2- تحذير العراف
فتحت كريستينا مصراعي شباك غرفتها ، وخرجت الى الشرفة تستنشق الهواء المنعش ، وتتمتع بحرارة الشمس الدافئة ، وأخذت تراقب الفناء الداخلي لفندق الذي يتوسطه حوض سباحة ذو الوان تتلألأ زرقة مخضرة كالفيروز . إستاءت السيدة براندون من تأخر طيارتها الى المارتينيك بعد ظهر ذلك اليوم ، لكن كريستينا لم تشعر باي اسف ، لم تكن في عجلة من امرها لركوب الزورق والإبحار الى جزيرة سانت فيكتوار الصغيرة ، لا باس من قضاء بعض الساعات في المارتينيك والتمتع بمناظرها. اوت السيدة براندون الى غرفتها ، وأشارت على كريستينا بالمثل لكنها لم تعبأ بنصيحتها ، إنها لم تستوعب بعد كل هذه التطورات ، ولم تزدها رحلة الطائرة إلا شوقا لأكتشاف هذا العالم الجديد. لم تكن تعرف الشيء الكثير عن المنزل المزرعة حيث ستعيش بعض الوقت ، كل ما تعرفه أن الأخت مادلين وزوجها لقيا أجلهما عندما غرق مركبهما قبل سنوات قليلة ، وبدون أن تلم بتفاصيل هذا الحادث. تأكدت من شيء واحد ، أن السيدة براندون ، تماما كما قالت ، حادة الطباع ، سريعة الغضب ، إكتشفت ذلك اثناء التبضع في لندن ، وعبر أسلوبها في التعامل مع موظفي الفندق ، ولم تدع احدا يفلت من لسانها وأوامرها عندما توجهتها الى المطار للإقلاع الى المارتينيك. منتديات ليلاس مرت نصف ساعة وهي تفكر في حياتها الجديدة ، المقلقة ، وها هي تهبط سلالم الفندق العريضة ، حيث خلعت بذلتها التي إرتدتها أثناء الطيران ، وإرتدت تنورة قطنية قصيرة قرمزية اللون ، وقميصا أبيض عقدت أسفله حول خصرها ، وارخت شعرها فوق كتفيها ، فبدت أكثر نضارة وأصغر عمرا ، ان السيدة براندون إقترحت عليها إرتداء ملابس صيفية ، وشجعتها على شرائها عندما مرتا بلندن ، وها هي تنفذ أوامرها. إشترت كريستينا دليلا سياحيا ، وأخذت تطوف في الشوارع ، تجيل النظر في البيوت ذات الهندسة العجيبة ، وتتوقف قليلا أمام كاتدرائية شاهقة ، او حانوت من حوانيت العطور او اللعب والدمى ، وإشترت دمية صغيرة تزينها أزياء المارتينيك التقليدية. ولاحظت ان الأزهار تنتشر في كل مكان ، وتتدلى من الشرفات بألوانها الصاخبة المرحة ،وتدافع الباعة يعرضون عليها باقات الزهور المختلفة... تابعت السير الى أن شعرت بالجوع ، تمنت لو تدخل مطعما لتناول بعض المآكل التي كانت تترامى رائحتها الذكية الى أنفها ، تذكرت تحذيرات السيدة براندون المتكررة وضرورة تناول الغداء في الوقت المحدد ، فقررت العودة الى الفندق ، أوهكذا خيل اليها. سرعان ما إكتشفت صعوبة ذلك ، لم تعد تعرف طريق العودة ، لو تذهب عبر هذا الشارع وتنعطف يسارا عند تلك الزاوية ، أم تسير في الشارع المحاذي ؟ وأخذت تخرج من شارع وتدخل في آخر ، وتحولت الشوارع الى أزقة ضيقة ، واقل جمالا ونظافة. وتحولت رحلتها السياحية الى كابوس رهيب ، ابطأت الخطى وهي تحدق حولها مرتابة ، سمعت صوت طفل يبكي برتابة وحدة ، وكانه يمزق جوارحها المتعبة ، وإرتفع وراءها وقع أقدام المارة ، فإطمأنت قليلا ، إنها عثرت أخيرا على احد تسأله عن طريق العودة الى الفندق ، وحتى بلغتها الفرنسية المحدودة. ولكن ما ان إستدارت حتى تجمدت الكلمات في حنجرتها ، كانوا ثلاثة صبية ، رأتهم يتوقفون ليراقبوها ،وعلى بعد خطوات قليلة منها ، إبتسموا بصمت ، وأدركت كريستينا مدى ذعرها عجزها لأول مرة في حياتها. إنها حرب أعصاب ، خاطبت نفسها مرتاعة ، فكرت أن تطلق ساقيها للريح ، ثم عدلت عن الهرب ، وهي لا تستطيع التراجع إذا ما فاجأتها نهاية ذلك الشارع شبه المعتم ، وفجأة تقدم احدهم ورماها ارضا ، أغمضت عينيها مذعورة ، وإنطلقت صرخات إستغاثاتها تدوي في الشارع المقفر. فتحت عينيها ثانية ، فأحست بصمت رهيب يخيم حولها ، وإستدارت ليقع نظرها على رجل طويل القامة يقف وراءها ، أرادت أن تشكره ، وقالت عوض ذلك : " لقد ذهبوا ! ". قال بهدوء : " طبعا ، هل انت مستاءة؟". كانت لغته الإنكليزية سليمة لا عيب فيها ،وبدون لكنة أو لهجة غريبة ، سالها : " ما الذي تفعلينه في هذا الحي ؟ هل يعرف أهلك أين انت ؟". ردت تتحداه : " انا لست طفلة ، إنني هنا مع ربة عملي". تمعن في قسماتها قليلا : " ربة عملك ؟ المعذرة ، لم أعتقد أنك في سن يسمح لك بالعمل ، دعيني أحزر ! هل انت ممثلة أم عارضة أزياء؟". كان يخر منها ، هكذا إفترضت كريستينا ، فاسرعت بالإجابة : " انا أعمل سكرتيرة ، ويجب ان أعود الآن ، ثمة من ينتظرني ". قال بجفاف : " بدون شك ، ماذا تفعلين بالضبط كسكرتيرة ؟ هل تضربين على الآلة الكاتبة؟". إزدادت حيرة ، لماذا يتصرف بهذا الأسلوب الفظ ؟ هو الذي بادر الى مساعدتها ، ولم تطلب منه إنقاذها ، قالت : " قليلا ، نعم أجيد الطباعة قليلا ". " قليلا ؟ إذن لا بد ان مواهبك تبرز في أمور أخرى ". صاحت وهي تلقي نظرة على ساعتها : " يا للويل ، داهمني الوقت ، هل تستطيع ان تدلني على طريق العودة الى فندق بوهرنيه ؟ لقد ضللت سبيلي كليا ". قال هازئا : " كيف ستعودين بدون محفظة يدك ؟ لقد نهبوها ، كل ما كانوا يريدونه منك بعض النقود لا غير ". إزداد هلعها ، فحاولت إخفاء مشاعرها : " لا باس ، هل تدلني على طريق الفندق من فضلك؟". أمعن في سخريته : " سيري في إتجاه الأحياء الغنية ، فانت على مقربة منها الان ، إنعطفي يسارا ثم يمينا وستجدين نفسك في الشارع الرئيسي ، حاولي تجنب الأزقة ، فهي غير آمنة إجمالا ". إنحنى قليلا ، وإبتعد عنها ، ظلت كريستينا تراقبه حتى توارى عند الزاوية المحاذية ، وكم كانت سعادتها عظيمة عندما إكتشفت دقة توجيهاته ، حيث وجدت نفسها امام مدخل الفندق بعد دقائق معدودة ، فاسرعت الخطى لتنضم الى السيدة براندون قبل أن تفقد صوابها وينفد صبرها. |
وما أن همّت بدخول قاعة الفندق حتى لمحت مجموعة من السياح يتجمعون في ناحية من الرواق يتابعون شيئا ما يدور هناك .
تغلب عليها فضولها فقررت إكتشاف الحدث الهام الذي يستحوذ على إنتباه الجميع ، تقدمت قليلا الى أن تبينت زنجيا يجلس مقرفصا على الأرض ويرمي عظاما يابسة في الهواء ، ثم يلتقطها وهو يتمتم كلمات تنذر بالويل والثبور ، انه عراف يقرأ البخت ، خطت خطوة الى الأمام ، ووقفت أمامه مدهوشة ، رات رجلا ينقده بعض الدراهم ، ثم يشكره ، ساد صمت مزعج ، لم يتقدم زبون جديد ، فلتجرب حظها ، عساها تتبين ملامح مستقبلها الغامض ، إلتقت عيناها بعنيني العراف ، ووجدته يباشر قذف أصداف براقة ، ويومىء لها لتجلس قربه ، أطاعت أوامره وكأن قوة سحرية تجذبها الى سماع كلماته ، تململ قليلا ، فرك جبينه ، وما لبث ان قال : " عليك الإحتراس والحذر يا آنسة ، إنني أرى شرا ، كوني حذرة من ابليس آرك إينجل اللعين في آرك إينجل ". ثم نهض بغتة ،وجمع الصداف والعظام ، وغادر مسرعا ، متجاهلا إحتجاجات الجمهور ، وقفت كريستينا محمرة الوجنتين ، مضطربة ، تركض كالمجنونة نحو مدخل الفندق ، وكلماته تزن في أذنيها : كوني حذرة من ابليس. كانت تعاني من صداع رهيب عندما شدّت الرحال في اليوم التالي للذهاب مع السيدة براندون الى جزيرة سانت فيكتوار ، وهي لا تزال تتذكر عبارات هذه العجوز اللاذعة ، وتانيبها لها لتاخرها وتعرضها لمشكلات كانت في غنى عنها. وإستعادت أحداث يومها الفائت ، وخاصة مقابلتها لذلك العراف وقراءته لبختها لا بد أنه يتناول المعلومات مع احد موظفي الفندق حول النزلاء ، ولا شك أن السيدة براندون اشهر من أن تعرّف ، فكرت كريستينا ، الكل يعرف اين تسكن وإسم منزلها ، وشاهدوها معها ، فكان من السهل معرفة مكان توجهها ، إنها مسألة في غاية البساطة ، ومع ذلك ، كيف تفسر كلماته ؟ ما الذي عناه بالتحديد؟ واخذت تتساءل بقلق عن الدافع الذي حمل السيدة براندون للسفر الى انكلترا والبحث عنها ، فصحتها سيئة ، وتعاني من إلتهاب المفاصل ، ولا تكف عن إبتلاع أقراص والمسكنات ، مما يعني أن قلبها في حالة سيئة أيضا ، وإذا كان هذا هو الوضع ، تابعت كريستينا سلسلة افكارها ، فلماذا لم تكلف احدا غيرها للقيام برحلة طويلة ، مضنية كهذه ؟ وتمنت لو تستطيع إقناع نفسها بعاطفة السيدة براندون الجياشة ، وإنسانيتها المفرطة ، ولكنها لا يمكنها ان تصدق كل ذلك بعد أن إختبرتها عن كثب. إذن هناك سبب ملح دفع السيدة براندون الى رؤيتها شخصيا ، مع أنها لا تعرف ما هو هذا السبب الملح . يا لبؤس حياتها ، وطئت ارض المارتينيك تمور حيوية وغبطة ، وتخال أنها تعيش اسعد لحظات حياتها ، وها هي تجلس في هذا المركب حزينة ، مشوشة الأفكار ، تلمح جزيرة سانت فيكتوار فلا تترك في نفسها إلا إنطباعا مغلفا بالسرار والحيرة . همّت بالترجل من المركب ، محاولة تعزية نفسها ، وتعليلها بمفاجأة سارة جديدة ، قررت ان تشاؤمها لا يليق بها ، وربما كان إحساسا خاطئا لا صحة له ، فتنتظر حتى تنجلي الأمور أكثر . كانت تنتظرها على رصيف الميناء سيارة فخمة ، يجلس وراء مقودها رجل أسود يرتدي بزة رسمية ، ولاحظت تبدل طبيعة السيدة براندون ، وظهور دماثة لطيفة في تصرفها إزاءها ، وهما تتوجهان نحو السيارة ، ورأت السائق يرفع قبعته ويتوجه صوبهما بإبتسامة عريضة : " الحمد لله على السلامة يا سيدة ، ويا آنسة ". أعطته السيدة براندون عصاها ، وصعدت الى المقعد الخلفي قائلة : " شكرا يا لويس ، باركك الله". ولاحظت كريستينا السائق يلف بطانية حريرية حول ساقي السيدة براندون رغم رطوبة الجو الحار. وجلست كريستينا في المقعد الأمامي كما اشارت عليها ربة عملها ، واقلعت السيارة ، وهي تشعر بالحر الخانق ، لكنها لم تفه ببنت شفة ، تمنّي نفسها بحمام ماء بارد وبعض المرطبات فور وصولها. لم تجد ما يلفت النظر في منطقة الميناء سوى مجموعة من المباني الواطئة المسقوفة بالواح من الحديد المضلع ، وبعلو معظمها الصدأ والغبار ، وكانت الشوارع المتفرعة من الميناء ضيقة ومزدحمة بالدراجات ، ولاحظت كريستينا ان الأرصفة تتكدس فوقها أكشاك الفاكهة والخضار ، وتغص كل بقعة بالأولاد والصغار وشتى الحيوانات ، وأبدت إعجابها بمهارة لويس وهو يشق طريقه عبر هذا ازحام. وما هي إلا لحظات حتى وصلوا الى طريق عريض ، مستقيم ، لا يعكر صفوهدوئه شيء ، فتنفست الصعداء ، ثم تبيّن لها أن هذا الطريق ليس اكثر كم درب ترابي تتخلّله الحفر ، فتهتز السيارة يمينا وشمالا ، رغم مهارة لويس في القيادة . وبعد ان قطعوا بضعة أميال صعدت بهم السيارة الى طريق مرتفع ، وتراءى البحر لكريستينا في البعيد ، بلونه الأزرق العميق ، يكاد يعانق الأفق بعفوية اخاذة ، نظر اليها لويس مؤكدا : " سوف تشاهدين مناظر أكثر جاذبية ". ومضت بهم السيارة في طريق تتوسط حقولا زراعية ، يعمل فيها عدد من الأشخاص ، ورأتهم كريستينا يلوحون بايديهم ، وتصورت ، بدون ان تلتفت وراءها ، السيدة براندون تهز براسها لرد التحية ، وفطنت انهم الآن على أطراف المزرعة التي ذكّرتها لها ربة العمل . كانت حقولا شاسعة ، تمتد الى مسافات بعيدة ، ترصعها مجموعات من المساكن لإيواء عائلات العمال ، كما إفترضت ، كأنها عالم صغير وسط عالم آخر ، وإرتابت كريستينا من ضخامة هذه المزرعة ، لم تعرف في حياتها سوى الريف الإنكليزي وجماله الوديع ، وها هي تصطدم بالحر اللاذع ، والتربة الظامئة ، والأشجار والنباتات الغريبة الشكل والبراعم ، احست انها في برية موحشة لم تروضها الحضارة بعد. |
تناولت منديلا من محفظتها ومسحت تصبب عرق جبهتها ووجهها ، وكانت السيارة الآن تجري بمحاذاة الشاطىء ورماله الفضية، وأمواجه المتهادية بنعومة ، يلامسها نسيم البحر العليل ، ولكن الحر داخل السيارة كان يخنقها ، وهي لا تجرؤ على فتح النافذة خوفا من السيدة براندون التي تعشق الحر ، مهما كانت درجته ، لا بد أنهم إقتربوا من نهاية الطريق ، علّلت كريستينا نفسها..
إسترخت في مقعدها ، مغمضة عينيها ، ومحاولة تجاهل محنتها ، وإرتجاج السيارة فوق الطريق الوعر ، وما أن همّت بالطلب من لويس للتوقف ، حتى وجدته يخفف سرعته ، وينعطف فوق طريق بدا لها ناعما كالحرير بعد أهوال الميال السابقة ، فتحت عينيها قليلا ، وإكتشفت انهم يمرون تحت قوس من الأشجار الخضراء المنعشة . وهتف لويس وكانه أحس بضيقها : " سنصل بعد لحظة قصيرة ". وإنعطفت السيارة فوق طريق منحدر ، وها هو المنزل يتراءى امامهم ، تظله الشجار الوارفة ، كان مطليا باللون الأبيض ، ويتكون من طبقتين كبيرتين تحيط به مصطبة عريضة ، وترتفع فوقها شرفة يزينها درابزين حديدي امام الغرف العليا ، توقفت السيارة أمام درجات المصطبة ، ولمحت كريستينا إمرأة طويلة القامة تنتظر عبد الباب الأمامي للترحيب بهم ، ويدل فستانها الأسود ومئزرها الناصع انها مدبرة المنزل ، تنفست كريستينا بعمق وهي تحس بتوترها يتلاشى تدريجيا ، نظرت الى مدبرة المنزل وإبتسمت بحياء ، لكنها لم تجد أي تجاوب. وتوكأت السيدة براندون على عصاها ،ومشت بتمهل وهي تهتف : " سيدة كريستوف ، هل كل شيء على ما يرام ؟". ردت مدبرة المنزل بصوت خفيض: " كل شيء على ما يرام ، لا توجد أي مشكلة ". وقفت السيدة براندون فوق المصطبة لأستعادة نفسها ، ثم اومات نحو كريستينا التي كانت تسير وراء لويس وهو يحمل الحقائب: " اقدم اليك الانسة بينيت ، سيدة كريستوف ، هل تلقيت برقيتي؟". قالت السيدة كريستوف وهي تتفحص زائرتها الجديدة : " اعددت لها غرفة ، أهلا بك في آرك إينجل يا آنسة ". وتوجهوا جميعا الى الداخل ، كانت القاعة الأولى فسيحة مربعة الشكل مبلطة بألوان زرقاء وخضراء ، وبدا لكريستينا أن جميع الغرف الرئيسية تفتح أبوابها على هذه القاعة، وتبين لها ان الطبقة العليا تأخذ شكل صالة عرض واسعة ، وإنتصب عند اقدام السلم اللولبي تمثال رخامي لشاب في ريعان الصبا يعتمر درعا معدنيا ، ويمسك برمح طويل يهم ان يطعن به حيوانا مجنحا يرتمي عند قدميه ، وكان الشاب إياه يمد جناحين رائعين مخضبين بالذهب. تقدمت منها السيدة براندون شارحة : " هذا هو ملاكنا الحارس يا آنسة ، والذي تحمل المزرعة إسمه ، آرك إينجل او الملاك الحارس". أجابت كريستينا ببرودة: " ألم اقل ل كان وراء إسم المزرعة قصة طريفة؟ إنها تعود الى القرن السابع عشر عندما بنت أول عائلة هنا وشرعت بزراعة السكر ، كانوا يستخدمون العمال العبيد في تلك الأيام ، كما تعرفين ، وجلبت مجموعة من العبيد أحد الأمراض ، وإنتشر المرض في كل الجزيرة ، كإنتشار النار في الهشيم، كان مرضا كالطاعون ، وأخذ الناس يموتون كالذباب ،وهكذا تضرع سكان الجزيرة، وهم في مرحلة اليأس ، الى هذا الرمز – الأنجل ". وسألتها كريستينا : " وهل نفعت صلواتهم ؟". أجابت السيدة براندون بإنزعاج : " زال الطاعون بعد مرور أسبوعين ، وظن الأهالي أنها كانت أعجوبة ، ومنذ ذلك الحين ونحن ندعو المزرعة آرك إينجل ، إن التمثال قديم جدا وجلبته العائلة معها من فرنسا كعربون وفاء ، ( وفجاة تبدل صوتها ) إصعدي الى الطابق الأعلى ، وستدلك السيدة كريستوف على غرفتك ". شكّت كريستينا في كل كلمة سمعتها ، إنها قصة خرافية ، خاطبت نفسها ، ثم مشت وراء قامة مدبرة المنزل المنتصبة عبر البهو ، وممر تعلوه قنطرة ، وإكتشفت ان الممر يؤدي الى جناح خلفي ، وتوقفت السيدة كريستوف قبل نهاية الرواق أمام باب مزدوج من الخشب ،وفتحته . أخذت كريستينا تجول بنظرها في الغرفة وهي لا تكاد تصدق عينيها ، كان السقف مطليا بلون عسلي مشع ، وكذلك الحيطان ، أما السجادة والستائر الحريرية فكانت ضاربة الى الصفرة ، وأدركت لتوها ان هذه الزخرفة الفخمة فوق مستوى موظفة قد لا تمكث مدة طويلة ، لاحظت السيدة كريستوف دهشتها ، فقالت : " ألا تعجبك الغرفة يا آنسة؟". أجابت ببرود : " على العكس تماما ، إنها أجمل غرفة رايتها في حياتي ، ولكن هل تنوي السيدة براندون تخصيصها لي؟". نظرت اليها السيدة كريستوف وكأنها توبخها : " إنها تترك هذه التفاصيل لي، ولكن اؤكد لك أنها ستوافق على إختياري ، لقد جلب لويس حقائبك ، سأطلب من يولاي لتساعدك على فتحها ( ثم حدّجتها هنيهة قبل ان تغادر مرددة ) لكن الظروف تتغير ، اليس كذلك ؟ ربما كان من الأفضل لك الإستعداد لأي طارىء يا آنسة". أوصدت الباب بهدوء ، تاركة كريستينا في سيطرة تامة على ممتلكاتها الصغيرة ، وكان أول ما فعلته الإستحمام ، وترتيب ثيابها في خزانة الحائط العريضة . ثم بدلت ملابسها ، وخرجت الى الشرفة حافية القدمين ، ولمحت عن يسارها سلما حديديا يؤدي الى الحديقة ، وبركة سباحة طويلة مستطيلة الشكل، وإمتدت في كل النواحي مروج خضراء تختلط بعد مسافة شاسعة بشجيرات مزهرة ونباتات برية كثيفة الأوراق ، وبعد ذلك يبدو البحر منبسطا ، جميل المنظر. |
لم تمر دقائق معدودة حتى سمعت رنين الهاتف في غرفتها ، فاسرعت ترفع السماعة قائلة :
" الو ، كريستينا بينيت ". سمعت زفيرا وأصواتا خافتة ، ولكن لم يجبها أحد ، صاحت بحدة: " نعم ؟ من هناك من فضلك؟". سمعت ضحكة مكبوتة وكأن صوتها المذعور أدى الى النتيجة المرجوة ، إزداد توترها: " هل تكف عن هذا المزاح وتخبرني ما تريد ! ". ثم سمعت نقرا خفيفا على الباب ، إستدارت مرتاعة ، فرات الباب ينفتح ببطء ، دخلت فتاة تناهزها في العمر ، بدت بالغة الجمال بشعرها الداكن وعينيها السوداوين ،وبشرتها الضاربة الى السمرة ، كبشرة السيدة كريستوف ، لا بل أن كريستينا خالتها صورة مصغرة للسيدة كريستوف عندما كانت في مثل سنها. إبتمست الفتاة إبتسامة بريئة ، عفوية كاشفة عن اسنانها البيضاء السوية : " تفضلي بالنزول الى المكتبة لأحتساء الشاي ، أو ربما تفضلين أن أجلب صينية الى هنا؟". قالت كريستينا بعجلة : " كلا سانزل بنفسي ، لا بد أنك يولالي؟". برقت عيناها متسائلة ، وهي ترى سماعة الهاتف في يد كريستينا : " نعم أنا يولالي ، ولكن هل تحبين شيئا آخر؟". أحست كريستينا بحرج شديد: " لا ، ولكن رن جرس الهاتف ولم يجبني أحد ". إستأذنها يولالي لتدعها تتحرى الأمر بنفسها ، وضعت أذنها على السماعة لحظة ، ثم إستدارت صوب كريستينا : " لا يوجد أحد الآن يا آنسة، هذا هاتف المنزل الرئيسي ، ومن السهل ضرب رقم مغلوط ". لم تقتنع كريستينا : " ولكن لم يقولوا ذلك ، لم يكن هناك أي صوت ، إنه تصرف بغيض". قالت يولالي ببرودة: " ربما اخطات الظن ، لا يوجد احد في هذا المنزل يتصرف هكذا ". ومشت نحو الباب ، متوقعة من كريستينا السير وراءها ، ولم يخب ظنها ، لحقت بيولالي عبر الممر ، متجهة الى السلم الرئيسي ، وهي تبحث عبثا عن موضوع ما لتحدث اليها ، كان وضعها في المنزل غامضا ، إنها الآن مجرد ضيفة ، ولكنها أتت الى هنا لتعمل ، هل أساء تصرفها الى احد ؟ فكرت كريستينا ، لم تتعرف إلا على لويس والسيدة كريستوف ، ويولالي ، لا يمكنها تصور احد من هؤلاء يعمد الى ممارسة الآعيب بغيضة ضدها في يومها الأول. بلغتا أسفل السلم ، وحدّقت كريستينا في التمثال مرة أخرى ، وفوجئت بإكتشاف شكل جديد للحيوان المستلقي عند قدميه، لم يكن تنينا كما خالته سابقا ، بل يشبه شكلا بشريا ، وقررت انه قبيح المظهر ، يثير الإشمئزاز. عبرت يولالي القاعة ، تنتظر بفارغ الصبر امام الباب في الجهة المقابلة ، وضعت كريستينا يديها في جيبي تنورتها ، وقالت مستفسرة : " قولي لي من هو هذا السيد الذي تدوسه القدام ؟". وقبل ان تفوه يولالي بكلمة ، إرتفع صوت آخر مالوف ، هز كيانها هزا : " إنه إبليس يا عزيزتي ، إبليس نفسه ". رات صاحب الصوت يقف عند المدخل المامي ، وعرفته رغم ملابسه الجديدة ، أن عينيه لا تزالان تتماوجان بذلك اللون الفضي الذي لفت نظرها ،وهو يقف هناك في ذلك الزقاق الضيق بعد تعرضها للهجوم ، قال بلطف : " هل كنت تتوقعين ان يكون كائنا آخر؟". |
3-الحذر من إبليس
تسمرت كريستينا في مكانها ، تتأجج إرتيابا وحيرة ، وتبحث عن عبارات تنطق بها ، ظلت معقودة اللسان ، لم تكن تتوقع ان تراه ثانية ، لا بل تمنت ألا ترى وجهه في حياتها ، خاصة بعد تلك الحادثة المؤسفة ، واسلوبه في معاملتها ، ألم يؤنبها بعد أن اقفر الشارع من المارة ، وأعتبرها مجرد طفلة صغيرة ضالة ؟ الم يعتبرها سيئة النوايا لا هم لها سوى إستغلال إمرأة طاعنة في السن ؟ الم تشكره على مساعدته ، ومضى كل منهما في سبيله ، فماذا يريد الآن ؟ هتف هازئا : " ما هذا الصمت ايتها السكرتيرة البارعة ؟ آمل أنك لم تتعرضي لمزيد من المصائب منذ لقائنا الخير ". شمخت كريستينا بأنفها ، يدل مظهره ، وطريقة مظهره ، وطريقة دخوله المنزل أنه احد الزوار الدائمين ، وعرفت أن من الأفضل لها إخفاء عدائها له ، ولكن كلماته تجرح مشاعرها ، وتغيظها الى ابعد حد. قالت بتافف : " شكرا ، كل شيء على ما يرام". ؤفع حاجبيه : " هل أنت في طريقك الى المكتبة لتناول الشاي ؟". كادت تنكر كل شيء ، وتنسحب الى غرفتها ، ولكنها قاومت نزوتها العابرة ، وهي ترى يولالي منتصبة قرب باب المكتبة تصغي الى تبادلهما العبارات المثيرة بدهشة ، لا ، لن تتصرف بحماقة ، خاطبت نفسها ، ومشت بخطى وثيدة صوب المكتبة . كانت غرفة المكتبة جميلة للغاية ، مربعة الشكل ، واطئة السقف ،مفروشة بسجادة عجمية ، وتمتد رفوف الكتب فوق ثلاثة من جدرانها ، وتزين الجدار الرابع نوافذ فرنسية مشرعة لإستقبال النسيم العليل ، ولمحت مقاعد جلدية امام النوافذ ، مع طاولة صغيرة في الوسط ، ووضعت هناك صينية ، يتوسطها أبريق شاي فضي ، والى جانبه فنجانان فاخران ، وادركت كريستينا لتوها أن الشاي معد لشخصين فقط. التفتت وراءها ، وهالها ان تراه يهم بإغلاق باب المكتبة ، نظر اليها مبتسما وكانه يقرأ افكارها. ثم قال ساخرا : " أفضل الشاي مع بعض الحليب ولكن بدون سكر من فضلك ". إحمرت وجنتاها ، واسرعت تظهر إنهماكها بإبريق الشاي ، بدا قديما وثقيلا ، وأحست بإرتعاش يدها حيث إندلق بعض الشاي فوق الصحن والصينية ، عضت شفتها اسفا ، وأخذ رفيقها المتطفل يهز رأسه تشفيا : " ما هذا أيتها السكرتيرة البارعة ؟ عليك ان تتلقي يعض الدروس قبل ان تصبي الشاي لعمتي ، انها لا تتساهل ابدا حول مسائل كهذه ، وتبدي رايها بصراحة ، الم تلاحظي ذلك ؟ ". ارخت كريستينا ابريق الشاي بإضطراب ، تنبهت الى كلمة واحدة نطق بها : " تقول عمتي ! هل أنت .... هي...". قال بهدوء : " هذه هي الحقيقة المرة ، اعتقد أن الأوان حان لتقديم نفسي ، أنا ديفلين براندون ، إبن اخت ربة عملك ". ردت كريستينا بعد لحظة مليئة بالدهشة : " هكذا إذن ! ". أخرج ديفلين براندون علبة سكائر من جيب قميصه ، واشعل واحدة منها ، وعلق ببرودة : " أعرف ان وجودي مفاجأة غير سارة ، هل يهدأ بالك لو قلت لك ان ردة الفعل كانت متبادلة ؟". أجابت بإمتعاض : " وكيف ذلك؟". إبتسم بخبث : " لأنك لم تشبعي فضولي حول حاجة عمتي الى خدمات سكرتيرة مثلك! ". تمالكت كريستينا أعصابها ، وصبت الشاي في الفنجان ، وحملته اليه رابطة الجأش : " الا تعتقد ان سؤالا كهذا يوجه الى عمتك ؟ وكف عن مناداتي بهذا اللقلب ! ". أشار بأسلوبه اللاذع : " لا يمكنني ان أناديك بغير ذلك ! لن يكون ذلك لائقا ". قالت وهي تشعر بالإعتزاز : لم أتصور أن اللياقة تهمك كثيرا يا سيد براندون ". ظل محافظا على هدوئه ، مسترخيا في المقعد الجلدي ، وإبتسامة ساخرة تعل ووجهه : " ان للهرة الصغيرة مخالب إذن ، أنصحك بعدم إظهارها ، لا يتسع هذا المكان لأكثر من لبوة واحدة ، وكما ستلمسين ذلك بنفسك ، وإنني انتظر". " ماذا تنتظر ؟". " أنتظر لأسمع إسمك وماذا تفعلين هنا ". منتديات ليلاس ترددت كريستينا ، كان قلبها يحثها لفهامه أن هذه الأمور لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد ، ولكن ربما كانت مخطئة ؟ أنه من عائلة براندون ، ولا تعرف ما هو مركزه في العائلة بعد. واخيرا قالت بجفاف : " إسمي كريستينا بينيت ، وإستخدمتني السيدة براندون لأكون سكرتيرة ومرافقة ". اجاب بعذوبة : " هل هذا صحيح؟". حدجته بنظراتها : " يبدو... يبدو أنك لا تصدقني ، هل يوجد أي مبرر آخر لوجودي هنا؟". اطفا السيكارة في المنفضة : " هذا ما تبادر الى ذهني ، وحتى الان لم أحصل على اجوبة مقنعة ". أعادت كريستينا فنجانها الى الصينية ، فصلصل قليلا ، وقالت بحدة : " إنك تثير السخرية !". لوى فمه : " ماذا ؟ إسمعي يا آنسة بينيت ، إلتقيت بعمتي ، ويمكنك ان تحكمي بنفسك ما إذا كانت تحتاج الى مرافقة". طوت كريستينا أصابعها تبدي إستياءها : " اعتقد ان ذلك يتوقف على ما تتوقعه من خدمات ". ومطّ بشفتيه يسالها : " وما هي الخدمات التي يمكنك تقديمها؟". إضطربت قليلا : " لم نناقش هذا الموضوع بالتفصيل...". صاح بإزدراء : " هذا هو الصدق بعينه ، قولي لي يا ىنسة هل سبق لك أن قمت بعمل مشابه؟". قالت تتحداه: " نعم كنت اعمل مع... مع عمتي ولعدة سنوات في هذا المجال ". أجابها بفتور : " وتعتقدين ان ذلك يؤهلك للعمل مع عمتي ، أنك إما بالغة السذاجة أو خارقة الذكاء يا آنسة ، ولا ادري ايهما". |
الساعة الآن 01:46 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية