رأت صبيا جاثيا في الغبار ، يتمد أمامه كبش ماعز هامد الجثة ، وأدركت ما جرى ، كان الصبي يسوق قطيعا من الماعز ، عندما إندفع الكبش نحو منتصف الطريق ، فدهسته العربة الأمامية وقضت عليه.
راح بويد ، سائق السارة ، يؤنب الصبي ، ويوبخه على إهماله وطيشه ، فأجهش بالبكاء وهو يسمع هذه اللهجة القاسية ، وهنا تدخل فريزر ، دافعا بويد جانبا ، ومتوليا زمام الأمور ، إنحنى ارضا ومر بيده فوق جثة الكبش ، ثم اشار لأحد الرجال بجره الى حافة الدرب ، وركز إهتمامه على الولد . طغى على الصبي حزن عارم ، وكان عويله الذي إخترق أذني كوري حادا يشق الفضاء ، وعمد الى لطم راسه بالأرض مرتين ، وبقوة مؤلمة. وقف الرجال حائرين ، مكتوفي الأيدي ، وتكلم فريزر الى الصبي ، حاول مخاطبته بالإنكليزية ولغة أفريقيا الجنوبية ، وبلهجتين عامتين ، لكن كلماته ذهبت سدى ، وإسترسل الصبي في عويله. صاح بويد يتوقد غيظا: " إنه يحاول إستدرار الشفقة ، والحصول على حفنة من الدراهم". إستدارت كوري نحوه وقد إستبدت بها غريزتها: " هل أنت عديم الإحساس الى هذا الحد؟". ورد بضراوته المعتادة: " هذه مسألة لا تعنيك أيها المغفل". وبادر فريزر بالقول: " إنه مجرد حادث ليس إلا ". ورأته كوري يمد يده الى جيبه ، ويمسك بكف الصبي ويعطيه بعض الأوراق النقدية. رفع الصبي الصغير وجهه الذي يكسوه الوحل والغبار ، وحدج النقود برهة ، ثم راح يعول مجددا ، قال فريزر باسى: " أنا آسف لهذا الحادث ، ولكنني اعطيته أكثر مما يحتاج لشراء كبش آخر". وإزداد بويد شراسة: " الأفضل أن تتجاهله دعه يعول الى أن تجف دموعه". ودفع فريزر بورقة نقدية الى اخرى الى يد الصبي معلقا: " لا بد من إستئناف الرحلة ، ليرجع كل منكم الى عربته ". " كلا ( صرخت كوري محتجة ، مستهجنة ) لا يمكننا ترك الولد في هذا الوضع". ووجدت نفسها ، وبدون إنعام النظر ، تنحني لتضم الصبي الى صدرها غير عابئة بالاوساخ تلطخ ثيابها ولا بتاثير تصرفها على رفاقها ، لم تفكر إلا بذلك الولد البائس ، وحاجته الى العطف والطمأنينة ، أخذت تهدىء من روعه ، وتهمس في اذنه كلمات الحنان والشفقة ، ولا يهم انه لا يفهم معنى كلماتها ، فهو سيفقه نيتها وإهتمامها به. وما لبث الولد ان سكن روعه ، وتوقف عن البكاء والعويل ، إنه مجرد طفل ، فكرت كوري ، طفل صدمته خسارة أعز ما لديه ، ولا شك ان الدراهم تمكنه من شراء كبش آخر ، لكن الوقت وحده والحب يشفيان الجرح الذي فتحه الموت المفاجىء في قلب ولد صغير. إعتقدت كوري أنها قامت بواجبها نيابة عن الجميع ، فليتوجهوا الآن الى السيارات لمتابعة الرحلة. رفعت بصرها ، كان الصمت يخيم على الجميع ، صمت غريب ، أليم ، مترقب ، جالت بنظرها من وجه لوجه ، فإنتابها إضطراب شديد ، كان الرجال يحدجونها بتمعن ، وعلت وجوههم إمارات الحذر والتساؤل ، وعلى نحو مباغت ، زم بويد شفتيه بخبث مخيف ، وبدا مارك عصبي المزاج ، اما ملامح فريزر فكانت كالحة قاتمة ، كان وجه فريزر يثير فيها الرعب أكثر من أي شيء آخر. وقفت على قدميها ، متلعثمة ، تحاول إخفاء إضطرابها : " يمكننا الذهاب الآن". لم يجبها أحد ، ولم تبدر اية إشارة من احد ، اصيب راسها بالدوار وكررت كلماتها بلهجة اقل إقناعا: " يمكننا الذهاب الان ". رنّ صوت فريزر في أذنيها : " بعد قليل ، تعال معي". نظرت كوري الى مارك نظرة إستجداء ، لم ينبس ببنت شفة ، وخالته يهز برأسه مبديا اسفه ، وعجزه عن مساعدتها. لم يكن امامها خيار سوى السير وراء فريزر ، وشعرت فجأة بالرعب الشديد ، ومع ذلك صممت على كبت مشاعرالخوف امام المجموعة ، مشت وراء فريزر برأس مرفوع ، كانت كل الأنظار مركزة عليها ، وهي تخطو خطواتها الوثيدة ، المرهقة. جلست بجانبه في سيارة الجيب ، وإستعدت كوري للمعركة الحاسمة ، تتجاذبها مشاعر خفية ، غامضة اتجاه فريزر ، وكل ما يمثله من قوة ورجولة وجاذبية. وأخيرا فتح فاه قائلا بتمهل مقصود: " نعم يا سيد كولن لارسن !". وتمتمت كوري : " نعم يا سيد ملوري!". وخرج صوته رقيقا ، ناعما ، ومغلفا بالخطر: " أعتقد أن عليك إيضاح موقفك". وسألته بخفة ، وكانها احست بإقتراب ساعة الإنفجار : " تقصد تعويقي للرحلة ؟ لم يكن في اليد حيلة ، والولد في تلك الحالة السيئة". وهز رأسه : " حسنا". " لم نتاخر كثيرا ( ردت متلعثمة ) وعزّ عليّ التخلي عن الصبي يعتصره الألم". " ليس هذا هو الموضوع الرئيسي ، وأنت تعرف في أي مكان هنا ....". وعاد يسالها مشددا على السم الول: " هيا يا كولن .... هل ستخبرني الحقيقة أم تضطرني لإنتزاعها منك بالقوة؟". رات في عينيه قساوة مدمرة تخمد النفاس ، فقالت متوسلة : " إنك تسيء الفهم ". ورد بفم ممتعض: " اسيء الفهم ؟ لنتحقق من ذلك...". ومد يده الى وجهها ، ونزع الشاربين بحركة سريعة. لمست كوري شفتها العليا بانامل مرتجفة ، شاعرة بإنهيار حصنها المنيع.... حاولت أن تتكلم فخانتها قواها. وإزداد فريزر غيظا. " والان الى القناع الاخر ، هل تنزع النظارات ام أنزعها أنا؟". وجدت نفسها تتضرع قائلة: " سانزعها ،سانزعها". وها هي الان تبدو على حقيقتها ، تلتهمها عينا فريزر بوقاحة ، وإنتقام ، وسمعته يبدي إعجابه: " يا للجمال ، يا للجمال ، ما هذه الأفكار الجهنمية يا كولن؟ ( وبلع ريقه ) ولكنك لست كولن طبعا ، ما هو الإسم الحقيقي .... كارلا؟". |
4- بعد أن إنفضحت اللعبة ، أحست كوري أن عليها الفرار من هذا المكان ، ولكن فريزر قال لها : " فات أوان العودة الآن ، لقد توغلنا كثيرا في الصحراء".
وقالت بصوت هامس: " إسمي كوري". " إسم عائلتك ؟ اريد أسم العائلة". وإستطاعت لفظ إسم العائلة بشق النفس. " لا تيمر ". جحظت عيناه ، خالته متوتر الأعصاب ، كان صدمة عنيفة أصابته ثم علت وجهه إبتسامة هادئة ، واعلن بصرامة : " إبنة جون لاتيمر ، والدك خطط كل ذلك ، يا للغرابة ، اذكر أنه شيطان خبيث ، ولكن لم اتوقع خدعة كهذه. وإنفجرت كوري : " لا ، والدي لا علاقة له". ورد فريزر بإشمئزاز : " إذن ما هذه المسرحية؟ .... اليست خدعة؟". إعترفت كوري: " نعم إنها خدعة ، ولكنك تظلم والدي بدون مبررر ". " انا .... أظلمه؟". " نعم ( أكدت له كوري ) إنها خطتي وحدي ، ولا علاقة لأي شخص بها". " ان والدك يريد الحصول على صور الحيوانات الصخرية.... تلك الحيوانات اللعينة التي لم يتاكد من وجودها حتى الان". كان فريزر ثاقب البصيرة ، متقد الذكاء ، وأدرك في ثوان معدودة هدفها من إنضمامها الى الرحلة ، ولم تجد كوري مهربا من الموافقة على رايه ، فصاح بها: " إذن لماذا لم يأت هو بنفسه؟". عضت كوري على شفتيها مستجمعة شجاعتها : " لأنك كنت سترفضه وتخيّب آماله ، اليس كذلك؟". واجاب متملصا من إبداء راي قاطع : " ليست المسالة بهذه البساطة ، كان بإستطاعته إخباري". إستردت كامل ثقتها وهي تؤكد له: " كلا ، إن والدتي معتل الصحة ، ولم يعد قادرا على تحمل حياة الصحراء". لم تثر كلماتها أي تعاطف مع وضعها ، بل إزداد فريزر ملوري حدة: " إذن قرّر أن تحلّي محله". " لا ، قلت لك أن القرار قراري أنا". " قرارك الذي وافق عليه بحرارة". وتشبثت كوري برايها : " على العكس من ذلك ، إن والدي لم يعرف شيئا عن الموضوع". خيّمت لحظة من الصمت ، كان فريزر يدرس وجهها بتململ وتساؤل ، وخالت كوري ان هذا الرجل العنيد يمسك مصيرها بين يديه ، وقرأت في ملامحه علامات الشك والإرتياب في كل كلمة تفوهت بها ، وسمعته يقول: " إنك نادرا ما تلتقين بوالدك ، ولذلك يمكنك الإختفاء من دون ان يدري اين انت؟". تلقّت كوري الطعنة بأنف شامخ: كنت أعرف انك رجل متحجر القلب ، متغطرس ، عديم الرحمة ، لكن فاتني انك ايضا رجل خسيس وضيع". وزم شفتيه: " خسيس؟". " ما معنى هذا الغمز واللمز إذن ؟ إن علاقتي بوالدي علاقة وثيقة ، وكلها حب وحنان ، والدي يعتقد انني أقضي إجازتي السنوية ولا يتوقع عودتي قبل بضعة اسابيع". " الم يخامره الشك حول نواياك الحقيقية؟". ذكّرها السؤال بآخر لقاء لها مع اريك ، وكل التعاسة التي تخللته ، أحست بإنقباض ، فإبتعدت عن فريزر قائلة: " والدي فهم حاجتي الى قضاء بعض الوقت وحيدة". وتمنت في اعماق نفسها لو يخلي فريزر سبيلها ، ويدعها وشانها ، لو يتوقف عن إستجوابها وينهي عذابها وقلقها ، وهي تحس بتلك القوة الخفية التي ما زالت تشدها اليه. منتديات ليلاس لم تلمح اليد التي إمتدت صوبها ، طوّق عنقها بأصابعه الطويلة ، فكاد وجهها يصطدم بوجهه وهو يجبرها على النظر اليه ، خفق قلبها في قفص صدرها كعصفور وجل ، وخاطبها بلهجة هادئة مختلفة: " بذلت جهودا كبيرة للإنضمام الى هذه الرحلة، هل تعني لك الشيء الكثير؟". حاولت التملص من قبضته دون جدوى ، أحست بوخز غريب في وجنتيها وعنقها ، وظل يراقبها بدقة ، ترى هل يدري مدى تاثير شخصيته عليها ؟ نعم ، إنه يعرف كل شيء ، وهو يجد متعة في ذلك ، كان حلقها جافا ، فوجدت صعوبة قصوى وهي تتابع الحديث: " هل لك معرفة بأبحاث والدي العلمية ؟ لقد وضع كتابا حول شعوب افريقيا القديمة ، وهو يتوق للحصول على صور الرسوم الصخرية منذ فترة طويلة". سحب فريزر يده: " إن لديه صورا اخرى". اقرّت بهدوء: " هذا صحيح ، ولكنه يريد هذه الصور مهما كلّف الأمر". أجاب فريزر بصوت يخالطه الغضب والإعجاب الدفين : " يا له من كهل عنيد". وظنت أن التفاهم معه بات محتملا: " هكذا تفضّل ان تراه ، ظل والدي يحلم بالرسوم سنوات وسنوات ، وهو يعرف انها هناك ، يؤمن أنها موجودة ، ولو كان اصلب عودا لخرج الى الصحراء منذ زمن طويل ، ولكن ليس في الأمر حيلة ولهذا السبب قمت بالمهمة نيابة عنه لو كان لديك حلم يا فريزر ، ألا ...". ولم تكمل عبارتها ،، مدركة أن عواطفها إستبدت بها ، لاحت في ذهنها صورة عجوز خائر القوى ، ستمر على قيد الحياة لتحقيق حلم واحد ، والى جانبها رجل شاب بلحمه ودمه إفترضت أنه سيقدر معنى هذا الحلم ، ولكنه خيب أمالها ، لم تحركه كلماتها المتوقدة عاطفة ، بل أن بريق عينيه يروي لها قصة أخرى ، إن الموقف يزداد سوءا مع كل كلمة تنطق بها. قالت وهي تنفجر غيظا: أنت لا تفقه شيئا ، أو انك تتظاهر بالغباء". ومضت عيناه ، وطاف شبح إبتسامة فوق شفتيه: " أنا افهمك تماما ، ولكن أعتقد ان والدك سيكون في وضع أفضل لو رزقه الله إبنا عوض هذه الإبنة ". فتطاير الشرر من عينيها: " إذن والدي على حق ، أنت تحتقر النساء ، إنك تكرهنا ". |
ضحك قائلا:
" أكرهكن ؟!! انا لا أكره النساء يا عزيزتي ، إنني اتمتع بصحبتهن كثيرا في بعض الحيان ( ونظر نظرة ذات مغزى ) أما من حيث إحتقارهن ، أكتفي بالقول أنني حتى الان لم أجد إمرأة تحوز على إحترامي". حدقت فيه كوري لحظة صامتة ، إجتاحتها رغبة عارمة لأثبات مدى خطأه ، قالت بصوت مرتفع: " واضح، إذن ، إنك كنت سترفضني لو عرفت انني إمرأة ". ورد ببرودة تامة: " طبعا ، ولهذا السبب إنتحلت شخصية رجل". تنهدت بعمق ، إنه رجل صعب المراس ، يرد على كل تهمة ، ومهما كانت محقة ، بإعتداد وهدوء ، حاولت ثانية: " أنت تعتبر النساء ناقصات العقول". " أنا لم اقل ذلك". سمعته يكبت ضحكة خافتة ، إن جوابه واضح ، لا يحتاج الى تفسير ، فرغت جعبتها من العبارات الملائمة ، لم تعد تفكر إلا في الإبتعاد عنه والإنضمام الى الآخرين. همّت بفتح باب السيارة ، لكنه سارع الى جذبها نحوه ، وشعرت بيديه الكبيرتين تطوفان فوقها وكاد يسحقها بجسمه الثقيل ، راحت تقاومه بكل ما تملك من قوة ، لا لن تدعه يعبث بها مهما بلغ إعجابها به ، إنه يحاول إذلالها وتحطيم كبريائها ، فلتدافع عن نفسها ، وتلقّنه درسا لن ينساه. وأخيرا أطلق سراحها ، ودفعها بعيدا عنه بحركة مفاجئة ، فرفعت يدها ولطمته على وجهه بعنف ، جاءت صفعتها تعبيرا عن حنقها لاسلوبه في معاملتها ، وإنتقاما من نفسها لإعجابها به في المقام الأول ، وقال يؤنبها : " إياك أن ترتكبي هذه الحماقة مرة ثانية ". وصرخت في وجهه: " كيف تسوغ لك نفسك إهانتي ؟ يا للجسارة !". وهدّدها : " إن جسارتي تسوغ لي كل شيء ، وإياك ان تنسي ذلك ، والآن تعرفين دور النساء الوحيد في حياتي". أحست كوري بالغثيان في داخلها ، ولكن ماذا تفعل في هذه اللحظة؟ عليها الفرار من هذا المكان ، بعيدا عن هذا الرجل الذي لا يعرف حدا للإذلال والإهانة ، لم تعد تفكر في الرحلة ، أو الرسوم الصخرية ، ولا باحلام والدها ، كل ما تتمناه هو الفرار ، وإنقاذ نفسها ، وتمكنت بعد لحظات من التفوه بسؤالها: " هل تدلني على طريق العودة؟". أجابها بلهجة جافة: " فات أوان العودة الان". حملقت في وجهه ، وهي تدرك معنى كلماته: " فات الأوان؟ ولكن... أعني ... إنك ستدعني امضي في سبيلي الان". فإبتسم بخبث: " يستحيل علي ذلك ، لقد توغلنا كثيرا في الصحراء ، ولو كان هناك مهبط طائرات قريب من هنا لوضعتك في أول طائرة". إستفسرت بصوت مضطرب: " تعني المهبط الذي حطت فيه الطائرة التي اقلتنا الى هنا؟". فنظر اليها بإشمئزاز : " إبتعدنا كثيرا عن تلك البقعة ، إننا نحسب مسافة كل يوم نقطعها ، ولكن لا أتوقع منك إدراك كل هذا ، علينا القيام بأمور عديدة إستعدادا لتقلبات الطقس يا كوري ، ولن أسمح لنزوات إمرأة طائشة بإفساد برنامجي". سألته والغصة تعض حلقها: تعني.... تعني أنك تريدني ان أستمر في عملي؟". إلتوت شفتاه تأففا: " أريدك! أنا لا اريد وجودك البتة ، ولكن لم يعد أمامي خيار". كان الإحتقار يفوح من ملامحه ... إحتقار الغرور والإعتداد بالنفس... لم يكن فريزر ملوري راضيا عن الوضع أكثر من كوري ، ولكنه وجدها فرصة سانحة للتمتع بمنظر تخضع لظرف قاهر غصبا عنها ، وكرهته كوري في تلك اللحظة كما لم تكره أحدا من قبل. خاطبته بصوت منخفض: لن اذهب معك، افضل ان اعود أدراجي ، إن مهبط الطائرات لا يبعد كثيرا". فرفع حاجبيه بإستهزاء: " تعودين بدون ماء الشرب؟ لا تتوقعي ان نمنّ عليك بقطرة ماء واحدة يا عزيزتي ، مع ذلك ، أنت حرة ، إذا كنت تريدين العودة سيرا على الأقدام ، فعلى الرحب والسعة". أدركت كوري أنها لن تستطيع السير أكثر من ساعات قليلة في هذه الأرض الحارة الجافة ، وستخور قواها ، وستصبح فريسة سهلة للحيوانات الشرسة ، وسألته بكآبة: " إذا وافقت على البقاء ، هل تضمن لي إستمراري في عملي؟". قال بلهجة جازمة: " أضمن لك ذلك ، إستأجرتك كمصورة ، وهذا ما ستقومين به ، لا مانع لديّ شخصيا ، ولكن الآخرين سينظرون اليك نظرة مختلفة الان". قالت كوري بثقة غير مقنعة: " أستطيع تدبر امري ، ولا أعتقد أنني ساتعرض للاذى وسط مجموعة من العلماء ذوي اخلاق عالية ". سألها بخفة: " وماذا عن بويد؟". " إنه فظ وجلف ولا يرتاح الى وجودي ، وعلى الأقل هذه كانت مشاعره عندما ظن أنني مجرد ولد". " وتظنين ان مسلكه سيتغير بعد أن يعرف أنك فتاة؟". أجابت كوري بحزم: " طبعا ، كان عداؤه نتيجة عدم تمتعي برجولة كافية ، وسيبتهج الان بصواب رايه". قال فريزر ملوري بنعومة: " لا أظن أنك ساذجة الى هذا الحد ، انصحك بالإبتعاد عن بويد". سألته كوري بوقاحة: " تعني أنك تقلق علي؟". ونظر اليها بعينين جامدتين كالجليد: " على العكس ، أنت تتحملين مسؤولية أعمالك ، انا لا يهمني إلا راحة رجالي ، ولا اسمح عادة للنساء بالإنضمام الى رحلات كهذه( وتابع مشددا على كل كلمة ) إن معاملتنا لك ستظل كما كانت ، فلا تحسبي أن أنوثتك تؤهلك لإمتيازات خاصة". " أنا لم اتوقع إمتيازات خاصة ". |
قررت كوري أنها حلّت كل الإشكالات ، وبدات بفتح الباب ، فسمعته يحذرها مرة أخرى:
" دعي رجالي وشأنهم ! إن اية مشكلة تثيرينها بأسلوب النساء المعروف ، ستضطرني لجلدك جلدا موجعا". وبعينين يتطاير منهما الشرر ردت كوري: " أنك ستجد متعة في جلدي ، تماما كما إستمتعت بإبراز عضلاتك أمامي ، أليس كذلك؟". ووافق بهدوء: " بالضبط ، يسعدني أننا نفهم بعضنا الآن ". ساد المخيم جوجديد تلك الليلة ، لاحظت كوري هذا الإختلاف منذ ان ترجلت من سيارة الجيب بعد حديثها الطويل مع فريزر ، تبدلت نظراتهم ، وتغيرت أصواتهم ، فكرت كوري ان الرجال اصيبوا بصدمة مفاجئة وهم يكتشفون هويتها على هذا النحو . إعتقدت أن الأمور ستعود الى مجراها الطبيعي بعد مرور ساعات قليلة ، ما أن تغيب الشمس ويباشرون بشيّ اللحوم فوق ألسنة اللهب حتى تكون قصتها الغريبة في خبر كان. كم كانت مخطئة ، إزدادت قصتها مع مرور الوقت غرابة وحدّة ، ظل الرجال يتصرفون ظاهريا بأسلوب متّزن وودي ، لكن لم يفتها التحفظ وبعض التكتم ، بعد أن كانوا يطلقون العنان لألسنتهم ، ويتندرون بشتى النكت البذيئة لا يقيّدهم وجود أنثى تعكر صفو أحاديثهم . لم تعد تبدر عن أي منهم كلمة نابية أو إشارة جارحة ، حملوا اليها طعامها ، وكل ما تحتاج اليه لتناول وجبتها ، ثم تركوها بمفردها وكانها لا تنتمي الى عالمهم. إنها سحابة صيف عابرة ، خاطبت نفسها ، ما زالوا يعانون من الصدمة ، ويصعب عليهم التكيف معها ، ولا بد لهم أن يتجاوزوا ردة فعلهم الأولى ، لم تعد تبدر عن أي واحد منهم كلمة نابية أو إشارة جارحة ، حملوا اليها طعامها ، وكل ما تحتاج اليه لتناول وجبتها ، ثم تركوها بمفردها وكأنها لا تنتمي الى عالمهم. إنها سحابة صيف عابرة ، خاطبت نفسها ، ما زالوا يعانون من الصدمة ، ويصعب عليهم التكيف معها ، ولا بد لهم أن يتجاوزوا ردة فعلهم الأولى ، ويصبح وجودها مسألة طبيعية ، كم ستكون حياتها حرجة وموحشة إذا رفض الرجال قبولها كواحد منهم ؟ تمنت ان يكون صباح الغد التالي عاديا ، وتمر الأزمة بسلامة ، لكنها كانت بالغة التفاؤل. وحده فريزر ملوري ظل كما هو ، وكان شيئا لم يكن ، ظل يخاطبها بلهجته المعتادة ، مثبتا لها ان آراءه وتصرفاته لا تؤثر فيها انثى خبيثة. إنها في ورطة حقيقية ، إمرأة وحيدة وسط مجموعة من الرجال في صحراء نائية ، إلتحقت بالرحلة للإبتعاد عن تعقيدات العلاقات العاطفية ، ولا ترغب في تقييد حياتها ثانية ، إن فريزر ملوري لا يدرك مدى تصميمها على التمسك بحريتها ، وحتى مارك مع إعجابها به ، لن تتعجل في التورط معه. وإرتسمت صورة فريزر في مخيلتها ، بوجهه الأسمر وملامحه الخشنة ، وبكل سطوته وقوة رجولته ، وفجاة سرت في جسمها قشعريرة غريبة ، فكادت تنفجر غيظا ، وإزدادت إلتصاقا بموقد النار. " هل تشعرين بالبرد؟". إستدارت كوري ، وصوت مارك يرن في أذنيها ، إبتسمت : " قليلا". " يجب أن تلتفّي بسترة الصوف". " اعرف ، سامضي وأجلبها ". " لا حاجة لذلك ، خذي سترتي". وقبل ان تبدي أي إعتراضها ، كان مارك يلف كتفيها بسترة صوفية سميكة ، قالت محتجة: " لا تتعب نفسك ، من السهل علي جلب سترتي من الخيمة". ورد بصوت بالغ العذوبة: " اريدك ان ترتديها". فكرت كوري قليلا ، قررت عدم المضي في الإعتراض ، إن مارك صديقها الوحيد في المخيم ، لم تشأ جرح مشاعره ، فقالت ممازحة : " هل كنت تعرض عليّ سترتك ليلة امس؟". سمعته يشرح بصوت مداعب: " ليلة أمس كنت كولن ، كنت فتى لطيفا ، ولكن هذا كل شيء ( تابع بجدية) هل صحيح ما قاله لنا فريزر يا كوري؟ انك أتيت للحصول على بعض الصور لوالدك ؟". " نعم ، هل تدينني من أجل ذلك ؟". وأجاب بصوت اجش: " أدينك؟ لا يمكنني إدانتك لأي سبب ( وإنحنى يحضن يدها بين كفيه ) أعتقد انك اشجع فتاة عرفتها ، واشدهن جمالا ". كان عمل كوري قد اتاح لها الإحتكاك بعدد من الرجال ذوي المسلك الراقي والمظهر الانيق ، ولم يكن اريك اول رجل صادفته ، ولكنه صدف ان حاز على إهتمامها اكثر من الآخرين ، وطالما تغزل بها الرجال ، وتغنوا بجمالها ، ومع ذلك وجدت هذه الكلمات البسيطة التي نطق بها عالم في قلب صحراء افريقية ، أعذب وأرق ما سمعته . وصوت رقيق دافىء قالت: " لماذا يا مارك ؟ ما أعذب كلماتك". " وما هي الكلمات المعسولة التي يهمس بها صاحبنا مارك في اذن سيدة؟". لم يشعرا ببويد وهو يقترب منهما ، أحست كوري بإشمئزاز وهو ينحني مقرفصا بجانبها ، وخاطبته محاولة تجاهل عبارته: " مرحبا يا بويد ، كنت ومارك نتبادل أطراف الحديث". وقال بلهجة مبطنة : " اعرف ، وأحاديث حميمة على ما يبدو، ما رأيك بنزهة قصيرة يا ملاكي؟". احست كوري بمارك يحبس انفاسه ترقبا ، فقالت بتمهل: " لا ، شكرا، تبا للكسل ". وإزداد بويد وقاحة: " يا للكسل ! لا باس ، يمكننا التوجه الى الخيمة ". وصاح مارك بحدة وغضب: " إخرس يا بويد ، كيف تجرؤ على مخاطبة كوري بهذه اللهجة؟". قهقه بويد بفظاظة: " لا تحتد كثيرا يا عزيزي! إن كوري فتاة ناضجة ، وتعرف كيف تتصرف ، ما رايك يا ملاكي الطاهر؟". إذن لم يطرا أي تغيير على بويد ، فكرت كوري ، لم تصدق فريزر عندما حذّرها منه ، وارادت ان تكلمه ، وتشرح له عدم رغبتها في التورط معه ، ولكن مارك سبقها بقوله: " لن اسمح لك بمخاطبة إمرأة محترمة بهذا الأسلوب". وضحك بويد: " إمرأة محترمة؟ ما هذا الهراء يا مارك؟ إنها إمرأة لعوب تحب أن يشاطرها الرجال خيمتها". فقد مارك أعصابه: " إنني أحذرك ، دعها وشانها". " وماذا ستفعل إذا عصيت أوامرك؟". وضعت كوري يدها على ذراع مارك تتوسل اليه ليخفف حدة غضبه ، وقد خافت عليه من بويد وقبضته الحديدية. وانقذ الموقف صوت فريزر وهو يصيح: " كوري ، بيتر أعد لك طبقا شهيا ، هيا الى هنا". رفعت بصرها ونظرت اليه ، لم تلمح تعابيره في الظلام ، ولكنها تبينت شموخ رأسه المتغطرس ، وقررت كوري أن فريزر تعمّد التدخل في هذه اللحظة ، ويجب عليها وضع حد لهذه العجرفة ، فأجابت: " اشكر بيتر عني ، لست جائعة الآن ". هز فريزر رأسه علامة السخرية ، ثم خاطب بويد: "هل تسمح بكلمة معك على حدة ؟". رد بويد بشراسة: هل تحاول فض المشكلة؟". " لا أبدا ، اريد مناقشة بعض الشؤون المتعلقة ببحثنا العلمي ( وتابع مؤكدا سلطته )، بويد... اريد أن اراك ". وهرول بويد وراءه ، لا يلوي على شيء. إعتذر مارك لكوري من فظاظة بويد ، فقالت: " لا تهتم، أستطيع تدبر أمري". وتوجها الى المخيم حيث تحلق الآخرون ينشدون اغنية مسلية. |
5- حدّقت في الظلام الدامس قلقة ، لم يكن يتبادر الى ذهنها انها معرّضة لأي خطر حقيقي عندما رنّت كلماته في أذنيها ثقيلة ، مخيفة :" الى اين تذهبي؟".
عندما إنضم مارك وكوري الى المجموعة، كان احد الرجال يعزف القيثارة ، مداعبا أوتارها بحنان ، أبدى الرجال ترحيبهم بكوري متهللي الأسارير ، مخلّين لها أقرب بقعة من كومة الحجر لتوهجة ، ولاحظت أنهم كانوا يناقشون امرا ما ، وتوقفوا عن الكلام فجاة مع وصولها ، لكنها لم تمتعض وبدا عليها الإرتياح وهي تلمس وجود جو طبيعي ، لا توتّر فيه. بدأ لاعب القيثارة يعزف لحن عادي ، وإنطلق الرجال يغنون اغاني بسيطة ، طالما سمعتها كوري حول مواقد النار وفي العشايا ، غمرتها موجة من السعادة وهي تصغي الى الأصوات المتناغمة، إنها تحب طريقة العيش هذه ، بعيدا عن جلبة المدينة ، والأجواء المزيفة التي عملت فيها. بدت الحياة في المخيم الصغير ،على أطراف صحراء كلهاري الشاسعة ، اصيلة ذات جوهر واضح ، ما أروع منظر النار الدافئة ، وما أشهى نكهة اللحم المشوي وعبق الفحم المتوهج ، ويا لروعة الفضاء يتلألأ بالنجوم اللامعة ، ثم تلك المصابيح الخافتة تتوزع هنا وهناك ، مرسلة نورا يضيء جنبات المخيم ، وتمتد بعد ذلك ستائر الظلام ، يغلفها سر غامض ، فتلفّ اقاصي الصحراء النائية. إن لنار المخيم سحرا عجيبا ، يدب في قلوب الرجال وعقولهم ، ياسرهم ويولد فيهم حنينا لا ينطفىء ، فكرت كوري في والدها يجلس وحيدا مع كتبه وأوراقه في ذلك المنزل الصغير فوق منعطف الجبل ، فإجتاحها حزن كئيب. منتديات ليلاس جلس مارك بقربها ، ن وجوده قربها يريحها ويدخل الطمأنينة الى قلبها ، تمت بينهما أواصر الصداقة عندما كانت لا تزال كولن ، ولم تتبدل صداقتهما بعد أن أصبحت كوري ، لم يشعر بالإهانة لتسترها وراء قناع خادع ، إنه صديق مخلص ، يعتمد عليه ، تأكد لها وهي تراقب وجهه الذي تضيئه النار أنه اقرب شخص الى نفسها من بين المجموعة كلها. ثم عاودتها الشكوك ، وما هي مشاعرها أزاء فريزر ؟ إنها لا تنكر إعجابها به في البداية ، أما الآن فتغير الوضع ، إنه يتمتع بشخصية فاتنة ، ولكنه متعجرف وعديم الرحمة ، لا ، إن فريزر ملوري لا يحوز على إعجابها بعد تجربتها المريرة معه. تنبهت الى نسيم الليل البارد يغزو مسامها ، فأدركت أن ساعة النوم قد إقتربت. فكرت في مشكلاتها العملية الراهنة ، إستطاعت حتى الآن تدبر أمرها وهي تشاطر الخيمة مع ثلاثة رجال ، ولكن الوضع يختلف في هذه اللحظة ، كيف ستصرفون بعد أن إكنشفوا هويتها الحقيقية؟ خالت مارك يغرق في حيرة مماثلة ، وهناك بويد وبيتر ، شريكها الرابع في الخيمة، ماذا يدور في مخيلة كل منهما؟ وما أن نهضت تريد الإنسحاب الى الخيمة ، حتى سرت الهمهمات بين الرجال يبدون تمنياتهم لها بقضاء ليلة سعيدة والتمتع بنوم هنىء. لم يتبادر الى ذهنها أنها معرضة لأي خطر كبير ، لن يجرؤ أحد على لمسها ، حتى بويد نفسه ، وأخيرا خاطبت مارك: " أعتقد أنه حان وقت النوم". وبدا مارك متوتر الأعصاب ، وسمعته يردد إسمها: " كوري.... كوري". حبست أنفاسها تحسبا لأمر طارى: " نعم؟". " لا شيء البتة .... لا شيء". وإضطرب صوتها: " مارك... ما بالك؟ لم يتغير شيء". وتلعثم: " كوري...". قاطعته بسرعة: " من فضلك يا مارك دعني أوضح موقفي ، بالنسبة الي ، كنت اعرف طوال الوقت أنني إمرأة ، وأنكم رجال ، وإستطعت تدبر أمري ،ولم أتعرض للإهانة أو لصدمة ( وخانتها الكلمات فإكتفت بالقول) أعترف أنه وضع غير طبيعي". وعلق مارك بجفاف: " وبأقل تعديل". خالت ان مارك يتحول ضدها ، وهذا يعني وقوفها وحيدة ، لا بد لها من إكتسابه الى جانبها ، وقالت بعد لحظات مشحونة بالتوتر: " ما أحاول قوله هو أن الأمور ما زالت كما هي ، قضينا معا ثلاث ليال ، ولم يعبأ بي أحد لأن هويتي كانت سرية ، ولا اجد أي سبب للتصرف بشكل مختلف ، أنا لست كولن ، ولكن لم ازل انا نفسي الشخص عينه الذي شارك الخيمة معكم سابقا". وإستطرد مارك بلهجته الجافة: " تريدين منا أن ننظر اليك وكانك كولن وليس كوري". " أريدك ان تحافظ على موقفك مني". ومر مارك بأصابعه فوق وجنتها: " انا افهم ما تعنين ولكن لا اخالك تفهمين نفسك يا كوري". " أنا أفهم نفسي تماما". قاطعها: " أنا رجل ، وكذلك بويد وبيتر ، وأنت إمرأة ، إمرأة جميلة للغاية، ولا يمكن لك تجاهل مشاعرنا عندما ننام وإياك تحت سقف واحد". وقالت متمهلة: " اعترف أنني كنت غبية ". فداعب وجنتها قائلا: " غبية؟ قلت لك من قبل أنك شجاعة". " كان عليّ التصرف بطريقة مختلفة". أجاب بهدوء: " هذا صحيح ، ولكنك لم تفعلي ، أؤكد لك أن ضغط دمي الليلي سيرتفع كثيرا". تأوّهت باسى: " ما هذا الهراء يا مارك ؟ إنك ستظل صديقي الوفي ". وإرتسمت ملامح الإستغراب على محياه: " صديقك؟ أنت في واد وانا في واد يا كوري ، مع ذلك ، اعدك بانني سأظل صديقا لك". واطرق مارك راسه متجهم الوجه ، شعرت كوري أنها تجلس قرب إنسان غريب ، غامض ينذر مظهره بالخطر. حدقت في الظلام الدامس حزينة ، قلقة ، لم تكن تتوقع كل هذه التعقيدات ، وصارت عاجزة عن التصرف بحكمة ، وتكوين راي واضح حول ما يجري. |
الساعة الآن 10:37 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية