موعدنـــــا كمــا وعدت سابقاً مع أول فصــول الرواية اليوم بعد الساعة 11 مساءً قراءة ممتعة وأكيد مشوقة تحيتي للجميع جمرة لم تحترق |
1 ـ طــــوق من نـــار
http://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayat542ba2e1ed.gif 1 ـ طوق من نـــار http://smiles.al-wed.com/smiles/42/117665xz7vascr2h.gifhttp://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayat542ba2e1ed.gif رن جرس الهاتف بينما كانت جيني تضع اللمسة الأخيرة على رسمها لزي جديد . . . وتأففت بنفاذ صبر . أكــثر ما يغيظها أن يقاطعها أحد وهــي تعمل , مما يقطع عليها تركيزهــا . ووضعت القلم بين أسنانها وسارت بسرعة إلى الهاتف . ـ نعم . . ؟ ـ هل لــي أن أتحدث مع الآنســة جيني نيوهام ؟ في الصوت لكنة أجنبية , وشـــيء من التردد . بدا على وجه جيني القلق والصدمــة . فقالت وهي تنزع القلم من فمها : ـ هـي . من المتحدث . ـ جيني ؟ ـ من يتكلــم ؟ ـ إيفا . وسارعت المرأة لتضيف وكأنما خشيت أن تقفل جيني الخط : ـ أنا مضطرة للاتصال بك . . إن روبرتو . . . فقاطعتها جيني بخشونة : ـ لن أتحدث عنه . . . لا الآن ولا أبداً . . . لقد قلت لك من قبل إيفا . لا أريد جرح مشاعرك . . فانا اعرف أن قصدك الخير , ولكنــــي لم أعد أعير ابنك أي اهتمام . . وردت إيفا بصوت مختنق بدا و كأنه البكــاء : ـ لم تفهمي قصدي جيني . فردت جيني ببرود : ـ بل أفهم جيداً . . أوه . لا تبكـــي إيفا ! لا يجب أن تدعي الأمر يكدرك . روبرتو لا يستحق ذلـك مطلقـــاً . وعاد صوت البكاء أعمق من قبل , ومسحت جيني شعرها بيدٍ مرتجفة : ـ إيفا . بحق الله لا تبكــي ! أنا آسفــة . وهمس الصوت المرتجف المخنوق . ـ إنه يموت . . . يموت يا جيني . وللحظــات وقفت جيني شاردة تنظر إلى السماء الرمادية . . . وبدأ تأثير الصدمة يظهر , فتقلصت معدتها , واتسعت عيناها , وصــرخت غير مصدقة . ـ مــاذا تعنين ؟ منتديات ليلاس بالكـــاد استطاعت أن تلفظ الكلمات , فقد خرجت وكــأنها همسة شبح من بين شفتيها الشاحبتين من شدة التأثر . وأصدرت إيفا نحيباً جديداً وقالت : ـ كان يقود سيارته عندما انزلقت وانقلبت به , إذ فوجـــئ بصهريج زيت منقلب على الطريق . وكان هو أول الواصلين ولم يلاحظ هذا إلا بعد فوات الأوان . . وأمضى المسعفون ساعتين لإخراجه . إنه شديد الشحوب لفقدانه الكثير من الدم . ـ اوه يا إلهــي ! هل هو فاقد الوعــي ؟ ـ لهذا أتصل بك . . لقد استعاد وعيه منذ لحظات وأول شــيء تلفظ به هو اسمك . ـ اسمي ؟ وأغمضت جيني عينيها بأسى . وتابعت إيفا الحديث بسرعة وكــأنها تخاف من أن تقفل جيني الخط : ـ سأل عنك , ومتى ستأتين . . . جيني إنه يعتقد أنك ما زلت زوجته . وطال الصمت بينهما , وأنفاس جيني تتقطع , والألم فــــي عينيها . ثم ســألت بخشونة : ـ لمَ تقولين هذا ؟ ـ إن الأمــر واضح . . لقد قال : أين جيني ؟ أين زوجتي ؟ فـــي البداية ظننته يهلوس . . وبعد حين أدركت أنني مخطئة . . . جيني لقد فقد ذاكرته , نسي أي شــيء حدث له خلال الخمس سنوات الماضية . . نســـي أندرو . . . وعندما ذكرت اسمه أمامه لم يعرفه فأصبت بالصدمة , إنني خائفة . ـ وهل كان واعياً للحادثة . ـ يقول الأطباء نعم . . . ولكن الإصابة في رأســه خطرة . لقد أجروا له عملية عند وصوله المستشفى , ويقولون إنهم خفضوا من الضغط على الدماغ . . ولكن من يعلم ؟ ورطبت جيني شفتيهــا : ـ قلت . . قلت إنه يموت . هل هذا رأي الأطباء ؟ ـ أنت تعرفين الأطباء جيني , إنهم لا يعطون الجواب الصحيح , ويراوغون دائماً . ولكنك ترين الأمــور بادية على وجوههم , ينظرون إليك فتعرفين كل شـــيء بوضوح . ـ ولكن ماذا قالوا ؟ ـ أوه . . . إنه ليس على ما يرام . . إنه مصاب بشكل خطير . . كما قالوا لي , والآن قالوا إذا استطعت المجيء . . سيكون هذا أفضـــل . ـ إذا استطعت ؟ واتسعت عيناها , وأصبح اخضرارهما شديداً مقارنة مع بياض بشرتها . . وعضت على شفتها وقال ببطء : ـ إيفا . . لا يمكنني الحضور . ـ إنه يسأل عنك طوال الوقت , يريد أن يعرف لِمَ لــم تزوريه . أوه . . جيني . . ألا تستطيعين فهمي ؟ إنه يعتقد أنك كنت معه في السيارة ساعة الحادثة , وأنك مُت , وأننا نخفي الخبر عنه . راقبت جيني عصفوراً طار من على شجرة قريبة , فارداً جناحيه دون صعوبة . يرتفع وينجرف مع الهواء الحار . . إنها لا تستطيع التفكير بروبرتو سوى إنه قوي وشرس , ولا تستطيع أن تتصور بأنه سيموت . فهو دائماً كان بالنسبة لها مفعم بالحياة . ثم تابعت إيفا : ـ أعلم أن معاملته لك كانت سيئة . الملاحظة جعلت شفتي جيني تلتويان بمرارة وقالت قبل أن تستطيع منع نفسها : ـ ما هذا التصريح المتأخــر ! ـ ولكنه يموت ! لا يمكنك رفض رؤيته . . جيني . . تعرفين أنه لا يمكنك . منتديات ليلاس صحيح . . إنها تعرف , وهذا ما جعلها غاضبة , وقد غلف الحزن نظراتها , وهــي تتطلع من النافذة , وتابعت إيفا بســرعة : ـ ســأرسل لك سيارة . وكل ما عليك فعله أن تقفــي قرب سريره لبضع لحظــات ليرى أنك سالمة . . وهذا لن يؤذيك يا جيني . كان فــــي كلامها سخرية خفيفة , أدهشت جيني , فلطالما كانت إيفا لطيفة معها . . فقالت بقلق : ـ لا بأس . فتنهدت إيفا ارتياحاً . أقفلت جيني الخط , وأخذت تحدق في السماء . . المطر ينهمر , رذاذ خفيف ينقر الزجاج وكـــأنه الأصــابع . لم تر روبرتو منذ خمس سنوات . . ولقد عانت كثيراً لتتخلص من ذكراه ولتمسح طيفه من عقلها الباطن . . كانت تحلم به ليلة بعد ليلية ولسنوات . . كارهة نفسها لعدم قدرتها على السيطرة على مخيلتهــا . التقيا وكانت لا تزال صغيرة . . لا خبرة لها بالحياة . . وتقبلت طابع شخصيته الأكبر سناً والأقوى دون أن تدرك حتى ما كان يحدث لها . روبرتو , وبطرق كثيرة , كان يجعلها طيعة له . . يعيد قولبتها وكأنه النحات يقولب الصلصال الطري . يتمتع بفرض الغموض عليها . . ولقد مرت بنوع من الصراع الداخلي مع نفسها عندما حاولت التخلص من سيطرته . لقد كانا متناقضين . . . كان شديد السمرة بقدر ما هي شديدة الشقار . . مسيطر على نفسه بينما هي متقلبة . . هو متصلب شرس لا يلين بينما هي حساسة وسريعة العطب . . . ومن الجنون أصـــلاً أنها انجذبت إليه . . ولكنها أصيبت بالدوار لوجوده كالفراشة أمام الضوء الساطع , لا تهتم أن تحرق جناحيها . . و روبرتو اغتنم كل ما فيها من ضعف ليتمسك بها دون رحمــة . تستطيع أن ترفض الذهاب . . . بالطبع . . . و لكن إذا كان يموت . . فهل تستطيع الرفض ؟ قد لا تستطيع مواجهة عالم هو ليس فيه . حتى كراهيتها له تعطيها سبباً للحياة . تخلصت من دائرة أفكارها المجنونة القاسية , ونظرت إلى ثيابها . الملطخة بالدهان . . يجب أن تغير ثيابها وغطت رسومها , ثم دخلت الحمام , خلعت ملابسها واستحمت , ثم ارتدت فستاناً صوفياً أخضــر اللون قاتماً . عندما سمعت رنين جرس الباب كانت جاهزة , فتحت الباب فإذا بها أمام شاب صغير خطا إلى الأمام وقال مقطباً : ـ مرحبا جيني . ـ هل أنت جوليان ؟ لم تستطع أن تصدق أنه ذلك الشاب اليافع أين الخمسة عشرة سنة عندما قابلته آخر مرة . . . أين التصرفات الخرقاء , والبثور والبشرة الناعمة , من هذا الشباب ذي الأعوام العشرين , الأنيق الرقيق , بشعره الذي يصل إلى ياقة قميصه ؟ . . شبهه بأخيه أكثر بروزاً الآن من ذي قبل . . ـ كيف حالك جوليان ؟ ورد عليها بصوت خشن : ـ أنا بخير . كان دائماً متعلقاً بأخيه , فهم عائلة مترابطة . . الباستينو لهم علاقة متينة منسوجة بدقة . ولقد وجدت جيني صعوبة كبيرة في البداية في الانتساب لهذه العائلة . . وأحست في البداية بالمقاومة لها . . والعدائية . . وحتى الغيرة . . وبالتدريج أحست أنها تلبس ثوبهم , ولكن في النهاية لم تعد تستطيع الاحتمال . وأخذ جوليان منها المعطف الذي تحمله وساعدها على ارتدائه , وقال : ـ السماء تمطر . . ولدي مظلة , سنضطر إلى الركض نحو السيارة عندما نخرج . منتديات ليلاس كان قد مضى زمن طويل لم تركب جيني فيه سيارة فخمة كهذه السيارة . ونظرت ساخرة إلى الفراش الأبيض المنجد , وإلى لوحة العدادات اللماعة وكـــأنها صنعت لطائرة حربية . وملس جوليان شعره الأسود إلى الخلف , واستدار لينظر إليها . ـ تبدين أكثر جمالاً ممـــا أذكرك جيني . كان في عينيه وميض إعجاب وهما تحومان حولها لتستقرا قليلاً عند الساقين اللتين برزتا من تحت حافة الفستان . وكان يمكن أن تجد اهتمامه الرجولي بها مثيراً لولا أنه ذكرها بأول لقاءٍ لها مع أخيه . وســألته : ـ كيف حاله وهل شاهدته ؟ ـ لقد رأيته . وماذا أستطيع أن أقول . . يبدو بحالة رهيبة . . لقد أحسست بالدوار عندما وقفت قرب سريره وشاهدت عن كثب ما حدث له . لطالما كان رجلاً قوياً , والآن قد أصبح حـطـــاماً . فارتعدت جيني ! ـ أنا آسفـــة ! ـ هل أنت آسفــة حقاً ؟ أتســاءل . فاتسعت عيناها : ـ وماذا تعنـــي ؟ ـ أنت تكرهينه وأنا لا ألومك , فلديك أسبــابــك , ولكن أرجوك , لا تدعـــي الحزن وأنت لا تشعرين به . لا بأس بذلك أمام أمــي , فهي رقيقة القلب لتصدق بأنك لا زلت مهتمة . . أما أنا فلا أطيق الكذب . فلو كنت مكان روبرتو , ولو كنت أموت , فلن أرغب في أن تبكـــي قرب سريري . فلمعت عيناها الخضراوان غضباً : ـ لم أكن يوماً ممثلة بارعة لأدعي أي شـيء جوليانو . . فأنا ذاهبة لأراه لأن والدتك توسلـت إلــي . . ولأجــل راحة نفســـي قبلت . . إنها فكرة سخيفة أن أراه ثانية . لو أنه في وعيه لما فكرت بالأمر . ولكن إيفا رجتني , وأنا مولعــة بأمك جداً . كان لجوليانو بقية من الذوق ليخجل , فاحمر وجهه , ووضع يداً معتذرة على ذراعها . ـ جيني . . . أرجوك . . أنا آسف حقاً . أنها الصدمة لرؤيته هكذا , جعلتني أعتقد أن لا شــــيء آمن , لاشــيء ثابت . . قد كان دائماً صخرة العائلة . . الأقوى بيننا كلنا , كان بالنسبة لــي الأب منذ وفاة والدي . أجفل جيني لهذه الذكرى . . فهي لا تريد أن يذكرها أي شــيء بأنطونيو باستينو . فقد كان عدوها منذ البداية , وآخر مرة رأته فيها أهانـها بمرارة وأذلها . ولم يخفف موته بعد ذلك بأشهر من شعورها بالكراهية له . ـ ألا يجب أن نذهب الآن ؟ ـ أوه . . أجل . بالطبع . بعد لحظات من انطلاقهما ســــألته : ـ ماذا تفعل الآن جوليانو . . . أتعمــل في المؤسســة ؟ ـ بالطبع . . وما غيره ؟ فرددت بسخرية : ـ وما غيره . . ـ أعمـــل هنا في نيويورك . ـ أوه . . لم أكن أعلم هذا . . منذ متى أنت هنا ؟ منذ سنة . أمضيت في لندن مع روبرتو ثم أرسلني إلى هنا لأكتسب المزيد من الخبرة . ـ وهل تعجبك السكنى في نيويورك ؟ ـ ليست مثل روما . وابتسم . . فابتسمت بدورها : ـ صحيح . ـ أنا مشتاق للشمــــس . ـ وهل ستعود إلى لندن أم ستقيم هنا ؟ فهز كتفيه : ـ هذا عائد لقرار روبرتو . . إذا عــــاش . وساد صمت متوتر , مرفق بأفكــار صامتة , ثم ردت عليه بغضــــب : ـ بالطبع سيعيش ! لا تستسلم جوليانو , فروبرتو لن يسمح لك بهذا لو عرف . يجب أن تؤمن بأنه سيتحسن . ـ ولكنك لا تصدقين هذا وإلا لما جئت . منتديات ليلاس بساطة رده صدمتها , ونظرت إلى الطريق متنهدة والدموع تنهمـر من عينيها . إنه محق , إنها تتظاهر بالهدوء , لكن في الحقيقة . إنها تشعر بالبؤس يملأ نفسها ولا تجرؤ على البوح به . توقفت السيارة بهما خارج أبواب المستشفى الزجاجية , وخرج ليساعدها على النزول واضعــاً ذراع تحت مرفقها , وقـــال : ـ يجب أن أوقف السيارة بعيداً . انتظري هنا . . لن أتأخـــر . صحيح أن المطر توقف ولكن السماء ما زالت مكفهــرة , وكأن المزيد من المطر يتجمع تحت الغيوم , وعاد جوليان بسرعة ليمسك بذراعها ثانية . . وسارا عبر المدخل المكتظ نحو مصعد فــــي المؤخرة . ودخل وراءها جمهرة من الناس , وما أن توقف المصعد حتى بدأ جوليان يشق طريقه معتذراً ليخرجا . ولحقت به جيني , قلبها يدق بقوة جعلتها تظن أن كل من كان قربها قد سمعه . إنها لم تشاهد روبرتو منذ خمس سنوات . ودخل بها جوليان إلى غرفة الانتظار . أحست بالقشعريرة . . أسرعت إيفا راكضة نحوها , وذراعها مفتوحتان . ـ جيني . . أوه يا عزيزتي ! وتعانقتا . . الخد على الخد , رأس إيفا الأسود أقصر من رأس جيني الأشقر بقليل . كانت قد نسيت كم أن إيفا صغيرة الجسم , فبين ذراعيها بدت العجوز كالطفل لصغر بنيتها . وتراجعت جيني عنها لتنظر إلى البشرة السمراء والعينين البنيتين اللتين تحملان الحزن والألم . وبدت إيفا أكبر سناً , فمنذ خمس سنوات كانت متوسطة العمر تمضي أوقاتاً طويلة أمام المرآة لتظهر أصغر سناً . أما الآن فهي تبدو مسنة . لقد انقض الزمن عليها كالذئب , فحرمها من حيويتها . وخسرت من وزنها , وتجور خداها , وأصبحت عيناها أعمق تحت حاجبيها السوداوين الكثيفين . . . وقالت إيفا مرتجفة محاولة الابتســام : ـ كم اشتقت لك . ـ وأنا كذلك . ـ كم هي الحياة ساخرة . . أخيراً عدنا والتقينا . . ولكن الأسبــاب مريعة ! ونظرت جيني إلى من حولها في الغرفة : آنا تعرفها , لم تتغير أبداً ولا شعرة منها تغيرت . كانت تجلس منعزلة , إنها الفتاة الوحيدة في العائلة . وجهها الممتلئ هادئ لا ينم عن شــيء وعيناها السوداوان دون أي تعبير . إنها أكبر ببضع سنوات من روبرتو , ومتزوجة من مهندس ايطالي . . زواجها سعيد , ولديها اربعة أولاد كما كانت تعرف آخر مرة . ثلاثة أبناء وبنت . ولكن الاولاد بكل تأكيد لا يحملون اسم باستينو ولذلك لا حساب لهم , وآنا تعرف هذا وتمتعض منه . كانت تكره جيني , لأنها لو حملت بأي طفل فسيحمل اسم باستينو . منتديات ليلاس لويس كان يجلس قرب آنا . بدا سميناً و ضخماً . . كتفاه العريضان يتناسبان تماماً مع سترته المفصلة بدقة على قياسه . ولروبرتو علاقة تخلو من الود مع ابن عمه . فهو على كل الاحوال باستينو . ابن أحد ثلاثة اشقاء , عملوا جاهدين لبناء إمبراطورية باستينو . وباستمرار انتقال لويس الدائم من نيويورك إلى لندن , ومن لندن إلى روما , لم يكن عدواً لجيني . . بل على العكس فلقد حاول عدة مرات إظهار إعجابه بطريقة سمجة اضطرت معها إلى ردعه ببرود . . وها هو الآن يبتسم لها متمتماً بالتحية فردت عليه تحيته بهدوء . وجلس ولد صغير إلى جانب لويس , ويده في يده . عرفت من هو وخفق قلبهـــا ألمــاً . ولاحظت إيفا نظراتها إلى الصبي . . فقالت بنعومة : ـ إنه أندرو . انزلق الصبي من كرسيه ليأتيها راكضاً , ووضعت إيفا يدها على رأسه الأسود , وأدارته نحو جيني : ـ جيني هذا أندرو . . أندرو . . . هذه جيني . وأحست جيني وهي تنظر إلى الطفل بالغضب والتأثر معاً . إنه صورة عن أبيه . له عينا عائلة باستينو السوداوان المائلتان إلى الأعلى , يحيط بهما رموش سوداء كثيفة ترتفع إلى فوق . . وشعر أسود براق , أنف مستقيم متكبر , وجنتاه مرتفعتان . وحده فمه الزهري الناعم الملــيء بالحداثة والرقة ذكرها بذلك الفم الذي كان يجبرها يوماً على الاستسلام . ـ مرحباً أندرو . امتدت يده بأدب , وأمسكت بها . وأحست بالألم المفاجــئ للسرور الذي أحست به لملمسها . . وتفحصتها عيناه . . وكأنه يعرف كل شــيء عنها . . ولكن هل أخبروه بــشــيء بحق الله ؟ تقدمت آنا . . والامتعاض باد في كل حركاتها , وأدارته ثانية لتعيده إلى المقعد , ونظرت إيفا لابنتها , وتنهدت . . ثم استدارت إلى جيني وســألتها : ـ هل ستدخلين الآن لرؤيته ؟ عند باب الغرفة توقفت والتفتت بقلق إلى جيني . ـ ستكونين حــذرة . . ألن تفعلــي ؟ لا تدعيه يتكلم , ابتسمي له فقط . تبتسم ! وتنهدت بصمت , هل تعلم إيفا ما تطلب منها . . . ومررت يدها إلى شعرها , وحملقت عينا إيفا بالخاتم الماسي الذي لمع في يد جيني . . . فصاحت : ـ لا يمكنك وضعه . للحظات بدا عدم الفهم على جيني , ثم احمر وجهها ونظرت إلى الخاتم الماسي في يدها . وتأوهت إيفا : ـ لو شاهد هذا . . . فقاطعتها جيني : ـ ولكنني مخطوبة . . وسأتزوج قريباً . وبدا الارتباك على إيفا , وأخذت شفتاها بالارتجاف . ـ جيني . . أنت لا تفهمين . . إنه يعتقد أنك لا زلت زوجته . ـ إنه مخطئ إذن . ـ ولكن عليك أن تتظاهري لبضع دقائق . . ستسبب الحقيقة صدمة قاسية له . . . وأي شــيء يمكن أن يقلب توازنه . . فهل تستطيعين تحمل موته على ضميرك ؟ ـ أوه . . . يا إلهــي ! أنت تطلبين الكثير إيفا ! وببطء سحبت الخاتم من يدها وسألت : ـ والآن . . ماذا ؟ فتحت إيفا حقيبة يدها , وببطء مدت راحة يدها المفتوحة فأجفلت جيني مما رأته هناك : ـ لا . . لن أفعــل ! ـ إنه يموت . . . ولن تتمكني من الرفض . لن اسمح لك . وارتجفت جيني , ومدت يدها إلى الخاتم , خاتم زواجها القديم , ووضعته في اصبعها . . إنه خاتم وراثي للعائلة . . إيطالي قديم الصنع , له شكل أفعيان ملتفان , ولطالما أثار التعليقات بين صديقاتها . منذ خمس سنوات خلعته ورمته عبر الغرفة إلى والده . وانحنى أنطونيو يومها ليلتقطه , ويبتسم ببرود ويقول بلؤم : ـ سيعود الآن ليكون في اليد المناسبة التي يجب أن تضعه لولا أن تزوجك روبرتو . منتديات ليلاس أمسكت إيفا بذراع جيني لتضغط عليها : ـ شكراً لك حبيبتي . هيا الآن . . إنه بانتظارك . وأمسكت بيد جيني لتقودها إلى الداخل . . التفتت الممرضة الجالسة عند الطاولة بفضول , وأخذ قلب جيني يخفق بجنون , و بدأت تحس بالتعرق في يدها وعلى مؤخرة عنقها عند أسفل الشعر . وعلمت أنها تتعمد ملاحظة تفاصيل ما حوله كــي لا تنظر مباشرة إلى عينيه السوداوين البارزتين من تحت الأربطة البيضاء . ـ جيني ! صوته كالهمس . . أخف بكثير من أن يسمع . . تقدمت من سريره . ـ كنت خائفاً من أن تكوني قتلت في الحادث ويخفون الأمــر عني . ـ كنت مسافرة . . . وعدت فور سماعـــي بالخبر . وتفحص وجهها بنظرته الساخرة المألوفة وتمتم : ـ لا بد أنك ذعرت . ولكنني أرفض الموت . عندما أخفوا عني أخبارك تساءلت اذا كنت ســأحتمل الحياة بدونك . . . ولكنني بعد رؤيتك أنا مصمم على الخروج من هنا , حبيبتي . والتفتت إلى إيفا , ثم عاودت النظر إليه , فرأته يقطب : ـ ألن تقبليني جيني ؟ انحنت فوقه مرتجفة , وقلبها يضرب بصوت مرتفع , ولامست خده بشفتيها . وكانت على وشك أن تستقيم , ولكن يده السليمة أمسكت بها , ثم لامست وجهها . . ووقعت يده فجأة وأغمــض عينيه . وأخرجتها إيفا من الغرفة وذراعها حولها : ـ إنه دائماً هكذا ! فجأة يصحو ثم فجأة يغيب . . . ولكن هذه المرة أظنه سينام مرتاحاً لعلمه أنك سالمة . شكراً لك جيني . ـ لا تشكريني . . بحق الله ! ـ أدرك أن الأمر كان محنة لك . ـ محنة ؟ كان كالجحيم . . . مم تظنين أنــي مصنوعة ؟ من حديد ؟ كنت مضطرة للوقوف هنا لتقبيله , وسماعه يناديني . . . حبيبتي . يا إلهــي . . كم أحسست بالدوار . . . وأنت تشكريني ؟ وانتزعت الخاتم الذهبي الثقيل من إصبعها وأعادته لإيفا : ـ خذي هذا . لا أريد أن تقع عيناي عليه ثانية . . أو على أي واحد منكم ! اندفعت في طريقها متجاوزة إيفا , وخرجت راكضة من المستشفى وكأنما الجن يلاحقها . . تنتحب صامتة . فــي موقف السيارات توقفت , لم تكن تدري كيف تذهب . . . وفكرت أخيراُ . . سيارة تاكسي . . يجب أن تحصل على تاكسي . واستدارت نحو مكتب الاستعلامات لتستخدم الهاتف كي تطلب سيارة تاكسي . ووجدت نفسها تواجه جوليان , الذي نظر إليها نظرة إشفاق غاضب قائلاً : ـ تبدين فظيعـــة . ـ دعني وشـــأنــي جوليان . . أرجوك ! ـ لا تكونـــي سخيفة . . ســأوصلك . وانتزعت ذراعها من يده . ـ ألا تفهم ؟ لقد اكتفيت منكم ! أريد الذهاب لوحدي . . لقد اكتفيت من عائلة باستينو . . ليوم واحد ! ضحكت بهستيريا وأكملــــــت : ـ ماذا أقول ! ليوم واحد ! بل للعمـــر كله ! وقال بهدوء جعله يبدو أكثــــر نضجــاُ من سنه : ـ أفهمـك . ولكنــــني لن اسمـــح لك بالذهاب وحــــدك , فحـــــالتك بائسة . . . ولا يجب أن تتركي لوحدك جيني . لقد أمرتني إيفا أن أبقى معك إلى أن تصلـــي شقتك . وحاولت الخلاص منه , ولكنه لم يتكرها تفعل . . . وقادها أخيراً إلى سيارته وادخلها إليها . . طريق العودة كانت أكثر صمتاً من ساعة الذهاب . خــارج شقتها , نظر إليها وهو يطفــئ المحرك . ـ جيني . . . أمــي ارادتني أن أقول لك . . . فصاحت يائســة : ـ لا أريد أن أسمع شيئاً . فتحت الباب وخرجت قبل أن يتمكن من ملاحظة ما فعلت . وخرج مستديراً أمام السيارة , ولكنها كانت قد اصبحت داخل المبنى ووجدت مفتاحها ودخلت الشقة , اقفلت الباب , واتــكأت عليه . . . تتنفس بعمق . وبدأت الدموع تنهمر على وجههــا . . وقرع جوليان الباب وناداها دون جدوى . . فهــي لن تستطيع التحرك حتى ولو أرادت . . . وأخيراً سمعت وقع أقدامه تبتعد . . . . وببطء , انزلقت على الأرض . . وغابت عن الوعـــي . نهاية الفصل (( الأول )) . . . |
2 ـ أقوى من النسيان
http://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayat542ba2e1ed.gif2 ـ أقوى من النسيان http://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayat542ba2e1ed.gif وقف غرانت في غرفة عملها مائلاً رأسه ينظر إلى رسوم الأزياء الملونة , بنظرات رصينة لطيفة . ـ أنت تتحسنين كل يوم . . ولسوف تلمعين في عالم الأزياء أكثر من دانــــي أتعلمين هذا ؟ ـ وهل يعلم دانــــي بذلك ؟ ضحكت ونظرات عينيها الخضراوين تتراقصان . ـ بالطبع يعلم . إنه يعرف أكثر من أي منا , دائماً يقول إنك ستصبحين رائعة . واقترب غرانت ليحدق بالخطوط الــدقيقة واللمسات الناعمة لرسم زي الفستان أمـــامه : ـ يعجبني هذا . . غريب كيف يبدو متماسكاً عن بعد , ويزداد غموضــاً عن قرب . ـ ليس من المفترض أن تنظر إليه وأنفك فوقه . واستدار لينظر إليها ضاحكاً , ثم تقدم ليحتضنها ولامس أنفه خدها مداعباً : ـ أنت لا تطاقين جيـــني . ـ ومــاذا تعني ؟ ـ جميلة , ذكية . . وهذا ليس عـدلاً . فضحكت : ـ ليس عدلاً ولمن ؟ ـ لكل إناث الأرض . ونظرت إليه بعاطفة , ومالت بطريقة كلها ثقة , ولفت ذراعيها حول وسطــه . . وهمست : ـ ولكننـــي أحبك . وارتفع حاجباه : ـ عندما أطريك ؟ ـ بل فـــي كل ثانية من اليوم . ـ هذا ما أحب سماعه . . . والآن يجب أن أذهب . . . فلدي زبون أقابله بعد قليل . ـ أيجب أن تذهب ؟ لم أراك كثيراً هذا الأسبوع . إنها بحاجة لرؤيته , وخاصة بعد زيارتها لروبرتو . . لم تكن قد ذكرت شيئاً أمامه بخصوص الزيارة بعد , فقد وجدت صعوبة في محاولة الشرح , والله يعلم أنها قصة بسيطة , ولكن أي ذكر لروبرتو باستينو يجعل غرانت يغضب . وقال لها بلطف : ـ بعد أن نتزوج ستتغير الأمور . . . ستصبح مختلفـــة . غرانت كان يحبها منذ سنوات طويلة , حتى وهي متزوجة من روبرتو . وكانت دائماً تعرف هذا . فهو لم يبقِ الأمر سراً , ولكنها لم تستجب له ســوى في السنة الأخيرة , إذ وجدت فيه الأمان الذي تحتاجه . قال لها وهو في طريقه إلى الباب : ـ سيعود دانـــي من باريس بعد يومين . ـ أعلم . . لقد أرسل لــي برقية . . لا بد أنها كلفته ثروة ! إنها رسالة أكثر منها برقية . فضحك غرانت : ـ أعماله رائجة , وباع كل التصاميم . ـ هذا يفسر الأمر . هل أبرق لك أيضاً ؟ ـ لا . . بل اتصل هاتفياً . . من هي لورين ؟ ـ لورين ؟ لا أدري . . . هل ذكرها لك ؟ ـ عدة مرات , ولكنني لم أفهم ما هي علاقتها به . ـ أنت تعرف والدي العزيز . . . ربما تكون عارضة أزياء . فابتسم غرانت : ـ آسف لـلسؤال . فلكمته : ـ ولماذا ؟ أنا فتاة كبيرة الآن , والأيام التي كان يخبئ فيها صديقاته عني قد ولت . أتساءل إذا كانت تعرف الطبخ . . أتذكر لينا ؟ كان طبخها كالحلم . ـ وكانت عارضة أزياء رائعة . . . تلك الأكتاف الرائعة . . . وضحكا معــاً . . . وقالت له : ـ أيها المحتال . . . كتفـيها هاه ! ففتح الباب وقال : ـ أنسى دائماً أنك لا تتأثرين بشــــيء . ـ بعد عيشي مع داني طوال حياتي ؟ كيف يمكن أن أتأثر من شــــيء ؟ وقطب وجهه : ـ ليس هناك شـيء من الغيرة في نفسك . . أليس كذلك جيني ؟ كلماته جعلتها تجفل واسودت عيناها . انحنى وقبلها على خدها ثم رحل . عادت إلى غرفة عملها , ووقفت قرب النافذة تتمتع بشمس الخريف الدافئة , لقد تغير الطقس في اليومين الماضيين . وتوقف المطر والريح . وحدها الأشجار العارية سوى من بضع ورقات كانت تذكرها بالخريف . ليس هناك شــيء من الغيرة في نفسك ! إن معرفته بها قليلة ! وفكــرت بالمشاعر الوحشية الطاحنة التي عذبتها مرة . . وامتدت يدها إلى معدتها وكأنمــا تلك المشاعر قد عادت لتعصرها ثانية . وأغمضت عينيها وصرخت . . يا إلهــي ! وبدا صوتها غريباً , مغايراً , في الغرفة المشمسة . لم تسمع شيئاً من عائلة باستينو منذ هروبها من المستشفى يوم زارت روبرتو . . لا بد أنه استعاد عافيته , فهي لم تشاهد أي خبر في الصحف عن موته . مجرد فقرة صغيرة تروي الحادثة وتقول إنه مصـــاب . منتديات ليلاس حاولت مرة الاتصال بالمستشفى لتســأل عنه , وبالرغم من امتداد يدها إلى الهاتف , إلا أنها تراجعت . . فلو أنه مات لأبلغت بالأمــر . ولكن أحلامها كانت تفيض بذكــراه . كرامتها وحدها منعتها من العودة إلى المستشفى لرؤيته ثانية , ولو للحظات , و لتسمع صوته الأجش يقول (( حبيبتــي )) . واستدارت غاضبة عن النافذة لتجلس وتبدأ العمل . . وأخذت ترسم وجه فتاة ترتدي الزي الذي تصممه . . . ثم توقفت فجأة لتنظر إلى الرسم بذهول . . قسمات وجه أندرو الطفولية أخذت تبدو لها من خلال الرسم . فــأجفلت . ومزقت الورقة من دفتر الرسم , وكادت تقطعها لولا رنين جرس الباب الذي أوقفها فوضعتها من يدها وتوجهت لتفتحه . ووقفت إيفا بلطف , وقساوة معاً . وجهها النحيل ملــــيء بالتصميم . . وتنهدت جيني : ـ ماذا تريدين إيفا ؟ العينان السوداوان كانتا ثابتتين : ـ ألا تريدين معرفة ما إذا كان قد مات أم بقــي حياً ؟ ـ لو أنه مات لعرفت . . . العالم كله كان سيعرف . وهزت إيفا رأسهـــا : ـ كيف يمكن لك أن تكونـــي قاسية ؟ إنه بحاجة لك . اذهبـــي إليه . . لمَ ابتعدت ؟ رفعت جيني كلتا يديها لتمررهما على شعرها لتخرب تصفيفته الناعمة : ـ إيفا . . أشفقـــي علي لأجــل الله ! ـ كنت أتمنى أن لا أطلب هذا منك . . . ولكن روبرتو هو فــــي المقام الأول عندي يا جيني . ـ إنه هكــذا دائماً . . إنه الأول لدى الـجميع . فحملقت إيفا بها بعينين واسعتين : ـ ألهذا الدرجة مرارتك , لقد كان فاقد الوعي معظم الوقت منذ أن زرتيه . . ولكنه استفاق الآن . . وهو يسأل عنك ثانية . فشحب لون جيني واشتد بياضه : ـ أتعنين أنه لم يسترجع ذاكرته بعد ؟ فهزت إيفا رأسها نفياً . . . فاستدارت جيني إلى الشقـــة : ـ يا إلهــــي ! ولحقت بها إيفا , تنظــر من حولها بفضول , تلاحظ ترتيب غرفـــة العمل , وكيفية تعليق رسومات الأزياء فوق الــحائط وعلى الرفوف . ـ إذن . . هنا تعملين ! لقد بدأت تحققين النجاح . هكـــذا سمعت . ولا بد أن والدك فخور بك . ـ أجل . . إنه فخور بي . . إيفا . . لن أستطيع الذهاب . . إذا كان قد أصبح بصحة أفضل . . فيجب إعلامه بالحقيقة . ـ ونقتلــه ! ـ لن تقتله الحقيقة ! ـ لقد سمعت ما قاله . . بدونك لا يريد العيش . واستدارت جيني على عقبيها , مرتجفة , عيناها مليئتين بالاتهـــام : ـ كلانا يعرف إنه عاش من دوني خمس سنوات . ولن يموت الآن لمجد تذكره أننــي لم أعد زوجته . ـ ولكنه لا يتذكر, وصدمة إبلاغه ذلك قد تحدث له ضرراً لا يمكن إصلاحــه . بالرغم من اضطرابها , ضحكت جيني : ـ إنه أقوى من هذا . . . رأسه أقســى من الصلد . ـ كان هكذا . . . ولكنه الآن ضعيف , هش , يتمسك بالحياة بخيط رفيع , وأنا أرفض قطع ذلك الخيط بقولــي له ما يرفض سمــاعه . والتقت عيناهما . . فتنفست جيني بصعوبة : ـ لا يريد أن يسمعه ؟ ماذا تعنين ؟ فتمتمت إيفا : ـ أوه . . . جيني . . . أنت تعرفين بالضبط ما أعنــي . . . لقد حصلت على رأي أخصائي نفسي بهذا الأمر . . روبرتو لم يفقد ذاكرته فقط . . بل إن عقله الباطن يرفض أن يتذكــر . وأخذت جيني تتحرك بقلق : ـ ولماذا ؟ . . أعرف ما تحاولين عمله إيفا . . . ولكنك لن تنجحي . . يجب أن تتقبلــي أنني و روبرتو قد انتهى أمرنا معاً , وهكذا كان منذ خمس سنوات . وحادثته لن تغير من الواقع شيئاً . بعد ثلاثة أشهر ســأتزوج ثانية . وأنت تعرفين هذا . وتجاهلت إيفا ملاحظتها وقالت بخشونة : ـ روبرتو يحمي نفسه . . . هذا ما قاله الطبيب النفسي . . . إنه يعرف أنه مريض وقد يموت . . . لذلك عاد إلى أيامه السعيدة معك , وهذا يشعره بالأمان . ويعطيه سبباً ليعيش من أجلــه ـ أتعرفين ما تقولين ؟ إنها ليست الحقيقة . ـ يا عزيزتي . . أنا واثقة . . . روبرتو لم يفقد ذاكرته نهائياً , بل فقد الجزء الأخير منذ فقدك . لقد أقفل عليها الباب . حــتى أندرو . . ابنه . . . الذي يحبه . . . صدقيني . . . لا يذكره . ولا يمكن له أن يرفض تذكــر ابنه للاشــيء . ومع ذلك ينظــــر إلى الولد دون أحساس ويســأل : من هذا ؟ وعضت جيني شفتها . ـ يا للولد المسكين ! وهل تألم لهــذا ؟ فتنهدت إيفا : ـ لقد تكدر بالطبع . ولكنني أبعدته عن الجو , وشرحت له أن إصابة أبيه جعلته يفقد ذاكرته , وأظنه فهم الأمر . واستدارت جيني . . . تلف ذراعيها حول نفسها وكــأنها تكاد تتجمد من البرد . . . وقالت : ـ مهما يكــــن . . . لن أستطيع الذهاب . منتديات ليلاس وتقدمت إيفا من الطاولة , حيث ورقة الرسم المنزوعة من الدفتر الكبير . . والتقطتها لـتنظــر إلى الرسم غير مصدقة : ـ هذا عظيم . . . عظيم جداً . . . كــم أنت بارعة يا جيني ! فــاحمر وجه جيني . ـ أوه . . . إنه مجرد خربشة من الذاكرة . ـ ولكنك التقطت ملامح وجهه ببراعة . هل لــي أن أحتفظ بها ؟ ســأحافظ عليها كأنها كنز . . . جيني . . . أرجوك ! ـ بالطبع . ـ شكــراً لك . ونظرت إليها إيفا بعينين دامعتين : ـ أرجوك اذهبي إليه . . أرجوك ! وتأكدت جيني أن لا مفــر لها . . وستبقى إيفا هنا إلى أن توافق فقالت : ـ أوه . . . حسناً . وفي السيارة سألتهــا إيفا . ـ مــاذا قال خطيبك عندما أخبرته عن روبرتو ؟ ـ لم أخبره بعد . ـ ألا يعرف شيئاً عن حالته ؟ ـ أشك في أنه يعرف عن الحادثة أصلاً . ـ وهل تظنيني سيمانع ؟ فضحكت ببرود : ـ تعرفين جيداً أنه سيمانع , فأنا خطيبته , ومع ذلك أذهب لأقف قرب فراش رجل آخــر وأتظاهر إننــي زوجته . . فماذا تتوقعين منه ؟ ـ مما أذكره عنه , مع ما قلته , كــــان دائماً لطيفاً واسع المخيلة . . . وبالطبع سيفهم . توقفت السيارة خارج المستشفى , ولحقت جيني بإيفا إلى الفناء الداخلـــي , ثم إلى المصعــد . . . خارج غرفة روبرتو توقفتا , ومدت إيفا يدها إلى جيني : ـ الخاتم . ارتجفت يد جيني وهي تأخذه . وفتحت إيفا الباب هامســة : ـ ســـأنتظر في قاعة الانتظــــار . بعد لحظـــات دخلت الغرفــــــة . . وكانت فارغـــــة وصامتة . . والطيف الملفوف بالأربطــة فوق السرير لم يتحرك وهي تتقدم إليه . ووقفت بهدوء إلى جانبه . . . ثم انحنت غير قادرة على مقـــاومة إغراء يدفعهـــا , ولمست بشفتيها جبينه . وعلى الفور امتدت يده لتلتف حول عنقها . فرفعت نظرهـــــــا لترى أن جفنيه قد ارتدا عن عيني السوداوين , وهمــس : ـ جيني . . . حبيبتي . . . أخيراً . . أين كنت ؟ وحاولت الابتعاد عنه دون جرح مشاعره , ولكــــــن يده كان لها قوة غريبة ولم تتركهـــا . . فقالت : ـ تبدو أفضـــل حالاً الآن . ـ قبلينــــــــي ثانية . . . كنت نائماً . . هذا ليس عدلاً . . أريد أن أكـــــــون مستيقظاً عندما تقبليني . وقبلته بخفة , ولكن يده ضغطت على عنقهــا , وأبقت وجههـــــــــــا قربه بينما كان يمرر فمه على خدهـــا . لم تكن تتصور مطلقاً أنها ستشعر ثانية بهذه المشـــاعر معه . وآلمها ذلك حتى أنها أرادت أن تهرب . وتخلصــــت من قبضته , ووقفت ويداها متشابكتان . . تتنفس وكــأنها كانت تركض . وتحرك بقلق . . ولاحظت الألم في عينيه , وســألها : ـ ما بك ؟ ـ يجب أن تبقــى دون حراك . . . فالتكدر لا ينفعك . ـ ولكنني ســأتكدر أكثر لبرودك معــي . . تبدين أكبر سناً . . . هل يجب أن تبقى هذه الستائر مسدلة فوق النافذة ؟ أريد أن أراك . . . اقتربـــــــــي منـي . واستدارت لتجر الكرسي وتجلس قرب السرير , مبقية رأسها بعيداً . . لا بد أنه سيلاحظ التغيير عليها , فذاكرته تفتش عن الفتاة ذات التسعة عشر سنة . وهي الآن امرأة في الرابعة والعشرين . ـ لا يجب أن أبقى طويلاً . ـ ولكنك وصـــلـــت لتوك . . ما الأمــر . . لماذا تبتعدين عنــــي هكــذا ؟ فاستجمعت كل شجاعتها , ومالت إلى الأمـــام مبتسمة : ـ آسفـــة لهذا . . . كنت قلقة عليك . فانفجــرت أساريره : ـ بالطبع ! يا عزيزتي المسكينة ! آسف لأنـــني سببت لك التعاسة . أنت صغيرة على وضع كهذا . . . يا حبيبتي . والأمــر صعب عليك . ولكن لست أدري ما حدث , ولا كيف حدث , كل ما قالوه لــي إننــي حطمت السيارة . وبدا مريضــاً , ضعيفاً , ولكن لم يبدُ أنه يموت . . إنه منطقــي , وواضح التفكير . ـ لقد انسكب الزيت من صهريج , وتزحلقت السيارة فوقه . فقطب : ـ ومتى كان ذلك ؟ آخــر ما أذكــره هو رحلتنا إلى لندن . أذكـــر عودتنا من مطار هيثرو . . وكنت معـــي في السيارة . . . يومها لم لم تحصل حادثة أليس كذلك ؟ و أحـــســت بألم في حلقها , وابتعدت بصعوبة . ـ لم أكن معك ســـاعة الحادثة . ـ لا . . أمــي قالت هذا . . أذكر . . . لماذا تأخرت عن المجيء ؟ أين كنت ؟ مع داني كما أعتقد ؟ ومع صديقك العزيز غرانت ؟ ووقفت بقوة عن الكرســـي حتى كادت الكرسي تقع . ـ يجب أن تنام الآن روبرتو . لقد وعدت الطبيب أن لا أبقى أكثر من دقائق . ـ أبقي هنا . . لم تردي على ســـؤالي . . هل كنت مع غرانت كراولــي ؟ ـ لا . . . لم أكن معه . . . كنت مع أبـــي في باريس . وبدت عليه الراحــــة : ـ أوه . . . أنا آســف حبيبتي . ـ والآن يجب أن أذهب . فهمـــس : ـ قبليني . منتديات ليلاس وقبلته . رغـــم إحـــســـاسهــا بالعـــذاب , وداعبت يــده شعرهـــا الحريري . فارتجفت , ثم عاد إلى الاستقاء متنهداً , وبدا لها مرهقاً حتى أن مشاعر الحنان لديها تحركت نحوه . فقالت له متوسلة : ـ عــدني أن تنام الآن . فابتسم وتمتم بصوت ضعيف : ـ أعدك . وقبل أن تتركـــه كان يغط في سبات عميق . وكـــان مع إيفا رجــــل قصــيـــر ممتــلئ تبدو عليه الأهمــيــة . فابتسم لها ومد يده : ـ آه . . سيدة باستينو , سعيد جداً لمقابلتك . فردت جيني بحدة وهي تنظر إلى إيفا : ـ أن الآنســة نيوهام . وقالت إيفا : ـ هذا هو السيد كيلي , الأخصائي الذي سيتولــى معــالجة روبرتو . ونظرت إليه جيني دون اهتمام : ـ هل أنت طبيب نفساني ؟ فرد بسرور : ـ من بين عدة أشياء . . كيف وجدت زوجك ؟ فردت بحزم : ـ نحن مطلقان . فابتسم : ـ ولكنه لا يعتقد هذا . ـ مهما كان يظن . . فنحن مطلقان . ـ قانونياً أجل . . . ولكن إذا لم يكن يتقبل الأمــر . . . فأنت مجبرة . ـ هذا مناف للعقـــل ! فابتسم بخبث : ـ ولكنك هنا سيدة باستينو , وهذا يدل على أنك تتقبلين فكـــرة ارتباطه بك . بدت عليها الصدمـــة والشحوب . ـ لقد جئت لآن أمــه توسلت إلي . ـ وإن يكــن . . مهمــا كــان السبب الذي تبررين لنفسك به , فلقد جئت . وهذا مــا يقول لــي إنك ملتزمــة به . ووضعت جيني قبضتيها على جبينها : ـ لا ! وأدار الرجل القصير ابتســـامته نحو إيفا : ـ هل لــي أن أتحدث إلى السيدة باستينو على انفراد ؟ وأمسك بذراع جيني . ـ هل تسمحين أن تأتـــي معي إلى مكتبي ؟ فقالت إيفا : ـ ســـأنتظرك هنا عزيزتي . وقدم لــها كرسياً أمام طاولته , وجلس مبتسماً : ـ زوجك لا يذكــر الحادثة . . أتعرفين هذا ؟ ـ قال لـــي . ـ وهل قال لـك آخـــر ما يتذكر ؟ ـ أجـــل . ـ وهل تسمحين بقوله لــي ؟ فهزت كتفيها : ـ لست أرى حقـــاً . . . ـ أرجوك ! فــتـــنــهــدت : ـ آخـــر ما يذكره رجوعنا من رحلـــة إلى لندن . ـ ومتى كــان ذلك ؟ ـ منذ أكثر من خمـــس سنوات . ـ وهل لهـــذا أي ميزة لــديــك ؟ وجمدت الابتســـامة على شفتيها . . ميزة ؟ . . أجــل . . إنها تذكر : ـ بعد أيام من عودتنا تشاجرت معه وتركته وعدت إلى منزل أبــي . . . ولم تستطـع أن تكمــل , وارتجفت شفتاها , واندفعت الدموع إلى عينيها . ـ وبعدها . . . ـ لم يكن مخلصــاً لـــي . ـ وهل اكتشفت هذا بنفسك ؟ وهزت رأسها ايجابياً وهي تتذكر , لقد نامت عند والدها ليلة . . ثم في الصباح اكتشفت خطأها , فأخذت سيارة تاكسي إلى منزلها في الصباح الباكر , وبكل الحب والشوق ركضت لتصل إلى غرفة نومها , غرفتهما , وفتحت الباب لتجمد وكأنها تلقت رصــاصة في قلبها . من على الوسادة قرب رأس روبرتو الأسود , رفعت جيسكا رأسها ذي الشعر الأحمر مبتسمة , ولم تقل كلمة , بل تحولت البسمة إلى ضحكة . . . وأخذت العينان السوداوان تسخران منها . واستدارت جيني دون كلمة وخرجت من المنزل . . . فيما بعد ذلك اليوم جاء روبرتو ليراها . ولكن والدها رفض السماح له بالدخول . ومن غرفتها في منزل والدها سمعت الصراخ . . . وحاول روبرتو اقتحام طريقه إلى الداخل . . . ووصل غرانت . . . وكانت معركة قاسية , شهدت كل فصل منها وهي ترتجف وتحس بالسقم . و معاً . . تمكن والدها و غرانت من طرده . وفي اليوم التالي كانت جيني في طائرة متجهة إلى لندن للإقامة مع عمتها هناك . . . ومن هناك أرسلت وكالة لمحاميها لإجراء الطلاق . وأرسل روبرتو عدة رسائل لها . . لم تفتح أي منها . . . وعادت لتتم إجراءات الطلاق في أمريكا . . . وبعد أسبوع تزوج روبرتو من جيسكا . وبعد الزواج بثلاثة أسابيع ولدت له أبنها , أندرو . . الولد الذي وضع روبرتو كل دمغات العائلة عليه , ولا مجال له لإنكــار بنوته . ـ وهكذا تطلقتمــا ؟ ـ أجل . ـ وهل رأيته منذ تركتـــه ؟ ـ لا . . . ـ إنها قضية فتحت وأقفلت . . . أليس كذلك ؟ ـ صحيح ؟ ـ هيا الآن سيدة باستينو . . . فصاحت بشراســة : ـ لا تناديني بهذا الاســم ! ـ يا عزيزتي الشابة , وماذا في هذا الاسم ؟ لا يمكن الجدال حول الأمر , فزوجك بكل مرارة نادم على الطلاق . ويرفض كل ما مر به منذ يوم تركته . لقد أبعد تلك الفترة عن ذاكرته , لأنه فــي حالته الحاضرة , عقله الباطن يعف أنه لا يستطيع مواجهة تلك المرحلة من جديد . وإلى أن يستعيد عافيته سوف يستعيد ذاكرته . ـ وماذا إذن ؟ لا أستطيع الاستمرار في الادعاء . فأنا مخطوبة لـــرجل آخــر . ـ هكذا عرفت . . . منذ متى أنتما مخـطوبان ؟ ـ منذ أكثر من أسبوع . واتسعت عيناه بخبث . ـ حقــاً ؟ هذا مثير للاهتمام ! وحـــدقت به جيني . . . لماذا يبتسم هكذا ؟ ـ هل أعلنت خطوبتكمـــا في الصحف ؟ ـ طبعــاً . . . منتديات ليلاس شهرة داني في عالم التصميم , وشهرة دار الأزياء التي يملكها غرانت , جعلت نشر الأمــر محتماً . حتى أن عدة صحف نشرت قصصاً صغيرة حول الأمــر . ـ هل تذكرين تاريخ ظهور تلك القصص ؟ ـ يوم الخطوبة بالضبط . . . أوه . . . لا في اليوم التالي . . . وتوقفت عن الكلام فجأة وحدقت بالرجل . . . ثم قالت ببطء : ـ يوم . . حصلت . . الحادثة . . لــ روبرتو ! فابتسم , وبدا الرضى على وجهه . ـ بالتحديد . . . هذا مــا كنت أرتاب فيه . . . وكما قلت قضية فتحت وهي مقفلة . . . وواضحة جداً . ـ بل أكثــــر من واضحة . . . وأنا لا أصدقها . وضم يديه معاً وكأنه يصلي . . . وابتسم دون أن يخفي رضــاه : ـ وهل لديك تفسير آخـــر ؟ فوقفت : ـ ليس في الوقت الحاضر . . . ولكنـــني ســأفكــر بتفسير آخــر . وانفجــر ضاحكــاً . ـ افعلـــي هذا أرجوك سيدة باستينو . فحملقت به غاضبة , وقالت بعد تفكيــر : ـ ألم يتبادر إلى ذهنك لو أن ظهور خبر خطوبتي هو سبب حادثة اصطدام سيارة روبرتو . . فقد يكون فقدان الذاكرة شيئاً متعمداً ؟ فاتســعـــت ابتســـامته : ـ بالطبع . . . ولكن ليس بالضــرورة كمــا تعنين أنت . فهو لا يدعـــي سيدة باستينو . . لقد فقد الذاكرة حقاً للخمس سنوات الماضية . لقد جاهد عقله بكل طاقته ليقفل الستارة عن الذكريات المؤلمة لحماية نفسه . وكما قلت , عندما يستعيد عافيته الجسدية , سيسمــح عقله للذاكــرة أن تعود . ـ وحتى ذلك الوقت ؟ فهــز كتفيه . ـ يجب أن أصــــر على أن لا تحرريه من هذا الوهم إلى أن أسمح أنا بذلك . فقد تكون الصدمة مؤذية جداً له . وحدقـــت بالأرض تعض شفتيها : ـ لن يموت . . . وأنا واثقة من هذا . لقد كـــان أقوى بكثير اليوم عمــا شاهدته أول مرة . ـ ولكن الصدمــة قد تقتل أي إنســـان وهو بصـحــة كــاملة , صدقيني ! وعندمـــا يصــاب شخص كــزوجــك سيكــون الخطــر مضاعفاً . وأغمضــت جيني عينيها . . . وهمست بيــــأس : ـ أوه . . . يا إلهــــي ! . . . لست أدري كـــم أستطيع أن أتحمــــل بعــد . * * * نهاية الفصـــل (( الثانــي )) . . . http://smiles.al-wed.com/smiles/42/117665xz7vascr2h.gif |
مع إن مافــي متابعة للآســـف فالمفروض ما اتحمس أنزل إلا فصــل بس موعدنــا غداً إن شــاء الله باربعة فصــــول لنـــــا لقاء غداً الساعة 11 تحياتي جمرة لم تحترق http://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayatb3357a724a.gif |
3 ـ القلب الخائن
http://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayat542ba2e1ed.gif3 ـ القلب الخائن http://www.nsaayat.com/up/uploads/nsaayat542ba2e1ed.gif كان الخريف قد بدأ يولــي ممهداً لقدوم فصل الشتاء الذي يبطــئ بنعومة متمثلاً بضباب صباحي , وطقس مكفهر بارد , وزخات من المطر . بقيت الحرارة مرتفعة أكثر من المعتاد , فترى النساء والرجال يسيرون في نزهاتهم باللباس الصيفي الخفيف . بالغرم من كل حكمتها , استمرت جيني بزيارة روبرتو في المستشفى . . وكانت تمضي معه يوماً نصف ساعة جالسة قرب سريره . . تمسك بيده . . تراقب النور الساطع في عينيه وهو يتأملها . كان يمازحها بلطف , كما كان يفعل في الأشهــر الأولى لزواجها . . مظهراً لها الحنان الدافئ . الذي تتذكره بحزن وأسـى . تلك الأشهر الأولى كانت أكثر اللحظات سعادة فــي حياتها . . فروبرتو مُحب مثير , حساس , يعــي تماماً براءتها . يحبها ويحميها , وإن كان يجرفها معه في لجج رغبته الحارة , العقبة الوحيدة التي كانت تعكــر صفو تلك السعادة التامة كان والد زوجهـــا أنطونيو وعدائيته نحوها فهو لم يكن يخفي عن أحد رغبته في أن يتزوج ابنه من ابنة عمه جيسكا . بعد عودتهما من رحلة إلى لندن , كمحاولة يائسة لاستعادة سعادتهما , عادت المشاكل حـــال وصولهما إلى نيويورك . فقد كان موعد حفلة عيد ميلاد جيسكا ليلة وصولهما . . وكانت جيني حينها متعبة من السفر , فآوت إلى الفراش باكراً , بينما بقي روبرتو ليحضر الحفلــة . لم تستيقظ جيني إلا بعد منتصف الليل على صوت موسيقى منبعثاً من الأسفل . نهضت من فراشها ومن على فسحة السلم تطلعت إلى المرآة الضخمة التي تعكس ما في الصالون الطويل , فشاهدت جيسكا , مغمضة العينين , تسبح مع الموسيقى بين ذراعي روبرتو . فعادت إلى فراشها متوترة , والغيرة تنهشها . . . ولم تغط في النوم إلا حوالي الرابعة صباحاً ولم يكن روبرتو قد عاد بعد إلى فراشه . . . مع أن المنزل كان خالياً يسوده الصمت . وكان هذا بالطبع سبباً لخلاف آخــر . وتدخل أنطونيو باستينو بعنجهيته وكبريائه , مقطباً وجهه قائلاً لها : ـ إذا كنت تغارين من جيسكا فاسألي نفسك عن السبب ! ألست تغارين بسبب معرفتك أنها هي امرأة من طبقته , وليس مجرد فتاة جميلة جاهلة نكـــرة . عندهــا خلعت جيني خاتم الزواج من يدها لترميه له بينما ظل روبرتو صامتاً لا يفوه بكلمة . وسارعت إلى منزل أبيها , معتقدة أن لروبرتو نفس وجهة نظر أبيه , وأنه قد ندم على زواجه منها , لكنها مع بزوغ أول شعاع لضوء الصباح سارعت إلى منزل باستينو لمحاولة كسب ود زوجهــا , مهما يكن الثمن . ما شاهدته يومها لم يكن ليفارق مخيلتها ليلاً ونهاراً ولأشهر طويلة . . . روبرتو غافٍ في فراشه . . وإلى جانبه جيسكا يعلو وجهها بسمه انتصــار . لم تزل هذه الذكرى تحز في نفسها حتى هذه اللحظات . . لم لم تستطع النسيان , كانت تعرف بالطبع , أن هناك الكثير من النساء قبلها . . ولكنها آمنت بكــل سذاجــة , أن روبرتو بعد قســمه بالإخلاص , لن يفعل ما قد يســــيء إليها . |
الساعة الآن 08:09 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية