1-لقاء العمر
لم يدر كايد كيف إختلط الأمر على موظفة الحجز في شركة الطيران ، حتى وجد نفسه يجلس بعيدا عن مدير أعماله الذي إستقرّ في مقعد في مؤخرة الطائرة. وعندما عرضت عليه المضيفة ان تطلب من السيدة التي حجزت المقعد المجاور له ، ان تستبدل تذكرة سفرها بأخرى ، وأن تغيّر مكانها ، رفض بتهذيب قائلا : " لا تهتمي للأمر يا آنستي ، ليس من الضروري ان أجلس قرب مدير اعمالي " كان يكره أن يعامله أحد بصورة مميّزة ، فقط لأنه أعمى ، صحيح أنه كان يطالب ، بل يتمتع ، بالمعاملة الخاصة التي يشتريها بغناه وشهرته ، إلا أنه كان ينفر منها بشدة عندما يشك بنوايا الشخص الذي يقدمها له ، فلو ظن أنه يعامل بإحترام ، شفقة بعاهته ، يثور إنتصارا لكرامته ، وتكون ردّة فعله أحيانا في غاية العنف. وأحس كايد بيد جاك ، مدير اعماله ، تدفعه برقة وترشده بلباقة الى مقعده ، إستقرّ في مكانه وهو يحاول جاهدا السيطرة على أعصابه ، عصبيته الزائدة تضر بالصورة التي يحاول أن يعطيها عن نفسه . وأحس فجأة بالمرأة الجالسة قربه ، وعندما هدأت الثرثرة في الطائرة ، سمع موسيقى تنفسها الهادىء ، ورنّة حزام الأمان وهي تحكمه حولها ، وصوت قفل حقيبتها ، وهي تفتحها ، ولامست ذراعها كم سترته وهي تبحث عن شيء ما . منتديات ليلاس تضع عطرا خفيفا يعبق باريج الزهور ، فتصله نسمة خفيفة منه كلما تحركت من مقعدها ، كانت قد همست له بتحية مهذبة عندما جلست قربه ، فأجابها ببرودة وبهزة رأس سريعة ، ولسبب ما احس فجاة بالثورة عليها للخطأ الذي حصل في حجز المقاعد ، كم سيزعجه عدم وجود جاك قربه عندما يحين موعد الطعام ، لن يناديه ، لا يريد ان يلفت اليه أنظار الركاب فيشفقون على عاهته ، كم يتمنى أن لا تكون المرأة الجالسة قربه وقد سمعت بإسمه من قبل ، لمست المضيفة كتفه وهي تقول برقة : " هل تسمع بوضع حزام الأمان يا سيد فرناند ،هل تحتاج الى مساعدة ؟". " لا ، شكرا ". وبحث بيديه عن طرفي الحزام ليجمعهما بعنف ، وسألته المرأة الجالسة قربه : " عفوا ، انت كاديز فرناند أليس كذلك ؟". كاد ينكر ذلك ، لكن نبرة صوتها فاجاته ، كانت مريحة ، دافئة ، فيها بحة محببة أضفت على صوتها جاذبية مميزة بدون أن تفسد وضوحه ، ليست أميركية ، لكنها ليست إنكليزية أيضا ...استرالية ؟ ربما ، هز راسه بالإيجاب وإلتفت ليواجهها ، كم هو وسيم هذا الوجه اللاتيني التقاطيع ، بانفه الحاد الذي يوحي برجولة مميزة ، عجبت حتى بنظارتيه السوداوين اللتين تخفيان عينين لا تعرفان النور . " انا معجبة جدا بموسيقاك ". ضايقه تعليقها وإنتظر الكلمات التي لا بد ان تاتي لتكمل الجملة التقليدية ، عندي كل أسطواناتك ، او اعتقد ان الجميع يقولون لك هذا ... لكنها لم تكمل حديثها. إنتظر لحظات قبل ان يشكرها على مديحها ، وأحس انه بدأ فعلا يميل اليها قليلا ، لم يكن ذنبها أن حدث سوء التفاهم هذا في الحجز . بعد دقائق إستسلم للنوم ، إنه مرهق ، أمس قدّم عرضا فنيا رائعا في هونولولو ، وهو في طريقه الان الى سيدني حيث سيقدم حفلة اخرى مساء الغد ، الرحلة طويلة الى سيدني ، وهو متعب ، لم يستطع ان ينام طويلا ، افاق وهو يشعر بجفاف في حلقه ، وبتشنج عضلات جسمه ، كانت المرأة تقلّب صفحات مجلة ما ، وتساءل بعصبية إن لم يكن صوت الورق هو الذي أيقظه من نومه ، وتضاعف توتره وهو يسمع الإيقاع الرتيب ، نادى جاك ، فكان بجانبه بلمح البصر . " جاك ، هل تمانع بأن نتمشى قليلا ؟". " طبعا لا يا كايد ، هيا بنا ، من هنا ". احب كايد جاك بنتون من اول لقاء جمع بينهما ، تعلّم الرجل بسرعة كيف يعامل إنسانا فاقد البصر ، فجاك لم يتصرف ابدا وكان كايد ايضا اطرش أو مشلول أو متخلف عقليا . وعندما عاد كايد الى مقعده ، كان أكثر راحة وإنطلاقا ، طلب كوبا من المرطبات ، وعرض على المرأة مشاركته فرفضت برقة ، سألته بنعومة ان تقرأ له لائحة الطعام ، فوافق وهو يتلذّذ بشرابه البارد ، وصوتها الدافىء الجذاب ، جاءت المضيفة بالطعام ، وعرضت على كايد ان تساعده في تناوله فرفض بإصرار ، جاك ايضا فهم رغبته فلم يقترب منه كعادته ، فتح كايد بثقة المغلف البلاستيكي الذي يحتوي على الملعقة والسكين ، ورفع الغطاء الشفاف عن الصحون ، تمكّن من تناول المقبلات والوجبة الرئيسية دون صعوبة تذكر ، لكن عندما جاء دور الحلوى لم يستطع العثور على الملعقة الصغيرة الخاصة بها ن فأخذ يبحث عنها بعصبية ، وفجأة أحس بيد تمسك بيده وتضعها على الملعقة ، شكرها بحدة ، فأجابته بسرعة : " الملعقة علقت في زاوية الطاولة ". فهم انها لم تكن لتساعده لو شعرت انه يستطيع ان يجد الملعقة بسهولة ، احس بالأسف لحدّته ، وتابعت حديثها وكأنها تحاول أن تشرح له موقفها : " شقيقي اعمى ". " حقا ! ". لا بد انه درّبها على حسن التصرف في مواقف مشابهة ، وعندما حان موعد القهوة كان على اتم الإستعداد لسماع صوتها الجذاب لأطول فترة ممكنة ، إلتفت اليها مبتسما إبتسامته الشهيرة التي تجعل ملايين القلوب تخفق يوميا . |
" انت الان في موقع قوة ".
" أنا ؟". " نعم ، تعرفين إسمي وأنا لا اعرف عنك شيئا ". " آه ". ضحكتها الخافتة كان لها أيضا وقع شديد الجاذبية. " إسمي كاريسا مارتن ، لكن معظم الأصدقاء ينادونني كريسي ". " أفضّل إسم كاريسا ، له رنة غير مالوفة ". " إختارته والدتي من كتاب كانت تقراه ". " أمك تتمتع بذوق ممتاز ". وسألها عن شقيقها الأعمى فأجابت : " كليف يدرس الهندسة الألكترونية ". " مجال صعب جدا ". " نعم ... حتى على المبصرين ، ولهذا السبب بالتحديد إختار كليف تخصّصه هذا ، إنه إنسان عنيد جدا ، وأظن أنه يشعر بان عليه ان يثبت شيئا ما ". " نعم ، أظن ذلك ، أليس لدينا كلنا شيء ما نريد أن نثبته " وأحس كايد أنه قريب جدا من كليف مارتن هذا ، رغم أنه لا يعرفه . " انت استرالية ؟". " لا ، نيوزيلاندية ، الأميركيون مثلك ، يرون كل اللهجات الأنكليزية الأخرى متشابهة ". " لهجتك تميل اكثر الى طريقة اللفظ البريطانية ، سكان استراليا يتكلمون ببطء ويركزّون على مخارج الألفاظ ، هل انت في طريقك الى نيوزيلاندا ... الى عائلتك ؟". " نعم ، عشت سنة في الولايات المتحدة ، وأنتظر بلهفة لحظة وصولي الى الوطن ". تارجحت الطائرة قليلا وسقطت في فجوة هوائية ، فشدت كاريسا قبضتها بقوة على ذراع المقعد ، أحس كايد بخوفها : " خائفة ؟". " لا ، فاجأني تارجح الطائرة ، هذا كل شيء ، الحقيقة أنني لم أسافر كثيرا في حياتي ، لا بد انك معتاد على ذلك ؟". لم تتوقف الطائرة عن الإهتزاز ، واحس كايد ان رفيقته تحاول جاهدة السيطرة على خوفها ، كانت تتكلم بسرعة حتى كادت تلهث ، امسك بيدها الصغيرة فإرتعشت أصابعها ، شدّ قبضته عليها ، ليطمئنها أولا ، ولأنه أحب ملامسة بشرتها الحريرية ثانيا . "نعم سافرت كثيرا ، وغالبا في الطائرة، يقال أنها الوسيلة الأكثر أمانا للسفر ، هل تعرفين ذلك ؟". " نعم ، قيل لي ذلك ". بدا القلق بوضوح في نبرة صوتها ، فتابع حديثه وهو يحاول ان يعبّر بصوته الدافىء عن كل الحنان الذي يشعر به نحوها الآن ، كم أحبت هذا الصوت وهي تسمعه يغني ، وها هو الان يخبرها عن بعض الرحلات التي قام بها ، والأماكن الغريبة التي شاهدها . خرجت الطائرة من الدوامة الهوائية ، وعادت تدريجيا الى ثباتها ، فسحبت كاريسا يدها برقة وهي تقول : " شكرا ، أعتقد أنني سأغفو قليلا الآن :, " لماذا ؟ هل كان حديثي مملا الى هذه الدرجة ؟". " آه ، لا ، أرجوك لا تظن ذلك ، سررت جدا بحديثك يا سيد فرناند ، كان لطفا منك ان تحاول التخفيف عني ، لا بد أنك تعبت من مسايرتي ". فاجأنه بقولها ، فرد بسرعة : " ما الذي جعلك تظنين هذا ؟". " حسنا ، كان من الواضح ، فور صعودك الى الطائرة ، إنك لا تريد ان تتحدث الى أحد ، لا بد ان حفلة المس أتعبتك جدا ". " هل حضرتها؟". " لا كنت في لوس انجلوس ، ولن أستطيع كذلك مشاهدة الحفلة التي ستقيمها غدا في سيدني ". " ولماذا ؟ هل ستسافرين مباشرة الى نيوزيلاندا ؟". " لا ، سأبقى يومين في سيدني ، عمتي تنتظرني ، حتى لو اردت حضور حفلتك لن استطيع ، من الصعب الحصول على بطاقة دخول ، فالأماكن تنفد قبل عدّة ايام من العرض ". " ساطلب من جاك أن يترك لك بطاقتين على شباك التذاكر ، أنا أحتفظ دائما ببعض المقاعد لأصدقائي ". سرورها الطفولي ، الذي لوّن صوتها بظلال دافئة عندما شكرته ، اقنعه أنها لم تكن تحاول أن تكون مهذبة فقط عندما قالت أنها تحب موسيقاه. ثم ، ولأستغرابه الشديد ، أنزلت ظهر مقعدها وغفت. توقفت الطائرة في ناندي ، فنزلت منها كاريسا لتشتري بعض الهدايا من المنطقة الحرة ، لم يتحرك كايد من مقعده ، فجلس جاك قربه يسليه حتى عودتها . وعندما إقتربت منهما أخيرا نهض جاك من مكانه ليعود الى مقعده ، لكنها اوقفته بإشارة من يدها وهي تقول : " لا ، لا تترك المقعد من فضلك ، سأجلس مكانك ". لم يتوقع كايد ان يزعجه ذهابها بهذه القوة ، من ساعات قليلة كان سيرحب بالتغيير ، لكنه وجد نفسه الآن يرغب بالصوت الناعم قربه ، وببرود غير متوقع تجاهل جاك الذي كان يتحدث بحماس عن الجولة الفنية التي سيقومان بها في ارجاء أستراليا ، كان يرسم صورة ذهنية لما يمكن أن تكون عليه كاريسا مارتن وهندما هبطت الطائرة في مطار سيدني ، سأل كايد مدير اعماله عن أوصافها : " جميلة.... جميلة جدا ، شقراء ترفع شعرها الرائع الطويل في شكل عقدة، شابة أنيقة ، تستطيع ان تقول أنها سيدة بكل معنى الكلمة ، نعم ... جميلة جدا ، كم أتمن لو كنت أصغر بعشرين عاما ". ولم يتوقف كايد عند الملاحظة الأخيرة بل سأل : " ماذا عن عينيها ؟". " لونهما داكن ، ليستا بنيتين ، رماديتين ! ربما ، أم عسليتين ! لا أدري ... هل يهمك امرها ؟". وعرف كايد فورا ما يعنيه مدير أعماله ، فأجابه ضاحكا : " لا ، لا أريدها كما تقصد ". وربت على كتف صديقه ليخفي إشمئزازه من معنى كلمات جاك ، رغم أنه نادرا ما كان يشعر برفض مثل هذا الإقتراح. لكن... ماذا لو جاءت الى الإستعراض.....؟ " جاك ، وعدتها بأن اترك لها بعض التذاكر على شباك الحجز، لن تنسى ، أليس كذلك ؟". " طبعا لن أنسى ". سيتذكر جاك .... وكذلك كايد. |
كان الإستعراض رائعا ، خرج الجمهور الأسترالي عن بروده العادي ليصفّق بحماس وإنفعال ، عرف كايد كيف يحرك مشاعرهم بصوته الدافىء وقيثارته المحمومة ، جعلهم يتماوجون مع الأوتار فحلّقوا معه في سماء الأنغام ، بدأ بأغنية بدائية متوحشة ، فأسرعت أقدامهم تضرب الأرض بإيقاع همجي فيه كل سحر الغابات ، غنى لهم أغنية حزينة من جنوب اميركا ، فصمتوا كانهم يبكون معه على حب ضائع وطفولة منسية ، أنشد لحن حب لأمرأة جميلة ، فشعرت كل سيدة في القاعة ان اكلمات موجهة لها وحدها ، الشحنات العاطفية التي حرّرها بصوته ، إخترقت جلده ، فإسترخى سعيدا تحت بقعة الضوء التي لم يكن يراها ، هنا ، في هذا المكان بالذات ، ينسى أنه أعمى ، كلهم غارقون في الظلام ، وهو وحده جالس في الضوء ، صحيح إنه لا يراهم لكنه يشعر بهم ، ويستطيع ان يجعلهم يشعرون به ، كم يحس بقوته الآن.
وعندما إنتهى من الغناء نادوه مرات ومرا ، صفروا ، صفقوا ، صرخوا ، فحياهم وإنسحب ، كان جاك ينتظره وراء الكواليس ، وعندما رىه همس في اذنه : " إنها هنا ". " من ؟". جمهوره يناديه مجددا.. كما ينادون عاشقا ، وكعاشق عاد اليهم وكأنه لا يريد أن ينزل بعد من القمة التي رفعوه اليها ، ووصله صوت جاك مجددا : " كاريسا مارتن هنا ". " حسنا يا جاك ، خذها الى غرفتي الخاصة". وعاد بثقله الى المسرح وهو يمد يديه بحب وكانه يريد أن يحتوي هذا الجمهور الذي وقف لتحيته. شعر كايد بوجود اناس كثيرين في غرفته الخاصة ، عرفوه باسماء كثيرة ، وتقبل التهاني وكلمات الإعجاب بلا مبالاة ظاهرة ، بعض النساء قبلنه على وجنتيه ، كلهن يتحدثن بصوت حاد ومزعج ، وتذكر صوت كاريسا الدافىء ، وتساءل أين هي ؟ في تلك اللحظة أمسك جاك بذراعه قائلا : " كايد ، لا بد أنك تذكر الآنسة مارتن". وأحس كايد باليد المنعشة تتسلّل برقة الى يده ، وسمع صوتها الهامس يقول: " شكرا لك على البطاقة ، كنت رائعا". وتذكّر كايد فجأة انها لا بد جاءت برفقة عمتها ، ولأنه لا يريدها ان تذهب ، ولأنه أحس بان اليد التي يريد أن يستبقيها في يده بدأت تنسحب بخفر ، سارع الى القول: " وعمتك ، هل اعجبها العرض أيضا ؟". " لم تتمكن من المجيء ، إضطرت الى ملازمة الفراشلوعكة صحية أصابتها ، لم استعمل إلا بطاقة واحدة ...". " ألا تعرفين أحدا في سيدني؟". " لا أعرف أحدا في استراليا كلها بإستثناء عمتي .. وانت ". وإنسحبت اليد الصغيرة بعناء من أصابعه ، رغم محاولته التمسك بها مدة اطول. " لا تذهبي... جاك !". إلتفت عندما أحس بيد صديقه تلامس كتفه برفق ، إنه يعلم أن جاك لن يدعها تغادر المكان قبل ان يتفرّق كل الحشد ، وفعلا كان مدير أعماله عند حسن ظنه به ، حتى انه إستأجر لهما سيارة خاصة ، وحجز لهما في مطعم فخم يقدّم العشاء للساهرين حتى ساعة متأخرة من الليل ، جاك يعرف دائما كيف يعثر على أفضل المطاعم والاندية بعد ساعات قليلة من وصوله الى أي مدينة في العالم. كاريسا مارتن ، إمراة مميزة فعلا ، كانت ترشده وسط الطاولات بلباقة ، وهي تمسك ذراعه ببساطة وعفوية كما تفعل أية سيدة جميلة عندما تخرج مع رجل ، جلسا ، كما اراد ، جنبا الى جنب حتى يتمكن من الإحساس بأدق تحركاتها ، قرأت له لائحة الطعام ، وتركته يختار الأصناف التي يحب ، لم تتكلم كثيرا ، سألت النادل عن شيء أو شيئين في القائمة وسكتت ، لاحظ كايد رنة الإعجاب في صوت الرجل وهو يجيبها ، إلتقطت أذناه بسرعة وسهولة ذلك التغيير الخفيف في نبرته ، الذي يفصح عادة ردة فعل أي رجل امام الجمال الانثوي. إبتسم كايد برضى ، حسد الرجال كان خير تعويض له عن عماه ، ولذا كان يحيط نفسه دائما بالنساء الجميلات ليفخر بهن في أماكن كهذه ، وفي المناسبات الإجتماعية ، وكأنه يسجل إنتصارا على الرجال المبصرين . لم يكن كايد يشاهد أبدا برفقة إمرأة عادية ، وعندما إنتهيا من تناول الطعام ، ألقى يده برفق على كتفها ، وباليد الثانية اخذ يلهو بالساعة على معصمها ،وسألها: " ساعتك ذهبية اللون أليس كذلك ؟". " نعم ". " والأحجار الكريمة التي تزينها ليست من الماس ؟". " لا ، من الزمرد ، احجار صغيرة الحجم ". " لتليق بلون عينيك ؟". ضحكت بخجل قبل أن تجيب بدلال ورقة : " لونهما يتبدّل وفق مزاجي ، عندما اغضب يميل الى الاخضر ، وعندما أكون في حالة رومنطيقية حالمة يصبح رماديا ، لكن معظم الناس يقولون أنني عسلية العينين " وسمع كايد صوت النادل ينظّف الطاولة قربه فناداه ، إنحنى الرجل امامه بأدب : " نعم سيدي ". إلتفت كايد الى كاريسا وهو يوجه حديثه الى النادل : " إنظر الى عيني السيدة الجالسة قربي ، وأخبرني ما هو لونهما؟". " رمادي ... رمادي داكن". " شكرا ، هذا كل شيء". إبتسم كايد بثقة وهو يتمنى لو يستطيع أن يرى الإنطباع الذي إرتسم على وجهها ، وعلّقت كاريسا بإحتجاج : " لم يكن ما فعلته عدلا ". وظلّ ممسكا بمعصمها رغم محاولتها الإفلات منه ، وضغط عليه بعنف ليتغلّب على مقاومتها ، قبل أن يجيبها : " ربما ، لكنك أنت ايضا كنت غير عادلة ". |
وأحس بيدها ترتعش في قبضته فتابع قائلا :
" لو كنت مبصرا لما حاولت خداعي ، ضحكت علي لأنك أحسست انني لن أعرف الحقيقة". جمدت في مكانها ، وللحظات طويلة لم تنطق بكلمة واحدة ،واخيرا جاءه صوتها خافتا : " آسفة ، لم أقصد ذلك ". ورفع يدها الى فمه قبل أن يحررها قائلا : " هل نذهب الان ؟". قبل ان تجيب ، نادى النادل مجددا ووضع في يده ورقة نقدية : " هل تطلب لنا سيارة أجرة لو سمحت ! ". " حالا يا سيدي". وعندما إبتعد الرجل إلتفت كايد الى كاريسا : "تعالي ننتظر السيارة في الخارج ". لحقت به بإستسلام وأمام الباب الخارجي سألها : " هل ترين أحدا في الجوار؟". " لا ، الوقت متأخر جدا ، والشوارع خالية ". إرتعشت عندما وضع ذراعه حول خصرها وهو يهمس : " والظلام دامس ؟". " نعم". "حسنا ". وبسرعة خاطفة عانقها، وللحظة أحس بها تتصلّب ... وكأن ما فعل فاجأها ن إبتسم بسخرية وهو يقول في نفسه : طبعا ستفاجأ ! إنها تمثل دور الفتاة البريئة ! " هل اطلب من السائق أن يأخذنا الى فندقي مباشرة ؟". إبتعدت عنه بسرعة وكنه لدغها : "هل تقصد .... انت تريد ... لا ... لا استطيع....آسفة ". تساءل كايد عن السبب الذي يجعلها تمثّل هذا الدور السخيف ، قالت له قبل قليل إنها لا تعرف أحدا في سيدني ، لماذا المماطلة؟ سيجعلها تغيّر رايها ، لكن لا بد ان يفعل ذلك بسرعة ، يومان وسيذهب كل واحد منهما في طريقه . وضع يده على شعرها وأخذ يربت على رأسها بحنان . " أمامنا يوم واحد فقط ، ألا تحبين رفقتي ؟". ترددت قليلا قبل أن تهز رأسها بالإيجاب . " لماذا لا تمضين إذن نهار الغد كله معي؟". " لا أعرف ، لا أستطيع ان أعدك بشيء ". " لكنك أكّدت قبل لحظة انك ترغبين برفقتي ". وسمعت صوت السيارة تقترب من المنعطف ، فإبتعدت عنه وهي تقول بإرتياح : " سيارة الأجرة ". منتديات ليلاس عندما إستقرّا داخل السيارة ، حاول مجددا ان يلفها بذراعه فإبتعدت عنه لتلتصق بالزاوية ، ما بها ؟ هل صحيح إنها محافظة الى هذه الدرجة ؟ ماذا تفعل معه إذن ؟ هو يعرف جيدا انها تشعر بميل نحوه ، فلماذا تتصرف هكذا ؟ سيترك المدينة بعد يومين ، فلماذا المماطلة ؟ امسك بيدها اليسرى ، لم تكن تضع خاتم زواج ، ليس هذا السبب إذن ، وأحس كايد بإرتياح كبير ، ظل ممسكا بيدها ، وسالها مرة اخرى : " لم تجيبي على سؤالي بعد ! ". " أن أمضي نهار الغد معك ؟". "والليل أيضا ! ". " لن أجيب على الجزء الثاني من السؤال". وكاد كايد يفقد السيطرة على أعصابه ، ما بها هذه المرأة ؟ هل تريد التلاعب بعواطفه ، عرف من صوتها انها أشاحت بوجهها عنه لتنظر من النافذة . فقال بحدة : " لن تجيبي على الجزء الثاني من السؤال؟". " لا ". كانت ما تزال مشيحة بوجهها عنه ، ضايقه تصرفها فسالها بسخرية : " هل يعجبك المنظر الى هذا الحد ؟". إرتعشت أصابعها ، واحسب ها تلتفت اليه بسرعة : " آسفة ، كيف عرفت ؟". يبدو أن شقيقها لم يعلّمها كل شيء ، لكن ربما لم يكن من عادتها أن تحدّق في جهة أخرى عندما تخاطب شقيقها ، ولاحظ فجأة انها المرة الثالثة التي تعتذر منه في تلك الليلة ، كان الأمر سيزعجه في مناسبة أخرى ، او من إمرأة اخرى ، أما هي فاحب طريقتها في الإعتذار ، وعاد يسال برقة هذه المرة: " فلنعد إذن الى الجزء الأول من السؤال !". " كنت أعتقد انك تريد لا سماع رأيي بالجزء الأول ما لم اعطك اولا جوابي على الجزء الثاني". " كاريسا يا عزيزتي ، تعالي معي غدا لنتعرف معا على المدينة أعدك بانني لن اضايقك بعد الان ". واحسب ها تستريح في مقعدها وهي تقول بصوت طفولي: " يسرني ان أقبل دعوتك ". رغم كل إعتراضات جاك الذي كان يصرخ بأن هناك اشياء أهم يجب الإهتمام بها ، اصرّ كايد على تمضية اليوم كله مع كاريسا . " انت مدير اعمالي يا جاك ، تصرف كما يحلو لك ، أعطيت نفسي إجازة هذا اليوم ". " كاريسا مارتن ، أليس كذلك؟ هل تعرف يا كايد ماذا تفعل ؟". " أعرف جيدا ، وكما قلت لك لا اريد رؤيتك هذه الليلة ". " لكن كايد ...". " ساراك غدا يا جاك ". وإستقل السيارة التي كانت تنتظره في الخارج ليذهب وكاريسا الى الجبال المجاورة ، أخذت تصف له بدقة وشاعرية معالم الطريق ، وكان يستمع اليها بحنان ، وهو يحاول أن يرى من خلال عينيها روعة المناظر الطبيعية الممتدة أمامهما ، رأى الشمس تتوسط السماء وتلقي بخيوطها الذهبية على البحيرات النائمة ، وراى أشجار الصمغ تقف بإعتداد لتستقبل الضوء والهواء ، والعصافير الملونة تملأ الدنيا بمهرجان رائع من الأخضر والأحمر والأصفر ، وأخذ السائق يحدثهما عن الأساطير المرتبطة بهذه الأرض الرائعة ، فأضفى على الجو رهبة وغموضا ، وفي بقعة خلابة ترجلا أخيرا في احضان الطبيعة ، كانت تقوده برفق وسط الدروب الوعرة وهي تصف له جمال الزهور البرية الطبيعية ، والنباتات المتنوعة ، وحين وصلا الى أعلى التلة جلسا على صخرة صغيرة يتحدثان بإنطلاق وحرية ، كانت تحاول أن تجعله يشاركها روعة المشهد الممتد أمامهما ، وكأنها ترسم لوحة كلامية . |
وتشعّب الحديث فسالها:
" السائق رجل في اواخر الخمسينات ، طويل القامة ، ويميل الى البدانة... اليس كذلك يا كاريسا؟". " نعم ، هل أنت دائما بهذه الدقة في معرفة شكل الشخص الجالس أمامك ؟". إبتسم بخبث وهو يجيب : " وأنت شقراء الشعر ، معتدلة القامة ، ونحيفة البنية ...". وتابع وصفه متجاهلا شهقة التعجب التي صدرت عنها . " اما عمرك فيتراوح بين الواحدة والعشرين والثالثة والعشرين .... اليس كذلك ؟". توقف قليلا ومن ثم ضحك لصمتها المتواصل : " لن تخبريني عن عمرك ؟ الم أقترب من الحقيقة ؟". " بلى ، لكن ألا تعرف أنه من غير اللائق سؤال المرأة عن عمرها الحقيقي؟". " ما زلت صغيرة على القلق .... عليك الا تفكري بقضية العمر قبل أن تصلي الى عمري على الأقل ". " انت لا تتجاوز الثلاثين ، ومن ناحية ثانية العمر ليس مهما بالنسبة الى الرجل ، أليس كذلك ؟". " تعرفين عمري ! ". " طبعا ، انا من المعجبات بك ، وأقرأ كل ما يكتب عنك ". " حسنا ، وماذا تعرفين ايضا ؟". "ولدت في مكسيكو ، والدتك من اسرة أسبانية عريقة عارضت زواجها من والدك ، فهربا معا الى الولايات المتحدة ، توفي والدك وأنت لا تتجاوز الرابعة من العمر ، وكان كل ما تركه لك قيثارة متواضعة ، عندما بلغت السادسة عشرة أخذت تعزف في المقاهي لتعيل والدتك وشقيقتك الوحيدة التي تصغرك سنا ، إكتشفك ...". أوقفها بحركة سريعة من يده : " حسنا ، أنت من المعجبات بي ، اصدقك الآن ". " الم تصدقني عندما قلت لك ذلك في الطائرة ، أو عندما جئت الى الحفل ؟ ألم أقل لك بانني أحب موسيقاك ؟". " وكنت أنتظر ان تقولي ايضا انك تحتفظين بكل أسطواناتي ". وإبتسم لها ، لا إبتسامته الساخرة الشهيرة ، بل اخرى فيها الكثير من المرح والحنان . " لماذا تضحكين ؟". وإزدادت ضحكتها إتساعا : " لأنني أحتفظ فعلا بكل اسطواناتك ، اقسم بذلك ". نهض فجأة ورفعها من مكانها ليقربها منه ، شعر بأنفاسها الرقيقة تمر على وجهه كنسمة منعشة ، اراح كفيه على كفيها وسالها : " تركت شعرك منسدلا اليوم ؟". " نعم ". ومرّر أصابعه بين الخصلات الناعمة ، وود لو لا يتركها أبدا . " هكذا تبدين اصغر سنا ". " ماذا ؟ كيف عرفت ؟". وضحكت لتخفي حيرتها. " أعرف ... من الطريقة التي يتفاعل بها الرجال معك ". حاول ان يعانقها فقاومته بإصرار . " أرجوك دعني ". رنّة الخوف في صوتها فاجأه فحاول السيطرة على غضبه ، وكطفلة صغيرة عادت ترجوه بصوت خافت : " ارجوك كايد ، دعني ". فتركها على مضض وعادا معا الى السيارة . توقف السائق امام فندق كاريسا ، صعدت الى غرفتها لتستبدل ثيابها ، وإنتظرها كايد في الردهة ، ثم ذهبا معا الى فندقه ، وجلست كاريسا في غرفة الإستقبال التابعة لشقة كايد تنتظره حتى يغيّر هو ايضا ثيابه ليتناولا العشاء في مطعم الفندق. وعندما خرج أخيرا من غرفة النوم سألها : " ما رأيك بربطة العنق هذه يا كاريسا ؟". " جميلة ". جاءه صوتها من الكنبة العريضة فتوجه اليها وهو يقول في نفسه أنه ربما يستطيع الآن أن يطلب العشاء الى الشقة ، لكن حين نفرت من لمسة يده عرف انه لن ينتصر هذه المرة أيضا ، همس بصوته الدافىء : " الا تبيقين معي يا حبيبتي ؟". لم تجب فعاد يهمس برقة : " حبيبتي ! ". لم يصدّق صوتها الهامس وهي تقول بأنها ستبقى معه ، حاول كايد جاهدا ألا يدع فرحة الإنتصار تبدو بوضوح على وجهه. " حسنا ، فلننزل الى المطعم إذن ". تناولا العشاء على ضوء الشموع ورقصا معا وهو يهمس لها بأرق الكلمات ، وعندما عادا الى الشقة أحس كايد أن كاريسا عادت تتصلّب مرة أخرى ، لن تغيّر رأيها الآن ؟ ما بها تتلاعب بعواطفه هكذا ؟ لن يدعها تفلت منه هذه المرة ! " لماذا لم تخبريني ؟". لم تجبه ، ظلت صامة، أحس انها تحاول بجهد المحافظة على هدو اعصابها ، لم تكن تبكي على الأقل . " لماذا لم تخبريني أنك لم تعرفي رجلا من قبل ؟". وتوقف فجأة عند فكرة إخترقت ذهنه بسرعة وجعلت قلبه ينبض ، أمسكها بكتفيها وهو يشعر برغبة مجنونة بهزّها بعنف ، سالها بقسوة : " كم عمرك؟". " عشرون عاما ". بدت خائفة ، لن تخدعه هذه المرة ، عاد يهزها بعنف وهو يكرر سؤاله حتى إنهارت باكية وهي تعترف بالحقيقة. " سبعة عشرة عاما ". صرخ عاليا : " يا ألهي ... يا الهي". كم كره نفسه في هذه اللحظة ، شدّ اصابعه على كتفيها وكانه يريد ان يحطمها ،حاول جاهدا ان يسيطر على أعصابه كي لا يضربها ، يكفيه ماحدث ، وسمعها تقول : " أرجوك يا كايد ، أنت تؤلمني ". إبتعد عنها وهو يزمجر : " يا لك من فتاة بلهاء ... يا لك من مجنونة ! ". تركها وذهب الى الحمام ووقف تحت المياه الباردة ، وعندما عاد الى غرفة النوم وجدها تغط في نوم عميق ، لا بد أنها بكت كثيرا ، لن يشفق عليها ، إنها لا تستحق الشفقة ، فتاة مخادعة ، هي السبب في كل ما حدث ، جلس في غرفة الإستقبال يدخن بعصبية وعندما نفض رماد سيكارته لمس العلبة الصغيرة التي أعطاها له جاك بالأمس ، كان قد طلب منه أن يشتري قطعة من المجوهرات مطعّمة بالزمرد ، فتح العلبة وبدا يلهو بالأسوارة الذهبية الرائعة المزينة باحجار الزمرد ، جاك يعرف ذوقه تماما ، صحيح أنه لا يستطيع ان يراها لكنه يشعر يصياغتها الدقيقة ، بعد دقائق سمع كايد تململ كاريسا ، ووصله صوتها المتردد يناديه بخوف : " كايد... كايد... اين أنت ؟". نهض من مكانه وذهب اليها . " كايد ، الغرفة مظلمة جدا وأنا لا ارى شيئا ". |
الساعة الآن 05:41 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية