منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله (https://www.liilas.com/vb3/f717/)
-   -   [قصة مكتملة] أنت ملكي وحدي .. (https://www.liilas.com/vb3/t151744.html)

الجُودْ ؛ 19-07-12 06:20 AM


37




كالمعتاد فى الأونة الأخيرة ،، اسندتُ ظهري إلى حائط الرواق ووقفتُ فى مقابل غرفة العناية المشددة.. ومن خلال نافذة بابها الصغيرة رحتُ اتطلع إلى محمود والذى لازال غائباً عن الوعي لا حول له ولا قوة.. وكلما تطلعت إليه وهو على هذا الحال كلما إزداد شعورى بأثمي وذنبي.. وكلما شعرتُ بقبضة مؤلمة تعصر قلبي وتكاد تقف حيال خفقاته وتتسبب فى موتي..
فى تلك الأثناء حضر الطبيب ليفحصه وأغلق ستار النافذة وحجب عني الرؤية فبقيتُ واقفاً فى انتظار مغادرته عساه يطمئنني على حال صديقي.. وحينما غادر الغرفة بعد فترة كانت نظراته كافية لأدرك أن حالته مازالت على ما هي عليه.. لا جديد فى حالته.. ورُبما لا يوجد أمل أيضاً..
أصابني هذا باحباط بالغ كادت معه الدموع أن تقفز من عينى رغماً عني.. غير أن حضور سالي جعلها تنحبس وترفض أن تسيل أمامها..
قالت :
" كيف هو..؟ "

اطرقت برأسي وخرجت من صدرى تنهيدة قوية جعلتها تدرك الأجابة.. وإذا بيدها تمتد لتربت على كتفي برفق يصلني صوتها يشوبه البكاء وهى تقول :
" سيكون بخير قريباً.. أشعر بذلك.. صدقني.."

قلت :
" ليتني أملك هذا اليقين أنا أيضاً.. "

قالت :
" الأمل دائماً موجود.. إننى لا أفتأ أدعو له بالشفاء.. وأعلم أن الله لن يخذلني أبداً.."

غمغمتُ :
" ونعم بالله.."

وران الصمت لفترة قبل أن أعود لأقول :
" مر على وقوعه بتلك الغيبوبة ثمانية أيام بالضبط.."

قالت :
" وعلى غياب أروى خمسة أيام..!"

نظرت إليها معاتباً.. أكان ينقصني أن تذكريني بهذا أيضاً..؟
تابعت :
" ألم تعثر عليها بعد..؟"

هززت رأسي بأسف وقلت :
" ليس بعد.. وكأن الأرض قد انشقت وابتلعتها.. لا يوجد لها أى أثر بأى مكان.."

هنا سقط قناع القوة وانهارت قائلة وقد اطلقت سراح دموعها عنوة :
" تُرى أين ذهبت الأن..؟ وكيف صارت..؟ كم أنا قلقة عليها..! "

وأضافت بانهيار شديد :
"رباه ما هذا الذى يحدث لنا..؟ انظر كيف صرنا فى غضون أيام قليلة..؟ لقد غرق محمود فى غيبوبة طويلة والله أعلم متى يفيق منها.. أو حتى إن كان سيفيق منها يوماً ما أم لا.. كما أصيبت والدته بنوبة قلبية منذ علمت بالحادث وها هى تلازم الفراش حتى لم تعد قادرة على زيارته.. وأخيراً تركتنا أروى ورحلت والله أعلم أين هي الأن..؟"

قلت وقد استسلمت معها لحالة اليأس والانهيار :
" أين كان يخبئ لنا القدر كل هذا..؟ لقد اتهمت بالخيانة وفقدت صديقى الذى كنت اعتبره أخي الذى لم تلده أمي ، وفقدت معه زوجتي التى لم أحب مثلها طوال عمري.. وليت الأمر مقتصراً على هذا فقط.. لقد اختفت تولان هى أيضاً.. وأخشى أن تكون قد سافرت وتركتني.. وأخشى أن تكون قد ضاعت هى الأخرى.. "

تجمدت سالي فى مكانها بعد جملتي تلك وارتسم الغضب على محياها وبدت على أهبة الانفجار بوجهي بين لحظة وأخرى..
وإذا بها تجفف دموعها بيديها ثم تصيح بي غاضبة :
" أمازلتَ تذكر تلك اللعينة..؟! ألا يكفيك ما صرنا إليه بسببها..؟ "

وأضافت بحدة :
" أنت حقاً ميؤوس منكَ.. "

وسرعان ما ذهبت وتركتني وحيداً بائساً..!
وبينما أنا واقفاً على هذا الحال.. اتطلع إلى شاشة رسم القلب واستمع إلى صوت نبضات قلب محمود ، إذ بي ألحظ إضطراب ملحوظ فى نبضات قلبه.. مما أثار قلقي الشديد فسارعت بالذهاب إلى الطبيب أسأله أن يذهب لتفقده..
وما أن دلف الطبيب إلى غرفته حتى اسدل الستار مجدداً وتركني فى حالة يرثى لها.. وقد تملكني الفزع والخوف على محمود..
وفى توتر لا مثيل له رحتُ أرزع أرض الرواق جيئة وذهاباً.. ولساني يلهج بالدعاء له..
يااارب اشفه وأكتب له النجاة.. يارب لا تعاقبني على ما اقترفت بحق أروى بهذه الطريقة ؛ فأنا لم أعد حملاً لأى مصائب جديدة.. ولست حملاً لأن افقد أعز أصدقائي.. واللهم لا إعتراض على حكمتكَ وقضاءكَ..!
بينما كنت فى ذلك اقبلت سالي ونظرت إلى غرفة محمود فى وجل قائلة :
" ما الأمر..؟ ألم يفحصه الطبيب منذ دقائق..؟ "

تملصت من نظراتها المتسائلة والتى راحت تحاصرني ورفعت عينىّ إلى السقف كما لو كنت أريد أن اخترقه بنظري إلى السماء..
قالت سالي وقد رفعت يدها لتضعها فوق قلبها كمن يخشى تلقى صدمة ما :
" معاذ لا تصمت هكذا.. قل لي ماذا حدث..؟ "

اطلقت تنهيدة حارة ومنعتني تلك الغصة بحلقى من النطق بأى شئ..
أما سالي فقد بلغ قلقها ذروته وإذا بها تضع يدها على فمها لتمنع شهقة كادت أن تفلت من بين شفتيها قبل أن تقول :
" هل... أصابه مكروه..؟! "

وقبل أن تترك العنان لأفكارها السوداء وتغرق فى بحر دموعها غادر الطبيب الغرفة وقبل أن يتوجه إلينا ركضت سالي نحوه مذعورة تحاول أن تجد على ملامحه أجوبة لكل تساؤلاتها.. فيما وقفت أنا فى مكاني وقد تخاذلت ركبتيّ واصابني الخوف بحالة شلل مؤقتة حالت دون حركتي..!
وبينما كنت فى ذلك وصلني صوت الطبيب قائلاً :
" لقد أفاق المريض.. حمداً لله على سلامته.. "

~ ~ ~ ~ ~


كنتُ فى حالة غريبة لم يسبق لي أن مررت بمثلها.. فبرغم سعادتي الفائقة بافاقة محمود من غيبوبته غير أننى كنت أخشى أن يرفض مقابلتي بسبب تلك المشاحنة التى حدثت بيننا فى الشركة قبل الحادث..
وأظن أن معاذ أيضاً كان يخشى ذلك مثلي تماماً.. غير أنه كان يفوقني شجاعة ؛ فقد دلف إلى غرفة محمود على الفور.. أما أنا فاكتفيت بمراقبته من خلال النافذة.. بينما كان الأطباء يقومون بتجهيزه لينتقل إلى غرفة عادية..
كان معاذ فى قمة سعادته وهو يعاون الأطباء على حمل محمود ونقله إلى السرير المتحرك ، ومن حين لأخر كان يلقى بتعليق ما ويوجه حديثه إلى محمود والذى كان يكتفي بالنظر إليه دون أن يجيبه..
وبينما كانت الممرضات يدفعون السرير المتحرك خارح الغرفة كان معاذ يسير بجوار الطبيب ويتحدث إليه واستطعت سماعه بينما كان يسأله :
" هل هو بخير الأن..؟ أقصد هل عاد كل شئ إلى ما كان عليه..؟ "

وكانت إجابة الطبيب كالأتى :
" بالنسبة للكسور فلم تلتحم بعد.. عدا ذلك فكل شئ على ما يرام.. إنه الأن يتمتع بصحة جيدة وبعد مرور ثلاثة اسابيع تقريباً سيستطيع السير على قدميه مجدداً وسيعود كل شئ كالسابق.."

حمدت الله فى سرى وكدت أواصل سيري وألحق بالممرضات غير أن معاذ عاد ليطرح سؤال جديد على الطبيب مما استرعى انتباهي..
قال :
" لماذا أذن لم يجيبني بينما كنت أتحدث إليه..؟ ألم يفق كلياً بعد..؟ "

وقال الطبيب :
" بل لقد أفاق تماماً.. حتى أننى سألته عدة اسئلة وكانت اجوبته دقيقة للغاية.. بل إنه حينما أفاق بادر بالسؤال عن الأنسة أروى.. وقد بدا قلقاً عليها للغاية.."

ولم يعد معاذ فى حاجة لأن يخبره الطبيب بأنه يخصه هو فقط بتلك المعاملة.. وأنه لا يرغب قط فى التحدث إليه هو بالذات..!
لحقت بعد ذلك بالممرضات وتبعتهن إلى الغرفة الجديدة التى تم نقل محمود إليها.. ووقفت أرقبهن حتى انتهوا من كل شئ وغادروا الغرفة.. وأيضاً كدت ألحق بهن غير أن صوت محمود استوقفني قائلاً :
" سالي.. "

شعرت بركبتايّ تتضعفان لدي سماعي لصوته وتسارعت خفقات قلبي فى حين تابع هو :
" إلى أين تنوين الفرار..؟ "

ألتفت إليه ووجهت نظراتي إليه كما لو كنت تلميذة بليدة تقف أمام أستاذها وتخشاه..
قال :
" تعالى هنا.. "

وبخطوات متثاقلة توجهت إليه ووقفت أمام فراشه مطأطأة الرأس..
كم كنت أخشى هذا اللقاء كثيراً..! بل إن يدي ترتجفان بشدة.. ترى هل يشعر بارتباكي..؟
قال برأسه إلى مقعد قريب :
" أجلسي هنا.. ولا تقفين هكذا.. "

وابتسم متابعاً :
" لا تخافي مني.. لن أضربكِ ؛ كما ترين فإنني لم استعيد بعد قواى كاملة لأفعل ذلك..! "

قلت بلا تفكير :
" بإذن الله ستفعل وستعود كالسابق وأفضل.. لقد كنت على ثقة تامة بأنكَ ستتجاوز هذا.. لقد اخبرت معاذ وأروى بذلك و...."

قاطعني محمود قائلاً بشغف :
" كيف صارت أروى الأن..؟ لماذا لا أراها بينكم..؟ "

قلت :
" لقد صارت بخير.. إصابتها لم تكن خطيرة كمثل اصابتكَ.. "

قال بحيرة :
" لماذا هى ليست هنا أذن..؟ "

قلت :
" كما تعلم فإن الأمور بينها وبين معاذ متوترة و..... "

قاطعني محمود للمرة الثانية قائلاً :
" سالي لا تراوغينى.. أين هى أروى الأن..؟ "

اطرقت برأسي أرضاً وقلت بأسف :
" لا أدرى..! "

صاح مذعوراً :
" ماذا تعنين بهذا..؟ ردى علىّ.."

قلت :
" لقد غادرت المستشفى ولا ندرى أين ذهبت.. بحثنا عنها بكل مكان يمكن أن تذهب إليه.. حتى أننا اضطرينا لأبلاغ الشرطة عن غيابها.. وأيضاً دون جدوى..! "

صاح بي :
" كيف هذا..؟ أين يمكن أن تكون قد ذهبت..؟ اللعنة.. أخشى أن تكون قد فعلت بنفسها شئ.. لقد كادت أن تلقى بنفسها من السيارة يوم الحادث.. كانت تريد أن تنتحر بسبب ما قالته لها تولان ذلك اليوم.."

أصابني حديثه بصدمة عنيفة وبلا وعي افلتتت مني شهقة مرتفعة وقفزت من فوق مقعدي كمن لدغته أفعى بينما كانت نظراتي مثبتة على محمود والذى اتجهت نظراته الغاضبة إلى باب الغرفة حيث يقف معاذ فى حالة شبيهة بحالتي من الصدمة والهلع..!

~ ~ ~ ~ ~

تتبع



الجُودْ ؛ 19-07-12 06:21 AM









38


كانت مفاجأة رهيبة هزت كياننا وبثت بقلوبنا مزيد من الهلع..
لم أفكر أبداً أن اليأس قد يصل أروى حد الانتحار.. ولو أننى فكرت بهذا أو خطر لي هذا على بال ما كنت تركتها تنصرف أبداً ذلك اليوم..
شعرت بالندم يتسلل إلىّ وكاد وخز الضمير أن يتملكني ويغرقني فى دوامة الندم العميقة ، غير أن معاذ قطع حبل أفكاري بغتة حين قال ما بين التصديق والتكذيب :
" أروى حاولت الانتحار ..؟ "

على الفور وجهت نظراتي إلى محمود والذى لازال يحدق بمعاذ بنظرات قاسية تقطر بغضاً.. وانتظرت أن اسمع اجابته غير أنه ظل صامتاً فيما راح يصوب النظرات الحادة والغاضبة إلى معاذ والذى عاد يقول بأسى :
" كانت تريد أن تلقى بنفسها من السيارة..؟! "

عقب محمود منفعلاً :
" بسببكَ وبسبب خيانتكَ أرادت انهاء حياتها.. فضلت الموت على أن تحيا بدونكَ.. "

ولم تزده جملة محمود إلا حزناً وألماً..
قال غير مصدقاً :
" لا استطيع استيعاب الأمر أو تصديقه.. "

رد عليه بحدة :
" هذا لأنكَ غبي ولا تقدر النعمة التى بين يديكَ.. لم تقدر حب أروى لكَ وذهبت خلف من تركتكَ فيما سبق من أجل رجلاً أخر.. لم تحسب حساب لكرامتكَ التى أهانتها من قبل.. أو لزوجتكَ التى تحبك بحنون.. "

أطرق معاذ برأسه وردد بتشتت فكر :
" أروى تحبني..؟! "

وقال محمود مباشرة :
" للأسف.. لقد وضعت كل حبها وثقتها بشخص لا يستحق الحب وليس أهلاً للثقة على الأطلاق.. "

رفع معاذ عينيه المحمرتين إلى محمود ونظر إليه معاتباً فتابع محمود بغضب :
" أنا أيضاً وضعت كل ثقتي بكَ حتى أننى كذبت تولان كالأحمق حين قالت لأروى أنك عازم على الزواج منها..؛ فلم أكن أتصور قط أنك من الممكن أن تفعل هذا بزوجتكَ.. لم أتخيل أبداً أن تخونها.."

بدت كلمات محمود كقذائف موجهة إلى صدر معاذ والذى لم يحتمل عند هذا الحد ولم يضع بإعتباره مرض صديقة فانفجر بوجهه صائحاً :
" أنا لم أخن أروى قط.. حتى بتفكيرى لم أخنها.. بل أنتم من فعلتم هذا بي حين صدقتم أن مشاعرى نحو تولان تجددت رغم أنها ماتت ووراتها الرمال منذ سنوات طويلة.. أنتم من اتهمني بالخيانة رغم أننى كنت مخلصاً لزوجتي حتى أخر لحظة وكنت أظن أنكما تعرفونني أفضل من هذا وستدركون أننى ما رغبت بتلك الزيجة وانما اضطررتُ لها اضطراراً.. وإن كان عقلكما قد عجز عن الوصول إلى سبب ذلك فكان يجب على الأقل أن يسألني أحدكما عن السبب..؟ كيف تصدقون زعم تولان وتكذبونني..؟ كيف..؟ "

قال جملته وأعقبها بتنهية مريرة ثم استطرد بسخرية لاذعة :
" بل والأن تتحدثون أمامي عن الثقة.. تباً لكما.. أى ثقة تلك التى تتحدثون عنها..؟! أى ثقة..؟! لو كان لدى أحدكم ذرة واحدة فقط من الثقة بي ما كان حدث كل هذا..! "

لم يكد ينتهى من جملته حتى استدار وابتعد عن الغرفة بخطوات واسعة فيما بقيت وحدى مع محمود والذى عقب ساخراً :
" كان أداءه رائعاً بالفعل.. كادت الدموع أن تفر من عينىّ..! "

شعرت بضيق شديد فى صدرى.. ولم أدرى من أصدق ومن أكذب..!
قال محمود حين لاحظ وجوم وجهي :
" لا تقولي أنكَ تأثرتِ بما قاله.. "

اطلقتُ تنهيدة طويلة وقلت :
" رُبما كان على حق.. لقد تركنا الشيطان يسيطر على عقولنا.. حتى أننا لم نفكر - كما قال - أن نسأله عن سبب رغبته فى العودة إلى تولان.. "

تجلى الاستياء على وجه محمود وقال بحدة :
" إذا أردتِ فلتسأليه بنفسكِ.. أما أنا فلم أعد أصدقه.. على الأقل كان أخبرني أنا بذلك قبل أن تفعل تولان وتفسد كل شئ.. ثم أنه ألم يخدعنا وقال أن تولان قد سافرت إلى بلدها..؟ أليس هو من كذب علينا..؟ أينتظر منا الأن أن نصدقه..؟ "

قلت بحيرة :
" أنا حقاً مشتتة الفكر ولست أدرى من الصادق ومن الكاذب.. لقد فقدت الثقة فى كل من حولي.. فقدتها تماماً.. "

قال محمود :
" ليس مهماً كل ما ذلك الأن.. بل إنني لم أعد مهتماً بمعرفة الحقيقة.. ما يهمني الأن هو أن نطمئن على أروى.. تُرى كيف حالها الأن..؟ أهى بخير أم أن مكروهاً قد لحق بها..؟ "

بعد فترة من الزمن جاء الطبيب مجدداً لفحص محمود والاطمئنان عليه فغادرت الغرفة حتى ينتهى من ذلك ، وما كدت أفعل حتى وجدت معاذ واقفاً بالخارج..
قلت :
" ظننتكَ غادرت المستشفى.. "

قال :
" لن أفعل حتى أطمئن إلى أنه قد صار بخير.."

تذكرت حينئذ أمراً نسيته سهواً ، فهتفت :
" رباه..! لقد نسينا أن نخبر والدة محمود.. لابد أن هذا الخبر سيجعل حالتها النفسية والجسدية تتحسن.. "

وأضفت :
" سأذهب إليها الأن على الفور لأنقل إليها الخبر.. "

غير أننى لم ألبث أن تذكرت وضع محمود ومعاذ وخشيت أن يعودا ليتشاجرا مجدداً فى غيابي فاستدركت قائلة :
" أو.. رُبما من الأفضل أن أخابرها على الهاتف.. "

قال معاذ وقد فهم سبب تراجعي :
" أطمئني.. لن نتشاجر مجدداً ولن أؤذيه فى غيابكِ.. "

اسرعت إلى القول :
" لا.. ليس هذا ما جعلني أتراجع.. إننى فقط أفكر فى وسيلة أسرع لأخبارها بالأمر.. "

وبحثت عن هاتفى فى جيب سترتي لكنى لم ألبث أن أدركتُ أننى تركته بداخل غرفة محمود.. وحينما لاحظ معاذ هذا أخرج هاتفه قائلاً :
" خذى وأتصلى بها.. "

ولم أكد أمسك بهاتفه حتى ارتفع رنينه بغتة.. فما كان مني إلا أن أعدته إلى معاذ والذى تناول مني الهاتف وأجاب الأتصال على الفور.. ومن التغيرات التى طرأت على وجهه استطعت أن أدرك خطورة الأمر حتى قبل أن يصيح بالمتصل :
" ماذا ؟ متى حدث هذا..؟ "

توقفت نبضات قلبي حينما تحجرت نظرات معاذ على وجهي واضطربت أنفاسه بشكل ملحوظ.. وإذ بيده الممسكة بالهاتف تتراخي عن أذنه فيقع الهاتف من يده ويتحطم على الأرضية الملساء..
ولم يعد لدى شك بأن ما حدث أمراً رهيباً بحق ..!

صحت به فى ذعر :
" ماذا حدث معاذ..؟ بماذا أخبركَ المتصل..؟ "

نظر معاذ إلى الهاتف الملقى على الأرض وقال مصدوماً :
" تلك اللعينة.. نفذت وعيدها و.... "

وقبل أن استوعب أى شئ أو أبادر بسؤاله تابع بأسي شديد :
" و فقدت أبني إلى الأبد.. "

~ ~ ~ ~ ~


كانت تلك الليلة غير مقمرة.. توراى فيها القمر عن الأنظار وترك الساحة للنجوم الفضية فتلألأت على غير عادتها وبدت كقطع من الماس المنثور على بساط قاتم..
وراحت أمواج البحر تضرب الشاطئ ثائرة ولا تلبث أن تتكسر عن الصخور المتناثرة وتنحسر عائدة مجدداً..
وفى وسط كل هذا كنت أجلس كعادتي أشكو للبحر حالي.. ويشاركني ثورتي وغضبى بأمواجه الهائجة..
وكأى شخص حاصرته الأحزان وعصفت به المصائب تلو الأخرى.. أطلقتُ عنان دموعي وتركتها تنساب على وجهي وتبلل لحيتى التى نمت ولم أهتم بحلقها..
وكلما تذكرت تلك المخابرة التى جائتني من قسم الشرطة كلما تدفقت الدموع أكثر إلى عينىّ.. وكلما إزداد ضيق صدري..
كانت هذه هى القشة الأخيرة.. فبداية كان ما حدث مع تولان.. ثم حادث أروى ومحمود.. ثم غيبوبة محمود وفرار أروى.. وأخيراً فقدت أبني الوحيد إلى الأبد.. وبسبب انشغالي الأيام الماضية بسبب ما حدث لأروى ومحمود اقتنصت تولان الفرصة وهربت بأبني إلى حيث لا أعلم.. نفذت وعيدها لي وسافرت إلى إحدى البلاد الأوروبية وضاعت وسط زحامها.. وصرت وحيداً مجدداً.. حتى أروى رحلت عني وتركتني وأنا فى أمس الحاجة إلي وجودها بجانبي..
ارتفع رنين هاتفى فى تلك اللحظة ، وللمرة الألف ظهر رقم سالي على شاشتها.. وأيضاً لم أجيبها..!
كنت فى حاجة لأن أبقى وحيداً لبعض الوقت..
ولست أدرى كم مضى من الوقت وأنا جالس على هذا الوضع..؟!
لقد وصلت إلى هنا قبيل أذان العشاء.. ورُبما لم يبق إلا دقائق قليلة على بزوغ الفجر.. حتى أن الشاطئ والذى كان يعج بالناس عند وصولي صار خالياً تماماً..
نهضت من فوق الرمال ولم أضبط من وضع ثيابي وأنفض عنها ما علق بها من رمال وتوجهت عائداً إلى سيارتي بخطوات ثقيلة حتى وصلت إليها وقدتها إلى المنزل..
وعلى غير العادة كانت سالي تنتظرني بقلق وما كادت تراني حتى هرعت إلىّ قائلة :
" أين كنت طوال هذا الوقت..؟ أقلقتني عليكَ كثيراً.. ثم لماذا لم تجيب على أتصالاتي..؟ وما هذه الحالة التى أنتَ عليها..؟ أين كنت بالضبط..؟ "

قلت :
" فلنتحدث فى الصباح.. تصبحين على خير.."

تركتها واقفة وسرت متوجهاً إلى الجناح وأغلقت بابه خلفي..
وكالمعتاد منذ رحلت أروى ، تجاوزت غرفتي ودلفت إلى الغرفة التى تليها والتى كانت لأروى.. واستلقيت على فراشها الوثير ولست أدرى كيف استغرقت فى النوم هكذا..؟
كل ما أتذكره أننى أفقت فجأة لأجدها بجانبي.. كانت تنام كالملاك.. وجهها البرئ خالي من مستحضرات التجميل وبشرتها نقية كالأطفال.. وشعرها الأملس يتناثر حولها ويشكل لوحة رائعة.. وعطرها الأخاذ يعبق كل شئ من حولها..
مددت يدى إلى شعرها وتحسسته برفق شديد.. ويبدو أن لمساتي قد أيقظتها ففتحت عينيها وتطلعت إلىّ باسمة.. وسرعان ما نهضت وتوجهت إلى طاولة الزينة وجلست تمشط شعرها بينما كانت تنظر لى من خلال المرآة ولا تزال تبتسم..
ناديتها لتأتي فاستدارت إلىّ وكانت دهشتى بلا حدود حينما رأيت وجه تولان أمامي بدلاً من وجه أروى..
وإذا بها تبتسم بسخرية وتقول :
" لقد نفذت وعيدى حتى تعلم أننى لم أكن أهدد فقط.. لن ترى أبنكَ مجدداً.. وإلى الأبد.. "

وارتفعت ضحكاتها لتملأ الأجواء وراحت تتعالي تدريجياً حتى صارت تصج وتدوى بإذني كآلاف من الطبول والمطارق ، وإذا بي أفيق فجأة لأكتشف أن كل هذا لم يكن سوى حلماً..
نظرت إلى ساعة الحائط والتى كانت تناهز السابعة صباحاً.. أى أننى لم أنم سوى ساعتين فقط..!
حاولت مواصلة نومي بعد ذلك غير أن الأمر بدا لي مستحيلاً فنهضت عازماً على الاستحمام ثم الذهاب إلى المستشفى..
وبينما كنت أتجه إلى دورة المياة سمعت هاتفي يرن فغيرت وجهتي وعدت إليه.. وكان رقماً مجهولاً..
حين أجبت الأتصال أتاني صوت المتصل وكانت أمرأة.. قالت :
" مرحباً.. أهذا هو هاتف معاذ بهاء الدين..؟ "

قلت : " أجل سيدتي.. إنه أنا.. من معي..؟ "

صمتت لبرهة ثم قالت بتردد وبصوت خافت :
" هل أنت... زوج السيدة أروى..؟ "

شعرت بدوار مفاجئ لدى ذكرها لأسم أروى وهتفت بسرعة :
" أجل أنا زوجها.. ماذا هناك..؟ من أنتِ..؟ "

ولما لم ترد عدت أقول صارخاً :
" سيدتي.. رجاء ردى علىّ.. من أنتِ..؟ هل تعرفين مكان أروى..؟ "

وقبل أن تجيبني قطع الأتصال بغتة.. وانتهي كل شئ..!

~ ~ ~ ~ ~


تتبــع


،

،



الجُودْ ؛ 19-07-12 06:23 AM









39




اسودت الدنيا بعينى بمجرد أن انقطع الأتصال.. وخبا الأمل بقلبي سريعاً مثلما اشتعل..
نظرت إلى الهاتف بقلة حيلة لم تلبث أن تحولت إلى غضب فكدت ألقيه على الأرض لأحطمه لولا تذكرت أن رقم ذلك الهاتف مسجل عليه..
وقبل أن ارتكب تلك الحماقة أمسكت بالهاتف وبحثت عن أخر رقم متصل - وكان الرقم لهاتف أرضى - أعدت الأتصال به مرات عديدة دون أن يجيب أحداً على أتصالي.. وانتهى أخر أمل لي..
كان بداخلي شئ يؤكد لى أن ثمة مكروهاً ما قد لحق بها.. وإلا لماذا تتصل بي تلك السيدة..؟
ترى من تكون..؟ ولماذا لا تجيب أتصالاتي..؟ بل إن السؤال هو لماذا أتصلت بي من البداية..؟ وماذا كانت تريد أن تقول بالضبط..؟
شعرت بالقلق الشديد على أروى.. وكلما فكرت أكثر كلما أوصلني تفكيري إلى بؤرة سوداء قاتمة..
وأخيراً برق الحل فى رأسي بغتة وأصاب عقلي..
لقد كان لي صديق ما يعمل فى شركة الأتصالات ورُبما استطاع مساعدتي فى إيجاد عنوان صاحبة هذا الهاتف..
فى غضون دقائق كنت قد ارتديتُ ثيابي وقدت سيارتي مسرعاً إلى شركة الأتصالات حيث أخبرت صديقى هذا بخطورة الأمر وضرورة حصولي على عنوان هذا الهاتف.. ورغم أن ذلك محظور غير أن صديقى استطاع الحصول عليه بطريقة ما.. وعرفت أن هذا الهاتف لسيدة تدعي زينب وتمكنتُ من الحصول على عنوانها.. وحين وصلت إليه اكتشفت أن منزلها ما هو إلا فندق صغير - لو صح تسميته - بإحدى الأحياء المتوسطة..
دلفت إلى ذلك الفندق فاستقبلتني - سيدة فى العقد الخامس من العمر - بترحاب شديد ظناً منها أننى إحدى النزلاء..
وقالت :
" هل تريد غرفة أم جناح..؟ وكم ستكون مدة بقائك..؟ "

قلت :
" فى الحقيقة أنا أبحث عن السيدة زينب صاحبة هذا الفندق.."

عدلت السيدة من وضع منظارها ودققت النظر إلىّ ثم قالت بإرتياب :
" أنا هى.. أهناكَ شيئاً ما..؟ من تكون أنتَ..؟ "

قلت على الفور :
" أنا معاذ بهاء الدين.. لقد أتصلتِ بي اليوم وسألتِني عن زوجتي و....... "

قاطعتني قائلة :
" أجل.. لقد تعطل الهاتف فيما كنت أتحدث إليكَ.. ذلك الهاتف اللعين لا يفتأ يحرجني مع الجميع حتى أن بعض الناس يعتقدون أننى أغلق الهاتف فى وجههم.. هل تتصور هذا..؟ "

قلت :
" هذا ما تصورته أنا أيضاً لهذا أتيتِ إليكَ لأفهم الأمر.. "

قالت :
" على أى حال كنتُ سأعاود الأتصال بكَ مجدداً.. لكن يبدو أنكَ لم تستطع الانتظار..! "

قلت :
" أجل.. إنني أبحث عن زوجتي منذ فترة وأعتقد أنكِ رأيت ذلك الأعلان الذى وضعته بإحدى الجرائد لذلك أتصلتِ بي.. "

قالت :
" فى الحقيقة لم أره ولم أعلم بهذا الأمر.. لكني أعتقد أنه فى مثل تلك الأعلانات تكون هناك مكافأة أو شئ من هذا القبيل.. "

قلت بسرعة ولهفة :
" بالطبع هناك مكافأة سخية لمن يدلني على مكان زوجتي.. هذا لو كنتِ بالفعل تعرفين أين هي..؟ "

هتفت بحماس وقد شجعها ذكر المكافأة على الحديث :
" إنها نزيلة عندي بالفندق منذ ستة أيام تقريباً و..... "

قاطعتها صائحاً ما بين التصديق والتكذيب :
" أروى هنا عندكِ..؟ هل هى بخير..؟ هل هى من طلبت منكِ أن تتصلي بى.؟ "

قالت نافية :
" لا.. إنها لم تطلب أن أخابركَ ولم تعرف حتى أننى فعلت.. بل إنها لا تغادر غرفتها منذ أتت إلى هنا ولا تتحدث إلى أحد تقريباً.. "

وأضافت بتعاطف شديد :
" إنها مسكينة ووحيدة.. منذ أن رأيتها وقد لاحظت أن ثمة ما يحزنها لكنها لم تطلعنى على هذا الأمر قط رغم محاولاتي المستمرة للتحدث إليها.. "

وصمتت لبرهة لتلقتط خلالها أنفاسها ثم تابعت :
" لكني بخبرتي فهمت أنكما تمران ببعض المشاكل الزوجية.. إنها أمور تحدث بين كل الأزواج عادة.. وإن كنتُ لا أدرى بالضبط ما الذى يمكن أن يجعل أى رجل يُغضب تلك الفتاة الرقيقة..؟ "

ونظرت إلىّ شزراً ثم قالت :
" على أى حال لم أخابركَ لأتحدث عن هذا.. فتلك الأمور الخاصة لا أحب الخوض فيها.."

قلت بلهفة شديدة :
" أذن أخبريني بأى غرفة تقيم زوجتي ..؟ أريد رؤيتها على الفور.. "

قالت معترضة :
" لست أدرى إن كان هذا ممكناً أم لا..؟ على أى حال دعنا نكمل حديثنا أولاً.. "

وأضافت :
" إننى لست فضولية ولا أحب التدخل فى حياة الناس.. غير أن أحوال زوجتكَ هى ما أجبرتني على فعل ذلك.. لقد وجدت أثناء تنظيفي لغرفتها عقد زواجكما وعرفت اسمك كاملاً ثم أتصلت على الفور بشركة الأتصالات واستطعت الحصول على رقم هاتفك.. وكل هذا دون أن تدرى هى بالطبع.. وقررت أن أخابركَ لأخبركَ بما آلت إليه صحة زوجتكَ.. إنها على ما يبدو قد تعرضت لحادث ما.. فزراعها مضمدة وتبدو على وجهها بعض الكدمات.. ويبدو أنها أهملت فى صحتها بعد ذلك الحادث ولم تتناول الأدوية اللازمة لشفاءها ، بالأضافة لحالتها النفسية السيئة مما جعل حالتها الصحية تتدهور.."

قلت وقد تملكني القلق عليها :
" رجاء أخبريني أين هى غرفتها..؟ لابد أن أراها الأن لأطمئن عليها.."

قالت :
" لقد أخبرتكَ أنني لن استطيع أن أجعلكَ تراها.. طبعاً حتى تسمح هى بذلك.. لقد طلبت منكَ أن تأتي حتى تطمئن عليها وإذا كان فى الأمكان حل تلك المشكلة.. أو على الأقل إذا كان يمكن أن تضعا مشكلاتكما جانباً حتى تتعافي زوجتكَ.. إنها بحاجة لرعاية طبية ولدعم نفسي كما سبق وأخبرتكَ.. "

قلت :
" أعدكِ أننى لن أتسبب لها بأى ضرر.. إنها زوجتي ولابد أن أكون بجانبها.."

قالت بتردد :
" على الأقل دعني أدخل إليها أولاً لأخبرها بقدومكَ.. "

ونهضت من مكانها ثم توجهت إلى إحدى الغرف.. وبلا تفكير تبعتها إلى الغرفة ودلفت إليها فراحت تلك السيدة تمطرني بسيل من التوبيخ وتلوم نفسها على ثقتها بي..
لم أكن فى وضع يسمح لي حتى بأن أجيبها أو حتى استمع لها.. كنت أحدق بتلك الفتاة الهزيلة النائمة على السرير وقد هالني مظهرها وشحوب وجهها..
كانت نائمة على سرير صغير ، تلتحف بطانية خفيفة وتغرق فى النوم دون شعور بأى شئ..
شعرت بألم حاد ومؤلم بقلبي وأنا أراها فى هذا الحال.. واقتربتُ منها بضع خطوات ثم جلست إلى جانبها على الفراش ومددت يدى إلى شعرها الطويل لأمسح عليه بعطف.. بينما تقف تلك السيدة وترقبني بمقت ولا تزال توبخني..
ويبدو أن صوتها الحاد قد جعل أروى تفيق من نومها وتفتح عينيها لتحدق إلىّ بدهشة كبيرة..!

~ ~ ~ ~ ~



ككل يوم أجبرني التعب على السهر طوال الليل.. لم يرافقني خلاله سوى أحزاني الملبدة بسماءي.. وكالمعتاد عكفت على تقلب صفحات الماضي المؤلم.. وتأمل حاضري التعس.. والتطلع إلى مستقبلي المبهم..!
وبعد بزوغ الفجر استطعت النوم وقد كان نومي أشبه بالغيبوبة.. سقطت خلالها فى دوامات عميقة ولم أدرِ كيف استطعت النوم بعمق هكذا لأول مرّة منذ الحادث المشؤوم.. وحين أفقت من نومي داهمني دوار شديد وضعف بكل أنحاء جسدي.. وشعرت بمغص شديد يصحبه رغبة فى التقيؤ..
وما كدت أفتح عينىّ حتى انتفضت فى مكاني حين طالعني وجه معاذ والذى كان يجلس بقربي..!
أنا أيضاً أصبتُ بالدهشة مثلكم تماماً ولم أصدق عينىّ.. وفى البداية ظننته حلماً.. غير أن لمسة يديه والتى تمسح على شعرى كانت حقيقة وكنت أشعر برجفة يديه وبرودتها.. وتلك النظرة العميقة التى تفيض عطفاً والتى شملتني بدفئها جعلتنى أتأكد أن هذا ليس حلماً وأنما واقع ملموس..
أردت لوهلة أن استسلم لذلك الأحساس الجميل والذى يغمرني لأول مرّة بحياتي.. وكدت أغلق عينىّ على وجهه وأواصل نومي الهادئ غير أن شئ ما بداخل عقلي استيقظ فجأة وايقظني عنوة من غفوتي القصيرة.. وبكل جهدي - أو بالأحرى بكل ما تبقى بي من جهد - دفعت يده بعيداً وقلت بحدة :
" لا تلمسني.. "

نظر إلىّ معاذ مُرتبكاً وأعاد يده إلى جانبه مختلساً النظر إلى صاحبة الفندق والتى لاحظت وجودها فى تلك اللحظة لأول مرة ، غير أننى لم أعيرها أهتماماً وعدت أنظر إلى معاذ صائحة :
" كيف وجدتني..؟ ومن أين عرفت مكاني..؟ "

عاد معاذ ينظر إلى صاحبة الفندق والتى علاها الارتباك وقالت :
" سأترككما لتتحدثان بحرية.. "

وسرعان ما انصرفت.. وحينئذ حاولت أن انهض من مكاني فداهمني الدوار مجدداً وعجزت عن ذلك.. أخذت نفساً عميقاً وأغمضت عينىّ لأمنع احساسي بالدوخة وإذا بصوت معاذ يصلني قائلاً :
" هل كنت تظنين أنكِ ستهربين مني إلى الأبد..؟ "

فتحت عينىّ وبدت لي الرؤية مشوشة قليلاً.. وخرج صوتي ضعيفاً لكن حاداً وأنا أقول :
" أنا لم أهرب منكَ.. أعتقد أن كل ما بيننا قد انتهى ولم يعد لي مكان فى منزلكَ.. "

ظل معاذ صامتاً لبرهة ، ذلك الصمت الذى يحتاجه المرء ليستوعب أمراً مستهجناً ، ولم يلبث أن قال :
" ما بيننا لا يمكن أن ينتهي بمثل هذه السهولة.. ولو كان انتهي فى نظركِ.. فمن المستحيل أن أعتبره هكذا أبداً.. "

شعرت بالدنيا تسود وتظلم أمام عينىّ وقلت :
" هل تقصد أنكَ ترفض أن ننفصل..؟ "

قال مباشرة :
" أرفض بشدة.."

بدأت دموعي تنهمر فى تلك اللحظة وقد بدا لي أن ذلك الطريق المقفر الذى نسلكه لا نهاية له قط..!
قال وقد رق قلبه قليلاً لرؤية دموعي :
" أروى رجاء.. لا تبكي فأنا لا أحتمل رؤية دموعكَ.. "

وأضاف :
" إنكِ تسيئين فهم الأمور.. وسأشرح لكِ كل شئ حين نصل إلى منزلنا.. "

هززت رأسي رافضة وقلت :
" مستحيل.. لن أعود إلى منزلكَ.. لم يعد لي مكان به.. ولا مكان لي به من البداية.. "

قال برجاء :
" على الأقل عودي معي حتى تتعافي.. أنظري إلى أين أوصلكِ الأهمال وكيف صارت حالتكِ..؟ "

قلت بحنق :
" إننى بخير جداً.. وسأكون بخير طالما أنتَ بعيد عني.."

حدق بي فى أسي شديد وقال :
" أعلم جيداً أنكِ تكرهينني وأن أى حديث لن يغير مشاعركِ تلك و.... "

لم أتجاوب معه وقاطعته قائلة :
" من الجيد أنكَ تعلم هذا.. ليتكَ تعلم أيضاً أننى بالفعل لم أعد أريدكَ فى حياتي.. "

قال :
" هذا لأنكِ توهمتِ أشياء لم تحدث ولأنكِ لا تعلمين الحقائق.. "

قلت بحدة :
" لا أعلم ولا أريد أن أعلم.. إنكَ تضيع وقتكَ عبثاً.. فأنا لن أتي معكَ إلى منزلكَ.. لن أعود إلا فى حالة واحدة فقط.. على جثتي..! "

قال :
" أذن تنوين العيش طوال عمركِ فى هذا الفندق..؟ "

قلت :
" سأعيش فى أى مكان بعيد عنكَ.. "

قال وقد بدأ صبره ينفذ :
" وهل تعتقدين أننى سأسمح بهذا..؟ "

هتفت غاضبة :
" ومن طلب منكَ السماح بهذا..؟ "

صاح بغضب مماثل :
" إنكِ زوجتي لو كنتِ قد نسيتِ.. "

قلت مُنفعلة :
" بل يبدو أنكَ أنت من نسيت وصدقت تلك الكذبة المُسماة بزواجنا.. للمرة المائة سأقول لكَ أننى لستُ زوجتكَ وكل ما تفعله لا جدوى منه ؛ فأنا لن أذهب معكَ أبداً.. أبداً.."

وقال معاذ بإصرار شديد :
" وأنا لن أتحرك من هنا ولو خطوة واحدة بدونكِ.. "

ولبرهة من الوقت ران الصمت علينا وراح كلينا ينظر إلى الأخر بتحد إلى أن قال معاذ بتردد وحزن :
" لقد سافرت تولان.. هربت إلى إحدي البلاد الأوروبية.. هذه المرة أنا صادق معكِ.."

لدى ذكره لتلك المخلوقة ثارت ثائرتي وجن جنوني وقفزت عن سريري صائحة :
" فلتذهب إلى الجحيم نفسه.. لا يهمني أمرها أو أمركَ فى شئ.. ولم أعد أريد سماع اسمها أو أى شئ عنها.. يكفى ما حدث لي بسببها.. يكفي.. يكفي.. يكفي.. "

آنذاك داهمني دوار عنيف وإذا باطرافي ترتجف وصار كل شئ من حولي يهتز ويتراقص أمام عينىّ بقوة.. وشعرت بالغرفة تدور من حولي وبالأرض تميد بي..
وفى تلك اللحظة تلقفتني أيدي معاذ ينشد دعمي فرحت أقاومه وأدفعه بعيداً إلى أن انهارت قوتي وضعفت مقاومتي تماماً.. فأظلمت الدنيا بعينىّ..

~ ~ ~ ~ ~


أصابني الفزع حينما راحت أروى تترنح فى وقفتها وبدت كأنها على أهبة السقوط بين لحظة وأخرى.. وعلى الفور هرولت نحوها وامسكت بها غير أنها راحت تقاومني بشدة إلى وتهزى ببعض الكلمات لم يستوعبها عقلي آنذاك إلى أن انهارت قواها دفعة واحدة وسقط زراعاها بجانبها وانسدلت جفونها على عينيها..
وتوقف قلبي تماماً جراء الموقف.. كنت مذهولاً ولا أدرى كيف اتصرف..؟
حاولت أنعاشها بشتى الطرق ورحت أهزها وأضع أذنى على صدرها لأستمع إلى دقات قلبها غير أنها بدت لي فجأة فاقدة للحياة..
فى تلك اللحظة دلفت صاحبة الفندق إلى الغرفة وهالها ما رأته فصاحت بي :
" رباه..! ماذا فعلت بها..؟ "

ألتفتُ إليها وصرخت بها :
" الأسعاف.. أطلبي الأسعاف.. "

لستُ أدرى كيف تذكرت وسط ما أنا فيه أن هاتفها معطلاً فما كان منى سوى أن حملت أروى بحرص وسارعت بمغادرة الفندق وإذا بصاحبة الفندق تتبعني وتساعدني فى حملها حتى وصلنا إلى المستشفى وسلمناها لفريق الطوارئ..
ووقفت فى الاستقبال غير مستوعباً لأى شئ.. لا أصدق كل ما حدث فى مطلع هذا اليوم..
لم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحاً بعد.. غير أن تلك الساعات الأولي من الصباح كانت زاخرة بالأحداث الغريبة والمؤلمة..!
وطال الوقت بنا ونحن فى الانتظار وراح القلق يعصف بي ويصور لي وقوع أحداثاً رهيبة..
صرخت منفعلاً :
" ألن يخرج أحداً ليخبرنا بأى شئ..؟ هل سيتركوننا فى الخارج دون أن يطمئنونا عليها ..؟ "

ولم يجيبني إلا الصمت المطبق..
بعد برهة من الوقت حضرت سالي إلى المستشفي لزيارة محمود وحين رأتنى أقبلت نحوى قائلة :
" معاذ.. أنتَ هنا..؟ متى نمت ومتى استيقظت..؟ لماذا لم تخبرني أنكَ آتٍ إلى المستشفى لكي نأتي معاً.. "

راحت صاحبة الفندق تنظر إلينا بفضول فيما تابعت سالي :
" لماذا تقف هنا..؟ لماذا لم تصعد إلى محمود..؟ هل تشاجرتما مجدداً أم ماذا..؟ "

نظرت إليها وأنا فى حيرة من أمرى.. ولا أدرى بماذا وكيف أخبرها..؟
قلت :
" أنا لم أتِ من أجل محمود.. "

ولم تزدها جملتي تلك إلا حيرة فوق حيرتها..
قالت مستفهمة :
" أذن لماذا أتيت..؟ "

أخذت نفساً عميقاً وأطلقته مع زفرة قوية من أعماق صدري ، ثم قلت :
" لقد وجدت أروى.. "

تفاجأت سالي وهتفت بلهفة :
" كيف وجدتها وأين؟ ولماذا أنت هنا؟ لم أفهم أى شئ بعد !.."

قلت :
" إنها بالداخل.. لست أدرى ماذا أصابها؟ كنا نتحدث وفجأة سقطت على الأرض.. "

اطلقت سالي شهقة فزع فى حين تدخلت صاحبة الفندق قائلة :
" كانت شهيتها ضعيفة للغاية الأيام الماضية.. بل إنها بالكاد كانت تأكل.. رُبما كان هذا السبب.. "

انتبهت سالي فى تلك اللحظة فقط إلى وجود صاحبة الفندق وألتفتت نحوها متسائلة فى أهتمام :
" هل كانت عندكِ كل الأيام السابقة..؟ "

وقبل أن تجيبها السيدة خرج إحدى الأطباء فهرولت إليه وسألته عن حالها فقال :
" لديها هبوط حاد بالدورة الدموية.. لقد قمنا لها بالأسعافات اللازمة وبعد دقائق ستفيق وتتحسن بإذن الله.."

وبعد فترة زمنية قصيرة افاقت أروى وبدأت تتحسن شيئاً فشيئاً..
وكما هو متوقع رفضت وبشدة البقاء فى المستشفى أو العودة إلى المنزل رغم تدخل سالي ومحاولتها لتغيير رأيها..
ولأول مرة منذ تزوجت من أروى ، أُدرك كم هى صلبة الرأس وصعبة المراس حتى أنها وبصعوبة اقتنعت بأن تبقى لليلة واحدة بالمستشفى تحت الملاحظة..
وبالطبع كان محظوراً علىّ الاقتراب منها والتحدث إليها.. غير أننى لم أبرح باب غرفتها قط.. هذه المرة لن أتركها تهرب مني..
عند حلول المساء خرجت سالي من الغرفة بعدما نامت أروى وقالت لي :
" لماذا لا تعد إلى المنزل لتستريح..؟ إنكَ بحاجة للنوم ولحلاقة ذقنكَ.."

شعرت بالخجل الشديد.. لابد أن مظهرى مزرى الأن..
لكني لن استطيع ترك أروى مهما حدث..!
عادت تقول :
" لا تخاف هذه المرة لن أسمح لها بالأنصراف.. هذا بالأضافة لأنها متعبة للغاية ومن المستحيل أن تفيق من نومها بسهولة.. لقد حقنها الطبيب بدواء ثقيل وأخبرني أنه سيجعلها تنام بعمق حتى الصباح.."

ظهر الإعتراض على وجهى فقالت مشجعة :
" هيا معاذ فلتعد إلى المنزل.. إنكَ تحتاج إلى الراحة لبعض الوقت.. لا تتردد.."

أخيراً اقتنعت برأيها وعدت إلى المنزل لأسحتم ولأنعم بحلاقة ذقني الملتحية.. وشيئاً ما استعدت شكلي الأدميّ..!
وغفوت على سرير أروى لساعاتٍ قليلة ولم ألبث أن استيقظت عند بزوغ الفجر وارتديت ثيابي متوجهاً ثم المستشفى.. وانتظرت حتى أفاقت سالي ثم سألتها عن حال أروى فقالت :
" كان نومها مقلق ومضطرب رغم الأدوية الثقيلة التى تناولتها.. لستَ أدرى ماذا دهاها بالضبط..؟ حالتها النفسية أسوأ مما كانت عليه.. كلما يمضى الوقت تنتكس أكثر عن ذى قبل.."

قلت :
" الطبيب يقول أنها ستتحسن.. وأنا أمل فى ذلك.. "

عقبت على قولي :
" فلنأمل ذلك جميعاً.."

وصمتت لبرهة ثم استطردت :
" لم تخبرني ماذا ستفعل معها..؟ أقصد.. اليوم سيكتب لها على الخروج.. هل ستتركها تذهب إلى منزل عائلتها..؟"

هززت رأسي رافضاً وقلت :
" مستحيل.. سنعود جميعاً إلى منزلنا.."

قالت سالي :
" لا أظنها ستسمح بذلك.. "

وقلت :
" ولا أظنني سأسمح بغير ذلك..! "

أطلقت سالي تنهيدة قوية ثم قالت بتردد :
" لماذا لا تتركها على حريتها..؟! "

نظرت إليها بإهتمام شديد فيما تابعت هي منفعلة :
" لقد أذيتها بما فيه الكفاية الفترة الماضية وأنظر كيف صار حالها..؟ لماذا لا تتركها تذهب حيث تشاء..؟ إن ما حدث.. أقصد.. بشأن تولان.. هذا الأمر أفقدها الثقة بكَ.. ولا أظنها ستصفح عنكَ أبداً.. "

قلت :
" سأستعيد ثقتها بي كما استعدتها قبل ذلكَ.. "

نظرت إليّ وفى عينيها بدا الاعتراض على حديثى غير أننى تابعت :
" لا شئ قط سيجعلني انفصل عن أروى.. "

قالت سالي مباشرة :
" حتى لو كانت هذه هى رغبتها ؟ "

قلت حاسماً :
" أجل.. حتى لو كانت هذه هى رغبتها..! "

~ ~ ~ ~ ~


تتبع

،

،





الجُودْ ؛ 19-07-12 06:24 AM






40



وقع الطبيب على موافقة لخروج أروى من المستشفى.. وحضرت والدتها لاصطحابها إلى منزلها.. وكان بادياً على وجهها أنها لن تقبل ذهاب أروى إلى منزلي أو حتى مناقشة الأمر.. وفهمت أنها على علم بكل ما حدث مما جعلني أشعر بخجل شديد منها وحمدت الله فى سري على أنها تتحاشى الحديث معي والخوض فى أى حديث عابر..
طلبت من سالي أن تجعلني أتحدث إلى أروى بغرفتها قبل أن تغادر ولو لدقائق.. ورغم صعوبة الأمر غير أنها استطاعت أن تجعلني أدلف إلي غرفتها على شرط أن ترافقني..
كانت أروى قد ارتدت ثيابها كاملة واستعدت لمغادرة المستشفى ولم يكن الوقت فى صالحي على الأطلاق..
سألتها عن أحوالها وكانت ردودها مقتضبة وحادة.. ولم تبد مستعدة للخوض فى أى نقاش أخر.. غير أننى كنتُ مصرّاً على الحديث إليها ومتشبثاً بالأمل الأخير..
بدأت حديثى قائلاً :
" هل تشعرين بتحسن..؟ "

ردت بحدة :
" أجل.. وكما رأيت لقد صرح لي الطبيب بالخروج وسأذهب إلى منزل والداىّ على الفور.. "

أصابتني جملتها بخيبة أمل شديدة وكدت أنطق بكلمة " لا " غير أننى تذكرت نقاشنا بالأمس وما اسفر عنه فابتلعت إعتراضى دفعة واحدة وقلت :
" هذا أخر قرار..؟ "

قالت بتحدٍ :
" أجل.. ولن أتراجع عنه.."

أطرقت برأسي أرضاً وقلت :
" حسناً أروى.. كما تشائين.. سأفعل كل ما تطلبينه مني على شرط أن تستمعي لي.. فقط دعينى أشرح لكِ الحقائق.. رُبما صدقتِها واستعدت ثقتكَ بي.. "

هزت رأسها رافضة وقالت :
" كلا.. لا أريد سماع أى شئ.. "

ونظرت إلى سالي تستنجد بها..
قلت راجياً :
" فقط للمرة الأخيرة.. وإذا شئتِ بعدها أن تذهبي إلى منزل والدتكَ فلكِ حرية الأختيار.."

قالت بغضب :
" بل سأذهب إلى منزل والدتي شئت أم أبيت.. لن تستطيع إرغامي على العودة معكَ إلى منزلكَ.."

حملقنا ببعضنا لفترة ما.. كانت نظراتها متحدية وغاضبة.. وكانت نظراتي حزينة وراجية..!
ولم تلبث سالي أن قالت لتلطف الأجواء قليلاً :
" دعها على حريتها.. لن يجدى النقاش الأن.. انتظر حتى تهدأن لفترة ما ثم يعيد كل منكما التفكير فى الأمر بتروٍ.. "

أطلقت تنهيدة عميقة وقلت :
" حسناً أروى.. سأترككِ تذهبين إلى منزل والدتكَ.. لكني سأقوم بتوصيلك إلى هناك.. "

بدا على وجهها الاعتراض فقلت بصوت راجٍ :
" رجاء لا ترفضي.. هذا هو رجائي الوحيد.. والأخير.."

قبلت أروى اقتراحي على مضض فغادرنا الغرفة معاً.. وعاونتها على حمل حقيبتها فيما أمسكت سالي بيديها تساعدها على السير.. غير أنها توقفت فجأة عن السير وقالت :
" سأذهب لزيارة محمود.. "

كدت أن اعترض غير أنها لم تترك لي الفرصة لذلك وأنما توجهت على الفور إلى غرفته وسالي ترافقها ، فى حين اقترحت والدتها قائلة :
" فلننتظرها نحن بالسيارة.. "

تمنيتُ أن أرفض وأتبع أروى إلى حيث تذهب غير أن والدتها لم تكن فى حاجة لشئ أخر يزيد من ضيقها بأمرى.. ولم أملك سوى أن أتوجه إلى السيارة وانتظر حضورها !.

~ ~ ~ ~ ~



وصلت إلى غرفة محمود برفقة سالي والتى لم تلبث أن تركتني لأدخل إليه فيما ذهبت هى إلى دورة المياة..
كان محمود نائماً على السرير.. وكان يبدو عليه التعب الشديد غير أنه كان يبدو فى حالة نفسية جيدة..
دلفت إلى غرفته وأنا ألقى التحية.. ونظراتي موجهة على وجهه الزاخر بالكدمات والخدوش..
وقلت :
" حمداً لله على سلامتكَ.. كيف صرتَ الأن..؟ "

ابتسم ابتسامة مطمئنة وقال :
" الحمد لله.. أنا فى خير حال.. عدا عن بعض الكسور والشروخ فى معظم أنحاء جسدي تقريباً.."

شعرت بخجل شديد وتدفقت الدماء إلى وجهي بغزارة ، وقلت :
" أنا حقاً أسفة.. كل ما أصابكَ بسببي.. لست أدرى كيف أعتذر منكَ..؟ وإن كان الاعتذار لن يكفي أبداً.. "

ووجهت نظراتي إلى الأرضية ثم تابعت بخجل :
" ذلك اليوم لم أكن فى حالتي الطبيعية.. لستَ أدرى كيف قادني تفكيري إلى الانتحار..؟ وكيف فعلت ما فعلت..؟ "

قال :
" كنتِ يائسة وحزينة.. أرجو ألا تتكرر هذه الحالة معكِ ثانية.. "

وأضاف مازحاً :
" هذه المرة كدتِ تقضين فيها على حياتي والله أعلم المرة القادمة على حياة كم شخص ستقضين..؟! "

ابتسمت رغم خجلي الشديد بينما قال محمود بجدية :
" رجاء أروى أضطبي أعصابكِ قليلاً.. لا تجعلي اليأس يتملكك بسهولة عند أى مشكلة تقابلينها.. "

رفعت نظراتي إليه وقلت بأسي شديد :
" لم تكن هذه كأى مشكلة.. كانت صدمة وخيبة أمل فى الشخص الوحيد الذى أحببته.. "

صمت لبرهة ورفع نظراته إلى السقف الفاتح ، ثم قال :
" لقد حاول معاذ أن يشرح لي الأمر عدة مرات لكني اعرضت عن ذلك.. ولست أدرى لماذا أشعر الأن بالندم على ذلك..؟ رُبما كانت سالي على حق.. لقد تسرعنا جميعاً بالحكم عليه.. ولم نعطه الفرصة ليبرر لنا دوافعه.."

وأضاف برجاء :
" أعطه ولو فرصة أخيرة.. رجاء أروى.. "

غير أننى هززت رأسي رافضة وقلت :
" أأنتَ من تقول هذا ..؟ بعد كل ما حدث أمامكَ لازلت تدافع عنه.. "

قال نافياً :
" لست أدافع عنه.. بل إننى حتى الأن أرفض محادثته.. لكني حين أعدت التفكير فى الأمر وجدت أنه كان يجب علينا أن نعطه فرصة.. كان يجب أن نسأله عن السبب.. إننى أعرف معاذ منذ كنا أطفالاً ويمكنني أن أؤكد لكِ أنه لم يكن ليقدم على ما فعله لولا أن كان مضطراً فعلاً.. "

صمتُ ووقفت فى حيرة من أمرى ثم لم ألبث أن قلت :
" سبق ووثقتُ به قبل ذلك مرّة ،، وأنظر كيف كانت النتيجة..؟ "

وأضفت حاسمة :
" لقد انتهي معاذ بالنسبة إلىّ.. وسأبدأ حياتي من جديد وكأنه لم يكن بحياتي شخص يدعى معاذ.. إننى عائدة اليوم إلى منزل والداىّ.. هذا قراري الأخير.. "

قال :
" وماذا عن جامعتكِ..؟ "

فكرت لبرهة قصيرة ثم قلت :
" رُبما سأبحث عن عمل حتى يتسنى لي تحمل نفقات الدراسة.. لن يكون الأمر صعباً جداً.. "

وأضفت مغيرة مجرى الحديث :
" وأنت أيضاً يجب ألا تنظر خلفكَ أبداً.. لا تدع عنادكَ يفسد كل شئ.. إن سالي فتاة طيبة وحسنة النية.. وما فعلته كان لأنها أرادت مساعدتكَ.. ولا أظنها تستحق العقاب على ذلك.."

عقب على جملتى قائلاً :
" رُبما أنتِ على حق.. لقد تسرعت فى غضبى منها ذلك اليوم.."

قلت بحماس وقد اسعدني تجوابه معي :
" أجل.. تسرعت كثيراً.. وليتكَ تدرك كم أنت شخص غالي عليها حتى أنه يصعب عليها أن تكون فى محنة ولا تمد يديها إليكَ بالمساعدة.. على أى حال لن يضيركَ فى شئ أن تكون شريكتكَ فتاة رائعة الجمال.."

وأضفت باسمة :
" لدى شعور قوى بأن تلك الشراكة ستكون فاتحة خير عليكما.. ورُبما استطعت بسببها أن تدرك ما كان غائباً عنكَ.. وما حجبه غضبكَ عنكَ.. "

دقق النظر إلىّ محاولاً فهم مغزى جملتي الأخير ، وقال :
" ماذا تقصدين بالضبط..؟! "

قلت بغموض :
" سيكون لديكَ فترة طويلة للتفكير العميق وفهم ما أقصده.. أما أنا فليس لدي وقت على الأطلاق والجميع ينتظروني بالسيارة.."

ونهضت قائلة :
" سأطمئن علي صحتكَ من سالي.. أرجو أن تصير بخير فى أقرب وقت.. "

واستدرت متوجهة نحو الباب غير أنه قال ما استوقفني وجعل كل أطرافي تتجمد :
" برغم كل شئ لازلت على ثقة أن معاذ يحبكِ.. "

ببطئ شديد استدرت إليه وتلاقت نظراتنا لبرهة قبل أن يتابع :
" رجاء أروى.. أعطه فرصة أخيرة.. لا تغلقى قلبكِ وأذنيكِ عنه تماماً.. "

ازدردتُ ريقى بصعوبة وخرج صوتي ضعيفاً وأنا أقول :
" ليتني استطيع أن أعدكَ بذلك.. "

وسرعان ما غادرت غرفته وقابلت سالي والتى كانت تنظرني بالخارج ثم ذهبنا إلى سيارة معاذ وتوجهنا إلى منزل والدتي..

~ ~ ~ ~ ~


حاولت أن أبطئ السيارة بقدر الأمكان ، لكى تبقى أروى معي لأطول وقت ممكن..
كان الصمت المغدق يغلفنا منذ أن غادرنا المستشفى وحتى وصولنا إلى منزل أروى..
غادرت السيارة لدى توقفها وذهبت لأحمل حقيبة أروى وأدخلها إلى المنزل فيما وقفت أروى تودع سالي أمام السيارة ولم تلبث أن لحقت بي برفقة والدتها..
كنت قد انتهيتُ من وضع الحقيبة بالداخل ولم يعد هناك داعي لوجودي.. غير أننى لم أنصرف مباشرة وانتظرت عند الباب حتى دلفت والدة أروى إلى المنزل وقبل أن تتبعها أروى ناديتها :
" أروى "

وقفت أروى على مضض وقالت :
" ما الأمر..؟ "

لم أدرِ بماذا أبدأ حديثى.. أو ماذا عساىّ أقول فى ذلك الوقت بالذات..؟
كنت أنظر إليها بأسي شديد وأكاد أن أتراجع عن موقفى وأسألها أن تعود معي إلى منزلي غير أن نظراتها لم تكن مشجعة على الأطلاق.. كانت تنظر إلىّ بضيق شديد مما جعلني اتراجع عما أود قوله واستبداله بحديث أخر..
وأخيراً تحرك لساني قائلاً :
" لقد نفذتُ لكِ طلبكِ واحضرتك إلى هنا.. رغم أننى لم أكن راغباً فى ذلك قط.. لكني لم أشأ أن أضغط عليكِ أكثر من هذا.."

لم تعلق على جملتى ونظرت إلىّ فى انتظار ما سأقول بعد ذلك ، فتابعت :
" الأن لن أكون بجانبكِ ولن أؤثر علي قراركِ بالسلب.. وسيكون بأمكانكِ أن تفكري جيداً بكل شئ.. وأن ترى ما حجبه عنكِ غضبكِ مني.. "

أروى بدأت تململ فى وقفتها وراحت تنظر إلىّ بنفاذ صبر..
قلت متعلقاً بأخر أمل :
" لقد أخطأتُ بحقكِ حين أخفيتُ عنكِ الأمر.. ولازلت أأمل فى أن تسامحيني يوماً ما.. ليتكَ تعطيني الفرصة لأشرح لكِ ما حدث.. "

لم تتجاوب معي ، فقلت :
" على أى حال إذا أردتِ أن تسمعين مبرراتي فى أى وقت.. فلا تترددى فى الأتصال بي.. وسوف أحضر إليكِ على الفور.."

عقبت على قولي مباشرة :
" لاتحلم بذلك.. "

كالخنجر طعنتني كلماتها القاسية فى صميم قلبي.. واعترف أنه كان يجب علىّ أن أفقد أخر أمل لي مع كلماتها تلك ، غير أننى ظللت متشبثاً به وقلت :
" ومع هذا أيضاً.. فلن أفقد الأمل.. وسانتظر أتصالكِ بشغف.."

قالت ضجرة :
" أنتَ حر !.. فلتعش مع أوهامكَ كيفما شئت.. "

فى تلك اللحظة ظهرت والدتها من داخل المنزل ووقفت تحدق بي بنفاذ صبر..
هل يجب علىّ أن أرحل الأن..؟

عدت بنظراتي إلى أروى وقلت أوصيها على صحتها :
" انتبهي لنفسكِ جيداً.. ولا تهملي فى تناول العلاج.. "

قالت بتحدٍ لاذع :
" لا تقلق علىّ.. بأمكانكَ أن ترحل ببال مطمئن.. وفى أمان الله.. "

قالت ما قالته واستدارت عازمة الدخول إلى المنزل ، وتركتني وحيداً مخلوع القلب واتجهت بخطوات ثابتة إلى داخل المنزل.. وقبل أن تغلق الباب فى وجهي تحركت قدميّ بصعوبة واستدرت عائداً إلى سيارتي..
أوصلت سالي إلى المنزل ثم تركتها هناك وعدت إلى المستشفي..
كان فى صدري ضيق شديد ولم أجد من أأتمنه على سري وأبوح له بما فى صدري سوى محمود..
وعلى غير المتوقع رأيت منه مقابلة جيدة.. وكأنما أشفق على حالي ورق قلبه لي..
وكأن شيئاً لم يحدث رحت أتحدث إليه وأشكو له وأخبره بما كبته بصدري ولم أبح به لأحد قط.. وراح يسمعني بإذانٍ مصغية..

~ ~ ~ ~ ~


وقفت عند باب الشقة ، أرقب معاذ الذى استدار وهبط السلم ببطئ شديد ثم أختفي عن نظري بعد ذلك..
وببطئ مماثل أغلقتُ باب الشقة ولذت بجدارن غرفتي وقد تخليت عن ذلك القناع الجليدي الذى يغلفني ، واطلقتُ سراح عبراتي المكبوتة بصدري لتنهمر على وجهي بغزارة..
هل أنتهي كل شئ الأن..؟ أهذه هى أخر مرّة سنلتقي بها..؟
رباه.. كيف أطاعني قلبى على التحدث إليه بتلك القسوة.. وكيف استطعت أن أتخلى عن حبي الأول والوحيد بمثل هذه السهولة..؟ أكان يجب علىّ أن أتخلى عن كرامتي وأغفر له خطأه..؟
رُبما يجب علىّ أن استمع لمبرراته لألتمس له أى عذرٍ وإن كان واهياً حتى يتسنى لقلبي أن يلين ويغفر..
بل إن ما فعلته كان الصواب.. كان لابد أن ينتهى هذا الزواج.. أو بالأحرى ما كان يجب أن يبدأ من البداية !..

مددت يدى إلى وجهي وجففت دموعي ثم نهضت وفتحت حقيبة ثيابي ورحتُ أقلب فيها..
كل تلك الثياب الكثيرة والتى اشتراها لي معاذ كانت تحمل لي ذكرى يصعب تجاهلها..
وفى لحظة جنون مددت يدى إلى الحقيبة ورحت أفرغها بثورة وأمزق الثياب وكل ما تقع عليه يدي..
كنت أريد أن أتخلص من كل شئ له صلة به.. وبينما كنت فى حالتي تلك إذا بيدي تصطدم بشئ زجاجي.. أو بالأحري قارورة العطر الذى اشتريتها من أجل معاذ والتى بقيت بداخل حقيبتي إلى هذا اليوم..
وبلا شعور امتدت يدي إلى تلك القارورة وأمسكتها برفق ثم قربتها من أنفي واستنشقت أريجها الأخاذ وما كدت أفعل حتى عاودتني نوبة اليأس وغرقت فى دموعي مجدداً..
تُرى هل كان ذلك العطر سيعجبه مثلما أعجبني..؟
وهل كان سينسيه ذلك العطر الذى أهدته له تولان قبل ذلك..؟
كنت واثقة ذلك اليوم أنه سينال إعجابة وأنه سيكون المفضل لديه.. كنت بلهاء غبية.. كنت ساذجة..
وفى جنون أشد ألقيت بالقارورة على الأرض وحطمتها إلى أشلاء ، فإذا بعطرها يعبق غرفتي !..
لماذا يا معاذ فعلت بي هذا..؟ لماذا..؟ لماذا..؟!


~ ~ ~ ~ ~







بعد مغادرة أروى بما يقرب من نصف ساعة ، عاد معاذ إلى المستشفى حزيناً شارداً..
كان من الممكن أن أتجاهله وأرفض التجاوب معه ، غير أن ذلك الحزن المنبثق من عينيه أجبرني على العكس..
شعرت بحزن شديد لما آل إليه مؤخراً.. إنه صديق عمري وأخى الذى لم تلده أمي وإن كان اقترف ذنوباً بحجم الجبال فإن سعة صدري ستشمله رغماً عني..
قال معاذ لدى دخوله :
" أتيتُ إليكَ رغم ثقتي بأنكَ لا ترغب فى مقابلتي.. "

ثم أضاف بأسي :
" ضاقت الدنيا بي وليس لدى سواكَ لأبثه همي.. "

وأطال النظر إلىّ مُنتظراً مني أى بادرة تشير إلى رغبتي فى الاستماع إليه..
قلت أخيراً :
" تفضل.. "

أبهجه تجاوبي معه وابتسم رغم حزنه ثم أتجه ليجلس على أقرب مقعد إلىّ قائلاً :
" شكراً لكَ.. كنت أعلم أنكَ لن تخذلني.. رغم كل ما فعلت.. "

وصمت لبرهة ثم قال :
" صرت مكروهاً من الجميع بسبب ما فعلت.. لكني كنت مضطراً لفعل هذا.. ولكم يؤلمني أن يسئ الجميع فهمي بهذا الشكل..لكن.. إذا علمتم بالحقائق رُبما ألتمستم لي عذراً.. رُبما.."

وبدون أن أسأله انطلق لسانه من هذه النقطة وراح يحكي لي كل شئ.. وكلما مضى فى سرده كلما شعرت بضيق فى صدري وبوخز الضمير..
قال :
" حينما ضاقت أروى بـأمر تولان قررت أن أرغم هذه الأخيرة على مغادرة منزلي.. وقد فعلتُ وأخبرتها بضرورة مغادرتها للمنزل والعودة إلى بلدها غير أنها أخبرتني بأنها قد حجزت تذاكر الطائرة بعد اسبوعين واتفقنا أن تذهب للإقامة فى فندق إلى أن يحين موعد سفرها.. وذهبت معها إلى إحدى الفنادق واكتشفت وقتها أن ذلك الفندق لصديق لي ولم أكن على علم بهذا قبل ذلك.. وكنت أتردد عليها لرؤية أبني فقط وكانت تشاركنا الجلوس بالمطعم الخاص بالفندق.. ولن أنكر أنها كانت تحاول استمالتي كالمعتاد غير أننى لم استجب لها.. فحب أروى لم يترك أى مساحة شاغرة بقلبي لأخرى.. هذا غير أننى لم أنس ما فعلته بي تولان ولن يعرف العفو عنها طريقه إلى قلبي أبداً.. ويبدو أن تولان قد أدركت هذا أخيراً.. "

توقف هنا لبرهة قصيرة وألتقط نفساً عميقاً وزفره ببطء ثم تابع :
" وقبل انتهاء الاسبوعين وبينما كنت اتحدث إلى صديقي صاحب الفندق مصادفة أخبرني بأن تولان غادرت الفندق هذا اليوم وأنها قد طلبت سيارة تقلها إلى المطار.. وعلى الفور توجهت إلى المطار وفوجئت بأنه لا توجد رحلات إلى تركيا.. وفهمت كل شئ حينها.. "

هنا تغير صوته واكتسحه حزناً شديداً وهو يتابع :
" بما أني كنت على الأغلب سأربح القضية فلم تجد أمامها حلاً أخر سوى الهرب.. وكانت يومئذ تريد الهرب إلى إحدى البلدان الأروبية.. وفى أخر لحظة استطعت منعها من ذلك وقد اشترطت علىّ أن نتزوج لكى تمتنع عن السفر.. واتفقنا كحل أوسط أن يتم زواجنا سراً وعلى الورق فقط لأضمن أنها لن تستطع الهرب به مرة أخرى.. ويوم أتت إلى المستشفى بعد الحادث تشاجرت معها وانشغلت عنها فى وسط زوبعة مشكلتي مع أروى ، لكنها اقتنصت الفرصة واستطاعت الهرب به.. "

وأضاف بأسى شديد وقد أومض الدمع بعينيه وأوشك على الانهمار :
" وهكذا فقدت أبنى.. وفقدتُ معه الفتاة الوحيدة التى أحببتها.. ومهما طال الوقت بي.. ومهما حدث.. لن استطيع تعويض خسارتي تلك قط.. لقد انتهيا من حياتي.. وانتهيتُ بانتهاءهما..! "

حينما انتهى من سرد تلك الأحداث أطرق برأسه أرضاً وبدا على أهبة البكاء..
لم يسبق لي أن رأيته حزيناً بهذا الشكل.. ولم يسبق كذلك أن وقفت عاجزاً أمامه دون أن استطع مد يدى له بالمساعدة.. ودون أن أواسيه فى محنته.. وأخفف عنه..
فالكلمات فى ذلك الوقت بالذات لا معنى لها على الأطلاق.. لقد خسرهما ما من شك فى هذا.. ولن يستطيع استعادتهما مجدداً إلا بمعجزة..
فهل يا تُرى ستحدث تلك المعجزة ذات يوم..؟!

~ ~ ~ ~ ~


تتبع


الجُودْ ؛ 19-07-12 06:26 AM


تكملة الفصل الـ 40


~ ~ ~ ~ ~


بعد مغادرة أروى بما يقرب من نصف ساعة ، عاد معاذ إلى المستشفى حزيناً شارداً..
كان من الممكن أن أتجاهله وأرفض التجاوب معه ، غير أن ذلك الحزن المنبثق من عينيه أجبرني على العكس..
شعرت بحزن شديد لما آل إليه مؤخراً.. إنه صديق عمري وأخى الذى لم تلده أمي وإن كان اقترف ذنوباً بحجم الجبال فإن سعة صدري ستشمله رغماً عني..
قال معاذ لدى دخوله :
" أتيتُ إليكَ رغم ثقتي بأنكَ لا ترغب فى مقابلتي.. "

ثم أضاف بأسي :
" ضاقت الدنيا بي وليس لدى سواكَ لأبثه همي.. "

وأطال النظر إلىّ مُنتظراً مني أى بادرة تشير إلى رغبتي فى الاستماع إليه..
قلت أخيراً :
" تفضل.. "

أبهجه تجاوبي معه وابتسم رغم حزنه ثم أتجه ليجلس على أقرب مقعد إلىّ قائلاً :
" شكراً لكَ.. كنت أعلم أنكَ لن تخذلني.. رغم كل ما فعلت.. "

وصمت لبرهة ثم قال :
" صرت مكروهاً من الجميع بسبب ما فعلت.. لكني كنت مضطراً لفعل هذا.. ولكم يؤلمني أن يسئ الجميع فهمي بهذا الشكل..لكن.. إذا علمتم بالحقائق رُبما ألتمستم لي عذراً.. رُبما.."

وبدون أن أسأله انطلق لسانه من هذه النقطة وراح يحكي لي كل شئ.. وكلما مضى فى سرده كلما شعرت بضيق فى صدري وبوخز الضمير..
قال :
" حينما ضاقت أروى بـأمر تولان قررت أن أرغم هذه الأخيرة على مغادرة منزلي.. وقد فعلتُ وأخبرتها بضرورة مغادرتها للمنزل والعودة إلى بلدها غير أنها أخبرتني بأنها قد حجزت تذاكر الطائرة بعد اسبوعين واتفقنا أن تذهب للإقامة فى فندق إلى أن يحين موعد سفرها.. وذهبت معها إلى إحدى الفنادق واكتشفت وقتها أن ذلك الفندق لصديق لي ولم أكن على علم بهذا قبل ذلك.. وكنت أتردد عليها لرؤية أبني فقط وكانت تشاركنا الجلوس بالمطعم الخاص بالفندق.. ولن أنكر أنها كانت تحاول استمالتي كالمعتاد غير أننى لم استجب لها.. فحب أروى لم يترك أى مساحة شاغرة بقلبي لأخرى.. هذا غير أننى لم أنس ما فعلته بي تولان ولن يعرف العفو عنها طريقه إلى قلبي أبداً.. ويبدو أن تولان قد أدركت هذا أخيراً.. "

توقف هنا لبرهة قصيرة وألتقط نفساً عميقاً وزفره ببطء ثم تابع :
" وقبل انتهاء الاسبوعين وبينما كنت اتحدث إلى صديقي صاحب الفندق مصادفة أخبرني بأن تولان غادرت الفندق هذا اليوم وأنها قد طلبت سيارة تقلها إلى المطار.. وعلى الفور توجهت إلى المطار وفوجئت بأنه لا توجد رحلات إلى تركيا.. وفهمت كل شئ حينها.. "

هنا تغير صوته واكتسحه حزناً شديداً وهو يتابع :
" بما أني كنت على الأغلب سأربح القضية فلم تجد أمامها حلاً أخر سوى الهرب.. وكانت يومئذ تريد الهرب إلى إحدى البلدان الأروبية.. وفى أخر لحظة استطعت منعها من ذلك وقد اشترطت علىّ أن نتزوج لكى تمتنع عن السفر.. واتفقنا كحل أوسط أن يتم زواجنا سراً وعلى الورق فقط لأضمن أنها لن تستطع الهرب به مرة أخرى.. ويوم أتت إلى المستشفى بعد الحادث تشاجرت معها وانشغلت عنها فى وسط زوبعة مشكلتي مع أروى ، لكنها اقتنصت الفرصة واستطاعت الهرب به.. "

وأضاف بأسى شديد وقد أومض الدمع بعينيه وأوشك على الانهمار :
" وهكذا فقدت أبنى.. وفقدتُ معه الفتاة الوحيدة التى أحببتها.. ومهما طال الوقت بي.. ومهما حدث.. لن استطيع تعويض خسارتي تلك قط.. لقد انتهيا من حياتي.. وانتهيتُ بانتهاءهما..! "

حينما انتهى من سرد تلك الأحداث أطرق برأسه أرضاً وبدا على أهبة البكاء..
لم يسبق لي أن رأيته حزيناً بهذا الشكل.. ولم يسبق كذلك أن وقفت عاجزاً أمامه دون أن استطع مد يدى له بالمساعدة.. ودون أن أواسيه فى محنته.. وأخفف عنه..
فالكلمات فى ذلك الوقت بالذات لا معنى لها على الأطلاق.. لقد خسرهما ما من شك فى هذا.. ولن يستطيع استعادتهما مجدداً إلا بمعجزة..
فهل يا تُرى ستحدث تلك المعجزة ذات يوم..؟!

~ ~ ~ ~ ~

تتبــع


الساعة الآن 04:44 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية