منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f449/)
-   -   178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t172340.html)

نيو فراولة 13-02-12 08:58 PM

فغرت كريستينا فمها:
" إنك قليل الحياء يا سيد براندون ، إذا كانت عمتك تعتبر مؤهلاتي وافية ، فهذا يكفيني ( ونهضت واقفة ) والان إسمح لي بالإنصراف..".
قال بفظاظة :
" إجلسي مكانك ، لم انته منك بعد".
إبتسمت بإستخفاف :
" يا لحظك السيء لم يعد لدي ما اقوله ، ومن الواضح انك تجدني غير مؤهلة لهذا المنصب ، مع أنني لا أفهم لماذا..".
قاطعها بحزم :
" لا تفهمين لماذا ؟ أمعني النظر قليلا يا عزيزتي الصغيرة".
وقبل أن تأتي بحركة ، توجه نحوها ، وأمسك بكتفيها ، فوجدت نفسها امام مرآة معلقة قرب الباب ، صدمها مظهرها ، بشعرها الأشعث ، ووجنتيها المحمرتين ، وعينيها المتطايرتين شررا ، بدت مخلوقة همجية ، حاولت التملص من بين يديه ، فنهرها بصوت أجش :
" لا تتحركي ، وإسألي نفسك ما الذي يمكن أن تقدمه فتاة بعمرك ومظهرك الى أمرأة مثل عمتي ".
رددت بعنف :
" ربما كانت السيدة براندون لا تريد الإنزواء كعجوز طاعنة في السن ، تحب ان تنعم بصحبة احد في مثل عمري ، وهذا ما قالته لي".
" وأنت أغرتك الحياة الصاخبة في هذه المنطقة من العالم ، فتشبثت بعمل كهذا".
وكادت تبوح له بكل الحقيقة وتروي له شكوكها ومخاوفها التي تقض مضجعها ، ولكن لتدعه يفكر ما يشاء ، لن تبالي به ، وقالت ضاحكة :
" طبعا ، ولا تعتقد انني وقعت ضحية خدعة معينة ، إن السيدة براندون شرحت لي كل السلبيات والعوائق التي ستعترضني ".
تركها وشأنها ومشى نحو النافذة :
" وماذا عن الإيجابيات والفوائد ... هل ذكرتها لك؟".
إستطردت بثقة:
" إنها اشهر من أن تعرّف ".
وراته يلتفت اليها بمرارة وإمتعاض :
" ربما كنت على حق ، لا أدري ما الذي اقنعك بقبول العيش في هذا المكان المنعزل ، ومع سيدة مستبدة لا تزال تظن أن عصر الرقيق لم يتم إلغاؤه بعد".
قالت كريستينا بصوت مضطرب:
" يا لك من خسيس ، كيف تقول هذه الأشياء عن عمتك ...".
قاطعها :
" إن آرائي لا تلائم خيالك الشاعري وتصورك لحياة المزرعة ، لا تخدعي نفسك يا آنسة بينيت ، أنت لا تعيشين في الفردوس ، ولا توجد ملائكة هنا ".
حمدت ربها وهي تلاحظ إنفتاح الباب ، ظنت ان يولالي عادت تطمئن عليها ، خاب ظنها .
رأت شابا في ريعان الصبا ، فائق الجمال بشعره الأسود ، وعينيه اللامعتين وفمه الجميل ، كان يرتدي ملابس ركوب الخيل بأناقة تامة ، وينتعل جزمة براقة نظيفة ، خاطب كريستينا بلباقة مهذبة :
" تاخرت كثيرا ، ويبدو انك تناولت الشاي ، أردت العودة مبكرا ، أرجو المعذرة ، إسمي ثيو براندون ".
ثم إنقبضت اساريره قليلا ،وكأن شيئا ما ازعجه ، وقال :
" مرحبا يا ديفلين ".
أجابه ديفلين بإنحناءة من رأسه :
" لم أكن أعلم انك تعشق الشاي يا ثيو ؟".
هز ثيو بكتفيه ، ونظر الى كريستينا :
" أردت الترحيب بالضيفة الجديدة ".
رفع ديفلين حاجبيه :
" ضيفة ؟ تقول انها أتت لتعمل هنا ".
رد ثيو متبرما :
" لا بأس ، ستجد جدتي شيئا يشغلها في ساعات الضجر ، ولكن عليها أن تستعيد نشاطها تحت أشعة الشمس ( ونظر اليها بإشفاق ) لقد عانت كثيرا مؤخرا ، إذ فقدت إحدى قريباتها".
تنهد ديفلين بلوعة :
" هكذا ، لو عرفت ذلك لوفرت على نفسي متاعب كثيرة ( ومشى نحو الباب ثم توقف ) عندما ترتاح عمتي من عناء السفر ، هل أبلغتها ان وفدا من لجنة الجزيرة ترغب في رؤيتها ،وفي الوقت الذي يلائمها ".
إبتسم ثيو إبتسامة باهتة :
" هل من الضروري أن تجتمع بالوفد؟".
" لا ، ولكن طلبوا مني إبلاغها ".
جلس ثيو على حافة المقعد ، ينقر جزمته بسوط الركوب ، وإستفسر :
" وهل ستكون أحد أعضاء الوفد ؟".
إستدار ديفلين يهم بالخروج ، كان معكر المزاج ، وسمعته يردد بعنهجية :
" طبعا ، طبعا ".
قالت بنبرة واضحة عذبة :
" وداعا يا سيد براندون ".
هدر غاضبا :
" افهم معنى كلماتك ، ولكنك تبالغين قليلا ، لا شك أننا سنلتقي أكثر من مرة واثناء إجازتك ".
يا لخيبة أملها ، فكرت كريستينا ،وهو يوصد الباب وراءه بشدة ، ووجدت ثيو يحدجها بإستغراب ، فخجلت قليلا .
سالها ثيو بوقاحة :
" هل تجدينه جذابا ؟".
كادت أن تشتمه ، ثم تذكرت أن الإثنين تربطهما صلة القرابة :
" آسفة ، لم اقصد.....".
قهقه:
ما لنا وللمجاملات ، كانت ردة فعلك طبيعية ، سيشعر بصدمة رهيبة لو عرف حقيقة مشاعرك ، إنه يعتبر نفسه فاتن النساء ، وما الذي قاله ليغيظك هكذا؟".
أجابت تتعمد إخفاء إضطرابها :
" لا شيء ، سبق لنا ان إلتقينا قبل هذه المرة ، هذا كل ما في الأمر ".
علت الدهشة وجهه .
" متى كان ذلك ؟ هل تعرف جدتي بالأمر ! ".
إعترفت كريستينا :
" لا ، حاولت إخبارها لكنها كانت مستاءة مني ، ورفضت الإصغاء الي".
إبتسم ثيو إبتسامة غامضة :
" يا لك من مسكينة يا كريستينا ، هل اتعبتك كثيرا؟".
قالت تغالب غيظها الدفين :
" إنني معتادة على السيدات المسنات".
" أنا لست مستاء منك ، وكلي لهفة لسماع اخبارك ، متى إلتقيت بإبن العمة ديفلين ،وماذا فعل لإزعاجك ؟".
عضت كريستينا شفتيها:
" لم يزعجني ابدا ، كان بالغ التهذيب ، صدف مروره وأنا اتعرض للسرقة ، أو اسوأ من ذلك ، في المارتينيك أمس ، كانوا ثلاثة ، وماأن أطل حتى إختفوا كلهم ".
" وهل عاملك كشخص يفيض نبلا؟".
ردت كريستينا محتدة :
" لم يعجبني تصرفه أبدا ، عاملني بأسلوب أحمق".

نيو فراولة 13-02-12 09:00 PM

"وهل دعاك للإبحار على زورقه؟".
إزدادت لهجتها جفافا :
" أبدا ، ولم اعرف أنه يملك زورقا".
" يملك زورقا كبيرا أحسده عليه ، إحذري من خدعه الملتوية يا كريستينا".
قالت بفتور :
" أنا لست مهتمة بأموره الخاصة ، هل قلت أنه إبن عمتك ؟".
أجاب بتأفف :
" أناديه هكذا ،وهو في الحقيقة عمي ، ولكنه لا يحب أن أخاطبه بهذا اللقب ، وقد أفعل ذلك للإقتصاص منه ، ولتصرفه غير اللائق معك ".
جن جنونها :
" لا ، ارجوك ، إنه يعترض على وجودي هنا لسبب ما ، ربما بدل رايه عندما يراني أعمل مع السيدة براندون ".
قال مطمئنا :
" لا تجزعي فهو لا يسكن هنا ، هل انت مسرورة الآن ؟".
واحست كريستينا بإرتياح عميق ، ثم حاولت أن تحافظ على حيادها في خلافات العائلة أو منازعاتها التي لا تفهمها :
" لا يمكنني إبداء سروري ، يكفي أنه أنقذني من أولئك الأشقياء".
تثاءب ثيو قليلا:
" لا تشغلي بالك كثيرا ، ربما كان اولئك الأشقياء اصدقائه ، ولذلك فروا هاربين ، إنه شخص غريب الأطوار ، وذو ماض يفوح بالقذارة".
سرت رعشة مخيفة في مفاصلها ، وإصطكت ركبتاها هلعا ، فإرتمت على المقعد ، وتقدم منها ثيو يهدىء روعها :
" أنا آسف ".
قالت بحرج شديد :
" إعذرني ، لا بد أن الحزن أثر علي ، من الأفضل ان أذهب الى غرفتي الآن ".
وقف ثيو ، يساعدها على النهوض ، قائلا:
" يا لها من فكرة رائعة ، وإستلقي على فراشك لبعض الوقت ، لا شك أن الطاهية كوكو تعد لنا عشاء شهيا إكراما لك ".
أعلنت كريستينا محتجة :
" ولكن لا ضرورة الى كل ذلك ".
ثم تركها تصعد السلم ، متوجهة الى غرفتها ، وإستلقت على فراشها قلقة ، حائرة ، وتذكرت كلمات العراف : إحذري من إبليس ، وهي تعرف الان أن إبليس ليس سوى ديفلين ، إنها تعرف ذلك جيدا ، وعليها الإحتراس واليقظة ، هل كان العراف يخدعها بعد أن إكتشف هويتها ووجودها مع السيدة براندون ، وهو لا شك يعرف ديفلين ، فحاول إثارة مخاوفها عمدا؟
أغمضت عينيها ، وشبح ديفلين بوجهه الساخر يحوم في مخيلتها ، تمنت لو تطرد الشبح الرهيب وتحل محله صورة ثيو باناقته وعذوبة كلماته ، وأدركت أن ديفلين يستحوذ على تفكيرها مهما فعلت ، بحركاته وأقواله ورجولته ، في حين أن ثيو مجرد صبي.
ولكتها تكرهه ، تكره حتى ذلك اللون الفضي في عينيه ، إنه عدوها ، وعليها تذكر هذا الواقع دائما.
سمعت قرعا خفيفا على الباب ، ثم دخلت يولالي ، وقالت مباشرة:
" السيدة براندون تسأل عنك ".
أسرعت كريستينا ترتب هندامها .
"حسنا ، أين غرفتها؟".
ومشت خلف يولالي الى أن بلغتا البهو الرئيسي ، وأدركت كريستينا ان جناح السيدة براندون يقع بمحاذاة البهو الكبير ، ويتكون من غرفة نوم كبيرة وحمام ، وحجرة صغيرة تضم آلة بيانو.
إلتفتت السدة براندون منفرجة الأسارير عندما دخلت عليها كريستينا :
" إجلسي يا إبنتي ، هل أنت بخير ؟".
اجابتها كريستينا بإنحناءة من راسها ، ثم قالت :
" آسفة ، كان علي تغيير ملابسي لتناول العشاء ".
تقبلت أعذارها برحابة صدر :
" لا اهمية لذلك ، لا أتوقع منك معرفة كل شيء منذ اليوم الأول ( ثم سالتها ) أخبريني ما هو رأيك في آرك إينجل ؟ هل تحبين المعيشة هنا؟".
لم تتوقع كريستينا سؤالا كهذا ، فغمغمت ببضع كلمات غامضة ، فطمأنتها السيدة براندون :
" أعرف انك تحتاجين الى مزيد من الوقت لأتخاذ قرار كهذا ، ولكنني اريدك أن تتصرفي وكأنك في بيتك".
اجابت كريستينا بحياء :
" هذا من لطفك يا سيد ، اعدك ببذل جهدي لتلبية كل طلباتك ، واتمنى أن تحددي موعد بدء العمل وما يتطلبه بالضبط ، ونوعية واجباتي ".
لوحت السيدة براندون بيدها ، تتلألأ منها ألماسة كبيرة ، وقالت :
" يوجد متسع من الوقت لبحث كل ذلك اما الآن فخذي قسطك من الراحة وتمتعي بما حولك ، وأعتقد انك تعرفت على حفيدي".
قالت كلماتها الأخيرة بدون مبالاة ، لكن كريستينا أحست بتوتر خفي ، أجابت على نحو طبيعي :
" نعم ، تعرفت عليه ، اتى عندما كنت احتسي الشاي".
علقت العجوز :
" هذا ما قاله لي ، يبدو انك تركت فيه إنطباعا عميقا".
نظرت كريستينا مذهولة :
" إنك تبالغين قليلا يا سيدة ، ان الأولاد في مثل سنه يتاثرون بسرعة ".
تجهمت السيدة براندون :
" في مثل سنه ؟ إنه لا يصغرك إلا بأشهر قليلة ، وفي الحقيقة تبدين بشعرك المتدلي فوق كتفيك اصغر منه ".
قررت كريستينا إتباع سياسة الحذر :
" نعم ، ولكن يقال أن البنات ينضجن قبل الصبيان ولو كانوا في سن واحدة ".
ردت بإقتضاب :
" من المحتمل ، لم يحصل لي شرف التعرف على عدد كبير من البنات ، ولذلك اعجز عن إعطاء رايي ، هل تجدين ثيو صغيرا بالنسبة الى عمره؟".
سارعت كريستينا بالقول :
" لا ، ابدا ، يبدو انه ناضج تماما ، ويحب الحياة".
طاب خاطرها ، فتنهدت قائلة :
" صحيح أنه لم يرزق بصحبة ابناء جيله في الماضي ، واعلق امالي عليك لتعديل هذا الوضع قدر المستطاع ، إنكما مثال الرفيقين مع بعضكما البعض ".
بلعت كريستينا ريقها، محتجة بدون طائل :
" ولكن إعتقدت أني سأعمل معك ".
عقدت السيدة براندون حاجبيها :
" ليس تماما يا إبنتي، أنا لا اقترح عليك العمل مع ثيو ، اريد القول أن لديك كامل الحرية لتقبل دعوة منه ".
إحمرت وجنتا كريستينا ، وتمتمت :
" شكرا يا سيدة".

نيو فراولة 13-02-12 09:01 PM

" هل يزعجك إهتمام حفيدي بك؟".
مدت كريستينا يدها تفرك اذنها:
" كلا ، إنه فتى جريء ، ولكن لا افهم كيف تسمحين لي، كموظفة ليست أرقى من الخادمات كثرا ، بإنشاء صداقة مع حفيدك".
تجمدت عينا العجوز :
" انت ضيفتي وكانت عرابتك صديقتي ، لا اريد سماع أي حديث عن خادمات وما الى ذلك بعد الان ، تتكلمين كأنك تعيشين في القرن الماضي ".
اطرقت كريستينا راسها :
" انا آسفة ، ولكن وضعي يبدو غامضا جدا...".
داعبت وجنتيها بنعومة :
" هدئي من روعك ، لا داعي الى القلق وهذا الإضطراب ،والان إقرعي الجرس ولنذهب لتناول العشاء".
إلتهمت كريستينا طبقها بشهية ، رغم عواطفها المشوشة ، ومراقبة ثيو لها خلال فترة العشاء بأكملها .
ثم توجهوا الى صالون خاص تزينه الوان ذهبية وعاجية ، وإنتهزت كريستينا إنهماك ثيو وجدته في لعب الورق لتتجول في الغرفة ، وتمعن النظر في اللوحات والرسوم المزخرفة ، ومر امامها شريط من صور عائلة براندون مغرقة في القدم ، ثم لمحت لوحة زيتية خالتها بريشة الرسام الفرنسي الشهير رينوار .
إنتهت من جولتها ، فأحست بالملل الشديد ، تمنت لو تستطيع التنزه في جنائن المنزل ، لكنها عدلت عن ذلك لمعرفتها أن ثيو لن يتوانى عن رفقتها ، كانت تريد تجنب التورط في اية علاقة غرامية معه ، والأفضل ان تخرج وإياه للتفرج على المزرعة والحقول المجاورة في وضح النهار وليس تحت ستار الظلام.
همس ثيو في اذنها ، فإضطربت قليلا :
" هل تحبين الموسيقى ؟".
أجابت :
" أحبها كثيرا رغم أنني لا أجيد العزف على اية آلة ".
تقدم من خزانة أثرية ، وفتحها ، رأت آلة ستيريو ومجموعة ضخمة من الأسطوانات ، واشار عليها بإختيار ما تريد ، قائلا :
" إنها كلها موسيقى كلاسيكية للاسف ، جدتي تمقت الموسيقى الحديثة ، وإذا كنت تفضلين الموسيقى الراقصة ، يوجد ما يشبه النادي الليلي في سانت فيكتوار ، يمكننا الذهاب الى هناك ذات مساء إذا أحببت".
كانت دعوته طبيعية لا يجوز رفضها ، قررت بينها وبين نفسها ، ولم تكن مفاجاة لم تتوقعها ، فإبتسمت شاكرة .
حظ نظرها على اسطوانة تعجبها ، فطلبت منه سماعها ، وجاءت الموسيقى الناعمة لتشكل خاتمة لطيفة ليومها ، هكذا حدّثت نفسها وهي تتوجه نحو غرفتها مخلفة وراءها ثيو مكسور الخاطر.
بدت غرفتها مريحة ، مزهوة بإستقبالها ، ولاحظت ان أحدا ما أشعل المصباح بجوار سريرها ، خاطبت نفسها :
" علي الإحتراس ، وإلا وقعت ضحية هذه الحياة المرفهة ".
وهذه هي مشكلتها ، اتت الى هنا لتعمل ، وتكسب رزقها بعرق جبينها ، وها هي تكتشف شيئا آخر ، ولن ترضى بحياة كهذه تؤدي بها الى التواكل ، والتصدق والإعتماد على الغير .
اوت الى الفراش ، وظلت مسهدة لا يجد النوم الى عينيها سبيلا ، تمنت لو نفذت خطتها وقامت بنزهة قصيرة عوض الإصغاء الى الموسيقى ، إن الهواء العليل يهدىء الأعصاب ويجلب النعاس.
وبعد أن تقلبت في الفراش متململة لبعض الوقت ، نهضت من السرير ، وإرتدت معطفها ، مشت نحو النافذة وفتحت مصراعيها المطلين على الشرفة ، كان الجو منعشا الآن ، فكرت وهي تحدق الى صفاء الفضاء يتهادى فيه قمر مضيء بشعاع باهت ، تنفست بعمق وإغتباط ، بدا كل ما يحيط بها عالما جديدا لا عهد لها به.
وبينما هي غارقة في أحلامها العذبة ، لفت إنتباهها حركة مكبوتة في الأسفل ، وعرفت لتوها القامة التي خرجت من الظلال ، وسطعت تحت ضوء القمر ، رغم إختفاء البذلة السوداء والمئزر الأبيض ، والإستعاضة عنهما بلباس محكم يشد جسدها شدا ، إنها يولالي بجسدها الأهيف ، ورأتها كريستينا تدور حول بركة السباحة ، وتسرع الخطى في إتجاه شجيرات كثيفة.
عادت كريستينا الى غرفتها وخلعت معطفها ، تأكد لها ان يولالي ذاهبة للقاء أحد ما ، ولا بد أنه شخص لا يسكن في آرك إينجل.
إستلقت على فراشها يساورها الإرتياب ، إن هذا الشخص ليس سوى ديفلين براندون ، ولكن لماذا تشغل بالها به وبهذه الخادمة؟

نيو فراولة 14-02-12 08:25 PM

4-الإنتصار الكاذب

قضت كريستينا ليلة ملية بالقلق ، ونهضت في الصباح تغشى ذاكرتها أطياف احلام مرعبة ، فتحت عينيها خائرة القوى ، غير أن اشعة الشمس المنبعثة عبر الستائر أعادت اليها بعض حيويتها.
واعلن القرع الخفيف على الباب وصول يولالي تحمل طبقا من عصير الفاكهة الطازج ، وبعض الخبز والزبدة ، وأبريق قهوة حارة ، شعرت كريستينا ببعض الحرج وهي تتمدد فوق الفراش ، لم يسبق لها أن تناولت فطورها في السرير ، إلا في حالة مرضها ، وبدت يولالي مستاءة هي الأخرى ، وألقت عليها تحية الصباح بلهجة شبه عدائية.
وما ان غادرت يولالي الغرفة ، حتى ألقت كريستينا نظرة عاجلة على ساعة المنبه التي جلبتها معها من أنكلترا ، لا يزال الصباح في بدايته فقررت البقاء في غرفتها مدة ساعة أو ساعتين ، طالما أن السيدة براندون لا تحب النهوض باكرا كما علمت منها.
أنهت فطورها ، وإرتدت بنطالا ضيقا ، وقميصا قصير الأكمام ، ثم رتبت سريرها ، واسرعت بالعدو في إتجاه الحديقة عبر السلم الخلفي.
منتديات ليلاس
وقادتها قدماها الى الشجيرات الكثيفة عند أطراف الحديقة ، فلمحت دربا ترابيا يؤدي الى الشاطىء ، كان الهواء يترنح بهمهمة النحل وحشرات أخرى ،وترامى الى مسامعها همس الأمواج تداعب الشاطىء البعيد.
حثت الخطى ، متفادية الجذور الناتئة ، حانية راسها مخافة شبك شعرها في الأغصان المتدلية ، كان دربا ضيقا ، وبدت الشجيرات الكثيفة تمتد امامها مثل نفق داكن أخضر لا تخترقه أشعة الشمس.
واخيرا وصلت الى بقعة الرمال الفضية المنحدرة برشاقة نحوالمياه المزبدة ورفعت وجهها تستقبل الشمس بإمتنان ، تخال انها تقف وحيدة في عالم هجره اهله ، ولم تعد تسمع سوى تغريد عصفور مغتبط ، وصوت مياه البحر الحالم ، إنه شاطىء مثالي ، خاطبت نفسها ، ولا بد لها من إنتهاز الفرصة غدا ، فتجلب ملابس السباحة ، وتنعم بدفء الموج الهادىء ، خلعت صندلها مشت حافية الى حافة المياه فلامست قدميها بنعومة وغنج ، ثم بدأت تسير فوق الشاطىء ، والنسيم العليل يداعب شعرها ، ويبعث في شرايينها حياة جديدة ، طاردا فلول ليلتها البائسة.
وخالت انها الآن قادرة على تحمل كل المصاعب التي تواجهها في موطنها الجديد ، وحتى ثيو ستعرف كيف تتعامل معه ، مهما كانت نواياه ، علت ثغرها غبتسامة ، وهي تفكر في ثيو ، ذلك الفتى الدمث الخلاق ، المرهف الشعور ، ومع ذلك قررت انه لا يلائمها ، وتفضل ان تتزوج احدا أقرب الى مزاجها ، وتصورها لمواصفات الرجل ، رجل المستقبل ، ووجدت نفسها تفكر في ديفلين براندون ، فإعترتها مشاعر غامضة ، وكأنها ترفض إصدار حكم نهائي عليه.
كانت غارقة في أفكارها ، تشنف أذنيها بهدير الأمواج ، فلم تنتبه الى صوت إيقاع مكبوت يرتفع وراءها ، وعندما تبينته قليلا ، إحتارت في معرفة مكان إنبعاثه ، ثم ادركت بهلع أنه إيقاع حوافر حصان يعدو فوق الشاطىء ، نظرت وجلة ، ممتعضة ، تلعن حظها السيء ، وراته بقامته الطويلة يمتطي حصانا أسود اللون ضخما ، كان عاري الصدر ، داكن البشرة ، يفيض رجولة ورقة ، أين المفر الان ؟ فكرت كريستينا ، لتتوجه الى الحديقة ، فهي ملاذها الوحيد .
وأدركت انه يلاحقها عمدا ،فضاعفت من سرعتها ، زلت قدمها وإلتوت كاحلها إلتواء مؤلما دفعها الى إطلاق صرخة الم موجعة ،وتهاوت على الرمال بائسة ، تحضن جرح قدمها .
شد ديفلين براندون لجام حصانه ،وقفز برشاقة عنه ، متقدما نحوها ، وهتف :
" هل انت مجنونة ؟".
كان يتوقد غضبا ، وأدركت مدى جنونها وهي تحاول الهرب على هذا انحو ، كانت نزوة صبيانية لا يجوز أن تخضع لها بعد نضوجها ، وما هوعذرها ؟ لا شيء سوى عنادها ورفضها مواجهته ، وها هي الآن تنبطح ارضا ، وتخسر ما تبقى من كرامتها
حاولت النهوض ، فتهاوت لا تستطيع حراكا ، قرفص ديفلين براندون بجانبها ، وراح يتفحص كاحلها بأصبعه ، فاغمضت عينيها بقوة ، قالت بجفاف :
" سأكون بخير بعد برهة قصيرة".
وقف على قدميه معلنا :
" يفرحني أن اسمع رأيك الحكيم ، بدا كاحلك بالتورم كما الاحظ ، لا بد من غسله بالماء البارد وربطه ، سآخذك الى حجرة المركب لمعالجته".
أصيبت بصدمة عنيفة ، فصاحت :
" كلا ! ( ثم غيّرت لهجتها ) اعني .... أعني شكرا على مساعدتك ، ولكن سأكون بخير ، إذا ما إسترحت لبضع دقائق هنا".
إستشاط غيظا :
" يا لك من مخلوقة عنيدة ، أعرف كم يصعب عليك الإعتماد علي مرة ثانية ، ولكن لا خيار لديك ، وأعدك بالتركيز على كاحلك ولا شيء غير ذلك ، إذا كانت الشكوك تساورك ".
إنحنى ليساعدها على النهوض ، فإشتعلت حقدا ، وغرزت أسنانها في يده بسرعة البرق ، شتمها وسحب يده وقد لطختها بقع حمراء دامية ، جلست كريستينا صامتة ، متوجسة تشعر بالذنب ، نظرت اليه وكلمات الإعتذار ترتجف فوق شفتيها ، فرأته يبتسم قائلا :
" ما معنى هذا العض ،وفي ظرف غير مناسب؟".
غصت حنجرتها:
" أنت... انت...".
" أنت قليلة الحيلة ، لا بد من تلقينك بعض الدروس في مجالات كثيرة ".
وفجأة إنكب فوقها وحملها الى حصانه ، أقعدها فوق السرج ، وإمتطى الحصان وراءها.
قطعا مسافة قصيرة ، خالتها كريستينا أميالا تنلوها أميال ، يا لها من لحظات حرجة ، إنعقد خلالها لسانها ، وهي تعارك أحاسيسها الغريبة ، تجمدت فوق ظهر الحصان ، لا تجرؤ على الإتيان بأية حركة ، شاعرة بوجوده وراءها ، وكأنه لا يبالي بما يدور في داخلها من صراع رهيب ، لا شك انه رجل جذاب ، وتدرك ذلك من اعماق قلبها ، لكنها لن تفصح بأي شيء ، لا ، لن تخضع لسحره ، لن تبوح بعواطفها المتأججة .

نيو فراولة 14-02-12 08:26 PM

تمهل الحصان قليلا ، ووقع نظرها على مركب فخم يتهادى قرب الشاطىء ، وقرات إسمه المطلي بإتقان : عذراء القمر .
لم تكن معتادة على إمتطاء الأحصنة ، فأحست بالإعياء ، وظل كاحلها يؤلمها بشدة ، حمدت الله عندما ترجّل ديفلين ، وانزلها عن السرج ، وبدأ الحصان يعدو مبتعدا عن الشاطىء ، سالته:
" لماذا فعلت هذا؟".
قال :
" إن الإسطبل في آرك إينجل ،وهو يعرف طريق العودة ، مارك سيهتم به".
لم تصدقه ، إنه لا يسكن آرك إينجل ، ورأت كوخا صغيرا قرب تلة رملية ، ترى هل يعيش في هذا المكان ؟ سألت نفسها ، حاولت أن تمشي ، فأخفقت إخفاقا مذلا ، حملها بين ذراعيه ، وأخذ يصعد بها السلم الخشبي ، دخل غرفة كبيرة مبعثرة الأثاث ، تغطي أرضها بطانيات مزخرفة الألوان ، ورأت في الزاوية مقعدا خشبيا تتكوم فوقه قطع من القماش تستر شيئا ضخما تحتها.
وفتح بابا داخليا ، فوجدت نفسها في غرفة النوم ، حيث القى بها فوق السرير .
توارى عن نظرها ، فعرفت أنه يجلب بعض الماء وضمادة ، عاد يحمل إبريقا وصندوق إسعاف أولي ، وقال آمرا:
" إرفعي أطراف بنطالك الى أعلى ، هيا ، وإلا طويتها أنا ".
فاذعنت لأوامره صامتة ، وأخذت تراقبه بحذر وهو يلعب دور المرض والطبيب ، خف الألم الموجع وقد لف كاحلها ضماد متين ، قالت:
" شكرا".
إبتسم بعذوبة :
" حاولي الوقوف الآن ".
وأمسك بيديها ، فتجالدت ، ولمست الأرض بخفة ، وقفت منتصبة رغم شعورها ببعض الوجع وتمتمت:
" إنني بخير الآن ، عليّ الإنصراف".
اشار نحو الباب :
" كما ترغبين ، ولكن القهوة جاهزة ، ألا تريدين شيئا حارا؟".
" شكرا ، من الأفضل أن أذهب ، ستفتقدني السيدة براندون ".
ألقى نظرة سريعة على ساعته:
" في هذا الوقت ؟ما بالك ، هل تخافين مني؟".
توردت وجنتاها :
" ما الذي تعنيه ؟ لم يخطر ...".
قال يلتهمها بعينيه:
" يوجد مشط في الدرج ، انصحك بالإعتناء بهندامك ، سأتدبر امر القهوة ، إنضمي الي ساعة تشائين".
إستدار وخرج ، يا له من وغد! خاطبت كريستينا نفسها ، ما الذي يكيده لها؟ يا ليتها لم تخرج الى الشاطىء ، إنها الان أسيرة نزواته الشريرة ، كان العرّاف على حق ، إنه إبليس بعينه ، إبليس الذي يعذّبها بأساليب ملتوية ، ويهزأ منها كلما حاولت مقاومته.
منتديات ليلاس
وقفت أمام المرآة تسرح شعرها ، وتفكر في وضعها ، قررت أن تحتسي القهوة ، فتهدا أعصابها قليلا ، وتتمكن من التفكير بوضوح أكثر ، توجهت الى غرفة الجلوس ، كان ديفلين يجلس في الزاوية يحمل إبريقا وبعض الأكواب ، إستنشقت نكهة القهوة وكأنها فخ لإصطيادها ، فجلست على طرف المقعد ، متمنية أن يظل بعيدا عنها ، وبدا للوهلة الأولى منهمكا في إحتساء القهوة ، فإطمأنت.
أخذت تتمعن في الغرفة عن كثب ، رأت صفا من البنادق قرب الجدار المجاور لها ، وبعض أدوات صيد السمك ... كان كل شيء يدل على مكان لا أثر لذوق النساء فيه.
تنحنحت:
" هل تعيش هنا منذ مدة طويلة؟".
" منذ اربع سنوات ، منذ وفاة أهلي".
حملقت فيه كريستينا مذهولة ، غاب عنها للوهلة الأولى انه إبن مادلين ، شقيقة السيدة براندون ، تألمت لحاله بدون أي مبرر ، سالته بعفوية:
" وتسكن هنا وحدك؟".
قال بخفة :
" يا له من سؤال ! لا تتوقعي مني أي جواب".
وتابع ، وهي تشعر بالإحراج:
" علاوة على ذلك ، لا شك أن عمتي قد المحت امامك الى حياتي الصاخبة ، وأعتقد أن هذا هو سبب هربك مني على الشاطىء".
رمت بشعرها الى الوراء:
" لم أهرب منك ، كنت اتمتع بالعزلة ، ولم ارغب في رؤية أحد".
قهقه عاليا:
" إنه تصرف لا يليق بسكرتيرة ، إذا كنت ستمارسين أي عمل ".
فغرت فاها:
" ماذا تقصد ؟ ألا تصدق أنني سكرتيرة".
إستطرد هازئا :
" لا أظن ، لأنني أعرف عمتي جيدا ، إنها إنسانة ذات شخصية مستقلة وطاغية ، ولم يسبق لها أن إحتاجت الى مساعدة أحد".
وضعت كريستينا كوبها على الطاولة الصغيرة ، وشبكت اصابعها مضطربة:
" يبدو لي ان خلافا ما نشأ بينك وبينها ، لا أعرف ما هو ، ولا علاقة لي بذلك ، لكنها ربة عملي ، وعاملتني بكل لياقة ، واشعر ببعض الولاء لها ، ربما كنت على حق ، فهي لا تحتاج الى سكرتيرة ، ولم تعرض علي العمل إلا حرصا على كرامتي ، وحفاظا على صداقة قديمة ...".
توقفت عن الكلام ، وهو يحدق فيها وكأنها مجنونة ، قال متجهم الوجه:
" ما هذا ؟ ما هي هذه الصداقة القديمة؟".
بلعت ريقها قائلة :
" كنت أعيش مع عمتي ، عرابتي الآنسة غرانثم غريس ، توفاها الله منذ بضعة أسابيع ، ولكنها كتبت الى السيدة براندون قبل وفاتها ، وأعتقد أنها طلبت منها الإعتناء بي ، ومن هنا عرضت العمل عليّ والبقاء في هذا المكان".
بدا وكأنه لم يسمع كلمة قالتها:
" ولكن أنصحك بالعودة الى أنكلترا ، وهذه نصيحة صديق".
تفجرت غضبا :
" لا أحتاج الى نصيحتك او نصيحة أي إنسان ، ولا يمكنني العودة الى أنكلترا الآن بدون أي دراهم".
قال بهدوء:
" يا لها من ورطة ! ".
ردت بكبرياء :
" إنها ورطتي أنا ، أعرف أن الوضع صعب ، ولكن علي تلبية رغبات السيدة براندون".
قال مهددا :
" إذن إبقي عند عمتي ، وتحملي وضعك ، ولكن إياك ان تركضي الي مولولة عندما تسوء الأحوال".


الساعة الآن 07:07 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية