منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f449/)
-   -   178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t172340.html)

نيو فراولة 12-02-12 03:04 PM

178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة ( كاملة )
 
178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة

الملخص


وجدت كريستينا نفسها بلا بيت ، بلا اقارب ، بلا مهنه وبلا مال كخشبة طافية على وجه الماء في بحر هائج، لذلك وافقت بلا تردد على عرض صديقة عمتها بالسفر معها الى جزر البهاماس كمرافقة وسكرتيرة ، وهناك تحاول السيده براندون تزويج كريستينا من حفيدها ثيو لتضمن له الميراث .
الا أن ديفلين ابن شقيقتها يكتشف لعبة خالته وما تنطوي عليه خاصة أنه الوريث الحقيقي واعتقاده بأنها تحب ثيو يمنعه من الاعلان عن عواطفه او الدفاع عن حقوقه.
كريستينا الوحيدة ، الضعيفة تخفي حقيقه مشاعرها إتجاه ديفلين وتنساق لرغبات صديقة عمتها السيده براندون التي ساعدتها في احلك ظروفها.
ولكن القدر يأبى ان يقع الظلم على قلبين عاشقين فيتدخل في اللحظات الاخيره.

نيو فراولة 12-02-12 03:05 PM

1-القدر الغامض


" والان ، المجموعة الرابعة والثلاثون ! تمثالان صغيران ، سيداتي وسادتي ، من يحب أن يعرض سعرا ؟".
وتحولت نبرة بائع المزاد العلني الى همس خافت عندما أغلقت كريستينا وراءها باب غرفة الطعام بهدوء ، ومشت بخطى بطيئة عبر الممر الضيق المؤدي الى مدخل البيت الصغير الخلفي.
لقد إرتكبت خطأ فادحا في البقاء لحضور المزاد العلني ، إنها تدرك ذلك الان ، حذّرها السيد فريث من مغبة تجربة كهذه ، تجربة مشاهدة محتويات منزلها معروضة للبيع ، وهي التي الفتها طوال ستة أعوام ألفة حميمة ، يا ليتها اصغت اليه وتوارت عن الأنظار ، ولكن عاطفتها كانت أقوى من ان تقاوم ، غمرها شوق خفي لأقتناص فرصة لشراء ولو قطعة صغيرة من تحف عرابتها ، لتحتفظ بها كذكرى سعادة غابرة.
ولكن جاءت الأسعار المعروضة لشراء الآنية الصينية ، وقطع الأثاث والتحف الأخرى لتذكرها بمدى إفلاسها.
كم ستفرح عائلة ويبستر بنتيجة المزاد ، راتهم يجلسون في آخر الغرفة ، يتبادلون إبتسامات الظفر ، كان كل شيء بالنسبة اليهم يسير على ما يرام ، ولا يفيدها الآن إقناع نفسها بحقهم الشرعي في التصرف هكذا ، لم يدعوا فرصة تفوتهم إلا وشددوا على حقهم البديهي ، وهي تعرف أنها لا تملك أي حقوق من الناحية القانونية ، ولا علاقة للمثل الأخلاقية في مثل هذه الأمور.
منتديات ليلاس
مشت بكآبة الى المطبخ الخلفي ، كان ، كبقية البيت ، خاويا من كل قطعة قابلة لبيع ، وبدت خزانة الحائط الكبيرة كالحة ، مهجورة ، لا اثر للآنية الزخرفية والنحاسية على رفوفها.
توجهت الى المغسلة ، وفتحت صنبور الماء البارد ، ورشفت من راحتيها لتطفىء عطشها ، ثم مسحت جبينها بقطرات منعشة.
كانت لا تزال عاجزة عن إستيعاب التغيير المفاجىء في حياتها واوضاعها ، وعرفت أن عليها التفكير في المستقبل ، ورسم خطة ما ، تماما مثلما اخبرها السيد فريث عدة مرات ، ولكن كيف ؟ بدا لها أنها كانت تعيش في سعادة منحتها إياها العمة غريس ، تلك المرأة الحنونة والمستبدة في آن معا ، والتي رعتها بنية حسنة بعد ان أصبحت يتيمة كافضل عرابة ، ولكنها لم تساندها في اللحظة الحاسمة من حياتها.
ولكن ، وكما أشارت فيفيان وبستر باسلوبها المتعالي ، ما الذي كانت تتوقعه من إمرأة لا تربطها بها صلة قرابة ودم ؟ وكانت هذه عبارة السيدة وبستر المفضلة ، مع تجنبها الإقتراب من العمة غريس عندما كانت حية ، او الإهتمام بها وبصحتها.
ولم تكن العمة غريس ، في أي حال ، بسيطة العقل ، كانت تعرف مدى إعتماد إبنة اختها عليها ، وتركت كل شيء في وصيتها لفيفيان ويبستر ، ولم تذكر كريستينا بخير أو شر ، وهي التي لازمتها طوال حياتها ، وتولت امور البيت الصغير وساعدت عرابتها في كل أعمالها الخيرية ، وذكّرت نفسها انها لم تكن تطمع في الحصول على شيء ، العمة غريس هي التي أصرت دائما على توفير كل ما تحتاج اليه كريستينا في حالة حدوث شيء طارىء لها ، مع انها لم تحدد ما الذي تعنيه بذلك ، ورددت كل هذا على مسامعها مرة تلو الأخرى ، خاصة عندما كانت تقترح كريستينا حصولها على مؤهلات لمهنة لائقة، فتعترض عليها .
وطالما سمعت الآنسة غرانثم وهو اللأسم الأول لعمتها تقول :
" لا حاجة الى المؤهلات يا عزيزتي ، أعدك أنه لن يعوزك شيء ، وسوف أولي عناية خاصة لهذه المسألة ، لا تقلقي".
وها هي كريستينا الآن تجد نفسها بدون عمل أو أي ضمان آخر ومحرومة من الجلوس في بتها القديم ، والتفكير بالمستقبل بروية ، تنهدت باسى ونظرت من النافذة محدّقة في حديقة الخضار الصغيرة حيث صرفت مع العمة غريس ساعات طويلة من العمل المضني الى ان سقطت صريعة مرض عضال.
علت وجهها إبتسامة عابرة وهي تفكر في نشر إعلان صحفي يعلن عن مواهبها الخاصة :
" فتاة كفؤة ، في التاسعة عشرة من عمرها ، تملك خبرة محدودة في طهي الطعام ، وزرع الخضار ، والضرب على الآلة الكاتبة ، ورعاية المرضى ...".
بدا لها أن اللائحة طويلة لا تنتهي ، ولكن لا بد لها من الإقرار بعجزها عن إتقان اية مهنة ، وهل يوجد شخص آهر يرضى بخدماتها مثل العمة غريس ؟ راودتها شكوك كثيرة .
لقد وجدت نفسها تعيش فجأة مع عرابتها عندما تعرضت والدتها لنوبة قلبية ، بعد ان فقدت زوجها ، وكريستينا لا تزال طفلة صغيرة.
وواظبت كريستينا على الذهاب الى مدرستها ،مدركة ان عمتها غريس هي التي تدفع رسوم التعليم ، كما كانت تفعل منذ البداية.
وما ان بلغت سن السادسة عشرة حتى طلبت منها العمة غريس التوقف عن الدراسة ، وملازمتها في البيت ، فتخلت عن متابعة الدراسة وخضعت للأمر الواقع ، وهي لا تنكر مدى راحتها في العيش مع عرابتها ، والسكن ضمن أجواء قرية جميلة كانت عمتها احد وجوهها البارزة.
وبذلت جهدا خاصا لأيجاد رايطة ودية بينها وبين عمتها القاسية ، وذات الاراء المتزمتة ، فقد كانت ضد تحرر المرأة ، بأي شكل من الأشكال ، وترى ان كل إمرأة تحتاج الى رجل ليرعاها ويحميها من ( عوادي الزمان ) بدون أن تحدد ما الذي تعنيه تماما.
ووجدت عمتها من يرعاها في شخص السيد فريث ، محامي العائلة ، والذي كانت تتقيّد بآرائه حول أية مسألة ، بإستثناء مستقبل كريستينا كما يبدو ، وماتت بدون زواج أو أولاد ، وما أن شيّعوها الى مثواها الاخير حتى تقدم السيد فريث من كريستينا ليبدي اسفه وعجزه عن إقناع عمتها لتغيير وصيتها لتشملها ولو على نحو متواضع.

نيو فراولة 12-02-12 03:06 PM

قال لكريستينا بلوعة :
" تظاهرت بعدم سماعي ، وانت تعرفين اسلوبها المعهود في هذه الأمور".
لم تجد كريستينا تفسيرا معقولا لتصرف عمتها ، اما السيدة ويبستر فهي لا تعرف معنى الشهامة وسماحة النفس ، كان همها الوحيد التخلص من كريستينا بأسرع وقت ممكن ، وبدون إظهار أدنى إهتمام بمستقبل فتاة سهرت الليالي للإعتناء بعمتها ، إن عليها الان الإعتماد على نفسها وفق مفاهيم السيدة ويبستر ، ولتحمد ربها على بقائها مدة طويلة تعيش بالمجان حياة مرفهة هنيئة ، وهي كما تدل تصرفاتها لا تبدي أي إهتمام بالبيت الصغير او محتوياته ، فهي لا ترغب في التخلي عن لندن والإنتقال الى الريف ، لم تكن السيدة ويبستر مهتمة بأكثر من تحويل أرثها الى عملة صعبة ، وبأقصى سرعة.
كانت كريستينا تتمنى أن تحتفظ عائلة ويبستر بالبيت الصغير ، لقضاء عطلة نهاية الأسبوع ، وإستخدامها لترعى شؤونه أثناء غيابهم ، وخابت كل آمالها ، كما رفضت السيدة ويبستر ان تساعدها في إيجاد عمل مماثل ، وإكتفت بذكر بعض مكاتب التوظيف.
أما السيد فريث وزوجته فكانا كريمي الأخلاق ،ووعداها بإعطاء توصيات ملائمة عندما يحين الوقت ، وذهبا ال
حد دعوتها للسكن معهما ، ساعة يأتي دور البيت الصغير لطرحه في المزاد العلني ، لكن كريستينا لم تقبل عرضهما ، إعتقدت أن وجهة نظر عائلة ويبستر اكثر عملية لجهة ضرورة تولي أمورها بنفسها ، ودخول معترك الحياة قبل فوات الآوان ، ثمة مجالات كثيرة خارج هذه القرية الصغيرة ، وعليها أن تبحث عنها.
وقررت أن إتخاذ الخطوة الأولى هي أصعب مرحلة في أي عمل ، وكانت خطوتها الأولى إستئجار غرفة في فندق القرية الوحيد ، مع إدراكها انها ستكون تدبيرا مؤقتا ، فهي لا تملك إلا النذر القليل من الدراهم، وستحتاج صاحبة الفندق السيدة ترثنون لكل غرفة لإستقبال السياح مع تقدم فصل الصيف .
وظلت كريستينا تفكر في عمتها ، وتلك الفرص التي كانت تقتنصها لعقد قرانها ، كلما سنحت الظروف ، وإلتقت بشاب ، ومع ذلك ، لم يستقر رايها على أحد ، وهي تعرف انها تتمتع بقدر معين من الجمال ، وفقا لمرىتها التي يتراءى فيها شعرها الشقر الطويل وتموّج عينيها الخضراوين .
ومنذ وفاة عمتها ، إتضح لها أن عدم زواجها يعود الى إدراك معظم عائلات القرية لوضعها الإجتماعي وتواضع إمكانياتها المادية ، وهي عائلات غنية في معظمها نتوقع مصاهرة من هم بمستوى قريب من مستوياتهم.
شعرت بالألم وهي تفكر في هذا الأمر ، وقررت طرد شبحه من ذهنها ، القت نظرة على ساعة يدها ، كان المزاد العلني مستمرا ، ففكرت ان تتوارى عن الأنظار ، فهي لا ترغب في لقاء عائلة ويبستر مرة أخرى ، والإصغاء الى الإستفسار عن مدى نجاحها في إيجاد عمل ، تنهدت بحسرة ، هذه هي الحقيقة المرة فهي حتى الان تقدمت بطلبات عديدة للعمل ، وبدون فائدة .
علاوة على ذلك ، يبدو نهارها مملا ، طويلا ، فلتركب القطار الى لندن ، وتتصل ببعض مكاتب التزظيف التي ذكرتها السيدة ويبستر ، إنها الآن وحيدة، وعليها شق طريقها بنفسها ، ومهما كانت الصعاب .
ألقت نظرة أخيرة مليئة بالحزن على المكان والحديقة ، وإستدارت نحو الباب ، ثم إكتشفت انها لم تكن وحدها ، وإنطلقت صرخة تعجب من فمها ، وتراءى لها أن الإمرأة الواقفة أمامها ، كانت تراقبها منذ فترة طويلة .
لم تكن إمرأة طويلة ، ولكنها قوية الشخصية ترتدي ملابس متقنة ، وتتكىء على عصا دقيقة الصنع ، مرهفة كالسيف.
نادتها الإمرأة بإسم عائلتها ، وبصوت هادىء خفيض ، يرطن بلكنة أجنبية :
" الآنسة بينت؟".
ترددت كريستينا ، ثم اجابت :
" نعم ، ولكن للأسف الشديد لا أعرف....".
إبتسمت المرأة بتمهل ، كاشفة عن أسنانها البيضاء السوية :
" كما تقولين ، لم يسبق لنا التعارف ،ولكن اؤكد لك ، يا آنسة انني لا اعتبرك إنسانة غريبة ، ويخامرني شعور بان صداقتنا قديمة ومتينة ".
إعترت كريستينا الدهشة ، فتابعت المرأة :
" إسمحي لي بتوضيح ما اقصد ، أنا مرسيل براندون ، يا ىنسة ، الم تحدثك عمتك عني أبدا ؟".
وقالت كريستينا بصراحة :
" لا ، ابدا .... هل ... هل كنت إحدى صديقاتها؟".
وجدت صعوبة في تصديقها ، كانت عمتها إمرأة إنكليزية خالصة ، لم تغادر أرض بريطانيا في حياتها ، على ما تذكر كريستينا ، ويستحيل ان تكون اقامت أي نوع من العلاقة مع هذه المخلوقة الغريبة الأطوار.
هزت الإمرأة راسها :
" كنا في المدرسة معا، وكذلك اختي مادلين ، لم تذكر عمتك شيئا عنها كذلك؟".
بلعت كريستينا ريقها :
" كلا ، لا أظن انها اتت على ذكر ايام دراستها ن بدا لي دائما ان لا اصدقاء لها خارج هذه القرية هنا "".
" يصح ما تقولين في الفترة الخيرة من حياتها مع ذلك كنا نتبادل الرسائل لسنوات عديدة ، وتلقيت ىخر رسالة منها منذ ثمانية عشر شهرا ".
صمتت قليلا ثم ما لبثت ان قالت :
" آسفة لعجزي عن الوقوف على قدمي مدة طويلة ، ولا ارى أثرا للكراسي...".
أجابت كريستينا بحسرة :
" إنك على حق ، عن كل شيء معروض للبيع ".
" إذن ، ربما تعرفين مكانا آخر حيث يمكننا التحدث والجلوس ، وحيث لا توجد ذكريات مؤلمة ؟".
فكرت كريستينا قليلا ، لم تجد أي مبرر لرغبة صديقة عمتها القديمة هذه في التحدث اليها ، سوى مجرد إشفاقها عليها ، وتعزيتها في مصابها ، ولكنها لم تقتنع بهذا التفسير ، لاحظت أنها إمراة هادئة الطباع ، جدية الملامح ، ويستحيل ان تهدر وقتها في إبداء عواطف لا معنى لها ، وتساءلت عن عدم حضورها الماتم ، ومجيئها الآن عوّض ذلك ، وعمن أخبرها بوفاة العمة غريس في المقام الأول ، لقد تولت هي بنفسها مهمة إبلاغ النبأ المؤسف الى اصدقاء العمةغريس ومعارفها ، وتعرف جيدا انها لم تكتب الى احد يدعى براندون ، وبما ان السيدة براندون حضرت المزاد العلني لأنها ارادت هي الأخرى شراء آخر تذكار عن صديقتها ، ولكن لا يبدو أن عملا كهذا يتلاءم مع شخصيتها.

نيو فراولة 12-02-12 03:07 PM

( ولكن ما دهاني ؟ ) خاطبت كريستينا نفسها ( لم اتعرف عليها إلا منذ لحظة قصيرة ، ولا يجوز ان انظر اليها هكذا منذ اللقاء الأول ) إبتسمت تطمئنها :
" يمكننا الذهاب الى فندق السيدة ثرثنون".
وهتفت زائرتها :
" إنها فكرة رائعة ، وربما تمكنا من إحتساء القهوة أيضا ".
إعتذرت كريستينا :
" لست متاكدة ، ولكن يتوفر لديها الشاي بدون شك ".
وهكذا كان ، جلستا في غرفة الإستقبال تحتسيان الشاي ، مع بعض أقراص الحلوى ، ولاحظت كريستينا ان مرسيل براندون ترشف فنجانها بشق النفس ، ولا تلمس أقراص الحلوى ، وبدت أنها ليست في عجلة من أمرها لخرق جدار الصمت الذي إنتصب بينهما ، ظنت كريستينا انها تحلّق بعيدا عنها ، غارقة في تفكير مزعج بعض الشيء ، ثم لامت نفسها على خيالها الجامح ، الم تكن هذه المراة صديقة عرابتها الحميمة، ومن الطبيعي ان تشعر بالإنقباض؟
تنحنحت قائلة :
" كنت تحبين عمتي كثيرا ، يا سيدة ؟".
وأخذت السيدة براندون تستعيد كامل ذاكرتها ، رفعت حاجبا بأناقة تلقائية :
" طبعا يا عزيزتي وإلا لما كنت هنا".
توردت وجنتا كريستينا قليلا ، ثم إستجمعت قواها :
" لا ... إعذريني يا سيدة ، ولكنني لا افهم سبب مجيئك ال هنا ، اعتقد .... اعتقد ... ان هذا الأمر لا يعنيني ، ولكن ...".
تلقت السيدة براندون كلماتها برحابة صدر :
" عل العكس تماما ، أنا اتيت من اجل رؤيتك ، تلقيت رسالة من عمتك عندما احست بمدى خطورة مرضها ، الم تذكر ذلك امامك ؟كلا ، لا أتوقع منها هذا ، كانت قلقة على مستقبلك بعد وفاتها ، وادركت ان أي ترتيب مادي تضعه في وصيتها سوف ينتهي الى التنازع في المحاكم ،وسيكون ذلك مكلفا ومزعجا لك ، إن إبنة اخيها كانت تكرهك ، ولما تورعت عن إتهامك بممارسة ضغط مجحف على عمتك لو أورثتك كما كانت ترغب".
قالت كريستينا مطرقة الراس :
" إن السيدة ويبستر لا تحبني ، مع أنني لم اجتمع بها إلا لماما ، ولم تهتم بالعمة غريس عندما كانت على قيد الحياة ".
" انت ما زلت في مقتبل العمر يا عزيزتي ، كريستينا اليس كذلك ؟ وما زلت لا تدركين الحياة بمعناها الحقيقي".
ردت كريستينا بحدة، وهي تعض شفتها:
" إذا كانت الحياة كما تصورها عائلة ويبستر ، فأنا لا اريد فهمها ".
ضحكت السيدة براندون ، وإستلقت الى الوراء في كرسيها ، ثم قالت بلهجة ساخرة:
" حسنا ، أنا فخورة بجرأتك ، إنك شاحبة بعض الشيء ، ولم اتوقع ... ( ثم غيّرت مجرى الحديث ) اخبريني يا عزيزتي عن مشاريعك ، لا يمكنك كما اعتقد التفكير في البقاء هنا ؟".
هزت كريستينا راسها :
" لا ، طبعا ، هذه مسالة غير واردة ، حتى ولو اردت البقاء ، عليّ البحث عن عمل ".
" عظيم ، عظيم، هل تفكرين بعمل محدد ؟".
ترددت كريستينا برهة عزّ عليها الإعتراف بالحقيقة ، فتابعت السيدة براندون :
" إذا كان الجواب كلا ، فانا لدي مشروع ، إنني ابحث عن سكرتيرة وزميلة ، وأعتقد أنك مناسبة تماما ، إذا رغبت في العمل ".
وضعت كريستينا فنجان الشاي على الصينية بيد مرتجفة ، وقالت بهدوء :
" إنها بادرة طيبة منك يا سيدة ، ولكن انا متأكدة من الحصول على عمل ما هنا ، انا ... انا لا احتاج الى الصدقة أو الإحسان ، مهما كانت النية حسنة ".
" هل تظنين أنني اتصدق عليك ؟ إذن أنت لا تعرفينني جيدا ، أنا لا أعيل أحدا مجانا ، إنني اعاني من لتهاب المفاصل ، كما لاحظت ، ولا أتحمل الألم بصبر ورباطة جاش ، فانا حادة الطبع ، ثم هناك العزلة ، فنحن لا نتمتع باساليب الترفيه والتسلية مثلما تفعلين أنت وسواك من الجيل الجديد ".
لم تتمالك كريستينا من إطلاق إبتسامة باهتة :
" لا تخافي فانا لا انتمي الى الجيل الجديد ، تقولين أنك تعيشين في منزل معزول يا سيدة ؟ اين تسكنين ؟ هل تعيشين في فرنسا إذ ...".
هزت السيدة براندو ن براسها :
" لم تطأ قدماي ارض فرنسا مرة واحدة ، ولدت مثل اختي مادلين في المارتينيك بجزر الهند الغربية ، وذهبت انا وأختي الى مدرسة للراهبات في انكلترا ، وهناك تعرفت على عمتك ، وعندما تزوجت ، عشت في سانت فيكتوار ، وهي جزيرة أخرى ، ولكنها أصغر من جزيرة المارتينيك ، وتقع تحت سيطرة بريطانيا ، وكان زوجي في الواقع يملك معظم الجزيرة ، وما زالت عائلتنا تعيش في ارك إينجل".
اضاء الفضول وجه كريستينا :
" يا له من إسم مثير يطلق على منزل ! ارك إينجل : الملاك الحارس".
" نعم ، وقصته مثيرة ايضا ، إنه ليس مجرد منزل ، بل يضم ايضا مزرعة ، ولا تزال الجزيرة فيكتوار تحتفظ بجمالها الطبيعي الأصيل ، لأن معظمها أملاك خاصة بخلاف الأماكن الاخرى التي إمتدت اليها ايادي المقاولين ، ستولعين كثيرا بذلك المكان ".
بلعت كريستينا ريقها ، محاولة العودة الى ارض الواقع ، إنها لا تكاد تصدق ما يجري ! هل يتم عرض عمل عليها في جزيرة كاريبية وهو ما لم تكن تحلم به ؟ ولكن ظل صوت عقلها يكبح جماحها ، سالتها:
لماذا انا بالضبط ؟ لا بد أن هناك المئات من الفتيات اكثر كفاءة مني ؟".
ردت السيدة براندون :
" لا ، إنك تبالغين كثيرا ، كما قلت لك الجزيرة نائية جدا ، ولا تتوفر فيها تسهيلات عديدة مغرية كما يتوقع البعض ، فنحن نعيش حياة هادئة ، وبسيطة ، وأؤكد لك أنها ليست محط أنظار السياح ، واحذرك أنه توجد سلسلة صخور شاهقة محفوفة بالمخاطر تحيط بالشواطىء ، وعندما تهب العواصف غالبا ما ننقطع عن العالم الخارجي لأسابيع طويلة، تعلمنا الإعتماد على أنفسنا ، لأنه لا يوجد حل آخر ".

نيو فراولة 12-02-12 03:09 PM

إستطردت كريستينا مرتابة :
" لا أكاد أصدق ما يجري ، ولا افهم سبب إختياري أنا بالذات ، وأنت علاوة على ذلك ، لا تعرفين عني إلا الأمور السطحية".
قالت السيدة براندون:
" أعرف عنك ما يكفي ،وأعرف من رسائل عمتك أنها كانت تحبك كثيرا ، وهل تغيرين رأيك لو قلت لك ان اغلى امنية لديها كان إصرارها على إنضمامك الي؟".
صاحت كريستينا بإمتعاض :
" كلا ، او ربما ليس كما تظنين ، إن ما تقومين به هو عمل إحسان ، وأنا لا اريد ذلك ، علي أن أتعلم كيف أكون مستقلة ، إنها بادرة طيبة منك ، واعرف ان العمة غريس لا تريد لي إلا الخير ، ولكن لا احب أن أفرض نفسي بطريقة غير لائقة".
قطبت السيدة براندون حاجبيها:
" ما هذا الهراء يا إبنتي ؟ أنت تخلطين الأمور ، أنت التي سيؤدي عمل خير وإحسان ، انا احتاج الى فتاة تمور حياة مثلك ، وإطمئني لن أدعك ترتاحين لحظة واحدة ، وستقومين بخدمات لا يضاهيها مرتبك ، إنني أمراة أنانية متقدمة في السن ولا أحب صحبة العوانس اللواتي يثرثرن طوال النهار حول ماضيهن وذكرياتهم الغابرة".
منتديات ليلاس
جلست كريستينا صامتة ، يضج راسها بالف سؤال ، إن ما تعرضه السيدة براندون بالغ الإغراء ، ولا سبيل الى رفضه ، مع ذلك ، وفي الوقت نفسه ، صدها كبرياؤها عن قبول هذا الأسلوب في معاملتها وكأنها سلعة تتخاطفها ايدي العجائز ، أهذا ما كانت ترتبه لها عمتها قبل وفاتها ؟ يا للإهانة وهي تلمس عدم ثقة احد بها لشق طريقها بنفسها !
مع ذلك لا تستطيع ان تنكر أنها لو رأت إعلانا عن عمل كهذا في مكان ما لما ترددت في تقديم طلب للحصول عليه ، ولاحت في مخيلتها الرمال الفضية واشجار النخيل والأمواج المزبدة ، المتهادية ، كأن عصا سحرية حققت حلم حياتها ، ولكن السيدة براندون بشعرها الأملس البيض واسلوبها المتعالي ، فكرت كريستينا ، لا علاقة لها بعرابة خرافية.
قطعت السيدة براندون حبل أفكارها :
" أنك تشغلين بالك بدون مبرر ، هل يلائمك اكثر لو قلت لك أنك ستكونين تحت التجربة اولا ، لمدة شهر تقريبا ، ومن الأفضل لو إعتبرت زيارتك مجرد إجازة ، أعرف أنك عانيت كثيرا مؤخرا، ولا يحق لي الضغط عليك الى أن ترتاحي قليلا ، ماذا تقولين؟".
إحتارت كريستينا ، ثم تنهدت قائلة :
" ماذا يمكنني ان اقول يا سيدة، أنت لطيفة كثيرا ، ولا تتركين امامي أي مجال للرفض ، لا أعرف كيف أشكرك ".
مدت يدها لإلتقاط عصاها ، شاعرة بالم طفيف ، وقالت تطمئنها :
" سافكر بطريقة مرضية ، إذن إتفقنا ، تقضين بضعة أسابيع تتمتعين بنور الشمس ، ثم نقرر شيئا أكثر ثباتا".
نهضت ببطء وحذر على قدميها ، ثم لاحظت كريستينا وهي تهم بمساعدتها ، فصاحت :
" هذا هو الدرس الأول يا عزيزتي ، لا يهمني ان يساعدني احد ، ساعود الى لندن الآن ، ولكن قبل ذلك سأدفع حسابك مع السيدة ثرثتون ، وتفضلي بحزم أمتعتك هذا المساء إستعدادا للإنضمام الي في الصباح ، وقبل الساعة العاشرة، وأشد ما أكره هو عدم المحافظة على المواعيد".
قالت كريستينا :
" ولكنني قادرة على دفع حسابي ، ما زال معي بعض النقود ...".
وتوقفت عن الكلام يخالجها قلق مفاجىء ، عن الأمور تسير بسرعة عجيبة حتى عمتها غريس لم تتعاملها بهذا الأسلوب الحازم ، الأرستقراطي ، وكأنها مجرد دمية تحركها اصابع السيدة براندون بخفة وبدون عناء.
خاطبتها بلهجة باهتة:
" إحتفظي بالنقود لنفسك ، أو إشتري بعض الملابس الصيفية الخفيفة ، إن ما ترتدينه يلائم منطقة القطب الشمالي ، اكثر من المناطق الإستوائية الحارة ، إختاري ملابس قطنية ، وإشتري ثوب سباحة أيضا ".
إزدادت حيرة كريستينا :
" ولكن لم تذكري لي شيئا عن الحفلات قرب الشاطىء".
أخجلتها السيدة براندون بجوابها :
" لن تكون هناك حفلات ، ولكن الشطآن موجودة ،ولا بد من الإستفادة منها ، وأتوقع أنك تعلمت السباحة في المدرسة ، وىمل ان تعتبري ارك إينجل كمنزلك أنت ، وليس كسجن يأسرك ( ثم ردت تعليماتها السابقة وهي تلاحظ إضطراب كريستينا ) إحتفظي بنقودك ، إسمحي لي ان اؤدي هذه الخدمة لك تعبيرا عن حبي لعمتك ".
ولم يعد يليق بكريستينا رفض طلب كهذا ،وإلا اثبتت مدى تبلد احاسيسها.
صحبت السيدة براندون الى الخارج ، والى أن ركبت في سيارة الأجرة المنتظرة ، وحاولت ان تلوح لها بيدها مودعة ، لكن المرأة العجوز لم تلتفت الى الوراء أو تبادر الى وداعها ، فارخت كريستينا يدها ، تشعر بحماقتها.
عادت ببطء الى الفندق ، تكاد لا تصدق ما جرى أمامها منذ دقائق معدودة ، ها هي حياتها إنقلبت رأسا على عقب ، وتبدل كل وضعها فاصيبت بالدوار.
تجاهلت كريستينا صاحبة الفندق ، وفضولها المعهود واسئلتها المتكررة ، وتحذيراتها من الثقة باي شخص غريب لا تعرفه ، لكنها ظلت تراودها الشكوك ، فقررت الذهاب لرؤية السيد فريث ، لا بد ان يكون في المزاد العلني ، وهو خير من يطلعها عل حقيقة السيدة براندون.
ما أن وصلت حتى كان المزاد قد إنتهى ، ورات السيارات تغادر المكان ، ركضت كريستينا مسرعة ، وها هو السيد فريث يقف قرب سيارة ويبستر لألقاء تحية الوداع ، ترددت قليلا ، ثم لمحته يومىء لتتقدم نحوه ، فلم تجد مناصا من الأقتراب منه ، إبتسم متسائلا :
" أين كنت يا عزيزتي ؟كيف إختفيت فجاة؟".
فكرت كريستينا مليا ، لم تكن ترغب في مناقشة التطورات التي إستجدت في حياتها وعلى مسمع من عائلة ويبستر ، فإكتفت بإبتسامة باهتة ، وغمغمت كلمات غير مسموعة ، آملة أن تقلع سيارتهم ،وتمضي في سبيلها.
ولكن فيفيان ويبستر مدت برأسها من النافذة ، وحملقت في كريستينا بعجرفة، وأستفسرت :
" هل تريدين شيئا ؟".
" أردت التحدث الى السيد فريث".
صمتت فيفيان لبرهة ثم قالت :
" تذكري أن وقته باهظ الثمن ، لا تتوقعي من رجل محترف ، صاحب مهنة كالسيد فريث ، تقديم خدماته اليك بدون مقابل الى الأبد ".
إستدارت كريستينا صوب السيد فريث ، ووجهها يشتعل غيظا :
" انا آسفة ، لم يخطر في بالي...".
وامسك فريث بيدها مقاطعا ، وقال يطمئنها :
" ولم يخطر في بالي انا ايضا ، كيف يمكنني مساعدتك يا كريستينا؟".
هزت برأسها ، محاولة الإنسحاب:
" لا يهم ، لا يهم ، كل ما كنت أريد معرفته....".
وصاحت فيفيان ويبستر بغضب :
" بالله عليك ! إذا كان لديك ما تقولينه ، فهيا ولنضع حدا لهذه المهزلة ! ".
حاولت كريستينا تجاهلها ، وسالت فريث :
" هل سبق للعمة غريس أن أتت على ذكر السيدة براندون امامك ؟".
وقبل أن يجيب ، اقحمت فيفيان نفسها :
" عائلة براندون ؟ طبعا اتت على ذكر العائلة ، ذهبت الى المدرسة مع الزوجتين ، كانتا أختين وتزوجتا اخين ، إنها قصة عاطفية حقا ، لماذا تسالين ؟".
لم تجد كريستينا مهربا من الجواب :
" لأن السيدة براندون في انكلترا الآن وعرضت علي عملا ".
ردت فيفيان ببرودة :
" لا افهم معنى تصرفها هذا ، أنت لا تعنين لها شيئا ، هل كتبت لها متوسلة لإيوائك ؟ أتمنى انك لم تفعلي ذلك يا كريستينا ، إنه عمل ذليل".
قالت كريستينا متحدية :
" لا ، ليس كما تتصورين ، لم أعرف بوجودها حتى هذا اليوم ، يبدو أن عمتي غريس كتبت اليها عندما فاجاها المرض".
أعلنت فيفيان :
" أن وجودها هنا امر بالغ الغرابة ، هل حضرت المزاد العلني ؟".
" لا اعتقد ".
قال السيد فريث بصوت هادىء :
" ما هو نوع العمل الذي عرضته عليك ؟ إن إسمها مالوف جدا لدي ، وأعرف علاقتها بعمتك ، ولكن لم اتصور أن الآنسة غريس كانت تنوي الإتصال بها نيابة عنك ، لا بد من القول ان وجودها نعمة فائقة في هذه الأحوال".
قاطعته فيفيان ثانية :
" لا افهم معنى النعمة هذه ، ولا أرى ضرورة لطلب مساعدة الأغراب"
إحتفظت كريستينا برباطة جأشها ، وأطرقت براسها صامتة ، ثم سمعت محرك السيارة يدور إستعدادا للإقلاع ، تنفست الصعداء ، إن عائلة ويبستر تتوارى عن انظارها ، والى أجل غير مسمى ,
طمأنها
السيد فريث مجددا ، وأكد لها مدى إهتمامه بمستقبلها :
" لا تجزعي ، إنها خطوة في الإتجاه الصحيح ،توكلي على الله ، ولا تصغي الى الأقاويل ، واريدك أن تتصلي بي دائما إذا ما تعرضت لأية مصاعب ، إن عمتك اوصتني بك أيضا ".
ثم صعد الى سيارته ، ومضى في سبيله .
استدارت كريستينا ، وبدأت تسير في طريق العودة الى الفندق ، ظلت مشوشة العقل ، مضطربة القلب ، لا تدري ما الذي تخبئه لها الأقدار الغامضة.

نيو فراولة 13-02-12 08:52 PM

2- تحذير العراف

فتحت كريستينا مصراعي شباك غرفتها ، وخرجت الى الشرفة تستنشق الهواء المنعش ، وتتمتع بحرارة الشمس الدافئة ، وأخذت تراقب الفناء الداخلي لفندق الذي يتوسطه حوض سباحة ذو الوان تتلألأ زرقة مخضرة كالفيروز .
إستاءت السيدة براندون من تأخر طيارتها الى المارتينيك بعد ظهر ذلك اليوم ، لكن كريستينا لم تشعر باي اسف ، لم تكن في عجلة من امرها لركوب الزورق والإبحار الى جزيرة سانت فيكتوار الصغيرة ، لا باس من قضاء بعض الساعات في المارتينيك والتمتع بمناظرها.
اوت السيدة براندون الى غرفتها ، وأشارت على كريستينا بالمثل لكنها لم تعبأ بنصيحتها ، إنها لم تستوعب بعد كل هذه التطورات ، ولم تزدها رحلة الطائرة إلا شوقا لأكتشاف هذا العالم الجديد.
لم تكن تعرف الشيء الكثير عن المنزل المزرعة حيث ستعيش بعض الوقت ، كل ما تعرفه أن الأخت مادلين وزوجها لقيا أجلهما عندما غرق مركبهما قبل سنوات قليلة ، وبدون أن تلم بتفاصيل هذا الحادث.
تأكدت من شيء واحد ، أن السيدة براندون ، تماما كما قالت ، حادة الطباع ، سريعة الغضب ، إكتشفت ذلك اثناء التبضع في لندن ، وعبر أسلوبها في التعامل مع موظفي الفندق ، ولم تدع احدا يفلت من لسانها وأوامرها عندما توجهتها الى المطار للإقلاع الى المارتينيك.
منتديات ليلاس
مرت نصف ساعة وهي تفكر في حياتها الجديدة ، المقلقة ، وها هي تهبط سلالم الفندق العريضة ، حيث خلعت بذلتها التي إرتدتها أثناء الطيران ، وإرتدت تنورة قطنية قصيرة قرمزية اللون ، وقميصا أبيض عقدت أسفله حول خصرها ، وارخت شعرها فوق كتفيها ، فبدت أكثر نضارة وأصغر عمرا ، ان السيدة براندون إقترحت عليها إرتداء ملابس صيفية ، وشجعتها على شرائها عندما مرتا بلندن ، وها هي تنفذ أوامرها.
إشترت كريستينا دليلا سياحيا ، وأخذت تطوف في الشوارع ، تجيل النظر في البيوت ذات الهندسة العجيبة ، وتتوقف قليلا أمام كاتدرائية شاهقة ، او حانوت من حوانيت العطور او اللعب والدمى ، وإشترت دمية صغيرة تزينها أزياء المارتينيك التقليدية.
ولاحظت ان الأزهار تنتشر في كل مكان ، وتتدلى من الشرفات بألوانها الصاخبة المرحة ،وتدافع الباعة يعرضون عليها باقات الزهور المختلفة...
تابعت السير الى أن شعرت بالجوع ، تمنت لو تدخل مطعما لتناول بعض المآكل التي كانت تترامى رائحتها الذكية الى أنفها ، تذكرت تحذيرات السيدة براندون المتكررة وضرورة تناول الغداء في الوقت المحدد ، فقررت العودة الى الفندق ، أوهكذا خيل اليها.
سرعان ما إكتشفت صعوبة ذلك ، لم تعد تعرف طريق العودة ، لو تذهب عبر هذا الشارع وتنعطف يسارا عند تلك الزاوية ، أم تسير في الشارع المحاذي ؟ وأخذت تخرج من شارع وتدخل في آخر ، وتحولت الشوارع الى أزقة ضيقة ، واقل جمالا ونظافة.
وتحولت رحلتها السياحية الى كابوس رهيب ، ابطأت الخطى وهي تحدق حولها مرتابة ، سمعت صوت طفل يبكي برتابة وحدة ، وكانه يمزق جوارحها المتعبة ، وإرتفع وراءها وقع أقدام المارة ، فإطمأنت قليلا ، إنها عثرت أخيرا على احد تسأله عن طريق العودة الى الفندق ، وحتى بلغتها الفرنسية المحدودة.
ولكن ما ان إستدارت حتى تجمدت الكلمات في حنجرتها ، كانوا ثلاثة صبية ، رأتهم يتوقفون ليراقبوها ،وعلى بعد خطوات قليلة منها ، إبتسموا بصمت ، وأدركت كريستينا مدى ذعرها عجزها لأول مرة في حياتها.
إنها حرب أعصاب ، خاطبت نفسها مرتاعة ، فكرت أن تطلق ساقيها للريح ، ثم عدلت عن الهرب ، وهي لا تستطيع التراجع إذا ما فاجأتها نهاية ذلك الشارع شبه المعتم ، وفجأة تقدم احدهم ورماها ارضا ، أغمضت عينيها مذعورة ، وإنطلقت صرخات إستغاثاتها تدوي في الشارع المقفر.
فتحت عينيها ثانية ، فأحست بصمت رهيب يخيم حولها ، وإستدارت ليقع نظرها على رجل طويل القامة يقف وراءها ، أرادت أن تشكره ، وقالت عوض ذلك :
" لقد ذهبوا ! ".
قال بهدوء :
" طبعا ، هل انت مستاءة؟".
كانت لغته الإنكليزية سليمة لا عيب فيها ،وبدون لكنة أو لهجة غريبة ، سالها :
" ما الذي تفعلينه في هذا الحي ؟ هل يعرف أهلك أين انت ؟".
ردت تتحداه :
" انا لست طفلة ، إنني هنا مع ربة عملي".
تمعن في قسماتها قليلا :
" ربة عملك ؟ المعذرة ، لم أعتقد أنك في سن يسمح لك بالعمل ، دعيني أحزر ! هل انت ممثلة أم عارضة أزياء؟".
كان يخر منها ، هكذا إفترضت كريستينا ، فاسرعت بالإجابة :
" انا أعمل سكرتيرة ، ويجب ان أعود الآن ، ثمة من ينتظرني ".
قال بجفاف :
" بدون شك ، ماذا تفعلين بالضبط كسكرتيرة ؟ هل تضربين على الآلة الكاتبة؟".
إزدادت حيرة ، لماذا يتصرف بهذا الأسلوب الفظ ؟ هو الذي بادر الى مساعدتها ، ولم تطلب منه إنقاذها ، قالت :
" قليلا ، نعم أجيد الطباعة قليلا ".
" قليلا ؟ إذن لا بد ان مواهبك تبرز في أمور أخرى ".
صاحت وهي تلقي نظرة على ساعتها :
" يا للويل ، داهمني الوقت ، هل تستطيع ان تدلني على طريق العودة الى فندق بوهرنيه ؟ لقد ضللت سبيلي كليا ".
قال هازئا :
" كيف ستعودين بدون محفظة يدك ؟ لقد نهبوها ، كل ما كانوا يريدونه منك بعض النقود لا غير ".
إزداد هلعها ، فحاولت إخفاء مشاعرها :
" لا باس ، هل تدلني على طريق الفندق من فضلك؟".
أمعن في سخريته :
" سيري في إتجاه الأحياء الغنية ، فانت على مقربة منها الان ، إنعطفي يسارا ثم يمينا وستجدين نفسك في الشارع الرئيسي ، حاولي تجنب الأزقة ، فهي غير آمنة إجمالا ".
إنحنى قليلا ، وإبتعد عنها ، ظلت كريستينا تراقبه حتى توارى عند الزاوية المحاذية ، وكم كانت سعادتها عظيمة عندما إكتشفت دقة توجيهاته ، حيث وجدت نفسها امام مدخل الفندق بعد دقائق معدودة ، فاسرعت الخطى لتنضم الى السيدة براندون قبل أن تفقد صوابها وينفد صبرها.

نيو فراولة 13-02-12 08:53 PM

وما أن همّت بدخول قاعة الفندق حتى لمحت مجموعة من السياح يتجمعون في ناحية من الرواق يتابعون شيئا ما يدور هناك .
تغلب عليها فضولها فقررت إكتشاف الحدث الهام الذي يستحوذ على إنتباه الجميع ، تقدمت قليلا الى أن تبينت زنجيا يجلس مقرفصا على الأرض ويرمي عظاما يابسة في الهواء ، ثم يلتقطها وهو يتمتم كلمات تنذر بالويل والثبور ، انه عراف يقرأ البخت ، خطت خطوة الى الأمام ، ووقفت أمامه مدهوشة ، رات رجلا ينقده بعض الدراهم ، ثم يشكره ، ساد صمت مزعج ، لم يتقدم زبون جديد ، فلتجرب حظها ، عساها تتبين ملامح مستقبلها الغامض ، إلتقت عيناها بعنيني العراف ، ووجدته يباشر قذف أصداف براقة ، ويومىء لها لتجلس قربه ، أطاعت أوامره وكأن قوة سحرية تجذبها الى سماع كلماته ، تململ قليلا ، فرك جبينه ، وما لبث ان قال :
" عليك الإحتراس والحذر يا آنسة ، إنني أرى شرا ، كوني حذرة من ابليس آرك إينجل اللعين في آرك إينجل ".
ثم نهض بغتة ،وجمع الصداف والعظام ، وغادر مسرعا ، متجاهلا إحتجاجات الجمهور ، وقفت كريستينا
محمرة الوجنتين ، مضطربة ، تركض كالمجنونة نحو مدخل الفندق ، وكلماته تزن في أذنيها : كوني حذرة من ابليس.
كانت تعاني من صداع رهيب عندما شدّت الرحال في اليوم التالي للذهاب مع السيدة براندون الى جزيرة سانت فيكتوار ، وهي لا تزال تتذكر عبارات هذه العجوز اللاذعة ، وتانيبها لها لتاخرها وتعرضها لمشكلات كانت في غنى عنها.
وإستعادت أحداث يومها الفائت ، وخاصة مقابلتها لذلك العراف وقراءته لبختها لا بد أنه يتناول المعلومات مع احد موظفي الفندق حول النزلاء ، ولا شك أن السيدة براندون اشهر من أن تعرّف ، فكرت كريستينا ، الكل يعرف اين تسكن وإسم منزلها ، وشاهدوها معها ، فكان من السهل معرفة مكان توجهها ، إنها مسألة في غاية البساطة ، ومع ذلك ، كيف تفسر كلماته ؟ ما الذي عناه بالتحديد؟
واخذت تتساءل بقلق عن الدافع الذي حمل السيدة براندون للسفر الى انكلترا والبحث عنها ، فصحتها سيئة ، وتعاني من إلتهاب المفاصل ، ولا تكف عن إبتلاع أقراص والمسكنات ، مما يعني أن قلبها في حالة سيئة أيضا ، وإذا كان هذا هو الوضع ، تابعت كريستينا سلسلة افكارها ، فلماذا لم تكلف احدا غيرها للقيام برحلة طويلة ، مضنية كهذه ؟
وتمنت لو تستطيع إقناع نفسها بعاطفة السيدة براندون الجياشة ، وإنسانيتها المفرطة ، ولكنها لا يمكنها ان تصدق كل ذلك بعد أن إختبرتها عن كثب.
إذن هناك سبب ملح دفع السيدة براندون الى رؤيتها شخصيا ، مع أنها لا تعرف ما هو هذا السبب الملح .
يا لبؤس حياتها ، وطئت ارض المارتينيك تمور حيوية وغبطة ، وتخال أنها تعيش اسعد لحظات حياتها ، وها هي تجلس في هذا المركب حزينة ، مشوشة الأفكار ، تلمح جزيرة سانت فيكتوار فلا تترك في نفسها إلا إنطباعا مغلفا بالسرار والحيرة .
همّت بالترجل من المركب ، محاولة تعزية نفسها ، وتعليلها بمفاجأة سارة جديدة ، قررت ان تشاؤمها لا يليق بها ، وربما كان إحساسا خاطئا لا صحة له ، فتنتظر حتى تنجلي الأمور أكثر .
كانت تنتظرها على رصيف الميناء سيارة فخمة ، يجلس وراء مقودها رجل أسود يرتدي بزة رسمية ، ولاحظت تبدل طبيعة السيدة براندون ، وظهور دماثة لطيفة في تصرفها إزاءها ، وهما تتوجهان نحو السيارة ، ورأت السائق يرفع قبعته ويتوجه صوبهما بإبتسامة عريضة :
" الحمد لله على السلامة يا سيدة ، ويا آنسة ".
أعطته السيدة براندون عصاها ، وصعدت الى المقعد الخلفي قائلة :
" شكرا يا لويس ، باركك الله".
ولاحظت كريستينا السائق يلف بطانية حريرية حول ساقي السيدة براندون رغم رطوبة الجو الحار.
وجلست كريستينا في المقعد الأمامي كما اشارت عليها ربة عملها ، واقلعت السيارة ، وهي تشعر بالحر الخانق ، لكنها لم تفه ببنت شفة ، تمنّي نفسها بحمام ماء بارد وبعض المرطبات فور وصولها.
لم تجد ما يلفت النظر في منطقة الميناء سوى مجموعة من المباني الواطئة المسقوفة بالواح من الحديد المضلع ، وبعلو معظمها الصدأ والغبار ، وكانت الشوارع المتفرعة من الميناء ضيقة ومزدحمة بالدراجات ، ولاحظت كريستينا ان الأرصفة تتكدس فوقها أكشاك الفاكهة والخضار ، وتغص كل بقعة بالأولاد والصغار وشتى الحيوانات ، وأبدت إعجابها بمهارة لويس وهو يشق طريقه عبر هذا ازحام.
وما هي إلا لحظات حتى وصلوا الى طريق عريض ، مستقيم ، لا يعكر صفوهدوئه شيء ، فتنفست الصعداء ، ثم تبيّن لها أن هذا الطريق ليس اكثر كم درب ترابي تتخلّله الحفر ، فتهتز السيارة يمينا وشمالا ، رغم مهارة لويس في القيادة .
وبعد ان قطعوا بضعة أميال صعدت بهم السيارة الى طريق مرتفع ، وتراءى البحر لكريستينا في البعيد ، بلونه الأزرق العميق ، يكاد يعانق الأفق بعفوية اخاذة ، نظر اليها لويس مؤكدا :
" سوف تشاهدين مناظر أكثر جاذبية ".
ومضت بهم السيارة في طريق تتوسط حقولا زراعية ، يعمل فيها عدد من الأشخاص ، ورأتهم كريستينا يلوحون بايديهم ، وتصورت ، بدون ان تلتفت وراءها ، السيدة براندون تهز براسها لرد التحية ، وفطنت انهم الآن على أطراف المزرعة التي ذكّرتها لها ربة العمل .
كانت حقولا شاسعة ، تمتد الى مسافات بعيدة ، ترصعها مجموعات من المساكن لإيواء عائلات العمال ، كما إفترضت ، كأنها عالم صغير وسط عالم آخر ، وإرتابت كريستينا من ضخامة هذه المزرعة ، لم تعرف في حياتها سوى الريف الإنكليزي وجماله الوديع ، وها هي تصطدم بالحر اللاذع ، والتربة الظامئة ، والأشجار والنباتات الغريبة الشكل والبراعم ، احست انها في برية موحشة لم تروضها الحضارة بعد.

نيو فراولة 13-02-12 08:54 PM

تناولت منديلا من محفظتها ومسحت تصبب عرق جبهتها ووجهها ، وكانت السيارة الآن تجري بمحاذاة الشاطىء ورماله الفضية، وأمواجه المتهادية بنعومة ، يلامسها نسيم البحر العليل ، ولكن الحر داخل السيارة كان يخنقها ، وهي لا تجرؤ على فتح النافذة خوفا من السيدة براندون التي تعشق الحر ، مهما كانت درجته ، لا بد أنهم إقتربوا من نهاية الطريق ، علّلت كريستينا نفسها..
إسترخت في مقعدها ، مغمضة عينيها ، ومحاولة تجاهل محنتها ، وإرتجاج السيارة فوق الطريق الوعر ، وما أن همّت بالطلب من لويس للتوقف ، حتى وجدته يخفف سرعته ، وينعطف فوق طريق بدا لها ناعما كالحرير بعد أهوال الميال السابقة ، فتحت عينيها قليلا ، وإكتشفت انهم يمرون تحت قوس من الأشجار الخضراء المنعشة .
وهتف لويس وكانه أحس بضيقها :
" سنصل بعد لحظة قصيرة ".
وإنعطفت السيارة فوق طريق منحدر ، وها هو المنزل يتراءى امامهم ، تظله الشجار الوارفة ، كان مطليا باللون الأبيض ، ويتكون من طبقتين كبيرتين تحيط به مصطبة عريضة ، وترتفع فوقها شرفة يزينها درابزين حديدي امام الغرف العليا ، توقفت السيارة أمام درجات المصطبة ، ولمحت كريستينا إمرأة طويلة القامة تنتظر عبد الباب الأمامي للترحيب بهم ، ويدل فستانها الأسود ومئزرها الناصع انها مدبرة المنزل ، تنفست كريستينا بعمق وهي تحس بتوترها يتلاشى تدريجيا ، نظرت الى مدبرة المنزل وإبتسمت بحياء ، لكنها لم تجد أي تجاوب.
وتوكأت السيدة براندون على عصاها ،ومشت بتمهل وهي تهتف :
" سيدة كريستوف ، هل كل شيء على ما يرام ؟".
ردت مدبرة المنزل بصوت خفيض:
" كل شيء على ما يرام ، لا توجد أي مشكلة ".
وقفت السيدة براندون فوق المصطبة لأستعادة نفسها ، ثم اومات نحو كريستينا التي كانت تسير وراء لويس وهو يحمل الحقائب:
" اقدم اليك الانسة بينيت ، سيدة كريستوف ، هل تلقيت برقيتي؟".
قالت السيدة كريستوف وهي تتفحص زائرتها الجديدة :
" اعددت لها غرفة ، أهلا بك في آرك إينجل يا آنسة ".
وتوجهوا جميعا الى الداخل ، كانت القاعة الأولى فسيحة مربعة الشكل مبلطة بألوان زرقاء وخضراء ، وبدا لكريستينا أن جميع الغرف الرئيسية تفتح أبوابها على هذه القاعة، وتبين لها ان الطبقة العليا تأخذ شكل صالة عرض واسعة ، وإنتصب عند اقدام السلم اللولبي تمثال رخامي لشاب في ريعان الصبا يعتمر درعا معدنيا ، ويمسك برمح طويل يهم ان يطعن به حيوانا مجنحا يرتمي عند قدميه ، وكان الشاب إياه يمد جناحين رائعين مخضبين بالذهب.
تقدمت منها السيدة براندون شارحة :
" هذا هو ملاكنا الحارس يا آنسة ، والذي تحمل المزرعة إسمه ، آرك إينجل او الملاك الحارس".
أجابت كريستينا ببرودة:
" ألم اقل ل كان وراء إسم المزرعة قصة طريفة؟ إنها تعود الى القرن السابع عشر عندما بنت أول عائلة هنا وشرعت بزراعة السكر ، كانوا يستخدمون العمال العبيد في تلك الأيام ، كما تعرفين ، وجلبت مجموعة من العبيد أحد الأمراض ، وإنتشر المرض في كل الجزيرة ، كإنتشار النار في الهشيم، كان مرضا كالطاعون ، وأخذ الناس يموتون كالذباب ،وهكذا تضرع سكان الجزيرة، وهم في مرحلة اليأس ، الى هذا الرمز – الأنجل ".
وسألتها كريستينا :
" وهل نفعت صلواتهم ؟".
أجابت السيدة براندون بإنزعاج :
" زال الطاعون بعد مرور أسبوعين ، وظن الأهالي أنها كانت أعجوبة ، ومنذ ذلك الحين ونحن ندعو المزرعة آرك إينجل ، إن التمثال قديم جدا وجلبته العائلة معها من فرنسا كعربون وفاء ، ( وفجاة تبدل صوتها ) إصعدي الى الطابق الأعلى ، وستدلك السيدة كريستوف على غرفتك ".
شكّت كريستينا في كل كلمة سمعتها ، إنها قصة خرافية ، خاطبت نفسها ، ثم مشت وراء قامة مدبرة المنزل المنتصبة عبر البهو ، وممر تعلوه قنطرة ، وإكتشفت ان الممر يؤدي الى جناح خلفي ، وتوقفت السيدة كريستوف قبل نهاية الرواق أمام باب مزدوج من الخشب ،وفتحته .
أخذت كريستينا تجول بنظرها في الغرفة وهي لا تكاد تصدق عينيها ، كان السقف مطليا بلون عسلي مشع ، وكذلك الحيطان ، أما السجادة والستائر الحريرية فكانت ضاربة الى الصفرة ، وأدركت لتوها ان هذه الزخرفة الفخمة فوق مستوى موظفة قد لا تمكث مدة طويلة ، لاحظت السيدة كريستوف دهشتها ، فقالت :
" ألا تعجبك الغرفة يا آنسة؟".
أجابت ببرود :
" على العكس تماما ، إنها أجمل غرفة رايتها في حياتي ، ولكن هل تنوي السيدة براندون تخصيصها لي؟".
نظرت اليها السيدة كريستوف وكأنها توبخها :
" إنها تترك هذه التفاصيل لي، ولكن اؤكد لك أنها ستوافق على إختياري ، لقد جلب لويس حقائبك ، سأطلب من يولاي لتساعدك على فتحها ( ثم حدّجتها هنيهة قبل ان تغادر مرددة ) لكن الظروف تتغير ، اليس كذلك ؟ ربما كان
من الأفضل لك الإستعداد لأي طارىء يا آنسة".
أوصدت الباب بهدوء ، تاركة كريستينا في سيطرة تامة على ممتلكاتها الصغيرة ، وكان أول ما فعلته الإستحمام ، وترتيب ثيابها في خزانة الحائط العريضة .
ثم بدلت ملابسها ، وخرجت الى الشرفة حافية القدمين ، ولمحت عن يسارها سلما حديديا يؤدي الى الحديقة ، وبركة سباحة طويلة مستطيلة الشكل، وإمتدت في كل النواحي مروج خضراء تختلط بعد مسافة شاسعة بشجيرات مزهرة ونباتات برية كثيفة الأوراق ، وبعد ذلك يبدو البحر منبسطا ، جميل المنظر.

نيو فراولة 13-02-12 08:55 PM

لم تمر دقائق معدودة حتى سمعت رنين الهاتف في غرفتها ، فاسرعت ترفع السماعة قائلة :
" الو ، كريستينا بينيت ".
سمعت زفيرا وأصواتا خافتة ، ولكن لم يجبها أحد ، صاحت بحدة:
" نعم ؟ من هناك من فضلك؟".
سمعت ضحكة مكبوتة وكأن صوتها المذعور أدى الى النتيجة المرجوة ، إزداد توترها:
" هل تكف عن هذا المزاح وتخبرني ما تريد ! ".
ثم سمعت نقرا خفيفا على الباب ، إستدارت مرتاعة ، فرات الباب ينفتح ببطء ، دخلت فتاة تناهزها في العمر ، بدت بالغة الجمال بشعرها الداكن وعينيها السوداوين ،وبشرتها الضاربة الى السمرة ، كبشرة السيدة كريستوف ، لا بل أن كريستينا خالتها صورة مصغرة للسيدة كريستوف عندما كانت في مثل سنها.
إبتمست الفتاة إبتسامة بريئة ، عفوية كاشفة عن اسنانها البيضاء السوية :
" تفضلي بالنزول الى المكتبة لأحتساء الشاي ، أو ربما تفضلين أن أجلب صينية الى هنا؟".
قالت كريستينا بعجلة :
" كلا سانزل بنفسي ، لا بد أنك يولالي؟".
برقت عيناها متسائلة ، وهي ترى سماعة الهاتف في يد كريستينا :
" نعم أنا يولالي ، ولكن هل تحبين شيئا آخر؟".
أحست كريستينا بحرج شديد:
" لا ، ولكن رن جرس الهاتف ولم يجبني أحد ".
إستأذنها يولالي لتدعها تتحرى الأمر بنفسها ، وضعت أذنها على السماعة لحظة ، ثم إستدارت صوب كريستينا :
" لا يوجد أحد الآن يا آنسة، هذا هاتف المنزل الرئيسي ، ومن السهل ضرب رقم مغلوط ".
لم تقتنع كريستينا :
" ولكن لم يقولوا ذلك ، لم يكن هناك أي صوت ، إنه تصرف بغيض".
قالت يولالي ببرودة:
" ربما اخطات الظن ، لا يوجد احد في هذا المنزل يتصرف هكذا ".
ومشت نحو الباب ، متوقعة من كريستينا السير وراءها ، ولم يخب ظنها ، لحقت بيولالي عبر الممر ، متجهة الى السلم الرئيسي ، وهي تبحث عبثا عن موضوع ما لتحدث اليها ، كان وضعها في المنزل غامضا ، إنها الآن مجرد ضيفة ، ولكنها أتت الى هنا لتعمل ، هل أساء تصرفها الى احد ؟ فكرت كريستينا ، لم تتعرف إلا على لويس والسيدة كريستوف ، ويولالي ، لا يمكنها تصور احد من هؤلاء يعمد الى ممارسة الآعيب بغيضة ضدها في يومها الأول.
بلغتا أسفل السلم ، وحدّقت كريستينا في التمثال مرة أخرى ، وفوجئت بإكتشاف شكل جديد للحيوان المستلقي عند قدميه، لم يكن تنينا كما خالته سابقا ، بل يشبه شكلا بشريا ، وقررت انه قبيح المظهر ، يثير الإشمئزاز.
عبرت يولالي القاعة ، تنتظر بفارغ الصبر امام الباب في الجهة المقابلة ، وضعت كريستينا يديها في جيبي تنورتها ، وقالت مستفسرة :
" قولي لي من هو هذا السيد الذي تدوسه القدام ؟".
وقبل ان تفوه يولالي بكلمة ، إرتفع صوت آخر مالوف ، هز كيانها هزا :
" إنه إبليس يا عزيزتي ، إبليس نفسه ".
رات صاحب الصوت يقف عند المدخل المامي ، وعرفته رغم ملابسه الجديدة ، أن عينيه لا تزالان تتماوجان بذلك اللون الفضي الذي لفت نظرها ،وهو يقف هناك في ذلك الزقاق الضيق بعد تعرضها للهجوم ، قال بلطف :
" هل كنت تتوقعين ان يكون كائنا آخر؟".

نيو فراولة 13-02-12 08:57 PM

3-الحذر من إبليس

تسمرت كريستينا في مكانها ، تتأجج إرتيابا وحيرة ، وتبحث عن عبارات تنطق بها ، ظلت معقودة اللسان ، لم تكن تتوقع ان تراه ثانية ، لا بل تمنت ألا ترى وجهه في حياتها ، خاصة بعد تلك الحادثة المؤسفة ، واسلوبه في معاملتها ، ألم يؤنبها بعد أن اقفر الشارع من المارة ، وأعتبرها مجرد طفلة صغيرة ضالة ؟ الم يعتبرها سيئة النوايا لا هم لها سوى إستغلال إمرأة طاعنة في السن ؟ الم تشكره على مساعدته ، ومضى كل منهما في سبيله ، فماذا يريد الآن ؟
هتف هازئا :
" ما هذا الصمت ايتها السكرتيرة البارعة ؟ آمل أنك لم تتعرضي لمزيد من المصائب منذ لقائنا الخير ".
شمخت كريستينا بأنفها ، يدل مظهره ، وطريقة مظهره ، وطريقة دخوله المنزل أنه احد الزوار الدائمين ، وعرفت أن من الأفضل لها إخفاء عدائها له ، ولكن كلماته تجرح مشاعرها ، وتغيظها الى ابعد حد.
قالت بتافف :
" شكرا ، كل شيء على ما يرام".
ؤفع حاجبيه :
" هل أنت في طريقك الى المكتبة لتناول الشاي ؟".
كادت تنكر كل شيء ، وتنسحب الى غرفتها ، ولكنها قاومت نزوتها العابرة ، وهي ترى يولالي منتصبة قرب باب المكتبة تصغي الى تبادلهما العبارات المثيرة بدهشة ، لا ، لن تتصرف بحماقة ، خاطبت نفسها ، ومشت بخطى وثيدة صوب المكتبة .
كانت غرفة المكتبة جميلة للغاية ، مربعة الشكل ، واطئة السقف ،مفروشة بسجادة عجمية ، وتمتد رفوف الكتب فوق ثلاثة من جدرانها ، وتزين الجدار الرابع نوافذ فرنسية مشرعة لإستقبال النسيم العليل ، ولمحت مقاعد جلدية امام النوافذ ، مع طاولة صغيرة في الوسط ، ووضعت هناك صينية ، يتوسطها أبريق شاي فضي ، والى جانبه فنجانان فاخران ، وادركت كريستينا لتوها أن الشاي معد لشخصين فقط.
التفتت وراءها ، وهالها ان تراه يهم بإغلاق باب المكتبة ، نظر اليها مبتسما وكانه يقرأ افكارها.
ثم قال ساخرا :
" أفضل الشاي مع بعض الحليب ولكن بدون سكر من فضلك ".
إحمرت وجنتاها ، واسرعت تظهر إنهماكها بإبريق الشاي ، بدا قديما وثقيلا ، وأحست بإرتعاش يدها حيث إندلق بعض الشاي فوق الصحن والصينية ، عضت شفتها اسفا ، وأخذ رفيقها المتطفل يهز رأسه تشفيا :
" ما هذا أيتها السكرتيرة البارعة ؟ عليك ان تتلقي يعض الدروس قبل ان تصبي الشاي لعمتي ، انها لا تتساهل ابدا حول مسائل كهذه ، وتبدي رايها بصراحة ، الم تلاحظي ذلك ؟ ".
ارخت كريستينا ابريق الشاي بإضطراب ، تنبهت الى كلمة واحدة نطق بها :
" تقول عمتي ! هل أنت .... هي...".
قال بهدوء :
" هذه هي الحقيقة المرة ، اعتقد أن الأوان حان لتقديم نفسي ، أنا ديفلين براندون ، إبن اخت ربة عملك ".
ردت كريستينا بعد لحظة مليئة بالدهشة :
" هكذا إذن ! ".
أخرج ديفلين براندون علبة سكائر من جيب قميصه ، واشعل واحدة منها ، وعلق ببرودة :
" أعرف ان وجودي مفاجأة غير سارة ، هل يهدأ بالك لو قلت لك ان ردة الفعل كانت متبادلة ؟".
أجابت بإمتعاض :
" وكيف ذلك؟".
إبتسم بخبث :
" لأنك لم تشبعي فضولي حول حاجة عمتي الى خدمات سكرتيرة مثلك! ".
تمالكت كريستينا أعصابها ، وصبت الشاي في الفنجان ، وحملته اليه رابطة الجأش :
" الا تعتقد ان سؤالا كهذا يوجه الى عمتك ؟ وكف عن مناداتي بهذا اللقلب ! ".
أشار بأسلوبه اللاذع :
" لا يمكنني ان أناديك بغير ذلك ! لن يكون ذلك لائقا ".
قالت وهي تشعر بالإعتزاز :
لم أتصور أن اللياقة تهمك كثيرا يا سيد براندون ".
ظل محافظا على هدوئه ، مسترخيا في المقعد الجلدي ، وإبتسامة ساخرة تعل ووجهه :
" ان للهرة الصغيرة مخالب إذن ، أنصحك بعدم إظهارها ، لا يتسع هذا المكان لأكثر من لبوة واحدة ، وكما ستلمسين ذلك بنفسك ، وإنني انتظر".
" ماذا تنتظر ؟".
" أنتظر لأسمع إسمك وماذا تفعلين هنا ".
منتديات ليلاس
ترددت كريستينا ، كان قلبها يحثها لفهامه أن هذه الأمور لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد ، ولكن ربما كانت مخطئة ؟ أنه من عائلة براندون ، ولا تعرف ما هو مركزه في العائلة بعد.
واخيرا قالت بجفاف :
" إسمي كريستينا بينيت ، وإستخدمتني السيدة براندون لأكون سكرتيرة ومرافقة ".
اجاب بعذوبة :
" هل هذا صحيح؟".
حدجته بنظراتها :
" يبدو... يبدو أنك لا تصدقني ، هل يوجد أي مبرر آخر لوجودي هنا؟".
اطفا السيكارة في المنفضة :
" هذا ما تبادر الى ذهني ، وحتى الان لم أحصل على اجوبة مقنعة ".
أعادت كريستينا فنجانها الى الصينية ، فصلصل قليلا ، وقالت بحدة :
" إنك تثير السخرية !".
لوى فمه :
" ماذا ؟ إسمعي يا آنسة بينيت ، إلتقيت بعمتي ، ويمكنك ان تحكمي بنفسك ما إذا كانت تحتاج الى مرافقة".
طوت كريستينا أصابعها تبدي إستياءها :
" اعتقد ان ذلك يتوقف على ما تتوقعه من خدمات ".
ومطّ بشفتيه يسالها :
" وما هي الخدمات التي يمكنك تقديمها؟".
إضطربت قليلا :
" لم نناقش هذا الموضوع بالتفصيل...".
صاح بإزدراء :
" هذا هو الصدق بعينه ، قولي لي يا ىنسة هل سبق لك أن قمت بعمل مشابه؟".
قالت تتحداه:
" نعم كنت اعمل مع... مع عمتي ولعدة سنوات في هذا المجال ".
أجابها بفتور :
" وتعتقدين ان ذلك يؤهلك للعمل مع عمتي ، أنك إما بالغة السذاجة أو خارقة الذكاء يا آنسة ، ولا ادري ايهما".


نيو فراولة 13-02-12 08:58 PM

فغرت كريستينا فمها:
" إنك قليل الحياء يا سيد براندون ، إذا كانت عمتك تعتبر مؤهلاتي وافية ، فهذا يكفيني ( ونهضت واقفة ) والان إسمح لي بالإنصراف..".
قال بفظاظة :
" إجلسي مكانك ، لم انته منك بعد".
إبتسمت بإستخفاف :
" يا لحظك السيء لم يعد لدي ما اقوله ، ومن الواضح انك تجدني غير مؤهلة لهذا المنصب ، مع أنني لا أفهم لماذا..".
قاطعها بحزم :
" لا تفهمين لماذا ؟ أمعني النظر قليلا يا عزيزتي الصغيرة".
وقبل أن تأتي بحركة ، توجه نحوها ، وأمسك بكتفيها ، فوجدت نفسها امام مرآة معلقة قرب الباب ، صدمها مظهرها ، بشعرها الأشعث ، ووجنتيها المحمرتين ، وعينيها المتطايرتين شررا ، بدت مخلوقة همجية ، حاولت التملص من بين يديه ، فنهرها بصوت أجش :
" لا تتحركي ، وإسألي نفسك ما الذي يمكن أن تقدمه فتاة بعمرك ومظهرك الى أمرأة مثل عمتي ".
رددت بعنف :
" ربما كانت السيدة براندون لا تريد الإنزواء كعجوز طاعنة في السن ، تحب ان تنعم بصحبة احد في مثل عمري ، وهذا ما قالته لي".
" وأنت أغرتك الحياة الصاخبة في هذه المنطقة من العالم ، فتشبثت بعمل كهذا".
وكادت تبوح له بكل الحقيقة وتروي له شكوكها ومخاوفها التي تقض مضجعها ، ولكن لتدعه يفكر ما يشاء ، لن تبالي به ، وقالت ضاحكة :
" طبعا ، ولا تعتقد انني وقعت ضحية خدعة معينة ، إن السيدة براندون شرحت لي كل السلبيات والعوائق التي ستعترضني ".
تركها وشأنها ومشى نحو النافذة :
" وماذا عن الإيجابيات والفوائد ... هل ذكرتها لك؟".
إستطردت بثقة:
" إنها اشهر من أن تعرّف ".
وراته يلتفت اليها بمرارة وإمتعاض :
" ربما كنت على حق ، لا أدري ما الذي اقنعك بقبول العيش في هذا المكان المنعزل ، ومع سيدة مستبدة لا تزال تظن أن عصر الرقيق لم يتم إلغاؤه بعد".
قالت كريستينا بصوت مضطرب:
" يا لك من خسيس ، كيف تقول هذه الأشياء عن عمتك ...".
قاطعها :
" إن آرائي لا تلائم خيالك الشاعري وتصورك لحياة المزرعة ، لا تخدعي نفسك يا آنسة بينيت ، أنت لا تعيشين في الفردوس ، ولا توجد ملائكة هنا ".
حمدت ربها وهي تلاحظ إنفتاح الباب ، ظنت ان يولالي عادت تطمئن عليها ، خاب ظنها .
رأت شابا في ريعان الصبا ، فائق الجمال بشعره الأسود ، وعينيه اللامعتين وفمه الجميل ، كان يرتدي ملابس ركوب الخيل بأناقة تامة ، وينتعل جزمة براقة نظيفة ، خاطب كريستينا بلباقة مهذبة :
" تاخرت كثيرا ، ويبدو انك تناولت الشاي ، أردت العودة مبكرا ، أرجو المعذرة ، إسمي ثيو براندون ".
ثم إنقبضت اساريره قليلا ،وكأن شيئا ما ازعجه ، وقال :
" مرحبا يا ديفلين ".
أجابه ديفلين بإنحناءة من رأسه :
" لم أكن أعلم انك تعشق الشاي يا ثيو ؟".
هز ثيو بكتفيه ، ونظر الى كريستينا :
" أردت الترحيب بالضيفة الجديدة ".
رفع ديفلين حاجبيه :
" ضيفة ؟ تقول انها أتت لتعمل هنا ".
رد ثيو متبرما :
" لا بأس ، ستجد جدتي شيئا يشغلها في ساعات الضجر ، ولكن عليها أن تستعيد نشاطها تحت أشعة الشمس ( ونظر اليها بإشفاق ) لقد عانت كثيرا مؤخرا ، إذ فقدت إحدى قريباتها".
تنهد ديفلين بلوعة :
" هكذا ، لو عرفت ذلك لوفرت على نفسي متاعب كثيرة ( ومشى نحو الباب ثم توقف ) عندما ترتاح عمتي من عناء السفر ، هل أبلغتها ان وفدا من لجنة الجزيرة ترغب في رؤيتها ،وفي الوقت الذي يلائمها ".
إبتسم ثيو إبتسامة باهتة :
" هل من الضروري أن تجتمع بالوفد؟".
" لا ، ولكن طلبوا مني إبلاغها ".
جلس ثيو على حافة المقعد ، ينقر جزمته بسوط الركوب ، وإستفسر :
" وهل ستكون أحد أعضاء الوفد ؟".
إستدار ديفلين يهم بالخروج ، كان معكر المزاج ، وسمعته يردد بعنهجية :
" طبعا ، طبعا ".
قالت بنبرة واضحة عذبة :
" وداعا يا سيد براندون ".
هدر غاضبا :
" افهم معنى كلماتك ، ولكنك تبالغين قليلا ، لا شك أننا سنلتقي أكثر من مرة واثناء إجازتك ".
يا لخيبة أملها ، فكرت كريستينا ،وهو يوصد الباب وراءه بشدة ، ووجدت ثيو يحدجها بإستغراب ، فخجلت قليلا .
سالها ثيو بوقاحة :
" هل تجدينه جذابا ؟".
كادت أن تشتمه ، ثم تذكرت أن الإثنين تربطهما صلة القرابة :
" آسفة ، لم اقصد.....".
قهقه:
ما لنا وللمجاملات ، كانت ردة فعلك طبيعية ، سيشعر بصدمة رهيبة لو عرف حقيقة مشاعرك ، إنه يعتبر نفسه فاتن النساء ، وما الذي قاله ليغيظك هكذا؟".
أجابت تتعمد إخفاء إضطرابها :
" لا شيء ، سبق لنا ان إلتقينا قبل هذه المرة ، هذا كل ما في الأمر ".
علت الدهشة وجهه .
" متى كان ذلك ؟ هل تعرف جدتي بالأمر ! ".
إعترفت كريستينا :
" لا ، حاولت إخبارها لكنها كانت مستاءة مني ، ورفضت الإصغاء الي".
إبتسم ثيو إبتسامة غامضة :
" يا لك من مسكينة يا كريستينا ، هل اتعبتك كثيرا؟".
قالت تغالب غيظها الدفين :
" إنني معتادة على السيدات المسنات".
" أنا لست مستاء منك ، وكلي لهفة لسماع اخبارك ، متى إلتقيت بإبن العمة ديفلين ،وماذا فعل لإزعاجك ؟".
عضت كريستينا شفتيها:
" لم يزعجني ابدا ، كان بالغ التهذيب ، صدف مروره وأنا اتعرض للسرقة ، أو اسوأ من ذلك ، في المارتينيك أمس ، كانوا ثلاثة ، وماأن أطل حتى إختفوا كلهم ".
" وهل عاملك كشخص يفيض نبلا؟".
ردت كريستينا محتدة :
" لم يعجبني تصرفه أبدا ، عاملني بأسلوب أحمق".

نيو فراولة 13-02-12 09:00 PM

"وهل دعاك للإبحار على زورقه؟".
إزدادت لهجتها جفافا :
" أبدا ، ولم اعرف أنه يملك زورقا".
" يملك زورقا كبيرا أحسده عليه ، إحذري من خدعه الملتوية يا كريستينا".
قالت بفتور :
" أنا لست مهتمة بأموره الخاصة ، هل قلت أنه إبن عمتك ؟".
أجاب بتأفف :
" أناديه هكذا ،وهو في الحقيقة عمي ، ولكنه لا يحب أن أخاطبه بهذا اللقب ، وقد أفعل ذلك للإقتصاص منه ، ولتصرفه غير اللائق معك ".
جن جنونها :
" لا ، ارجوك ، إنه يعترض على وجودي هنا لسبب ما ، ربما بدل رايه عندما يراني أعمل مع السيدة براندون ".
قال مطمئنا :
" لا تجزعي فهو لا يسكن هنا ، هل انت مسرورة الآن ؟".
واحست كريستينا بإرتياح عميق ، ثم حاولت أن تحافظ على حيادها في خلافات العائلة أو منازعاتها التي لا تفهمها :
" لا يمكنني إبداء سروري ، يكفي أنه أنقذني من أولئك الأشقياء".
تثاءب ثيو قليلا:
" لا تشغلي بالك كثيرا ، ربما كان اولئك الأشقياء اصدقائه ، ولذلك فروا هاربين ، إنه شخص غريب الأطوار ، وذو ماض يفوح بالقذارة".
سرت رعشة مخيفة في مفاصلها ، وإصطكت ركبتاها هلعا ، فإرتمت على المقعد ، وتقدم منها ثيو يهدىء روعها :
" أنا آسف ".
قالت بحرج شديد :
" إعذرني ، لا بد أن الحزن أثر علي ، من الأفضل ان أذهب الى غرفتي الآن ".
وقف ثيو ، يساعدها على النهوض ، قائلا:
" يا لها من فكرة رائعة ، وإستلقي على فراشك لبعض الوقت ، لا شك أن الطاهية كوكو تعد لنا عشاء شهيا إكراما لك ".
أعلنت كريستينا محتجة :
" ولكن لا ضرورة الى كل ذلك ".
ثم تركها تصعد السلم ، متوجهة الى غرفتها ، وإستلقت على فراشها قلقة ، حائرة ، وتذكرت كلمات العراف : إحذري من إبليس ، وهي تعرف الان أن إبليس ليس سوى ديفلين ، إنها تعرف ذلك جيدا ، وعليها الإحتراس واليقظة ، هل كان العراف يخدعها بعد أن إكتشف هويتها ووجودها مع السيدة براندون ، وهو لا شك يعرف ديفلين ، فحاول إثارة مخاوفها عمدا؟
أغمضت عينيها ، وشبح ديفلين بوجهه الساخر يحوم في مخيلتها ، تمنت لو تطرد الشبح الرهيب وتحل محله صورة ثيو باناقته وعذوبة كلماته ، وأدركت أن ديفلين يستحوذ على تفكيرها مهما فعلت ، بحركاته وأقواله ورجولته ، في حين أن ثيو مجرد صبي.
ولكتها تكرهه ، تكره حتى ذلك اللون الفضي في عينيه ، إنه عدوها ، وعليها تذكر هذا الواقع دائما.
سمعت قرعا خفيفا على الباب ، ثم دخلت يولالي ، وقالت مباشرة:
" السيدة براندون تسأل عنك ".
أسرعت كريستينا ترتب هندامها .
"حسنا ، أين غرفتها؟".
ومشت خلف يولالي الى أن بلغتا البهو الرئيسي ، وأدركت كريستينا ان جناح السيدة براندون يقع بمحاذاة البهو الكبير ، ويتكون من غرفة نوم كبيرة وحمام ، وحجرة صغيرة تضم آلة بيانو.
إلتفتت السدة براندون منفرجة الأسارير عندما دخلت عليها كريستينا :
" إجلسي يا إبنتي ، هل أنت بخير ؟".
اجابتها كريستينا بإنحناءة من راسها ، ثم قالت :
" آسفة ، كان علي تغيير ملابسي لتناول العشاء ".
تقبلت أعذارها برحابة صدر :
" لا اهمية لذلك ، لا أتوقع منك معرفة كل شيء منذ اليوم الأول ( ثم سالتها ) أخبريني ما هو رأيك في آرك إينجل ؟ هل تحبين المعيشة هنا؟".
لم تتوقع كريستينا سؤالا كهذا ، فغمغمت ببضع كلمات غامضة ، فطمأنتها السيدة براندون :
" أعرف انك تحتاجين الى مزيد من الوقت لأتخاذ قرار كهذا ، ولكنني اريدك أن تتصرفي وكأنك في بيتك".
اجابت كريستينا بحياء :
" هذا من لطفك يا سيد ، اعدك ببذل جهدي لتلبية كل طلباتك ، واتمنى أن تحددي موعد بدء العمل وما يتطلبه بالضبط ، ونوعية واجباتي ".
لوحت السيدة براندون بيدها ، تتلألأ منها ألماسة كبيرة ، وقالت :
" يوجد متسع من الوقت لبحث كل ذلك اما الآن فخذي قسطك من الراحة وتمتعي بما حولك ، وأعتقد انك تعرفت على حفيدي".
قالت كلماتها الأخيرة بدون مبالاة ، لكن كريستينا أحست بتوتر خفي ، أجابت على نحو طبيعي :
" نعم ، تعرفت عليه ، اتى عندما كنت احتسي الشاي".
علقت العجوز :
" هذا ما قاله لي ، يبدو انك تركت فيه إنطباعا عميقا".
نظرت كريستينا مذهولة :
" إنك تبالغين قليلا يا سيدة ، ان الأولاد في مثل سنه يتاثرون بسرعة ".
تجهمت السيدة براندون :
" في مثل سنه ؟ إنه لا يصغرك إلا بأشهر قليلة ، وفي الحقيقة تبدين بشعرك المتدلي فوق كتفيك اصغر منه ".
قررت كريستينا إتباع سياسة الحذر :
" نعم ، ولكن يقال أن البنات ينضجن قبل الصبيان ولو كانوا في سن واحدة ".
ردت بإقتضاب :
" من المحتمل ، لم يحصل لي شرف التعرف على عدد كبير من البنات ، ولذلك اعجز عن إعطاء رايي ، هل تجدين ثيو صغيرا بالنسبة الى عمره؟".
سارعت كريستينا بالقول :
" لا ، ابدا ، يبدو انه ناضج تماما ، ويحب الحياة".
طاب خاطرها ، فتنهدت قائلة :
" صحيح أنه لم يرزق بصحبة ابناء جيله في الماضي ، واعلق امالي عليك لتعديل هذا الوضع قدر المستطاع ، إنكما مثال الرفيقين مع بعضكما البعض ".
بلعت كريستينا ريقها، محتجة بدون طائل :
" ولكن إعتقدت أني سأعمل معك ".
عقدت السيدة براندون حاجبيها :
" ليس تماما يا إبنتي، أنا لا اقترح عليك العمل مع ثيو ، اريد القول أن لديك كامل الحرية لتقبل دعوة منه ".
إحمرت وجنتا كريستينا ، وتمتمت :
" شكرا يا سيدة".

نيو فراولة 13-02-12 09:01 PM

" هل يزعجك إهتمام حفيدي بك؟".
مدت كريستينا يدها تفرك اذنها:
" كلا ، إنه فتى جريء ، ولكن لا افهم كيف تسمحين لي، كموظفة ليست أرقى من الخادمات كثرا ، بإنشاء صداقة مع حفيدك".
تجمدت عينا العجوز :
" انت ضيفتي وكانت عرابتك صديقتي ، لا اريد سماع أي حديث عن خادمات وما الى ذلك بعد الان ، تتكلمين كأنك تعيشين في القرن الماضي ".
اطرقت كريستينا راسها :
" انا آسفة ، ولكن وضعي يبدو غامضا جدا...".
داعبت وجنتيها بنعومة :
" هدئي من روعك ، لا داعي الى القلق وهذا الإضطراب ،والان إقرعي الجرس ولنذهب لتناول العشاء".
إلتهمت كريستينا طبقها بشهية ، رغم عواطفها المشوشة ، ومراقبة ثيو لها خلال فترة العشاء بأكملها .
ثم توجهوا الى صالون خاص تزينه الوان ذهبية وعاجية ، وإنتهزت كريستينا إنهماك ثيو وجدته في لعب الورق لتتجول في الغرفة ، وتمعن النظر في اللوحات والرسوم المزخرفة ، ومر امامها شريط من صور عائلة براندون مغرقة في القدم ، ثم لمحت لوحة زيتية خالتها بريشة الرسام الفرنسي الشهير رينوار .
إنتهت من جولتها ، فأحست بالملل الشديد ، تمنت لو تستطيع التنزه في جنائن المنزل ، لكنها عدلت عن ذلك لمعرفتها أن ثيو لن يتوانى عن رفقتها ، كانت تريد تجنب التورط في اية علاقة غرامية معه ، والأفضل ان تخرج وإياه للتفرج على المزرعة والحقول المجاورة في وضح النهار وليس تحت ستار الظلام.
همس ثيو في اذنها ، فإضطربت قليلا :
" هل تحبين الموسيقى ؟".
أجابت :
" أحبها كثيرا رغم أنني لا أجيد العزف على اية آلة ".
تقدم من خزانة أثرية ، وفتحها ، رأت آلة ستيريو ومجموعة ضخمة من الأسطوانات ، واشار عليها بإختيار ما تريد ، قائلا :
" إنها كلها موسيقى كلاسيكية للاسف ، جدتي تمقت الموسيقى الحديثة ، وإذا كنت تفضلين الموسيقى الراقصة ، يوجد ما يشبه النادي الليلي في سانت فيكتوار ، يمكننا الذهاب الى هناك ذات مساء إذا أحببت".
كانت دعوته طبيعية لا يجوز رفضها ، قررت بينها وبين نفسها ، ولم تكن مفاجاة لم تتوقعها ، فإبتسمت شاكرة .
حظ نظرها على اسطوانة تعجبها ، فطلبت منه سماعها ، وجاءت الموسيقى الناعمة لتشكل خاتمة لطيفة ليومها ، هكذا حدّثت نفسها وهي تتوجه نحو غرفتها مخلفة وراءها ثيو مكسور الخاطر.
بدت غرفتها مريحة ، مزهوة بإستقبالها ، ولاحظت ان أحدا ما أشعل المصباح بجوار سريرها ، خاطبت نفسها :
" علي الإحتراس ، وإلا وقعت ضحية هذه الحياة المرفهة ".
وهذه هي مشكلتها ، اتت الى هنا لتعمل ، وتكسب رزقها بعرق جبينها ، وها هي تكتشف شيئا آخر ، ولن ترضى بحياة كهذه تؤدي بها الى التواكل ، والتصدق والإعتماد على الغير .
اوت الى الفراش ، وظلت مسهدة لا يجد النوم الى عينيها سبيلا ، تمنت لو نفذت خطتها وقامت بنزهة قصيرة عوض الإصغاء الى الموسيقى ، إن الهواء العليل يهدىء الأعصاب ويجلب النعاس.
وبعد أن تقلبت في الفراش متململة لبعض الوقت ، نهضت من السرير ، وإرتدت معطفها ، مشت نحو النافذة وفتحت مصراعيها المطلين على الشرفة ، كان الجو منعشا الآن ، فكرت وهي تحدق الى صفاء الفضاء يتهادى فيه قمر مضيء بشعاع باهت ، تنفست بعمق وإغتباط ، بدا كل ما يحيط بها عالما جديدا لا عهد لها به.
وبينما هي غارقة في أحلامها العذبة ، لفت إنتباهها حركة مكبوتة في الأسفل ، وعرفت لتوها القامة التي خرجت من الظلال ، وسطعت تحت ضوء القمر ، رغم إختفاء البذلة السوداء والمئزر الأبيض ، والإستعاضة عنهما بلباس محكم يشد جسدها شدا ، إنها يولالي بجسدها الأهيف ، ورأتها كريستينا تدور حول بركة السباحة ، وتسرع الخطى في إتجاه شجيرات كثيفة.
عادت كريستينا الى غرفتها وخلعت معطفها ، تأكد لها ان يولالي ذاهبة للقاء أحد ما ، ولا بد أنه شخص لا يسكن في آرك إينجل.
إستلقت على فراشها يساورها الإرتياب ، إن هذا الشخص ليس سوى ديفلين براندون ، ولكن لماذا تشغل بالها به وبهذه الخادمة؟

نيو فراولة 14-02-12 08:25 PM

4-الإنتصار الكاذب

قضت كريستينا ليلة ملية بالقلق ، ونهضت في الصباح تغشى ذاكرتها أطياف احلام مرعبة ، فتحت عينيها خائرة القوى ، غير أن اشعة الشمس المنبعثة عبر الستائر أعادت اليها بعض حيويتها.
واعلن القرع الخفيف على الباب وصول يولالي تحمل طبقا من عصير الفاكهة الطازج ، وبعض الخبز والزبدة ، وأبريق قهوة حارة ، شعرت كريستينا ببعض الحرج وهي تتمدد فوق الفراش ، لم يسبق لها أن تناولت فطورها في السرير ، إلا في حالة مرضها ، وبدت يولالي مستاءة هي الأخرى ، وألقت عليها تحية الصباح بلهجة شبه عدائية.
وما ان غادرت يولالي الغرفة ، حتى ألقت كريستينا نظرة عاجلة على ساعة المنبه التي جلبتها معها من أنكلترا ، لا يزال الصباح في بدايته فقررت البقاء في غرفتها مدة ساعة أو ساعتين ، طالما أن السيدة براندون لا تحب النهوض باكرا كما علمت منها.
أنهت فطورها ، وإرتدت بنطالا ضيقا ، وقميصا قصير الأكمام ، ثم رتبت سريرها ، واسرعت بالعدو في إتجاه الحديقة عبر السلم الخلفي.
منتديات ليلاس
وقادتها قدماها الى الشجيرات الكثيفة عند أطراف الحديقة ، فلمحت دربا ترابيا يؤدي الى الشاطىء ، كان الهواء يترنح بهمهمة النحل وحشرات أخرى ،وترامى الى مسامعها همس الأمواج تداعب الشاطىء البعيد.
حثت الخطى ، متفادية الجذور الناتئة ، حانية راسها مخافة شبك شعرها في الأغصان المتدلية ، كان دربا ضيقا ، وبدت الشجيرات الكثيفة تمتد امامها مثل نفق داكن أخضر لا تخترقه أشعة الشمس.
واخيرا وصلت الى بقعة الرمال الفضية المنحدرة برشاقة نحوالمياه المزبدة ورفعت وجهها تستقبل الشمس بإمتنان ، تخال انها تقف وحيدة في عالم هجره اهله ، ولم تعد تسمع سوى تغريد عصفور مغتبط ، وصوت مياه البحر الحالم ، إنه شاطىء مثالي ، خاطبت نفسها ، ولا بد لها من إنتهاز الفرصة غدا ، فتجلب ملابس السباحة ، وتنعم بدفء الموج الهادىء ، خلعت صندلها مشت حافية الى حافة المياه فلامست قدميها بنعومة وغنج ، ثم بدأت تسير فوق الشاطىء ، والنسيم العليل يداعب شعرها ، ويبعث في شرايينها حياة جديدة ، طاردا فلول ليلتها البائسة.
وخالت انها الآن قادرة على تحمل كل المصاعب التي تواجهها في موطنها الجديد ، وحتى ثيو ستعرف كيف تتعامل معه ، مهما كانت نواياه ، علت ثغرها غبتسامة ، وهي تفكر في ثيو ، ذلك الفتى الدمث الخلاق ، المرهف الشعور ، ومع ذلك قررت انه لا يلائمها ، وتفضل ان تتزوج احدا أقرب الى مزاجها ، وتصورها لمواصفات الرجل ، رجل المستقبل ، ووجدت نفسها تفكر في ديفلين براندون ، فإعترتها مشاعر غامضة ، وكأنها ترفض إصدار حكم نهائي عليه.
كانت غارقة في أفكارها ، تشنف أذنيها بهدير الأمواج ، فلم تنتبه الى صوت إيقاع مكبوت يرتفع وراءها ، وعندما تبينته قليلا ، إحتارت في معرفة مكان إنبعاثه ، ثم ادركت بهلع أنه إيقاع حوافر حصان يعدو فوق الشاطىء ، نظرت وجلة ، ممتعضة ، تلعن حظها السيء ، وراته بقامته الطويلة يمتطي حصانا أسود اللون ضخما ، كان عاري الصدر ، داكن البشرة ، يفيض رجولة ورقة ، أين المفر الان ؟ فكرت كريستينا ، لتتوجه الى الحديقة ، فهي ملاذها الوحيد .
وأدركت انه يلاحقها عمدا ،فضاعفت من سرعتها ، زلت قدمها وإلتوت كاحلها إلتواء مؤلما دفعها الى إطلاق صرخة الم موجعة ،وتهاوت على الرمال بائسة ، تحضن جرح قدمها .
شد ديفلين براندون لجام حصانه ،وقفز برشاقة عنه ، متقدما نحوها ، وهتف :
" هل انت مجنونة ؟".
كان يتوقد غضبا ، وأدركت مدى جنونها وهي تحاول الهرب على هذا انحو ، كانت نزوة صبيانية لا يجوز أن تخضع لها بعد نضوجها ، وما هوعذرها ؟ لا شيء سوى عنادها ورفضها مواجهته ، وها هي الآن تنبطح ارضا ، وتخسر ما تبقى من كرامتها
حاولت النهوض ، فتهاوت لا تستطيع حراكا ، قرفص ديفلين براندون بجانبها ، وراح يتفحص كاحلها بأصبعه ، فاغمضت عينيها بقوة ، قالت بجفاف :
" سأكون بخير بعد برهة قصيرة".
وقف على قدميه معلنا :
" يفرحني أن اسمع رأيك الحكيم ، بدا كاحلك بالتورم كما الاحظ ، لا بد من غسله بالماء البارد وربطه ، سآخذك الى حجرة المركب لمعالجته".
أصيبت بصدمة عنيفة ، فصاحت :
" كلا ! ( ثم غيّرت لهجتها ) اعني .... أعني شكرا على مساعدتك ، ولكن سأكون بخير ، إذا ما إسترحت لبضع دقائق هنا".
إستشاط غيظا :
" يا لك من مخلوقة عنيدة ، أعرف كم يصعب عليك الإعتماد علي مرة ثانية ، ولكن لا خيار لديك ، وأعدك بالتركيز على كاحلك ولا شيء غير ذلك ، إذا كانت الشكوك تساورك ".
إنحنى ليساعدها على النهوض ، فإشتعلت حقدا ، وغرزت أسنانها في يده بسرعة البرق ، شتمها وسحب يده وقد لطختها بقع حمراء دامية ، جلست كريستينا صامتة ، متوجسة تشعر بالذنب ، نظرت اليه وكلمات الإعتذار ترتجف فوق شفتيها ، فرأته يبتسم قائلا :
" ما معنى هذا العض ،وفي ظرف غير مناسب؟".
غصت حنجرتها:
" أنت... انت...".
" أنت قليلة الحيلة ، لا بد من تلقينك بعض الدروس في مجالات كثيرة ".
وفجأة إنكب فوقها وحملها الى حصانه ، أقعدها فوق السرج ، وإمتطى الحصان وراءها.
قطعا مسافة قصيرة ، خالتها كريستينا أميالا تنلوها أميال ، يا لها من لحظات حرجة ، إنعقد خلالها لسانها ، وهي تعارك أحاسيسها الغريبة ، تجمدت فوق ظهر الحصان ، لا تجرؤ على الإتيان بأية حركة ، شاعرة بوجوده وراءها ، وكأنه لا يبالي بما يدور في داخلها من صراع رهيب ، لا شك انه رجل جذاب ، وتدرك ذلك من اعماق قلبها ، لكنها لن تفصح بأي شيء ، لا ، لن تخضع لسحره ، لن تبوح بعواطفها المتأججة .

نيو فراولة 14-02-12 08:26 PM

تمهل الحصان قليلا ، ووقع نظرها على مركب فخم يتهادى قرب الشاطىء ، وقرات إسمه المطلي بإتقان : عذراء القمر .
لم تكن معتادة على إمتطاء الأحصنة ، فأحست بالإعياء ، وظل كاحلها يؤلمها بشدة ، حمدت الله عندما ترجّل ديفلين ، وانزلها عن السرج ، وبدأ الحصان يعدو مبتعدا عن الشاطىء ، سالته:
" لماذا فعلت هذا؟".
قال :
" إن الإسطبل في آرك إينجل ،وهو يعرف طريق العودة ، مارك سيهتم به".
لم تصدقه ، إنه لا يسكن آرك إينجل ، ورأت كوخا صغيرا قرب تلة رملية ، ترى هل يعيش في هذا المكان ؟ سألت نفسها ، حاولت أن تمشي ، فأخفقت إخفاقا مذلا ، حملها بين ذراعيه ، وأخذ يصعد بها السلم الخشبي ، دخل غرفة كبيرة مبعثرة الأثاث ، تغطي أرضها بطانيات مزخرفة الألوان ، ورأت في الزاوية مقعدا خشبيا تتكوم فوقه قطع من القماش تستر شيئا ضخما تحتها.
وفتح بابا داخليا ، فوجدت نفسها في غرفة النوم ، حيث القى بها فوق السرير .
توارى عن نظرها ، فعرفت أنه يجلب بعض الماء وضمادة ، عاد يحمل إبريقا وصندوق إسعاف أولي ، وقال آمرا:
" إرفعي أطراف بنطالك الى أعلى ، هيا ، وإلا طويتها أنا ".
فاذعنت لأوامره صامتة ، وأخذت تراقبه بحذر وهو يلعب دور المرض والطبيب ، خف الألم الموجع وقد لف كاحلها ضماد متين ، قالت:
" شكرا".
إبتسم بعذوبة :
" حاولي الوقوف الآن ".
وأمسك بيديها ، فتجالدت ، ولمست الأرض بخفة ، وقفت منتصبة رغم شعورها ببعض الوجع وتمتمت:
" إنني بخير الآن ، عليّ الإنصراف".
اشار نحو الباب :
" كما ترغبين ، ولكن القهوة جاهزة ، ألا تريدين شيئا حارا؟".
" شكرا ، من الأفضل أن أذهب ، ستفتقدني السيدة براندون ".
ألقى نظرة سريعة على ساعته:
" في هذا الوقت ؟ما بالك ، هل تخافين مني؟".
توردت وجنتاها :
" ما الذي تعنيه ؟ لم يخطر ...".
قال يلتهمها بعينيه:
" يوجد مشط في الدرج ، انصحك بالإعتناء بهندامك ، سأتدبر امر القهوة ، إنضمي الي ساعة تشائين".
إستدار وخرج ، يا له من وغد! خاطبت كريستينا نفسها ، ما الذي يكيده لها؟ يا ليتها لم تخرج الى الشاطىء ، إنها الان أسيرة نزواته الشريرة ، كان العرّاف على حق ، إنه إبليس بعينه ، إبليس الذي يعذّبها بأساليب ملتوية ، ويهزأ منها كلما حاولت مقاومته.
منتديات ليلاس
وقفت أمام المرآة تسرح شعرها ، وتفكر في وضعها ، قررت أن تحتسي القهوة ، فتهدا أعصابها قليلا ، وتتمكن من التفكير بوضوح أكثر ، توجهت الى غرفة الجلوس ، كان ديفلين يجلس في الزاوية يحمل إبريقا وبعض الأكواب ، إستنشقت نكهة القهوة وكأنها فخ لإصطيادها ، فجلست على طرف المقعد ، متمنية أن يظل بعيدا عنها ، وبدا للوهلة الأولى منهمكا في إحتساء القهوة ، فإطمأنت.
أخذت تتمعن في الغرفة عن كثب ، رأت صفا من البنادق قرب الجدار المجاور لها ، وبعض أدوات صيد السمك ... كان كل شيء يدل على مكان لا أثر لذوق النساء فيه.
تنحنحت:
" هل تعيش هنا منذ مدة طويلة؟".
" منذ اربع سنوات ، منذ وفاة أهلي".
حملقت فيه كريستينا مذهولة ، غاب عنها للوهلة الأولى انه إبن مادلين ، شقيقة السيدة براندون ، تألمت لحاله بدون أي مبرر ، سالته بعفوية:
" وتسكن هنا وحدك؟".
قال بخفة :
" يا له من سؤال ! لا تتوقعي مني أي جواب".
وتابع ، وهي تشعر بالإحراج:
" علاوة على ذلك ، لا شك أن عمتي قد المحت امامك الى حياتي الصاخبة ، وأعتقد أن هذا هو سبب هربك مني على الشاطىء".
رمت بشعرها الى الوراء:
" لم أهرب منك ، كنت اتمتع بالعزلة ، ولم ارغب في رؤية أحد".
قهقه عاليا:
" إنه تصرف لا يليق بسكرتيرة ، إذا كنت ستمارسين أي عمل ".
فغرت فاها:
" ماذا تقصد ؟ ألا تصدق أنني سكرتيرة".
إستطرد هازئا :
" لا أظن ، لأنني أعرف عمتي جيدا ، إنها إنسانة ذات شخصية مستقلة وطاغية ، ولم يسبق لها أن إحتاجت الى مساعدة أحد".
وضعت كريستينا كوبها على الطاولة الصغيرة ، وشبكت اصابعها مضطربة:
" يبدو لي ان خلافا ما نشأ بينك وبينها ، لا أعرف ما هو ، ولا علاقة لي بذلك ، لكنها ربة عملي ، وعاملتني بكل لياقة ، واشعر ببعض الولاء لها ، ربما كنت على حق ، فهي لا تحتاج الى سكرتيرة ، ولم تعرض علي العمل إلا حرصا على كرامتي ، وحفاظا على صداقة قديمة ...".
توقفت عن الكلام ، وهو يحدق فيها وكأنها مجنونة ، قال متجهم الوجه:
" ما هذا ؟ ما هي هذه الصداقة القديمة؟".
بلعت ريقها قائلة :
" كنت أعيش مع عمتي ، عرابتي الآنسة غرانثم غريس ، توفاها الله منذ بضعة أسابيع ، ولكنها كتبت الى السيدة براندون قبل وفاتها ، وأعتقد أنها طلبت منها الإعتناء بي ، ومن هنا عرضت العمل عليّ والبقاء في هذا المكان".
بدا وكأنه لم يسمع كلمة قالتها:
" ولكن أنصحك بالعودة الى أنكلترا ، وهذه نصيحة صديق".
تفجرت غضبا :
" لا أحتاج الى نصيحتك او نصيحة أي إنسان ، ولا يمكنني العودة الى أنكلترا الآن بدون أي دراهم".
قال بهدوء:
" يا لها من ورطة ! ".
ردت بكبرياء :
" إنها ورطتي أنا ، أعرف أن الوضع صعب ، ولكن علي تلبية رغبات السيدة براندون".
قال مهددا :
" إذن إبقي عند عمتي ، وتحملي وضعك ، ولكن إياك ان تركضي الي مولولة عندما تسوء الأحوال".

نيو فراولة 14-02-12 08:28 PM

وقفت متثاقلة على قدميها ، وقالت بصوت مرتجف:
" انت آخر من أفكر في اللجوء اليه يا سيد براندون ، آسفة لإزعاجك في الماضي ، لن ترى وجهي بعد اليوم".
مشت نحو الباب ، فأحست بيديه تمسكانها بفظاظة ، ثم أرخى أصابعه قليلا ، وإلتصق بها ، فطنت بغريزة الأنثى الى ما يبيته لها ، عاركته تريد التملص بدون جدوى.
لم تنبس ببنت شفة ، كأن خدرا اصابها فإستسلمت لعناقه ، يا لها من لحظة مشحونة بالمشاعر الدفينة ، لم تعد تدري معنى أي شيء ، ما الذي دهاها ؟ كيف تدعه يقترب منها هكذا ؟ برهة غامضة مغلقة بالأسرار ، ثم سمعته يهمس في أذنها :
" لماذا لا تعضين الآن ؟".
إستعادت صوابها ، وصرخت مبتعدة عنه ، والخجل يغمرها :
" يا لك من وغد ، أيها الإبليس اللعين ! ".
واطلقت ساقيها للريح ، تعدو هاربة رغم آلام قدمها.
كانت تعرج ، وتتلوى ألما عندما بلغت سلم الحديقة المؤدي الى شرفتها ، ولم تعثر على صندلها الذي خلفته وراءها قرب الشاطىء ، فصعدت حافية القدمين ، شعرت بنعومة السجادة وهي تدخل غرفتها ، وإرتمت فوق السرير.
يا لها من تجربة مرة ! إستلقت منهكة ، لا تجد تفسيرا لمغامرة طفولية تخوضها مع رجل يحتقرها ، تمنت لو نشق الأرض وتبتلعها.
رن جرس الهاتف يزعق زعقا ، رفعت السماعة:
" الو".
وهدر صوت السيدة براندون :
" كريستينا ؟هذه ثالث مرة اتصل بك ، اين كنت؟".
إستوت كريستينا ترفع عن وجهها شعرها المشعث :
" ذهبت في نزهة قصيرة ، انا آسفة ، هل كنت تريدين شيئا ؟".
" تعالي الى غرفتي فورا".
وأقفلت العجوز السماعة بعنف.
بدّلت كريستينا ملابسها بسرعة لتخفي آثار نزهتها المشؤومة ، وسرحت شعرها وخرجت.
كانت السيدة براندون تجلس على مقعدها الوثير ، تطرز قطعة من القماش ، نظرت الى كريستينا تحدجها بإستهجان ، ثم رأت ضمادة كاحلها ، فهتفت:
" جرحت قدمك يا إبنتي ! ".
" كنت على الشاطىء ، وفتلت كاحلي".
ركّزت العجوز نظرها على الضمادة :
" هكذا إذن ، ولديك خبرة في تضميد الجروح والإسعاف الأولي؟".
تلعثمت كريستينا :
"كلا، إلتقيت ... إلتقيت بإبن أختك على الشاطىء ، وتفضل بمساعدتي".
أجابت السيدة براندون بهدوء:
" صحيح ؟ يا لها من بادرة كريمة ، وليست هذه المرة الأولى ، أخبرني ثيو أنك إلتقيت ديفلين في المارتينيك ؟".
قالت كريستينا بحياء شديد :
" نعم ، ولكنني لم أكن أعرف من هو آنذاك بطبيعة الحال".
صمتت السيدة براندون برهة ثم قالت :
" إنني في موقف صعب يا كريستينا ، أشعر أنني مسؤولة عنك تماما مثل عرابتك ، وعلي تحذيرك من ديفلين ، لم يكن يصغي إلا الى والدته ، وما أن رحلت عن هذا العالم حتى تحول الى شخص حاد الطباع ، لا يهمه رأي أحد".
وتابعت السيدة براندون ، وكريستينا كلها آذان صاغية:
" لم يعد يبالي بالعائلة وسمعتها ، وهكذا هجر هذا المنزل وقطن في ذلك الكوخ على الشاطىء ، وتخلى عن مسؤوليته إتجاه المزرعة ، وهو الآن يعيل نفسه من دخل الثروة المالية التي ورثها عن أهله ، ويحصل رزقه عبر حفر التماثيل الخشبية".
كان صوتها جليديا ، مفعما بالإزدراء ، وعاد بكريستينا الخيال الى ذلك المقعد الخشبي الذي لمحته في غرفة الكوخ ، سألت العجوز بعفوية :
" هل يجيد حفر الخشب؟".
حدّجتها السيدة براندون بغطرسة:
" ما اهمية ذلك ؟إنه يجد دائما زبائن لشراء بضاعته ، ولكن عمله لا يليق بمن ينتسب الى عائلة براندون ، إن واجبه أن يكون هنا ، يساعدني على إعداد ثيو من أجل ميراثه".
إستفهمت كريستينا:
" ما الذي تعنيه؟".
تأوهت السيدة براندون ثانية :
" إن المسألة في غاية البساطة ، كان زوجي واخوه توأمين ، وولد زوجي قبله بنصف ساعة ، ولذلك ورث المزرعة عندما توفي والده ، وأصبح هو وأخوه كاري شريكين يديران المزرعة سوية ، وفي غضون ذلك إلتقى كاري بأختي مادلين وتزوجها بعد عام ، عشنا هنا جميعا حياة سعيد في البداية ، ثم بدأت المصاعب ".
قالت كريستينا شاعرة بالحرج الشديد:
" هل من الضروري إخباري كل هذا يا سيدة ؟ إنها مسألة لا تعنيني ، و....".
إستأنفت السيدة براندون التطريز:
" نعم ، من الضروري إخبارك ، أنت الان واحدة من العائلة يا عزيزتي ، لا بد أن تفهمي سبب كره ديفلين لنا جميعا ( وتناولت مقص الخياطة ) عندما ولدته اختي ، طارا فرحا ، هي وزوجها ، واخذا يدللانه الى أن فسدت طباعه ، وتوهم ديفلين نتيجة الشراكة بين والده وزوجي ، أن له حقا في الوراثة ، وعندما أطلعناه على حقيقة الأمر ، وفهم أن ثيو سيكون الوريث الوحيد ، جن جنونه ، وجاراه في آرائه والداه ، وأخذوا يصرفون اوقاتهم في السفر ، والرحلات ، والإبحار في المركب ، وكان ثيو في ذلك الحين لا يزال صبيا غيرا ( وتنهدت متابعة ) واثناء إحدى تلك الرحلات البحرية هبت عاصفة هوجاء ، وغرق المركب بمادلين وكاري موديا بحياتهما ".
صمتت قليلا ، تتفرس في وجه كريستينا ، ثم إستطردت :
" ومرة ثانية جن جنون ديفلين ، إتهمنا بشتى التهم ، وأمعن في تهمه وشتائمه ، الى ان علا صراخنا بالشجار والكلام القاسي ، فقرر الرحيل ، بعد مرور عامين أصيب زوجي بمرض عضال ، فطلب رؤية ديفلين ، وتمنيت عليه من كل قلبي أن نتوصل الى تفاهم ما ، ولكنه أصر على موقفه أثناء تأبين زوجي ، ومنذ ذلك الوقت وهو يعمل ضدنا ويكن لنا العداء! ".
دهشت كريستينا لهذه العبارات فغامرت بسؤالها:
" وباي أسلوب؟".
أبدت السيدة براندون تأففها :
" ذهب ليدرس في الجامعة وتشرّب بعض الأفكار الغريبة ، وعندما عاد بدأ ينتقد طريقة العمل في المزرعة ، وكيفية إقتصارنا على زراعة السكر دون سواه أدّعى ان مصاعب جزر الهند الغريبة ، وخاصة الإقتصادية منها ، سببها هذه الزراعة الأحادية ، كان يريدنا تنويع المحاصيل ، وزراعة الحبوب الغذائية ، وبالطبع رفضنا آراءه المعوجة ، وما لبث ان جمع حوله بعض الأشخاص الذين يشاطرونه نظريته ،وهم الان يدعون انفسهم : لجنة الجزيرة".
تململت في مقعدها ، وعلت وجهها مسحة من القلق ، ثم تابعت:
" إنني أخبرك كل ذلك يا إبنتي لتاخذي حذرك ، أنت غريبة هنا ، ولن يتردد ديفلين عن إستغلالك خدمة لمآربه الخاصة ، حاولي تجنبه ، ولن يصعب عليك ذلك ، فهو قلما يزورنا ".
هزت كريستينا براسها صامتة ، إنها نصيحة من السهل تنفيذها ، خاطبت نفسها.
وقضت ساعة من الزمن تملي عليها السيدة براندون بعض مراسلاتها ، وكانت في معظمها تافهة المضمون ، كما إكتشفت ، تدور حول أعمال خيرية ، أو تلبية دعوات إجتماعية ، وهذا كل شيء ، من الواضح أن السيدة براندون لا تحتاج الى سكرتيرة ، ولن تجد عملا يشغلها طوال النهار ، فكرت كريستينا.
جلست في المكتبة تطبع الرسائل على الآلة الكاتبة ، راحت تستعيد آراء ديفلين حول شؤون المزرعة ، والمصاعب الإقتصادية في جزر الهند الغربية ، وجدت نفسها توافق على ما ذهب اليه ، ومع أنها لم تكن خبيرة إقتصادية ، تذكرت مقالا قراته في إحدى المجلات يناقش هذه النقطة ، ومن زاوية مشابهة .
أنهت الطباعة ، وهمت بالصعود الى الطابق الأعلى لتطلب من السيدة براندون توقيع الرسائل ، لكنها ظلت مسمّرة على الكرسي ، تغرق في لجة من القلق والإضطراب.
ماذا تفعل ؟سالت نفسها هل تعود الى انكلترا... وكيف؟ لا يمكنها البقاء في منزل مغلف بالأسرار ، ويقطنه أناس غريبو الأطوار ، وماذا عن ديفلين براندون ؟ إن مشاعرها إزاءه مشوشة ، ومتناقضة ، إنه الشيطان بعينه ، شيطان عرف كيف يدبر لها مكيدة تلو الأخرى ، عانقها حتى خال انها إستسلمت له بكل جوارجها ، يا لبؤسها !
تلك كانت غلطة مشؤومة ، لن تكررها أبدا ، قررت ان تستمر في العمل في ذلك المنزل مهما كانت العراقيل ، وفجأة غمرتها نشوة إنتصار ممزوج بالكبة.
وبعد مرور ساعات طويلة ، تحولت النشوة الى كآبة قاتمة ، وكأنه كان إنتصارا كاذبا.

نيو فراولة 14-02-12 08:29 PM

5- رقصة وحيدة

ومر الأسبوع التالي على نحو عادي رتيب ، كانت كريستينا تتناول الفطور في غرفتها ، ثم تذهب للتنزه الى أن تستدعيها السيدة براندون ، ولكنها لم تغامر خارج الأرض المحيطة بالمنزل ، متجنبة الشاطىء رغم ولعها به.
لم يات ديفلين للزيارة ، وتفادى الجميع ذكر إسمه ، أما السيدة براندون فأحجمت عن إضافة أي جديد حول تاريخ العائلة وخلافاتها ، وكأنها ندمت على ما تفوهت به ، وظلت كريستينا تبحث عن أجوبة لمسائل تقلقها ، أدركت أن السيدة براندون تغاضت عن ذكر أي شيء يتعلق بإبنها ، والد ثيو ، وإحتارت لماذا تعمدت العجوز تجاوز هذه النقطة الهامة.
وطافت كريستينا غرف المنزل المتعددة ، تتمعن في صور عائلة براندون ، لم تعثر على أي أثر لصورة إبن تشارلز ومارسيل براندون.
إزداد فضولها ، لكنها قررت كبت دوافعها ، تعرضت العائلة في الماضي القريب لمأساة مؤسفة ذهب ضحيتها كل من كاري ومادلين ، ربما حدثت مأساة أخرى أكثر إيلاما لا يأتي أحد على ذكرها ، وصممت كريستينا أن لا تنكأ الجراح ، ولن تعدم وسيلة الى ذلك.
ثم بدأت التطورات تتوالى...
منتديات ليلاس
أخذت ، بدون إرادة منها ، تلتقي بثيو أكثر فأكثر ، ولاحظت أنه يندفع الى تعزيز صداقتهما ، تشجعه موافقة جدته على هذه الخطوة ، رفضت كريستينا دعواته لركوب الخيل ، والسباحة قرب الشاطىء يقع على الطرف الاخر من الجزيرة ، وذلك بحجة وجع كاحلها ، ولكن هذه الأعذار لم تمنعه من الإنضمام اليها ساعة تنزهها في الحديقة بعد العشاء ، وإطمانت الى رفقته وهي تلاحظ إقتصار أحاديثهما على المواضيع العامة ، وبعض المداعبات الكلامية البريئة .
وإكتشفت أنها ما ان تهم بالإسترخاء قرب حوض السباحة ، لتتمتع بأشعة الشمس حتى كان ثيو يهرع الى جانبها ، فاجأها هذا التصرف ، وكان دائم الشكوى حول المزرعة والعاملين فيها ، وخاصة المشرف الذي يقطن مع زوجته في كوخ ريفي وسط المزرعة.
وهي لا تزال تحفظ إسم المشرف العام كلايف مينارد حيث إلتقت به وبعائلته أثناء جولة في المزرعة قامت بها بصحبة ثيو ، وتذكر لهفة السيد مينارد في الإجابة على كل اسئلتها ، وكيف أصر على تقديم طعام الغداء لهما في كوخه ، وإسترسلت في الحديث مع زوجته لورنا مينارد التي طهت طبقا شهيا من الدجاج والأرز ، لكن ثيو ظل يتأفف مبديا تبرمه ، وأنقذ الموقف إعلان كلايف عن إضطراره للعودة الى العمل ، فإنفض شمل الجميع.
وتذكر ايضا مدى إستياء ثيو عندما لامته على تصرفه وهما في طريق العودة حيث قال ببرودة:
" إن كلايف إداري كفؤ وينال مرتبا عاليا ، ولا أجد أية ضرورة لعقد أواصر الصداقة بينا".
تفرست كريستينا في وجهه معلنة :
" وأنا موظفة كذلك ، ولكنك لا تعاملني بالأسلوب نفسه ".
إبتسم ثيو قائلا:
" انت من نوع آخر يا عزيزتي".
بدا جوابه غامضا ، فلزمت كريستينا الصمت واجمة.
وكم كان سرورها عظيما عندما دعاها لتناول العشاء معه في أحد المطاعم ، وإعتذرت بحجة إنهماكها في كتابة بعض الرسائل ، وبررت رفضها فيما بعد بان عمدت الى كتابة رسالة الى السيد فريث ، كتبت رسالة طويلة ، وهي تجلس في غرفتها .وصت له المنزل وشرحت معنى إسمه ، وروت له ما تعرفه عن تاريخ العائلة ، وتعمدت تحرير رسالة خفيفة مسلية ، مشدّدة على النواحي السارّة من حياتها في سالث فيكتوار ، كانت تريد إدخال الطمانينة الى قلب السيد فريث ، وتبديد أي مخاوف قد تساوره حول عملها الجديد.
لكن ثيو لم يعتبر رفضها للدعوة أكثر من خيبة أمل عابرة ، وإنتهز فرصة وجود جدته ليسألها ثانية ، ولم تجد مهربا من إبداء موافقتها وهي ترى السيدة براندون منفرجة الأسارير تبدي تاييدها لأقتراح حفيدها.
ومضت الى غرفتها لتبديل ملابسها ، قررت إرتداء فستان سهرة بالغ البساطة ، ووضعت بعض المساحيق على وجهها .
وعندما همّت بهبوط السلم ، رات ثيو يقف مزهوا ببذلة جديدة في البهو ، ولاح لها شابا ناضجا لأول مرة ، تقدم صوبها ، متناولا يدها ، وعم بتقبيل كفها ، هاتفا:
" يا للجمال الساحر ! ".
سحبت يدها على عجل ، مضطربة البال ، ثم لاحظت أن السيدة براندن تقف امام باب الصالون تراقبهما بشغف ، وما لبثت ان تمنت لهما سهرة ممتعة ، وناشدت ثيو لقيادة السيارة بحذر ، وعدم التاخر كثيرا ، ومضت في سبيلها.
قال ثيو وهو يفتح باب السيارة المكشوفة :
" سنتناول العشاء في فندق مونت فورت ، ثم نذهب بعد ذلك الى ناد ليلي ".
إسترخت كريستينا في مقعدها الوثير المبطن :
" إنها فكرة رائعة ".
وإنطلقت بهما السيارة تنهب الأرض نهبا ، متوجهة الى سانت فيكتوار ، بدت الطريق هذه المرة أقل إزعاجا ، رغم حفرها الكثيرة ، ومنعطفاتها الحادة.
ولمحت كريستينا من نافذتها صخرة شاهقة ، تنحدر صوب البحر ، وتمر الطريق عبرها على نحو منذر بالخطر ، حبست انفاسها ، واشاحت بنظرها متمنية أن يكون ثيو سائقا ماهرا ، كما كان يتبجح أمامها.
إنفرجت اساريرها وهي ترى في البعيد اضواء المدينة الخافتة ، وسمعت ثيو يعلن:
" إنه موسم السياحة الان ، نحن لا نشجع السياح على المجيء ، ولكن صاحب الفندق بليرز ، وإبن عمي ديفلين ، وشلته يجنون أرباحا طائلة من هذا النشاط".
علّقت كريستينا بحذر :
" إن السياحة تجارة مربحة".
وإبتسم معتدا :
" لولا معارضتنا لكانوا سيطروا على المزرعة ، وحوّلوها الى حدائق للتسلية ، إننا في الواقع نملك معظم الأراضي هنا ، ونسيطر على كافة الأمور".
إلتزمت كريستينا بالصمت ، فكرت أن التمتع بالسلطة وقوتها تجربة مقلقة ، تنذر بعواقب لا طائل تحتها ، وهالها أن تنتمي الى مجموعة تحوز هذه المواصفات ، وداعبها بعض الإعتزاز في آن معا.

نيو فراولة 14-02-12 08:30 PM

ولمست معنى هذه السلطة وهما يتناولان العشاء ، كان الطعام شهيا ، فاخرا ، ووجدت نفسها تحيطها هالة من الإحترام والتبجيل وكأنها إحد الأميرات ، وراحت تراقب ثيو بحرج شديد وهو يلقي الأوامر يمينا وشمالا ، ويرفض هذا الطبق ، أوذاك ، مؤنبا النادل بأسلوب مهين.
كادت تختلق عذرا واهيا لأنقاذ نفسها من هذه الأجواء الخانقة.
لماذا لا تدّعي أنها تعاني من صداع رهيب وتفر من ثيو وغطرسته وإستبداده ؟
وما أن فتحت فمها حتى إنبرى ثيو بالإحتجاج ، والرفض القاطع لأي عذر من أعذارها ، إقترح عليها أن يسيرا على الأقدام الى النادي الليلي ، وتنشق بعض الهواء العليل لتبديد صداعها ، واظب على إلحاحه الى أن رضخت للأمر الواقع.
دخلا النادي الليلي فوجدته مزدحما بالسياح ، ورغم إعتراض عائلة براندون ، إنتهزت هذه الفرصة الذهبية لتعلن:
" يبدو اننا لن نجد مكانا".
تجاهلها ، ونادى أحد الموظفين بإشارة من يده ، وبسرعة عجيبة وجدت نفسها أمام طاولة معدة سلفا ، تزينها الشموع وباقة من الزهور ، قالت كريستينا وهي تجلس على كرسيها :
" إنهم يعاملونك كأنك الحاكم المطلق".
رد بفتور :
" إنه تصرف طبيعي ، ستعتادين عليه ".
جلب النادل بعض المرطبات ، إحتست عصير الأناناس لتروي ظمأها ، مجيلة الطرف فيما حولها ، لاحظت انهما محط الأنظار ، وترامت الى أذنيها موسيقى صاخبة ، تتماوج بين الجدران كتدفق شلالات المياه في كهف عميق ، همس ثيو :
" هل ترقصين ؟".
" بعد هنيهة.
كانت الموسيقى تصدح بانغام سحرية ، ووجدت نفسها تتابع إيقاعها وهي تنقر الأرض بقدميها ، ومع ذلك ، لم تكن ترغب في الرقص ، تصورت منظر إندفاع الناس لإخلاء فسحة مريحة أمام ثيو ، وتخيلت نفسها وسط حلقة الراقصين والراقصات ، والكل يحدجها بنظرات إستغراب وتعجب ، لا ، لن تشترك في هذه المسرحية ، خاطبت نفسها.
أخذ ثيو يتلفت حوله ، متسائلا بصوت مرتفع:
" لا أدري من أين جاء كل هؤلاء الناس ، سيصبح هذا النادي مكانا لا يطاق إذا إستمر الوضع هكذا ! ".
وسمعته يهتف فجأة ، كأنه لمح وجها اليفا ، نهض ببطء وإمتعاض ظاهر ، قال يخفي دهشته:
" يا له من عالم صغير ! ".
رد ديفلين براندون :
" إنها جزيرة صغيرة جدا".
جلب نادل كرسيا جلس عليه ديفلين بدون إستئذان ، احست كاريسا بغثيان في أمعائها ، حدّجها ، ولوى فمه بإبتسامة باهتة.
أما ثيو فكان يتلظى غيظا ، وغمغم :
" لم اكن أتوقع رؤيتك هنا هذا المساء".
رد ديفلين بفتور :
" طبعا ، ولكن أحب أن أرعى إستثماراتي بدقة".
إمتعض ثيو:
" إن جدتي على حق ، لقد قالت لي أنك تستثمر أموالك بالتعاون مع بليز وفرمبتون ، إن تصرفك يعد خيانة لأسم العائلة".
أخرج ديفلين علبة فضية من جيبه وأشعل سيكارة ، ونفث قائلا :
" لا يحق لك يا عزيزي ثيو التعليق على أمور كهذه".
كانا يتحدثان بالغاز غامضة ، فات كريستينا معناها ، قاطعت هذه المهاترة ، أوهكذا خيل اليها:
" من فضلكما ، رجاء ليس هنا امام الناس".
نظر اليها ديفلين بإستخفاف:
" لا تشغلي بالك ، سنعلن في العام المقبل عن كل خلافات عائلة براندون ، وباسلوب يجذب المزيد من السياح ، أما أنت يا عزيزتي كريستينا فستكونين ضحية بريئة".
يا له من كابوس رهيب ، فكرت كريستينا ، ألم يكن من الأفضل لها الإكتفاء بالتنزه في الحديقة؟ ها هي تتورط أكثر فأكثر ، ولن يتورع ديفلين ، هذا الإبليس اللعين، عن كشف قصتها كاملة عندما عادت معه الى كوخه الحقير ، وفجاة رجع النادل ينحني قائلا:
" مطلوب على الهاتف سيد براندون".
تنفست الصعداء ، ثم خابت آمالها ، كان النادل يخاطب ثيو وليس ديفلين ، وحملق ثيو في النادل متعجبا:
" أنا؟ ولكن من يريدني؟".
ووقف على قدميه ، ومشى وراء النادل.
جلست كريستينا صامتة ، متمنية لو أن ديفلين يتركها ويعود من حيث اتى ، كان وجوده قربها ، لا يفصل بينهما سوى طاولة صغيرة ، مقلقا ، يثير في نفسها مشاعر غريبة لا تدري كيف إنتابتها ، قررت الإعتصام بالصمت وتجاهله.
قال كأنه يقرأ أفكارها:
" إنها خطة فاشلة ( وشدّها من معصمها ) تعالي نرقص".
إشتعلت وجنتاها خجلا:
" لا ، إليك عني".
تابع بإصرار :
" إما ان نرقص اونتصايح أمام الناس ، وإياك التعلل بكاحلك ، إنك معافاة تماما ، وتعرفين ذلك جيدا".
رضخت بإمتعاض ، وقادها الى حلبة الرقص ، حاولت الإحتفاظ بمسافة بينهما ، وهو يلفها بذراعيه ، أحست به يشدها نحوه ، فإستكانت كان قوة سحرية تجذبها ، ما هوسر هذا الرجل؟ سألت نفسها ، وكيف تسمح لعواطفها بالإستسلام له ، وهي تعرف مدى خبثه ، وكره عائلة براندون له؟
تمعن في وجهها لحظة ، ثم سالها:
" متى سيطلب ثيو يدك؟".
حبست انفاسها :
" ماذا تقول ؟ هل تريد الإيقاع بيني وبين ثيو؟".
إستطرد مازحا:
" لا تتظاهري بالغباء ، ما معنى وجودكما هنا الليلة ؟ ولماذا أتيت من أنكلترا في المقام الأول؟".
إزداد صخب الموسيقى ، وافلتت من ذراعيه ، ظلت تدور حوله وكأنها تغرق في حفرة رمال لا قرار لها.
الحّ بصوت أجش:
" أريد جوابا ، اليس صحيحا ما اقول؟".
تنهدت مرتاعة:

" كلا ، لقد شرحت لك سبب مجيئي الى سانت فيكتوار ، لماذا لا تصدقني ؟ انا... أنا لم أكن اعلم بوجود ثيو حتى وصلت الى آرك إينجل ، وهو ليس خطيبي ، فانا بالكاد أعرفه".

نيو فراولة 14-02-12 08:31 PM

بدت عيناه كالجليد:
" أنا لم اكن اتحدث عن الحب ،ومدى معرفتك له مسالة لا أهمية لها ، ألم تذكري لي بنفسك أنك مدقعة لا تملكين درهما ، وربما كنت تبحثين عن زوج ثري مثل ثيو".
كادت أن تلطمه بجماع قبضتها ، ولكنها إرتات إقحامه بأسلوب آخر :
" هل تعتقد أنني معروضة للبيع؟".
خرجت الكلمات من فمها حادة ، تقطر المرارة منها ، وعجبت لقلقها الزائد وأهتمامها بآراء ديفلين ، وكيفية إعتباره لها .
هز كتفيه، ممعنا في سخرية لاذعة:
" إن عمتي هي التي تقرر ذلك ،ولا أعتقد أنها أتت بك الى هنا بدون ان تتأكد من إتمام الصفقة".
تجهم وجهها:
" أنت مخطىء ، ولكن لا الومك على إساءة فهمي ، لقد أخبرتني عمتك عن مدى خيبة آمالك لحرمانك من الأرث ، واستطيع ان اتصور لماذا لا تريد أن أعقد قراني على ثيو ، ولكن ما لا أفهمه هو إعتبارك إياي كجزء من مؤامرة دنيئة لتجريدك من أي حق لك في آرك إينجل".
قال:
" انا أبرئك من التورط في أي مؤامرة دنيئة ، إن المؤامرات بدأت منذ سنوات عديدة ، وقبل ان تدري عمتي بوجودك ، ولكن هذا لن يغير شيئا ، إذا كنت تؤمنين فعلا بكل كلمة تقولينها ، فستغادرين هذا المكان ، وتعودين الى انكلترا باسرع وقت".
توقف عزف الموسيقى ، وتفرق الجميع عائدين الى طاولاتهم ، إستدارت كريستينا تهم بالذهاب ، مرددة :
" سبق أن قلت لك أنه يستحيل علي الرجوع ، والان ارجوك أن تدعني وشأني".
شدّها من يدها :
" تريدين مني ان اتركك وشأنك مع ثيو ! ".
شمخت بأنفها :
" نعم ، إذا كنت تعتقد ذلك".
وسحبت يدها بعنف ، وسارت متثاقلة نحو طاولتها .
كانت أعصابها كالوتر المشدود ، يا لها من مهزلة ! فكرت والندامة تعضّها ، لقد نجحت في إغضاب ديفلين ، ولا شك أن ثيو ينتظرها غاضبا هو الاخر.
ولكنها أخطات التقدير ، رأت ثيو يجلس مبتسما ، بادي الإرتياح إثنى عليها قائلا :
" إنك تجيدين الرقص تماما ( ثم تفرّس في ملامحها ) هل أنت بخير ؟ يبدو عليك الشحوب".
وإغتنمت كلماته قائلة :
" إنني أعاني من صداع حاد ".
" لا تقلقي ، هيا بنا ، آن لنا أن نعود قبل أن ينفد صبر جدتي".
فوجئت كريستينا برباطة جأشه ،ودماثة اخلاقه وهو يمضي بها الى الخارج ، ربما أدرك خطة ديفلين لإستفزازه ، فأحبط مساعيه ، فكرت كريستينا أن ثيو أنضج عقلا مما كانت تظن.
إستلقت فوق مقعد السيارة ، وأسندت راسها الى الوراء ، مصممة على إلتزام الصمت المطبق ، وكأنها تعاني فعلا من ذلك الصداع ، وغرقت في تفكير عميق بينما كان ثيو يركز أنظاره على الطريق الملتوية.
إستعادت كلمات ديفلين براندون ، هل تصدق آراءه؟ حدّثها بمنتهى الجدية وكأن زواجها من ثيو قدر لا يرد ! مع ذلك ، إنه شخص يعاني من المرارة ، ويكن حقدا شديدا لعمته وحفيدها ، وكل عائلة براندون ، إذن ما يقوله ليس أكثر من تنفيس لأحقاده الدفينة ، ومجرد وهم من الأوهام.
إنعطفت السيارة مخلفة وراءها تلك الصخرة الشاهقة التي أرعبتها ، أغمضت كريستينا عينيها ، وتابعت أفكارها ، قررت أن ديفلين مجرد إنسان خسيس ، لن تسمح له بالإقتراب منها بعد الان ، وستطرد شبحه من ذهنها ، وتنساه ، وتدفن ذكراه في طيّات المجهول.
احست بالإعياء الشديد عندما توقفت السيارة أمام المنزل ، تمنت لو تتوجه توا الى غرفتها ، وتوصد الباب وراءها ، لكن أمانيها ذهبت أدراج الرياح.
كان ثيو يلح عليها للإستراحة قليلا في الصالون ، وإحتساء بعض القهوة ، ويعلن لها ان السيدة كريستوف ستجلب لها مسكنا يزيل صداعها ، أذعنت لرأيه ، بعد أن أبدت إعتراضا غير مقنع ، لم تعجبها فكرة خلوتها مع ثيومجددا ،وتنفست الصعداء عندما رات السيدة براندون لا تزال مستيقظة ، تجلس تنتظرهما.
جلس ثيو بجانب جدته ، مقبلا يدها ، ثم إنطلق يروي لها أحداث الليلة وعلى نحو لا تذكر منه شيئا ، عدد لها ، مثلا ، قائمة طويلة من الناس الذين إلتقيا بهم في الفندق والنادي ، وبطريقة توحي بأنهما قضيا الوقت وسط مجموعة كبيرة وليس وحدهما، ولم يأت على ذكر ديفلين ، فأدركت كريستينا أن التغاضي عنه مسألة بديهية.
دخلت السيدة كريستوف حاملة صينية القهوة ، فنهضت السيدة براندون ، ومضت نحو الباب بعد أن طبعت قبلة على وجنة ثيو ، وتمنت لكريستينا ليلة سعيدة.
وما أن توارت السيدة براندون ، وأغلقت الباب وراءها ، حتى إستدارت كريستينا نحو ثيو تعاتبه:
" لماذا لم تخبرها حقيقة ما جرى؟".
رفع ثيو كتفيه بحركة لامبالية :
" لأنها لم تكن تريد سماع ذلك ، عليك أن تتعاملي كيفية التعامل مع جدتي ، وهذا ما ستكتشفينه مع مرور الوقت".
إنحنت كريستينا تلتقط فنجان القهوة ، ورشفت قليلا منه بشفتين مرتجفتين.
إستطرد ثيو :
" كانت مسرورة للغاية الليلة ، إرتاحت الى رؤيتنا نجلس سوية ، إن احدنا يكمل الآخر ، ألا تعتقدين ذلك؟".
علّقت كريستينا ، مضطربة البال :
" أشعر بالإرهاق ، والأفضل أن آوي الى فراشي".
علت ملامحه إبتسامة ذات معنى :
" هل تنوين تمثيل لعبة القط والفأر؟".
صاحت ساطة :
" إنك شاب وقح ".
إقترب منها قليلا :
" لا يمكنك خداعي ، هل تفضلين ديفلين علي ؟ أتظنين انني لم الحظ كيف كنت تراقصينه ؟ انا لست غبيا يا كريستينا".
وإنقض عليها كالذئب الكاسر ، وألقى بثقله فوقها ، إستجمعت قواها ، وركلته بقدمها ، فتدحرج فوق أرض الغرفة ، إستلقى على ظهره يحدق فيها ، ثم أخذ ينتحب كالطفل الرضيع.

نيو فراولة 14-02-12 08:33 PM

إنتابها الذعر :
" بحق السماء يا ثيو ، ما الذي دهاك ؟ ما هذا العويل؟".
نظر اليها والدموع تنهمر من مقلتيه:
" كيف لا أبكي وأنت تعاملينني بهذه القساوة؟".
قالت غاضبة :
" كف عن هذا الهراء ، هل كنت تتصور انني سأستسلم لرغباتك الجامحة".
قال راكعا على ركبتيه:
" لا ، لا ، إنك تسيئين فهمي ،فقدت السيطرة على نفسي وأنا آسف جدا ، لا أعرف كيف أعتذر منك ، إرأفي بي يا كريستينا ، إني أحبك ...".
إتفضت واقفة:
" أخرس ! لن أدعك تخاطبني بهذه الكلمات المعسولة ! "
أجاب متوسلا :
" غضبت مني لأنني كذبت على جدتي ، ولم أكن صادقا معها ، وتغضبين مني الآن اقول لك الصدق ، سامحيني يا كريستينا ، لم أكن أنوي إطلاعك على حقيقة مشاعري ، ولكن عندما رايتك مع ديفلين ، وعرفت كيف يتآمر لإبعادك عني ، كادت الغيرة تقتلني ".
يا له من كابوس رهيب ! فكرت كريستينا مجيبة :
" لا يحق لك أن تشعر بالغيرة ، ولا يوجد أي مبرر لذلك ".
نهض على قدميه ، وحملق في وجهها :
" إسمعي يا كريستينا ، اتذكرين تلك المكالمة الهاتفية في النادي ؟ ذهبت الى الهاتف فوجدت السماعة مقفلة ، فعرفت أنها خدعة ، ولما عدت كنت ترقصين معه ، فإتضح كل شيء ، كانت المكالمة مجرد خدعة لأبعادي عن طريقه ،إن ديفلين حاقد ، فهو يحقد على جدتي ويحقد علي ، ويتمنى تدمير حياتي ، وسلبي فتاتي".
قالت كريستينا بلهجة واثقة:
" دعنا نؤكد حقيقة واحدة ، أنا لست فتاتك".
خيم صمت مثقل بالتوتر ، أدار ثيو ظهره ، وإعترض بصوت مخنوق:
" أنت تقولين ذلك لجرح مشاعري".
اجابت بنعومة:
" كلا يا ثيو ، إنها الحقيقة ، أنا لم أرغب في خداعك منذ البداية ، وأبدي أسفي إذا ما جعلتك تسيء تفسير دوافعي بالذهاب معك الى النادي ، إنه خطأ لن أكرره ، تصبح على خير ".
اوصدت الباب ، وإتكأت عليه لحظة تستعيد هدوءها ، ثم سارت بخوات وئيدة الى غرفتها.
خلعت ثيابها ، ودخلت الى الحمام ، وملأت الحوض بالماء الحار ، إنتعشت قواها قليلا ، وهي تتمتع برغوة الصابون والبخار ، ومع ذلك، ظلت تساورها الشكوك وهي تلمس لمس اليد صحة راي ديفلين براندون ، وصدق كلماته.
كانت متأكدة من عدم تشجيعها لثيو على الإعتقاد بأنها اصبحت ملكا خاصا له ، لا بد ان السيدة براندون هي التي دفعته الى وضع كهذا ، وطالما لاحظت علامات الرضى ترتسم على محياها كلما رأتهما سوية ، ولكنها ، فكرت كريستينا ، فتاة معدومة غريبة ، وتعرف أن هذه الأمور ذات أهمية بالنسبة الى عائلة مثل عائلة براندون ، إذن لا يوجد سوى سبب واحد.
هل يحبها ثيو حقا ؟ خرجت من الحمام ، واخذت تجفف جسمها بمنشفة كبيرة ، حاولت النظر الى المسالة بتجرد وموضوعية.
لا يخالجها إرتياب حول إعجاب ثيو بها ، ولكن الحب قصة اخرى ! لم يبدر منه على ما يدل على حبه لها ، إن تصرفه معها يتصف بالرعونة ، وغياب الحنان ، واللطف والإحترام.
إرتدت قميص نومها ، ووقفت أمام المرآة تتأمل شكلها وملامحها ، إنها ضامرة القوام ، غير مكتملة النمو ، فكرت بتململ ، ولا تملك اية مواصفات مغرية ، تدفع الرجال الى الهيام بها.
قررت ان دوافع ديفلين سيئة النية ، وتهدف الى إستغلال براءتها ، كما حدثتها السيدة براندون ، أما دوافع ثيو فهي أكثر تعقيدا.
منتديات ليلاس
راحت تضرب أخماس باسداس الى أن قر رايها على الرحيل من ذلك المكان وبأقصى سرعة ، ستقابل السيدة براندون وتقدم لها إستقالتها ، ومن ثم تكتب رسالة الى السيد فريث تشرح له الوضع ،وتتوسل اليه ليقرضها بعض الدراهم لتتمكن من العودة الى انكلترا ، وما أن تستقر في بلدها حتى تبحث عن أي عمل وتدفع له القرض بشكل أو بآخر.
وضعت يدها على راسها ، إنها تعاني الان من صداع حقيقي ، صعدت الى فراشها ودفنت وجهها في وسادتها وإستسلمت لملاك النوم ، مرهقة ، قلقة البال.

نيو فراولة 14-02-12 08:36 PM

6- لن اتخلى عنك

ما ان أرتدت ملابسها في صباح اليوم التالي ، حتى توجهت كريستينا الى غرفة السيدة براندون ، قرعت الباب ، ففتحته يولالي بوجه عابس ، وكادت أن تغلقه ثانية معلنة:
" الأفضل ان تعودي في وقت لاحق ، السيدة براندون لا تستطيع رؤيتك الآن ! ".
دفعت يولالي جانبا ، ودخلت الى غرفة الجلوس:
" ارجوك ان تخبريها عن حضوري".
ترددت يولالي لحظة ، ثم مشت متاففة نحو غرفة النوم ، ظلت كريستينا واقفة قرب النافذة الكبيرة تمعن النظر في جمال الحدائق وزرقة البحر المتلألئة في البعيد ، أدركت كم سيصعب عليها الرحيل عن هذا المكان ، بعد أن ألفت عالمه الغريب ، تراءى أمامها الشاطىء الفضي ، وأشجار النخيل المحيطة به ، وغمر أحاسيسها دفء المياه المترقرقة ، إنها مناظر لن تنساها أبدا ، وستحمل معها ذكريات أليمة ايضا ، وخاصة ذكرى ديفلين براندون بكل عباراته وىرائه وحركاته وهمساته الخبيثة ، احست في قرارة نفسها ان شبحه سيظل يلاحقها مهما إبتعدت عنه ، كان جزءا لا يتجزأ من كل هذه الأجواء ، من المنزل ، والشاطىء وجزيرة سانت فيكتوار ، وحتى المارتينك.
منتديات ليلاس
تنهدت متحسرة ، وإستدارت تلقي نظرة متبرمة على باب غرفة النوم المغلق ، بدا لها أن السيدة براندون تتعمد التلكؤ في الإستجابة لطلبها ، ربما ترامت الى مسامعها أحداث الليلة الفائتة ، وهي تعبر عن إستيائها بأسلوبها الخاص ، ولعلها تنوي طردها من عملها ، ولا حاجة الى تقديم إستقالتها ، ثم لم تلبث كريستينا أن طردت هذه الفكرة من ذهنها ، لا ، إن السيدة براندون تبذل قصارى جهدها لأنشاء علاقة حميمة بين حفيدها وفتاة مجهولة ، متواضعة الحسب ، ولدت صدفة في أنكلترا ، ولكن ما الذي ترمى اليه من وراء هذه العلاقة؟ فكرت كريستينا مليا ، لا أهمية لذلك ، كل ما تريده هو الرحيل ، والإبتعاد ليس عن ثيو ، بل عن ديفلين اللعين الذي كادت أن تخضع لإغرائه ، هالها أن تتجاذبها نحوه هذه المشاعر الدفينة ، الغامضة.
إنفتح باب غرفة النوم ، وأطلت يولالي تومىء برأسها علامة إستعداد سيدتها لإستقبال كريستينا.
كانت السيدة براندون جالسة في سريرها ، متوشحة بغطاء حريري ، أرجواني اللون ، ومنكبة على ما وصلها ذلك الصباح من رسائل ، رفعت حاجبيها ، ترحب بكريستينا :
" صباح الخير يا عزيزتي ، إنها زيارة مبكرة ، هل من مشكلة؟".
احنت كريستينا براسها ،وجلست على كرسي ملاصق للسرير ، وأدهشتها دماثة السيدة براندون الى حد أخجلها ، ولمست يدها قائلة:
" ما هي المشكلة ؟ هل إنزعجت من قضاء السهرة ليلة أمس مع ثيو؟".
إضطربت كريستينا :
" هل بلغتك أخبار ليلة امس ؟".
ردت السيدة براندون بهدوء:
" طبعا يا إبنتي ، لا يفوتني أي شيء يجري هنا ".
وسارعت كريستينا الى القول :
" إذن لن افاجئك إذا ما قدمت إستقالتي وغادرت فورا".
قطبت السيدة براندون جبينها :
" ولماذا؟".
تململت كريستينا فوق كرسيها:
" المسألة واضحة ، لا يمكنني البقاء هنا بعدما جرى".
هزت العجوز براسها :
" ولم لا ؟ لأن صبيا أحمق فقد صوابه في لحظة عابرة تريدين التخلي عني ؟ إن تصرفك يذهلني ، هذه مسائل تتعرض لها كل فتاة مثلك".
اجابت كريستينا بصوت خفيض:
" من السهل عليك إعتباري فتاة ساذجة ، لكنك لم تشهدي بام عينك حقيقة ما جرى ".
إستطردت السيدة براندون :
" أعرف ما فيه الكفاية ، إعترف لي ثيو بكل شيء ، وهو ياسف جدا لتمزيق أكمام فستانك ، ويبدي إستعداده لمرافقتك الى المارتينيك كي يشتري فستانا جديدا....".
قاطعتها كريستينا :
" يبدو انك يا سيدة براندون مصرة على تجاهل ما قلته لك ، طلبت منك قبول إستقالتي".
تحولت عينا العجوز الى قطعتي جليد :
" لا يا كريستينا ، لست مستعدة أن أقبل ذلك ، إنك فتاة جذابة ، وىن لك إدراك هذا ، واوافق على أن ثيو تمادى ...".
لم تدعها كريستينا تسترسل في عبارتها :
" لا فائدة من الإعتذار والتملق ، اوضحت لك موقفي ، ولا أنوي التراجع عنها ".
علت مسحة من الشحوب وجه السيدة براندون ، وبدات شفتاها بالإرتجاف كورقتي خريف :
" من الأفضل لك يا كريستينا إعتبار حديثك مجرد زلة لسان ، يمكنك الإنصراف الان ، عندما تهدا أعصابك سأرسل ثيو ليعتذر منك ، وأرجو ألا تخيبي ظني بك فتصفحي عنه".
إزدادت كريستينا إستياء ، وهي تتصور لقاء عاطفيا جديدا بينها وبين ثيو:
" لا حاجة الى ذلك ، ارجوك ، لا أطلب أكثر من قبول إستقالتي ، والسماح لي بالرحيل في نهاية الشهر".
أجابتها السيدة براندون بحنق ظاهر:
" إن ما احاول قوله هو أنه يستحيل عليك مغادرة هذا المكان ، والرحيل بهذه البساطة ، لا يمكنني التخلي عنك يا عزيزتي".
أمعنت كريستينا في إستفزازها:
" لماذا؟ لأنك وضعت خطة لتقرير مستقبلي!".
قررت العجوز مهادنتها:
" أرجو المعذرة يا كريستينا ، يبدو انني أخطات التقدير ، ولن تتيح لي الظروف تحقيق أمنية عزيزة على قلبي وقلب عمتك ، إنك ترفضين هذه المنية بكل قواك ، واستميحك عذرا إذا ما أغضبتك".
حملقت كريستينا في قسماتها ، أركها تواضع ربة عملها المفاجىء ، وماذا قالت بالضبط؟ إستفسرت علها تبدد مخاوفها .
" أتيت على ذكر عمتي غريس.....".
أجابت السيدة براندون بإنحناءة من راسها :
" عقدنا إتفاقا ونحن على مقاعد الدراسة ، فإلتزمت أن أنجب إبنا ، وإلتزمت هي بإنجاب إبنة ، ويتزوجان عندما يبلغان سن الرشد ، وحافظ كل منا على هذا الإتفاق ، ولهذا السبب ذهبت الى انكلترا ساعة إعلان وفاة عمتك في الصحف وجلبتك الى هنا لتحقيق وعد قطعته عل نفسي".

نيو فراولة 14-02-12 08:37 PM

جلست كريستينا صامتة ، مشوشة الأفكار ، وجدت صعوبة في تصديق كلمات السيدة براندون ، هل تريد القول أن عمتها غريس عقدت معها صفقة حول مستقبلها هي ؟؟ ألهذا السبب أتت الى هنا لتنفيذ شروط الصفقة التي تخصها ، ولم تكن تدري بوجودها ؟ غمرتها موجة من الياس القاتل ، فقررت الإفصاح عن رايها بوضوح:
" إنني آسفة ، لم يكن لي علم بكل ذلك ، وإلا لما كنت أتيت الى هنا، لا شك أن الكثيرين يرسمون خططا كهذه لمصلحة البنين والبنات ، ولكن نادرا ما يتوقعون تنفيذ هذه المشاريع حرفيا عندما يبلغ الولاد سن الرشد".
توهجت عينا السيدة براندون ببريق عجيب:
" هذا ما توقعته ، ولم يغب عن بال عمتك موقفا كهذا ، فكري في مستقبلك قليلا يا كريستينا ، ما الذي تأملينه ؟ تقلد منصب هام ؟ إنها مسالة بعيدة الإحتمال ، وأنت تنقصك المؤهلات اللازمة ، إن الزواج هو الحل الأفضل ، لا بل الوحيد ، إلا إذا كنت تريدين قضاء حياتك عانسا وعالة على الآخرين".
تسارعت نبضات قلبها ، فإكتفت كريستينا بالقول :
" شكرا على نصيحتك الثمينة ، وتصورك الأمور بهذه الصورة القاتمة".
إتكأت السيدة براندون على وسادتها ، وأشارت:
" احاول ان أكون واقعية ، لا أدري لماذا يقلقلك الزواج من حفيدي ، ألا يعجبك أن تكوني سيدة آرك إينجل؟".
اطرقت كريستينا براسها ، نشب في داخلها صراع عنيف لا بد لها من حجبه عن السيدة براندون ، وعدم إعطائها فرصة إستغلاله لمصلحتها ، دغدغت احلامها فكرة بقائها في آرك إينجل ، والتمتع بهذه الرفاهية ، والثروة الطائلة التي تراود مخيلة الملايين من الناس ، ولكن ، وفي الوقت نفسه ، رن في اعماقها صوت ديفلين هازئا ، محذرا ، فإرتعدت فرائصها هلعا ، لا يمكنها الزواج من ه\ثيو ، او من أي شخص آخر لا تكن له حبا عميقا ، علمتها تجربتها القصيرة ، المبتورة أشياء كثيرة حول أسرار القلب ، والعواطف المشبوبة ، وهي تعرف معرفة أكيدة أن ثيو لا يثير فيها أي إحساس بالحب ، كما تفهم الحب وتفسره .
داهمها الشعور بالشفقة والذنب ، إن ثيو يعرض عليها الزواج بإخلاص وصدق نية ومع ذلك لا تبالي به ، بل تمتعض من إهتمامه بها ، في حين أن ديفلين ، الذي تعشق طيفه بدون مبرر ، ينظر اليها كمجرد دمية للتسلية ، مع ذلك ، يتحتم عليها مواجهة الحقائق كما هي ، ومهما كانت الآلآم والعقبات.
رفعت رأسها ورمقت السيدة براندون:
" أنا آسفة ، لا يمكنني الزواج من ثيو".
تجهم وجه السيدة براندون :
" إن في العجلة الندامة يا إبنتي ، أنت ما زلت في مقتبل العمر ، وأمامك متسع من الوقت لإتخاذ قرار حول هذه المسألة ( وعلت وجهها إبتسامة شاحبة وإستطردت ) إن الإنكليز مثاليون جدا ، ويحلمون دائما بالحب الحقيقي الصافي ، إن الأرض ، يا إبنتي ، والعقارات ، وإستمرار الميراث ، هذه هي الأمور الهامة في الزواج ، لم تخطر على بالك هذه الأشياء لأنها كلها بعيدة عن أجوائك السابقة ، سأترك لك مجالا رحبا للتفكير والتمعن في هذه المسائل ، لست في عجلة من أمري ، أما الآن يا عزيزتي فيمكنك الإنصراف ، أرسلي الي يولالي وأنت في طريقك الى الخارج".
مضت كريستينا الى غرفة الجلوس ، وهي في حالة يرثى لها ، ما هذه الورطة المرهقة؟ تساءلت يائسة وهي تعود الى غرفتها ، تنوي تقديم إستقالتها منذ لحظات قليلة ، وها هي تحمل معها نص الإستقالة ، وتطويه في جبينها كأنه خطأ شنيع ، وتتعرض لشتى الضغوط لكي تتزوج ثيو ، وبطريقة طبيعية ،ولا أثر لإحترام مشاعرها في كل ما يدور كأن المسالة لا تعنيها مباشرة.
قررت أن تعيد الكرة ، وتقدم حججا دامغة تثبت عبرها شخصيتها ، وحريتها في رسم مستقبلها ، ولكن ما الفائدة؟ عليها الرحيل عن هذا المكان ، لماذا لا تذهب الى المارتينيك على الأقل ، وتشتغل هناك لإعالة نفسها ، وتوفير ثمن تذكرة العودة ؟ هذا إذا رفض السيد فريث مساعدتها.
تلخصت مشكلتها الأساسية في كيفية الذهاب الى المارتينيك ،كان بإستطاعتها الطلب من لويس ليقلها بالسيارة الى الميناء حيث يرسو المركب المتنقل بين سانت فيكتوار والمارتينيك ، ولكن لويس موظف يعمل لدى السيدة براندون ، وقد يشي بها ، إذن ليست طليقة ، حرة الإرادة كما توهمت.
داعبت خيالها فكرة اللجوء الى كلايف ولورنا مينارد ، إن لورنا ستساعدها إذا ما عرفت حقيقة الأمر ، ولكن هل يحق لها جس نبضها ؟ إن كلايف هوالآخر موظف لدى عائلة براندون ، ومن الخطأ التوقع منه تعريض وظيفته للخطر.
دفنت راسها في راحتيها ، تحاول إيجاد حل لورطتها ، وأدركت أنه يوجد أمامها خيار واضح ينهي محنتها إذا ما وطئت النفس على تنفيذه.
إن ديفلين براندون يملك مركبا يبحر فيه جيئة وذهابا ، وهو ، علاوة على ذلك ، طلب منها ، وبكل وضوح ، مغادرة سانت فيكتوار ، هل سيكون عند حسن ظنها ، ويبدي إستعداده لتقديم خدماته ؟ لا تخاله سيرفض مساعدتها ، طالما أنه لا يشعر بأي ولاء لعمته وهو الذي اعلن ذلك مرارا.
ولكنها هي ، كريستينا ، مدينة له بالشيء الكثير ، هل يجوز لها إلتماس مساعدته ؟ ألم يحذرها من عدم اللجوء اليه عندما تسوء أحوالها ؟ وهي الان تلجأ اليه متضرعة ، ويا لذلها إذا أشاح بوجهه عنها!

نيو فراولة 14-02-12 08:38 PM

مشت متثاقلة نحو النافذة ، وسمعت صوتا في داخلها يقول لها ، لا لن يطردها ويرفض مساعدتها ، ولكنه سيفرض ثمنا مقابل اتعابه ، ضغطت بيديها على اذنيها ، لإخراس الصوت المزعج ، لا بد ان تكف عن التفكير في هذه الناحية وإلا فقدت ما تبقى من بأسها وشجاعتها.
وإنسلت عبر السلم الى الحديقة ، لا تبالي بصحة ما تقوم به، كانت تلهث ، يهدها التعب عندما بلغت الكوخ ، توقفت لإلتقاط انفاسها ، أخذت تجيل النظر متوجسة ، لم تعثر على أي أثر لمركب ديفلين ، عذراء القمر ، وكان الكوخ رابضا مسدل الستائر ، مرصد البواب.
إنتابها قلق أليم ، لم يعد امامها سوى العودة الى المنزل وإنتظار عودته ، هذا ما يجب عليها فعله ، حدثت نفسها ، وقدماها تشدانها الى الوراء.
تقدمت من الكوخ ، فرأت المفتاح لا يزال في قفل الباب ، فتحته ودخلت ، كان الجو في الداخل خانقا ، يخيم عليه سكون رهيب ، خطت بحذر نحو النافذة ، وسحبت الستار ، فتدفقت أشعة الشمس تغمر الجدران ، وتضفي بعض الدفء على قطع الأثاث.
بدا الكوخ بالغ النظافة ، مرتبا ، ناصعا ، ويوحي كل شيء فيه أن صاحبه لم يغادره لقضاء امر مستعجل ، ولن يلبث أن يعود ، لا بل يدل على غياب في رحلة طويلة الأمد ، راحت تبحث عن أي دليل يكشف سره الغامض ، تمنت أن تعثر على عنوان أو رقم هاتف حيث يمكن الإتصال به ، وأدركت مدى حماقتها ، إن ديفلين براندون لا يهتم بهذه التفاهات ، وبأي حق تسمح لنفسها التطفل هكذا ؟ لا حق لها إطلاقا.
ورات نفسها امام المقعد الخشبي ، هنا يقوم ديفلين بممارسة فن الحفر ، إزداد فضولها لإكتشاف نوع العمل الذي ينتجه ، رفعت الغطاء بحذر ، وإلتقطت قطعة من القطع ، كانت تمثل صقرا منفرج الجناحين ، تأملته مليا مبدية إعجابها بأسلوبه الفني البارع ، وأخذت تتفحص بشغف القطع الأخرى التي لا تقل إتقانا وتبرز مهارة مرهفة.
وقع نظرها على قطعة ملفوفة بغلاف ورقي ، فضّت الغلاف وحدقت فيها ، جف حلقها ، كانت تمثالا صغيرا لفتاة ساجدة على ركبتيها ، ولا تزال تحتاج الى اللمسات الأخيرة ولكنها عرفتها لتوها ، إن التمثال يمثل الخادمة يولالي.
أعادت التمثال الى مكانه بأصابع مرتعشة ، قفز خيالها الى تلك الليلة عندما لمحت يولالي تتسلل عبر الحديقة ، لقد صح توقعها ، وتحققت من لقاء يولالي بالفنان ديفلين في هذا الكوخ ، لم تعر المسألة أهمية آنذاك ، أما الان فإنتابتها ثورة من الغضب.
إغرورقت عيناها بالدموع ، وادركت مرتاعة انها تعاني من الغيرة ، ويشتعل حسد قاتل في شرايينها ، يا لحماقتها ! لامت نفسها بحدة ، إستدارت كالمجنونة ، وخرجت من الكوخ تعدو هائمة على وجهها.
إكتشفت شيئا جديدا حول نفسها ، لمست واقعا ملموسا ، كانت تخاله مجرد وهم من الأوهام ، أنها ، وبطريقة ما ، تحب ديفلين براندون حبا يتيمها.
هزت برأسها مستنكرة عواطفها الجامحة وهي تتمهل فوق رمال الشاطىء ، لا ان ما تشعر به ليس حبا ، بل مجرد نزوة عابرة لا علاقة لها بالعاطفة الثابتة التي تضم روحين في عناق أبدي.
رددت بكآبة دامية ، لا ، لا أحبه ، وظلت تكرر العبارة كالتعويذة الى أن إستقرت ثانية في غرفتها.
شعرت كريستيتا بضياع تام في اليومين التاليين ، لم تطلب منها السيدة براندون القيام بأي عمل ، وواظبت على تناول وجبات الطعام ، كأنها تؤدي مهمة شاقة ، وكان ثيو يتصرف أمامها على أفضل وجه ، وذلك بعد أن أبدى أسفه الشديد لسلوكه السابق ، وحذّرته من مغبة عمل طائش كهذا ، كان يبذل جهدا خاصا للتودد اليها ، وتجنب كل ما يمكن أن يعكر مزاجها أو يغضبها.
ولكنها لم تعد تبالي بمسلك ثيو أو بأحلامه ، كان يشغلها إكتشافها المفاجىء لمشاعرها الحقيقية، وفي كلا الحالتين يتوجب عليها الفرار من هنا ، خاطبت نفسها ،ولا ينقصها سوى الوسيلة الناجحة.
يستحيل عليها الآن اللجوء الى ديفلين ،وإلا كانت كمن يصب الزيت على النار ، ومن الأفضل لها الرحيل قبل عودته ، وقبل ان يخترق بعينيه الحادتين سرها الدفين ، ويمزق حجابها الذي يستر عواطفها.
وأضحى وجود يولالي معها تحت سقف واحد مسألة لا تطاق ، كانت تمر أمامها متهادية بغنج ودلال ، كأنها تعلن عن تحديها ، وأدراكها لصراعها النفسي وآمالها الخائبة ، وإستحواذها على إهتمام ديفلين ، كرمز للجمال والفتنة والسحر.
إزداد عزم كريستينا على الرحيل ، ولكن كيف السبيل الى ذلك؟".
قررت البقاء الى أن تتلقى الدفعة الأولى من مرتبها ، ولم يحن موعدها بعد ، ولا يمكنها الطلب من السيدة براندون أن تعطيها سلفة فتثير شكوكها ، ولا تريد كذلك أن تغادر وهي تدين لعائلة براندون بشيء.
ويترتب عليها نقل نفسها وحقائبها من البيت الى الميناء بطريقة ما ، وربما تطلب سيارة أجرة لهذا الغرض عوض التسلل ليلا ، ولكن ثمة صعوبة أخرى ، توجد آلة التلفون في غرفة جلوس السيدة براندون ، ولن تتوفر لها فرصة ملائمة لإجراء مخابرة إلا في حالات نادرة ، تنهدت كريستينا ، وهي ترى صعوبة جديدة تنتصب في وجهها .

نيو فراولة 14-02-12 08:41 PM

كانت عائدة من نزهة قصيرة على الشاطىء ذات صباح ، عندما إستدعتها السيدة براندون الى غرفتها ، وما أن دخلت كريستينا حتى تلقفتها العجوز هاتفة:
" تعالي يا عزيزتي ، علي القيام بمقدار كبير من العمل اليوم ، إنظري هذه اللائحة من الأسماء والعناوين ، عليك طباعتها على غلافات وبسرعة ، وصلت بطاقات الدعوة من المطبعة هذا الصباح وأود إرسالها بدون إبطاء".
أمسكت كريستينا باللائحة تدرسها ، كانت تضم اسماء اعيان الجزيرة ، سالت:
" ما هي هذه الدعوات؟".
اجابتها العجوز:
" يحل عيد ميلاد ثيو الأسبوع المقبل ، وسوف نقيم له حفلة بطبيعة الحال".
راحت كريستينا تقرأ الأسماء المتعددة ، لم تجد اثرا لإسم ديفلين ، تاكد لها ان عمته حذفت إسمه عمدا تعبيرا عن إستيائها منه ، هذا في حين أن أصدقاءه من اعضاء اللجنة كانوا من بين الأسماء المختارة ، إستدارت نحو الباب قائلة:
" ساباشر العمل فورا يا سيدة".
صاحت السيدة براندون :
" لحظة من فضلك".
ورأتها كريستينا تغالب نفسها للنطق بشيء يقلقها ، ثم سمعتها تقول:
" سأكون في غاية السرور يا كريستينا لو أن الحلقة لا تقتصر على الإحتفاء بعيد ميلاد ثيو بل تكون ايضا حفلة خطبته".
تجمدت الدماء في عروقها ، كم كانت مخطئة ساعة إعتقدت ان هذه المسالة طويت الى البد ، قالت كريستينا محاولة كبت غيظها:
" ولكنك يا سيدة أفسحت لي المجال للتفكير ، ودرس الموضوع......".
نظرت اليها السيدة براندون برقة:
" لا بد انك توصلت الى قرار الان ، أن ثيو شاب حساس وعنيد ، لن ينتظر طويلا للحصول على جواب منك".
ردت كريستينا بإصرار :
" لا أريده ان ينتظر ، لا يمكنني الزواج منه يا سيدة براندون ، انا لا أحبه".
تشبثت العجوز برأيها:
" إن الحب ينمو مع مرور الزمن يا عزيزتي ، وهذا هو معنى الخطبة في المقام الأول ، إنها فترة التعارف المتبادل ، وتمتين أواصر الصداقة لكي تصبح حبا بكل معنى الكلمة، عن ثيو لن يصبر كثيرا ، وسيجد وسائله الخاصة لتلقينك بعض الدروس".
كانت كريستينا تتأجج غضبا:
" هل أنت جادة؟ ما معنى كلامك هذا؟".
إنهالت عليها السيدة براندون مؤنبة:
" لا تدّعي السذاجة يا إبنتي ، أنت تعرفين تماما ما الذي أعنيه ، إن وجودكما معا تحت سقف واحد سيؤدي حتما الى نشوء علاقة بينكما ، وعندما تعلنين خطبتك ستلمسين بنفسك مدى التغيير الذي سيطرأ على عواطفك".
كادت كريستينا تفقد صوابها:
" إنك تثيرين في نفسي الإشمئزاز يا سيدة براندون ، اؤكد لك أن مشاريعك مصيرها الفشل الذريع".
هزت العجوز بكتفيها متأففة:
" المعذرة ، لم أقصد جرح مشاعرك ، أنا آسفة ، كنت أطرح عليك مجرد حل عملي".
أوصدت كريستينا الباب وراءها بأحكام ، ووقفت لحظة لألتقاط أنفاسها ، كانت صدمة عنيفة هزتها هزا ، وحيرها أمر عمتها غريس وصداقتها مع هذه العجوز البليدة الإحساس.
نوجهت الى المكتبة ، وباشرت بطباعة مظاريف البطاقات ، كانت في حالة يرثى لها ، فوجدت نفسها تخلط الأسماء ببعضها ، سحبت الورقة من الآلة الكاتبة ، طوتها كالكرة ثم قذفتها صوب النافذة المشرعة.
ولفورها سمعت صوتا أليفا يهتف وراءها :
" طلقة موفقة ايتها السكرتيرة البارعة، يبدو أن مهارتك بدأت تخونك".
إحتفظت برباطة الجأش ، مقاومة دوافعها المشبوبة للنظر اليه ، ورؤية وجهه.
مشى ديفلين بخطى وئيدة ووقف بجانبها ، يحملق في اللائحة الملقاة قرب الآلة الكاتبة ، أعلن بسخرية:
" أرى ان عمتي قررت الخروج من عزلتها وإقامة حفلة إجتماعية ، لا تتعبي نفسك في طباعة دعوة الي يا آنسة بينيت ، سآخذ البطاقة معي".
لفت ظرفا جديدا على الآلة ، قائلة بجفاف:
" لا أعتقد أنك مدعو الى الحفلة".
إستقبل كلماتها ببرودة:
" إذن ساقتحم المكان إقتحاما ، هذه حفلة لن أدعها تفوتني مهما كلف الأمر ، اريد أن أكون حاضرا عندما يقلدك ثيو خاتم الخطبة ، وبالمناسبة هل رأيت الخاتم ؟ إنه خاتم هائل من الزمرد والألماس ، يا للذوق السوقي المبتذل ! ".
واظبت على الطباعة ، وأجابته بحدة:
" أقول لك للمرة الألف ، لن اعقد خطبتي على ثيو".
إرتمى فوق مقعد وثير ، مادا رجليه امامه:
" كلا؟ إن الجزيرة كلها تلغط بالموضوع".
سألته مندهشة:
" ما الذي يقوله الناس؟".
قال بنبرة جادة لا أثر للسخرية فيها:
" الكل يقول انك على وشك الزواج من ثيو ، وستكون هذه الحفلة مسك الختام".
أجابته يائسة :
" ولكن هذه الأقوال مجرد أكاذيب".
سمّر عينيه على وجهها المتجهم:
" ربما ، ومع ذلك ، ما زال أمام عمتي متسع من الوقت لأقناعك ، لن يحل عيد ميلاد ثيو قبل اسبوع ، فلا تيأسي ، ولا اظنك تنكرين نية عمتي في عقد قرانكما".
قالت مطرقة الراس:
" لا ، لا أنكر ، ولكنني لم أكن أعرف شيئا عندما أتيت الى هنا ، يجب أن تصدقني".
اشعل سيكارة ، ثم عقب:
" انا أصدقك ، هذه مسالة بسيطة ، ولكن ما الذي تنوين فعله؟".
" ما الذي أنوي فعله؟".
كاد ينفد صبره:
" نعم ، إن هذه المسألة تعنيني مباشرة ، كما تعلمين".
تنبهت الى مغزى كلامه:
" طبعا لأنه إذا تزوجني ثيو ورزق ولدا سيبطل أي حق لك في الأرث".
خيم صمت ثقيل ، ثم أطلق قهقهة ممزوجة بالمرارة:
" يا للذكاء الباهر ! نعم إن مصلحتي أن يظل ثيو عازبا ، هل يمكنني الإعتماد عليك لتحقيق هذه الغاية النبيلة؟".
أحست بوخز حاد في حنجرتها:
" قلت لك ، وبكل وصوح ، أنني لا أنوي الزواج من ثيو ، لا مبرر للتخوف على مشاريعك مني".
رد بلهجة جافة:
" اشكرك من أعماق قلبي ، وكيف تنوين الفرار من مصير رسمته لك عمتي العزيزة؟".
هزت بكتفيها :
" لا تقلق علي ، أستطيع تدبر أمري".
أجاب بعذوبة:
" ولكنني أقلق عليك ، خاصة إذا كنت ستحتاجين الى مساعدتي".
إضطربت قليلا:
" لا لن أحتاج اليك".
نهض واقفا ، وتقدم منها بحذر ، ثم مد يده الى جيبه:
" أعتقد أن هذا المنديل الذي يطرزه أول حرف من إسمك لم يكن في كوخي صدفة".
هتفت:
" كيف وجدته؟".
" لا مجال للمراوغة يا كريستينا ، أنت أتيت الى الكوخ تبحثين عني عندما كنت في المارتينيك".
صمتت قليلا ، ثم قالت متمتمة:
" أشكرك على عرضك لمساعدتي ، ولكن زيارتي الى الكوخ لا علاقة لها بذلك ، كانت مجرد فضول ، وترويح عن النفس لتبديد السأم والضجر".
حدّق فيها بعينين تتماوجان سخرية وإعتدادا بالنفس ، ثم مر بأصابعه فوق شعرها ، مداعبا ضفائره بخفة وهدوء ، خالت كريستينا أنه ذلك الهدوء الذي يسبق هبوب العاصفة ، تراجعت الى الوراء:
" والآن دعني وشأني ، أريد الإنتهاء من طباعة هذه اللائحة الطويلة".
غمغم :
" كلا يا عزيزتي ، أنت إرتكبت خطأ كبيرا عندما زرت كوخي بهذا الأسلوب ، وإطلعت على قطعي وعملي الفني بدون إذن مني ، ولا بد لك من دفع ثمن غال".
ولم يترك أمامها مجالا للإجابة ، طوقها بذراعيه وشدها نحوه يكاد يهصرها هصرا ، حاولت دفعه عنها فخانتها قواها.
إنقضت لحظة قصيرة خالتها دهرا ، كانت تخوض معركة خاسرة ، متأرجحة بين عقلها وقلبها ، وأذعنت لعواطفها الجياشة تعيش برهة قصيرة بين ذراعيه ، وتكتشف عواطفها الجياشة ، وتلمس مدى سيطرته على أحاسيسها.
وسرعان ما إستعادت جراتها السابقة ، وعقدت العزم على مقاومة أي إغراء ال أن تنجلي حقيقة الأمور ، وتتضح نواياه إزاءها ، ظلت تقاوم بذراعيها ويديها ورجليها الى أن أجبرته على فك عقالها.
صاحت في وجهه:
" إخرج من هنا ودعني أكمل عملي".
رد ، وإمارات الظفر تكلل محياه:
" سأخرج الآن لرؤية عمتي ، ولا تيأسي لن اتخلى عنك".

نيو فراولة 15-02-12 07:44 PM

7-من يسبق العاصفة

نظرت كريستينا بإرتياح الى الالة الكاتبة ، لقد أنجزت كل ما عليها ، وطبعت اللائحة بأكملها ، وراجعتها أكثر من مرة ، إنه إنجاز عظيم ، خاطبت نفسها ، وهي تمزقها تيارات عاطفية هائلة.
حملت مظاريف الرسائل واللائحة لتتوجه الى الطبقة العليا من المنزل وتسليمها الى السيدة براندون ، ثم ترددت قليلا ، لن تصعد الان ، فتواجه ديفلين وعمته سوية ، لا ليس الآن ، وهي لا تزال تتحرق شوقا الى حب حقيقي لا يفقه عنه شيئا .
وكان عزاؤها الوحيد جهل ديفلين التام لحقيقة مشاعرها أتجاهه ، وهكذا تستطيع ان تغادر سانت فيكتوار بدون ان تتورط معه في قصة حب فاشلة ، وأمامها الآن فرصة ذهبية للرحيل محتفظة ببعض كرامتها وكبريائها.
نهضت متوجهة نحو النافذة ، كانت تشعر بالحر الخانق والعرق يتصبب منها فتزداد ثيابها إلتصاقا بجلدها ، غمرها توق جارف لمداعبة مياه حوض السباحة.
ركضت مسرعة نحوغرفتها ، وإرتدت ملابس السباة ، وإختطفت منشفة كبيرة ، ثم هبطت السلم المؤدي الى الحوض.
منتديات ليلاس
كانت المياه رائعة كما توقعتها ، سبحت متوانية من رف الى آخر ، ثم إستلقت طافية على ظهرها ، إستعادت نشاطها وحيويتها ، فقررت الإسترخاء قليلا على على حافة الحوض لتجفيف شعرها ، والتمتع بأشعة الشمس ، كان الهدوء يخيم على المكان ، ما عدا هسهسة بعض الحشرات ، غلبها النعاس ، فأغمضت عينيها ، وإستسلمت الى نوم عميق.
أيقظتها بعد فترة قصيرة قطرات ماء تتساقط فوق وجهها ، فتحت عينيها ، فرأت ثيو يقف أمامها يرش فوقها رذاذا من مياه الحوض ، غطت جسمها بالمنشفة ، وحدّجته متعجبة ، كان يرتدي ملابس السباحة ، وكأنه يدعوها الى إستئناف علاقة طبيعية بينهما.
قالت متلعثمة :
" شكرا على إيقاظي ، علي العودة ، لا شك أن جدتك تنتظرني".
قطب جبينه:
" إن جدتي لا تحتاج الى أحد اليوم ، جلست مع ديفلين طوال الصباح ، وأعرف ان مزاجها يصبح لا يطاق بعد كل جلسة من هذا النوع ، والأرجح أنها لن تغادر غرفتها ، فلنستغل الفرصة وننعم بالسباحة سوية".
ردت :
" مع ذلك ، علي الذهاب الآن...".
ولم يدعها تكمل كلامها ، مد يده وشدها من قدمها ، وقال :
" لا تتركيني يا كريستينا ، لا يمكنك أن تحقدي علي الى الأبد بسبب حادث طارىء".
أكدت له:
" لم أعد أفكر في الأمر".
إبتسم قليلا:
" إذن إمكثي بعض الوقت ، إن حوض السباحة لا معنى له بدون وجود فتاة جميلة ، وأنا مولع بك كما تعرفين".
قالت مهتاجة:
" إذا أمعنت في كلام كهذا ، سأمضي لتوي الى الداخل".
تنهد مستاء ، ثم ارخى قبضته عن قدمها ، وقال متلوعا:
" اف لديفلين ، ما الذي أتى به اليوم؟ جاء ليلهي عمتي ويعكر مزاجها ، وكنت أحضر نفسي للذهاب معها بعد الظهر لمشاهدة زورقي الجديد".
سألته كريستينا ببعض الدهشة:
" زورق ؟ أي زورق؟".
قال:
" إنه هدية عيد ميلادي ، وهو زورق رائع ، أكثر جمالا من مركب ديفلين ،ويرسو الآن في سانت فيكتوار ، ينتظر جدتي لتوقيع عقد الشراء ، أما الآن فقد ترفض بعد إجتماعها بذلك اللعين".
علقت كريستينا بجفاف:
" أستبعد ذلك يا ثيو ، إن جدتك لا ترفض لك طلبا".
نظر اليها بتمعن:
" نعم ، هذا صحيح بإستثناء أمر واحد أحتاج اليه أكثر من أي شيء آخر ، لماذا لا تأتين معنا لرؤية الزورق؟ إنه ملائم جدا لقضاء شهر العسل".
قالت بنبرة حادة :
" لا أعتقد أنها فكرة صائبة ".
نهضت على قدميها ، فإرتبك متوسلا:
" لم أقصد إزعاجك ، المعذرة ، أرجو الا تغادري ، وأعدك بتحسين سلوكي إذا قبلت الإجابة على سؤال واحد".
قالت بتافف:
" وما هو هذا السؤال؟".
سالها بصوت خفيض:
" لماذا ترفضين الزواج مني؟".
أدركت مدى كآبته، وعمق ماساته ، فحاولت أن تهدىء من روعه:
" لأننا لا نستطيع التحكم بمشاعرنا يا ثيو ، لا اعرف كيف اشرح لك ، ولكن...".
قاطعها برفق:
" أنت ترفضين ، وهذا كل شيء ، كوني صريحة معي ، لا تخافي استطيع تلقي الصدمة".
إستطردت:
" إن المسالة ليست في هذه البساطة ، انا لا أريد أي شخص...".
إنفرجت أساريره:
" لا ينطبق هذا تماما على ما رأيته عبر نافذة المكتبة صباح اليوم".
تجمدت في مكانها ، والغضب يتأجج في داخلها ، تنهد ثيو بتكلف:
" آه يا كريستينا كم يؤلمني أن ارى ديفلين يستغلك بهذا الأسلوب الدنيء ، ولكن لا تجزعي ، لن أبوح بشيء أمام جدتي ، وأنا لست متزمتا كثيرا ، وعندما نتزوج ستكتشفين ذلك بنفسك".
جن جنونها:
" ما هذا الهراء يا ثيو ؟".
إبتسم بوداعة ، وإنتصب واقفا:
" هيا بنا لنسبح معا".
ظل يلح عليها الى ان أذعنت للأمر الواقع ، وغطسا في الماء ، وأخذا يتسابقان لبلوغ الطرف الآخر ، فطنت الى أن ثيو يتعمد التلكؤ ليتيح أمامها فرصة تجاوزه ، إنتظرته قليلا ، فلحقها صائحا:
" أحسنت، أحسنت".
قالت محتجة:
" أنت تعمدت التأخر".
دفعها برشاقة:
" لا أبدا ، أقسم لك".
وأخذا يتراشقان بالمياه ، اغمضت عينيها لأتقاء هجماته المتواصلة ، ثم فتحتهما بحذر ، فلم تجد له أثرا ، صاحت :
" ثيو ؟ أين أنت؟".
لم يجبها أحد ، ألقت نظرة على حافة الحوض ، حيث كانا يجلسان ، فلم تجده ، ثم أحست بقوة هائلة تشدها من قدميها الى قاع المياه ، فغرت فمها مشدوهة فإبتلعت بعض الماء ، افلتت من القبضة الملتوية حول قدميها ، وإندفعت نحو سطح الحوض ، قالت صارخة:
يا لك من صبي أحمق يا ثيو....".
وشدّها مرة ثانية الى الأسفل ، حبست أنفاسها توجسا ، ثم أخذت تركل بعنف ، وتتلوى للإفلات منه.

نيو فراولة 15-02-12 07:45 PM

إستمرت في عركها خائرة القوى ، تشعر بألم حاد في رئتيها ،ضاعفت جهدها للإفلات منه ، وأدركت فجأة أن ما بدأ كلعبة مسلية تحول الى حلبة قتال ليثبت ثيو تفوقه عليها ، وليس من الناحية الجسدية ، فهو أقوى منها حتما ، كان يبارزها ليؤكد أنه السيد المطلق.
أصابها رعب شديد ممزوج بغضب هائل ، حاقد ، حاولت السيطرة على أعصابها ، معللة نفسها بعدم قدرة ثيو على البقاء تحت الماء طويلا ، سيضطر للتوقف والتنفس بعد قليل ، فلتصبر وتتحمل ما دام ذلك ممكنا.
ولكنها لم تعد تملك قوة على اصبر ، وهو يمعن في جذبها نحو القاع ، فتضيق أنفاسها ، ويضج رأسها ألما ، وتخال أنها تكاد تنفجر كالقنبلة ، وكانت قبضته تمسك بها بقوة حديدية ، لا تستطيع الإفلات منها مهما تلوت ، تمعجت ، وركلت.
يا له من وغد مجرم ، فكرت كريستينا ملتاعة ، إنه لا يسمح لأحد بعصيان أوامره ،وهو الآن يعاقبها بكل دناءة لأنها رفضته ، عصت اوامره ، ولم تركع ساجدة أمامه كما يتوقع من الجميع.
أخذ يشدها بكل قواه ، ويطوقها بوحشية هائلة ، فأطلقت صرخة الم حادة ، وتدفقت المياه في فمها كتيار جارف ، غمرتها ظلمة قاتمة ، وأخمدت أنفاسها.
كانت تتقيأ كل ما في أمعائها، وهي تحس بقبضة متينة تضغط على ظهرها ، وتدفع الماء من فمها ، فتحت عينيها متاوهة ، كانت مستلقية عل حافة الحوض، ورئتاها تقذفان الماء خارجا ، حاولت إكتشاف هوية صاحب اليدين التين تضغطان عليها ، سمعت ديفلين يقول بصوت هادىء:
" لا تتحركي ، ستكونين بخير قريبا".
ثم تكلم هيو:
" كريستينا ، كريستينا ( ثم إرتمى أمامها ) أعذريني ، لم أقصد إيذاءك ، كانت مجرد لعبة ".
كان صوته يقطر ندامة ، ولكنها لمست في نبرته مسحة من الإبتهاج بالنجاح أيضا ، وأدركت كريستينا أنه يحاول تلقينها درسا لن تنساه ، اغمضت عينيها لتحجب مرآه عنها.
إنحنى ديفلين يساعدها على النهوض، ثم حملها بين ذراعيه ، شعرت بإطمئنان غريب ،وهو يمضي بها الى غرفتها ، وإستلقت على سريرها ، كانها في حلم من تلك الأحلام التي تختلط فيها لحظات اليأس والذعر ، بقبس الأمل والرجاء.
جلس ديفلين على حافة السرير ،وحدّجها بنظرة معاتبة :
" هل تسبحين دائما بهذا الأسلوب المحموم؟ لو لم أصل في اللحظة الحاسمة ، لكنت في وضع سيء للغاية".
كان صوت في داخلها يحثها على قول حقيقة ما جرى ، والإرتماء في أحضانه ، والتنفيس عن لواعجها ومخاوفها ، لكنها ترددت ، وهي تدرك نتيجة خطوة كهذه ، غمغمت بإعياء :
" كنا نلعب في الماء ، ثم تطورت الأمور ، إنها غلطتي منذ البداية".
قال بعذوبة:
" لا شك في ذلك ، ربما يكون من الأفضل الإحتراز قليلا عندما تمارسين ألعابا كهذه ، أو على الأقل التريث في إختيار من تلعبين معه".
أطرقت براسها :
" ربما كنت على حق ، يبدو أن علي أن أشكرك ثانية".
صمت قليلا ، ثم نهض واقفا وهو يقول:
" سيجلبون لك الشاي في أية لحظة الآن ، أرجوك أن تعتني بنفسك ، والإصغاء الى نصائحي".
هزت براسها ، يهدها التعب ، غمرتها رغبة جامحة لتغرق في نوبة من البكاء والنحيب ، ولكنها لن تسمح لنفسها بالظهور بمظهر الضعف أمام ديفلين ، يجب عليها ، ومهما كانت الظروف ، الإحتفاظ ببعض كرامتها وإحترامها ، لم تنظر اليه ثانية ، وسمعت وقع خطواته يهبط سلم الحديقة ، ثم إضمحل الصوت نهائيا ، فتدحرجت على خديها دموع كالجمر الحارق.
مسحت دموعها ، متأهبة لإستقبال السيدة كريستوف التي ستحمل اليها أبريق الشاي في أي وقت ، راتها تدخل بصحبة السيدة براندون التي هتفت فور دخولها:
" كريستينا ! ما الذي جرى؟".
حدقت فيها كريستينا مليا وهي تتناول فنجان الشاي ، وأحست بقشعريرة باردة تنفذ الى عظامها رغم جو الغرفة الدافىء ، إقتربت السيدة براندون من السرير بعد أن أشارت على السيدة كريستوف بالخروج ، قالت العجوز بشفتين مرتجفتين:
" يا له من حادث مؤسف ! كدت تغرقين في الحوض لولا أن أسرع ثيو لإنقاذك ".
إنحنت كريستينا الى الأمام:
" أهذا ما قاله لك ؟ لولا وجود ثيو هناك لما كنت في حاجة الى الإنقاذ يا سيدة".
تأوهت العجوز منكمشة في كرسيها ، اخرجت منديلا ومسحت به جبينها:
" اعرف أنك منهوكة القوى يا عزيزتي ، ولا تدركين معنى كلامك ، خذي قسطك من الراحة الآن ، وسنتحدث في وقت لاحق".
ردت كريستينا بأسى:
" أنا أدرك تماما معنى كلماتي ، ناقشت موضوع الزواج مع ثيو ، ولم تعجبه آرائي ،ولذلك قرر ان يعاقبني ، هذه هي الحقيقة المرة".
حاولت السيدة براندون تملقها:
" يجب أن تراعي شعور شاب مثل ثيو ،، وتتفهمي مدى خيبة امله".
ردت كريستينا بمرارة:
" آسفة لجهلي ، لم تخطر في بالي مسألة بديهية كهذه ، ولكنك تعلمين أنه يستحيل علي البقاء هنا بعدما جرى ، اود أن أرحل بأسرع ما يمكن....".
تأوهت العجوز:
" لا ، لا".
ولاحظت كريستينا بإرتياع إضطراب السيدة براندون ، إذ كانت تتنفس بصعوبة وإجهاد وتضغط بيدها على صدرها .
قفزت كريستينا من سريرها صائحة:
" سيدة براندون ، هل انت بخير؟".
وسمعتها تتمتم:
" اقراص الدواء ... محفظة يدي....".
فتحت كريستينا المحفظة ووناولتها علبة الدواء ، إبتلعت قرصا ، ثم لم تلبث أن هدأ روعها ، وإستعادت بعض حيويتها ، قالت تخاطب كريستينا بلهجة قاسية:
" هل تدركين الان كم انا عاجزة ؟ مع ذلك لم أتعرض لنوبة كهذه منذ مجيئك ، إنني اعول عليك كثيرا يا إبنتي".
قالت كريستينا بإحتجاج:
" ولكنني لم افعل شيئا".

نيو فراولة 15-02-12 07:47 PM

مدت السيدة براندون يدا مرتعشة:
" ولكنك أدخلت الأمل الى قلبي يا إبنتي ، شارفت حياتي عل نهايتها ، ولا أتمنى أي شيء سوى رؤيتك تعيشين مع ثيو في بيت واحد ، أنت وحدك قادرة على إسعاد ثيو وإسعادي".
جحظت عينا كريستينا:
" إستمعي الي جيدا يا سيدة براندون ، لن أتزوج ثيو ، الان او في أي وقت آخر ، وانوي الرحيل عن سانت فيكتوار والإستقرار في أنكلترا ، سواء قبلت ام رفضت".
إغمضت العجوز عينيها:
" نعم ، ربما كان ذلك أفضل حل ، سأحجز لك مقعدا على الطائرة من المارتينيك ، ولكن ليس الآن ، أرجوك يا كريستينا ان تتكرمي علي وتساعديني في الإعداد لعيد ميلاد ثيو الأسبوع المقبل ، وبعد ذلك لك مطلق الحرية ، وساقدم كل مساعدة ممكنة".
جلست كريستينا على سريرها ، تتجاذبها آراء متضاربة ، اقنعت نفسها أن بقاءها بضعة ايام أخرى لن يغير شيئا طالما أن السيدة براندون رضخت للأمر الواقع كما يبدو ، قالت متنهدة:
" حسنا ، سابقى ثم ارحل فور إنتهاء الحفلة".
راحت تتقلب متململة في فراشها تلك الليلة ، حائرة ، غاضبة ، تتقاذفها اصابع القدر الخفية ، وصورة مستقبلها الغامض ، لماذا قررت البقاء ؟ هل لأنها أشفقت على السيدة براندون وأرادت الحفاظ على ذكرى صداقتها القديمة مع عمتها غريس؟
دفنت راسها في الوسادة ، هتف صوت داخلي يهزأ منها ، إن عدم رحيلها مباشرة يتعلق به هو ، إنه السبب الرئيسي وراء بقائها ، وأملها في سماع كلمة واحدة تغير مجرى حياتها ، ومهما كان تعلقها به وحبها له ، فكرت يائسة ، ما الفائدة من هذا الإنتظار ؟ آن لها الإقتناع بطبيعته وإستهتاره ، إستغل يولالي ، وهو يريد إستغلالها لا أكثر ، هذا هو الواقع الأليم ، ولكن عليها مواجهته كما هو ، إن ديفلين رجل شرير عليها الإبتعاد عنه.
كانت لا تزال كئيبة ومتعبة عندما إستقبلت أنوار الصباح ، إرتدت ملابسها بسرعة، وتوجهت لتوها الى جناح السيدة براندون ، إعترضت يولالي طريقها قائلة:
" إن السيدة براندون لا تزال مرهقة ، وقد إستدعينا الطبيب لمعالجتها ، ولا ترغب في رؤية أحد".
عادت كريستينا أدراجها ، كانت تلقت تعليمات واضحة بالإعداد لحفلة ثيو ، عمدت الى إرسال كل بطاقات الدعوة ، ثم توجهت للتداول مع السيدة كريستوف ،وجدتها متجهمة الوجه ، تبدي تافها من الحفلة وهموم إستقبال الناس والإهتمام بهم، فقررت أن تتحدث الى الطاهية مباشرة.
كانت كريستينا في حالة يرثى لها ، عندما سمعت هدير سيارة خارج المنزل ، ولمحت السيدة كريستوف تفتح الباب لزائر أتى للإطمئنان على صحة السيدة براندون ، لكن اصابتها الدهشة وهي ترى لورنا مينارد تدخل الى غرفة المكتبة فلحقت بها ، وتهللت اساريرها:
" لورنا ! يا للمفاجأة السارة ، ماذا تفعلين هنا؟".
ردت لورنا تتكلف إبتسامة باهتة:
" إستدعتني السيدة براندون هذا الصباح ، ويبدو أن علي مساعدتك في شؤون الحفلة ، خاصة وانك ستصبحين سيدة المنزل عما قريب".
حملقت كريستينا مندهشة:
" ماذا تقولين ؟ هل أصبحت حديث الجزيرة؟".
أجابت لورنا بعفوية:
" إنك على كل شفة ولسان ، ولم تعد القضية سرا ، أليست الحفلة من اجل إعلان الخطبة؟".
قالت كريستينا ببطء:
" لا ، إن الحفلة من أجل عيد ميلاد ثيو لا أكثر ولا اقل ".
نظرت اليها لورنا بإرتياب :
" كنا نتوقع زواجك من ثيو منذ أن وطئت قدماك أرض سانت فيكتوار".
قالت كريستينا مستاءة:
" يا لخيبة الأمل ، أطمئنك يا لورنا انني ساقفل عائدة الى أنكلترا الأسبوع المقبل ، ولن يرى وجهي احد من عائلة براندون بعد ذلك".
إرتسمت إمارات الغبطة على وجه لورنا :
" هل انت جادة ؟ يا له من خبر سار ! ولا اخفي عنك مدى كراهيتي لهذا الصبي الأناني المدلل ، إن زوجي كلايف لا يقل كرها لثيوعني ، يا له من ولد خسيس، كلما وقع نظري عليه ، اخال انني ارى أبليس اللعين".
نعم ، فكرت كريستينا ، هذه هي الحقيقة التي فاتتها ، حقيقة غطرسته،وحبه للسيطرة والإستبداد ، وفظاظته ، كانت تظن ان تحذير العراف ينطبق على ديفلين ، ولكنها كم كانت مخطئة ! الآن تعرف من هو أبليس الحقيقي.
إستطردت لورنا:
" ولكن كيف ستغادرين هذا المكان؟ إن عائلة براندون لا تتخلى عن غنائمها بسهولة".
"وعدتني السيدة براندون امس بمساعدتي على الرحيل فور إنتهاء الحفلة".
حدّجتها لورنا مستغربة:
" يبدو لي أنها خدعتك ، وإلا ما معنى أخذ الخاتم الى الصائغ لتنظيفه وتصغير حجمه ، وطلبت منا الإستعجال".
علقت كريستينا:
" هكذا إذن ، كانت السيدة براندون تريد وضعي تحت الأمر الواقع في ليلة الحفلة معتقدة أنني لن أجرؤعلى رد طلبها أمام اصدقائها".
سالتها لورنا برقة:
" وهل ترفضين طلبها في وضع كهذا؟".
تنهدت كريستينا :
" إنه موقف حرج ، ولذلك علي الفرار بأسرع وقت ، متى يبحر المركب من الميناء؟".
" الساعة الرابعة بعد الظهر ، ولكن كيف ستصلين الى هناك؟".
تراقصت عينا كريستينا:
" سأطلب من لويس نقلي بالسيارة ، سأختلق عذرا ملائما ، فاقول له انني أريد مقابلة فرقة موسيقية لإكتشاف إمكانية إستئجارها ليلة الحفلة.
سالتها لورنا:
" وماذا عن أمتعتك ؟ كيف ستحملينها معك بدون إثارة الشكوك؟".
رمت كريستينا يديها متأوهة:
" لا بد من العثور على وسيلة ما".
قالت لورنا:
" أحزمي أمتعتك ، وضعيها في مكان أمين ، ثم آخذها معي الى بيتي وأحتفظ بها حتى تتدبري أمرك فأرسلها اليك ".
" شكرا يا لورنا ، لا أدري كيف أعبر لك عن عرفاني بالجميل".
تنهدت لورنا:
" والان لنعد الى الحفلة وتدبير شؤونها".

نيو فراولة 15-02-12 07:48 PM

تناولت كريستينا طعام الغداء بسرعة ، ثم تسللت الى غرفتها لحزم أمتعتها ، وكانت انهت إعداد كل الترتيبات اللازمة للحفلة ، ومن كل النواحي ، ظل شبح ديفلين براندون يطاردها ، ويلقي بينها وبين مستقبلها ستارا غامضا مليئا بالتساؤلات ، عقدت العزم على نسيانه ، وإعتبار شعورها المتأجج نحوه مجرد نزوة عابرة لن تلبث ان تتغلب عليها ، وعلاوة على ذلك ، تابعت افكارها ، لم يبدر منه ما يشجعها ، ويمنحها بعض الأمل لتقع تطور إيجابي حقيقي في موقفه.
ألقت نظرة اخيرة حزينة حولها ، ثم حملت حقائبها عبر السلم الخلفي ، ومضت الى طرف الحديقة ، وأخفت الحقائب تحت شجرة مورقة بإنتظار مجيء لورنا لنقلها في الوقت الملائم .ثم اقفلت عائدة الى غرفتها ، وهبطت الى الدور الأرضي حيث كانت لورنا تتوقعها بلهفة مع السيدة كريستوف ، وقالت لورنا بهدوء:
" إن لويس ينتظرك في السيارة ، لقد اخبرته عن ضرورة ذهابك الى المدينة لمقابلة فرقة موسيقية".
شكرتها كريستينا بإبتسامة ذات معنى ، وسارت نحو الباب الأمامي ، فرأت لويس يتمشى امام السيارة مترقبا قدومها ، وهرول يفتح لها الباب بكل لباقة وإحترام.
إنطلقت بها السيارة تترنح صعودا وهبوطا فوق الطريق التي ألفتها ، وبقي لويس صامتا ، يصفر ألحانا ناعمة ، نظرت كريستينا من النافذة الى الحقول ، غارقة في تفكير عميق ، كان عليها ان تدبر مكانا ما للسكن، وفضلت ان يكون هذا المكان غرفة في فندق، حيث تعرض على صاحبه بعض الخدمات مثل الغسل أو الكنس أو أي شيء آخر مقابل سكنها مجانا ، وما أن تستقر حتى تعمد الى كتابة رسالة مفصلة تشرح فيها مشكلتها للسيد فريث.
ولاحظت فجأة أن السيارة تزداد ترنحا وتارجحا ، ورأت لويس ينحرف الى جانب الطريق ، ويتوقف ، خرج من السيارة ، والقى نظرة على العجلات ، وصاح:
" لا بد من تغيير العجلة الأمامية ، يبدو أنها مثقوبة ".
ولم تعد تذكر كم إستغرق تغيير العجلة اللعينة ، لكنها إنتظرت مدة طويلة ، ونفد صبرها ، ولويس كان لا يزال منكبا على العجلة يفكها بجهد النفس ، ولا يجد سبيلا الى وضع عجلة أخرى مكانها.
وأخيرا نجح لويس في إنجاز عمله ، فداخلها بعض الإطمئنان ، وإنطلقت بهما السيارة نحو الميناء.
ترجلت كريستينا من السيارة، واشارت على لويس بعدم إنتظارها ، فرفع قبعته قائلا:
" كما تشائين يا آنسة".
وأدركت كريستينا أن لويس هو الاخر سمع بإقتراب زواجها من ثيو ، وأخذ يظهر لها إحتراما يليق بربة عمله في المستقبل .
أسرعت الخطى عبر الشوارع المزدحمة التي عرفتها جيدا اثناء وصولها من المارتينيك ، تفقدت ساعة يدها لتتأكد من عدم تأخرها عن موعد إبحار المركب ، وما هي إلا لحظات حتى رأت الميناء أمامها ، والمركب يرسو قرب رصيفه ،وكان الناس يتجمعون حوله ، فإعتقدت أنهم يستعدون للسفر والإبحار.
ومر أمامها احد راكبي الدراجات فتقدمت منه مستفسرة عن حقيقة ما يجري ، ومعنى تجمع الناس بهذه الكثرة ، اجابها بعجب:
" الم تلاحظي تلبد الغيوم في الفضاء ، إن العاصفة على وشك الهبوب ، ولن يبحر المركب نتيجة لذلك بإنتظار تحسن الجو يوم غد ، إنه الإعصار الرهيب يا آنسة".
تراجعت كريستينا تجر أذيال الخيبة والفشل ، أين تذهب الآن ؟ لا يمكنها العودة الى آرك إينجل ، وليس من السهل العثور على مكان تأوي اليه حتى موعد الإبحار الثاني.
كانت تسير ببطء فوق الرصيف ، تضرب أخماسا باسداس ، عندما أحست بقبضة عنيفة تطوق يدها ، وأعلن ثيو براندون مبتهجا :
" يا للصدفة العجيبة! ماذا تفعلين هنا يا عزيزتي ؟".

نيو فراولة 16-02-12 05:20 PM

8- إبتسامة خلف الغيم

إرتمت كريستينا فوق مقعد سيارة ثيو ، تجيل النظر في الطبيعة بمشاهدها المتدافعة كشريط سينمائي، كانت في طريق العودة الى آرك أينجل.
بدا ثيومختالا ، معتدا بنفسه ، كأنه حقّق إنتصارا باهرا ،ولم تحاول اللجوء الى حجة الإتصال بالفرقة الموسيقية لتبرير وجودها قرب الميناء ، فإكتف بكلمات غامضة ، مركزة إنتباهها على تلبد الغيوم السوداء ، ووميض البرق فوق الأفق.
وبعد فترة من الوقت ، تمتم ثيو:
" لا أجد تفسيرا لهذا التصرف يا كريستينا ، كيف تسمحين لنفسك بالرحيل على هذا النحو وقبل إعلان خطبتي بايام ، إن الحب بالنسبة الي مسألة ثانوية ، لا تشغلي نفسك بها ، إن الزواج هو الذي يحل كل مشكلة ، ولا أخفي عنك أن زواجي منك ليس مجرد شغف صبياني بجمالك وأنوثتك".
صاحت كريستينا:
" كفى ! يبدو انك فقدت عقلك".
نظر اليها ثيو بتمعن:
" لا يا كريستينا ، إنك لا تفهمين معنى كلامي ، إن زواجي منك يعني أنني سأرزق بصبي يرثني بعد وفاتي ، وهكذا أحول بين ديفلين وسيطرته على آرك إينجل ، وأنت أفضل فتاة للقيام بهذه المهمة النبيلة ، خاصة وأن جدتي خططت كل ذلك فور وفاة عمتك".
أخذت كريستينا تتلمس باب السيارة ، محاولة فتحه ، وجدت أنه أوصده بإحكام ،وبجهاز خاص يصعب حل لغزه ، أرادت أن تقفز خارج السيارة عندما يبطىء ثيو السرعة وهو يقترب من منعطف في الطريق ، فشلت خطتها ، فحدقت فيه بمرارة:
" يا لك من إنسان قليل الحياء ، إن عمتي غريس لم تتفق مع عمتك على أي شيء من هذا النوع".
رد ثيو بهدوء:
" هذا صحيح ، كل ما في الأمر أن عمتك كتبت رسالة الى العمة مادلين ، أخت جدتي ، وذلك عندما كنت تعيشين معها ، وأخبرتها عن مدى سعادتها بك ، وتم الإتفاق على عقد قرانك ، لتكوني زوجة ديفلين يا عزيزتي ، عثرت جدتي على الرسالة بين أوراق عمتي مادلين بعد مأتمها ، فأخفتها ، والعمة مادلين هي التي كانت صديقةعمتك غريس وليس جدتي".
منتديات ليلاس
أغمضت كريستينا عينيها ، تشعر بدوار عاصف ، حبست الدموع المترقرقة في عينيها وهي تفكر في مصيرها المشؤوم ، أنها تحب الرجل الذي إختارته لها عمتها ، وهي الآن لا تجد اليه سبيلا.
إستطرد ثيو:
" تتلقى عمتي جريدتها المفضلة من أنكلترا ، تماما كما كان يفعل جدي ،وعندما قرأت عن وفاة عمتك غريس ، قامت فورا بالسفر الى أنكلترا بحثا عنك ، ولو إكتشفت أنك قبيحة المظهر أوغير ملائمة لأسباب أخرى ، لما كانت تابعت مساعيها".
هتفت كريستينا ملتاعة:
" أتمنى لو كنت أقبح فتاة في الكرة الرضية".
إنفجر ضاحكا:
" ولكنك لست كذلك ، كفي إذن عن هذا الهراء".
وفجأة ضاعف ثيومن سرعةالسيارة، وإنعطف نحو حافة تلك الصخرة الشاهقة التي تذكرها جيدا ، إرتعدت فرائصها وجلة ، خائفة، نظر اليها ثيو ساخرا:
" ما بالك يا عزيزتي ؟ إطمئني ، هذه المرة سنموت معا ، وتحضننا الأمواج في عناق أبدي".
عادت تحاول فتح الباب وهي تتوسل قائلة:
" بحق السماء يا ثيو ، أوقف هذه السيارة قبل أن يصيب أحدنا أي مكروه".
أعاد ثيو السيارة الى وسط الطريق ، وظل يتارجح بها يمينا ويسارا ، كان الظلام يزحف بعتمته الداكنة ، وإزداد تلبد الغيوم المنذرة بعاصفة غضوب ، تبينت كريستينا أمامهما شجرة كبيرة ، تمتد أغصانها كانها رماح تتلظى شوقا لخوض معركة دموية ، وتذكرت لتوها تمثال آرك إينجل برمحه المسنون.
أمعنت في البحث عن وسيلة لفتح الباب ، وفجأة إنفتح بقوة ، فامسكت به تأهبا للحظة ملائمة ، وكان ثيو يقهقه كالمجنون ، وهو يقود السيارة في إتجاه الشجرة الكبيرة ، أدركت أنه يمارس لعبة قذرة ، ولن يجرؤ على تنفيذ أي شيء ، وسيتجنب الإصطدام مباشرة ، وينحرف عن الشجرة.
مدت يدها ، وقبضت على المقود ، مصوبة السيارة نحو جذع الشجرة مباشرة، أخذ ثيو يلعنها ويحاول الضغط على دواسة السيارة لإيقافها ، قفزت بسرعة من الباب ، فتهاوت فوق الحشائش بجانب الطريق.
ظلت مستلقية على ظهرها برهة قصيرة تعاني من بعض الألم ، ثم نهضت قليلا ، وببطء شديد ، تتحرى مصير ثيو وسيارته ، رأت السيارة مصطدمة بجذع الشجرة ، وقد تحطم جزء من غطاء المحرك ، لم تبدر أية حركة من داخل السيارة ، فمشت متثاقلة نحوها.
كان ثيو منبطحا فوق المقود ، وإعتقدت للوهلة الأولى أنه يرقد ميتا ، الى أن أحست نبضه فتنهدت الصعداء لبقائه حيا ، خطت الى الوراء وهو يئن متأوها ، وقررت ان تبتعد عنه باقصى سرعة ، وقبل أن يستعيد كامل وعيه.
أطلقت ساقيها للريح ، هائمة على وجهها ، كانت تركض بكل قوتها ، وبدون ان تعرف في أي إتجاه تحملها قدماها.
مرت دقائق معدودة وهي تمضي راكضة ومهرولة ، ثم تلألأت وراءها انوار السيارة ، فإنتابها ذعر شديد ، وهي تفكر بوقوعها ثانية فريسة سهلة بين يدي ثيو اللعين ، إرتطمت بحاجز خشبي ، فقزت فوقه بحذر ، ورات البحر يمتد تحتها ، مزبدا مرغيا ، وسمعت هدير محرك السيارة يقترب منها ، فإنزلقت فوق صخرة ناتئة ببطء ، وإختبات وراءها ، وتابع ثيو طريقه متجها الى آرك إينجل ، لا يلوي على شيء.
رفعت راسها قليلا ، تجيل النظر حولها ، رات في البعيد نورا خافتا ، فداخلها الشك والأمل في آن معا ، وكانت العاصفة على وشك الهبوب.

نيو فراولة 16-02-12 05:21 PM

هبطت الى الشاطىء ، وراحت تسير بخطى ثابتة في إتجاه ذلك الضوء ، ولاح امامها كوخ ديفلين يربض جميلا ، آمنا واعا.
كان التعب يهدّها هدا عندما وقفت أمام باب الكوخ ، وإنهالت عليه بقبضتها ، قرعت الباب أكثر من مرة ، فلم تسمع أي جواب.
وقفت صامتة يمزقها اللم كالطير المذبوح ، همت أن تعود ادراجها ، عندما إنفتح الباب على مصراعيه ، تفرس في جهها مدهوشا ، ثم جذبها من يدها الى الداخل ، وأوصد الباب ، صاح غاضبا:
" ما الذي تفعلينه هنا أيتها المجنونة ، وفي هذا الطقس؟ إن الإعصار سيهب في اية لحظة ، وما الذي جرى لك ، يبدو أنك مشعثة الشعر ، ممزقة الثياب؟".
قالت بصوت مرتعش:
" كنت أخوض معركة حياة أو موت ، وكدت أهوي فوق إحدى الصخور".
اجاب مهدئا من روعها :
" إذهبي الى الحمام وإغسلي وجهك ويديك ، وخذي قميصا نظيفا من خزانتي وإلتفي به.
ظل يراقبها من بعيد ، الى أن نفذت أوامره ، وجلست على حافة السرير ، إقترب منها ببطء مستفهما:
" والآن ما هي قصتك بالضبط؟".
قالت متلعثمة:
" كنت على حق ، إن عمتك تريدني أن أتزوج ثيو ، وأعدت كل شيء لوضعي تحت الأمر الواقع ، لذلك قررت أن أهرب الى المارتينيك ، لكن المركب لم يبحر بسبب الإعصار ، وكان أن عثر علي ثيو واعادني بسيارته".
فهم لتوه ما تعنيه رغم كلماتها المتقطعة المقتضبة، سالها:
" واين ثيو الآن؟".
بلعت ريقها:
" أتوقع أن يكون في آرك إينجل الان ، كان يمارس إحدى ألاعيبه القذرة لإختباري ، فأخذ ينحرف بالسيارة يمينا وشمالا ، ويوهمني أنه سيصعد فوق المنحدر الصخري ، قبضت على المقود ، فإرتطمت السيارة بجذع الشجرة ، فقد ثيو وعيه ، لكنه لم يصب باذى ، قفزت واخذت أركض الى ان وصلت الى هنا".
صفق بيديه:
" يا لها من تجربة مروعة ، الحمد لله على سلامتك".
ردت بخفر:
" لست أدري ما الذي وسوس بعقله ، قال لي أنه يريد الحفاظ على إسم عائلة براندون ولذلك سيتزوجني غصبا عني ".
هز ديفلين براسه:
" إطمئني يا كريستينا ، إن ثيو لا ينتمي الى عائلة براندون ، لا أدري مدى معرفتك بتاريخ العائلة وربما لا تدركين أن عمتي عاقر لا اولاد لها ، ولذلك كانت تكره أمي ، وعندما كبرت ودخلت المدرسة بدات أشعر بالحرج أزاء تصرفات عائلتي ، واخجلني أننا كنا نملك العبيد فأخذت اتحدث عن ضرورة تغيير أسلوب معيشتنا عندما يصبح آرك إينجل ملكا لي ، وكم كنت مغفلا ، إذ ماأن إنتهت إجازتي وعدت الى المدرسة ، حتى بادرت عمتي الى إبراز ثيو ، وتدّعي أنه الإبن اليتيم لأحد أقربائها الذين لا نعرف عنهم شيئا في المارتينيك ، واعتقد أن السيدة كريستوف هي الوحيدة التي تعلم حقيقة ثيو ، ولكنها تكن الولاء التام لعمتي".
" ولكن لا يمكنها أن تجعل من ثيو الوريث.....".
منتديات ليلاس
اقنعت زوجها ، عمي تشارلز ، بتبني ثيو ، وكان آنذاك ولدا صغيرا ، ولم يعلنا أنهما والداه بل صورا للناس بأنه حفيدهما ، وإستطاعا أن يربياه كما ييدان وفق مبادىء عائلة براندون الشهيرة ، فيتزوج عندما يبلغ سن الرشد ويمنعني من الحصول على آرك إينجل ، ثم توفي عمي تشارلز ، ولحق به كل من أبي وأمي ، فإستأثرت عمتي بكل شيء ، وشب ثيو تحت رعايتها ، بذلت جهودا متواصلة لعقد قرانه على فتاة من العائلات التي تعرفها هنا ، فجوبهت بالرفض القاطع بسبب غموض اصله ، عندئذ صممت على البحث في مكان ىخر".
وتمتمت كريستينا :
" وعثرت علي ، يا ألهي ، عثرت علي".
وإغرورقت عيناها بالدموع ، فوضع ديفلين يديه على كتفيها مربتا:
" ولكن خاب ظنها ، ولم تنجح في ترويضك ، فقرر ثيو كسر عنادك وتحطيم إرادتك بأسلوبه القذر".
ولمع بريق خاطف ، ثم دوى قصف الرعد ، وإنهالت الأمطار بغزارة تطرق سطح الكوخ كأنها اقدام جبابرة ، أحست كريستينا بقلبها يهبط في داخلها كالعصفور الوجل ، إحتمت بصدر ديفلين ، وهي تشعر ببعض الطمأنينة .
قال بهدوء:
" لا تجزعي ، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها الكوخ للإعصار ، وظل صامدا لا يتزحزح ، وما أن يطل الفجر حتى تنقشع الغيوم ، وتهدأ العاصفة".
حدقت فيه متوترة الأعصاب ، ما الذي يعنيه ؟ هل يتوقع منها أن تبيت ليلتها هنا؟".
قالت بتمهل:
" أتمنى أن يخف سقوط المطر بعد قليل ، علي الذهاب قريبا.....".
قاطعها :
" لا لن تذهبي قبل ان يهدأ الإعصار تماما".
أوت الى الفراش بحياء وبعض القلق ، ولاحظت أن ديفلين يجمع بعض البطانيات من خزانته ، ويمضي الى الغرفة المجاورة.
كانت منهكة خائرة القوى ، فلم تلبث ان غلبها النعاس ، وغرقت في سبات عميق.
وما هي إلا لحظات ، حتى إنهالت طرقات متوالية على الباب الخارجي ، يتخللها عويل الرياح الحاد ، خالت أنها في حلم مزعج ، فتحت عينيها قليلا ، وترامى الى اذنيها صوت ديفلين يتبادل الحديث مع كلايف مينارد.
ثم دخل ديفلين غرفة النوم صائحا:
" إستيقظي يا كريستينا وإرتدي ملابسك ، علينا الذهاب الى آرك إينجل لأمر مهم وعاجل".
إستفسرت متثائبة:
" ما الذي جرى ؟ هل ألمّ مكروه بالسيدة براندون؟".
قال متاففا :
" لا ، لا ، إنه ثيو".
اسرعت تنضم الى كلايف مينارد في سيارة الجيب ، وجلست قرب ديفلين.
كانت المصابيح الكهربائية تضيء المنزل عندما توقفا امام السلم ، ولمحت كريستينا سيارة ثيو مهشمة تهشيما رهيبا ، وقد إرتطمت بإحدى البوابات الحديدية أمام المدخل.

نيو فراولة 16-02-12 05:23 PM

صعدوا درجات السلم المؤدية الى المنزل ، واطلت السيدة كريستوف مولولة:
" سيد ديفلين ، سيد ديفلين ، الحمد لله على مجيئك ، يا لها من فاجعة مؤلمة".
دفعها جانبا :
" أين ثيو؟".
" وضعناه في غرفته ، وبذلنا المستحيل لإسعافه".
صاح ديفلين بحدة:
" لا بد من إجراء تحقيق ، أين عمتي ؟ كيف جرى الحادث ؟".
تلعثمت السيدة كريستوف ، وقالت متأوهة:
" عاد السيد ثيو الى المنزل مضطربا ، غاضبا ، سأل عن الآنسة كريستينا ، فقلنا له انها لم تعد بعد ، جن جنونه ، وأخذ يشتم ويلعن ، ثم هرول الى سيارته ، وأدار المحرك ، ولست أدري ما الذي حدث بعد ذلك ، إرتطمت سيارته ببوابة الحديد ، هرولنا لمساعدته ، ولكن بعد فوات الأوان ، كان شابا رائعا بكل معنى الكلمة ، رحمه الله".
ثم راحت تولول وتنتحب بحزن واسى ، إستدار ديفلين نحو كريستينا:
" الأفضل لك أن تذهبي مع كلايف الى بيته ، إبقي مع زوجته لورنا ، وسوف أنضم اليك في الصباح ، وبالمناسبة ، أنوي الطلب منك لقبولي زوجا لك".
تجمدت كريستينا في مكانها مشدوهة ، لا تكاد تصدق شيئا ، شدها كلايف من يدها:
" هيا بنا يا كريستينا، ستغتبط لورنا لرؤيتك ، قلقت عليك كثيرا ، وظنت أنك تعرضت لحادث ما".
ظلت تراقب ديفلين الى ان إختفى عن أنظارها ، ثم تأبطت ذراع كلايف ، وعادت أدراجها.
وكانت العاصفة تتلاشى بسرعة وحبست الغيوم هدير أمطارها.
صعد ديفلين الى الطبقة العليا ، فإعترضت طريقه يولالي تئن بالم ، ضمها اليه يهدىء من روعها ، ودخل غرفة عمته ، فوجدها في حالة من الأنهيار التام ، رفعت رأسها عندما اثترب منها ، وقالت شاكية:
" انت المسؤول عن كل هذا ، أنت قتلت ثيو ، وإياك أن تتفوه بكلمة واحدة ، ساغادر هذا المكان باقرب فرصة ممكنة ، وإفعل ما شئت بالمنزل والمزرعة ، لم يعد يهمني أي شيء بعد وفاة حلم حياتي".
قرر ديفلين ان يتركها وشأنها ، وتوجه الى غرفة ثيو ، ألقى عليه نظرة سريعة ثم اوصد الباب ، ودخل الى غرفة كريستينا وغط في نوم عميق.
نهض باكرا في صباح اليوم التالي ، وعمد الى الإتصال بالشرطة للمجيء الى المنزل ، والتحقيق في الحادث الذي ذهب ضحيته ثيو ، ثم تناول فطوره بهدوء في غرفة المكتبة ، وأسرع الى بيت كلايف لمتابعة بحث مستقبله مع كريستينا.
وجدها تجلس مع لورنا في غرفة الإستقبال ، وما أن دخل حتى هرعت كريستينا نحوه بلهفة:
" هل من جديد؟".
قال برباطة جاش:
" لا ، ستاتي الشرطة بعد قليل ، وتنتهي القضية عند هذا الحد ، ويعلنون الحادث قضاء وقدرا ، أما عمتي فسترحل الى المارتينيك ، وربما الى فرنسا ، ولكنها لن تبقى في آرك إينجل مهما كانت الأحوال ، والآن لنعد الى موضوعنا الأساسي".
نهضت لورنا ، وإستأذنت بالذهاب الى المطبخ لإعداد بعض المرطبات.....
ظلت كريستينا قلقة البال ، فقررت أن تواجه ديفلين بحقيقة شكوكها ، سألته وهو يجلس بجانبها:
" وماذا عن يولالي؟ هل ستتخلى عنك؟".
طافت إبتسامة باهتة على فمه:
" ما الذي تقولينه ، ما علاقة يولالي بي؟".
خالته يمعن في خداعه المعتاد:
" لقد رأيت يولالي تسلل عبر الحديقة الى كوخك تحت جناح الظلام ، ثم رأيت تمثالها بين مجموعة التماثيل الأخرى ، وثمة شيء آخر ، سر إحتفظت به ولم أطلع أحدا عليه ، إن يولالي حامل ، ولا بد....".
تجهم وجهه ، وإنقبضت أساريره ، ورد مقاطعا:
" يا عزيزتي كريستينا ، كم انت بريئة ، أولا ، إن يولالي زارتني مرة واحدة ، وبعد ألحاحها علي لحفر تمثال لها لكي تهديه الى حبيب قلبها ، اما حبيب القلب هذا فهو ثيو ، نعم ثيو ، كان يقيم علاقة سرية معها ، وبدون معرفة عمتي ، أما السيدة كريستوف فكانت تعلم كل شيء ، وانا بالطبع إطلعت على القصة بكاملها من يولالي نفسها".
تنفست كريستينا الصعداء:
" ما أغباني ، لم أحسب أن ذلك الإبليس اللعين قادر على كل هذه الأعمال المنكرة".
إحتضن يدها بين راحتيه:
" والآن ، أحب أن أتقدم منك وأطلب يدك ، هل تقبلين الزواج مني؟".
صمتت كريستينا غارقة في بحر أفكارها ، ماذا تقول له ؟ هل تقبل به زوجا لها ؟ إنها حتما تحبه ، وإكتشفت مع مرور الوقت وتوالي الأحداث أنه رجل صادق ، مخلص ، حاولت عائلة براندون تلطيخ سمعته النظيفة ، وماذاعن إستعدادها للعيش والسكن في هذه الجزيرة الصغيرة؟ وكيف ستتولى شؤون منزل بهذه الضخامة ؟ ثم ، قبل كل شيء ، هل يحبها كما تحبه ؟ قطع ديفلين سلسلة افكارها:
" إنني انتظر جوابا واضحا وصريحا ، وأؤكد لك أن حبي لك صادق وعميق ، ونابع من إعجابي بشخصيتك وذكائك وقدرتك على تحمل المصاعب".
عادت لورنا تحمل أكواب المرطبات ، إنتهزت كريستينا الفرصة لتعلن موافقتها:
" لورنا ، ديفلين يريدني ان أكون زوجة له ، وقد قبلت ، ما رأيك؟".
أجابت لورنا مغتبطة:
" هذا أسعد نبأ سمعته منذ زمن طويل".
غمغم ديفلين بعض الكلمات الغامضة ، ثم رفع يد كريستينا وضمها الى صدره.
وكانت الشمس ترسل اشعتها عبر النافذة ، فتغمر الغرفة بنور متوهج ، متالق وكأنها تعلن عن إبتهاجها بالنبأ السار ، وتتمنى لهما حياة سعيدة ، هنيئة.



تمت

Rehana 25-02-12 06:03 PM

يعطيك الف عافية .. فراولة على تعبك

ندى ندى 03-03-12 01:53 AM

جمييييييييييييييييييييييله جدا جدا

رغد حاتم 24-09-15 09:44 PM

رد: 178 - قيد الوفاء - سارة كريفن - روايات عبير القديمة ( كاملة )
 
اهلااااااااااااااا


الساعة الآن 05:39 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية