فغرت كريستينا فمها:
" إنك قليل الحياء يا سيد براندون ، إذا كانت عمتك تعتبر مؤهلاتي وافية ، فهذا يكفيني ( ونهضت واقفة ) والان إسمح لي بالإنصراف..". قال بفظاظة : " إجلسي مكانك ، لم انته منك بعد". إبتسمت بإستخفاف : " يا لحظك السيء لم يعد لدي ما اقوله ، ومن الواضح انك تجدني غير مؤهلة لهذا المنصب ، مع أنني لا أفهم لماذا..". قاطعها بحزم : " لا تفهمين لماذا ؟ أمعني النظر قليلا يا عزيزتي الصغيرة". وقبل أن تأتي بحركة ، توجه نحوها ، وأمسك بكتفيها ، فوجدت نفسها امام مرآة معلقة قرب الباب ، صدمها مظهرها ، بشعرها الأشعث ، ووجنتيها المحمرتين ، وعينيها المتطايرتين شررا ، بدت مخلوقة همجية ، حاولت التملص من بين يديه ، فنهرها بصوت أجش : " لا تتحركي ، وإسألي نفسك ما الذي يمكن أن تقدمه فتاة بعمرك ومظهرك الى أمرأة مثل عمتي ". رددت بعنف : " ربما كانت السيدة براندون لا تريد الإنزواء كعجوز طاعنة في السن ، تحب ان تنعم بصحبة احد في مثل عمري ، وهذا ما قالته لي". " وأنت أغرتك الحياة الصاخبة في هذه المنطقة من العالم ، فتشبثت بعمل كهذا". وكادت تبوح له بكل الحقيقة وتروي له شكوكها ومخاوفها التي تقض مضجعها ، ولكن لتدعه يفكر ما يشاء ، لن تبالي به ، وقالت ضاحكة : " طبعا ، ولا تعتقد انني وقعت ضحية خدعة معينة ، إن السيدة براندون شرحت لي كل السلبيات والعوائق التي ستعترضني ". تركها وشأنها ومشى نحو النافذة : " وماذا عن الإيجابيات والفوائد ... هل ذكرتها لك؟". إستطردت بثقة: " إنها اشهر من أن تعرّف ". وراته يلتفت اليها بمرارة وإمتعاض : " ربما كنت على حق ، لا أدري ما الذي اقنعك بقبول العيش في هذا المكان المنعزل ، ومع سيدة مستبدة لا تزال تظن أن عصر الرقيق لم يتم إلغاؤه بعد". قالت كريستينا بصوت مضطرب: " يا لك من خسيس ، كيف تقول هذه الأشياء عن عمتك ...". قاطعها : " إن آرائي لا تلائم خيالك الشاعري وتصورك لحياة المزرعة ، لا تخدعي نفسك يا آنسة بينيت ، أنت لا تعيشين في الفردوس ، ولا توجد ملائكة هنا ". حمدت ربها وهي تلاحظ إنفتاح الباب ، ظنت ان يولالي عادت تطمئن عليها ، خاب ظنها . رأت شابا في ريعان الصبا ، فائق الجمال بشعره الأسود ، وعينيه اللامعتين وفمه الجميل ، كان يرتدي ملابس ركوب الخيل بأناقة تامة ، وينتعل جزمة براقة نظيفة ، خاطب كريستينا بلباقة مهذبة : " تاخرت كثيرا ، ويبدو انك تناولت الشاي ، أردت العودة مبكرا ، أرجو المعذرة ، إسمي ثيو براندون ". ثم إنقبضت اساريره قليلا ،وكأن شيئا ما ازعجه ، وقال : " مرحبا يا ديفلين ". أجابه ديفلين بإنحناءة من رأسه : " لم أكن أعلم انك تعشق الشاي يا ثيو ؟". هز ثيو بكتفيه ، ونظر الى كريستينا : " أردت الترحيب بالضيفة الجديدة ". رفع ديفلين حاجبيه : " ضيفة ؟ تقول انها أتت لتعمل هنا ". رد ثيو متبرما : " لا بأس ، ستجد جدتي شيئا يشغلها في ساعات الضجر ، ولكن عليها أن تستعيد نشاطها تحت أشعة الشمس ( ونظر اليها بإشفاق ) لقد عانت كثيرا مؤخرا ، إذ فقدت إحدى قريباتها". تنهد ديفلين بلوعة : " هكذا ، لو عرفت ذلك لوفرت على نفسي متاعب كثيرة ( ومشى نحو الباب ثم توقف ) عندما ترتاح عمتي من عناء السفر ، هل أبلغتها ان وفدا من لجنة الجزيرة ترغب في رؤيتها ،وفي الوقت الذي يلائمها ". إبتسم ثيو إبتسامة باهتة : " هل من الضروري أن تجتمع بالوفد؟". " لا ، ولكن طلبوا مني إبلاغها ". جلس ثيو على حافة المقعد ، ينقر جزمته بسوط الركوب ، وإستفسر : " وهل ستكون أحد أعضاء الوفد ؟". إستدار ديفلين يهم بالخروج ، كان معكر المزاج ، وسمعته يردد بعنهجية : " طبعا ، طبعا ". قالت بنبرة واضحة عذبة : " وداعا يا سيد براندون ". هدر غاضبا : " افهم معنى كلماتك ، ولكنك تبالغين قليلا ، لا شك أننا سنلتقي أكثر من مرة واثناء إجازتك ". يا لخيبة أملها ، فكرت كريستينا ،وهو يوصد الباب وراءه بشدة ، ووجدت ثيو يحدجها بإستغراب ، فخجلت قليلا . سالها ثيو بوقاحة : " هل تجدينه جذابا ؟". كادت أن تشتمه ، ثم تذكرت أن الإثنين تربطهما صلة القرابة : " آسفة ، لم اقصد.....". قهقه: ما لنا وللمجاملات ، كانت ردة فعلك طبيعية ، سيشعر بصدمة رهيبة لو عرف حقيقة مشاعرك ، إنه يعتبر نفسه فاتن النساء ، وما الذي قاله ليغيظك هكذا؟". أجابت تتعمد إخفاء إضطرابها : " لا شيء ، سبق لنا ان إلتقينا قبل هذه المرة ، هذا كل ما في الأمر ". علت الدهشة وجهه . " متى كان ذلك ؟ هل تعرف جدتي بالأمر ! ". إعترفت كريستينا : " لا ، حاولت إخبارها لكنها كانت مستاءة مني ، ورفضت الإصغاء الي". إبتسم ثيو إبتسامة غامضة : " يا لك من مسكينة يا كريستينا ، هل اتعبتك كثيرا؟". قالت تغالب غيظها الدفين : " إنني معتادة على السيدات المسنات". " أنا لست مستاء منك ، وكلي لهفة لسماع اخبارك ، متى إلتقيت بإبن العمة ديفلين ،وماذا فعل لإزعاجك ؟". عضت كريستينا شفتيها: " لم يزعجني ابدا ، كان بالغ التهذيب ، صدف مروره وأنا اتعرض للسرقة ، أو اسوأ من ذلك ، في المارتينيك أمس ، كانوا ثلاثة ، وماأن أطل حتى إختفوا كلهم ". " وهل عاملك كشخص يفيض نبلا؟". ردت كريستينا محتدة : " لم يعجبني تصرفه أبدا ، عاملني بأسلوب أحمق". |
"وهل دعاك للإبحار على زورقه؟".
إزدادت لهجتها جفافا : " أبدا ، ولم اعرف أنه يملك زورقا". " يملك زورقا كبيرا أحسده عليه ، إحذري من خدعه الملتوية يا كريستينا". قالت بفتور : " أنا لست مهتمة بأموره الخاصة ، هل قلت أنه إبن عمتك ؟". أجاب بتأفف : " أناديه هكذا ،وهو في الحقيقة عمي ، ولكنه لا يحب أن أخاطبه بهذا اللقب ، وقد أفعل ذلك للإقتصاص منه ، ولتصرفه غير اللائق معك ". جن جنونها : " لا ، ارجوك ، إنه يعترض على وجودي هنا لسبب ما ، ربما بدل رايه عندما يراني أعمل مع السيدة براندون ". قال مطمئنا : " لا تجزعي فهو لا يسكن هنا ، هل انت مسرورة الآن ؟". واحست كريستينا بإرتياح عميق ، ثم حاولت أن تحافظ على حيادها في خلافات العائلة أو منازعاتها التي لا تفهمها : " لا يمكنني إبداء سروري ، يكفي أنه أنقذني من أولئك الأشقياء". تثاءب ثيو قليلا: " لا تشغلي بالك كثيرا ، ربما كان اولئك الأشقياء اصدقائه ، ولذلك فروا هاربين ، إنه شخص غريب الأطوار ، وذو ماض يفوح بالقذارة". سرت رعشة مخيفة في مفاصلها ، وإصطكت ركبتاها هلعا ، فإرتمت على المقعد ، وتقدم منها ثيو يهدىء روعها : " أنا آسف ". قالت بحرج شديد : " إعذرني ، لا بد أن الحزن أثر علي ، من الأفضل ان أذهب الى غرفتي الآن ". وقف ثيو ، يساعدها على النهوض ، قائلا: " يا لها من فكرة رائعة ، وإستلقي على فراشك لبعض الوقت ، لا شك أن الطاهية كوكو تعد لنا عشاء شهيا إكراما لك ". أعلنت كريستينا محتجة : " ولكن لا ضرورة الى كل ذلك ". ثم تركها تصعد السلم ، متوجهة الى غرفتها ، وإستلقت على فراشها قلقة ، حائرة ، وتذكرت كلمات العراف : إحذري من إبليس ، وهي تعرف الان أن إبليس ليس سوى ديفلين ، إنها تعرف ذلك جيدا ، وعليها الإحتراس واليقظة ، هل كان العراف يخدعها بعد أن إكتشف هويتها ووجودها مع السيدة براندون ، وهو لا شك يعرف ديفلين ، فحاول إثارة مخاوفها عمدا؟ أغمضت عينيها ، وشبح ديفلين بوجهه الساخر يحوم في مخيلتها ، تمنت لو تطرد الشبح الرهيب وتحل محله صورة ثيو باناقته وعذوبة كلماته ، وأدركت أن ديفلين يستحوذ على تفكيرها مهما فعلت ، بحركاته وأقواله ورجولته ، في حين أن ثيو مجرد صبي. ولكتها تكرهه ، تكره حتى ذلك اللون الفضي في عينيه ، إنه عدوها ، وعليها تذكر هذا الواقع دائما. سمعت قرعا خفيفا على الباب ، ثم دخلت يولالي ، وقالت مباشرة: " السيدة براندون تسأل عنك ". أسرعت كريستينا ترتب هندامها . "حسنا ، أين غرفتها؟". ومشت خلف يولالي الى أن بلغتا البهو الرئيسي ، وأدركت كريستينا ان جناح السيدة براندون يقع بمحاذاة البهو الكبير ، ويتكون من غرفة نوم كبيرة وحمام ، وحجرة صغيرة تضم آلة بيانو. إلتفتت السدة براندون منفرجة الأسارير عندما دخلت عليها كريستينا : " إجلسي يا إبنتي ، هل أنت بخير ؟". اجابتها كريستينا بإنحناءة من راسها ، ثم قالت : " آسفة ، كان علي تغيير ملابسي لتناول العشاء ". تقبلت أعذارها برحابة صدر : " لا اهمية لذلك ، لا أتوقع منك معرفة كل شيء منذ اليوم الأول ( ثم سالتها ) أخبريني ما هو رأيك في آرك إينجل ؟ هل تحبين المعيشة هنا؟". لم تتوقع كريستينا سؤالا كهذا ، فغمغمت ببضع كلمات غامضة ، فطمأنتها السيدة براندون : " أعرف انك تحتاجين الى مزيد من الوقت لأتخاذ قرار كهذا ، ولكنني اريدك أن تتصرفي وكأنك في بيتك". اجابت كريستينا بحياء : " هذا من لطفك يا سيد ، اعدك ببذل جهدي لتلبية كل طلباتك ، واتمنى أن تحددي موعد بدء العمل وما يتطلبه بالضبط ، ونوعية واجباتي ". لوحت السيدة براندون بيدها ، تتلألأ منها ألماسة كبيرة ، وقالت : " يوجد متسع من الوقت لبحث كل ذلك اما الآن فخذي قسطك من الراحة وتمتعي بما حولك ، وأعتقد انك تعرفت على حفيدي". قالت كلماتها الأخيرة بدون مبالاة ، لكن كريستينا أحست بتوتر خفي ، أجابت على نحو طبيعي : " نعم ، تعرفت عليه ، اتى عندما كنت احتسي الشاي". علقت العجوز : " هذا ما قاله لي ، يبدو انك تركت فيه إنطباعا عميقا". نظرت كريستينا مذهولة : " إنك تبالغين قليلا يا سيدة ، ان الأولاد في مثل سنه يتاثرون بسرعة ". تجهمت السيدة براندون : " في مثل سنه ؟ إنه لا يصغرك إلا بأشهر قليلة ، وفي الحقيقة تبدين بشعرك المتدلي فوق كتفيك اصغر منه ". قررت كريستينا إتباع سياسة الحذر : " نعم ، ولكن يقال أن البنات ينضجن قبل الصبيان ولو كانوا في سن واحدة ". ردت بإقتضاب : " من المحتمل ، لم يحصل لي شرف التعرف على عدد كبير من البنات ، ولذلك اعجز عن إعطاء رايي ، هل تجدين ثيو صغيرا بالنسبة الى عمره؟". سارعت كريستينا بالقول : " لا ، ابدا ، يبدو انه ناضج تماما ، ويحب الحياة". طاب خاطرها ، فتنهدت قائلة : " صحيح أنه لم يرزق بصحبة ابناء جيله في الماضي ، واعلق امالي عليك لتعديل هذا الوضع قدر المستطاع ، إنكما مثال الرفيقين مع بعضكما البعض ". بلعت كريستينا ريقها، محتجة بدون طائل : " ولكن إعتقدت أني سأعمل معك ". عقدت السيدة براندون حاجبيها : " ليس تماما يا إبنتي، أنا لا اقترح عليك العمل مع ثيو ، اريد القول أن لديك كامل الحرية لتقبل دعوة منه ". إحمرت وجنتا كريستينا ، وتمتمت : " شكرا يا سيدة". |
" هل يزعجك إهتمام حفيدي بك؟".
مدت كريستينا يدها تفرك اذنها: " كلا ، إنه فتى جريء ، ولكن لا افهم كيف تسمحين لي، كموظفة ليست أرقى من الخادمات كثرا ، بإنشاء صداقة مع حفيدك". تجمدت عينا العجوز : " انت ضيفتي وكانت عرابتك صديقتي ، لا اريد سماع أي حديث عن خادمات وما الى ذلك بعد الان ، تتكلمين كأنك تعيشين في القرن الماضي ". اطرقت كريستينا راسها : " انا آسفة ، ولكن وضعي يبدو غامضا جدا...". داعبت وجنتيها بنعومة : " هدئي من روعك ، لا داعي الى القلق وهذا الإضطراب ،والان إقرعي الجرس ولنذهب لتناول العشاء". إلتهمت كريستينا طبقها بشهية ، رغم عواطفها المشوشة ، ومراقبة ثيو لها خلال فترة العشاء بأكملها . ثم توجهوا الى صالون خاص تزينه الوان ذهبية وعاجية ، وإنتهزت كريستينا إنهماك ثيو وجدته في لعب الورق لتتجول في الغرفة ، وتمعن النظر في اللوحات والرسوم المزخرفة ، ومر امامها شريط من صور عائلة براندون مغرقة في القدم ، ثم لمحت لوحة زيتية خالتها بريشة الرسام الفرنسي الشهير رينوار . إنتهت من جولتها ، فأحست بالملل الشديد ، تمنت لو تستطيع التنزه في جنائن المنزل ، لكنها عدلت عن ذلك لمعرفتها أن ثيو لن يتوانى عن رفقتها ، كانت تريد تجنب التورط في اية علاقة غرامية معه ، والأفضل ان تخرج وإياه للتفرج على المزرعة والحقول المجاورة في وضح النهار وليس تحت ستار الظلام. همس ثيو في اذنها ، فإضطربت قليلا : " هل تحبين الموسيقى ؟". أجابت : " أحبها كثيرا رغم أنني لا أجيد العزف على اية آلة ". تقدم من خزانة أثرية ، وفتحها ، رأت آلة ستيريو ومجموعة ضخمة من الأسطوانات ، واشار عليها بإختيار ما تريد ، قائلا : " إنها كلها موسيقى كلاسيكية للاسف ، جدتي تمقت الموسيقى الحديثة ، وإذا كنت تفضلين الموسيقى الراقصة ، يوجد ما يشبه النادي الليلي في سانت فيكتوار ، يمكننا الذهاب الى هناك ذات مساء إذا أحببت". كانت دعوته طبيعية لا يجوز رفضها ، قررت بينها وبين نفسها ، ولم تكن مفاجاة لم تتوقعها ، فإبتسمت شاكرة . حظ نظرها على اسطوانة تعجبها ، فطلبت منه سماعها ، وجاءت الموسيقى الناعمة لتشكل خاتمة لطيفة ليومها ، هكذا حدّثت نفسها وهي تتوجه نحو غرفتها مخلفة وراءها ثيو مكسور الخاطر. بدت غرفتها مريحة ، مزهوة بإستقبالها ، ولاحظت ان أحدا ما أشعل المصباح بجوار سريرها ، خاطبت نفسها : " علي الإحتراس ، وإلا وقعت ضحية هذه الحياة المرفهة ". وهذه هي مشكلتها ، اتت الى هنا لتعمل ، وتكسب رزقها بعرق جبينها ، وها هي تكتشف شيئا آخر ، ولن ترضى بحياة كهذه تؤدي بها الى التواكل ، والتصدق والإعتماد على الغير . اوت الى الفراش ، وظلت مسهدة لا يجد النوم الى عينيها سبيلا ، تمنت لو نفذت خطتها وقامت بنزهة قصيرة عوض الإصغاء الى الموسيقى ، إن الهواء العليل يهدىء الأعصاب ويجلب النعاس. وبعد أن تقلبت في الفراش متململة لبعض الوقت ، نهضت من السرير ، وإرتدت معطفها ، مشت نحو النافذة وفتحت مصراعيها المطلين على الشرفة ، كان الجو منعشا الآن ، فكرت وهي تحدق الى صفاء الفضاء يتهادى فيه قمر مضيء بشعاع باهت ، تنفست بعمق وإغتباط ، بدا كل ما يحيط بها عالما جديدا لا عهد لها به. وبينما هي غارقة في أحلامها العذبة ، لفت إنتباهها حركة مكبوتة في الأسفل ، وعرفت لتوها القامة التي خرجت من الظلال ، وسطعت تحت ضوء القمر ، رغم إختفاء البذلة السوداء والمئزر الأبيض ، والإستعاضة عنهما بلباس محكم يشد جسدها شدا ، إنها يولالي بجسدها الأهيف ، ورأتها كريستينا تدور حول بركة السباحة ، وتسرع الخطى في إتجاه شجيرات كثيفة. عادت كريستينا الى غرفتها وخلعت معطفها ، تأكد لها ان يولالي ذاهبة للقاء أحد ما ، ولا بد أنه شخص لا يسكن في آرك إينجل. إستلقت على فراشها يساورها الإرتياب ، إن هذا الشخص ليس سوى ديفلين براندون ، ولكن لماذا تشغل بالها به وبهذه الخادمة؟ |
4-الإنتصار الكاذب
قضت كريستينا ليلة ملية بالقلق ، ونهضت في الصباح تغشى ذاكرتها أطياف احلام مرعبة ، فتحت عينيها خائرة القوى ، غير أن اشعة الشمس المنبعثة عبر الستائر أعادت اليها بعض حيويتها. واعلن القرع الخفيف على الباب وصول يولالي تحمل طبقا من عصير الفاكهة الطازج ، وبعض الخبز والزبدة ، وأبريق قهوة حارة ، شعرت كريستينا ببعض الحرج وهي تتمدد فوق الفراش ، لم يسبق لها أن تناولت فطورها في السرير ، إلا في حالة مرضها ، وبدت يولالي مستاءة هي الأخرى ، وألقت عليها تحية الصباح بلهجة شبه عدائية. وما ان غادرت يولالي الغرفة ، حتى ألقت كريستينا نظرة عاجلة على ساعة المنبه التي جلبتها معها من أنكلترا ، لا يزال الصباح في بدايته فقررت البقاء في غرفتها مدة ساعة أو ساعتين ، طالما أن السيدة براندون لا تحب النهوض باكرا كما علمت منها. أنهت فطورها ، وإرتدت بنطالا ضيقا ، وقميصا قصير الأكمام ، ثم رتبت سريرها ، واسرعت بالعدو في إتجاه الحديقة عبر السلم الخلفي. منتديات ليلاس وقادتها قدماها الى الشجيرات الكثيفة عند أطراف الحديقة ، فلمحت دربا ترابيا يؤدي الى الشاطىء ، كان الهواء يترنح بهمهمة النحل وحشرات أخرى ،وترامى الى مسامعها همس الأمواج تداعب الشاطىء البعيد. حثت الخطى ، متفادية الجذور الناتئة ، حانية راسها مخافة شبك شعرها في الأغصان المتدلية ، كان دربا ضيقا ، وبدت الشجيرات الكثيفة تمتد امامها مثل نفق داكن أخضر لا تخترقه أشعة الشمس. واخيرا وصلت الى بقعة الرمال الفضية المنحدرة برشاقة نحوالمياه المزبدة ورفعت وجهها تستقبل الشمس بإمتنان ، تخال انها تقف وحيدة في عالم هجره اهله ، ولم تعد تسمع سوى تغريد عصفور مغتبط ، وصوت مياه البحر الحالم ، إنه شاطىء مثالي ، خاطبت نفسها ، ولا بد لها من إنتهاز الفرصة غدا ، فتجلب ملابس السباحة ، وتنعم بدفء الموج الهادىء ، خلعت صندلها مشت حافية الى حافة المياه فلامست قدميها بنعومة وغنج ، ثم بدأت تسير فوق الشاطىء ، والنسيم العليل يداعب شعرها ، ويبعث في شرايينها حياة جديدة ، طاردا فلول ليلتها البائسة. وخالت انها الآن قادرة على تحمل كل المصاعب التي تواجهها في موطنها الجديد ، وحتى ثيو ستعرف كيف تتعامل معه ، مهما كانت نواياه ، علت ثغرها غبتسامة ، وهي تفكر في ثيو ، ذلك الفتى الدمث الخلاق ، المرهف الشعور ، ومع ذلك قررت انه لا يلائمها ، وتفضل ان تتزوج احدا أقرب الى مزاجها ، وتصورها لمواصفات الرجل ، رجل المستقبل ، ووجدت نفسها تفكر في ديفلين براندون ، فإعترتها مشاعر غامضة ، وكأنها ترفض إصدار حكم نهائي عليه. كانت غارقة في أفكارها ، تشنف أذنيها بهدير الأمواج ، فلم تنتبه الى صوت إيقاع مكبوت يرتفع وراءها ، وعندما تبينته قليلا ، إحتارت في معرفة مكان إنبعاثه ، ثم ادركت بهلع أنه إيقاع حوافر حصان يعدو فوق الشاطىء ، نظرت وجلة ، ممتعضة ، تلعن حظها السيء ، وراته بقامته الطويلة يمتطي حصانا أسود اللون ضخما ، كان عاري الصدر ، داكن البشرة ، يفيض رجولة ورقة ، أين المفر الان ؟ فكرت كريستينا ، لتتوجه الى الحديقة ، فهي ملاذها الوحيد . وأدركت انه يلاحقها عمدا ،فضاعفت من سرعتها ، زلت قدمها وإلتوت كاحلها إلتواء مؤلما دفعها الى إطلاق صرخة الم موجعة ،وتهاوت على الرمال بائسة ، تحضن جرح قدمها . شد ديفلين براندون لجام حصانه ،وقفز برشاقة عنه ، متقدما نحوها ، وهتف : " هل انت مجنونة ؟". كان يتوقد غضبا ، وأدركت مدى جنونها وهي تحاول الهرب على هذا انحو ، كانت نزوة صبيانية لا يجوز أن تخضع لها بعد نضوجها ، وما هوعذرها ؟ لا شيء سوى عنادها ورفضها مواجهته ، وها هي الآن تنبطح ارضا ، وتخسر ما تبقى من كرامتها حاولت النهوض ، فتهاوت لا تستطيع حراكا ، قرفص ديفلين براندون بجانبها ، وراح يتفحص كاحلها بأصبعه ، فاغمضت عينيها بقوة ، قالت بجفاف : " سأكون بخير بعد برهة قصيرة". وقف على قدميه معلنا : " يفرحني أن اسمع رأيك الحكيم ، بدا كاحلك بالتورم كما الاحظ ، لا بد من غسله بالماء البارد وربطه ، سآخذك الى حجرة المركب لمعالجته". أصيبت بصدمة عنيفة ، فصاحت : " كلا ! ( ثم غيّرت لهجتها ) اعني .... أعني شكرا على مساعدتك ، ولكن سأكون بخير ، إذا ما إسترحت لبضع دقائق هنا". إستشاط غيظا : " يا لك من مخلوقة عنيدة ، أعرف كم يصعب عليك الإعتماد علي مرة ثانية ، ولكن لا خيار لديك ، وأعدك بالتركيز على كاحلك ولا شيء غير ذلك ، إذا كانت الشكوك تساورك ". إنحنى ليساعدها على النهوض ، فإشتعلت حقدا ، وغرزت أسنانها في يده بسرعة البرق ، شتمها وسحب يده وقد لطختها بقع حمراء دامية ، جلست كريستينا صامتة ، متوجسة تشعر بالذنب ، نظرت اليه وكلمات الإعتذار ترتجف فوق شفتيها ، فرأته يبتسم قائلا : " ما معنى هذا العض ،وفي ظرف غير مناسب؟". غصت حنجرتها: " أنت... انت...". " أنت قليلة الحيلة ، لا بد من تلقينك بعض الدروس في مجالات كثيرة ". وفجأة إنكب فوقها وحملها الى حصانه ، أقعدها فوق السرج ، وإمتطى الحصان وراءها. قطعا مسافة قصيرة ، خالتها كريستينا أميالا تنلوها أميال ، يا لها من لحظات حرجة ، إنعقد خلالها لسانها ، وهي تعارك أحاسيسها الغريبة ، تجمدت فوق ظهر الحصان ، لا تجرؤ على الإتيان بأية حركة ، شاعرة بوجوده وراءها ، وكأنه لا يبالي بما يدور في داخلها من صراع رهيب ، لا شك انه رجل جذاب ، وتدرك ذلك من اعماق قلبها ، لكنها لن تفصح بأي شيء ، لا ، لن تخضع لسحره ، لن تبوح بعواطفها المتأججة . |
تمهل الحصان قليلا ، ووقع نظرها على مركب فخم يتهادى قرب الشاطىء ، وقرات إسمه المطلي بإتقان : عذراء القمر .
لم تكن معتادة على إمتطاء الأحصنة ، فأحست بالإعياء ، وظل كاحلها يؤلمها بشدة ، حمدت الله عندما ترجّل ديفلين ، وانزلها عن السرج ، وبدأ الحصان يعدو مبتعدا عن الشاطىء ، سالته: " لماذا فعلت هذا؟". قال : " إن الإسطبل في آرك إينجل ،وهو يعرف طريق العودة ، مارك سيهتم به". لم تصدقه ، إنه لا يسكن آرك إينجل ، ورأت كوخا صغيرا قرب تلة رملية ، ترى هل يعيش في هذا المكان ؟ سألت نفسها ، حاولت أن تمشي ، فأخفقت إخفاقا مذلا ، حملها بين ذراعيه ، وأخذ يصعد بها السلم الخشبي ، دخل غرفة كبيرة مبعثرة الأثاث ، تغطي أرضها بطانيات مزخرفة الألوان ، ورأت في الزاوية مقعدا خشبيا تتكوم فوقه قطع من القماش تستر شيئا ضخما تحتها. وفتح بابا داخليا ، فوجدت نفسها في غرفة النوم ، حيث القى بها فوق السرير . توارى عن نظرها ، فعرفت أنه يجلب بعض الماء وضمادة ، عاد يحمل إبريقا وصندوق إسعاف أولي ، وقال آمرا: " إرفعي أطراف بنطالك الى أعلى ، هيا ، وإلا طويتها أنا ". فاذعنت لأوامره صامتة ، وأخذت تراقبه بحذر وهو يلعب دور المرض والطبيب ، خف الألم الموجع وقد لف كاحلها ضماد متين ، قالت: " شكرا". إبتسم بعذوبة : " حاولي الوقوف الآن ". وأمسك بيديها ، فتجالدت ، ولمست الأرض بخفة ، وقفت منتصبة رغم شعورها ببعض الوجع وتمتمت: " إنني بخير الآن ، عليّ الإنصراف". اشار نحو الباب : " كما ترغبين ، ولكن القهوة جاهزة ، ألا تريدين شيئا حارا؟". " شكرا ، من الأفضل أن أذهب ، ستفتقدني السيدة براندون ". ألقى نظرة سريعة على ساعته: " في هذا الوقت ؟ما بالك ، هل تخافين مني؟". توردت وجنتاها : " ما الذي تعنيه ؟ لم يخطر ...". قال يلتهمها بعينيه: " يوجد مشط في الدرج ، انصحك بالإعتناء بهندامك ، سأتدبر امر القهوة ، إنضمي الي ساعة تشائين". إستدار وخرج ، يا له من وغد! خاطبت كريستينا نفسها ، ما الذي يكيده لها؟ يا ليتها لم تخرج الى الشاطىء ، إنها الان أسيرة نزواته الشريرة ، كان العرّاف على حق ، إنه إبليس بعينه ، إبليس الذي يعذّبها بأساليب ملتوية ، ويهزأ منها كلما حاولت مقاومته. منتديات ليلاس وقفت أمام المرآة تسرح شعرها ، وتفكر في وضعها ، قررت أن تحتسي القهوة ، فتهدا أعصابها قليلا ، وتتمكن من التفكير بوضوح أكثر ، توجهت الى غرفة الجلوس ، كان ديفلين يجلس في الزاوية يحمل إبريقا وبعض الأكواب ، إستنشقت نكهة القهوة وكأنها فخ لإصطيادها ، فجلست على طرف المقعد ، متمنية أن يظل بعيدا عنها ، وبدا للوهلة الأولى منهمكا في إحتساء القهوة ، فإطمأنت. أخذت تتمعن في الغرفة عن كثب ، رأت صفا من البنادق قرب الجدار المجاور لها ، وبعض أدوات صيد السمك ... كان كل شيء يدل على مكان لا أثر لذوق النساء فيه. تنحنحت: " هل تعيش هنا منذ مدة طويلة؟". " منذ اربع سنوات ، منذ وفاة أهلي". حملقت فيه كريستينا مذهولة ، غاب عنها للوهلة الأولى انه إبن مادلين ، شقيقة السيدة براندون ، تألمت لحاله بدون أي مبرر ، سالته بعفوية: " وتسكن هنا وحدك؟". قال بخفة : " يا له من سؤال ! لا تتوقعي مني أي جواب". وتابع ، وهي تشعر بالإحراج: " علاوة على ذلك ، لا شك أن عمتي قد المحت امامك الى حياتي الصاخبة ، وأعتقد أن هذا هو سبب هربك مني على الشاطىء". رمت بشعرها الى الوراء: " لم أهرب منك ، كنت اتمتع بالعزلة ، ولم ارغب في رؤية أحد". قهقه عاليا: " إنه تصرف لا يليق بسكرتيرة ، إذا كنت ستمارسين أي عمل ". فغرت فاها: " ماذا تقصد ؟ ألا تصدق أنني سكرتيرة". إستطرد هازئا : " لا أظن ، لأنني أعرف عمتي جيدا ، إنها إنسانة ذات شخصية مستقلة وطاغية ، ولم يسبق لها أن إحتاجت الى مساعدة أحد". وضعت كريستينا كوبها على الطاولة الصغيرة ، وشبكت اصابعها مضطربة: " يبدو لي ان خلافا ما نشأ بينك وبينها ، لا أعرف ما هو ، ولا علاقة لي بذلك ، لكنها ربة عملي ، وعاملتني بكل لياقة ، واشعر ببعض الولاء لها ، ربما كنت على حق ، فهي لا تحتاج الى سكرتيرة ، ولم تعرض علي العمل إلا حرصا على كرامتي ، وحفاظا على صداقة قديمة ...". توقفت عن الكلام ، وهو يحدق فيها وكأنها مجنونة ، قال متجهم الوجه: " ما هذا ؟ ما هي هذه الصداقة القديمة؟". بلعت ريقها قائلة : " كنت أعيش مع عمتي ، عرابتي الآنسة غرانثم غريس ، توفاها الله منذ بضعة أسابيع ، ولكنها كتبت الى السيدة براندون قبل وفاتها ، وأعتقد أنها طلبت منها الإعتناء بي ، ومن هنا عرضت العمل عليّ والبقاء في هذا المكان". بدا وكأنه لم يسمع كلمة قالتها: " ولكن أنصحك بالعودة الى أنكلترا ، وهذه نصيحة صديق". تفجرت غضبا : " لا أحتاج الى نصيحتك او نصيحة أي إنسان ، ولا يمكنني العودة الى أنكلترا الآن بدون أي دراهم". قال بهدوء: " يا لها من ورطة ! ". ردت بكبرياء : " إنها ورطتي أنا ، أعرف أن الوضع صعب ، ولكن علي تلبية رغبات السيدة براندون". قال مهددا : " إذن إبقي عند عمتي ، وتحملي وضعك ، ولكن إياك ان تركضي الي مولولة عندما تسوء الأحوال". |
الساعة الآن 07:07 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية