|
السلام عليكم الفصل السادس ليلة شتاء (6) د. أحمد خالد توفيق جلسنا جميعًا في قاعة المسافرين.. يا لها من ليلة! أنا بالفعل أمقت مهنتي.. لكنها لم تعد ليلة بالضبط.. نحن نقترب من الصباح جدًا، لكن كيف تتوقع أن تشرق الشمس في هذا الصباح؟ ظلام.. ظلام.. كأننا في الشتاء القطبي.. ضوء الكلوب يتوهّج بصوته وفحيحه المميزين.. الصوت الذي كان يفتنني عند باعة الفاكهة الساهرين.. من حولي جلس أفراد الأسرة.. البعض افترش الأرض والبعض جلس على الأرائك العالية.. كان المسدس في يدي، لكن عدم مبالاتهم به جعلني أشعر بأنه بلا قيمة.. هناك هيبة للأسلحة النارية.. يجب أن يرتجف الناس عندما تصوّبها نحوهم وإلا بدا الأمر مخيفًا.. بسيوني كذلك راح يحكّ صدره وبطنه كأنه مفعم بالبراغيث، ولم يبال بأن يُخرج مسدسه.. لا شك في أنه جائع ويتمنى لو لم تدلهمّ الأمور بهذا الشكل ليقدموا لنا الإفطار.. قلت لليثي ضاغطًا على كلماتي: ـ "أرجو أن تنضم لنا السيدة والابنة.." قال في ثبات وهو يحدّق في عيني: ـ "أما هذا فلا.. ليس للحكومة شأن مع حريم بيتي". لم أرد أن أضغط طبعًا.. ثم تذكرت أن زوجته ليست من الأسرة.. فعلاً لا دخل لها بالقصة. سألته بقدر ما استطعت من تهذيب: ـ "ليكن.. المدام ليست من الأسرة على كل حال". قال بثبات: ـ "بالعكس.. هي ابنة عمي! أنت تعرف الريف.. أنت متزوج من ابنة عمك منذ لحظة ميلادك". هذا يعقّد الأمور.. الكل مشتبه فيه إذن.. وهنا ومن دون أن أعرف كيف، رأيت امرأة وفتاة تتقدمان لتدخلا القاعة.. نظرة نارية توهّجت في عين الليثي، لكنه على ما يبدو قرّر أن يؤجل الانتقام لحين.. كلتاهما كانت تلفّ طرحة على رأسها وشعرها بحيث لا تبدو سوى العينين تقريبًا.. لكن ما تبدّى من الوجه كان ينم عن حُسن، وبالفعل كانت الزوجة في الأربعين أما الفتاة ففي سن الجامعة.. ـ "سلامو عليكم". ووقفتا جوار الباب صامتتين في مشهد شبه جنائزي.. قال الليثي بعدما استعاد ثبات صوته: ـ "خيرًا يا باشا؟ تقول إن هناك جثتين في البيت.. الشيخ المسن وجثة أخرى.. أنا رأيت الأولى لكن ماذا عن الجثة الأخرى؟" هنا صرخت المرأة: ـ "جثة؟! عم تتكلمون؟" صرخة جديرة فعلاً بزوجة تكتشف أن في بيتها جثتين.. هذا يتهمها بالإهمال وعدم النظافة.. الزوجة النشيطة تعرف على الفور أن هناك جثة في بيتها.. قلت: ـ "هذا ما أتوقع أن أعرف إجابته.. جثة قاتل مأجور اسمه أبو زبيدة والكل هنا يعرفه.. أنت تعرفه.. إنه في غرفة مقفرة جوار المرحاض، وقد تلقّى عددًا هائلاً من الطعنات". شهقت المرأة بينما ظهرت الاستثارة في عيون الشباب.. أكثرهم بالطبع كان الصغير رأفت. نظرت له لبعض الوقت.. يا لشحوبه! أعرف أن الأطفال فريسة دائمة للديدان والطفيليات، لكن على قدر ما أعرف لا يتجاوز الأمر بعض البقع في الوجه.. لكن للمرة الأولى أدقق في وجهه فأجده شاحبًا جدًا.. هذا غريب.. قال الليثي وهو يتحسس شاربه: ـ "أنا لا أعرفه.. ولا أفهم لماذا يأتي قاتل مأجور ليموت في داري"! ـ "كنت آمل أن تفسر لي هذا.." كانت هناك بقع دم على جلبابه فلماذا؟ قال إنه كان يذبح حيوانًا.. لماذا يذبح المرء ليلاً ووسط هذه العاصفة؟ ما سبب هذا الحماس؟ ثم لماذا لم يكن هناك لحم حيواني على مأدبة العشاء؟ كان الطعام كله طيورًا.. قالت المرأة بصوت مبحوح: ـ "يا قاعدين يكفيكوا شرّ الجايين! نحن أكثر الأسر احترامًا في البلدة.. لا شيء من هذا يحدث عندنا.." كأن وجود جثث في البيت يدل على عدم الاحترام.. لماذا تلتفّ المرأتان بهذا الشكل؟ إنه يتحدى الحشمة أو التدين، بل هو منظر مرعب يذكّرني بالمجذومين كما كانوا يظهرون في الأفلام التي تدور في القرون الوسطى.. قال الليثي بذات الحزم: ـ "صمتًا يا إنصاف". هنا قال أحد المراهقين وهو من يُدعى مصطفى: ـ "سمعت عن أبي زبيدة هذا.. هو رجل مخيف.. لكن من قتله وكيف؟" مطّ عنقه للأمام.. هذا الجرح الغائر في العنق يبدو لي أعمق من اللازم.. والغريب أنه يانع أحمر اللون.. ليس جرحًا قديمًا لكن لماذا لم يضمده أحد؟ رأسي يوشك على الانفجار.. رباه! يجب أن أتخلص من قصة الشيخ، وأفكر بشكل مادي عقلاني.. يجب أن أتخلّص من هذه الفكرة الحمقاء. لو صدقت نفسي لتصوّرت أن كل واحد من هؤلاء ميت فعلاً.. على كل حال لو كانت القصة صحيحة -وهذا مستحيل- فلسوف يسقط واحد من هؤلاء ميتًا، ونكتشف أنه كان كذلك منذ جاء البلاغ. ولو كانت خاطئة فعليّ أن أتصرف كشرطي.. يجب أن أطلب المدد وأطلب خبراء المختبر الجنائي.. لكن كيف وهذا اللاسلكي لا يعمل؟ قال الليثي وهو يشعل لفافة تبغ: ـ "سيدي.. لا أعرف ما تفكر فيه ولا ما تنتويه، لكني بالفعل لا أملك تفسيرًا.. ما أستطيع قوله هو أن بوسعك الانتظار ضيفًا كريمًا في داري، إلى أن تستطيع طلب رجالك أو مغادرة المكان.. بعدها قم بتحقيقاتك وتصرّف.. أما أنا فلديّ كلام كثير عن الأمن في هذا البلد، حيث القتلة يقتحمون بيوت الأبرياء.. كنت أحسب هذا من عمل الأمن وضمن مسئولياته". واحد من هؤلاء ميت! واحد من هؤلاء ميت! الفكرة لا تفارق ذهني.. تبًا لها.. الأدهى أن يكونوا جميعًا موتى.. ربما كان آل الليثي الحقيقيون موتى في غرفة أخرى الآن وأنا جالس مع أطياف.. قلت لليثي وأنا أنهض: ـ "أريد تفتيش البيت من فضلك.. من حقك أن ترفض لكن.." قال في ثقة وهدوء: ـ"لا داعي.. ليس لدي ما أخفيه.. هيا بنا.." وحمل الكلوب.. ثم استدار لي فلحقت به.. طلبت من بسيوني أن يبقى حيث هو. طبعًا كنت أرغب أن يراقب الباقين.. فقط أرجو أن يكون قد فهم هذا، فغباؤه يثير انبهاري.. يتبع |
|
السلام عليكم الفصل السابــــــــــــــــع ليلة شتاء (7) قلت لك إنني لا أحب مهنتي.. http://up.liilas.com/uploads/liilas_13009483691.jpg رحت والليثي نفتّش البيت في الظلام (رسوم: فواز) ثقيلة متعبة مفعمة بالشك والكراهية والتوتر.. أنت ترى الإنسان في أسوأ حالاته كضحية أو كمجرم. لن تتضمن مهنتي بالتأكيد توزيع أزهار على الأيتام أو سماع آخر مقطوعة لشتراوس.. رحت والليثي نفتّش البيت.. في الظلام يصير هذا عملاً عسيرًا شديد التعقيد.. خاصة وأنك تخشى من يرافقك. لهذا كنت أجعله يتقدمني باستمرار والكلوبّ في يده.. هذا بيت ريفي عملاق فيه كل ما يخطر ببالك عندما تتخيل منزل ريفي موسر الحال. كانت هناك بعض الغرف يتسرب الماء من سقفها غير المحكم، وكانت هناك جثتان واحدة في المطبخ وواحدة في تلك الغرفة التي لا لزوم لها جوار الحمام.. لا يوجد شيء غريب.. باستثناء الجثتين طبعًا.. لكني شعرت بشيء من الراحة عندما دخلنا قاعة سقفها مكون من عروق خشب غير محكمة، فرأيت أن السماء ليست سوداء.. إنها رمادية.. ثمة بصيص نور بدأ يتسلل برغم أنه ليس كافيًا لترى.. قطرات ماء تتساقط، لكن لا شك في أن العاصفة تزول.. قال الليثي ببسمته الواثقة التي تربكني بشكل غريب: - "أظن أننا رأينا كل شيء يا باشا.. هل يمكن أن نكفّ عن هذه الجولة؟" فجأة سمعنا صوت جلبة.. كأن هناك من يتشاجر أو يصيح. بسيوني! وقبل أن أفهم ما يحدث كان الليثي قد أطلق سبة واندفع يسبقني نحو مصدر الضوضاء، لأجد نفسي واقفًا في الظلام.. هرعت أحاول اللحاق به لكن خطواتي لا تألف هذا المكان، خاصة وهو يحمل الكلوبّ، والضوء الرمادي ليس كافيًا.. تعثرت وسقطت على الأرض.. باو!! دوى صوت الطلقة في الصمت.. لقد هوجم بسيوني! هوجم بسيوني وأطلق الرصاص من مسدسه.. لا شك في هذا.. تبًا! من فعل ذلك؟ نهضت ممسكًا بمسدسي وفي حالة من التوتر كظهر قط مذعور.. لو لمسني أحد لأفرغت المسدس فيه بلا تردد.. أنا عاجز.. أنا ضعيف.. أنا واهن.. أنا في الظلام وحدي، والمسدس لا جدوى منه.. هل هناك من يصرخ؟ فجأة رأيت الليثي من جديد وكان يحمل الكلوبّ في يده.. الضوء يشعّ منه لكن لا أرى من وجهه إلا جانبه.. تأثير مخيف يذكّرك بلوحات رمبرانت. لاحَظ حالة الجنون الوقتي التي أمر بها، فراح يكلمني كأنه يكلم طفلاً: - "هلم! اهدأ.. لا شيء.. لم يحدث شيء.." تراجعت للخلف فارتطمت بشيء يبدو أنه مقعد.. ووجدت نفسي جالسًا وأنا مستمر في التصويب نحوه. - "اهدأ يا باشا.. بشرفي كل شيء على ما يرام.. الأخ الذي يرافقك فقد أعصابه وحسب أن أولادي يريدون مهاجمته. أطلق رصاصة للتهديد في الهواء.. أنت تعرف كما أعرف أنه محدود الذكاء." - "وأين هو؟ أين هو؟" كنت أسأله بنبرة هستيرية تتعالى.. كأنني سأنتهي بالصراخ والبكاء على المسرح، لكن الوغد كان آية في الهدوء.. قال لي بصوت منوم قليلاً: - "اهدأ قليلا.. أقسم بشرفي إنه بخير.. سأحكي لك حكاية.." ظللت حيث أنا ألهث وأصغي، فقال في الظلام: - "أعتقد أن الشيخ حكى لك.. حكى لك كل شيء عن لغز أسرتنا، وكيف يظل طيف الميت يحوم في المكان لعدة ساعات.. يحدث هذا بالذات في الليالي العاصفة. وهذه الليلة الرهيبة قرر أبو زبيدة أن الوقت مناسب ليتخلص مني.. إن أسرة السنهوري تريد الخلاص مني بسبب مشكلة حدود الأرض تلك.. أخبرني أحد المستأجرين بذلك؛ فقد رآه يحوم حول العزبة لكن العاصفة تجعل تبين أي شيء مستحيلاً، وكنت أنا من اتصل بالشرطة.. لم يكن هناك إطلاق رصاص لكني قلت ذلك في البلاغ لأضمن أن يصل رجال الشرطة.. ما حدث بعد ذلك -وما فهمته مؤخرًا- هو أن أبا زبيدة تسلل للدار واصطدم بالشيخ فقتله. كان من السهل عليه أن يخنق عنقه النحيل. ألقى بجثته جوار حوض الغسيل الموجود في ركن المكان، وأنت تعرف أن المطبخ واسع جدًا، مع الظلام؛ لهذا لم نر الجثة.. وما لم يعرفه أبو زبيدة هو أن الشيخ من أسرتنا!" http://up.liilas.com/uploads/liilas_13009483692.jpg الليثي كان يرقد على الأرض وثمة ثقب كبير في جبهته (رسوم: فواز) نظرت له في ذهول غير مصدّق، فالتمعت أسنانه البيضاء في الظلام: - "نعم.. هو من الفرع المعدم من الأسرة، وهو يعيش معنا كخادم لكنه يمتّ لنا بصلة القربى. الآن يمكنك فهم لماذا ظل الشيخ موجودًا طيلة الأمسية.." - "لكنكم قدمتم لنا الطعام.." قال وهو يهتز بضحكة مكتومة: - "بل هو الذي قدّم الطعام.. لم يدخل الحريم المطبخ!" - "هل تعني أن الذي اندسّ معي تحت الأغطية.. هو.." - "فسّر الأمر كما تشاء.. ربما كان حائرًا لا يعرف حقًا إن كان ميتًا أم لا.. وكان يريد أن يشرح لك.. ربما كان يريد التسلية.. لا يهم.. دعنا نعد لسياق قصتنا.. لقد اختبأ أبو زبيدة في تلك الغرفة ينتظر أن يظفر بي، وهنا فوجئ بذلك الشيخ ينقض عليه مسلحًا بسكين.. ربما كان الشيخ قد اكتسب قوة لحظية من الغضب، وربما لعبت المفاجأة دورًا.. عندما يهاجمك شخص قتلته فعلاً في الظلام فأنت لا تقاوم كثيرًا.. لقد مزّق الشيخ أبا زبيده وغطى جثته كيفما اتفق ثم غادر المكان.." ثم جاء يحكي لي القصة مع حذف التفاصيل.. - "الصرخة التي أيقظتك من النوم كانت صرختي عندما وجدت الجثة.. وفهمت كل شيء.. والآن أنت عرفت ما حدث يا باشا.. القاتل قتل ثم قتله القتيل.. طبعًا لا يمكنك كتابة هذا في تقريرك، لهذا أرى أن تستغل الساعة القادمة في ترتيب قصة تقبلها الحكومة.. لا تفتش عن حقيقة أخرى فلا حقيقة سوى هذه.." قلت ومخي يوشك على الانفجار من كثرة ما أريد السؤال عنه: - "وأين بسيوني؟ بسيوني؟" - "بخير.. قلت لك بشرفي إنه بخير.. الآن أرجو أن تهدأ وتعيد المسدس ودعنا نعد للأسرة.." نهضت مترنحًا.. وقفت على الباب، فنظر لي الليثي باسمًا وناولني الكلوبّ الذي لا يكف عن الأزيز، وقال: - "أرجو أن تحمله أنت.. إن ذراعي ليست على ما يرام." نظرت له بشكّ.. ثم حملت الكلوبّ ومشيت في الممر متجهًا للغرفة التي كان فيها بسيوني والأسرة.. لا أعرف متى لاحظت أنه لا يمشي خلفي.. ذاب في الظلام.. هذا الزحام في الغرفة.. لماذا تصرخ المرأتان وتلطمان؟ لماذا يبكي سامي ومصطفى؟ من الراقد وسط هذه المجموعة؟ بسيوني يثب نحوي في هستيريا وهو يلوّح بمسدسه ويصرخ: - "لم أتعمد ذلك.. أقسم بالله! لقد أفزعوني.. حسبت أنهم سينقضون علي.. أخرجت المسدس أهددهم، هنا فوجئت بالرجل الكبير يعود للحجرة ويحاول نزع المسدس مني.. لا أعرف كيف انطلقت رصاصة من المسدس وأصابته.. لم أتعمد ذلك!!" الآن أمكنني أن أرى ذلك الراقد على الأرض وسط الباكين.. الليثي الكبير.. وثمة ثقب في جبهته.. لن أسأل عن ذلك الذي جاءني وحكى لي القصة وهو يحمل الكلوبّ.. لم يكن الليثي.. لم يكن هو بالضبط.. رباه! أنا أكره مهنتي.. أكرهها فعلاً! تمت |
الساعة الآن 12:40 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية