ووافق هنري ثم وضع سماعة الهاتف . وخرجت دابون من حجرة الهاتف ، وهي تشعر أنها أفضل حالا بقليل ، فلقد تأجل موعد رحيلها الفعلي الى يوم آخر ، وكان بوسعها أن تستمتع ببعض الاسترخاء ، وتناولت طعام الأفطار ، ثم صعدت الى حجرتها اترتدي زيا مناسبا ، واستقر رأيها على أن البنطلون يكون أكثر ملائمة . كانت هناك تذكرة سفر ملغاة على رحلة ما بعد الظهيرة في اليوم التالي ، واستطاعت حجزها ، وعندما خرجت من حجرة الهاتف وجدت نفسها وجها لوجه مع مدير الفندق ، واخبرته بعزمها على الرحيل في اليوم التالي على الأرجح . وأبد مدير الفندق يستفسر منها قائلا : " أوه ، يا آنسة ! أرجو ألا تكون هناك أخبار قد أزعجتك من الوطن . هل حدث شيء ؟" وهزت دابون رأسها ، وهي تقول: " لا، ولكن علي أن أعود " وأضافت وهي تبتسم : " لقد أستمتعت للغاية باقامتي هنا ، وأنني سوف أمتدح هذا الفندق لأصدقائي " ووصل هنري الى الفندق بعد العاشرة بقليل ، واستقلا السيارة الى سانت مارى . كان هناك سياح وصلوا الى المكان ليزوروا الكنيسة الأثرية من القرن الثاني عشر وكانت قصة القديسات مارى مسجلة في مقصورة الكنيسة . واحست دابون بالأسف عندما وجدت أن المدينة الصغيرة كانت تتحول بسرعة الى مدينة تجارية حديثة . ورات احدى عربات الغجر التي لم تكن موجودة من قبل ، كما كان هناك العديد من الفنادق التي بدأت تطغي على الطابع التاريخي للمدينة .منتديات ليلاس وكانت الوجبة التي استمتعا بها في احد المطاعم الشعبية وجبة لذيذة بالفعل ، وتركا السيارة ، وجعلا يسيران على الشاطئ ما دين بعد قليل من الزوار الذين جاؤا يمضون العطلة ويستمتعون بدفء في فترة ما بعد الظهيرة . سألها هنري: " هل أنت مضطرة فعلا أن تعودي الى انكلترا غدا " وجذبت دابون يدها بعيد برفق ، ورفعت رأسها مستندة على مرفقيها ، وأجابت وهي تنظر اليه : " أعتقد ذلك " ثم حولت انتباها الى غمامة من الدخان كانت تتصاعد من احدى السفن على مدى الأفق . وتنهد هنري ، ثم سألها: " ولكن لماذا ؟ ألست في اجازة ؟ لابد أنك تستطعين البقاء ولو لأيام قليلة أخرى " وضمت دابون شفتيها ، وقالت : " ليس الأمر بهذه البساطة ، فان على التزامات في بلدي " وسألها في ملاحظة ساخرة مترفقة: " أية التزامات يمكن أن تكون عليك " وشعرت دابون أنه يستفزها بالتدخل في شؤونها ، فحاولت أن تقطع علية الطريق بقولها : " أنك لا تعرف شيئا على الاطلاق عني يا هنري ، وقد أكون متزوجة " ورد عليها: " ولكنك لا تلبسين خاتما ؟" |
وردت قائلة :
" ليس ذلك قاطعا ، فكثير من الفتيات في انكلترا لا يلبسن خاتم الزواج طوال الوقت ، ولا يوجد قانون يلزم بذلك " وصار هنري يحدق في وجهها النحيل ، وسألها: " ولكن هل أنت فعلا متزوجة " وترددت دابون ، وهي تقول : " لا" واسترخى هنري ، ثم بدأ يميل نحوها ، وهو يقول : " ها أنت قد اعترفت اذن . والآن ألا يمكن أن تطيلي أقامتك هنا ؟ فقط اتسعديني؟" وهزت دابون رأسها بحزم ، وهي تقول: " لا ، لاأستطيع" وأحست دابون بالخطر فنهضت مسرعة لتجلس ولتتجنب النظرة العاشقة من عينية ، وقالت له بشيء من التوتر : " أرجوك يا هنري ! أرجوك ألا تفسد كل شيء " ورد هنري : " لماذا أفسد كل شيء ؟ كنت أظن أنك تستلطفيني " وأجابت دابون وهي تشبك أصابعها حول ركبيتيها المرفوعتين الى أعلى: " أنني فعلا أستلطفك يا هنري ، ولكنني لا أريد أن تورط " وعندئذ سمعته يقول: " وما الذي تريدينه منى أذن " وبدات تدرك أنه لم يكن ناضجا بالقدر الذي أراد أن يعبر به عن نفسه ، اذاستمر يقول: " لقد سمحت لي أن أدعوك الى الغداء ، وسمحت لي بأن أحضرك هنا حيث نكون وحيدين ، ثم تقولين أنك لا تريدين أن تتورطي الى هذا الحد؟"منتديات ليلاس حملقت فيه دابون بشيء من الكآبة ، وبدات تشعر بخوف حقيقي حاولت أن توضح له قائلة : " هنري أرجوك " وفجأة انتبه هنري الى وجود مانويل واقفا يحدق فيهما ، فحدثه بالفرنسية بشيء من التأنيب : " مانويل ! ألا تعرفني ؟ أنا هنري " وتصلب فك مانويل وهو يقول : " ليس الآن ، يا هنري انني لست على استعداد للهزل الآن " وتمتم هنري بالفرنسية ، وهو يمسح خده بيده: " واضح " وأضاف بالانكليزية: " لا أكاد أفهمك يا مانويل ، ما الخطأ الذي ارتكبته أنا ، هل تعرف الأنسة كنج" كانت عينا مانويل كئيبتين ، وأجاب ببرود : " نعم ، أعرف الآنسة كنج " وصار هنري يهز رأسه بطريقة مرتبكة ، وهو ينظر في دهشة تجاه دابون ، ولكن دابون كانت مشغولة بارتداء سترتها وبنطلونها فوق رداء البحر المبتل ، ولم تلتفت اليه . وعندما أكملت لباسها ، قبض مانويل على ذراعها كما لو كانت آثمة ، ثم أومأ ايماءة قصيرة تجاه هنري ، ودفعها أمامه بسرعة على طول الطريق الرملي الى حيث كانت الحافلة الصغيرة تنتظر ، وفتح الباب ودفع دابون بقوة الى الداخل قبل أن يصعد خلفها ويدير المحرك في الحال ، وبدات المركبة الثقيلة تدور على هيئة شبه دائرة وتجري بارتطام على الشاطئ غير الممهد حتى وصلت الى الطريق . وكانت دابون تجلس في مقعدها متصلبة تسرح بفكرها تحاول أن تعرف من أين جاء ؟ ولماذا جاء الى هذا المكان ؟ |
وانكشفت الحقيقية نظرت دابون اليه بشيء من الرفض ، وبعدما كانت تحس له بالجميل لأنه تدخل في الوقت المناسب وأنقذها من هنري ، تحول شعورها الى نوع من الامتعاض ، وأخذت تسأل نفسها ، بأي حق أباح لنفسه أن يتدخل في شؤونها ؟ وكانت قد وصلت الى قناعه بأنها لن تراه ثانية بعد ما حدث بينهما امس ، فما الذي جاء به خلفها ؟ ولماذا بحث عنها ؟ وماذا يريد منها الآن ؟ واستمدت من شعورها بالضيق بعض الشجاعة، وسألته: " أين تذهب بي الآن؟" وألقى تجاهها نظرة تنم عن الاستنكاف ، ثم أجاب بوضوح : " لم أفكر في هذا بعد ، لكنني أظن أنه من الأفضل أن تتخلصي من رداء البحر وأن تجففي نفسك جيدا ، اليس كذلك " واتسعت حدقتا عينيها وسألته: " ماذا تعني ؟" وضاقت عيناه ، وهو يقول : " لا تتعجلي الاستنتاج ، يا دابون ، ولا تحسبي أني أبله لأنك تبدين على استعداد لتكوني لعبة سهلة في يد أي رجل كان ، فان ذلك يعني ..." واستثير سخط دابون ، وجعلت تقول : " كيف تجرؤ على ذلك ؟ كيف تجرؤ على أن توجه مثل هذا الكلام لي "منتديات ليلاس وتهدج صوتها وقد شعرت بالمذلة . وقالت : " أوه ، أنني أكرهك ، يا مانويل " ولم يتحرك مانويل فقد بقى حيث هو ، وأحست وهي تقف وحيدة على حافة المياة الزرقاء الضحلة أنه قد جعل منها مثارا للسخرية . كان الجو ساخنا ، وبدأت الشمس تلفح رأسها ، واضطرت آخر الأمر أن تعود لتستطل بشجرة البلانيرة المائية . وخرج مانويل من السيارة وفي فمه سيجار ، وبين يديه منشفة خشنه ، وألقى بها نحوها ، وهو يقول : " اليك هذه . أنها ليست مغرية ، ولكنها نظيفة على الأقل ، أحتفظ بها للمناسبات التي أحس فيها رغبة للاستحمام بعد يوم مجهد يستنزف العرق ، هيا خذيها . أنها ليست ملوثة " وصارت ترشش بالماء لبضع دقائق وهي تنظر تجاه الحافلة الصغيرة من بعد ، وبدأ أن مانويل لم يكن يكترث بما تفعل وأضطرت في النهاية أن تخرج من الماء ، وبينما هي تخوض في الماء نحو سيقان الغاب والبوص التي كانت تحدد حافة المستنقع ، سمعت صوت رشاش من خلفها جعلها تلتفت وراءها في رعب ، وعلى بعد أقدام منها كان أحد ثيران كامارغ القوية السوداء يضرب الأرض بحوافره ويخفض قرونه بطريقة تنم عن التهديد . وبدت دابون للحظة ، وكانها قد تحجرت ، وتعجز عنأن تفكر فيما ينبغي أن تفعل ، كان الثور وحيدا ، وهذا في حد ذاته كان شيئا غريبا، ولم يكن في وسعها الا أن تفترض أنه قد شرد عن القطيع دون أن يلحظ الحراس ذلك ، وكان ثورا أسبانيا ضخما وقويا من الثيران التي تربى لرياضة المصارعة ، وهيئ لها أنها ستصبح طريحة على الأرض وقد ضربها الثور بقرنه فجرحها وشوهها وسالت بقع من دمائها تلطخ مياه المستنقع ، وسيطر عليها شعور بأن ذلك سيكون أمرا حتميا خلال لحظات فقط . |
وبدأت دابون تتراجع ببطء بعيدا عن الحيوان ، وهي تحرص تماما على ألا تصدر عنها أية حركة غير منضبطة قد تثير الحيوان فيندفع في هجوم عليها ، وكان الحيوان بدوره يرقبها بعينيه اللتين تشبهان حبات الخرز وهو يصدر صوتا يشبه الشخير ويضرب بذيله ليطرد الحشرات التي كانت تستثيره ، وخطا بضع خطوات في المستنقع وهو يهز رأسه من جانب الى آخر ، وبدات دابون تفقد أعصابها . وسمعت أصوات الطرطشة المزعجة خلفها ، وأدركت أن الثور كان يخوض في الماء عبر المستنقع وراءها ، ولم تكن تجرؤ على أن تنظر الى الوراء ورأت مانويل يسرع اليها من الحافلة الصغيرة وبيده عصا ثقيلة ، وصار يخوض مياه المستنقع دون أن يكترث بحذائه الجلدي الرقيق ، واجتاز دابون وهو يصيح : " اصعدي الى مؤخرة السيارة " وأذعنت دابون فتسلقت من خلال الباب الخلفي للسيارة الى سطح خشبي خشن تنتثر عليه كمية من الحبال والبكرات تنبعث منها رائحة الأحصنة بطريقة نفاذة . وتنحى الثور جانبا عندما ظهر مانويل ، وتوقف على مسافة من الحافلة الصغيرة يواصل الشخير ويضرب الأرض بحوافره تعبيرا عن الغضب ، وادركت دابون أنه كان يستعد للهجوم ، ولم يكن مع مانويل ما يدفع به عن نفسه سوى يلك العصا التي بيده ، وصارت دابون ترقب المشهد بيأس وهي تتمنى أن يستدير مانويل وأن يجري مهرولا الى السيارة . وأخيرا بدأ مانويل يتراجع عن الثور ، وعندما بلغ مؤخرة الحافلة الصغيرة دفعت دابون الباب لينفتح وليسمح له بأن يتسلق الى داخل العربة ، كانت الآن ترتعش بعنف ، ونظر الى وجهها المرتعد قبل أن يمسك بكتفيها ويسحبها بقوة . وتراجع مانويل الى الوراء ، وجاس في وضع محدودب ، رجلاه مضمومتان ، ومرفقاه يستندان على ركبتيه ، ورأسه محنية الى أسفل ، ويداه تحيطان بمؤخرة رقبته ، وأخذ يقول في نبرة معذبة : " يا الهي ، يا الهي ، أنني أريدك يا دابون "منتديات ليلاس كانت دابون تضطجع على أرض العربة حيث تركها ، وشفتاها ملتهبتان ، وشعرها يتدلى كأنه غمامة قاتمة تلفها ، وتمتمت بصوت فيه ألم : " مانويل " استدار مانويل فجأة الى باب الحافلة الصغيرة ودفعه فانفتح ، وقفز الى الخارج ، وهويلعن بعنف ، وصار يأخذ شهقات طويلة من الهواء الدافئ الحلو وأجبرت دابون نفسها أخيرا على التحرك ، وبدأت تحس بالحبال أسفل جسدها ، وكانت بشرة ظهرها قد أصبحت مشدودة ملتهبة ، وأخذت تجفف نفسها بالمنشفة ، وخلعت رداء البحر ولبست بنطلونها وقميصها، وشعرت بأنها قد أصبحت في حالة أفضل ، وخرجت من المركبة ، وأخذت تعصر المياه الزائدة من الرداء القطني الليموني . وعندما أحس بها مانويل وهي عند الباب الخلفي للسيارة التفت ورجع اليها متباطئا بعد أن ألقى بعقب السيجارة الى الأرض وضغط عليه بكعب حذائه ، وومضت عيناه عليها عن عمد ، ثم أخذ يسير بخطى مسرعة الى مقعد القيادة ،وجلس خلف العجلة ، وضمت دابون شفتيها سويا وهزت كتفيها وفعلت بالمثل فتسلقت الى السيارة وجلست الى جواره بشيء من عدم الاستقرار |
ولم يدر مانويل المحرك في الحال ، بل اسند مرفقه الى عجلة القيادة ، وصار يحملق في الفضاء الى المجهول ثم قال بنبرة عادية تماما : " كان بوسعي ان اقتلك " ولهثت دابون ، ووضعت ظهر يدها على فمها ، واخذ ينظر اليها شزرا ، وعيناه تضيقان وهو غارق في التأمل ، وسألها بشيء من الاحتقار : " ماذا كنت تنتظرين ؟ تعودين الى هنا في الوقت الذي كنت فيه قد بدأت أتقبل مصيري المحتوم ، وتحطمين ما بقى لي من اطمئنان نفسي ، وهو قليل " وهزت دابون رأسها ، وهي تقول: " آسفة ، ولكنني لم أكن أعرف أن الأمور كانت ستصل الى هذا الحد " والتوت شفتاه ، وهو يقول : " حقا لم تكوني تعرفين ! ومتى تعرفين بالضبط كيف يكون رد فعلي عندما أراك ثانية " واحمر وجهها بشدة ، وهي تقول : " كيف كان بامكاني أن أعرف ذلك " وحملق فيها مانويل يغضب : " كيف جاز لك أن تجهلي ذلك بعد كل ماكان بيننا ؟"منتديات ليلاس وطأطأت دابون رأسها ، كانت تكابد الألم ، وكانت تريد أن تخبره بالسبب الحقيقي الذي جعلها تأتي الى هنا ، ولكن كانت هذه في نظرها هي اللحظات الخطيرة ، اللحظات التي ينبغي فيها أن تأخذ حذرها حتى لا تعترف بشيء ربما جلب لها الدمار . ورغم كل شيء فقد كان يعتزم الزواج من ايفون بصرف النظر عن فرط انجذابه اليها ، ولم يكن لجوناثان مكان في ذلك البيت حتى لو اقتنعت هي بالتنازل عنه . وأخذت تقول له : " أرجوك ، أرجوك أن تأخذني الى الفندق ، لازال أمامي حزم أمتعتي ، فأني أعتزم الرحيل في الصباح " وعندما سمعها تذكر خبر رحيلها بهدؤ ، قال وكأنه قد صعق : " تعتزمين ماذا ؟ ولكنك لا تستطعين؟" وعندما كررت العبارة ، اضاف بتجهم : " لا يمكنك ذلك فانك لم تأخذي النقود وفضلا عن ذلك فأن جيما تريد أن تراك مرة ثانية " وردت دابون بشفتين مضمومتين : " آسفة ، لن أستطيع أن أحقق طلبها ، لقد حجزت تذكرة السفر " ولولا أن دابون كانت تعرفه جيدا لقالت أن الألم المبرح كان ينبعث من أعماق عينيه الرماديتين ، وهو يقول : " ألغي الحجز " وبللت دابون شفتيها الجافتين بلسانها ، وهي تقول : " لا لا لاأستطيع " " لا يمكن أن تفعلي هذا في يا دابون " وتعثرت دابون وهي تنطق في صعوبة : " أفعل ماذا؟" وأجاب وهو يتأوه : " أنت تعرفين أرجوك ، أنني أتوسل اليك ، لا تذهبي " وبلعت دابون ريقها بطريقة ملحوظة ، ثم قالت : " أنا مضطرة للرحيل " |
الساعة الآن 09:23 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية