.. الفتاة تعلن عن موضع قبرها..
كيف حدث هذا؟.. من الفاعل؟... القصة هي البساطة ذاتها.. صاحب العمل الذي يفترض أن أية فتاة تعمل عنده هي جارية ملك يمينه، خاصة إذا ما كان مثلك لا يترك امرأة في حالها. الفتاة كانت جميلة فقيرة شريفة، وفي ذلك اليوم طلبتَ منها أن تبقى بعد انصراف الجميع لتساعدك.. إن الافتتاح قريب ولا بد من العمل الشاق..

هنا كشفْتَ عن وجهك القبيح.. لكن الفتاة كانت باسلة وقاومتك بعنف وأطلقت صرخات كفيلة بإيقاظ الموتى.. هكذا بحثت حولك عن شيء يخرسها.. وجدت ذلك الفأس الذي تركه العمال قبل انصرافهم فهويت به على رأسها.. مرة.. ومرة.. ومرة..

نعم يا سيدي.. أنتَ القاتل.. وهذه هي الجثة.. إنني أزيل الملاط فأرى معالم جسد متحلل اختلط بالرمال والأسمنت لكنه لم يصر هيكلاً عظميًا بعد..
لا بد أنك أبديت دهشة صادقة أمام رجال الشرطة وتساءلت عن سبب اختفائها.. حسبت أنك نجوت بفعلتك لولا أن العمال لفتوا نظرك إلى هذه الظاهرة..
ها هي ذي الجمجمة.. ما زالت بعض معالم الوجه البشري موجودة.. تلك حقيبتها ولا شك.. كان عليك أن تدفنها معها طبعًا.

أنت تنكر يا أستاذ مراد.. هذا حق.. ليس هناك ما يثبت أنك أنت القاتل سوى كلامي.. يمكنك أن تنجو بفعلتك..







لكنك تنسى أشياء مهمة.. عندما جئت أنا لهذه الغرفة كنت "كمال جودة" مصمم الجرافيكس.. لكني خرجت لأرى ما يحدث بالخارج وتركتك على سماعة الهاتف.. الآن صرت أعرف كل شيء وأذكر تفاصيل المشهد.. والسبب؟

إن الطاقة الروحية تفعل أشياء كثيرة، لكنها تحتاج أحيانًا إلى جسد ينفِّذ لها ما تريد... الإضاءة ضعيفة وأنت مرتبك تركز عينيك على هذا القبر الذي يتسع، فلا تلاحظ هذا الجرح البليغ الذي ظهر فجأة في رأسي.. لا تلاحظ عظام جمجمتي المهشمة.. لا تلاحظ التغير الذي طرأ على ملامح وجهي حتى لم تعد تمتّ للبشر بصلة.. لو أردت الدقة لقلت إنني أبدو كفتاة متحللة تحطمت جمجمتها..

نعم.. الآن ترى كل شيء في الضوء الخافت.. لا تنس أننا وحيدان فلا جدوى من صراخك يا أستاذ "مراد".. لا جدوى من صراخك أبدًا..




تمت

عهد Amsdsei 17-03-12 07:36 PM

القصة الخامسة

في انتظار التترات

*******************

في انتظار التترات - الحلقة الاولي

سأعترف لك بشيء: أنا أمقت أكلة لحوم البشر.. إنهم سمجون يفتقرون لروح الدعابة، ولهم عادات غذائية مقززة نوعًا..

مصاصو الدماء كذلك لا يوحون بالثقة.. إنهم يكذبون كثيرًا جدًا جدًا.. موضوع أن تسمح لهم بالدخول بكامل إرادتك الحرة يجعلهم لا يكفون عن الكذب.. أما المذءوبون فهم لطيفو المعشر.. لا أملك تحفظات ضدهم، لكن عليك أن تتذكر التقويم القمري جيدًا.. لو جلست مع رجل مهذب، ولاحظت فجأة مع قدوم الليل أنه متوتر قلق وأن عينيه تحمران وأنه يريد أن يترك وشأنه.. ولو دفن وجهه بين ذراعيه ثم رفعه؛ لتجد أنك تحدق في وجه ذئب، فهي مشكلتك أنت..

"الزومبي" كذلك لا يروقون لي؛ بسبب رائحتهم الكريهة.. هم بطيئو الحركة ويمكن أن تفر منهم، لكنك تنسى عامل "الدهولة" أو التورط، حيث ترتبك وتتعثر وتسقط على الأرض، وحينما تنهض على قدميك تكتشف أنك محاط بعشرين منهم.. إنهم يتحركون ببطء لكن بثقة..

بصراحة.. لو كان عليك الاختيار ولو كان عليك أن تجد عريسًا لابنتك، فعليك بالمذءوبين.. فقط تأكد من أن تبتعد عن يوم الاكتمال القمري..

أقدم لك نفسي: "ديفيد كالاواي".. بطل أفلام رعب.. لا أعني أنني ممثل بل أعني أنني أعيش في فيلم رعب فعلاً.. أنت مندهش.. أليس كذلك؟.. أنت تعتقد أنه لا وجود لحياة بطل الفيلم داخل الفيلم.. إنه مجرد سيناريو مكتوب وممثلين.. حسن.. دعني أؤكد لك أن لنا حياتنا الخاصة بالداخل.. أنا كائن حي لي إرادة مستقلة داخل الشاشة..

لماذا أنا "ديفيد"؟.. هل رأيت فيلمًا أمريكيًا بطله ليس "ديفيد" أو "سام" من قبل؟.. إن سيطرة اليهود على هوليوود أمر صار مملاً..

هناك قواعد عامة جمعها محبو أفلام الرعب؛ ليعرف بها البطل كيف يظل حيًا حتى تترات النهاية.. أنا جربت هذه النصائح ووجدتها مفيدة كلها.. والسبب هو أن كتَّاب أفلام الرعب ينقلون من بعضهم نقلاً حتى صارت هناك قواعد ثابتة نعرفها..

في البداية أنا أراقب التترات لأعرف أين اسمي بالضبط.. لو كان اسمي هو الأول ضمن الممثلين فأنا سأعيش حتى النهاية.. طبعًا هناك أفلام إيطالية شنيعة اسمها "الجياللو" يموت فيها الجميع حتى البطل والمخرج والمصور، لكن سنفترض أن هذا الفيلم أمريكي..



هناك طريق سريع في مكان ما من الغرب الأمريكي.. أنا أقود سيارتي الفارهة جوار فتاتي وأُصغي لموسيقا الروك. اسمها "سارة" -تأثير يهودي آخر- وترتدي ثيابًا خليعة.. هي كذلك مدمنة مخدرات.. هكذا أعرف يقينًا أنها ستكون الضحية الأولى.. الفتيات الخليعات يمُتْنَ في نصف الفيلم الأول..

يمكنني الآن أن أصنِّف الفيلم الذي نحن فيه بسهولة.. هذا من أفلام الطرق السريعة.. هناك مليون فيلم بهذه الطريقة.. رحلة في طريق سريع مقفر.. ربما تطاردنا شاحنة مجنونة أو يستوقفنا شرطي سير أو تتعطل السيارة.. بعد هذا نجد أنفسنا في بلدة ليست على الخرائط، ويعيش فيها أكلة لحوم بشر أو عبدة شيطان أو مسوخ تشوهت بالانفجار النووي.. طبعًا الشرطي جزء من هذه المؤامرة.. و.. فعلاً.. السيارة تصدر أصواتًا غير مريحة على الإطلاق.. إنها موشكة على أن تتعطل..

ماذا ينتظرنا.. هل لاحظ أحد اسم الفيلم؟.. هذا غريب.. أنا لم ألحظه وكان يمكن أن يساعدني.. لو كان اسم الفيلم "الغيلان" أو "عندما يكتمل القمر" مثلاً لأمكننا أن نتوقع ما سنراه..

قالت "سارة" وهي تقذف في فمها بقطعة لادن:
- (اسم المخرج "خافير لوبيز").

آه !.. ذلك الوغد المكسيكي السادي!.. أعرفه.. سوف يكون فيلمًا داميًا فعلاً، فهو على شيء من المرض النفسي.. غالبًا لن يكون هناك شيء خوارقي.. مجرد مجموعة من السفاحين..

سوف نرى.. سوف نرى....

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:37 PM

في انتظار التترات .. الحلقة الثانية

السيارة تالفة فعلاً.. لا أعرف ما المشكلة، لكني أنظر إلى الأفق عالمًا أنني سأرى البلدة.. لا شك في هذا.. لو لم توجد بلدة فلا فيلم هنالك.. "سارة" تنظر لي عبر زجاج السيارة وتلوك اللادن. لو تركتها هنا سأعود لأجد عنقها قد طار طبعًا.. ربما كان من الأفضل أن تأتي معي..
طلبت منها أن تلحق بي، ولم أنس أنْ أدُسَّ في جيبي مسدسًا وخنجرًا.. معي صليب صغير لكنني لن أستعمله، فأنا متأكد من أن هذا ليس فيلمَ مصاصي دماء.. مصاصو الدماء تقابلهم في الأفلام ذات الجو الفكتوري.. حيث الشمعدانات والكونتيسات والقِلاع المهجورة، أو تقابلهم في صورتهم العصرية بمعاطف الجلد الطويلة وموضات (البانك) فوق أسطح نيويورك..

مشينا في الصحراء بعض الوقت.. أعرف أن الظروف مناسبة جدًا كي تخرج دودة عملاقة من الرمال تبتلع "سارة" وتغوص ثانية.. لكن هذا لم يحدث..

هذه هي البلدة.. خالية تمامًا والريح تعوي في شوارعها، وهذا الباب يُفتَح ويُغلَق بلا انقطاع.. هناك كنيسة صغيرة أو ما يبدو كذلك.. بالطبع لا تكون الكنيسة كنيسة في هذه البلدان المهجورة أبدًا.. أنت تدخل لتجد مذبحًا تمارس فيه عقيدة غامضة.. ربما تجد فتاة مقيدة يستنزفون دمها..
هناك حانة صغيرة.. ندخلها... وأتجه إلى الكاونتر وأقرع الجرس..
لحظة !.. هل تلاحظ أن صوت الموسيقى قد توقّف؟ كانت هناك موسيقى تصويرية وتوقفت.. ثمة شيء موشك على الحدوث!...

"سارة" تفتح خزانة جدارية صغيرة فيعوي قط واثبًا منها.. تطلق "سارة" صرخات الهلع وتثب للخلف..ثم تهدأ قليلاً وقد أدركت أن هذا قط..

لكني أعرف أفضل منها.. القط في أفلام الرعب لا يمر بسلام أبدًا.. إنه خضة مزيفة تجعلك تطمئن قبل أن يأتي الرعب الحقيقي بثوان..
قلت لها وأنا أنظر حولي:
ـ"سوف يثب شيء علينا الآن.. توقّف الموسيقى التصويرية لا يريحني"

هنا حدث ما توقعت.. انفجرت الموسيقى التصويرية، ووثب ذلك الرجل من خلف الكاونتر.. رجل ذو وجه مشوه تمزق أكثره.. وثب علينا ثم سقط وقد اصطدم بالكاونتر نفسه.. ارتطم رأسه بالرخام وتكوم هناك خلفه..

جريت لأعرف ما حل به فأدركت أنني كنت محقًا بصدد نوعية الرعب في هذا الفيلم.. هذا رجل تعرض لخطر مرعب.. خطر يلتهم أكثر جسدك.. هل هو صاحب الحانة ؟.. لا أعرف.. إنه ميت..


سمعت "سارة" تصرخ من جديد فنظرت للخلف..

كان ذلك المسخ الشبيه بالإنسان يزحف على أربع خارجًا من باب جانبي.. إنه يحمل شكلاً بشريًا لكنه يعوي كالذئاب والدم يسيل من شدقيه.. لا داعي للبحث عمن قتل الساقي أو صاحب الحانة.. إنه أمامي الآن..

أخرجت المسدس وأطلقت ثلاث رصاصات على ذلك الشيء فعوى بجنون ثم تكوم على الأرض في بركة دم..
سألتْ "سارة" وهي ترتجف:
ـ"ما.. ما هذا؟"

ركلتُ الجثة بطرف حذائي وقلت:
ـ"نتيجة تجربة نووية يقوم بها الجيش الأمريكي في هذه الصحراء.. هذا احتمال. ربما التوأم السيامي المشوه لصاحب الحانة.. ربما هناك عالم مجنون قريب من هنا يعبث بالجينات.."

ـ"لكن هذا مرعب.."

ـ"ومَن قال يا عزيزتي إننا في فيلم كوميدي أو عاطفي؟.. هذا فيلم رعب فلا أقل من أن يتم إرعابنا.."
فقط أدعو الله ألاّ يكون فيلمًا كل مهمته أن يعرض لنا براعة الماكيير.. إن هذه الأفلام كثيرة جدًا.

سمعتُ "سارة" تصدر صوتًا غريبًا فنظرت لها.. كانت تعوي كالوحوش، ثم إنها سقطت على يديها وركبتيها وبدأ الزبد يسيل من شدقيها!

يا لك من مخبولة..!.. هل جرحك المسخ فنقل لك العدوى؟.. لقد تحولتِ بسرعة جدًا.. كنت أعرف أنك ستموتين لكن ليس بهذه السرعة!!

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:38 PM

في انتظار التترات (3)


ضغطت على أعصابي وصوبت المسدس نحوها وأطلقت رصاصتين.. ما زالت معي عشر طلقات في جيبي، ومعي رصاصة فضية لو قابلت مذءوبًا، لكن لا أعتقد أنني سأحتاج لها في هذا الفيلم.. المخرجون المكسيكيون لا يحبون المذءوبين.. ليسوا جزءًا من ثقافتهم..
ونظرت في حسرة إلى الجثة.. جميلة جدًا للأسف ولم أقبِّلها ولا مرة، لكن سيكون عليّ أن أحرق جثتها وجثة صاحب الحانة لأن هذه المسوخ تنهض دائمًا في الوقت غير المناسب..

هكذا أحضرت عددًا من زجاجات الخمر وسكبتها على الجثتين وتأهبت لأن أشعل عود ثقاب، عندما سمعت من يقول بصوت واهن:
ـ"المقبرة.. كل شيء بدأ من المقبرة"
مشيت بحذر نحو مصدر الصوت فوجدت ذلك المزارع العجوز يجلس على الأرض في ركن القاعة محملقًا في الفراغ وهو يردد:
ـ"المقبرة.. اذهب هناك لتعرف بنفسك"
عندما دققت النظر أدركت أنه كفيف.. القاعدة الأولى في أفلام الرعب هي أن العجوز أو الأبله الذي يردد: (المقبرة أو البحيرة) صادق دائمًا ويعرف الكثير، لكنه كذلك يموت مبكرًا جدًا. القاعدة الثانية المهمة هي: لا تذهب هناك أبدًا... (هناك) هذه قد تكون أي مكان.. فقط لا تذهب إليه..
تركته حيث هو وقد نسيت موضوع الحرق هذا.. في الخارج كان العصر يغمر البنايات بشمسه غير الرحيمة، وكانت الريح الساخنة تهب من مكان ما مع الرمال..
رأيت من خلف البناية سيارة شرطة تقترب.. إنه المأمور.. يترجَّل منها وهو يحمل بندقية من الطراز الذي يشدون فوهته للتلقيم فتحدث صوت (كليك كلاك كليك).. لا أعرف اسمها لكنها موجودة دائمًا في هذه الأفلام..
صبرًا.. لقد سمِع صوت الطلقات وجاء يتبين الأمر.. مأمور الريف بالكرش والسروال المتدلي والقبعة والنجمة على صدره وكل (الألاطة) اللازمة.. لكن هذا المأمور يملك شيئًا آخر هو اللسان المشقوق الذي يخرج ويدخل بلا توقف.. إنه منهم لو كان لي أن أقول هذا..
كان ظهره لي ولم يكن أمامي الكثير من الوقت لأتردد.. أحكمت التصويب ثم أطلقت رصاصة دقيقة على رأسه.. استدار ونظر لي ثم سقط أرضًا.. المؤثرات الخاصة بإطلاق الرصاص غير متقنة في هذا الفيلم.. كان ينبغي أن تقذفه الطلقة للأمام وأن نرى الثقب بوضوح والدخان يتصاعد منه، فلابد أن هذا فيلم قليل التكاليف صنعه مستقلون عن نظام هوليوود Indies..
على كل حال اتجهت لجثته وانتزعت البندقية من يده...
سوف تكون مفيدة عندما نصل لذروة الفيلم..

اتجهت إلى سيارة الشرطة واتخذت موضعي خلف المِقود.. كان صوت جهاز اللاسلكي عاليًا فسمعت من يقول:
ـ"(روي).. نحن متأكدون من وجود شاب وفتاة في الحانة.. سنعد النار ومعدات الشواء إلى أن تعود بهما!"
فهمت.. هذه القصة مكررة أكثر من اللازم.. حسب أفلام الرعب الأمريكية، فمن النادر جدًا أن تقابل بلدة في ضاحية يأكل أهلها الدجاج واللحم البقري.. كلهم يأكلون البشر..

بدأت الجثتان في الحانة تتحركان.. تمشيان.. ثم رأيتهما على الباب.. "سارة" وصاحب الحانة يتقدمان نحوي.. طبعًا تُمسِك "سارة" بذراع العجوز الكفيف وتقضم منها قطعًا.. لقد صار هذا مملاً خاصة أن الذراع غير متقنة الصنع..
أدرت المحرك وأنا أعرف أنه لن يدور.. مهما كانت السيارة جديدة فالمحرك لن يدور ما دمت أستخدمها للهرب...هيا.. كرو كرو.. كرو كرو.. كرو كرو...

أخرجت فوهة البندقية من النافذة وفجَّرت رأسي الاثنين مرة أخرى.. ثم عدت أحاول.. أخيرًا.. دارت السيارة وانطلقت تنهب الطرقات...
صحت في فرحة ونظرت لمرآة الرؤية الخلفية فرأيت ذلك الشيء الذي كان يتوارى في المقعد الخلفي!.. لقد نسيت أنك لا تنجح أبدًا في الفرار بالسيارة في أفلام الرعب!

الأسوأ هو ذلك الصف من الموتى الأحياء الذي يقف ليسد الطريق عليّ.. لا يهم.. سوف أصدم هذا الجمع فأمزق عشرة على الأقل!

يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:38 PM

في انتظار التترات (4)

اندفعت السيارة وسط صفوف الموتى الأحياء.. إن ذوي الأعناق الحمراء Rednecks لا يطاقون أصلاً، فكيف لو تحولوا إلى زومبي؟

يمدون أيديهم عبر الزجاج... أحدهم وثب على الزجاج واصطدم به وتهشَّم وجهه فسال دمه.. يحب المخرجون الجدد هذه المؤثرات المقرفة جدًا.. لكني أعتقد أن هذا المسخ الذي ضرب الزجاج صُنع بالكمبيوتر CGI لأنه لا وزن له تقريبًا، ويطير بتلك الطريقة غير المقنعة المميزة للتحريك الرديء..

استدرت وأنا مستمر في القيادة وأطلقت طلقة واحدة على رأس ذلك الشيء الذي كان في المقعد الخلفي...

دخان ورائحة البارود ومخ ذلك الشيء... سينجح هذا الفيلم لأن الأمريكان يحبون هذه الأشياء..

أوقفت السيارة أمام تلك البناية الخشبية وجريت لأدخلها.. ومن بعيد سمعت صوت من تبقَّى حيًا من هؤلاء، كانوا قادمين نحوي ببطء لكن بثقة.. هناك مخزن بالداخل وهناك برميل وقود ركلتُه ليُغرِق الأرض، ثم وثبت من نافذة صغيرة هناك إلى الخارج وواربتها خلفي.. بسرعة درت حول البناية ورأيت آخِر هؤلاء الموتى الأحياء يترنح ليدخل البناية.. بسرعة أغلقتُ الباب من خلفه ووضعت صخرة خلفه..

جريت للنافذة الصغيرة وأشعلت عود ثقاب ثم فتحتها وأنا أطلق سُبَّة بذيئة.. يحب الأمريكان الشتائم التي تبدأ بحرف F أو S على أية حال.. ألقيت بعود الثقاب وأغلقت النافذة وابتعدت.. هذه لحظة رائعة.. سوف يجد المخرج ضالته وهو يظهر احتراق هؤلاء القوم وهم يترنحون، أو وهم يدقون على الباب محاولين الخروج..

البناية كلها تشتعل.. الدخان الأسود يتصاعد لعنان السماء وأنا ألهث.. لكن التترات لم تبدأ بعد.. ما السبب؟.. إذن هو من نوع الأفلام السخيفة التي تُعدُّ للمُشاهِد خضة أخيرة بعد ما يحسب البطل أنه قتل المسوخ.. غالبًا ستخرج يدٌ مشتعلة من وسط النيران لتمسك بي.. أو...
لكن اليد جاءت من الخلف..





لا أعرف كيف ألقوني على الأرض ولا كيف وضعوا الأصفاد في يدي.. إنهم رجال شرطة.. هذا واضح.. ترى هل تحولوا بعد؟

هناك رجل شرطة ينظر لي في دهشة حيث رقدتُ وسَط الرمال.. تفحَّص البندقية وتشممها ثم نظر إلى البناية الخشبية التي صارت رمادًا، وأمسك بجهاز لاسلكي وسمعته يقول:
ـ"نعم.. فات الوقت لإنقاذ أي واحد منهم.. مجنون جاء إلى البلدة مع فتاته.. فجّر رأس صاحب الحانة وقتل صديقته والمأمور.. ثم دهم مجموعة من المزارعين بسيارة مسرعة.. وفي النهاية حبس مجموعة أخرى في مخزن وأشعل فيه النار..!"

ثم ركلني بطرف حذائه حيث رقدت على الرمال وقال:
ـ"لابد أنك قتلت عشرين واحدًا أيها المجنون!"

انفجرت في الضحك وصحت:
ـ"كل هذا فيلم سينمائي.. ألم تفهم بعد؟.. أنا وأنت وهم في فيلم سينمائي مرعب.. سوف تبدأ تترات النهاية حالاً!"

أنا في المصحة الآن.. مقيَّد في الفراش ولا أفيق تقريبًا من كثرة ما يصبُّون في دمي من عقاقير مهدئة..

لا أعرف.. إنهم يعتبرونني مجنونًا خطرًا بينما أنا لم أفعل شيئًا سوى أن حاولت إنقاذ نفسي.. هذا ليس هو الواقع بل هو مجرد فيلم يراه الناس في قاعة مظلمة.. ألا ترى هذا معي؟.. أنت اقتنعت بوجهة نظري وصدَّقت أن هذا فيلم، فلو كنت أنا مجنونًا فأنت مجنون مثلي..

سوف تكتب كلمة النهاية وتتصاعد التترات حتمًا.. أعرف هذا يقينًا وأنتظره.. لا أعرف لماذا تأخَّرت التترات لكنها آتية حتمًا!

تمت

عهد Amsdsei 17-03-12 07:39 PM

القصة التالية

حدث في الخامس من مايو

*************************

حدث في الخامس من مايو
الحلقة الاولي

لماذا أفعل ذلك؟
أنت تسأل أسئلة غريبة اليوم.. من الأوفق أن تسأل: لماذا لا أفعل ذلك؟

لقد قرأت الكثير من كتابات الفوضويين، وآمَنتُ أن التدمير أروع بمراحل من أيَّة متعة يحظى بها المرء في حياته.. لحظة انفجار قنبلة أو انطلاق رصاصة هي الاكتمال بعينه.. هذه أشياء لن تفهمها..

يلذ لي أن أرى وجوه رجال الشرطة عندما يأتون للتحقيق.. منذ فترة صارت عندهم صورة محددة لأسباب هذه العمليات، ولن يخرج تفكيرهم عن هذا النطاق.. لن يفهموا أبدًا أن هناك مَن قرأ كتابات الفوضويين وآمن بمبادئهم.. دعك من أنه يكره المكان فعلاً..
الخوف؟
أعترف بهذا..
وأنا أرتدي ثيابي صباح اليوم شعرت بجفاف في حلقي.. ألفُّ الحزام حول جسدي العاري وأتأكَّد من أن السلكين بارزان.. العبوة التي قضيت أيامًا أُركِّبها بالاستعانة بتعليمات الإنترنت.. لماذا يتركون هذه المواقع تعمل إذا كانوا يريدون الأمان حقًا؟.. لا أصدق أن الحكومة الأمريكية عاجزة عن منعها أو إغلاقها..

شعور غريب أن يلتف الحزام حولك.. نوع من القلق.. التردد.. يمكنك في أية لحظة أن تتراجع، لكني اتخذت قراري منذ زمن ولن يغيره شيء..

البنوك..!.. أنا أكره عمل البنوك.. أكره وجوه العملاء وأكره زملائي وأكره مكتبي.. الجشع في أعتى صوره.. تأمّل القلق والتوتر في وجه هذا العميل أو ذاك وهو يعد ماله.. جميل جدًا أن يدوي انفجار مروِّع هنا وتتناثر الجثث مع الدماء.. صحيح أن رأسي سيكون بينها لكن من قال إنني أهتم برأسي؟

لقد فقدت الحب ولم أعد أبالي بيوم آخر في الحياة.. المزيد من الحياة في المستنقع لا تعني سوى المزيد من العطن..

اليوم يبدو مناسبًا.. أحب أن أفجِّر نفسي يوم الخامس من مايو.. هذه عادة لم أستطع التخلي عنها قط.. إن الخامس من مايو يوم لطيف..

في مثل هذا اليوم -حسب مواقع الإنترنت التي تهتم بهذه الأمور- توفي المناضل الإيرلندي "بوبي ساندز" عام 1981 بعد إضرابه شهرين عن الطعام في السجن.. عام 1961 تُرسِل أمريكا أول رائد فضاء لها بعدما سبقها السوفييت.. الزعيم الهندي "الثور الجالس" يفر إلى كندا عام 1877.. عام 1821 يموت "بونابرت" في منفاه بسانت هيلانة.. عام 1494 يصل "كريستوفر كولمبس" لجامايكا.. وعام 1260 يصير "قوبلاي خان" إمبراطور المغول..

وأموت أنا!
****
كان "جمال" قلقًا وهو يسرع إلى مكتبه في المصرف.. لقد تأخر فعلاً اليوم، ومدير القسم ليس مولعًا بالتسامح.. أستاذ "محمود" ليس من الطراز اللطيف الذي يتجاهل التأخير.. إنه من طراز الموظفين المتحذلقين الذين يشعرون بأنهم خبرة إدارية عُظمى.. يتأنّق ويتحدث بألاطة شديدة، وقد علق النظارة بسلسلة فضية لتتدلى على صدره، ويقف طيلة الوقت ليعرض كرشه الممتاز البارز من صدرية البذلة على الموظفين..



"جمال" لم يكن نموذجًا رائعًا كذلك، فهو شاب حديث التخرج من الطراز الذي لا يقدر على ترك السهر مع رفاقه.. يقولون إن سهراته ليست بريئة جدًا، لكن لا يجرؤ أحد على إعلان ذلك.. غير أن أستاذ "محمود" يمكنه أن يوبِّخَه في أي وقت يريد..

ـ"أستاذ جمال.. أنت متأخر نصف ساعة.."

في حرج قال "جمال" وهو يسرع بنزع سترته والجلوس بالقميص وربطة العنق خلف شاشة الكمبيوتر:
ـ"المواصلات يا سيدي.. أنا آسف.."

من تحت أسنانها غمغمت "ليلى" دون أن تنظر لأحدهما:
ـ"والإنترنت طبعًا.. معنا عبقري هنا.."

نظر لها "جمال" في غيظ وابتلع تعليقاته الحادة...

يتبع...

عهد Amsdsei 17-03-12 07:42 PM

حدث في الخامس من مايو (2)

راح (شريف) يداعب مفاتيح الكمبيوتر قليلاً، ثم تأمَّل أحد دفاتر بطاقات الائتمان.. راح يعبث في الدرج حتى أخرج علبة أقراص البنادول.. ابتلع ثلاثة أقراص مرة واحدة ببقايا كوب الماء، ثم طلب قدحًا من القهوة..
لاحظت (فاتن) المتدربة الشابة الجالسة جواره ذلك، فقالت في قلق:
ـ"ثالث مرة تشرب فيها القهوة والوقت لم يتجاوز العاشرة صباحًا"
هذا صحيح.. والأسوأ هو أنه لا يعرف أن سبب الصداع ارتفاع في ضغط الدم، وأنه بالقهوة يحفر قبره ببطء.. الصداع الناجم عن ارتفاع الضغط لا يعالج بالقهوة..

لكنه لا يبالي حقًا.. فعلاً لا يبالي بشيء, ثمة شيء في الطريقة التي يشرب بها القهوة يُذكِّر (مجدي) بسكير في حانة يشرب كأسه العاشرة..

كانت (فاتن) معجبة بـ (شريف) جدًا... لكنه لا يبالي.. لم يعد شيء في العالم قادرًا على تحريك عواطفه منذ.. منذ ماذا؟.. لا أحد يعرف بالضبط.. لكن الأمر يوحي بقصة حب فاشلة لن تُمحَى أبدًا..

(مجدي) المحاسب الآخر يحب (فاتن) منذ جاءت للمصرف منذ ثلاثة أشهر.. العملية معقدة جدًا كما ترى.. أ يحب ب وج يحب أ.. هذه العلاقات الشهيرة حينما تجمع مجموعة من الشباب المليء بالحيوية في مكان عمل واحد..
****
كنت أراقب زملائي في العمل.. غافلين هانئين... أمسك بدفتر الائتمان وأقلب صفحاته في شرود..

من المُسلِّي أن تعرف أنك تمسك في يدك بمفتاح حياتهم وموتهم.. هم لا يعرفون ذلك.. تذكرت عندما كنت أقف في الحمام أراقب ذلك الصرصور الصغير يزحف على البلاط (القيشاني).. لم يكن السيراميك معروفًا وقتها. الأمر كله في يدي.. سوف يهوي الشبشب عليه فتنتهي حياته أو لا أفعل فينعم بها.. في 90% من الحالات كنت أهوي بالشبشب وكثيرًا ما كانت الأقدار تتحداني فينجو الصرصور بشكل ما..
لكن الآن لن ينجو أي من هذه الصراصير..
رجال الشرطة سوف يعرفون الحقيقة.. سوف يبحثون بين الجثث ويستدعون خبير المفرقعات ولسوف يعرفون من الذي فجر نفسه.. سوف يهرعون لداري ويفتشون كل شيء.. سامحيني يا أمي.. لن يضايقوك كثيرًا على كل حال..

سوف يفتشون جهاز الكمبيوتر ولسوف يجدون ملفًا كاملاً عن المفرقعات.. ولسوف تخرج الصحف كلها تتساءل عن سبب انتشار العنف بين الشباب، وسوف يتكلم أكثر من خبير نفسي وخبير علم جريمة..

الحقيقة أنني أقدم للمحررين هدية عظيمة، فلسوف يكتبون ويكتبون ويسودون الصفحات لمدة شهر كامل. لو أنصفوا لدفعوا لأمي مكافأة..

لكنهم لن يفهموا السبب أبدًا.. أنا نفسي لو طلب مني أن أكتب مقالاً أشرح فيه القصة لما وجدت كلمات.. هذا هو الموقف العبثي الحق كما تكلم عنه (ألبير كامو) في (الغريب).. كانت لدى بطل القصة فرصة ممتازة ليقتل الأعرابي أو يتركه.. كان الحر خانقًا والذباب كثيرًا والعرق يحرق عينيه، لذا قتل الأعرابي.. فيما بعد قال لرجال الشرطة إنه قتل الأعرابي لأن الحر كان شديدًا..
لم يفهموا.. كلهم لا يفهمون..
عندما أفكر في هذه الأمور أشعر بالدم يتصاعد لرأسي.. إنه الصداع.. الصداع اللعين.. يجب أن أقضي عليه بأية طريقة.. يجب...

يتبع...

عهد Amsdsei 17-03-12 07:43 PM

حدث في الخامس من مايو - الحلقة الثالثة

مجدي يقلب صفحات دفتر الائتمان وهو يختلس النظر لـ (فاتن).. لقد بدأ يمسك برأسه.. يبدو أن الصداع موضة هذا اليوم..

نهضت (ليلى) معلنة بصوت هامس أنها سوف تذهب للحمام.. لم تكن تفعل هذا عادة.. لم يرد أحد لأنهم كانوا مشغولين مع هجمة من العملاء..

هذا الرجل البدين يصرخ بكبرياء و(ألاطة) مهددًا بأن يسبب مشاكل للجميع.. ابن خالة زوج عمته مذيع كبير ولسوف يفضحكم في برنامجه.. عيب كده..


يظهر أستاذ (محمود) الخبير الإداري وحلال المشاكل من مكان ما وهو يمسك نظارته في يده (يحب هذه الطريقة لأنها توحي بالانهماك) ويسأل العميل عن المشكلة فيرد بصوت يزلزل المصرف:
ـ"ليست معي هويتي.. معي رخصة القيادة، وهذا الأستاذ.. الأستاذ المتعلم يقول إنني لن أستطيع السحب.. صبرًا.. سترون.. لو أن كلمة من هذا الكلام بلغت ابن خالة زوج عمتي فلن يبقى واحدٌ منكم في مكتبه"

من الغريب أن هذا الطراز من الجعجعة ينجح كثيرًا، وقد اقتاد الأستاذ (محمود) عميله إلى مكتبه ليسوي المشكلة.. لكن الرجل لم ينس أن يصرخ في (جمال):
ـ"أقسم بالله أن من علّمك قد ظلمك!"

لم يستطع (جمال) الرد لأن المدير أشار له من طرف خفي أن يخرس، لكن لو ترك الأمر له لوثب وأنشب مخالبه في عنق هذا الخنزير المتغطرس.. (جمال) من الطراز العصبي الذي توشك روحه على الخروج من أنفه دعك من أنه لم ينم بعد..
*****
أنا في الحمام..
لا أحب الحمامات العامة وأشعر بالبارانويا في هذه الأماكن، لكن لابد من لحظات أتأكد فيها أن كل شيء على ما يرام.. أدخل دورة المياه وأرفع ثيابي لأتأكد من أن القنبلة في مكانها.. طرفا السلك بارزان ينتظران أن ألمسهما حيث يخرجان من تلك الفتحة في جيبي.. كنت أخشى أن يحدث الأمر صدفة، لذا قمت بعزل احد الطرفين..

صوت الصراخ يتعالى من الخارج.. العملاء يعتقدون أننا عبيد أغبياء وأن عليهم أن يصرخوا أولاً قبل طلب أي شيء.. والمشكلة هي أن عليك أن تصمت لأن العميل دائمًا على حق، مدير المصرف بالمرصاد لكل من يعلو صوته بيننا..


هل مظهري طبيعي؟.. هل تبدو أية أسلاك؟
لحسن الحظ أن لدي كرشًا لا بأس به.. لا يكفي لوصفي بالقبح لكنه يخفي هذه الكارثة المعلقة على صدري..
جميل.. جميل..

أنظر لساعتي..
في الثانية عشرة ظهر يوم 5 مايو سوف ينتهي كل شيء.. تنتهي قصة حياتي وعلى الأرجح قصص حياة عدد لا بأس به من الشباب في هذا القسم. نحن نعمل بالطريقة القديمة وليس بطريقة الـ Cubicles الغربية حيث تكون هناك حواجز بين كل مكتب وآخر.. كلنا في مكان واحد ضيق وهذا.. وهذا.. سوف.. يجعل... الضرر....
الصداع من جديد..
كم أحسد (شريف).. برغم معاناته فإن الصداع الذي يصيبه يزول بأقراص (البانادول) أما أنا فصداعي لا يزول.. والأدهى أن طبيعة وضعي تحتم أن أضحك وأبتسم..

الصراخ يتعالى في الخارج.. لابد من أن أخرج لأتولى أمر هذا الرجل الذي يحسبنا خدمًا عنده..

الحادية عشرة والنصف.. الموعد يقترب.. ليت بوسعي أن أطلب منهم أن يستغفروا ربهم.. لكن هذا سيقضي على المفاجأة.. هل سيكونون في عداد الشهداء؟.. أرجو ذلك.. لو كان هذا صحيحًا فإنني أقدم لهم خدمة عظمى!


يتبع...

عهد Amsdsei 17-03-12 07:43 PM

حدث في الخامس من مايو
(4)

يبدو أن لكلمات الأستاذ (محمود) مفعول السحر.. لقد خرج البدين من مكتبه راضيًا.. اصطدم بليلى وهي خارجة من الحمام وقد أصابها الصراخ بالذعر..

فقط نظر بكراهية لجمال ووجهه يحمل سُبَّة بذيئة لم يقُلها ثم ابتعد. هنا فقط تعالت الضحكات سخرية منه ومن كل شيء..


طلبت ليلى كوبًا من الماء من العامل.. إنه رابع كوب تشربه منذ الصباح..
*****

ريقي جاف تمامًا.. أشعر بأن ممحاة ثبتت في مكان لساني..

هذا طبيعي.. إن الأدرينالين يتعالى في دمي. ومعنى هذا أن يجف ريقي ويتسارع نبضي وتتسع حدقتاي.. أنا الآن كالنمر المُتأهِّب للوثب..

أريد لفافة تبغ.. يدي ترتجف فعلاً..

*****





أشعل جمال لفافة تبغ ونفث سحابة كثيفة أحاطت بعبارة (ممنوع التدخين). ابتسم البعض في تسامح.. لو جاء رئيس القسم لنسفه نسفًا، لكن (جمال) يتصرف منذ البداية باعتباره يضيع وقته هنا بدلاً من الجلوس في الكافتيريا.. سوف يمضي أيامًا هنا ثم يتشاجر ويرحل.. هذا شيء مكتوب ومحدد..

(مجدي) ينظر لساعته بلا توقُّف.. يهزها ويصغي.. إنه قلق لسبب غير مفهوم..

*****


لكم حسدت (جمال) على أنه يملك شجاعة التدخين علنًا.. أنا لا أملك هذه الشجاعة ولا حتى في دورة المياه.. متى بدأت هذه العادة الذميمة؟.. ربما منذ عام مع قصة الحب الفاشلة تلك..

كم الساعة الآن؟.. اقترب الوقت جدًا.. إنهم جميعًا هنا.. فقط سوف ألمس السلكين وهما في جيب السترة وينتهي كل شيء.. لن أعرف أنني انفجرت ولا أن رأسي طار ليستقر في ركن الغرفة..

يجب أن أجرد طرف السلك..

*****

نظر (جمال) إلى (شريف) في دهشة ثم سأله:
ـ"هل زال الصداع؟"
ـ"نعم.. الحمد لله"
ـ"إذن عمَّ تُفتش في جيوبك؟.. عن المزيد من البانادول؟"

ابتسم (شريف) وأخرج علبة من اللادن وألقاها على المكتب وقال:
ـ"ألا تحب اللادن؟.. هذا له مذاق الموز"
ـ"أنت رائق البال"


*****

السلك الذي عزلته يأبى أن ينسلخ من غطائه.. تبًا!.. يجب أن أحاول أكثر.. (شريف) يقدم لي بعض اللادن بلا مودة فأرفض مع الشكر. ليلى تميل عليّ لتقول:
ـ"كُفِّي قليلاً عن التغزل في شريف يا حمقاء!.. نظراتك تفضحك.. على الفتاة أن تحب مَن تجد إن لم تجد من تحب.. (مجدي) يهيم بك حبًا.."

يا لكِ من حمقاء!.. كل شيء سينتهي خلال ثوان وهي ما زالت تتكلم عن هذا السخف!
السلك.. ظفري يحاول أن يجرده..

تقول ليلى:
ـ"هل دخلتِ الحمام لتدخين سيجارة عندما كان ذلك الخنزير يتشاجر؟.. لقد اختفيت بسلاسة تامة.. أنا أعرف أنك تدخنين.. أليس كذلك؟"

في هذه اللحظة لم أعرف ما يحدث.. فقط سمعت اسمي (فاتن) يدوي بصوتٍ عالٍ، ثم وجدت نفسي على الأرض بينما رجلان يبدو أنهما من رجال الشرطة يُثبِّتان معصمي بكفاءة غريبة..




صحت من بين أسناني:
ـ"لا تلمسوني يا أوغاد.. سأتهمكم بالتحرش!.. أريد سيدة لتفتشني!"

بالفعل سرعان ما كانوا يقتادونني إلى الحمام، بينما ظهرت سيدة من مكان ما.. سيدة حازمة خالية من الأنوثة تنزع القنبلة عن جسدي.. وتناولها للرجلين..

من الخارج أسمع (عزة).. (عزة) صديقة عمري تشرح لهم:
ـ"إن الفتيات يعشقن الثرثرة.. لم تستطع (فاتن) أن تنفذ مخططها من دون أن تشرح كل شيء في خطاب لي، وطلبت ألا أفتحه إلا مساء اليوم.. نسيت أن أقول إن الفتيات فضوليات كذلك.. لهذا فتحت الخطاب قبل الموعد ووجدت هذا الكلام المخيف!.. (فاتن) ستفجر نفسها عند الظهر.. هذا مستحيل.. كلام فارغ.. قولوا لي ذلك..!"

وصوت رجل صارم يقول لها:
ـ"للأسف كل ما قالته دقيق.. لقد نجا هؤلاء بمعجزة.. إنني لأسائل نفسي عمّا يمكن أن تصل له الأمور بعد ذلك!"

الخامس من مايو.. في مثله تُوفِّي المناضل الأيرلندي (بوبي ساندز) وأرسلت أمريكا أول رائد فضاء لها، ومات بونابرت في منفاه بسانت هيلانة ووصل كريستوفر كولمبس لجامايكا، وصار قوبلاي خان إمبراطور المغول..
وهو اليوم الذي انتهت حريتي فيه.

تـــمـــت

عهد Amsdsei 17-03-12 07:46 PM

قصة إنهم يأتون ليلاً

إنهم يأتون ليلا ً - الحلقة الاولي

كلا.. لست مجنونًا.. أؤكد لك هذا..

أعرف أن تفسير الجنون سهل دائمًا، ويريح جميع الأطراف.. دعك من أنه ما من مجنون يعتقد ذلك في نفسه، لكن لنفترض للحظة وجود رجل راجح العقل يعرف مُصيبًا أنه راجح العقل..

إنها مسألة منطقية ذكرها فيلسوف ألماني اسمه (بوبر). كل ما لا يمكن نفيه لا يمكن إثباته.. عندما أقول إنني غير مجنون فأنت تقول لي إن كل مجنون يزعم ذلك. إذن أين الحقيقة العلمية؟.. ما الذي يمكن أن يقوله العاقل إذن؟ ماذا لو لم أكن مجنونًا؟

لكن دعنا من هذه التعقيدات ولنتكلم عنهم..

أعرف أن (هم) هذه تزيد الأمور تعقيدًا والطين بلة.. هذه نغمة البارانويا بلا زيادة أو نقصان. لكن لا سبيل للكلام عنهم من دون استعمال ضمير (هم).

أنت تشك في عقلي أكثر مع كل دقيقة.. أعرف هذا.. أراه في عينيك.. هذه مشكلة حقيقية عندما نحاول إثبات أننا على ما يرام، فنرتبك ونقول كلامًا غير مترابط...

أعيش وحدي.. هذا يجعل شكوكك ترقى إلى مرتبة اليقين..


الحقيقة أنني لا أحب الوحدة.. لكن عندما تتجاوز سن الخامسة والثلاثين وأنت غير متزوج، فإن فكرة الزواج تزداد رهبة وإفزاعًا.. أن تقتطع نصف عالمك لتمنحه لامرأة غريبة.. هذا شيء مريع.. شيء مرعب..

يمر يوم تلو الآخر.. وفي النهاية تجد أنك في الأربعين وأن فرصك قد قلت جدًا جدًا.. دعك من أنك اكتسبت عادات الذئب الوحيد، فلم تعد أية امرأة تتحمل أن تعيش في مكان واحد معك.

الوحدة قاسية فعلاً... تأكل وحدك.. تلعب الشطرنج مع نفسك.. تبدي ملاحظات وتسخر منها.. وفي لحظة بعينها تدرك أنك كنت تكلم نفسك طيلة ربع الساعة الماضي.. هناك أيام تتشاجر فيها مع نفسك أو تسيء فهمها.. لكني برغم هذا أؤكد:
لست مجنونًا..

عندما تدخل الفراش ليلاً وتنظر إلى غرفة الجلوس الخالية، التي تركت فيها بعض المجلات الفنية ملقاة على البساط، وهناك جهاز كاسيت به شريط لأغاني (محمد منير). تدخل الفراش وترفع الغطاء حتى العنق وتراقب شاشة التلفزيون بعينين لا تريان تقريبًا.. ثم تنام تاركًا جهاز التوقيت يغلق التلفزيون بعد ساعة...

عندما يحدث هذا، وعندما تنهض في الرابعة صباحًا بمثانة ممتلئة.. وعندما تتجه للحمام مارًا بغرفة الجلوس، وعندما تجد أن المجلات التي كانت متناثرة على البساط مجموعة في كومة واحدة، وأن الشريط لم يعد في جهاز الكاسيت، وأن هناك أعقاب سجائر في أكواب الشاي.. لاحظ أنك لا تدخن ولا تشرب الشاي.. وعندما تجد أن الغرفة تعبق بالتبغ..

عندما يحدث هذا فأنا لا ألومك.. أنا نفسي فكرت في ذلك.. قلت لنفسي إنني أمشي أثناء النوم. هذه وليمة لأي طبيب نفسي يحدثك عن شخصيتي الأخرى المكبوتة التي تتحرر أثناء النوم.. هذا شيء محتم..

لكن أي تحرر؟.. ما الذي يفعله هذا الآخر سوى شرب الشاي والتدخين؟.. هذا تحرر لا يحتاج لكل هذه الضوضاء..


على كل حال قد جربت أن أراقب نفسي.. لقد وضعت مقاعد كثيرة ودلاء مليئة بالماء حول الفراش. هكذا أفيق لو ارتطمت بمقعد أو سكبت دلوًا.. والنتيجة؟

نعم قلبت دلوًا وارتطمت بمقعد خلَّف كدمة في ساقي، لكن هذا حدث وأنا متجه للحمام.. وكانت غرفة الجلوس تحتفظ بذات الفوضى.. لقد حدث ما حدث قبل أن أصحو وليس بعده..

هل فهمت المشكلة؟

أضيف لهذا أن نفس الظاهرة تكررت عدة مرات.. ربما ثلاث مرات في الأسبوع.. أصابني الذعر طبعًا لكن ليس لدرجة أن أبيت في مكان آخر أو أبقى ساهرًا طيلة الليل.. هناك تفسير بسيط وسوف أعرفه..

الآن يمكن القول بكل شجاعة إن هناك من يسهر في غرفة الجلوس في داري يدخن ويشرب الشاي، وهو لا يحب (محمد منير)، فإذا أضفنا لهذا أنني غير مجنون فماذا نستنتج؟

حان وقت التجربة الإجبارية.. نسيت أن أخبرك أنني مدرس فيزياء وأن عقلي مرتب منظم ومنطقي سليم.. لهذا وضعت عدة خطوات..

الاستيقاظ في وقت غير مناسب.

تصوير ما يحدث خلسة..

سوف أضبط المنبه على الساعة الثانية صباحًا.. سوف أنهض وأفاجئ هؤلاء المتسللين وأعرف من هم ومن أين جاءوا...


يتبع..


عهد Amsdsei 17-03-12 07:46 PM

إنهم يأتون ليلا ً (2)

دززززززززززززز!
للمنبه صوت كهربائي غريب خافت لكنه يهز النخاع في العظام. هذه مزية مهمة، فهو يوقظك لكن أحدًا سواك لا يسمعه..

هكذا نهضت بعقل مخدر مبلبل، وتناولت من على الكومود تلك المطرقة الثقيلة التي وضعتها جواري. الحقيقة أنني أضعها هناك منذ فترة.. ثم إنني نهضت ماشيًا على أطراف أصابعي نحو غرفة الجلوس. وقفت خلف الباب لحظة ثم... لحظة.. إن قلبي يوشك على التوقف..
هوب!..

لا يوجد أحد هنا.. الغرفة خالية. لكن النور مضاء والدخان في الجو.. هناك مطفأة وهناك لفافة تبغ لم تمت بعد.. ما زالت ساخنة.. لقد كانوا هنا..

هرعت أبحث عنهم.. الشرفة مغلقة من الداخل.. لم يرحلوا منها.. رحت أفتش الشقة وأنا في قمة التوتر.. لا شيء..
شيء ركض على قدمي، فهويت عليه بالمطرقة دون تفكير.. تعرف حالة الذعر هذه حينما يستعيد المرء انعكاسات الوحوش التي فقدها.. كنت سريعًا جدًا وقد فوجئت عندما وجدت أنني صرعت فأرًا.. فأرًا تسلل للشقة في ظروف غامضة وكان تعسَ الحظ فعلاً. في لحظاتي العادية لا يمكن أن أتمكَّن من اقتناص فأر.. دعك من أنني سأصرخ وأثب على مقعد، لكني الآن شخص آخر ولو برز لي إنسان لهشمت وجهه بنفس البساطة..
أخيرًا دخلت إلى الحمام فغسلت يدي وساقي.. أنا وحدي في الشقة ولا شك في هذا. هؤلاء سمعوا صوت المنبه ففروا، ولكن كيف ما دام كل شيء مغلقًا من الداخل؟

يعلم الله كيف نِمت..
وفي الصباح اتخذت قراري: أنا مجنون أو على أقل تقدير لا يعمل عقلي كما يجب. كل شيء يقول إنني من يفعل هذا ليلاً..
هناك تفسير آخر لا يروق لي هو أن هؤلاء جان أو شياطين أو عفاريت.. أي شيء من الكائنات الخارقة للطبيعة، لكن ما الذي تفيده من الإقامة في بيتي؟.. الأطباء النفسيون سيقولون إن الوحدة تجعلني أرى ضلالات..
لمشعوذون سيقولون إن الوحدة تجلب الشياطين، خاصة لو كنت أتأمل نفسي في المرآة كثيرًا وأمضي وقتًا أطول من اللازم في الحمام..
لا توجد حلول سوى أن أستجلب صديقًا أو زوجة ليعيش معي هنا.. أو أن أبيع الشقة وأنتقل لمكان آخر..
على كل حال لم يبق سوى التصوير...

هكذا قمت بتوصيل دائرة ممتازة.. هناك كاميرا فيديو موضوعة في الغرفة، وقد توارت تحت منشفة وثياب قديمة فلا تظهر منها سوى العدسة. في الواحدة صباحًا سوف أبدأ تشغيل كاميرا الفيديو وأنا في غرفتي.. الكاميرا تتصل بكابل AV طويل جدًا يبلغ غرفتي. هذا التلفزيون الصغير سيجعلني أتابع ما يحدث هناك.. ثم أُغلِق الكاميرا متى شئت..
هكذا تناولت عشاء خفيفًا يعلم الله كيف تقبلته معدتي، ثم دخلت إلى الفراش في منتصف الليل.. رحت أطالع كتابًا صغيرًا وأنا لا أكف عن شرب القهوة.. هؤلاء استفادوا كثيرًا من ثقل جفوني وسهولة تسرب النعاس لوعيي. يجب أن أسهر...
الواحدة صباحًا.. جالسًا في الفراش قمت بتشغيل الكاميرا ونظرت إلى شاشة التلفزيون الصغير على الكومود. ممتاز.. أرى الغرفة بشكل لا بأس به، وإن كانت بعض قطع الثياب تغطي الكادر من أعلى لكنها رؤية كافية..

الغرفة خالية.. كل شيء كما تركته..
جرس الهاتف يدق.. الهاتف في الصالة. اخرس يا أحمق.. لا أريد أن أجازف بالخروج وإفساد كل شيء.. الليلة أعرف إن كنت ضحية أم مجنونًا أم ممسوسًا.. اخرس..

فجأة تجمد الدم في عروقي..

هناك من رفع سماعة الهاتف ليرد…!
إن هناك شخصًا بالصالة الآن.. لا أعرف ما يقول بالضبط لكنه يتكلم..
ونظرت لشاشة التلفزيون..
كلا.. رحماك يا رب!... لا أصدق ما أراه!.. لا أريد أن أصدق ما أراه!

يتبع..

عهد Amsdsei 17-03-12 07:47 PM

إنهم يأتون ليلاً (3)

كليك.. كليك..

فرغ رجل المختبر الجنائي من التقاط عدد من الصور.. بينما وقف المقدم (هاني) ينظر للجثة الممددة على الفراش.. برغمه لم يستطِع أن ينظر للوجه..

اتجه نحوه صديقه (مصطفى) وناوله لفافة تبغ وأشعل واحدة لنفسه، ثم سأله:

ـ "هل تشكّ في شيء؟"





قال (هاني) وهو ينفث سحابة الدخان الكثيفة:

ـ "لا يوجد ما يحمل على الشك في شيء.. الشقة مغلقة تمامًا من الداخل، لكن ذلك التعبير على وجهه.. هذا الرعب الذي لا يوصف.. هذا الهلع.. ما الذي رآه هذا الرجل؟"

ـ "رأى الموت.. هذا مخيف كما ترى"

ـ "أنا لست طفلاً.. لقد رأيت الكثيرين ممن رأوا الموت، لكن هذا الرعب لم يكن على وجه أحدهم.. رأيي أنه رأى شيئًا أثار هلعه وهكذا أصيب بنوبة قلبية ومات.. إن الطبيب الشرعي سيُؤكد هذا على كل حال أو ينفيه.."

قال (مصطفى) في سخرية:

ـ "التليفزيون كان مفتوحًا.. هل تعتقد أنهم يذيعون أفلامًا مرعبة لهذا الحد؟"

قال (هاني) وهو يجلس على طرف الفراش:

ـ "هناك كاميرا فيديو في غرفة الجلوس تتصل بهذه الشاشة.. لماذا فعل ذلك؟.. الفيلم المرعب الذي كان يراه كان في قاعة الجلوس.. وهو فيلم حقيقي لكننا لا نعرف ما فيه".

ثم طوح بباقي اللفافة وأردف:

ـ "هناك احتمال آخر.. هناك سلك عارٍ في هذا الجهاز يمكن أن يكون قد لمسه.. نفس ما يحدث للحمقى الذين يستعملون (السيشوار) في الحمام.."

ـ "الجثة غير مكهربة.. لقد لمسناها.."

ـ "إذن كيف مات؟!"

ـ "أنت تضيّع وقتك.. النوبات القلبية تحدث للجميع وفي أية سن.. سمعت من طبيب أن النوبات القلبية تتزايد في ساعات الصباح الأولى.. هذا الرجل كان ساهرًا يُشاهد التليفزيون وفجأة.. الألم يتزايد.. إنه مذعور.. يحاول الصراخ.. ينهض.. ثم يسقط على الفراش ميتًا وعلى وجهه أعتى علامات الرعب.. هكذا نريح ونستريح".

- "هناك مشكلة أخرى.. الآثار في غرفة الجلوس تدل على وجود عدة أشخاص.. هناك من كانوا معه ولعلهم رحلوا وتركوه وحده قبل أن يموت.. أغلق الباب خلفهم وعاد لفراشه.. لكن مَن هم؟.. ولماذا يُراقب غرفة خلت من قاطنيها؟"

ابتسم (مصطفى) وألقى بلفافة تبغه بدوره، ثم تأكد من أن رجال المختبر أنهوا عملهم.. هنا دخل رجال الإسعاف بالمحفة..

ـ "من المحزن أن ترى شخصًا بلا أقارب على الإطلاق.. ليست هناك زوجة باكية أو أم دامعة أو أخ ثائر أو.. أو.. لابد أن الناس تتزوج هروبًا من لحظة كهذه بالذات.."

قالها (هاني) وألقى نظرة أخيرة على الشقة قبل أن يرحل..


*****


الجيران في البناية المقابلة هم الذين أخبروا البواب..

إنها الثالثة صباحًا والطقس بارد.. لهذا لفّ البطانية حول عنقه ورأسه، واستغفر الله ثم خرج إلى الإفريز خارج البناية، لينظر لأعلى نحو الشقة.. كان الظلام دامسًا؛ لذا لم يكن من الصعب أن يعرف أن كلامهم صحيح، بالفعل الشقة مضاءة..



لا توجد أخطاء.. هو لم ينسَ إغلاق الأضواء.. الشقة مغلقة تمامًا.. ليس لهذا كله سوى معنى واحد..

لكنه برغم ذلك أحضر العصا الثقيلة (الشومة) وصعد في الدرج إلى الطابق الثالث.. كان المفتاح معه منذ خلت الشقة، لذا أولجه في القفل ودخل..

بالفعل كانت مضاءة تمامًا.. تنحنح ودخل إلى الصالة وهو يزن ثقل الشومة في يده ليتأكد من صلاحيتها للقتل..

دخان السجائر يتصاعد من غرفة الجلوس.. اتجه هناك ونظر بالداخل.. لا يوجد شيء سوى قطع الأثاث التي لم يمسّها أحد منذ شهرين.. كل شيء في الغرفة يوحي بأن أحدهم كان هنا منذ قليل.. لكنه لم يعد...

قرأ المعوذتين، ثم اتّجه ليغلق سكين الكهرباء؛ ليقطع الكهرباء عن الشقة.. وعندما غادرها لم يستطِع إلا أن يفعل ذلك ووجهه نحوها، فلم يعطِها ظهره قط..

لا جدوى من البحث عن تفسير.. لقد صار موقنًا من أن هذه الشقة تُخفي سرًا لا يجب الكلام عنه.


يتبع..

عهد Amsdsei 17-03-12 07:47 PM

إنهم يأتون ليلا ً - الحلقة الرابعة

نظر محمود شاكر إلى الشقة المتسعة والتي تكوّمت فيها قطع أثاث قديمة لم يعن أحد بنقلها، وسأل البواب:
ـ "هل أنت متأكّد من السعر؟.. إنها رخيصة فعلاً.. لا يجب أن أقول هذا، لكن (الحاج) صاحب البيت ليس هنا على كل حال".
قال البواب وهو يتحاشى عيني محمود:
ـ "هذه مسألة أرزاق.. وأنت رجل سمح كريم، لهذا تجد هذه الفرص.."
ـ "وماذا عن هذا الأثاث؟.. مَن صاحبه؟.. الشقة ليست مفروشة حسب العقد"
قال البواب وهو يعدّ الأوراق المالية:
ـ "المالك القديم لم ينقل حاجياته كلها.. هذه الأشياء لك أن تأخذها أو تتركها أو تتخلّص منها"

ثم تذكّر شيئًا فعاد يسأل:
ـ "قلت إنك لست متزوجًا يا بك؟"
ـ "نعم.. أنا مقطوع من شجرة لو راق لك هذا التعبير.. لماذا تسأل؟"
ـ "صدفة غريبة.. هذه الشقة تجذب العزاب لسبب لا أدريه.. منذ أسبوع عاينها زوج وزوجة لديهما ثلاثة أطفال.. لكن يبدو أنها لم تعجبه.."
ـ "الأعزب لا يطلب سوى مساحات ضيّقة كما تعلم.. سوف أحضر حاجياتي اليوم أو غدًا..
*****
لم أكفّ لحظة عن اعتبار نفسي حيًا أرزق مثلك ومثله.. هذه شقتي.. هذا بيتي.. صحيح أن بعض المضايقات تحدث؛ مثل ذلك الصخب الذي أحدثه رجال الشرطة -وهو مشهد لم أرَه من قبل إلا في السينما- والمرات التي اقتحم فيها البواب المكان ليفتش.. فيما عدا هذا كل شيء على ما يرام..
الآن لا أشكو الوحدة..
إنهم يأتون ليلاً... كلنا نأتي ليلاً لنجلس ونتكلّم.. بعضهم يشرب الشاي ويُدخّن، لكني لم أسألهم قط من أين يأتون بهذه الأشياء.. كيف يمكنك شراء السجائر وأنت بهذه الحالة؟.. كيف يمكنك تشغيل جهاز كاسيت؟

المشكلة الوحيدة هي أنهم جميعًا يبدون كما كانوا لحظة الرعب الأعظم.. يمكن أن يتوقف قلبك ذعرًا لو رأيت نظرة الهلع هذه.. لكني أقول لنفسي إنني بالتأكيد أبدو مثلهم.. من حسن الحظ أن المرايا لا تعكس صورنا.. أحيانًا يمكنك أن ترانا وأحيانًا لا، لكننا نظهر غالبًا في الكاميرا، وأعتقد أن لهذا علاقة بطول الموجات التي نعكسها..

إنهم يأتون ليلاً.. ولكننا نتفرّق قبل الفجر..

كل واحد منهم وحيد كذئب.. قضى أيامًا من الحيرة والقلق متسائلاً عمن يأتون ليلاً.. ثم اكتشف الحقيقة في قلب الظلام وهو وحده، ثم صار يأتي ليلاً مثلهم.. لقد صار منهم..

كم عددنا؟.. لا أعرف.. هناك وجوه لم أرَها سوى مرة.. وهناك وجوه تأتي كل ليلة.. هناك وجوه لن تعود أبدًا.. وهناك وجوه سوف تأتي..

القادم الجديد شاب وحيد اسمه (محمود شاكر).. أعتقد أنه شاب ظريف مهذّب.. لكني للأسف لا أستطيع نيل صداقته.. الآن..

لقد أحضر أثاثه وحاجياته وبدأت حياة جديدة تدبّ في الشقة، يحاول أن يكون سعيدًا لكنه لن يقدر على ذلك..

سوف يصحو ذات يوم في الثالثة صباحًا.. سوف يقف على باب غرفة الجلوس وينظر لنا ويرمش بعينيه اللتين يغشاهما النعاس.. سوف ينظر لنا فلا يرانا، لكنه يرى الفوضى المادية التي سببناها.. سيشم رائحة التبغ ويرى كوبًا مقلوبًا..
إنه متوتر.. إنه لا يفهم.. يشكّ في سلامة قواه العقلية..

سوف يُكرر هذا عدة ليالٍ..
سوف يُفكر في حلول ثورية.. ربما تقع عيناه علينا عن طريق الصدفة.. ربما يلتقط صورة فوتوغرافية للغرفة الخالية فيرانا على الفيلم..

لن يطول الأمر.. وسرعان ما يجد أنه صار واحدًا منّا ويعتاد أن يأتي ليلاً..

لم أعد خائفًا.. لقد صرت مخيفًا!
تمت

عهد Amsdsei 17-03-12 07:49 PM

قصة شخص مهم


*************************

شخص مهم (1)

لكي نفهم ما حدث، لابد أن نحكي القصة من بدايتها..


لا يمكن أن نبدأ باللقاء الأخير بين (ثروت) و(دافني) أو ما سمعه من (أدونيس).


هذه أشياء سوف يأتي وقتها؛ لكن لا يمكن أن نبدأ بها..



ألا ترى أننا نضيع الوقت في الجدل بينما هو قصير أصلاً؟..



لو كنت تريد أن أحكي القصة بالأسلوب الذي يروق لك؛ فإنه لمن ما يسرني أن تجلس أنت وتحكي بينما أصغي أنا..


من فضلك دع لي هامشًا من الحرية في السرد، وأنا أعدك بأن تفهم كيف تطورت الأمور..








أنت تعرف (ثروت البربري)...


عينان ملونتان لهما لون البرسيم، وشعر بني مجعد، وقامة نحيلة. الطبيب الشاب المفعم بالأحلام، والذي يعرف يقينًا أنه سيكون رائعًا وسوف يبهر العالم..


ربما يحكمه كذلك..






هنا يجب أن نقول إن نمط (ثروت) شائع نوعًا بين الأطباء؛ فهو من أصل ريفي..


ومنذ دخل كلية الطب نال احترامًا ووضعًا مرموقًا جدًا في قريته.


إنه يفحص المرضى بقلب جريء ويكتب العلاج لهم منذ أول يوم له في الكلية، وبالطبع يرتكب أخطاء قاتلة، ثم مع الوقت بدأ يتكلم.. يتكلم في السياسة والدين والأدب والفلسفة، وكان يتكلم بلا أية خلفية ثقافية أو قراءات يستند إليها؛ لكنه تعلّم أن الناس يصغون له باهتمام واحترام..


إن (الدكتور) يتكلم فانصتوا..





إنه الخلط المعتاد في مجتمعنا؛ حينما يفترض أن المتفوق في دراسته مثقف حاد البصيرة كذلك.

وهكذا كانت آراؤه تتخذ صيغة شبه مقدسة، ولكم من مرة جلس رجال واسعو الخبرة شابت شعورهم وشواربهم يتناقشون في قضية ما، ثم يلتفتون نحوه قائلين:




ـ "فلنسمع رأي الدكتور في هذا .."






كان يتنحنح ويتكلم في وقار..


يقول أي شيء؛ فكانوا يوافقون على كلامه في احترام..



مع الوقت ازداد جهلاً وضيق أفق..


وازداد غرورًا كذلك..


وبدأ يظهر تململاً كلما سمع مناقشة تدور أمامه في أي موضوع، كأن لسان حاله يقول:




ـ "لم لا تصمتون وتصغون لصوت الحجا؟"



يجب أن يستنوا القوانين التي تجعله هو المتكلم الوحيد.. كنت أنا طالبًا في كلية التجارة، وقد عرفته عن طريق مسكن للطلاب المغتربين؛ فأثار دهشتي أنه لا يعرف أي شيء على الإطلاق.
ذات مرة عرض التلفزيون فيلم أمريكي عميق شديد الأهمية والتعقيد؛ فجلسنا نتكلم عنه..
هنا تدخل ليبدي رأيه..
كتمت ضحكتي بصعوبة، وأنا أسمع آراءه الساذجة في الفن، ورؤيته (العميقة) للفيلم.



لكن أثار دهشتي أن رفاقي يصغون له باحترام، ويؤمّنون على كلامه.






مهما قيل؛ فإن المصري يحمل احترامًا عميقًا تاريخيًا للطبيب والضابط والقاضي..


مع ترجيح كفة العقل بالنسبة للطبيب؛ لأنه لا يمكن أن ينال شخص كل هذه الدرجات في امتحان الثانوية العامة ما لم يكن حكيمًا..


وهو خلط واضح بين ملكة الحفظ وسعة الاطلاع والثقافة والذكاء..




هكذا عرفت (ثروت)..


وهكذا كانت بيننا صداقة سطحية؛ لأنني بصراحة لا أطيق الأغبياء..

قد أقبل الجهلة إذا كانوا أذكياء، وهذا نمط لقيته كثيرًا..

مثل بواب البناية التي أقيم بها، ومثل تلك البائعة في السوق التي تشع عيناها ذكاء وألمعية.




تخرجنا وتفرقت السبل؛ فلم أعرف هذه التفاصيل إلا متأخرًا جدًا، ومن فمه شخصيًا.




كانت البداية هي أنه عندما ينام يشعر بأنه ليس وحيدًا.




كان طبيبًا مقيمًا للتحاليل الطبية (الباثولوجيا الإكلينيكية) في مستشفى تعليمي بالقاهرة، وكانت الظروف تضطره أحيانًا أن ينام وحده في الطابق كله.




يقول إنه كان يشعر بأن هناك من يقفون حول فراشه.

نهض أكثر من مرة مذعورًا وبسمل وحوقل، ونظر حوله فلم ير أحدًا.


في بعض المرات سمع من يتكلمون..


والأغرب أنه سمع مرارًا صوت:




كليك.. كليك.. كليك..





أما عن اختفاء الأشياء فهذا موضوع آخر؛ السماعة الطبية التي سرقت منه على سبيل المثال، سرقت من جوار فراشه وهو نائم، لم يسرق منه شيء من قبل، وهو يعرف يقينًا أن الغرفة كانت مغلقة من الداخل؛ ولكنه صحا من النوم فلم يجدها.



هذا لغز بلا حل..





هناك كذلك فقدان المناديل والأقلام..
تقريبًا لم يعد يوم يمر من دون أن يكتشف نقصًا في مناديله أو أقلامه. الأقلام لا تعيش في أية مستشفى، ومن المستحيل أن تمضي اليوم بذات القلم؛ لكن الأمر كان يتجاوز الحدود المعروفة. هكذا بدأ يشعر بقلق عظيم.




يـــــتــــــبـــــــع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:50 PM

شخص مهم (2)

أعتقد أن (ثروت) كان سيلاحظ ما هو أكثر لو كان أقل غباء وضيق أفق.

على أنه في المستشفى لاحظ أن هناك مجموعة غريبة من الأطباء لم يرهم من قبل.. كان هناك رجلان وثلاث نساء على درجة عالية من الجمال.. أعني كلهم طبعًا وليست النساء فقط.. كان لهم طابع غريب.. ليسوا عربًا لكنهم كذلك ليسوا أجانب.. التناقض الذي فسره البعض بأنهم أتراك..

همسات عديدة ترددت في المستشفى عن سر هؤلاء.. خاصة أنهم دخلوا مكتب المدير وقضوا وقتًا طويلاً هناك، وفي النهاية خرجت سكرتيرة المدير تبحث عن (ثروت)...

سقط قلبه في قدميه. المدير لا يحتاج له أبدًا ولا يطلبه ولا يكلمه أصلاً، فماذا استجد؟

دخل المكتب ليجد مجموعة الأطباء الغريبة جالسة هناك، وكانوا يرمقونه في فضول..
قال له المدير وهو يلوح بخطاب رسمي كئيب الشكل:
ـ"د. ثروت.. وكيل وزارة الصحة يوصينا خيرًا بهذه المجموعة من الأطباء الأجانب التي ستمضي أسبوعًا معنا.. إنهم أتراك، وهم راغبون في أن يتابعوا عملك في المختبر.. لا تقلق من ناحية اللغة فهم يجيدون العربية"

لماذا أنا بالذات؟.. هناك مختصون أقدم مني وأكثر خبرة. ولماذا هذا المستشفى فقير الإمكانيات بالذات؟.. لم يسمع أحد من قبل أنه مركز يأتيه الأجانب ليتعلموا. لكن (ثروت) كان مغرورًا كما قلنا لذا عرف السبب على الفور: إنه الأبرع والأرجح عقلاً..

هكذا خرج مع مجموعة الأطباء شاعرًا بفخر جهنمي وهو يمشي بهم في طرقات المستشفى، ونظرات الفضول –ربما الحسد– تلاحقه. وكلما حاول أحد أن يتصل بهذه المجموعة كان يتولى هو الرد، كأنه زوج غيور لا يطيق أن يكلم أحد زوجته..

وفي المختبر راح في خطورة يشرح لهم مدى عظمة ما يقوم به..

أمسك أنبوب اختبار مليئًا بالمصل، وناوله أجمل طبيبة في المجموعة.. وتظاهر بأنه يسند يدها كي لا تهتز فأمسك بمعصمها، وسره أنها لم تحتجّ.. سألها:
ـ "ما اسمك؟"

كان لها أنف أقنى جميل، ونظرة يمكن أن تذيب شمعة.. قالت له:
ـ "دافني.."
ـ "عاشت الأسامي"







غبي كما قلنا؛ لهذا لم يلحظ أن للاسم طابعًا إغريقيًا.. مستحيل أن يكون هذا اسمًا تركيًا. على كل حال عرف أن المجموعة تضم (أياد) و(أدونيس) -اسم إغريقي آخر- و(ميريام) و(نيتوكريس).. وكانوا يتكلمون العربية بطلاقة مذهلة.. لا يوجد أدنى ظل من اللكنات الأجنبية..

لاحظ أنهم يتابعونه في نوع من الإعجاب والوله، ويلاحظون كل شيء يقوم به. المدعوة (ميريام) التقطت له صورًا كثيرة فحرص على أن يبدو خطيرًا حاذقًا...

جاءت ممرضة تحمل مجموعة من العينات، وسألت (نيتوكريس) بفضول شعبي محبب:
ـ"أين تقيمون؟"

هنا تدخل (ثروت) في عصبية صائحًا:
ـ"هذا ليس عملك!.. أية أسئلة توجه لي أنا فأنا المسئول عنهم.."

سألته الممرضة من جديد:
ـ"أين يقيمون؟"
ـ"لا أعرف..!.. "

هنا قال المدعو (أياد):
ـ "فندق (.........)... إنه جميل جدًا"

لم يكن (ثروت) قد رأى فندقًا في حياته، لكنه تظاهر بأنه يعرف الفندق جيدًا وأنه سيقبله على مضض باعتباره ليس الأفضل.
عند نهاية اليوم كانوا سعداء جدًا، وقد دنت منه (دافني) وطلبت في تأدب أن يوقع لها على الأوتوجراف. نظر لها في دهشة فقالت:
ـ"يشرفني أن يكون معي توقيع شخص مهم جدًا مثلك"

كان يوشك على البكاء.. سوف يتزوجها.. بالتأكيد سيتزوجها ويعود بها لقريته ليراها (البسيوني) و(الششماوي) ويحسداه. سوف تقول النساء العجائز لبعضهن (هذه زوجة الدكتور). هكذا وقع لها.. من جديد طلبت منه الاحتفاظ بقلمه للذكرى.
ـ"إلى الغد.."
ـ"إلى الغد.."

عندما نام في تلك الليلة كان الفراش يعلو به ويهبط فخرًا.. قال لنفسه إن السحر المصري لا يقهر، فلا توجد أنثى غربية يمكنها مقاومة ذكر مصري وسيم وذكي مثله...

سوف أتزوجها.. سوف أتزوجها.. حاول أن يتذكر اسمها فلم يستطع.. هكذا قال لنفسه إنه سيتزوج (دافية) هذه..
وفي الثالثة صباحًا شعر بشيء غريب..




يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:51 PM

شخص مهم (3)

بالفعل سمع صوت الكلام وأن هناك من يتحرك في الغرفة، وأن هناك من يقف جوار الفراش. هذه المرة لم ينهض بل فتح جفنيه ملليمترًا واحدًا..






في الضوء الخافت القادم من الممر رآهم.. كانوا هم.. نفس مجموعة الصباح التركية، وكانوا يقفون في الغرفة.. فجأة رأى واحدة تدنو منه مصوبة الكاميرا وتلتقط له عدة صور، فحاول جاهدًا ألا يفتح عينه..




ما معنى هذا؟..

كيف دخلوا هنا؟




لو تحرك لفتكوا به على الأرجح لأنهم أكثر منه عددًا..

لا سبيل للنجاة سوى أن يتظاهر بالنوم..




سمع صوت (أدونيس) يقول:




ـ"دافني.. هذا كاف.."




قالت وهي تفتح خزانة الثياب:




ـ"لا أصدق أن هذه ثيابه.. هذا حذاؤه.. هذه جواربه.. شيء مذهل فعلاً.."





كان (ثروت) ضيق الأفق كما قلنا؛ فلم يعلق أهمية على كونهم يتكلمون العربية فيما بينهم، كما يحدث في الأفلام عندما يتكلم القادة النازيون الإنجليزية حتى في اجتماعاتهم المغلقة..


كان التفسير سهلاً عنده..


يتكلمون العربية لأنها أسهل في الفهم!!!




قالت (نيتوكريس):


ـ "هل أنتم واثقون من أنه لا خطأ هنا؟"




قال (أياد) بصوته الغليظ المميز:



ـ"طبيب يدعى (ثروت البربري) في مستشفى (........) التعليمي، وفي العام 2010.. هل هناك احتمال خطأ؟"






قالت نيتوكريس:




ـ"لا يبدو لي شخصًا مهمًا.."




قال (أدونيس) بلهجة قاطعة:




ـ"كل الأشخاص المهمين في التاريخ لم يبدوا كذلك في البداية..

لم يكن أحدهم يطير أو يخرج نارًا من فمه..

(أنور السادات) كان مجرد سائق لوري يضع على رأسه طاقية صوفية..

(بنيامين فرانكلين) كان رث الثياب مضحكًا فسخرت منه فتاة في الشارع، والغريب أنها تزوجته بعد ذلك!..


هيا بنا!"






وسرعان ما ساد الصمت، وفتح (ثروت) المذهول عينيه ليجد أنهم رحلوا..

ما معنى هذا الكلام؟








هل هم مجانين؟..




هل هم لصوص؟...






تذكر طريقتهم في الاستماع له والتقاط الصور في كل لحظة، وبدأ يشعر بتوتر..

يتصرفون لا كطلبة يبغون العلم بل كسياح في موقع أثري!..


نعم..

هذا هو الشيء الذي لم يعرف كيف يعبر عنه من قبل...



لكن لماذا؟



هو عظيم..

يعرف هذا جيدًا، لكن من قال لهم؟..


لم يجد الوقت ليفعل شيئًا يكشف هذه العظمة؛ فما سر هؤلاء؟..


كيف دخلوا الغرفة وكيف خرجوا منها؟






في الصباح كان متوترًا محمر العينين، وظهر هذا في طريقة تعامله معهم. كان عصبيًا لدرجة أنه هشم أنبوب اختبار به مصل واخترق الزجاج يده.. إنه عاجز اليوم عن القيام بعمله بشكل صحيح..

برغم هذا التقطوا ليده عدة صور كأنهم يصورون إحدى البرديات.





في النهاية لف يده بالشاش وانفرد بـ (دافني) في ركن المختبر جوار جهاز (إليزا)، فقال لها:




ـ"الآن أريد تفسيرًا.."







نظرت له في دهشة، فقال ضاغطًا على كلماته:






ـ"لن تخدعيني.. أنتم تتسللون لغرفتي ليلاً..!"




ـ"من الذي.....؟"




ـ"أنا أقول.. لو لم تفسري فسوف أحكي كل شيء للمدير وأطلب إعفائي من تعليمكم"






هتفت في جزع:




ـ"أرجوك.. لا!"







ثم ساد صمت ثقيل.. ظلت تنظر للأرض ثم رفعت عينها وقالت:




ـ"يصعب أن أشرح كل شيء.. أنت لا تفهم معنى السياحة التاريخية. لو أنك منحت الفرصة للعودة إلى زمن كليوباترا والحديث معها والتقاط الصور فهل تفعل؟"




ـ"لا.."






اندهشت من الرد الأحمق، فعادت تقول:




ـ "ليكن.. بعض الناس يرغبون في ذلك.. فلنقل إنني ومن معي لسنا من هذا الزمن أصلاً.. جئنا لهذه الفترة كي نلتقي بك ونصور كل شيء.. حياتك.. طريقة تفكيرك.. عملك.. ألم تلحظ اختفاء أقلامك ومناديلك وسماعتك الطبية؟.. إننا نجمع هذه الأشياء.. سوف تساوي ثقلها ذهبًا في عالم الغد.. العالم الذي جئنا منه"






لم يفهم شيئًا على الإطلاق سوى أنهم لصوص.. عاد يسأل:




ـ"والورقة التي كلفنا بها السيد وكيل الوزارة؟"




ـ"مزورة.. "




ـ"ولماذا؟.. لماذا أنا بالذات؟"






اتسعت عيناها وقالت:




ـ"لأنك. لأنك مهم جدًا.. سوف يتغير تاريخ العالم بسببك!"




يتبع

عهد Amsdsei 17-03-12 07:52 PM

شخص مهم (4)

راق الكلام لـ (ثروت) برغم أنه لم يفهم معظمه، وعاد يسألها:
ـ"تاريخ العالم؟.. هل تعنين أنك تتوقعين أن أصير رئيس الجمهورية؟.. أنال جائزة نوبل؟.. أشتري أرض (الششماوي)؟"
قالت وهي تكور أنفها الأقنى الجميل:
ـ"لا أستطيع التفسير.. نحن ممنوعون من التفسير وإلا تصرفت بطريقة تغيّر التاريخ. لاحظ أنك بالنسبة لنا ماض يحرم علينا تغييره.. فقط اكتفي بقول إن كل طفل في الرابعة في عالمنا يحفظ اسمك جيدًا، وربما لديه صورتك".
لم يصدق حرفًا لكن.. ربما كان هذا هو التفسير الوحيد لظهورهم في غرفته والباب مغلق. لو كان كلامهم صحيحًا؛ فمعنى هذا أنه محق بصدد نفسه.. إنه شخص مهم جدًا.. مهم لدرجة أن يعكف خمسة أفراد على التقاط الصور له وجمع أقلامه ومناديله.. مهم لدرجة أن يتسللوا لغرفته ليصوروه وهو نائم ليلاً..
لقد كان على حق..
لكن.. لن يندفع للجنون بتصديق هذا الكلام الفارغ، إنهم يعبثون به.
سألها:
ـ"أنتم مصريون طبعًا؟"
ابتلعت ريقها وهزت رأسها أن نعم..
ـ"وهذه الأسماء الغريبة؟"
ـ"هكذا ستكون أسماؤنا في الغد.. إن الأسماء تتغير مع الزمن.."
أمسك بيدها بشيء من العنف، لكنها لم تجفل وقال:
ـ"اسمعي يا كتكوتة.. أنا لا أصدق حرفًا من هذا السخف.. هذه (اشتغالة) لا أبتلعها.. سوف تأتين معي لمكتب المدير، وهناك تحكين هذه القصة من جديد.."
ـ"لا أستطيع.."
هنا وجد أن الباقين يقفون حولهما.. يبدو أن وقت العراك قد جاء.. لكنه سوف يصرخ.. سوف يأتي عمال المستشفى ليمزقوهم..
فتح فمه ليتكلم..
لكن......
هل هذه اللطخة الكبيرة من الدم جاءت منه هو؟...
المعطف ملوث بالدم.. الدم يتساقط من منخريه بلا توقف.. ماذا حدث؟
رفع عينيه نحوهم في جزع فوجدهم يلتقطون الصور.. وقال أدونيس وهو يبعد الآخرين:

ـ"هذا هو.. البداية.. لقد انتقل له الوباء من أنبوب الاختبار الذي تحطم.. لا تخافوا يا شباب فنحن جميعًا تلقينا اللقاح لكن لا تلمسوا شيئًا منذ هذه اللحظة".
ـ"لا.. لا.. أفهم.."
قالت (دافني) وهي تنهض:
ـ"نحن طلبة طب جئنا من المستقبل كما قلت لك.. مهمتنا أن نقابلك ونعرف كيف بدأ كل شيء، وأن نلتقط الكثير من الصور.. أنت أول حالة من الوباء الذي أباد ثلاثة أرباع البشر والذي بدأ اليوم حسب كتب التاريخ.. الوباء الذي أطلق عليه العلماء اسم (بريريا) نسبة لأول من مات به، لهذا قلت لك إنك مهم جدًا في تاريخ البشرية، وقد احتجنا لأعوام طويلة كي نعيد الحضارة ونبدأ من جديد.. اليوم نحن نرى مولد الوباء".
قال (أدونيس):
ـ"الغريب أن صاحب الدم الأصلي لم يصب بالوباء.. "
صاح (ثروت) وهو يحاول النهوض:
ـ"أنتم مجانين.. مجا...."
ثم سقط على ركبتيه فقال (أدونيس) وهو يلتقط المزيد من الصور:
ـ"فعلاً.. الأعراض هي نزف من كل فتحات الجسد ويبدأ فور العدوى.. هل ترون هذا الدم المتدفق من العينين يا شباب؟.. إنها علامة (ثروت) الشهيرة التي تميز هذا الوباء عن سواه من الحميات النزفية..".
ـ"أنتم تمزحون!"
قالت (دافني) في برود علمي:
ـ"لا فارق.. صدقت أم لم تصدق؛ لكني أشكرك على الساعات التي قضيناها معك.. بالفعل أنت أهم شخص في تاريخ البشرية على مدى ثلاثمائة سنة.. كل طفل في عالمنا يعرف اسم (ثروت البربري).. أول من مات بالوباء الرهيب..".
قالت نيتوكريس:
ـ"أعتقد أن علينا الرحيل يا شباب..!"
صاح (ثروت) والدم يسيل بلا توقف من أذنيه هذه المرة:
ـ"انتظروا.. متى ينتهي هذا؟"
ـ"خلال يومين.. لا أحد يعيش أكثر من يومين!...والآن سوف نعود لعالمنا!"
وسرعان ما كانوا يغادرون المختبر في مزيج من الرعب والحماسة والفوضى.. لابد أنهم يمزحون.. لابد أن هذا مقلب...
لم يكن (ثروت) يعرف أنني سأزوره غدًا في المستشفى، وأنني سأنال نصيبي من العدوى مع كل من تعامل معه؛ هذا قد يغفر لي بقع الدم المتناثرة على هذه الأوراق...
فتح فمه ليصرخ فشرق بالدم.. لكنه استطاع أن يخرج الصيحة:
ـ"دافني!.. هل تتزوجينني؟؟؟
تمت


الساعة الآن 06:05 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية