منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f449/)
-   -   178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t172340.html)

نيو فراولة 13-02-12 08:52 PM

2- تحذير العراف

فتحت كريستينا مصراعي شباك غرفتها ، وخرجت الى الشرفة تستنشق الهواء المنعش ، وتتمتع بحرارة الشمس الدافئة ، وأخذت تراقب الفناء الداخلي لفندق الذي يتوسطه حوض سباحة ذو الوان تتلألأ زرقة مخضرة كالفيروز .
إستاءت السيدة براندون من تأخر طيارتها الى المارتينيك بعد ظهر ذلك اليوم ، لكن كريستينا لم تشعر باي اسف ، لم تكن في عجلة من امرها لركوب الزورق والإبحار الى جزيرة سانت فيكتوار الصغيرة ، لا باس من قضاء بعض الساعات في المارتينيك والتمتع بمناظرها.
اوت السيدة براندون الى غرفتها ، وأشارت على كريستينا بالمثل لكنها لم تعبأ بنصيحتها ، إنها لم تستوعب بعد كل هذه التطورات ، ولم تزدها رحلة الطائرة إلا شوقا لأكتشاف هذا العالم الجديد.
لم تكن تعرف الشيء الكثير عن المنزل المزرعة حيث ستعيش بعض الوقت ، كل ما تعرفه أن الأخت مادلين وزوجها لقيا أجلهما عندما غرق مركبهما قبل سنوات قليلة ، وبدون أن تلم بتفاصيل هذا الحادث.
تأكدت من شيء واحد ، أن السيدة براندون ، تماما كما قالت ، حادة الطباع ، سريعة الغضب ، إكتشفت ذلك اثناء التبضع في لندن ، وعبر أسلوبها في التعامل مع موظفي الفندق ، ولم تدع احدا يفلت من لسانها وأوامرها عندما توجهتها الى المطار للإقلاع الى المارتينيك.
منتديات ليلاس
مرت نصف ساعة وهي تفكر في حياتها الجديدة ، المقلقة ، وها هي تهبط سلالم الفندق العريضة ، حيث خلعت بذلتها التي إرتدتها أثناء الطيران ، وإرتدت تنورة قطنية قصيرة قرمزية اللون ، وقميصا أبيض عقدت أسفله حول خصرها ، وارخت شعرها فوق كتفيها ، فبدت أكثر نضارة وأصغر عمرا ، ان السيدة براندون إقترحت عليها إرتداء ملابس صيفية ، وشجعتها على شرائها عندما مرتا بلندن ، وها هي تنفذ أوامرها.
إشترت كريستينا دليلا سياحيا ، وأخذت تطوف في الشوارع ، تجيل النظر في البيوت ذات الهندسة العجيبة ، وتتوقف قليلا أمام كاتدرائية شاهقة ، او حانوت من حوانيت العطور او اللعب والدمى ، وإشترت دمية صغيرة تزينها أزياء المارتينيك التقليدية.
ولاحظت ان الأزهار تنتشر في كل مكان ، وتتدلى من الشرفات بألوانها الصاخبة المرحة ،وتدافع الباعة يعرضون عليها باقات الزهور المختلفة...
تابعت السير الى أن شعرت بالجوع ، تمنت لو تدخل مطعما لتناول بعض المآكل التي كانت تترامى رائحتها الذكية الى أنفها ، تذكرت تحذيرات السيدة براندون المتكررة وضرورة تناول الغداء في الوقت المحدد ، فقررت العودة الى الفندق ، أوهكذا خيل اليها.
سرعان ما إكتشفت صعوبة ذلك ، لم تعد تعرف طريق العودة ، لو تذهب عبر هذا الشارع وتنعطف يسارا عند تلك الزاوية ، أم تسير في الشارع المحاذي ؟ وأخذت تخرج من شارع وتدخل في آخر ، وتحولت الشوارع الى أزقة ضيقة ، واقل جمالا ونظافة.
وتحولت رحلتها السياحية الى كابوس رهيب ، ابطأت الخطى وهي تحدق حولها مرتابة ، سمعت صوت طفل يبكي برتابة وحدة ، وكانه يمزق جوارحها المتعبة ، وإرتفع وراءها وقع أقدام المارة ، فإطمأنت قليلا ، إنها عثرت أخيرا على احد تسأله عن طريق العودة الى الفندق ، وحتى بلغتها الفرنسية المحدودة.
ولكن ما ان إستدارت حتى تجمدت الكلمات في حنجرتها ، كانوا ثلاثة صبية ، رأتهم يتوقفون ليراقبوها ،وعلى بعد خطوات قليلة منها ، إبتسموا بصمت ، وأدركت كريستينا مدى ذعرها عجزها لأول مرة في حياتها.
إنها حرب أعصاب ، خاطبت نفسها مرتاعة ، فكرت أن تطلق ساقيها للريح ، ثم عدلت عن الهرب ، وهي لا تستطيع التراجع إذا ما فاجأتها نهاية ذلك الشارع شبه المعتم ، وفجأة تقدم احدهم ورماها ارضا ، أغمضت عينيها مذعورة ، وإنطلقت صرخات إستغاثاتها تدوي في الشارع المقفر.
فتحت عينيها ثانية ، فأحست بصمت رهيب يخيم حولها ، وإستدارت ليقع نظرها على رجل طويل القامة يقف وراءها ، أرادت أن تشكره ، وقالت عوض ذلك :
" لقد ذهبوا ! ".
قال بهدوء :
" طبعا ، هل انت مستاءة؟".
كانت لغته الإنكليزية سليمة لا عيب فيها ،وبدون لكنة أو لهجة غريبة ، سالها :
" ما الذي تفعلينه في هذا الحي ؟ هل يعرف أهلك أين انت ؟".
ردت تتحداه :
" انا لست طفلة ، إنني هنا مع ربة عملي".
تمعن في قسماتها قليلا :
" ربة عملك ؟ المعذرة ، لم أعتقد أنك في سن يسمح لك بالعمل ، دعيني أحزر ! هل انت ممثلة أم عارضة أزياء؟".
كان يخر منها ، هكذا إفترضت كريستينا ، فاسرعت بالإجابة :
" انا أعمل سكرتيرة ، ويجب ان أعود الآن ، ثمة من ينتظرني ".
قال بجفاف :
" بدون شك ، ماذا تفعلين بالضبط كسكرتيرة ؟ هل تضربين على الآلة الكاتبة؟".
إزدادت حيرة ، لماذا يتصرف بهذا الأسلوب الفظ ؟ هو الذي بادر الى مساعدتها ، ولم تطلب منه إنقاذها ، قالت :
" قليلا ، نعم أجيد الطباعة قليلا ".
" قليلا ؟ إذن لا بد ان مواهبك تبرز في أمور أخرى ".
صاحت وهي تلقي نظرة على ساعتها :
" يا للويل ، داهمني الوقت ، هل تستطيع ان تدلني على طريق العودة الى فندق بوهرنيه ؟ لقد ضللت سبيلي كليا ".
قال هازئا :
" كيف ستعودين بدون محفظة يدك ؟ لقد نهبوها ، كل ما كانوا يريدونه منك بعض النقود لا غير ".
إزداد هلعها ، فحاولت إخفاء مشاعرها :
" لا باس ، هل تدلني على طريق الفندق من فضلك؟".
أمعن في سخريته :
" سيري في إتجاه الأحياء الغنية ، فانت على مقربة منها الان ، إنعطفي يسارا ثم يمينا وستجدين نفسك في الشارع الرئيسي ، حاولي تجنب الأزقة ، فهي غير آمنة إجمالا ".
إنحنى قليلا ، وإبتعد عنها ، ظلت كريستينا تراقبه حتى توارى عند الزاوية المحاذية ، وكم كانت سعادتها عظيمة عندما إكتشفت دقة توجيهاته ، حيث وجدت نفسها امام مدخل الفندق بعد دقائق معدودة ، فاسرعت الخطى لتنضم الى السيدة براندون قبل أن تفقد صوابها وينفد صبرها.

نيو فراولة 13-02-12 08:53 PM

وما أن همّت بدخول قاعة الفندق حتى لمحت مجموعة من السياح يتجمعون في ناحية من الرواق يتابعون شيئا ما يدور هناك .
تغلب عليها فضولها فقررت إكتشاف الحدث الهام الذي يستحوذ على إنتباه الجميع ، تقدمت قليلا الى أن تبينت زنجيا يجلس مقرفصا على الأرض ويرمي عظاما يابسة في الهواء ، ثم يلتقطها وهو يتمتم كلمات تنذر بالويل والثبور ، انه عراف يقرأ البخت ، خطت خطوة الى الأمام ، ووقفت أمامه مدهوشة ، رات رجلا ينقده بعض الدراهم ، ثم يشكره ، ساد صمت مزعج ، لم يتقدم زبون جديد ، فلتجرب حظها ، عساها تتبين ملامح مستقبلها الغامض ، إلتقت عيناها بعنيني العراف ، ووجدته يباشر قذف أصداف براقة ، ويومىء لها لتجلس قربه ، أطاعت أوامره وكأن قوة سحرية تجذبها الى سماع كلماته ، تململ قليلا ، فرك جبينه ، وما لبث ان قال :
" عليك الإحتراس والحذر يا آنسة ، إنني أرى شرا ، كوني حذرة من ابليس آرك إينجل اللعين في آرك إينجل ".
ثم نهض بغتة ،وجمع الصداف والعظام ، وغادر مسرعا ، متجاهلا إحتجاجات الجمهور ، وقفت كريستينا
محمرة الوجنتين ، مضطربة ، تركض كالمجنونة نحو مدخل الفندق ، وكلماته تزن في أذنيها : كوني حذرة من ابليس.
كانت تعاني من صداع رهيب عندما شدّت الرحال في اليوم التالي للذهاب مع السيدة براندون الى جزيرة سانت فيكتوار ، وهي لا تزال تتذكر عبارات هذه العجوز اللاذعة ، وتانيبها لها لتاخرها وتعرضها لمشكلات كانت في غنى عنها.
وإستعادت أحداث يومها الفائت ، وخاصة مقابلتها لذلك العراف وقراءته لبختها لا بد أنه يتناول المعلومات مع احد موظفي الفندق حول النزلاء ، ولا شك أن السيدة براندون اشهر من أن تعرّف ، فكرت كريستينا ، الكل يعرف اين تسكن وإسم منزلها ، وشاهدوها معها ، فكان من السهل معرفة مكان توجهها ، إنها مسألة في غاية البساطة ، ومع ذلك ، كيف تفسر كلماته ؟ ما الذي عناه بالتحديد؟
واخذت تتساءل بقلق عن الدافع الذي حمل السيدة براندون للسفر الى انكلترا والبحث عنها ، فصحتها سيئة ، وتعاني من إلتهاب المفاصل ، ولا تكف عن إبتلاع أقراص والمسكنات ، مما يعني أن قلبها في حالة سيئة أيضا ، وإذا كان هذا هو الوضع ، تابعت كريستينا سلسلة افكارها ، فلماذا لم تكلف احدا غيرها للقيام برحلة طويلة ، مضنية كهذه ؟
وتمنت لو تستطيع إقناع نفسها بعاطفة السيدة براندون الجياشة ، وإنسانيتها المفرطة ، ولكنها لا يمكنها ان تصدق كل ذلك بعد أن إختبرتها عن كثب.
إذن هناك سبب ملح دفع السيدة براندون الى رؤيتها شخصيا ، مع أنها لا تعرف ما هو هذا السبب الملح .
يا لبؤس حياتها ، وطئت ارض المارتينيك تمور حيوية وغبطة ، وتخال أنها تعيش اسعد لحظات حياتها ، وها هي تجلس في هذا المركب حزينة ، مشوشة الأفكار ، تلمح جزيرة سانت فيكتوار فلا تترك في نفسها إلا إنطباعا مغلفا بالسرار والحيرة .
همّت بالترجل من المركب ، محاولة تعزية نفسها ، وتعليلها بمفاجأة سارة جديدة ، قررت ان تشاؤمها لا يليق بها ، وربما كان إحساسا خاطئا لا صحة له ، فتنتظر حتى تنجلي الأمور أكثر .
كانت تنتظرها على رصيف الميناء سيارة فخمة ، يجلس وراء مقودها رجل أسود يرتدي بزة رسمية ، ولاحظت تبدل طبيعة السيدة براندون ، وظهور دماثة لطيفة في تصرفها إزاءها ، وهما تتوجهان نحو السيارة ، ورأت السائق يرفع قبعته ويتوجه صوبهما بإبتسامة عريضة :
" الحمد لله على السلامة يا سيدة ، ويا آنسة ".
أعطته السيدة براندون عصاها ، وصعدت الى المقعد الخلفي قائلة :
" شكرا يا لويس ، باركك الله".
ولاحظت كريستينا السائق يلف بطانية حريرية حول ساقي السيدة براندون رغم رطوبة الجو الحار.
وجلست كريستينا في المقعد الأمامي كما اشارت عليها ربة عملها ، واقلعت السيارة ، وهي تشعر بالحر الخانق ، لكنها لم تفه ببنت شفة ، تمنّي نفسها بحمام ماء بارد وبعض المرطبات فور وصولها.
لم تجد ما يلفت النظر في منطقة الميناء سوى مجموعة من المباني الواطئة المسقوفة بالواح من الحديد المضلع ، وبعلو معظمها الصدأ والغبار ، وكانت الشوارع المتفرعة من الميناء ضيقة ومزدحمة بالدراجات ، ولاحظت كريستينا ان الأرصفة تتكدس فوقها أكشاك الفاكهة والخضار ، وتغص كل بقعة بالأولاد والصغار وشتى الحيوانات ، وأبدت إعجابها بمهارة لويس وهو يشق طريقه عبر هذا ازحام.
وما هي إلا لحظات حتى وصلوا الى طريق عريض ، مستقيم ، لا يعكر صفوهدوئه شيء ، فتنفست الصعداء ، ثم تبيّن لها أن هذا الطريق ليس اكثر كم درب ترابي تتخلّله الحفر ، فتهتز السيارة يمينا وشمالا ، رغم مهارة لويس في القيادة .
وبعد ان قطعوا بضعة أميال صعدت بهم السيارة الى طريق مرتفع ، وتراءى البحر لكريستينا في البعيد ، بلونه الأزرق العميق ، يكاد يعانق الأفق بعفوية اخاذة ، نظر اليها لويس مؤكدا :
" سوف تشاهدين مناظر أكثر جاذبية ".
ومضت بهم السيارة في طريق تتوسط حقولا زراعية ، يعمل فيها عدد من الأشخاص ، ورأتهم كريستينا يلوحون بايديهم ، وتصورت ، بدون ان تلتفت وراءها ، السيدة براندون تهز براسها لرد التحية ، وفطنت انهم الآن على أطراف المزرعة التي ذكّرتها لها ربة العمل .
كانت حقولا شاسعة ، تمتد الى مسافات بعيدة ، ترصعها مجموعات من المساكن لإيواء عائلات العمال ، كما إفترضت ، كأنها عالم صغير وسط عالم آخر ، وإرتابت كريستينا من ضخامة هذه المزرعة ، لم تعرف في حياتها سوى الريف الإنكليزي وجماله الوديع ، وها هي تصطدم بالحر اللاذع ، والتربة الظامئة ، والأشجار والنباتات الغريبة الشكل والبراعم ، احست انها في برية موحشة لم تروضها الحضارة بعد.

نيو فراولة 13-02-12 08:54 PM

تناولت منديلا من محفظتها ومسحت تصبب عرق جبهتها ووجهها ، وكانت السيارة الآن تجري بمحاذاة الشاطىء ورماله الفضية، وأمواجه المتهادية بنعومة ، يلامسها نسيم البحر العليل ، ولكن الحر داخل السيارة كان يخنقها ، وهي لا تجرؤ على فتح النافذة خوفا من السيدة براندون التي تعشق الحر ، مهما كانت درجته ، لا بد أنهم إقتربوا من نهاية الطريق ، علّلت كريستينا نفسها..
إسترخت في مقعدها ، مغمضة عينيها ، ومحاولة تجاهل محنتها ، وإرتجاج السيارة فوق الطريق الوعر ، وما أن همّت بالطلب من لويس للتوقف ، حتى وجدته يخفف سرعته ، وينعطف فوق طريق بدا لها ناعما كالحرير بعد أهوال الميال السابقة ، فتحت عينيها قليلا ، وإكتشفت انهم يمرون تحت قوس من الأشجار الخضراء المنعشة .
وهتف لويس وكانه أحس بضيقها :
" سنصل بعد لحظة قصيرة ".
وإنعطفت السيارة فوق طريق منحدر ، وها هو المنزل يتراءى امامهم ، تظله الشجار الوارفة ، كان مطليا باللون الأبيض ، ويتكون من طبقتين كبيرتين تحيط به مصطبة عريضة ، وترتفع فوقها شرفة يزينها درابزين حديدي امام الغرف العليا ، توقفت السيارة أمام درجات المصطبة ، ولمحت كريستينا إمرأة طويلة القامة تنتظر عبد الباب الأمامي للترحيب بهم ، ويدل فستانها الأسود ومئزرها الناصع انها مدبرة المنزل ، تنفست كريستينا بعمق وهي تحس بتوترها يتلاشى تدريجيا ، نظرت الى مدبرة المنزل وإبتسمت بحياء ، لكنها لم تجد أي تجاوب.
وتوكأت السيدة براندون على عصاها ،ومشت بتمهل وهي تهتف :
" سيدة كريستوف ، هل كل شيء على ما يرام ؟".
ردت مدبرة المنزل بصوت خفيض:
" كل شيء على ما يرام ، لا توجد أي مشكلة ".
وقفت السيدة براندون فوق المصطبة لأستعادة نفسها ، ثم اومات نحو كريستينا التي كانت تسير وراء لويس وهو يحمل الحقائب:
" اقدم اليك الانسة بينيت ، سيدة كريستوف ، هل تلقيت برقيتي؟".
قالت السيدة كريستوف وهي تتفحص زائرتها الجديدة :
" اعددت لها غرفة ، أهلا بك في آرك إينجل يا آنسة ".
وتوجهوا جميعا الى الداخل ، كانت القاعة الأولى فسيحة مربعة الشكل مبلطة بألوان زرقاء وخضراء ، وبدا لكريستينا أن جميع الغرف الرئيسية تفتح أبوابها على هذه القاعة، وتبين لها ان الطبقة العليا تأخذ شكل صالة عرض واسعة ، وإنتصب عند اقدام السلم اللولبي تمثال رخامي لشاب في ريعان الصبا يعتمر درعا معدنيا ، ويمسك برمح طويل يهم ان يطعن به حيوانا مجنحا يرتمي عند قدميه ، وكان الشاب إياه يمد جناحين رائعين مخضبين بالذهب.
تقدمت منها السيدة براندون شارحة :
" هذا هو ملاكنا الحارس يا آنسة ، والذي تحمل المزرعة إسمه ، آرك إينجل او الملاك الحارس".
أجابت كريستينا ببرودة:
" ألم اقل ل كان وراء إسم المزرعة قصة طريفة؟ إنها تعود الى القرن السابع عشر عندما بنت أول عائلة هنا وشرعت بزراعة السكر ، كانوا يستخدمون العمال العبيد في تلك الأيام ، كما تعرفين ، وجلبت مجموعة من العبيد أحد الأمراض ، وإنتشر المرض في كل الجزيرة ، كإنتشار النار في الهشيم، كان مرضا كالطاعون ، وأخذ الناس يموتون كالذباب ،وهكذا تضرع سكان الجزيرة، وهم في مرحلة اليأس ، الى هذا الرمز – الأنجل ".
وسألتها كريستينا :
" وهل نفعت صلواتهم ؟".
أجابت السيدة براندون بإنزعاج :
" زال الطاعون بعد مرور أسبوعين ، وظن الأهالي أنها كانت أعجوبة ، ومنذ ذلك الحين ونحن ندعو المزرعة آرك إينجل ، إن التمثال قديم جدا وجلبته العائلة معها من فرنسا كعربون وفاء ، ( وفجاة تبدل صوتها ) إصعدي الى الطابق الأعلى ، وستدلك السيدة كريستوف على غرفتك ".
شكّت كريستينا في كل كلمة سمعتها ، إنها قصة خرافية ، خاطبت نفسها ، ثم مشت وراء قامة مدبرة المنزل المنتصبة عبر البهو ، وممر تعلوه قنطرة ، وإكتشفت ان الممر يؤدي الى جناح خلفي ، وتوقفت السيدة كريستوف قبل نهاية الرواق أمام باب مزدوج من الخشب ،وفتحته .
أخذت كريستينا تجول بنظرها في الغرفة وهي لا تكاد تصدق عينيها ، كان السقف مطليا بلون عسلي مشع ، وكذلك الحيطان ، أما السجادة والستائر الحريرية فكانت ضاربة الى الصفرة ، وأدركت لتوها ان هذه الزخرفة الفخمة فوق مستوى موظفة قد لا تمكث مدة طويلة ، لاحظت السيدة كريستوف دهشتها ، فقالت :
" ألا تعجبك الغرفة يا آنسة؟".
أجابت ببرود :
" على العكس تماما ، إنها أجمل غرفة رايتها في حياتي ، ولكن هل تنوي السيدة براندون تخصيصها لي؟".
نظرت اليها السيدة كريستوف وكأنها توبخها :
" إنها تترك هذه التفاصيل لي، ولكن اؤكد لك أنها ستوافق على إختياري ، لقد جلب لويس حقائبك ، سأطلب من يولاي لتساعدك على فتحها ( ثم حدّجتها هنيهة قبل ان تغادر مرددة ) لكن الظروف تتغير ، اليس كذلك ؟ ربما كان
من الأفضل لك الإستعداد لأي طارىء يا آنسة".
أوصدت الباب بهدوء ، تاركة كريستينا في سيطرة تامة على ممتلكاتها الصغيرة ، وكان أول ما فعلته الإستحمام ، وترتيب ثيابها في خزانة الحائط العريضة .
ثم بدلت ملابسها ، وخرجت الى الشرفة حافية القدمين ، ولمحت عن يسارها سلما حديديا يؤدي الى الحديقة ، وبركة سباحة طويلة مستطيلة الشكل، وإمتدت في كل النواحي مروج خضراء تختلط بعد مسافة شاسعة بشجيرات مزهرة ونباتات برية كثيفة الأوراق ، وبعد ذلك يبدو البحر منبسطا ، جميل المنظر.

نيو فراولة 13-02-12 08:55 PM

لم تمر دقائق معدودة حتى سمعت رنين الهاتف في غرفتها ، فاسرعت ترفع السماعة قائلة :
" الو ، كريستينا بينيت ".
سمعت زفيرا وأصواتا خافتة ، ولكن لم يجبها أحد ، صاحت بحدة:
" نعم ؟ من هناك من فضلك؟".
سمعت ضحكة مكبوتة وكأن صوتها المذعور أدى الى النتيجة المرجوة ، إزداد توترها:
" هل تكف عن هذا المزاح وتخبرني ما تريد ! ".
ثم سمعت نقرا خفيفا على الباب ، إستدارت مرتاعة ، فرات الباب ينفتح ببطء ، دخلت فتاة تناهزها في العمر ، بدت بالغة الجمال بشعرها الداكن وعينيها السوداوين ،وبشرتها الضاربة الى السمرة ، كبشرة السيدة كريستوف ، لا بل أن كريستينا خالتها صورة مصغرة للسيدة كريستوف عندما كانت في مثل سنها.
إبتمست الفتاة إبتسامة بريئة ، عفوية كاشفة عن اسنانها البيضاء السوية :
" تفضلي بالنزول الى المكتبة لأحتساء الشاي ، أو ربما تفضلين أن أجلب صينية الى هنا؟".
قالت كريستينا بعجلة :
" كلا سانزل بنفسي ، لا بد أنك يولالي؟".
برقت عيناها متسائلة ، وهي ترى سماعة الهاتف في يد كريستينا :
" نعم أنا يولالي ، ولكن هل تحبين شيئا آخر؟".
أحست كريستينا بحرج شديد:
" لا ، ولكن رن جرس الهاتف ولم يجبني أحد ".
إستأذنها يولالي لتدعها تتحرى الأمر بنفسها ، وضعت أذنها على السماعة لحظة ، ثم إستدارت صوب كريستينا :
" لا يوجد أحد الآن يا آنسة، هذا هاتف المنزل الرئيسي ، ومن السهل ضرب رقم مغلوط ".
لم تقتنع كريستينا :
" ولكن لم يقولوا ذلك ، لم يكن هناك أي صوت ، إنه تصرف بغيض".
قالت يولالي ببرودة:
" ربما اخطات الظن ، لا يوجد احد في هذا المنزل يتصرف هكذا ".
ومشت نحو الباب ، متوقعة من كريستينا السير وراءها ، ولم يخب ظنها ، لحقت بيولالي عبر الممر ، متجهة الى السلم الرئيسي ، وهي تبحث عبثا عن موضوع ما لتحدث اليها ، كان وضعها في المنزل غامضا ، إنها الآن مجرد ضيفة ، ولكنها أتت الى هنا لتعمل ، هل أساء تصرفها الى احد ؟ فكرت كريستينا ، لم تتعرف إلا على لويس والسيدة كريستوف ، ويولالي ، لا يمكنها تصور احد من هؤلاء يعمد الى ممارسة الآعيب بغيضة ضدها في يومها الأول.
بلغتا أسفل السلم ، وحدّقت كريستينا في التمثال مرة أخرى ، وفوجئت بإكتشاف شكل جديد للحيوان المستلقي عند قدميه، لم يكن تنينا كما خالته سابقا ، بل يشبه شكلا بشريا ، وقررت انه قبيح المظهر ، يثير الإشمئزاز.
عبرت يولالي القاعة ، تنتظر بفارغ الصبر امام الباب في الجهة المقابلة ، وضعت كريستينا يديها في جيبي تنورتها ، وقالت مستفسرة :
" قولي لي من هو هذا السيد الذي تدوسه القدام ؟".
وقبل ان تفوه يولالي بكلمة ، إرتفع صوت آخر مالوف ، هز كيانها هزا :
" إنه إبليس يا عزيزتي ، إبليس نفسه ".
رات صاحب الصوت يقف عند المدخل المامي ، وعرفته رغم ملابسه الجديدة ، أن عينيه لا تزالان تتماوجان بذلك اللون الفضي الذي لفت نظرها ،وهو يقف هناك في ذلك الزقاق الضيق بعد تعرضها للهجوم ، قال بلطف :
" هل كنت تتوقعين ان يكون كائنا آخر؟".

نيو فراولة 13-02-12 08:57 PM

3-الحذر من إبليس

تسمرت كريستينا في مكانها ، تتأجج إرتيابا وحيرة ، وتبحث عن عبارات تنطق بها ، ظلت معقودة اللسان ، لم تكن تتوقع ان تراه ثانية ، لا بل تمنت ألا ترى وجهه في حياتها ، خاصة بعد تلك الحادثة المؤسفة ، واسلوبه في معاملتها ، ألم يؤنبها بعد أن اقفر الشارع من المارة ، وأعتبرها مجرد طفلة صغيرة ضالة ؟ الم يعتبرها سيئة النوايا لا هم لها سوى إستغلال إمرأة طاعنة في السن ؟ الم تشكره على مساعدته ، ومضى كل منهما في سبيله ، فماذا يريد الآن ؟
هتف هازئا :
" ما هذا الصمت ايتها السكرتيرة البارعة ؟ آمل أنك لم تتعرضي لمزيد من المصائب منذ لقائنا الخير ".
شمخت كريستينا بأنفها ، يدل مظهره ، وطريقة مظهره ، وطريقة دخوله المنزل أنه احد الزوار الدائمين ، وعرفت أن من الأفضل لها إخفاء عدائها له ، ولكن كلماته تجرح مشاعرها ، وتغيظها الى ابعد حد.
قالت بتافف :
" شكرا ، كل شيء على ما يرام".
ؤفع حاجبيه :
" هل أنت في طريقك الى المكتبة لتناول الشاي ؟".
كادت تنكر كل شيء ، وتنسحب الى غرفتها ، ولكنها قاومت نزوتها العابرة ، وهي ترى يولالي منتصبة قرب باب المكتبة تصغي الى تبادلهما العبارات المثيرة بدهشة ، لا ، لن تتصرف بحماقة ، خاطبت نفسها ، ومشت بخطى وثيدة صوب المكتبة .
كانت غرفة المكتبة جميلة للغاية ، مربعة الشكل ، واطئة السقف ،مفروشة بسجادة عجمية ، وتمتد رفوف الكتب فوق ثلاثة من جدرانها ، وتزين الجدار الرابع نوافذ فرنسية مشرعة لإستقبال النسيم العليل ، ولمحت مقاعد جلدية امام النوافذ ، مع طاولة صغيرة في الوسط ، ووضعت هناك صينية ، يتوسطها أبريق شاي فضي ، والى جانبه فنجانان فاخران ، وادركت كريستينا لتوها أن الشاي معد لشخصين فقط.
التفتت وراءها ، وهالها ان تراه يهم بإغلاق باب المكتبة ، نظر اليها مبتسما وكانه يقرأ افكارها.
ثم قال ساخرا :
" أفضل الشاي مع بعض الحليب ولكن بدون سكر من فضلك ".
إحمرت وجنتاها ، واسرعت تظهر إنهماكها بإبريق الشاي ، بدا قديما وثقيلا ، وأحست بإرتعاش يدها حيث إندلق بعض الشاي فوق الصحن والصينية ، عضت شفتها اسفا ، وأخذ رفيقها المتطفل يهز رأسه تشفيا :
" ما هذا أيتها السكرتيرة البارعة ؟ عليك ان تتلقي يعض الدروس قبل ان تصبي الشاي لعمتي ، انها لا تتساهل ابدا حول مسائل كهذه ، وتبدي رايها بصراحة ، الم تلاحظي ذلك ؟ ".
ارخت كريستينا ابريق الشاي بإضطراب ، تنبهت الى كلمة واحدة نطق بها :
" تقول عمتي ! هل أنت .... هي...".
قال بهدوء :
" هذه هي الحقيقة المرة ، اعتقد أن الأوان حان لتقديم نفسي ، أنا ديفلين براندون ، إبن اخت ربة عملك ".
ردت كريستينا بعد لحظة مليئة بالدهشة :
" هكذا إذن ! ".
أخرج ديفلين براندون علبة سكائر من جيب قميصه ، واشعل واحدة منها ، وعلق ببرودة :
" أعرف ان وجودي مفاجأة غير سارة ، هل يهدأ بالك لو قلت لك ان ردة الفعل كانت متبادلة ؟".
أجابت بإمتعاض :
" وكيف ذلك؟".
إبتسم بخبث :
" لأنك لم تشبعي فضولي حول حاجة عمتي الى خدمات سكرتيرة مثلك! ".
تمالكت كريستينا أعصابها ، وصبت الشاي في الفنجان ، وحملته اليه رابطة الجأش :
" الا تعتقد ان سؤالا كهذا يوجه الى عمتك ؟ وكف عن مناداتي بهذا اللقلب ! ".
أشار بأسلوبه اللاذع :
" لا يمكنني ان أناديك بغير ذلك ! لن يكون ذلك لائقا ".
قالت وهي تشعر بالإعتزاز :
لم أتصور أن اللياقة تهمك كثيرا يا سيد براندون ".
ظل محافظا على هدوئه ، مسترخيا في المقعد الجلدي ، وإبتسامة ساخرة تعل ووجهه :
" ان للهرة الصغيرة مخالب إذن ، أنصحك بعدم إظهارها ، لا يتسع هذا المكان لأكثر من لبوة واحدة ، وكما ستلمسين ذلك بنفسك ، وإنني انتظر".
" ماذا تنتظر ؟".
" أنتظر لأسمع إسمك وماذا تفعلين هنا ".
منتديات ليلاس
ترددت كريستينا ، كان قلبها يحثها لفهامه أن هذه الأمور لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد ، ولكن ربما كانت مخطئة ؟ أنه من عائلة براندون ، ولا تعرف ما هو مركزه في العائلة بعد.
واخيرا قالت بجفاف :
" إسمي كريستينا بينيت ، وإستخدمتني السيدة براندون لأكون سكرتيرة ومرافقة ".
اجاب بعذوبة :
" هل هذا صحيح؟".
حدجته بنظراتها :
" يبدو... يبدو أنك لا تصدقني ، هل يوجد أي مبرر آخر لوجودي هنا؟".
اطفا السيكارة في المنفضة :
" هذا ما تبادر الى ذهني ، وحتى الان لم أحصل على اجوبة مقنعة ".
أعادت كريستينا فنجانها الى الصينية ، فصلصل قليلا ، وقالت بحدة :
" إنك تثير السخرية !".
لوى فمه :
" ماذا ؟ إسمعي يا آنسة بينيت ، إلتقيت بعمتي ، ويمكنك ان تحكمي بنفسك ما إذا كانت تحتاج الى مرافقة".
طوت كريستينا أصابعها تبدي إستياءها :
" اعتقد ان ذلك يتوقف على ما تتوقعه من خدمات ".
ومطّ بشفتيه يسالها :
" وما هي الخدمات التي يمكنك تقديمها؟".
إضطربت قليلا :
" لم نناقش هذا الموضوع بالتفصيل...".
صاح بإزدراء :
" هذا هو الصدق بعينه ، قولي لي يا ىنسة هل سبق لك أن قمت بعمل مشابه؟".
قالت تتحداه:
" نعم كنت اعمل مع... مع عمتي ولعدة سنوات في هذا المجال ".
أجابها بفتور :
" وتعتقدين ان ذلك يؤهلك للعمل مع عمتي ، أنك إما بالغة السذاجة أو خارقة الذكاء يا آنسة ، ولا ادري ايهما".



الساعة الآن 01:46 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية