منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات احلام المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f457/)
-   -   357 - كاذبة ولكن - كاثرين روس ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t132684.html)

زونار 25-12-09 02:47 PM

الفصل الخامس:
في ضباب المشاعر


عادت بيني إلي الردهة ووقفت تنصت لتسمع أي صوت من إيزوبيل، لكنها لم تسمع إلا دقات الساعة. من الواضح أن الفتاة الصغيرة مستغرقة في النوم. نظرت إلي غرفة الطعام، فرأت الصحون مبعثرة علي الطاولة ولاحظت ضرورة ترتيب المكان.


لم يستغرق ترتيب غرفة الطعام الكثير من الوقت. ثم مسحت أرض المطبخ وجففتها كيلا تقع المزيد من الحوادث. وسرها أنها وجدت شيئاً تلهي نفسها به كيلا تفكر بلوكاس وبالمشاعر التي اجتاحتها ما إن لمسها.


انتهت من ترتيب المطبخ وعادت إلي الردهة. شعرت بغرابة لوجودها في المنزل بمفردها. ظنت أن عليها الاستفادة من الوقت والذهاب إلي المكتب والبحث عن تلك الأوراق، لكن لم تتمكن من التفكير بهذا وخيانة لوكاس والعمل من وراء ظهره، فيما ذهب إلي المستشفي لتأدية عمل إنساني.


ما إن أمسكت بمقبض الباب حتى دوى صوت قوي في أرجاء المنزل. ظنت للوهلة الأولي أنه جرس إنذار، ثم أيقنت أنه صوت الهاتف. ضحكت لسخافتها، ثم هرعت تجيب علي الهاتف:


- مرحباً، هذا أنا.


بدا صوته رخيماً دافئاً.


- مرحباً، كيف حال السيدة غوردن؟


- حسناً الخبر السار هو أنها لم تكسر شيئاً في جسمها، أما الخبر السيئ فهو بأن ثمة خطب ما في وركها ويريدون إبقاءها هنا للمراقبة.


- آه، لا! يا لها من امرأة مسكينة.


- نعم، أنها مرعوبة! فهي تكره المستشفيات. علي أي حال، لقد اتصلت بأختها وهي في طريقها إلي هنا، ولكن أظن أنه يستحسن بي أن أبقي حتى تصل.


- لا بأس، لوكاس، سأنتظر وصولك.


- كل ما في الأمر هو أنني قد أتأخر لبضع ساعات بعد، ولا بد أنك مرهقة. فلم لا تنامين في الغرفة الإضافية؟ إنها حاضرة.


- لست متعبة إلي هذا الحد، سأنتظر عودتك.


- ولكن عندها ستضطرين العودة بسيارة أجرة إلي الفندق لأنني لا أستطيع ترك إيزوبيل بمفردها. استعملي الغرفة الاحتياطية، إنها الباب الأخير إلي يمين السلالم. تصرفي وكأنك في منزلك.


وأغلق الخط قبل أن تتمكن من مجادلته أكثر. جلست إلي حافة المكتب وحدقت إلي خزانة الملفات. بحسب ما يبدو، لديها بضع ساعات بعد لتراجعها.


وقفت وفتحت الدرج الأول. ( تصرفي وكأنك في منزلك)، تردد صوت عبارة لوكاس في رأسها وهي تنظر إلي الأوراق. كانت كلماته حنونة وجعلتها تشعر بالذنب.


- تباً!


تمتمت وأغلقت الدرج مجدداً، ثم استدارت وغادرت الغرفة.


توقفت أمام باب نصف مغلق. إنها غرفة إيزوبيل. كان ضوء صغير مضاء ينير الجدران الزهرية والبيضاء والشراشف الزهرية التي تغطي سريرها. دخلت بيني لتطمئن علي الفتاة الصغيرة، إنها نائمة. غطتها بيني جيداً ولاحظت أن الدب الصغير قد وقع بين السرير والطاولة، فلمته عن الأرض ووضعته قرب إيزوبيل علي السرير. وبهدوء خرجت من الغرفة نحو الرواق.


من الواضح أن الغرفة المجاورة هي غرفة السيدة غوردن نظراً للرداء الأرجواني المعلق بجانب الخزانة. أما غرفة لوكاس فهي في الجهة المقابلة. عرفت أنها غرفته لأنها تدل علي طابع رجولي محض. وجدت فيها سريراً كبيراً، وضع عليه غطاء رمادي فاتح، ورأت جهاز كومبيوتر في الزاوية وكتب مكدسة، وكرسي وضع عليه سروالي جينز.


مشت أكثر وفتحت باباً آخر في الرواق، كانت الغرفة مزينة باللون الليلكي والأبيض، وبفرش أبيض يبعث شعوراً جميلاً. وبدا السرير مريحاً للغاية. ففكرت بأنه يفترض بها العمل بنصيحة لوكاس والنوم.


أغلقت الباب وخلعت ثيابها. وما إن وضعت رأسها علي الوسادة حتى غطت في نوم عميق. جاءت أحلامها تلك الليلة مضطربة تماماً كما كانت أفكارها طيلة اليوم. فتارة كانت تخبر لوكاس الحقيقة..... وطوراً تهرب من المنزل، وقد سرقت صك ملكية الأرض. واستيقظت من حلمها مذعورة.


كانت الغرفة مظلمة. ومرت لحظات قبل أن تتذكر أين هي. وسمعت صوتاً أشبه بالبكاء. عرفت أنها إيزوبيل، وبسرعة ارتدت تنورتها وقميصها وهرعت إلي غرفة الطفلة.


كانت الفتاة جالسة علي حافة السرير تبكي من دون وعي.


قالت بيني بنعومة وهي تتجه نحوها: ( ما الأمر يا عزيزتي؟).



- أريد أبي.
- سيعود والدك قريباً. أضطر إلي اصطحاب السيدة غوردن إلي الطبيب لأنها لوت رجلها، ولكن لا تقلقي.
نظرت إليها إيزوبيل بعينين مغرورقتين بالدموع: ( لم لوت السيدة غوردن رجلها؟).
سوت بيني غطاء السرير وقالت:
- لأنها سقطت علي أرض المطبخ، ولكنها ستكون بخير، وسيعود والدك قريباً إلي المنزل. والآن لم لا تعودين إلي السرير وتحاولين أن تنامي قليلاً؟ فأنت ستخرجين مع جدتك غداً أليس كذلك؟
أومأت إيزوبيل ولكنها لم تتحرك لتعود إلي السرير.
- هل ستذهب السيدة غوردن إلي السماء كما فعلت أمي؟
وانهمرت دمعة كبيرة من علي خدها.
انقبض قلب بيني وضمت الفتاة الصغيرة إلي صدرها بحنان:
- لا يا عزيزتي، ستكون السيدة غوردن بخير.
- أتعدينني؟
نظرت إيزوبيل إليها، وحين أومأت بيني تغلغلت فرحة بين ذراعيها.
همست: ( والآن كفاك بكاءً، فما من شيء مخيف).
همست إيزوبيل: ( قد يكون هناك غول تحت سريري، أنا أخاف منه).
- ما من شيء أسمه غول، فهذه مجرد خرافات.
- هل أنت واثقة؟
ابتسمت بيني: ( مئة في المئة عليك أن تنامي الآن، لقد أصبح الوقت متأخراً...).
نظرت بيني لسماعها حركة، وإذا بلوكاس يقف عند الباب يتفرج عليهما. وابتسم لبيني ما إن التقت عينيهما.
سألت متفاجأة: ( كم مضي علي وجودك هنا؟).
- بضع دقائق، عدت لتوي من المستشفي.
استدارت إيزوبيل ما إن سمعت صوت والدها. وصرخت فرحة وقفزت من السرير نحوه: ( أبي، أبي).
قال وهو يحملها بين ذراعيه: ( يفترض بك أن تكوني نائمة يا آنستي الصغيرة، إنها الثالثة فجراً).
- راودني حلم مزعج فاستيقظت، ظننت أن ثمة غول تحت سريري.
قال لها لوكاس بلطف: ( ميلي محقة فيما قالته لك. الغول غير موجود. والآن عودي إلي السرير).
ابتعدت بيني عن السرير لتفسح المجال للوكاس لوضع ابنته في الفراش، وراقبته وهو يغطيها.
- أحلاماً سعيدة يا عزيزتي.
- عمت مساءً أبي، عمت مساءً ميلي.
ابتسمت بيني: ( أحلاماً سعيدة عزيزتي).
بدت إيزوبيل وكأنها تجاهد لإبقاء عينيها مفتوحتين، أما لوكاس وبيني فاستدارا وغادرا الغرفة.
سألت بيني ما إن خرجا من الغرفة: ( إذاً، كيف حال السيدة غوردن؟).
أغلق لوكاس باب الغرفة: ( ليست جيدة، يبدو أنها تعاني آلاماً حادة في وركها منذ أشهر، وهي خائفة من زيارة الطبيب. والآن زادت هذه السقطة الأمور سوءاً).
- يا لها من امرأة مسكينة! ماذا قال الأطباء؟
- قال واحد من الأطباء بعد أن أجرى لها صورة أشعة بأن هناك مشكلة في مفصل الورك، مشكلة ناجمة عن التهاب المفاصل. ولكننا سنعرف المزيد غداً بعد أن يراها الأخصائي.
أخفض عينيه إلي جسمها وسأل: ( هل ارتديت ملابسك علي عجلة؟).
نظرت إلي نفسها فوجدت أن أزرار قميصها غير سوية. وفجأة أدركت كم تبدو غير مرتبة. شعرها الأشقر الطويل منسدل علي كتفيها، وهي لا تضع أي تبرج علي وجهها، ولم تكن ثيابها سوية حتى.
وبسرعة حاولت تسوية أزرار قميصها وهي تقول: ( لا بد أنني أبدو بحالة مزرية.... كنت نائمة عندما سمعت إيزوبيل تبكي).
- لا أظن أنك قد تبدين يوماً بحالة مزرية، بل علي العكس أنت امرأة جميلة جداً.
أحست بأن حرارة جسمها قد انخفضت بسبب المديح الذي وجهه لها والطريقة التي ينظر فيها إليها.
- شكراً... لم أكن أبحث عن مديح.
- أعلم هذا.
لاحظ أنها تعيد إغلاق قميصها بطريقة خاطئة، فسألها ممازحاً: ( أتريدين مساعدة؟).
- لا، شكراً.
أسدلت يديها، فهما ترتجفان ولن تساعداها علي إغلاق قميصها وقالت:
- علي كل حال، الوقت متأخر... أظن أن علينا الخلود إلي النوم.
- نعم، أظن ذلك.
لم يتحرك من مكانه وبقيت هي مسمرة أيضاً تنظر إليه وهو ينظر إليها.
قال برقة: ( شكراً لاعتنائك بإيزوبيل نيابة عني. كنت رائعة معها).
- لم يكن الأمر صعباً، فهي فتاة رائعة.
ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت الإشاحة بنظرها عنه، لكنها عجزت عن ذلك.
- علي كل حال، لا بد أنك متعب، فقد كان النهار طويلاً.
همس: ( أنا لا أشعر بالتعب).
مد يده وأزاح خصلة من شعرها عن وجهها. فشعرت برعشة لم تعرفها سابقاً، وهمست: ( ولا أنا).
- أعلم، ثمة جاذبية بيننا... أليس كذلك؟
كان كلامه تصريحاً أكثر منه سؤالاً لذا لم تجب.
- وكنت أتساءل كيف سنتابع من حيث تمت مقاطعتنا سابقاً عندما وصلنا إلي هذه المرحلة؟
- أحقاً؟
ووجدت نفسها تقترب منه، وتتساءل عما سيكون شعورها إن عانقها.
- كما تساءلت إلي أي درجة يجدر بنا أن....
اقترب منها وهمس وهو يعانقها: ( ظللت أحاول إقناع نفسي بأن هذه فكرة سيئة، وبأنك تعملين لدي، وبأن دمج العمل بالأمور الشخصية قد يؤدي إلي تعقيدات...).
فهمست: ( أنت محق، تعقيدات جمة).
حاولت أن تبتعد عنه، فهي هنا تحت اسم مزيف وبصفة مزيفة، ولم يحن الوقت بعد لتتعلق به وتغرم وهي ليست ممَن يحبذن العلاقة العابرة. أعطي عقلها الأمر لجسمها بالانسحاب إلا أن ذلك الأخير أبي التنفيذ.
- لكن لعلها مخاطرة تستحق العناء.
اقترب منها وطوقها بذراعيه فشعرت بالدم يغلي في عروقها، وعجزت عن التفكير بوضوح.
همس: ( كنت أتساءل ما سيكون شعوري إذا عانقتك منذ اللحظة الأولي التي دخلت فيها مكتبي).
- وأنا أيضاً.
كان قلبها ينبض بسرعة هائلة كما لو كان حيواناً يرغب بالخروج من الأسر. أما عقلها فينبؤها بأن ما تقوم به خطأ.
أيقظت فيها لمساته أحاسيس لم تعرف بوجودها من قبل. لم يشعرها أحد بهذه السعادة يوماً، ولا حتى نيك، وقد كانت متيمة بحبه. ولكن ما يجري كان غلطة، فلوكاس داريان هو العدو.
كانت تعيش صراعاً داخلياً، فتارة تشعر بأن ما تقوم به خطأ.... وبأنها تفقد التركيز وتضيع السبب الذي جاءت من أجله. وطوراً تحاول تجاهل هذه الإنذارات لأنها ترغب به بشدة. لم تعش يوماً صراعاً مماثلاً، بل كانت محكمة السيطرة علي مشاعرها وأحاسيسها.
همست: ( وجودنا هنا معاً غلطة كبيرة).
رد: ( ولم هذا؟).
لم تلاحظ حتى أنها تكلمت بصوت مرتفع إلا عندما وجه لها السؤال:
- لنفس الأسباب التي قلتها. إن أي شيء قد نقدم عليه سيكون مجرد علاقة جسدية.
- لم أكن أعرف أنك متحررة إلي هذا الحد.
شعرت بأنها تحمر خجلاً. فالمضحك في الأمر هو أنها ليست متحررة أبداً.... ولكنها واقعية بما فيه الكفاية لتدرك بأن التعرف علي لوكاس عن كثب وتوطيد علاقتها به أمر مستحيل في حالتهما.
وكيف يعقل لما يحصل بينهما أن يكون أكثر من علاقة عابرة في حين قد كذبت عليه كذبات لا تحصي؟ كما أنه الرجل الوحيد في العالم الذي لا يفترض بها إقامة علاقة معه، ففي كل دقيقة تمضيها بين ذراعيه تخون والدها وتطعنه في الصميم. وتسارعت الحقائق الباردة والمزعجة إلي عقلها بسرعة جنونية.
يستحيل أن يكون لعلاقتهما مستقبل!
منتديات ليلاس
همست وهي تحاول عدم الاهتمام:
- كل ما قصدته هو أنه ما من داع لتوجيه الملامات غداً...
وافقها الرأي: ( لن يوجه أحد منا الملامة للآخر).
نظر إلي وجهها المحمر، وحدق إلي عينيها الخضراوين.
- لقد تعلمت منذ سنوات ألا أقلق لما سيحدث في المستقبل.... بل أن أهتم بالحاضر وحده.
أخذ يعانقها أولاً علي مهل ثم بقوة وبشغف ثم قربها منه. وفجأة انتابتها موجة من الغضب. إنها تتصرف بجنون. فقد أتت إلي بورتوريكو كي تساعد والدها، وفقط كي تساعده. وإن لم تسرع بالرحيل من هنا فقد تفضحها ميلدريد بانكروفت الحقيقية. وهي واثقة بأن لوكاس لن يضمها بين ذراعيه ولو لثانية بعد أن يكتشف الحقيقة. بل سيستشيط غضباً ولا تستطيع لومه علي ذلك.
حاولت أن تبتعد عنه ولكنه منعها من الابتعاد فقالت: ( أرجوك... دعني!).
أفلتها ببطء وتردد... وقد أيقظت لهجتها الرافضة كرامة الرجل فيه.
- حسناً... لك ما تريدين.
ابتعدت عنه ثم انسحبت إلي غرفتها وهي تفكر في أن عليها أن تذكر أن ولائها الأول هو لوالدها ليس إلا.
عندما جاء الصباح بقيت في السرير تفكر في ما عليها القيام به فما عليها فعله اليوم هو البحث عن تلك الأوراق وإيجادها ثم وضعها في مكان لا يخطر ببال لوكاس التفتيش فيه ثم الرحيل. لا يمكن لها التفكير بلوكاس داريان علي الصعيد الشخصي.
نزلت بيني تحت الماء تستحم ووضعت وجهها تحت الرذاذ محاولة تصفية ذهنها. شعرت ببعض التحسن بعد أن استحمت وارتدت ثيابها. وبعد أن غادرت الحمام أضحت شبه مقتنعة بأولوياتها. نزلت إلي الأسفل نحو المطبخ. وما إن التقت عيناها بعيني لوكاس حتى لم يعد من معني لكل الكلام الذي حاولت إقناع نفسها به.
- صباح الخير.
ابتسم لها وشعرت بدوار فابتسمت له ابتسامة مقتضبة ثم أشاحت بنظرها عنه.
- صباح الخير.
وسرت لأنها ليست بمفردها معه في الغرفة، فإيزوبيل جالسة إلي الطاولة وأمامها كوب من الحليب.
سالت محولة انتباهها إلي الطفلة: ( كيف حالك هذا الصباح يا إيزوبيل؟).
بالكاد نظرت إليها الفتاة، وهمست: ( أنا بخير).
قال لوكاس مبتسماً:
- أعد الفطائر المحلاة المفضلة لدى إيزوبيل، أترغبين بتناول واحدة؟
- لا شكراً، فأنا لا أتناول الفطور عادة.
قالت لها إيزوبيل: ( طبعاً لن تكون هذه الفطائر لذيذة كالتي تعدها السيدة غوردن).
رد لوكاس: ( بلي، طبعاً ستكون لذيذة. أراهنك بأنني أصنع ألذ فطائر تذوقتها في حياتك. هيا تذوقي واحدة يا ميلي، لا بد أنك جائعة).
- لا، شكراً، لكنني سأعد لنفسي بعض الشاي إن كنت لا تمانع.
ومن دون أن تنتظر رده توجهت نحو الركوة. ستشرب الشاي بسرعة وتتوجه نحو المكتب. فآخر ما تحتاجه الآن هو فطور حميم.
رد لوكاس مزحاً: ( هذا رائع ولكنني سأتناول بعض القهوة).
- حسناً.
شغلت نفسها بفتح الخزانات بحثاً عن الأكواب.
سكب لوكاس بعض العجين في المقلاة، وتصاعدت رائحة الطعام الزكية.
فكرت وهي تنظر إليه بأنه يبدو صامتاً بعض الشيء. كان يرتدي سروال جينز أزرق اللون مع قميص أزرق ويضع علي كتفه فوطة مطبخ، كما لو أنه قضي الصباح بطوله يحضر الأطايب. راقبته يرقع أطراف الفطيرة ثم يقلبها كمحترف.
قالت وهي تنظر إلي إيزوبيل وتتوقع أن تضحك:
- ستندهش السيدة غوردن إن رأتك.
ولكن للأسف إيزوبيل لم تضحك بل بقيت جالسة عابسة. كانت تسند ذقنها إلي يدها، وقد ارتسمت علي وجهها علامات الحزن.
نظرت بيني متسائلة قلقة إلي لوكاس تستفسر عن سبب حزن إيزوبيل، فهز رأسه.
فسر لوكاس بلطف: ( اضطرت جدة إيزوبيل إلي إلغاء مشروعهما لليوم، فخاب أمل إيزوبيل قليلاً).
نظرت بيني إلي إيزوبيل: ( آه عزيزتي، هل خاب أملك؟).
قالت إيزوبيل بصوت منخفض: ( كانت جدتي ستصطحبني إلي البحر).
وبالنظر إلي فستان البحر الذي ترتديه، كانت إيزوبيل مستعدة للرحيل عندما وصلها الخبر. كما أن هناك حقيبة خاصة وضعت فيها منشفتها ومشطها وأغراضها الشخصية، وبجانبها وضعت الرفش والمعول الصغيرين.
قالت بيني بأسي: ( ياللأسف، لعلها ستأخذك في يوم آخر).
عبست وظهر القلق علي وجهها.
- ربما... ولكنها ليست بخير. آمل أن لا تضطر للذهاب إلي المستشفي كالسيدة غوردن .
رد لوكاس بسرعة: ( لا أظن ذلك يا عزيزتي. والآن أسديني خدمة واذهبي إلي الخارج ونادي علي فلينت).
ردت الفتاة: ( لا تسمح السيدة غوردن لفلينت بدخول المطبخ).
- حسناً، سنجري اليوم استثناءاً نظراً للظروف.
- حسناً يا أبي.
ونزلت الفتاة عن الكرسي وركضت نحو الباب. وما هي إلا بضع ثوان حتى سمع صوتها تنادي علي الكلب.
- هذا أفضل، ظننت أننا بحاجة لقضاء دقيقة منفردين.
ابتسم. ووضع فوطة المطبخ جانباً، وأطفأ الغاز، وفي الصمت شعرت بيني بقلبها يتوقف عن الخفقان فيما أقترب منها لوكاس. بدا وسيماً جداً وواثقاً من نفسه، وفجأة لم تعد واثقة من شيء.... سوى أن الكلمات التي قالتها لنفسها وهي تستحم قد تبخرت في الهواء.
ابتسم لها: ( إذاً كيف تشعرين هذا الصباح؟).
- بخير.
ومرر يديه علي خصرها بتملك.
- بخير تماماً.
وابتعدت بنعومة. كيف تمكن أن يبدو بهذه الجاذبية هذا الصباح؟ حاولت التركيز علي أمور أخرى.
- يا للأسف أن يلغي مشروع إيزوبيل.
- نعم.
إنه يدرسها عن كثب وعيناه تراقبانها بشكل يثيرها ويضيع تفكيرها. فبسبب نظرته هذه أرادت أن تنسي كل شيء وتغرق بين ذراعيه، فهي تتوق إليه توق العطشان للماء. وبصعوبة تمكنت من الابتعاد عنه والتركيز علي إيزوبيل.
- خاب أملها كثيراً.
خيل إليها للحظة أنه لن يحذو حذوها، بل سيحول الحديث إلي أحداث الأمس، ولكن بعد بعض التردد قال: ( للأسف باتت بام تلغي المواعيد مع إيزوبيل بشكل متكرر هذه الأيام).
- هل صحتها سيئة؟
هز لوكاس رأسه: ( علي العكس، صحتها ممتازة. فمشكلة بام هي أن لديها صديقاً أصغر منها بكثير ويبدو أنها لم تخبر بأنها جدة. أظنها تخشي أن يهرب إن عرف بالأمر).
- فهمت. لن يكون شخصاً جيداً إن أبعده شيء بسيط كهذا فالجدات يصغرن سناً يوماً بعد يوم.
- هذا تماماً ما قلته لها، ولكنها معجبة به كثيراً ولا تريد المخاطرة بإفساد علاقتهما. بالنهاية هذه حياتها الشخصية، وأنا ما كنت لأهتم لو لم تكن تخذل إيزوبيل مرة تلو أخرى. تتصل بها وتضع المشاريع ثم في اللحظة الأخيرة تتصل وتلغي المشروع لأنه قد وصل. لا يمكن للمرء التصرف بهذه الطريقة مع الأولاد، فهم لا يفهمون. ولذا اضطررت أن أكذب وأخبر إيزوبيل بأن جدتها مريضة.... بالرغم من أنني لا أحب هذا أبداً.
- إنه موقف صعب، ولكنك محق، لا يفترض بالمرء أن يعد الأولاد إن لم يكن سيفي بالوعد. أنا متفاجئة لعدم شعور جدة إيزوبيل بالمسئولية حيالها. فقد ظننت بأن فقدانها لأبنتها سيقدم لحفيدتها مكانة مميزة في قلبها.
- أنت محقة.
- ولكن لعلها تشعر بالحزن علي ابنتها. ولهذا سلكت هذا المنحى في الحياة. فالحزن يؤثر في الناس بطرق شتي كما تعلم.
ابتسم لوكاس لها: ( ربما).
سألت بفضول: ( لم تبتسم هكذا؟).
اقترب منها وقد بدا الفرح في عينيه:
- أنت... أنت تحبين رؤية الجهة الإيجابية في الناس أليس كذلك؟
- لا أعلم... أأنا هكذا؟
- أظن ذلك، كما أنك تتمتعين بحسنات كثيرة.
أرادت بيني الابتعاد عنه، لكنها لم تستطع. فلمسته لها تجعلها تشعر بالضعف والوهن. إنها لا تعلم إن كانت ترى إيجابيات الناس، بل كل ما تريده هو أن تنسي أن لوكاس عدو والدها وترى إيجابياته فحسب.
وفجأة لم تعد قادرة علي المضي قدماً بكذبتها وتمثيليتها الصغيرة.
- لوكاس، علينا أن نتكلم...
لم تكن تعلم ماذا ستقول، لكن بغض النظر عما كان فقد قوطع عندما فتح باب المطبخ ودخلت إيزوبيل يرافقها فلنت.
ابتعد لوكاس عن بيني فوراً، ثم انحنى ليلاعب فلينيت الذي راح يقفز عليه ويهز بذيله.
قالت إيزوبيل وهي تحمل باقات من السوسن في كل يد:
- أنظرا ماذا أحضرت، هذه للسيدة غوردن، وهذه لجدتي، و...
وبصعوبة فصلت الباقات وأعطت بضع زهرات لبيني قائلة: ( هذه لك).
قالت بيني وقد تأثرت بمبادرة الطفلة: ( شكراً لك، هذه مبادرة جميلة منك).
أخذت الأزهار من يدها وشمتها. كانت رائحتها زكية منعشة.
قالت إيزوبيل: ( يشتري والدي الأزهار للناس أحياناً، فقد اشتراها مرة لإيما).
وتساءلت بيني من تكون إيما، أهي صديقة ما؟ فبلغة الأزهار تقدم تلك الأخيرة كعربون للحب. أكان لوكاس مغرماً بامرأة ما. لعله ما زال مغرماً... ودهشت لشعورها بالغيرة. يستطيع لوكاس رؤية من يشاء... وإرسال الأزهار إلي من يشاء... فهذا الأمر لا يعنيها.
- فلنضع هذه الأزهار في الماء حتى تظل نظرة.
قالت بيني هذا محاولة تشتيت انتباهها وتفكيرها عن لوكاس وغرامياته.
- ثمة مراطبين فارغة تحت المجلي.
فذهبت بيني لإحضارها. وضعت الأزهار في الإناء فبدت جميلة ثم وضعته قرب نافذة المطبخ، وعادت تعد القهوة للوكاس وتعد لنفسها فنجان شاي.
سألت إيزوبيل وهي تعاود الجلوس إلي طاولة المطبخ:
- هل تعتقد أن جدتي قد تمر لاصطحابي لاحقاً هذا اليوم؟
وضع لوكاس صحن الفطائر أمامها: ( لا أظن هذا يا عزيزتي).
- آه.
حدقت إيزوبيل إلي صحن الطعام بحزن.
سألها لوكاس: ( هل تريدين أن أضيف السكر أو الشراب إلي فطائرك؟).
- الشراب، شكراً. هل تظن أن جدتي ستأخذني إلي الشاطئ الأسبوع المقبل؟
- لا أعلم، ولو كنت مكانك لما وعدت نفسي كثيراً.
عضت إيزوبيل شفتها السفلي.
سألت بيني محاولة تغيير الموضوع وهي تضع قهوة لوكاس أمامه:
- هل وردتك أي أخبار عن السيدة غوردن؟
- شكراً ميلي. نعم لقد اتصلت بها صباحاً. لقد نامت جيداً وهي تنتظر تقرير الأخصائي بعد ظهر اليوم، كما أن أختها عندها.
سألت إيزوبيل: ( هل نستطيع الذهاب لرؤيتها يا أبي؟ أريد أن أقدم لها الأزهار التي قطفتها لها).
- ليس اليوم حبيبتي، فالسيدة غوردن بحاجة إلي بعض الراحة.
وفجأة سألت إيزوبيل: ( هل ستتمكن السيدة إيزوبيل من أخذي للتسوق من أجل مسرحية المدرسة غداً بعد الظهر؟).
- لا أظن ذلك، عليك أن تكتفي بمساعدتي وحدي هذه المرة.
بدت إيزوبيل مذهولة: ( لا تكن سخيفاً يا أبي. فأنت لا تعرف ما علينا شراءه، هذه أمور خاصة بالفتيات).
- أظنني أعرف ما هي الثياب الرائجة للحفلات هذه السنة، يمكنك الاعتماد علي.
ضحكت بيني لكلامه، إلا أن إيزوبيل ظلت حزينة وقالت: ( لن تعرف شيئاً! سيلبس الجميع الثياب الملائمة إلا أنا! وستسخر مني جينا فريدريك وسيضحك الجميع علي!).
- هيا يا إيزوبيل، أنت تضخمين الأمور، فهذه مسرحية مدرسية، وأنت في السادسة من العمر. ولا يهم فعلاً ماذا ترتدين. فكل ما تحتاجينه هو عباءة طويلة وصولجان. لن يضحك أحد عليك.
- بلي! ستضحك جينا فريدريك علي!
بدت إيزوبيل علي وشك البكاء، وتابعت:
- تبدو جينا جميلة دوماً، فوالدتها تأخذها للتسوق حتى تبدو رائعة دائماً.
- وأنت أيضاً تبدين رائعة دائماً.
- لا، لا أفعل. فقد كنت أرتدي الحذاء الخطأ لرحلة المدرسة الثلاثاء الماضي. قالت جينا أن حذائي قديم الطراز.
وفجأة، أبعدت إيزوبيل الصحن عن المائة وخرجت من الغرفة.
- أعتذر عن هذا يا ميلي! أظن بأن إيزوبيل قد نالت أكثر من خيبة أمل في يوم واحد.
- أفهم تماماً ما تمر به. ولكن لا أظن أنه كان يفترض بك أن تقول لها بأن ما ترتديه في الحفلة أمر غير مهم. فبالرغم من أنها في السادسة فقط، فهي تعرف أن هذا الكلام غير صحيح.
رفع يديه في الهواء: ( إنها مسرحية مدرسية يا ميلي...).
- وإن يكن. من المهم أن تشعر إيزوبيل بأنها تنتمي إلي رفاقها.
تنهد: ( أظنك محقة! ولكن إن كانت تقلق إلي هذا الحد وهي في السادسة فماذا سيجري عندما تصبح مراهقة؟).
شعرت بالأسى نحوه، فليس سهلاً عليه تربية فتاة بمفرده.
- إن شئت أستطيع اصطحابها للتسوق غداً.
لم تع ما الذي عرضته إلا بعد فوات الأوان.
بدا لوكاس متفاجئاً، وتفاجأت هي أيضاً.
- أحقاً؟ سيكون هذا لطفاً كبير منك يا ميلي. أقدر لك هذا فعلاً.
ماذا تفعل؟ صحيح أن لوكاس بحاجة إلي المساعدة وأن إيزوبيل قد عانت كفايتها من خيبات الأمل، ولكن بظل الظروف الراهنة، لا يسعها التورط أكثر.
تأكد لوكاس: ( أحقاً لا تمانعين؟).
ماذا لو ظهرت ميلدريد بانكروفت غداً؟ ماذا ستفعل عندها؟ لن تقع عندها في مشكلة فحسب بل ستكون إيزوبيل قد خذلت مجدداً. يفترض بها أن تركز علي إخفاء الأوراق ومغادرة هذا المكان لا التركيز علي أي شيء آخر.
نظرت إلي الباب ورأت إيزوبيل تنظر. لا بد أنها سمعت عرضها وتنتظر الجواب بفارغ الصبر.
أخذت بيني نفساً عميقاً، وقالت برقة: ( لا، لا أمانع).
ويا للغرابة، فهي لم تكن تمانع أبداً.
سمعت إيزوبيل تطلق صيحة فرح، وبعدها هرعت الفتاة إلي المطبخ ورمت نفسها علي بيني، وسألتها بحماسة: ( أحقاً ستأخذينني للتسوق؟).
- نعم إيزوبيل، سآخذك غداً.
إن كانت تملك بعض التحفظات عما ستفعله، فقد تلاشت كلها عندما رأت الفتاة تصعد إلي الكرسي وتطوق عنقها فرحة.
صرخت الفتاة فرحة: ( شكراً.... شكراً).
سرت بيني كثيراً بردة فعل إيزوبيل. فبالرغم من كل شيء، لو كانت الظروف مختلفة، لما ترددت للحظة بمساعدتها.
قالت إيزوبيل بانتصار: ( سيكون فستاني أجمل من فستان جينا فريدريك).
- حسناً، آمل ذلك).
والتقت عينا بيني بعيني لوكاس فابتسم لها وشعرت بأن قلبها سيتوقف عن الخفقان.
أملت ألا يكون فكرة خاطئة عما يجري. صحيح أنها تحب ابنته، وتريد المساعدة، ولكنها لا تريده أن يخال أنها تحاول إقامة علاقة جديدة معه.
وما إن أفلتت الفتاة عنق بيني، حاولت تلك الأخيرة التصرف بعملية، فنظرت إلي ساعة يدها.
- قد أستطيع الذهاب إلي الفندق وتغيير ملابسي قبل أن تبدأ العمل يا لوكاس، سأتصل بسيارة أجرة.
- سأوصلك، علي الذهاب علي أية حال لإيصال الأوراق إلي منزل سلفادور كي يدقق فيها.
أحست بيني بالامتعاض لمجرد ذكر هذه الأوراق الموضوعة في خزانة الملفات.
قال لوكاس: ( اسمعي، سنتناول الغداء في مطعم " سماغلزز إن" ثم نتنزه علي الشاطئ فتتمكنين من اللعب هناك يا إيزوبيل).
صرخت إيزوبيل صرخة فرح وبدأ فلينت بالنباح.
- حسناً، ربما يمكنك إعطائي مفاتيح المنزل فأعود إلي هنا بعد أن أغير ملابسي وأبدأ البحث عن تلك المستندات.
- لدينا ما يكفي من الوقت للعمل بعد ظهر اليوم، تناولي الغداء معنا يا ميلي.
سرت بيني بالدعوة، لكنها لا تستطيع الاسترخاء، فهدفها الأول هو إيجاد الأوراق، قالت:
- لكنك بحاجة ماسة إلي هذه الأوراق يا لوكاس.
قال لوكاس وهو ينهي قهوته: ( يمكن للأوراق أن تنتظر بضع ساعات بعد).
أيقنت أنه يستطيع الاسترخاء الآن بعد أن أصبح صك الملكية الخاص بأرض والدها بحوزته. يا ليتها وجدته قبله! لكانت غادرت قبل موعد العشاء أمس، ولكانت أصبحت في المطار الآن.
- إذاً ماذا قلت؟ هل ستتناولين الغداء معنا؟
- حسناً، أنا...
قالت إيزوبيل وقد اتسعت عيناها: ( أرجوك ميلي، تعالي معنا).
نظرت بيني إلي لوكاس ثم إلي الطفلة، وذكرته بصرامة وهي تحاول ألا تضعف:
- لديك مهلة محددة من الوقت لإيجاد الأوراق يا لوكاس.
- قد لا أحتاج إليها. يعتمد هذا علي ما سيقوله لي سلفادور بعد أن يراجع الأوراق الأخرى.
- فهمت..
يبدو أنها قد فوتت علي نفسها فرصة مساعدة والدها، لذا يستحسن أن تقلل قدر الإمكان من خسارتها وتحجز لنفسها علي أول طائرة متجهة إلي أربودا لتساعد والدها علي حزم الأغراض في المنزل.
نظرت إلي إيزوبيل فإلي لوكاس الذي ينتظر ردها بفارغ الصبر. وفجأة لم تعد تحتمل فكرة الرحيل. وقررت أن تمنح نفسها يومين بعد ريثما تعرف بالمستجدات التي ستطرأ مع لوكاس بعد أن يطلع سلفادور علي الأوراق، وتأخذ إيزوبيل للتسوق.
ردت: ( يبدو الذهاب للغداء فكرة جيدة، يسرني أن أنضم إليكما).
* * *

زونار 25-12-09 02:48 PM

الفصل السادس:
تريد المستحيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان اليوم واحداً من الأيام الهادئة في الكراييب. السماء زرقاء والحرارة معتدلة، والريح قليلة البرودة.
وتساءلت ما كان سيحدث لو أخبرت لوكاس الحقيقة هذا الصباح. أكانت ستجلس هنا بقربه في السيارة وهو يتجه بها إلي الفندق؟ أو كان استدعي لها سيارة أجرة وطردها من منزله؟
نظرت إلي إيزوبيل التي تجلس في الخلف، وفلينت جالس بقربها وهي تخبره فرحة عن مشاريعها لهذا اليوم. وكان الكلب منصتاً تماماً يهز بذيله كما لو أنه يفهم كل ما تقوله له.
وصلوا إلي ضواحي المدينة، وتوجهوا نحو الحي القديم، وتوقف لوكاس قرب الفندق.
منتديات ليلاس
سألت بيني وهي تمد يدها إلي مقبض الباب:
_ هل ستذهب لرؤية المحامي ثم تعود لاصطحابي؟
- لا، سننتظرك. سيوفر هذا علي الذهاب مرتين، كما أريدك أن تقابلي سلفادور وزوجته ماريا، أنهما ثنائي لطيف.
كانت بيني تفضل عدم مقابلة محامي لوكاس، فقالت: ( لكنني قد أستغرق بعض الوقت يا لوكاس).
- لا بأس، سننتظرك.
لم تجد بيني أمامها حلاً سوى الموافقة. فأومأت ونزلت من السيارة.
دخلت إلي ردهة الفندق المبردة وحاولت عدم التفكير بهذا الموضوع لوقت طويل.
- صباح الخير آنسة كينيدي.
حيتها عاملة الاستقبال بحرارة، ولمن بيني غضبت منها. فماذا لو قرر لوكاس الدخول معها إلي الفندق، أما كانت لعبتها انفضحت؟
ورغماً عنها ابتسمت للمرأة وقالت بحزم: ( نادني ميلي، فالجميع يناديني هكذا).
- أبسبب اسمك المهني؟
من الواضح أن الرجل الذي تحدثت إليه البارحة قد نشر الخبر، وسألت بسرعة محاولة تغيير الموضوع: ( نعم، صحيح. هل من رسائل لي؟).
- لا... ما من رسائل.
- حسناً، شكراً. هل لي بالحصول علي مفتاح غرفتي من فضلك؟
عندما وصلت إلي الغرفة، خلعت ثيابها بسرعة وفتحت الخزانة وتناولت فستاناً صيفياً أزرق اللون.
ثم خرجت لموافاة لوكاس وإيزوبيل والأفكار كلها تعج في رأسها. قال لوكاس وهي تجلس قربه: ( لم تستغرقي وقتاً طويلاً).
- حسناً، حاولت أن لا أطيل البقاء.
ولاحظت نظرة الإعجاب التي رمقها بها قبل أن ينطلق بالسيارة. لم ينظر إليها سوى للحظة، لكن نظرته جاءت ملئي بالأحاسيس، إلي حد أنها أيقظت فيها مشاعر دفينة.
قال لوكاس وهو يغير السرعة في السيارة:
- حصل تغيير طفيف علي المشاريع فيما كنت في الفندق. لقد اتصلت بسلفادور وهو يقل حماته إلي منزلها الآن، لذا ارتأيت أن نتناول الغداء، ونذهب في نزهة علي الشاطئ، ثم نمر عليه في طريق العودة لشرب القهوة.
- هذا جيد.
شعرت بيني بالارتياح لتأخر لقائها بالمحامي ولو لبضع ساعات فحسب. وبعد القيادة لبضعة أميال، أوقف لوكاس السيارة علي طرف الطريق. وقال مشيراً إلي مبني أبيض تحيط به أشجار النخيل: ( المطعم هناك، يمكننا السير علي طول الشاطئ إن كنت قادرة علي هذا).
قالت بكبرياء: ( طبعاً أنا قادرة، فالمكان ليس بعيداً).
ابتسم : ( كنت أتأكد فقط).
معاً نزلت بيني وإيزوبيل من السيارة ومشتا نحو البحر. وأفلتت إيزوبيل يد بيني بعد أن قطعتا الطريق وركضت باتجاه الصخور. تبعها فلينت وهو يهز بذنبه ويقفز.
نادت بيني: ( حذار علي الصخور).
ردت الفتاة من دون أن تخفف من سرعتها: ( سأفعل).
قال لوكاس بحزم وهو ينظر إليها تقفز من صخرة إلي أخرى: ( تمهلي إيزوبيل).
بطأت سيرها قليلاً ثم قفزت إلي الرمل.
- كلما حضرنا إلي هنا أطلب منها أن تلتزم الحذر ولكنها تصر دائماً علي الركض أمامي.
مد لوكاس يده ليساعد بيني ما إن بدءا بتسلق الصخور.
- سأكون بخير
وانتزعت حذاءها العالي الكعب وتجاهلت يد لوكاس الممدودة للمساعدة، ثم تبعت خطوات إيزوبيل. ولكن ما إن وصلا إلي الجهة المقابلة ترددت، فالقاطع بين الصخور والرمل شديد الانحدار.
قفز لوكاس قبلها ثم مد يده ليساعدها، وعوضاً عن رفض المساعدة، قبلتها وأمسكت بيده ونزلت ببطء. أمسك بها عندما ارتطمت رجلها بالأرض وللحظة كانت قريبة جداً منه. وبسرعة استجابت حواسها لاقترابها منه. وشمت رائحة عطره الأخاذ وأحست بذراعيه القويتين تمسكانها. نظرت إليه بغير ثقة فالتقت عيناهما.
إلا أنه تراجع إلي الوراء، وقال بخفة كما لو أنه لم ينتبه للحظة التي جمعتهما: ( الطريق مزعجة ولكن السير ممتع إلي هنا).
ولبرهة مشيا صامتين يراقبان إيزوبيل تقفز أمامهما، تحمل بيد السطل والرفش الزهري اللون، وتضع يدها الأخرى علي رأس فلينت.
كان الرمل دافئاً تحت رجلي بيني، والشمس تداعب البحر الأزرق. ولم يكن من شخص آخر علي البحر غيرهم.
قالت وهي تأخذ نفساً عميقاً: ( المكان رائع هنا).
وافقها لوكاس الرأي: ( هذا ما نحتاج إليه بعد كل الفترة التي قضيناها في المكتب).
عادت إيزوبيل راكضة لتريهما صدفة وجدتها علي الأرض. تناولتها بيني من يدها وراحت تنظر إلي الخيوط الزهرية والبيضاء، وقالت:
- إنها جميلة جداً، عليك الاحتفاظ بها في غرفتك لتذكرك دوماً باليوم الجميل الذي قضيناه معاً علي الشاطئ.
اعجبت إيزوبيل بالفكرة: ( سأضعها فوق صندوق مجوهراتي، هلا احتفظت لي بها؟).
فتحت بيني حقيبة يدها ووضعت الصدفة فيها: ( طبعاً عزيزتي).
قال لوكاس وهما يسيران، وإيزوبيل تقفز أمامهما:
- تجيدين التعامل معها. يبدو أن لك موهبة فطرية في التعامل مع الأولاد. يدهشني أن ليس لك أولاد.
- أحب أن أكون أسرة في المستقبل البعيد طبعاً.... عندما أصبح جاهزة للاستقرار.
ابتسم: ( طبعاً. إذاً أخبريني هل أوشكت يوماً علي الاستقرار؟).
- نعم، مرة واحدة.
قال لوكاس عندما لم تتابع حديثها: ( لكنك لم تحبيه بما فيه الكفاية لترتبطي به؟).
عبست بيني: ( بلي، كنت أحبه).
عندما كانت تتكلم عن نيك، كانت تشعر ببعض الحزن والندم، إلا أنها هذا الصباح، ويا للغرابة، تتكلم عنه بطريقة عادية. تابعت:
- كنت متيمة بحبه، وظللنا معاً لنحو سنة تقريباً، وقررنا الزواج.
- إذاً، ماذا جرى؟
- لم يكن نيك ملتزماً بعلاقتنا كما كنت، فقد كان يواعد امرأة أخرى. وهكذا غادرت المنزل ودخلت إليه هي.
- متى حدث هذا؟
- منذ سنتين تقريباً.
سأل لوكاس بفضول: ( أتعتقدين أنك تخطيت حبك له؟).
- طبعاً.
لاحظ لوكاس كيف ضاقت عيناها الخضراوان وهي تتحدث محاولة إخفاء مشاعرها، تابعت: ( عرفت من صديق مشترك مؤخراً أنهما تزوجا في عيد الميلاد الفائت).
- وهل تتمنين لهما السعادة؟
نظرت إليه بدهشة ثم مازحته: ( حزنت قليلاً لأنهما لم يدعواني إلي الزفاف، لكن عدا ذلك لا أكن لهما أي ضغينة).
ضحك لوكاس: (( حسناً من الواضح أن هذا الشاب مغفل).
ردت بيني بجفاف: ( أو ربما أيقن أنه.... لم يكن مقدراً لنا العيش معاً).
أشاحت بنظرها عن لوكاس ونظرت إلي البحر:
- كنت أظن بأنه نصفي الآخر... بأن القدر جمعنا...
وأنهي لوكاس الجملة عنها: ( وعندما فسخت علاقتكما، شعرت أن فرصتك بالسعادة قد تلاشت).
نظرت إليه متفاجئة.
- هذا ما شعرت به عندما توفيت كاي. ولكن الحياة تستمر، ويستطيع الإنسان إيجاد السعادة مجدداً. علي أن أعترف بأن المرء يشعر بالذنب قليلاً حيال ذلك... أقله هذا ما شعرت به عندما بدأت بمقابلة نساء أخريات.
وشعرت بيني بانقباض في صدرها. فقلة من الناس يفهمون هذا... ولكن لوكاس فهم. إنه شريف... محترم، وها هي تخونه وتغشه.
أوشكا أن يصلا إلي نهاية الشاطئ الآن، واستطاعت بيني رؤية المطعم بوضوح. فقد تناثرت طاولات وضعت عليها شراشف بيضاء اللون تحت مظلات نبيذية اللون.
قال لوكاس: ( نحصل علي مزيج من العالمين ها هنا. إذ نستفيد من الخدمة الممتازة والطعام اللذيذ مع عدم التقيد بالرسميات والاستمتاع بالبحر).
ابتسمت بيني، ولكنها كانت تفكر في قرارة نفسها بأنه ما من شيء يدعي المزج بين العالمين. ففي هذا الوقت، لا بد أن والدها يعمل جاهداً في الحقول، وهو يعلم أنه سيخسر كل شيء، وسيذهب جهده سدى في حين أنها هنا تتناول الطعام مع العدو. تآكلها الذنب. أهي مع لوكاس أم ضده؟
أزاح لها لوكاس الكرسي لتجلس، ثم جلس قبالتها.
كانت إيزوبيل لا تزال تلعب علي شاطئ البحر، منهمكة في بناء القصور، وفلينت بجانبها يحرس كل تحركاتها.
- هل نترك إيزوبيل تلعب قليلاً فيما نطلع علي قائمة الطعام؟
تابع: ( ولكننا لن نتركها لوقت طويل، فيما أنك فوت عليك الفطائر التي أعددتها هذا الصباح، فلا بد أنك تتضورين جوعاً).
- أنت محق، فأنا جائعة. علي فكرة لقد تأثرت بمهاراتك في الطهي هذا الصباح.
- لعلك ستبقين وتتذوقينها المرة المقبلة.
سرت بيني لوصول النادل بتلك اللحظة لأنها لا تعرف بم تجيب علي هذه الملاحظة.
وفيما حيا النادل لوكاس بحرارة وتكلما لبعض الوقت نظرت بيني إلي لوكاس وإلي وجهها الجميل. لوكاس من أكثر الرجال الذين التقتهم في حياتها وسامة. كانت تحب الطريقة التي تضيء فيها عيناه عندما يضحك والغمزة في خده عندما يبتسم. نظر إليها وابتسم، فتوقف قلبها عن الخفقان للحظة.
- ماذا تريدين أن تشربي ميلي؟
- كوب من عصير الليمون من فضلك.
وبسرعة حملت قائمة الطعام وادعت أنها تنظر إليها.
قالت في نفسها: استعيدي رباطة جأشك.
ساد صمت بعد أن غادر النادل ليحضر شرابهما ولم يعكر الصمت سوى صوت البحر والأمواج ترتطم بالشاطئ.
سأل لوكاس بعد فترة: ( هل قررت ماذا تريدين؟).
ما تريده هو المستحيل..... تريد أياماً أخرى كاليوم.... وضعت قائمة الطعام من يدها وهي تشعر بالانزعاج من نفسها، ومن أفكارها.
- سأتناول طبق ثمار البحر.
- إنه لذيذ هنا، وطازج أيضاً.
جاءت إيزوبيل مسرعة وقاطعتهما: ( أبي هل لي بتناول البيتزا مع رقائق البطاطا؟).
فكر لوكاس في السؤال للحظة:
- إنه مزيج غير صحي. هل تتناولين بعض السلطة مع البيتزا وبعض الفاكهة بعد ذلك؟
حكت إيزوبيل أنفها: ( أظن ذلك).
هز لوكاس رأسه إيجاباً، فغادرت الفتاة راكضة لتكمل بناء القلعة.
- إن سمحت لها، فستأكل شتي أنواع الطعام غير المغذي.
ابتسمت بيني: ( أليست هذه حال الأطفال كافة؟).
- بلي، ولكن لو كانت كاي علي قيد الحياة، لما تمكنت إيزوبيل من التصرف علي هذا النحو. كانت كاي تحب الأكل الصحي، وتمارس الرياضة واليوغا، ولا تتناول أي شيء غير صحي وغير مدروس.
قالت بيني برقة: ( تربية إيزوبيل بمفردك مسؤولية كبرى أليس كذلك؟)
- أن يكون المرء أباً عازباً أمراً غير سهل، وبالطبع فأنا أعتمد كثيراً علي السيدة غوردن في الأعمال المنزلية، ولكنني أستمتع بكوني والداً.
أحضر النادل شرابهما وطلبا الطعام.
قالت بيني: ( لا بد أنك ستستصعب الأمور إن غابت السيدة غوردن عن المنزل لفترة طويلة).
تنهد لوكاس: ( أظنني سأحتاج إلي توظيف أحدهم لملء الفراغ. ولكن هذه المهمة ليست بسهلة، فإيزوبيل تحبها كثيراً، ويسهل علي الاعتماد عليها. آمل ألا تطول فترة مرضها).
شربت بيني جرعة من العصير وتمنت لو تستطيع أن تعرض عليه المساعدة، وحاربت هذه الرغبة وهي تقنع نفسها بأنها ستصطحب إيزوبيل للتسوق غداً وهذه مساعدة كافية.
قضيا بضعة ساعات رائعة في الغداء، فالطعام لذيذ والصحبة ممتازة. شعرت بيني بالراحة بينهما، وكأنها عرفتهما طيلة حياتها. ولكن عندما نظر لوكاس إلي ساعته وقال بإن وقت الذهاب إلي منزل سلفادور قد حان، شعرت إيزوبيل كأن غمامة سوداء قد أطبقت علي قلبها.
- أعلينا أن نذهب يا أبي؟
- أخشي ذلك، كما أن لدي بعض الأعمال لأنجزها هذا العصر، لذا عليك أن تلعبي بهدوء.
حزنت إيزوبيل، فواستها بيني:
- لا تحزني، سنذهب غداً للتسوق وسنتسلى
قام لوكاس ودفع الحساب ثم اتجها نحو الشاطئ.
سألته بيني وهي قلقة بشأن لقاءها بسلفادور: ( ماذا فعلت بالنسبة للأوراق مع سلفادور؟).
- لقد وضعتها في صندوق القفازات في السيارة وأقفلت عليها.
وجدت بيني نفسها تأمل أن تكون السيارة قد اختفت، ثم تمالكت أعصابها بصعوبة. لا يحق لها أن تتمني هذا.
وصلا إلي الصخور ومد يده ليساعدها علي اجتيازها. قالت بيني محاولة تجاهل المشاعر التي شعرت بها جراء لمسة يده علي يدها:
- لقد استمتعت كثيراً بالغداء، شكراً لك.
- ربما يمكننا الخروج للغداء مجدداً، ربما في نهاية الأسبوع المقبل مثلاً قد نأخذ اليخت ونبحر إلي ميناء آخر.
- ربما.
شعرت بقلبها يعتصر من الألم. ستكون الأسبوع المقبل في أربودا علي الأرجح تساعد والدها. ابتعدت عنه ولحقت بإيزوبيل.
وصلا إلي السيارة، فساعدت بيني إيزوبيل علي إزالة التراب عن رجليها ومن حذائها.
تناول لوكاس السطل والرفش وشكر بيني قائلاً:
- شكراً ميلي، سأقدم بعض الماء لفلينت من صندوق السيارة. هلا تأكدت أن الأوراق في صندوق القفازات؟
وناولها المفاتيح وقال: ( إنه المفتاح الذهبي الصغير).
نظرت بيني إلي المفاتيح وتسارعت نبضات قلبها. وأخيراً ستضع يدها علي صك الملكية. ترى أهذه هي الفرصة التي تنتظرها؟
ركضت إيزوبيل إلي مؤخرة السيارة مع والدها وجلست بيني بشكل جانبي كي تفتح صندوق القفازات.
كانت الأوراق موضوعة في مغلف كبير، فتحته ونظرت إلي ما بداخله، ووجدت عدداً من الأوراق خول شراكة والدها مع لورانس داريان، وخلفها الصك الأصفر التابع لملكية كينيدي. وتساءلت هل تضع الصك في حقيبتها فيما إيزوبيل والكلب منهمكان بالكلب؟ يمكنها أن تقول للوكاس أنها لم تجد الأوراق وبأنها ما زالت في خزانة الملفات فهو لن يشك أبداً أن الصك بحوزتها.... أليس كذلك؟
- هل كل شيء في مكانه؟
سمعت صوت لوكاس آتياً من خلف باب السائق، فقفزت خوفاً.
- نعم، علي ما يبدو.
- رائع.
ابتسم لها ثم نظر إلي الأوراق بين يديها وقال: ( كنت خائفاً جداً، ولكن ما هو المثل؟ ما يأتي بسرعة... يختفي بسرعة).
رفع لوكاس حاجبه وقال:
- لا أعتبر أن حصولي علي هذه الصكوك جاء بسرعة وسهولة، فبحسب ما قال والدي، عانى طيلة سنوات من مشاكل ويليم كينيدي، ومنحه كماً هائلاً من الفرص ليعيد ما يدين به.
- أحقاً؟
جاء رد بيني عنيفاً بعض الشيء ومليئاً بمشاعر متناقضة.
- نعم، فعلاً.
وتشتت انتباه لوكاس لرؤية إيزوبيل تلعب مع فلينت علي الطريق.
قال لها: ( هيا إيزوبيل، اصعدي إلي السيارة الآن).
لم يكن لبيني خيار آخر سوى وضع الأوراق في المغلف. فهي لا تستطيع أخذها الآن بعد أن رآها لوكاس في يدها.
تابع لوكاس كلامه مع بيني بعد أن أطاعته ابنته: ( أسمعيني ميلي، أعلم أنك لا تحبين فكرة طرد أحدهم من منزله ولا أنا أيضاً، ولكن هذه أعمال لا إحسان).
ردت بعنف: ( أنت بارد وقاسي القلب يا لوكاس. في الواقع أنت تذكرني بقرش يدور في الماء وهو يشتم رائحة الدم).
رد لوكاس عليها بتهكم: ( يا للتشبيه الرائع! ولكن اسمحي لي وبكل احترام أن أخبرك أنك لا تعرفين شيئاً عن هذه القضية).
أرادت بيني أن تخبره بأنها تعرف أكثر منه بكثير، ولكنها فضلت التزام الصمت. وما هي إلا لحظات حتى توجهوا إلي الطريق العام، وقد اختفي الجو الجميل الذي خيم وقت الغداء علي جلستهما.
شعرت بيني بالتوتر وبألم يخيم علي عينيها ورأسها. نظرت إلي لوكاس الذي بدا خائباً ومستاء جداً. من الواضح أن كلامها لم يعجبه.
يمكن للوكاس أن يكون شخصاً طيباً، ولكنه قبل كل شيء هو ابن والده، ولا يمكن للدم أن يستحيل ماءً.
نظر إليها لوكاس وقال:
- لا أعلم لم نتشاجر حول هذا الموضوع يا ميلي، أظن بأن علينا الاتفاق علي تغيير الموضوع.
ردت بخفة: ( حسناً).
أدركت أنه ينظر إليها بغرابة، فأجبرت نفسها علي الابتسام وقالت:
- وتماماً كما قلت، فهذا الأمر لا يعنيني.

قاد السيارة عبر مناظر طبيعية رائعة. وبعد قليل ظهر منزل أبيض اللون له نوافذ زرقاء. بني المنزل علي حافة حديقة كبيرة تقدم منظراً رائعاً علي الكراييب. ولكن لم يكن منظر البحر هو الذي لفت انتباه بيني بل المرأة الجميلة التي تقف عند العتبة. كان شعرها نحاسياً طويلاً رائعاً وهي ترتدي فستاناً صيفياً أبيض اللون فضفاضاً، يظهر ساقيها المثيرتين.
- مرحباً لوكاس، يا لها من مفاجأة! لم أتوقع رؤيتك هنا.
- مرحباً إيما، لم أتوقع رؤيتك أيضاً، ولكن هذه مفاجأة سارة.
عرفت بيني لم بدت المرأة مرتبكة، فهي صديقة لوكاس السابقة. تقدم منها وقبلها علي خدها، فاحمرت لساعتها. ولكن ما لفت انتباه بيني هو الطريقة التي نظرت فيها المرأة إلي لوكاس. وأيقنت بيني فوراً أن إيما ما زالت مغرمة به. لا مجال للشك، فهي تنظر إليه وكأنها تعبده. ترى لم ظنت شونا أن إيما هي التي قطعت علاقتها به؟
ولكن يصعب فهم لوكاس. فقد يكون منكسر القلب جريحا. ولمجرد التفكير في الموضوع شعرت بيني بألم لم تعرف مثله في حياتها.
غضبت من نفسها لهذا التفكير. فحياة لوكاس العاطفية لا تعنيها البتة.
نزلت إيزوبيل من السيارة وركضت نحو المرأة تحييها.
- مرحباً عزيزتي.
ابتسمت إيما وابتسمت إيزوبيل أيضاً، لكنها بقيت خلف والدها تحاول الإمساك بيده.
قالت إيما وهي تمد يدها وتربت علي رأس فلينت:
- دعتني ماريا لشرب القهوة في الواحدة والنصف.
بدا لوكاس مسروراً: ( أحقاً؟ ودعتني أنا أيضاً لشرب القهوة في الواحدة والنصف).
بدت المرأة منزعجة تماماً الآن: ( آه! اسمع لم أكن أعلم أنها تخطط لشيء من هذا القبيل).
- ولا أنا أيضاً، لكنك تعرفين ماريا، نواياها صادقة.
- أظن ذلك، لكن الأمر محرج قليلاً.
ونظرت إلي السيارة حيث تجلس بيني، وتابعت:
- اسمع، سأذهب، قل لماريا أنني سأتصل بها لاحقاً.
عبس لوكاس: ( ما من داع لذلك، فأنا لن أطيل البقاء. جئت لأري سلفادور بشأن موضوع في العمل، كما علي العودة للعمل بعد ظهر اليوم).
ابتسمت له ممازحة: ( بعض الأشياء لا تتغير أبداً).
- لا، فأنت تعرفينني.
- تكرس وقتك كله للعمل، نعم أنا أعرفك.
ساد الصمت بينهما لفترة ظلا خلالها ينظران إلي بعضهما البعض. شعرت بيني ببعض الغرابة. لم تعرف ما إذا كان عليها أن تبقي في السيارة كيلا تتطفل أو أن تنزل لتوافيهم.
وفجأة سأل لوكاس إيما: ( هل قرعت الباب؟).
- آه! لا! كنت علي وشك قرع الباب عندما وصلت.
نظر لوكاس إلي بيني، كما لو أنه عرف لتوه أنها في السيارة:
- ميلي، هلا أحضرت الأوراق من السيارة؟
تمتمت وهي تفتح صندوق القفازات وتخرج الأوراق للمرة الثانية هذا اليوم: ( حاضر سيدي).
لم تعرف لما شعرت بالانزعاج عندما استدار لوكاس أخيراً نحوها ووجه لها طلباً متعلقاً بالعمل. ربما هذه طريقته لإخبار إيما بأنها مجرد زميلة في العمل أو ما شابه ليس إلا.
وهي تخرج من باب السيارة، فتح باب المدخل وظهرت سيدة سمراء وحيتهم بحرارة.
- لوكاس، إيما، كم هو رائع أنكما جئتما معاً.
قالت إيما وهي تقترب من المرأة وتقبلها علي خدها:
- حسناً أظن أن هذا من تخطيطك أكثر مما هو وليد الصدفة. سأسامحك هذه المرة فقط يا ماريا لأنك حامل. لا تحاولي القيام بخدعة مماثلة مرة أخرى.
- حسناً أنتما تعرفان ماذا يقال، لا يجري مسار الحب الحقيقي أبداً بطريقة سلسة. وبما أنكما صديقاي العزيزان، ظننت أنكما بحاجة ألي بعض التأنيب...
كانت ماريا علي وشك إكمال حديثها حين رأت بيني تقترب فاندهشت: ( آه!).
تدخل لوكاس بسرعة: ( أقدم لكما ميلي بانكروفت، ميلي إليك ماريا ساندينيو وإيما جونسون).
ابتسمت بيني بإشراق وقالت:
- سررت بلقائكما، أنا مساعدة لوكاس الشخصية.
بدت ماريا مطمئنة، ولكن بيني شعرت بأنها تشك بعض الشيء.فقالت: ( حسناً، سررت بالتعرف إليك أيضاً. تفضلوا، لقد وقفنا في الحر بما فيه الكفاية).
ناولت بيني المغلف البني للوكاس وهي تمر أمامه لتدخل والتقت عينيهما للحظة. وتساءلت إن كان قد سر لأنها عرفت عن نفسها علي أنها مساعدته الشخصية ليس إلا. ولكن من الصعب فعلاً معرفة ما الذي يدور في خلده.

زونار 25-12-09 02:49 PM

الفصل السابع:
غداً لن تشرق الشمس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قابلهم سلفادور في الردهة. إنه أكبر سناً من زوجته، فماريا في آخر العشرينات، أما هو فيبدو في بداية الأربعينات. شعره الأسود تتخلله خصلات رمادية، وقد بدأ يفقد شعره إلا أنه دافئ وحنون وجذاب.
قال وهو يسلم علي بيني: ( سررت بالتعرف إليك).
بادلته بيني الابتسام، وتمنت مرة أخرى لو أن الظروف مختلفة ولو أنها لا تكذب.
قال سلفادور وهو يستدير ليأخذ الأوراق من لوكاس: ( إذاً هذه هي الأوراق التائهة!).
- نعم، وجدناها أخيراً أمس.
- حسناً سنذهب إلي مكتبي لإلقاء نظرة عليها.
وقبل أن يتمكن أحد من قول أي شيء، سحب سلفادور لوكاس من الغرفة، وقال وهو يغلق الباب خلفهما: ( لن نتأخر سيداتي).
قالت إيما لماريا وهي تضحك:
- آه! يا إلهي! أين سمعنا هذه العبارة من قبل؟ أتذكرين حين ذهبنا إلي فيكنز لقضاء عطلة نهاية الأسبوع وقضي هذان الاثنان طيلة بعد الظهر في العمل؟
- بالكاد... والآن ماذا سنشرب الشاي أم القهوة؟
وابتسمت ماريا لبيني وأشارت إليها لتجلس علي واحدة من الكراسي الجلدية البيضاء.تابعت إيما الكلام من دون أن تعي أن صديقتها تحاول تغيير الموضوع مراعاة لوجود بيني:
- لا بد أنك تذكرين ماريا؟ لقد قضينا وقتاً ممتعاً. كان الفندق رومانسيا للغاية، وقدم لي لوكاس تلك الصور التي أحب عن تلك المنارة القديمة!
- آه! نعم... أذكر شيئاً من هذا القبيل.
وغمزت ماريا إيما لكن تلك الأخيرة لم تلاحظ وذهبت تجلس علي كرسي من الكراسي.
نظرت إيما إلي بيني توضح لها الأمر:
- لقد عارضت وماريا أن يأخذا العمل معنا في الرحلة... أليس كذلك؟ ولكن أنت تعرفين الرجال. بصراحة، أظن أن لوكاس لا يمانع البقاء في مكتب مغلق طيلة أيام. فعندما كنا نتواعد، كنت أشير إلي عمله باسم المرأة الأخرى... ولا أظن أنه تغير الآن.
همست بيني: ( في الحقيقة لا يمكنني الجزم، فأنا لا أعمل لديه منذ فترة طويلة).
أومأت إيما وبدت مسرورة بالرد. وتساءلت بيني إن كانت تلك المرأة تحاول استفزازها بإخبارها عن العلاقة الرومانسية التي جمعت بينهما، أو لعلها تحاول تبرير انفصالهما بإلقائها اللوم علي عمل لوكاس.
حاولت ماريا تغيير الحديث:
- والآن، ماذا يمكنني أن أقدم لكن؟ أتشربين الكولا يا إيزوبيل.
أومأت إيزوبيل.
- وماذا عنكما يا سيدتي.... الشاي أم القهوة؟
ردت بيني بتهذيب: ( أنا لا فرق عندي، سأشرب ما تعدين).
من جهتها قالت إيما بحزم: ( ستكون القهوة رائعة).
وما إن غادرت ماريا الغرفة حتى جلست إيزوبيل علي ركبتي بيني وهمست:
- هل أستطيع الحصول علي الليموناضة عوضاً عن الكولا؟
- لا أعلم،ربما لا تملك ماريا الليموناضة، لم لا تلحقين بها وتسألينها؟
هزت إيزوبيل رأسها نفياً بخجل.
- هل أذهب وأسألها نيابة عنك؟
هزت إيزوبيل رأسها إيجاباً وقد بدت مسرورة بالاقتراح. من جهتها انزعجت إيما مما يجرى. تساءلت بيني لم عساها انزعجت وهي تنزل إيزوبيل عن حضنها!
وجدت بيني ماريا تفتح خزانة في المطبخ الذي يطل علي البحر، قالت بيني عندما استدارت ماريا:
- عذراً علي التطفل ولكن إيزوبيل تتساءل إن كان بوسعها الحصول علي الليموناضة عوضاً عن الكولا؟
فتحت ماريا الثلاجة وتناولت قنينة: ( بالطبع تستطيع. في الواقع أنا مسرورة لأنني تمكنت من الانفراد بك للحظة. أعتذر عما سبق أن حصل... أنت تعرفين. فمحاولة جمع لوكاس وإيما كانت فكرة جنونية. لم أكن أعلم أنه يخرج مع امرأة أخرى).
قالت بيني بصراحة: ( لا داع للاعتذار مني، حقاً.... فأنا لا أخرج مع لوكاس).
لم تبد ماريا مقتنعة تماماً.
- إنه رجل جذاب جداً...
تنهدت بيني، ولكن ولسبب من الأسباب، وجدت نفسها تفضي إليها قائلة: ( بصراحة، لا أظن أنني سأبقي هنا لفترة أطول، ولكنني لم أخبر لوكاس بعد).
- يا للأسف! يبدو أنه يقدرك كثيراً. لقد سمعته يتحدث إلي سلفادور ويخبره كم كنت رائعة معه خلال الأيام الماضية، وكيف أن إيزوبيل متعلقة بك.
شعرت بيني بانقباض في قلبها: ( نعم، سأشتاق كثيراً لإيزوبيل).
نظرت ماريا إليها. فتابعت كلامها وهي تحاول أن تكون عملية.
- ولكن الأمور ليست جيدة بالنسبة لي هنا، لذا يستحسن أن أغادر.
لم تتابع ماريا الحديث بل قالت: ( سيغضب سلفادور مني كثيراً لأنني دعوت إيما، فهو يطلب مني دائماً ألا أتدخل في مشاكل الآخرين. كل ما في الأمر هو أنني شعرت بالأسى عليها. فقد كانت ولوكاس سعيدين لفترة، ولكن فجأة ومن دون سبب قطع علاقته بها. وكنت أتساءل إن كان فعلاً لا يريد الاستمرار معها أو أنه شعر بأنه يتعلق بها فخاف وذعر وقرر الابتعاد. فقد كان متيماً بحب كاي. أيبدو كلامي سخيفاً؟).
همست بيني: ( لا، فكلامك ليس سخيفاً، فمن الممكن جداً أن يكون لوكاس قد فسخ علاقته بإيما لتلك الأسباب التي ذكرتها).
وتذكرت بيني ما قاله لها عن شعوره بالذنب
حسناً، وكما يقول سلفادور، لا دخل لي بالموضوع. ولكن أريد أن يكون لوكاس سعيداً، فهو يستحق السعادة وقد عانى الكثير حتى الآن.
أنهت ماريا تحضير الصينية، فطلبت بيني أن تحملها عنها، وقالت:
- دعيني أساعدك، فأنت تحملين وزناً كافياً.
قالت هذا مشيرة إلي حملها. فضحكت ماريا وربتت علي بطنها: ( أنت محقة).
- متى سيحين موعد ولادتك؟
سألتها بيني وقد سرت بالانتقال إلي موضوع أقل جدية. فهي لا تريد أن تعرف إن كان لوكاس مغرماً بإيما أم لا.
- بعد أسبوعين من الغد.
- لم يعد هناك وقت طويل. هل حضرت كل شيء؟
- آه نعم. حقيبتي جاهزة في غرفة النوم. ففي كل مرة أتأوه فيها ينظر سلفادور إلي الحقيبة ويتساءل إذا حان الوقت لإحضارها ونقلي إلي السيارة.
ضحكت بيني: ( أظن أنكما متوتران).
- في الواقع هو أكثر حماسة وتوتراً مني.
فتحت ماريا باب الردهة لها.
سألت إيزوبيل بخجل ما إن دخلتا الغرفة:
- أكان عندك ليموناضة، عمتي ماريا؟
- نعم حبيبتي.
وتناولت ماريا الكوب من علي الصينية وناولته لإيزوبيل وقالت:
- والآن أخبراني عما كنتما تتحدثان؟
ردت إيما وهي تتناول الفنجان الذي تقدمه لها ماريا:
- كانت إيزوبيل تخبرني أن السيدة غوردن في المستشفي.
- لا!
نظرت ماريا إلي بيني لتستعلم عن الموضوع.
- هذا صحيح، سقطت مساء أمس علي أرض المطبخ واصطحبها لوكاس إلي المستشفي، وهم يبقونها هناك للمعاينة.
بدت ماريا مستاءة: ( يا للمرأة المسكينة).
قالت إيما والباب قد فتح ودخل الرجلان:
- أتساءل كيف يتدبر لوكاس أمره من دونها؟
قال لوكاس: ( أظن بأنكن تتحدثن عن السيدة غوردن!).
- نعم كانت ميلي تخبرنا عنها، أتساءل كيف ستتدبر أمرك من دونها؟
- قد أضطر إلي توظيف شخص ما، ولكن آمل ألا يطول الأمر.
قطع كلام إيزوبيل الحديث وقد عبست:
- أيعني هذا أن شخصاً آخر سيعتني بي؟
رد لوكاس بحذر: ( ربما حبيبتي، ولكن فقط حتى تتعافي السيدة غوردن).
- وهل سيكون شخصاً أعرفه؟
هز لوكاس رأسه: ( لكنك ستتعرفين إليها بسرعة).
بدت إيزوبيل وكأنها علي وشك البكاء:
- ولكنني لا أريد أحداً آخر ما لم أكن أعرفه.
ونظرت إلي بيني ثم قالت بعينين ملؤهما الدموع: ( هلا اعتنيت بي يا ميلي؟).
أيقنت بيني أن عيون الجميع مسلطة عليها، ولكن في الوقت عينه أشفقت علي الطفلة. كانت مستعدة للتضحية بكل شيء لتجيبها نعم، ولكن عوضاً عن ذلك ردت برفق وحنان:
- حسناً، الأمر ليس بهذه السهولة إيزوبيل. ولكن والدك ذكي جداً وسيجد لك شخصاً ممتازاً، أنا واثقة.
وضع لوكاس قهوته جانباً وقام وحمل ابنته ووضعها علي حضنه ثم قال: ( طبعاً سأفعل، كما أن السيدة غوردن ستعود قريباً).
أومأت إيزوبيل، ولكن شفتها السفلى كانت ترتجف.
نظرت بيني من حولها فرأت عيني إيما مسلطتين عليها وأدركت مدى امتعاضها لأن إيزوبيل طلبت من بيني رعايتها.
وسألت ماريا محاولة مرة أخرى تغيير الموضوع: ( إذاً كيف حال الأعمال؟ فأنت لم تبق في المكتب فترة طويلة كما توقعنا!).
- هذا لأن الأمور بدأت تنحل، ومساعدة سلفادور قيمة جداً. فأنا ممتن له جداً لأنه وجد لي بعض الوقت بالرغم من انشغاله.
رد سلفادور: ( ما من داع لتشعر بالامتنان. فما من سبب يحول من تسوية الأمور في نهاية الشهر. فكما أن سبق أن قلت لك، الآن وبعد حصولك علي صك الملكية، ستستملك الأرض في الوقت المحدد، وستبدأ أعمال البناء، فبحسب القوانين المرعية الإجراء في أربودا، ما إن تبدأ أعمال البناء، لن يستطيعوا إلغاء الرخصة. لذلك إن اتفقت مع المقاول الذي يريد شراء المكان وسمحت له بالعمل فوراً فلن يكون هناك من مشكلة).
شعرت بيني بالدوار. إنها هنا قلقة بشأن إيزوبيل وبشأن أمور تافهة كحب لوكاس لإيما في حين أن والدها يوشك علي فقدان المنزل.
سألتها ماريا فجأة: ( ميلي، هل أنت بخير؟ تبدين شاحبة بعض الشيء).
أيقنت أن لوكاس ينظر إليها، فأرغمت نفسها علي الابتسام:
- أعاني صداعاً ليس إلا، سأكون بخير بعد قليل.
سألت ماريا بلطف: ( هل أحضر لك مسكناً للألم وكوب ماء؟).
- لا... شكراً أنا بخير... صدقاً.
نظر لوكاس إلي ساعة يده: ( أظن بأنه علينا الذهاب).
فقالت ماريا: ( لا، لا تذهبوا، كنا نأمل أن تبقوا جميعاً، سيحضر سلفادور المشاوي بعد قليل).
قال لوكاس وهو يقف: ( مرة أخرى ماريا، ولكن شكراً علي الدعوة).
وقف الجميع ورافقوهم حتى باب المدخل.
لاحظت بيني أن إيما أمسكت بذراع لوكاس وشدته نحوها، ثم قالي له بصوت منخفض:
- إن احتجت إلي أية مساعدة، فلا تتردد في الاتصال بي.
- شكراً إيما، هذا لطف منك.
أرادت إيزوبيل أن تنزل من بين ذراعي والدها، فلبي طلبها وركضت نحو فلينت الذي يجلس في الخارج منتظراً بفارغ الصبر خروجهم.
تابعت إيما بإصرار:
- أنا أعني ما أقول، فكما تعلم، أنهي عملي معظم الأيام حوالي الرابعة والنصف، ويسرني أن أعتني بإيزوبيل عنك.
لم تسمع بيني ما كان رد لوكاس لأن فلنت راح ينبح وهو يركض مع إيزوبيل في الحديقة، ولكن من طرف عينها، رأت لوكاس ينحني ويقبل إيما علي خدها، وبسرعة أشاحت بيني بنظرها.
قالت ماريا بصوت منخفض وهي تخرج بالقرب من بيني:
- سررت حقاً بالتعرف إليك وآمل أن نراك مجدداً قبل رحيلك.
ابتسمت بيني: ( سررت أنا أيضاً بالتعرف إليك. وأتمنى لك السلامة في الولادة ولطفلك أيضاً، هل تعرفين أن كان المولود صبياً أم فتاة؟).
- لا، ستكون مفاجأة لنا.
أيد سلفادور زوجته وطوقها بذراعه: ( مفاجأة فعلاً).
قالت بيني وهي تضع حزام الأمان: ( أصدقائك لطيفون).
- نعم، أليس كذلك؟
وسلك لوكاس الطريق نفسها من دون أن يتكلم. وبعد فترة سألها:
- كيف تشعرين الآن؟
- ما زال رأسي يؤلمني.
ولم تكن تكذب، فهي تعاني صداعاً أليماً.
قال لوكاس فوراً: ( سأقلك إلي الفندق ويمكنك الاستراحة لبقية اليوم، لا بد أنك متعبة).
سألت بفضول:
- ماذا عن الأوراق التي كنت تحتاجها؟ ألم تعد مضطراً لإيجادها؟
هز لوكاس رأسه: ( قال سلفادور بأننا نملك ما يكفي من المستندات).
- فهمت.
إذاً حسم الأمر وتلاشت فرصتها الأخيرة لمساعدة والدها. وقد فوتت علي نفسها بضع فرص.... إذ انهمكت في التفكير بلوكاس عوضاً عن التفكير بوالدها. يستحسن بها أن تغادر علي أول رحلة.
سألت إيزوبيل من مؤخرة السيارة: ( هل ستتحسنين لتأخذيني للتسوق؟).
وفجأة داهمها شعور بالذنب.
- نعم، سأنام الليلة جيداً وكل شيء سيكون علي خير ما يرام غداً.
وبالرغم مما قالته عرفت أن الأمور لن تكون بخير غداً، بل ستزداد سوءاً. فغداً هو الاثنين، ولا بد أن ميلدريد بانكروفت الحقيقية ستظهر. كما أن سلفادور سيرسل ورقة الإخلاء غداً لوالدها، مما سيقضي علي كافة آمال الرجل المسكين. نعم غداً سيكون يوماً سيئاً فعلاً.
غرقت بيني في الصمت... تفكر بمستقبل لن تجد قيه لوكاس أو إيزوبيل.
عندما وصل لوكاس إلي ضواحي سان خوان علق في زحمة سير رهيبة، كانت الشوارع ملئي بأشخاص يرتدون ملابس ملونة فضفاضة.
منتديات ليلاس
قال لوكاس وهو يهز رأسه: ( لا بد أنه ثمة كرنفال ما اليوم، قد نستغرق بعض الوقت لنصل إلي الفندق الذي تنزلين فيه).
ردت بيني بسرعة:
- أنزلني هنا، وسأمضي مشياً فأنا أحتاج إلي بعض الهواء النقي.
نظر إليها لوكاس:
- هل أنت واثقة؟ فإن كان رأسك يؤلمك، لا يفترض بك أن تسيري في الحر.
أصرت بيني: ( حقاً لوكاس، أنزلني هنا، سيفيدني السير).
أوقف لوكاس السيارة بعيداً عن الحشود تحت ظل شجرة صنوبر:
- سنوصلك أنا وإيزوبيل.
نظرت بيني إلي المقعد الخلفي:
- أظن بأن إيزوبيل قد نالت نصيبها من الإثارة اليوم.
نظر لوكاس إلي الخلف، فرأي إيزوبيل نائمة وقد استعملت بطن فلينت كوسادة.
ابتسم: ( أظنك محقة).
- علي كل حال شكراً علي الغداء الرائع، وسأراك غداً صباحاً في المكتب.
مد لوكاس يده وأمسك بيدها وهي تستدير لتغادر.
- ألم تنسي شيئاً؟
- لا أظن ذلك.
بدا وكأن قلبها سيقفز من مكانه، واتسعت عيناها الخضراوان. أتراه سيعانقها؟ كانت هذه الفكرة كافية لإرسال الدم إلي رأسها.
- حقيبة يدك.
لم تصدق بأنها أوشكت علي نسيانها! فهذا دليل واضح علي اضطرابها.
- آه! نعم! عذراً.
وتناولتها منه وتساءلت إن عرف ما تفكر به حول العناق. مدت يدها إلي مقبض الباب مجدداً، وقالت: ( شكراً لك).
- ميلي؟
ونظرت من حولها تتساءل ماذا نسيت هذه المرة. وعندها أقترب نحوها وعانقها، وكان عناقه ناعماً ورقيقاً ولكنه أثار فيها مشاعر قوية صاخبة جعلتها ترتجف.
همس وهو يرجع إلي الوراء:
- شكراً علي قضائك اليوم معنا وتصرفك بلطف بالغ مع إيزوبيل.
همست وهي تحاول استعادة رباطة جأشها: ( لم يكن الأمر صعباً، فهي طفلة رائعة).
ابتسم: ( وأنا أيضاً أظن هذا ولكنني متحيز).
حدقت إلي عينيه السوداوين وأيقنت فجأة أنها مغرمة به.
ابتلعت ريقها بصعوبة: ( علي كل حال، علي أن أرحل. أراك غداً في المكتب).
- نعم، أراك غداً.
نظر إليها تخرج من السيارة ثم قال لها:
- آمل أن يزول صداعك، تناولي حبة أسبيرين.
تحتاج إلي أكثر من الأسبرين لتشفي من علتها، فكرت بهذا وهي تسير غاضبة بعيداً عنه وتدخل بين الجموع المحتشدة في الشارع.
عندما وصلت بيني إلي الفندق توجهت إلي غرفتها، ثم استلقت علي السرير تحدق إلي السقف وتحاول إيجاد حل لوضعها.
قالت لنفسها مراراً وتكراراً أنها ليست مغرمة بلوكاس، ولتثبت ذلك لنفسها تناولت دليل الهاتف من علي المنضدة وبحثت عن رقم المطار. لقد انتهي وقتها هنا. ستحجز علي متن رحلة الغد. وبعزم رفعت سماعة الهاتف الموضوع قرب سريرها.
أنجزت المهمة، غداً في الثانية عشرة إلا ربع مساء ستسافر إلي أربودا لتدعم والدها وتساعده.
كان من المفترض أن تعزيها هذه الفكرة، فهي تفعل أخيراً الشيء الصحيح. ما كان يفترض بها أن تأتي إلي هنا أصلاً. وتخيلت ما سيكون موقف والدها لو عرف... سيتحطم فعلاً. لا، لوكاس ليس مقدراً لها. علي كل حال، سيسعد أكثر مع إيما... فهي تحبه بجنون وتبدو حنونة مع إيزوبيل.
استدارت بيني، ودفنت وجهها في الوسادة، وحاولت تجنب آلام رأسها الحادة.
* * *

زونار 25-12-09 02:50 PM

الفصل الثامن:
ساعة الحساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بدا من الظلم أن تشرق الشمس في حين يخيم الظلام علي قلب بيني. حتى أن التحية الصباحية الحنونة التي أطلقتها شونا، لم تغير مزاجها.
ابتسمت بيني ابتسامة جافة: ( صباح الخير شونا).
ردت المرأة: ( هل أنت بخير؟ تبدين شاحبة بعض الشيء).
- أنا بخير. هل وصل لوكاس؟
- آه نعم، وصل لوكاس قبلي كالعادة.
ولكنه ليس في مزاج هادئ هذا الصباح، لذا أنصحك بعدم إزعاجه.
عبست بيني: ( أحقاً؟ ما خطبه؟).
تنهدت شونا.
- لا أعرف. كان يتحدث عبر الهاتف عندما وصلت. لعل الأمر متعلق بذلك الاتصال الهاتفي.
مررت بيني يداً ترتجف فوق فستانها الزهري الفاتح وحاولت تحضير نفسها للدخول إلي مكتبه ومواجهته. قررت أن تصارحه بالحقيقة قبل أن تغادر، أي هذا الصباح أو بعد الظهر بعد أن تصطحب إيزوبيل للتسوق.
قالت شونا وهي تنظر عابسة إلي كومة من الأوراق المكدسة أمامها: ( وصلنا الكثير من البريد).
سألت بيني محاولة تجنب مقابلة لوكاس:
- هل تريدينني أن أساعدك في الاطلاع علي البريد؟
فإن كان مزاج لوكاس معكرا، فربما يستحسن بها الانتظار قبل أن تبوح له بالحقيقة.
- شكراً لك.
قالت هذا وهي تمرر لها نصف الأوراق المكدسة أمامها، ثم سألتها: ( إذا كيف كانت عطلة نهاية الأسبوع؟)
حاولت بيني عدم تذكر العطلة المليئة بالشغف والغداء الرائع، فردت: ( لا بأس، ماذا عنك؟)
لوحت شونا بيدها أمام عيني بيني، فلاحظت تلك الأخيرة الخاتم في يدها: ( لقد عرض بول علي الزواج).
- آه! شونا! هذا رائع، تهاني.
- شكراً لك! كم أنا مسرورة، فأنا أعشقه.
قالت بيني بحنان: ( أنا مسرورة جداً لك، وهل حددتما موعداً للزفاف؟).
- نفكر في حجز أول موعد متوفر في الكنيسة، فأنا لا أريد الانتظار. ولكن والدتي قلقة بعض الشيء وتفضل أن تطيل فترة الخطوبة، فنحن لا نعرف بعضنا منذ وقت طويل. ولكنني قلت لها عندما تقابل الفتاة الرجل المناسب لها والذي ترغب بقضاء بقية عمرها معه، فهي ترغب بأن يبدأ بقية عمرها في أسرع وقت ممكن... وعلي كل حال، لقد عرفت منذ اللحظة الأولي التي تعرفت فيها إلي بول أنه رجل أحلامي. نظرت إلي عينيه فحسب، وعلقت في حبه.
تذكرت بيني يوم دخلت إلي مكتب لوكاس الأسبوع الفائت وأول مرة نظرت إلي عينيه. لقد حدث شيء ما في تلك اللحظة. شيء سري! آه! كم حاولت ادعاء العكس... وإقناع نفسها بأن الانقباض الذي تشعر به في قلبها وتسارع نبضها كلها أمور من نسج خيالها. ولكن هذا غير صحيحا. إنها مغرمة به، وقد وقعت في حبه منذ اليوم الأول للقائهما. صحيح أن حبها هذا جنون مطبق وخيانة عظمى لوالدها، ولكنها عاجزة عن كبح مشاعرها.
حدقت بيني إلي المغلفات الموضوعة أمامها وحاولت التصرف بعقلانية وطرد هذه الأفكار من عقلها، ولكن من دون جدوى.
رن الهاتف فأجابت شونا، أما بيني فجلست علي كرسي وراحت تطلع علي البريد.
وفجأة فتح الباب ودخلت امرأة.
- هل لي بمساعدتك؟
سمعت بيني شونا تسأل بتهذيب، لكنها لم تستدر فقد كانت تفرز البريد.
ردت المرأة:
- ميلدريد بانكروفت، جئت أري السيد داريان.
شعرت بيني بأن الدم تجمد في عروقها ونظرت مرعوبة.
كانت شونا تحدق إلي المرأة باستغراب.
- عذراً؟ أقلت أنك تريدين رؤية ميلدريد أو السيد داريان؟
عبست المرأة، فهي تبدو كمديرة مدرسة قديمة الطراز تقاصص التلامذة وتبث الرعب في قلوبهم. كان شعرها الرمادي مشدوداً إلي الخلف بطريقة جدية، وكانت ترتدي قميصاً أبيض وتنوره سوداء.
قالت بنبرة جافة: ( أظنك أسأت الفهم أيتها الشابة، أنا ميلدريد بانكروفت وجئت أرى السيد داريان).
فتحت شونا فمها عاجزة عن التفوه بكلمة ونظرت نحو بيني، لو لم يكن الوضع حرجاً إلي هذا الحد لكانت ضحكت للتعبير الذي علا وجه شونا، ولكن، لسوء الحظ، فمزاج بيني لا يسمح لها بالضحك.
تمتمت بيني بحذر: ( يستحسن بك إخبار لوكاس أنها وصلت).
وقبل أن تتمكن أي واحدة منهما من التحرك، فتح باب مكتب لوكاس وظهر ذلك الأخير وقد علت وجهه تعابير لم يسبق لبيني أن رأتها مما زاد من حدة توترها.
قالت المرأة بأمل: ( آه، لا بد أنك السيد داريان، لقد اتصلت بك منذ قليل).
رد لوكاس بثقل: ( نعم... ميلدريد بانكروفت أليس كذلك؟).
مشت المرأة حول المكتب ومدت يدها: ( هذا صحيح. يسرني أنني التقيتك أخيراً).
- وأنا أيضاً.
سلم لوكاس عليها ودلها إلي مكتبه. وللحظة التقت عيناه بعيني بيني. جاءت نظرته باردة وقاسية، ومختلفة تمام الاختلاف عن الطريقة التي نظر فيها إليها البارحة، ثم قال لها بقسوة:
- يمكنك الدخول بعد أن أنتهي مع السيدة بانكروفت.
وبدا كلامه أمراً أكثر منه دعوة، ثم دخل مكتبه وأقفل الباب بحزم.
استدارت شونا لتنظر إلي بيني:
- حسناً! ماذا يجري بحق السماء؟ وإن كانت هي ميلدريد بانكروفت فمن تكونين أنت؟
مررت بيني يداً ترتجف علي شعرها:
- آسفة شونا! كل ما في الأمر هو أنك تستخلصين الأمور بطريقة خاطئة عندما أتيت لأري لوكاس ذلك اليوم، وكنت يائسة جداً فجاريت الموضوع.
اتسعت عينا شونا بذهول: ( آه! يا إلهي! أأنت عاطلة عن العمل منذ فترة طويلة؟).
- لا... أنا...
تنهدت بيني يائسة. فهي لم ترد إخبار شونا بالموضوع قبل أن يتسنى لها المجال لتتكلم مع لوكاس.
قالت شونا برقة: ( اسمعي، لا تقلقي للأمر، أنا واثقة من أن السيد داريان سيسامحك لأنك، والحق يقال، بارعة جداً في عملك، وقد تحسنت الأمور كثيراً منذ مجيئك).
- شكراً شونا.
ابتسمت بيني للمرأة شاكرة ممتنة، وتمنت لو كانت الأمور بهذه البساطة.
- كما أنه لن يوظف تلك العجوز الشمطاء! هل رأيت كيف نظرت إلي باستعلاء؟ يا لها من متكبرة، من تخال نفسها؟
- تخال نفسها ميلدريد بانكروفت.
نظرت إليها شونا وضحكت. وفوراً، فتح باب المكتب وظهرت ميلدريد بانكروفت.
وبرأس شامخ إلي الأعلى، مشت قربهما من دون أن تنظر إليهما وخرجت من المكتب.
ترك باب مكتب لوكاس مفتوحاً علي مصراعيه، ولكن لم يظهر أي أثر للوكاس.
همست شونا: ( ماذا حصل برأيك؟).
هزت بيني كتفيها، وصدر صوت من الداخل: ( ميلي، تفضلي إلي هنا).
انقبضت معدة بيني، ووقفت.
همست شونا: ( حظاً سعيداً).
- شكراً... أشعر بأنني سأحتاج إلي الحظ.
كان لوكاس جالساً وراء مكتبه ورأسه محني يطلع علي ملاحظات ما دونها علي ورقة أمامه. قال لها بحزم من دون أن ينظر إليها حتى: ( أغلقي الباب).
نفذت ما طلبه منها ثم اتجهت نحو المكتب. لم ينظر لوكاس إليها بعد.
قالت بسرعة: ( قبل أن تبدأ بتأنيبي، أود أن أقول لك إني آسفة كنت مخطئة، وأنا أعتذر بشدة).
رمى لوكاس القلم من يده ورجع إلي الوراء. والتقت عينيهما.
صعب عليها أن تعرف ما الذي يجول في فكره. بدا هادئاً للغاية، ولكن صمته هو الذي أخافها. يا ليته صاح وصرخ عليها لكانت تجاوبت معه أكثر! ولكن هذه النظرة التي تراها في عينيه تمزقها في الصميم، فإن كان ينظر لها هكذا الآن، فماذا سيفعل ما إن يعرف أنها ابنة ويليم كينيدي؟
حاولت مجدداً: ( اسمع، أنا آسفة فعلاً! لم أخطط لأنتحل شخصية شخص آخر، ولست بامرأة غير شريفة).
ثني يديه، وسألها بهدوء: ( إذاً، من أنت؟).
قفز قلبها في صدرها وشعرت بركبتيها ترتجفان. جلست علي الكرسي قبالته، وقالت: ( يمكنك أن تناديني بيني!).
رد بسخرية: ( آه! حقاً! وما هذا؟ اسم مستعار آخر؟ هل ستدخل بيني الحقيقية بعد بضعة أيام؟).
ردت بانزعاج:
- لا تكن سخيفاً! اسمع أنا آسفة.... حاولت أن أقول لك أنني لست ميلدريد عندما حضرت إلي مكتبك الأسبوع الفائت، ولكنك لم تمنحني المجال. فقد كنت بحاجة ماسة إلي من يساعدك، أتذكر؟
قال وقد رفع حاجبيه باستغراب:
- آه، وقد أحسنت إلي كذلك؟ فأنت تهوين الأعمال الاجتماعية والخيرية أليس كذلك؟
تنهدت بعجز: ( لا... طبعاً لا. لقد نظرت إلي...و... لا أعرف... وجدت نفسي أغرق في الأكاذيب).
رد بنعومة: ( أظن أن العديد من الفرص قد أتيحت لك كي تخبريني الحقيقة، ولكنك لم تستغلي أية واحدة منها).
احمرت وجنتاها وردت بخجل: ( لا... أنت محق، لم أفعل).
نظر إليها ببرودة: ( إذاً ما الذي منعك من ذلك؟).
ردت: ( أظن أنه الخوف من أن تنظر إلي كما تفعل الآن).
وساد صمت للحظات، وتابعت بصعوبة: ( أنا فقط..).
- بحاجة ماسة إلي العمل.
- لا... كنت سأقول أنني علقت في الوضع. فقد سألتني إن كنت أستطيع البدء بالعمل فوراً، ووجدت نفسي أوافق. كان تصرفاً مجنوناً، فقد كنت واثقة أن ميلدريد الحقيقية ستظهر إن عاجلاً أو آجلا، ولكن...
- ولكن ظننت أنك ستثبتين نفسك حتى مجيئها فيصعب عندها الاستغناء عنك.
ردت وهي تنظر إليه بتلك العينان الخضراوان الخلابتان:
- لم أكن سأقول هذا، وأرجوك توقف عن إنهاء جملي عني.
- اسمعي، لست في وضع يسمح لك بإملاء شروطك علي. حسناً، ماذا جرى؟ هل أرسلت الوكالة في طلبك وعندما وصلت إلي هنا وجدت أن الوظيفة قد منحت لشخص آخر؟ اسمعي، أفهم سبب استياءك، فقد قطعت مسافة طويلة لتصلي إلي هنا. كان حرى بك أن تخبريني الحقيقة، لم يكن يفترض بك تكبد كل هذا العناء للحصول علي الوظيفة، لأنه نظراً للاختيار بينك وبين ميلدريد الحقيقية، فقد كنت لأوظفك أنت حتماً.
- أحقاً؟
شعرت بنبضات قلبها تتسارع واجتاحتها مشاعر متناقضة.
وتساءلت: ( وأين كانت علي أية حال؟).
- التزامات عائلية أجبرتها علي البقاء في باربادوس لفترة أطول مما توقعت.
هز لوكاس رأسه وتابع:
- أتتخيلين؟ طنت أنها تستطع الدخول إلي هنا بعد أيام من التأخير من دون الاتصال للاعتذار أقلة، علي كل حال قلت لها إن الوكالة أرسلت لي شخصاً آخر لأنني لم أستطع انتظارها.
حدقت إليه بيني مذهولة: ( آه! أتعني أنك طردتها؟).
تنهد لوكاس: ( ليس بكل ما للكلمة من معنى! لقد عقدنا اجتماعاً ودياً، وفهمت المعضلة التي أعانيها. حاولت إخباري بأنها أرسلت لي رسالة تخبرني فيها بتاريخ قدومها، ولكنني لم أستلم الرسالة، وعلي كل حال، وبصراحة لقد فات الأوان).
منتديات ليلاس
ربت بأصابعه علي المكتب وقد نفذ صبره:
- أتصدقين أنها قالت لي أن عاملة الاستقبال ليست بالفعالية المطلوبة؟ يا لها من وقحة! ما كانت لتناسب العمل في هذا المكتب علي أية حال!
عضت بيني شفتها السفلى: ( إذاً، لن تعود؟).
ابتسم: ( لا، لن تعود! لقد أخبرتك بهذا لتوى!)
نظرت إليه بيني والذنب يتآكلها. لقد تسببت بأن تفقد المرأة عملها.
- فهمت! أتظن أنك قد تسرعت قليلاً؟ هل تملك رقماً تتصل بها عليه؟
حسم لوكاس الأمر: ( لا أحتاج إلي رقم هاتفها لأنني لن أتصل بها. لذا... أظنني أحاول أن أقول لك أنك إن أردت الوظيفة فهي لك).
جلست بيني صامتة صمت القبور، فهي لم تتوقع هذا.
تابع يقول: ( أنا لا أحب الكذب... بمختلف أشكاله. ولكنني فكرت بالأمر وأفهم سبب استياءك، فقد سافرت كل تلك المسافة لتجدي أن الوظيفة التي أردتها قد منحت لشخص آخر. لذا...).
ووقف عن كرسيه وتوجه نحوها، وأكمل كلامه: ( لقد غضضت النظر عن تصرفك هذه المرة، إذاً ما رأيك؟ هل نبدأ من البداية؟).
كانت بيني مستعدة لوهب حياتها مقابل أن تقول له نعم.... ولكن كيف عساها تفعل هذا؟ فهي لا تنتمي إلي هذا المكان. إنها تنتمي إلي أربودا. مع والدها. أو مع السفينة مع الطاقم... كل هذا كذب.
قالت: ( الأمر أكثر تعقيداً مما تتصور).
- لا، كل ما كان عليك فعله هو إخباري الحقيقة منذ البداية ليس إلا... يا بيني.
قفز قلبها من مكانه فرحاً لسماعه ينادي اسمها. بدا اسمها رقيقاً عذباً... وأجبرت نفسها علي عدم الاسترسال خلف الأفكار الرومانسية التي بدأت تراودها.
- أعلم هذا.
وساد صمت طويل حاولت خلاله استجماع قوتها. عليها إخباره كل شيء. ربما إن وضعت نفسها في تصرفه فسيستجيب لها ويصبر علي والدها. أو لا... ولعل هذا سيزيد الأمور سوءاً بالنسبة لوالدها.
وتجمدت لهذه الفكرة... فالكذب بشأن اسمها أمر سيء... أما الكذب بشأن سبب وجودها هنا، فأمر أسوأ.
- الواقع هو أنني أشعر بذنب كبير لأنني جعلت ميلدريد بانكروفت تفقد وظيفتها.
رد لوكاس بحزم:
- لا تقلقي لهذا الأمر. فلو لم تحضري في الوقت الذي حضرت فيه، كنت سأستدعي شخصاً آخر، فلم أكن سأنتظر أكثر. والآن بعد أن أوضحنا كل شيء، فهل ستبقي هنا وتعملين كمساعدتي الشخصية؟
كان قلبها يخفق بسرعة. رطبت شفتيها بتوتر وأخذت نفساً عميقاً، ثم قالت: ( لا أستطيع يا لوكاس، أنا آسفة).
عبس، ومرت بضعة لحظات قبل أن يقول لها: ( هل تمانعين بإخباري عن السبب؟).
- لدي أسباب شخصية، كما أنني لا أرى بأن الأمور تسير بشكل جيد هنا.
أجبرت نفسها علي الكلام وهي ترتجف كالورقة.
- ألكلامك هذا دخل بالعواطف؟
احمرت للطريقة المباشرة التي طرح فيها السؤال عليها ولأن نظره مسمر عليها أيضاً، قالت:
- لا، طبعاً لا.
- هل أنت واثقة؟
- طبعاً أنا واثقة.
كان قريباً جداً منها، فلو حركت رجلها ستصطدم برجله حتماً.
- أظن أن ما جرى بيننا سيء علي الصعيد العملي، ولكن...
وتوقف عن الكلام عندما رن الهاتف علي مكتبه.
- شونا هلا قطعت الاتصالات عني؟
قاطعته بسرعة قبل أن يتمكن من قول المزيد:
- لا دخل لكلامي هذا بما جرى بيننا، قلت لك... وقد نسيت الموضوع تماماً.
رفع حاجبه وقال ببرودة: ( أحقاً؟).
- نعم.
والتقت عينيهما للحظة قبل أن تشيح بنظرها سريعاً.
قال بلطف: ( بيني؟).
وفيما أشاحت بنظرها بعيداً عنه رفع يده ووضعها علي خدها ورفع وجهها نحوه فأجبرت علي النظر إليه، أسرتها عيناه فشعرت وكأنهما تنفذان إلي عمق روحها.
- هلا بقيت حتى أجد بديلاً عنك؟
جاء السؤال المتعلق بالأعمال غريباً جداً مقارنة بنبرة صوته.
همست وهي تبتعد عنه: ( لا أظن أنني أستطيع).
بالرغم من أنه لم يعد يلمسها، ما زالت تشعر بدفء لمسته علي وجهها. سمع قرع عند الباب:
- سيد داريان، إنه الاتصال الذي كنت تنتظر وروده من أربودا.
وجال نظر شونا علي بيني ولوكاس ولاحظت أنه ليس جالساً إلي مكتبه بل هو واقف قربها.
رد لوكاس بهدوء: ( قولي له إنني سأتصل به).
- أظن بأن الاتصال هام، فقد بدا مضطرباً وأصر علي الحديث معك.
رد لوكاس بحزم: ( قولي له إنني سأتصل به بعد قليل).
خرجت شونا وأغلقت الباب.
سأل لوكاس بيني كما لو أن أحداً لم يقاطع حديثهما:
- إذاً، هل ستخبرينني عن سبب رفضك؟
أخذت بيني نفساً عميقاً والتزمت بالحقيقة قدر ما استطاعت:
- يعاني والدي مشكلة كبيرة وعلي الذهاب إلي المنزل لمساعدته.
لم يقل لوكاس شيئاً بل اكتفي بالنظر إليها، فتابعت:
- أخبرتك عنه، أتذكر؟
- نعم، أذكر.
وقف عن حافة المكتب وعاد إلي كرسيه وقال:
- حسناً سأمهلك بضعة أسابيع لتحلي المسألة مع والدك، ثم أريدك أن تعودي.فعندي عمل كثير في منتصف الشهر المقبل، فهل تستطيعين العودة قبل هذا التاريخ؟
ترددت بيني، ثم هزت رأسها. ما من جدوى من مناقشة هذا الموضوع فقد حجزت علي متن الرحلة المتوجهة إلي أربودا هذا المساء، وهي لن تعود إلي هنا.
وغيرت الموضوع فسألته: ( في أية ساعة تريدني أن أصطحب إيزوبيل للتسوق؟).
نظر إليها لوكاس: ( ظننت أنه بمقدورنا المغادرة باكراً واصطحابها من المدرسة).
سألت مفاجئة: ( هل أنت قادما معنا؟).
ابتسم: ( طبعاً أنا قادم، فأنتما بحاجة إلي من يقلكما ويحمل الأكياس، أليس كذلك؟).
رن جرس الهاتف مجدداً، ثم توقف إذ أجابت شونا ثم دخلت المكتب مجدداً وقالت بنبرة يائسة:
- إنه المقاول مجدداً.
تناول لوكاس سماعة الهاتف:
- مرحباً جون، كيف حالك؟ أجل أعتذر فقد كنت في اجتماع هام مع واحد من طاقم الموظفين لدي.
ونظر إلي بيني مبتسماً. لم تبادله الابتسام، فقد كان الذنب يتآكلها لأنها كذبت عليه. إلا أنه لا يشعر بالذنب أبداً لما يفعله بوالدها.
أبعدت كرسيها عن المكتب. فكلما أسرعت في الابتعاد عنه ونسيانه كلما كان ذلك أفضل.
* * *

زونار 25-12-09 02:51 PM

الفصل التاسع:
– لو يتوقف الزمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دارت إيزوبيل المرة تلو الأخرى وهي ترفع يديها إلي الأعلى وترتدي فستاناً أبيض طويل، وشعرها الأسود يدور ويهتز.
سألت متحمسة: ( ما رأيك يا ميلي؟).
- رأي أنك ستشعرين بالدوار وتقعين أرضاً. قفي جامدة للحظة.
فعلت الطفلة ما طلبته منها بيني. بدت كملاك صغير. كانت حاشية الفستان رائعة وأكمامه القصيرة المطرزة أضفت عليه رونقاً وجمالاً. رفعت إيزوبيل رأسها نحو بيني، وقد أزهرت وجنتاها ولمعت عيناها وهي تبتسم متوترة، وسألت: ( ما رأيك؟).
- أظنك تبدين أروع أميرة جنية في العالم.
ابتسمت بيني ثم انحنت وقبلت جبين الطفلة.
عانقتها إيزوبيل بحرارة وقالت: ( انتظري حتى تري جينا فريدريك فستاني).
- ستندهش كثيراً، وكما أظن فإن والدك سيندهش أيضاً.
- أنا مندهش فعلاً.
قال لوكاس هذا، وقد فاجئهما ظهوره خلفهما. فقد أطل برأسه من الباب المؤدي إلي غرفة تغيير الملابس.
قالت إيزوبيل
وهي تهز إصبعها نحوه رافضة تصرفه هذا:
- لا يسمح لك بالدخول إلي هنا أبي، فهذا المكان مخصص للفتيات فحسب.
- لا أظنني سأري شيئاً لا يفترض بي رؤيته. هيا أخرجي حتى ألقي نظرة كاملة علي الفستان، فقد بدأت أشعر بالوحدة هنا.
وخرجت إيزوبيل إلي الردهة الرئيسية في المحل، وأثارت إعجاب العاملات في المحل اللواتي أتين يتفرجن علي الفستان.
قالت بيني للوكاس وهي تقف بجانبه وإيزوبيل تتبختر أمام المرآة:
- تبدو رائعة أليس كذلك؟
وافق لوكاس علي كلامها ثم ابتسم لبيني: ( نعم، أنها رائعة. كما أنك محقة، فهذا الفستان يستحق عناء البحث عنه في مختلف المحال التجارية في المنطقة).
- أنت تتعلم بسرعة.
ضحكت بيني. فقد تذمر لوكاس عندما رفضت الآنستان الفستان تلو الآخر. وأوشك أن يوقف عملية التسوق إذ أنهما تنقلتا من محل إلي آخر. ولكن بيني أصرت علي أن تجد بيني فستانها اليوم بالذات. فقد أرادت أن تصعد إلي الطائرة، وهي تعلم بأنها أنجزت شيئاً من رؤيتها، حتى ولو كان هذا الشيء صغيراً كإسعاد فتاة.
قالت بيني بخفة ومزاح:
- عليك أن تتمتع بالقدرة علي التحمل عندما ترافق الفتيات للتسوق، أليس هذا صحيحاً يا إيزوبيل؟
أومأت إيزوبيل فرحة، رد لوكاس بحزم:
- حسناً، لقد أثبت وجهة نظرك ولكن حان وقت تناول الطعام الآن، ثمة مطعم صغير ممتاز علي مقربة من هنا.
قاطعته إيزوبيل:
- ولكنني لم أشتر الجناحين بعد يا أبي، لا أستطيع أن أكون أميرة جنية من دون جناحين.
ردت بيني :
- لا أظن أننا سنتمكن من إيجاد الجناحين في متجر ما. اسمعي ماذا سنفعل، سنجد محلاً لبيع السلع الصغيرة ونشتري من عنده بعض الأسلاك المعدنية والأدوات وسأصنع لك جناحين رائعين.
رد لوكاس: ( ما من نهاية لمواهبك، أليس كذلك؟).
ردت بيني تمازحه مبتسمة: ( لا، لا أظن هذا).
بادلها الابتسام، وما إن التقت عينيهما حتى شعرت بأن قلبها توقف عن الخفقان. فأشاحت بنظرها بسرعة. لا يمكن لها السماح لنفسها بالتفكير بمدى وسامته... لأنه يستحيل عليها أن ترتبط به، فهو لوكاس داريان. وشعرت بألم يعصر قلبها.
سألت إيزوبيل بقلق: ( متى ستصنعين لي الجناحين؟).
وعدت بيني: ( الليلة).
قال لها لوكاس: ( لست مضطرة إلي صنعها بهذه السرعة، فالمسرحية بعد ثلاثة أسابيع).
- حتى ولو كان هذا صحيحاً، فيستحسن الانتهاء منهما الآن.
أومأت الفتاة فرحة. واقترح لوكاس:
- حسناً، بما أنك ستكونين منهمكة في تحضير زى ابنتي، فما رأيك لو أحضر لنا العشاء في المنزل؟
ترددت بيني. كانت خطتها أن تقضي بأن تصنع الجناحين لأيزوبيل في غرفتها في الفندق، ثم تتركهما علي عتبة باب لوكاس وهي في طريقها إلي المطار. ولكن بدا من المنطقي أكثر أن تصنع الجناحين في منزله ثم تغادر.
قالت بيني: ( حسناً اتفقنا).
وبعد حوالي نصف الساعة عادوا جميعاً إلي منزل لوكاس وهم يحملون الكثير من الأكياس.
قال لوكاس وهو يضع الأغراض في المطبخ:
- لا أعلم رأيك لكنني أحتاج فعلاً إلي شراب منعش، ما رأيك بكوب من عصير الليمون البارد؟
- شكراً أود ذلك كثيراً.
تناولت بيني الكيس الذي وضع فيه فستان إيزوبيل وناولته لها:
- يستحسن بك الذهاب لتعليقه في الخزانة قبل أن يتجعد.
ردت الفتاة فرحة: ( نعم ميلي).
- إيزوبيل؟
توقفت الفتاة واستدارت، فقالت لها بيني:
- يمكنك مناداتي بيني إن شئت، فهكذا يناديني أصدقائي.
أخذت الفتاة تفكر للحظة، ثم أجابت:
- أفضل أسم ميلي، هل أستطيع الاستمرار بمناداتك ميلي؟
ردت بيني مندهشة: ( نعم، إن شئت).
- جيد.
ابتسمت الفتاة وغادرت راكضة.
تمتم لوكاس: ( أتساءل عن السبب وراء هذا؟).
تنهدت بيني: ( لا أدري، لعلها تستغرب مناداتي باسمين مختلفين).
رد لوكاس ممازحاً: ( لا أستغرب هذا، فقد شعرت بالضياع لمناداتي عليك باسمين مختلفين!).
- حسناً، أعتذر عن هذا.
- لا بأس، لكن آمل أن لا تمانعي إن ناديتك ميلي سهواً. فأنا أميل إلي التفكير بك تحت اسم ميلي.
طمأنته وقد ارتسمت علي شفتاها شبه ابتسامة: ( إن زل لسانك فسأسامحك).
ولكن عندما التقت عينيهما مجدداً، شعرت كأنها فقدت اتزانها.
ابتسم لها وقال: ( شكراً لك لأنك ساعدت إيزوبيل اليوم. لا أعلم ما كنا لنفعل من دونك).
- أنا علي ثقة من أنك كنت لتتدبر أمرك.
استدارت وحاولت إلهاء نفسها في التفتيش في الأكياس الموضوعة علي الطاولة، ثم قالت:
- أظن بأنه علي البدء بصنع زى إيزوبيل.
- يمكنك العمل علي هذه الطاولة إن شئت.
قال هذا وهو يساعدها علي إفساح المجال علي الطاولة وإزاحة الأكياس جانباً.
- لا أريد اعتراض الطريق وإلهاؤك عن الطهي.
- لا تخافي لن تعترضي طريقي. كما أنني بحاجة إلي بعض الدعم المعنوي، فأنا لا أجيد الطهي كثيراً. في الواقع لقد حرقت عشاءنا البارحة ولم أكن أحضر سوى الهمبرجر والسلطة.
- ماذا أحرقت اللحم أم الخس؟
- لست عديم الخبرة إلي هذا الحد، ولأثبت لك كلامي، سأحضر تحفة فنية هذا المساء. كل ما أحتاجه هو شاهد... وبعض النصائح أيضاً.
- أنت تسأل الشخص الخطأ، فأنا لست بطاهية ممتازة.
خلع لوكاس سترته وطوي قميصه واستعد للبدء بالعمل. أما هي فشغلت نفسها بإحضار المواد التي تحتاجها كيلا تنظر إلي لوكاس الذي يبدو خلاباً.
سألت محاولة تغيير الموضوع: ( كيف حال السيدة غوردن؟).
- إنها بخير، لقد اتصلت بالمستشفي هذا الصباح وقالوا لي بأنها نامت جيداً أمس. وقد أخبروني بأنها قد لا تحتاج لإجراء عملية لوركها وبأن العلاج الفيزيائي كفيل بجعلها تتحسن. ولكن عليها أن ترتاح لبضعة أسابيع.
- ستشتاق إليها حتماً.
فتح لوكاس البراد وتناول بعض الخضار، ثم رد:
- أتمزحين؟ سآخذ إيزوبيل لزيارتها مساء غد. تعالي معنا إن شئت.
- هذه ليست بفكرة سديدة، لعلها ليست مستعدة لاستقبال هذا العدد من الزوار دفعة واحدة.
- حسناً سأستعلم وأخبرك غداً.
غداً ستكون في أربودا. وقد لا ترى لوكاس أو إيزوبيل بعد ذلك. سألته محاولة تسليط الضوء علي السبب الذي يحول دون بقائها هنا: ( إذاً كيف تجرى معاملات إخلاء المنزل في أربودا؟ لقد قضيت وقتاً طويلاً علي الهاتف اليوم!).
- هذا بسبب وجود الكثير من الأمور التي تستوجب الحل.
- هل أرسل سلفادور أمر الإخلاء بعد؟
- تبدين معارضة جداً للموضوع.
توقف عند الطاولة، وعندما لم تجبه أو تنظر ناحيته، تقدم منها ووضع يده علي ذقنها يرغمها علي النظر إليه.
قالت بحذر: ( أنا أعارض هذا الموضوع، فقد سبق أن أخبرتك هذا).
- وأنا أيضاً قلت لك أنها مجرد أعمال. فالاستحواذ علي أملاك أحدهم ليس بالأمر الجميل لكنه واقع.
ابتعدت عنه غاضبة. ولكن في الواقع كانت غاضبة أكثر من نفسها، لأنها وبالرغم من موضوع الحديث المزعج، فهي تشعر بالانجذاب نحوه وتتوق إليه. وصدمت لأنها ما زالت تشعر بهذا بالرغم من معرفتها بأن نهاية والدها قد حانت...
حاولت إخفاء مشاعرها المضطربة فأرادت إنهاء الموضوع بقولها:
- علي كل حال ألم نتفق علي أن يحتفظ كل واحد منا برأيه الخاص بهذه المسألة؟
رد فجأة: ( أظنك تشعرين بالسوء حيال هذه القضية لأنك قلقة علي والدك بسبب المشاكل المادية التي يعانيها).
نظرت إليه بحدة. أتراه يعرف الحقيقة؟ وخافت لمجرد التفكير بالموضوع:
- - أنا أعارض الموضوع بشدة لأنني أعتقد أن ما تفعله خطأ.
- أنت تتظاهرين بالتقوى بشكل مبالغ فيه.
عبست وتمتمت: ( حسناً قلت لك إني آسفة، فأنا لم أتعمد أن أكذب أو أجرح مشاعر أحد).
- اسمعي بيني، لقد أوكل إلي والدي مهمة وأنا أنجزها.
وفكرت: والدم لا يستحيل ماءً أبداً. فإن قالت له إن والده غشاش فلن يلين قلبه، بل ستضيع وقتها فحسب.
ولحسن الحظ، دخلت إيزوبيل في تلك اللحظة.
سألت مسرورة: ( ماذا سنتناول للعشاء يا أبي؟).
- خضار مطبوخ وشرائح لحم.
- هل أستطيع تناول شرائح البطاطا؟
- لا، لا تستطيعين.
حزنت إيزوبيل، ثم أخبرت بيني وهي تصعد إلي المقعد لتجلس قربها إلي الطاولة:
- أحرق أبي العشاء مساء أمس، وكان طعمه رهيباً.
- نعم شكراً لك أيتها الواشية.
وداعب لوكاس شعرها فضحكت.
ساد الصمت لبعض الوقت وأكمل لوكاس تحضير العشاء في حين جلست إيزوبيل تراقب بيني.
وسألت إيزوبيل بيني فجأة: ( هل تحبين أبي؟).
فاجأ السؤال بيني: ( حسناً... نعم).
ردت الفتاة مسرورة: ( وهو أيضاً يحبك، أليس كذلك يا أبي؟).
نظرت بيني إلي لوكاس والتقت عيناهما. في حين شعرت بالإحراج من سؤال إيزوبيل، لم يبد هو مسروراً.
- حسناً، في معظم الأوقات. فقد كان بوسعي الاستغناء عن مفاجأة هذا الصباح.
سالت إيزوبيل: ( أية مفاجأة؟).
أطفأ لوكاس الفرن: ( لا تقلقي لهذا، سأقدم العشاء الآن. كم تحتاجين من الوقت بعد يا بيني؟).
- أوشكت علي الانتهاء.
وألصقت بيني القطعة الأخيرة من الشبك.
- سنتناول العشاء في غرفة الطعام، تعالي وساعديني علي إعداد الطاولة يا إيزي.
كان لوكاس علي وشك نقل الطعام إلي الغرفة الأخرى عندما رن الهاتف.
- هلا تلقيت المكالمة عني يا بيني! قولي للمتصل بأنني سأعاود الاتصال به بعد العشاء.
كانت إيما، وقد ظهرت منزعجة عندما سمعت صوت بيني، فقالت لها: ( أتعملين حتى وقت متأخر؟).
- كنت أساعد إيزوبيل علي إعداد زيها لمسرحية المدرسة.
- آه فهمت.
- لوكاس يحضر العشاء، فهل يستطيع الاتصال بك لاحقاً؟
- أردت فقط إخباره أن ماريا ذهبت إلي المستشفي لتلد، نقلها سلفادور إلي هناك بعد الظهر.
- هذه أخبار رائعة. آمل أن يسير كل شيء بخير معها!
- نعم، وأنا أيضاً. وهلا قلت للوكاس شكراً نيابة عني علي باقة الأزهار. إنها رائعة. سأتصل به غداً فأنا ذاهبة إلي السينما الآن.
- حسناً، سأخبره.
أغلقت بيني سماعة الهاتف، وراحت تفكر. إن كان لوكاس يرسل الأزهار لإيما، أيعني هذا أنه يريدها أن تعود إليه؟
ناداها لوكاس من الغرفة الأخرى: ( بيني، بدأ عشاؤك يبرد).
- عذراً.
قالت هذا وهي تدخل غرفة الطعام وجلست في المقعد المقابل لمقعده: ( اتصلت إيما، قالت إن ماريا في المستشفي، لقد دخلت في المخاض).
رد لوكاس: ( أرجو أن تكون ولادتها سهلة وأن يسير كل شيء علي خير ما يرام).
- نعم، وأنا أيضاً.
ونظرت بيني إلي الطعام الموضوع أمامها: ( يبدو الطعام لذيذاً).
قالت إيزوبيل: ( لكانت رقائق البطاطا ألذ طعماً، فهي أكلتي المفضلة خاصة إن أكلتها مع الكاتشاب).
قال لوكاس وهو يهز رأسه:
- ذوق ابنتي في الطعام ممتاز، ألا تظنين هذا يا بيني؟
- بالطبع.
وغمزت بيني إيزوبيل، ثم عادت فحولت انتباهها إلي لوكاس:
- آه، وطلبت إيما أن أشكرك نيابة عنها علي باقة الأزهار. قالت إنها رائعة، وستتصل بك غداً لأنها ذاهبة إلي السينما الآن.
أومأ لوكاس: ( يسرني أن الأزهار أعجبتها).
تلاعبت بيني بالطعام في صحنها. صحيح أنها كانت تشعر بالجوع لكن قابليتها قد انقطعت. فالتفكير بعودة لوكاس وإيما معاً أشبه بسكين يقطع أحشائها. ومعرفتها بأن ما تشعر به ما هو إلا سخافة، زاد من سوء الأمور.
سأل لوكاس: ( كيف تجدين طهوي؟).
- يفاجئني أنه لذيذ.
وابتسمت له ثم أردفت: ( الطعام لذيذ فعلاً. لكانت السيدة غوردن ستفتخر بك).
وصرخت إيزوبيل فجأة: ( إنها تمطر يا أبي).
نظروا جميعاً إلي النافذة. كان المطر ينهمر بقوة إلي حد أنه أوشك علي حجب منظر الحديقة.
- آه! يا إلهي! آمل ألا يستمر المطر لفترة طويلة وإلا تبللت وأنا في طريقي إلي الفندق.
اقترح لوكاس: ( يمكنك أن تبيتي الليلة هنا).
ردت بسرعة: ( لا، لا بأس، سأكون بخير).
ولكنها لم تستطع منع نفسها من النظر ناحيته وهي تكلمه. أهو يدعوها لتشاركه فراشه أو أنه يعرض عليها النوم في الغرفة الإضافية ليس إلا؟ لم تكن متأكدة. ولكن في كلتي الحالتين عليها ألا تبقي وترفض عرضه.
- في الواقع، سأساعدك علي إعادة ترتيب غرفة الطعام ثم علي الاتصال بسيارة أجرة. إذ يتعين علي إجراء بعض الاتصالات الهاتفية من الفندق.
أرغمت نفسها علي قول هذه الكلمات وادعاء البرودة.
منتديات ليلاس
أومأ لوكاس: ( كما تشائين).
سألت إيزوبيل: ( أبي، هل أستطيع الانصراف؟).
نظر إلي المائدة ليري كمية الطعام التي تناولتها.
- حسناً، ولكن الوقت يتأخر الآن، عليك الاستعداد للنوم.
- هل ستأتي لتضعني في السرير؟
رد لوكاس مبتسماً: ( ألا أفعل هذا عادة؟).
- بلي، ولكنني أفضل أن تأتي ميلي... فهل تأتين لتضعيني في السرير يا ميلي؟
ردت بيني بنعومة وقد تأثرت بطلب الطفلة: ( إن شئت ذلك).
- وحتى ذلك الوقت، أذهبي للاستحمام أيتها الآنسة الصغيرة.
وقام ليأخذ الصحون عن الطاولة.
قالت بيني: ( دعك من هذا يا لوكاس، سأهتم به وأذهب لمساعدة إيزوبيل).
- شكراً لك.
وفيما اختفي الأب وابنته وصعدا إلي الطابق العلوي، حملت بيني صحون الطعام وتوجهت إلي المطبخ. كانت تسمع ضحكة إيزوبيل وابتسمت لذلك وهي تضع الصحون في الجلاية.
وتساءلت كيف ستكون الأمور إن أصبحت جزءاً من حياتهما؟ إن عاشت معهما هنا كعائلة؟
سمحت لنفسها بالحلم قليلاً وهي تراقب هطول المطر. حضر فلينت وبدأ ينبح يريد الخروج فشتت انتباهها:
- هل أنت واثق أنك تريد الخروج فالطقس ممطر؟
نبح الكلب مجدداً، ففتحت له الباب. وتراجع إلي الخلف ما أن رأي المطر. ابتسمت بيني:
- لا تقل أنني لم أحذرك.
وبعد بضع لحظات من التردد، خرج الكلب إلي الشرفة ثم إلي الحديقة. وما هي إلا ثوان حتى تواري عن نظرها.
نادت بيني: ( فلينت، هيا يستحسن بك الدخول).
ولكن لم يظهر الحيوان، فخرجت إلي الشرفة: ( فلينت، تعال!).
بدأ الضوء يتلاشي، والظلمة تهبط بسرعة. كانت رائحة المطر نضرة منعشة، وبالرغم من أن الطقس ما زال حاراً، فالحرارة متدنية مقارنة بالأيام الأخرى.
استندت بيني إلي الباب وأخذت نفساً عميقاً.
- منظر المطر رائع هنا، أليس كذلك؟
استدارت وإذ به يقف في المدخل.
- نعم منظر رائع ومريح للأعصاب، كنت أنتظر فلينت، لقد خرج بشجاعة إلي الحديقة.
مشي لوكاس ووقف قربها: ( يحب فلينت برودة الطقس، وأنا أيضاً. إذ يبدو وكأن كل شيء قد غسل واستحال نظيفاً، أليس كذلك؟).
خيم الصمت لبعض الوقت ولم تسمع إلا طقطقات المطر علي السقف فوقهما.
سألها فجأة: ( هل ننسي خلافنا؟).
هزت رأسها، وتابع: ( أنا لا أظن بأنك تدعين التقوى. كل ما في الأمر أنك تغضبين بسرعة وأنت عنيدة أحياناً).
استدارت نحوه وقد رفعت حاجبها:
- عنيدة؟ وكيف وصلت إلي هذا الاستنتاج؟
- حسناً، أنت لا تعترفين بأنني محق. بالرغم من أنني كذلك في معظم الأوقات.
- أنت تحلم.
هزت رأسها وأشاحت بوجهها بعيداً عنه.
- بيني؟
نظرت إليه بتساؤل.
- هل أنت بخير؟
- نعم لماذا؟
- جيد... يسرني أننا ما زلنا صديقين.
وأثارت ابتسامته الممازحة جنونها. لعلهما هنا في المنزل صديقين، ولكن في العالم الحقيقي، فهو لن يكون إلا عدو والدها. وهي تنظر إلي عينيه، تمنت لو يستطيعان البقاء هكذا إلي الأبد، بعيدين عن العالم، وأملت لو يتوقف الزمن عند هذه اللحظة.
عاد فلينت راكضاً نحو الشرفة، وقبل أن يتسنى لهما الابتعاد، نفض الماء عنه بقوة. فصرخا صرخة واحدة عندما تبللا من الماء:
- فلينت!
ثم قال لوكاس وهو يمسح الماء عنه:
- شكراً جزيلاً يا سيد فلينت.
نظر إليه فلينت بعينين غير مباليتين ونفض الماء عن جسمه مجدداً فضحكت بيني إذ أنها كانت قد ابتعدت قليلاً عنه.
نظر إليها لوكاس وابتسم ساخراً:
- مضحك جداً، أنظري إلي أنا مبلل.
ردت بيني وهي تضحك أكثر:
- سيعلمك هذا أن لا تعتبر نفسك دائماً محقاً.
- حذار، اسحبي ما قلته فوراً. فأنا أتوقع طاعة وخضوعاً من موظفي.
- إذاً أظنك حصلت علي الموظفة الخطأ.
- لعلك محقة.
واقترب منها وقد ظهرت في عينيه نظرة ساحرة.
قالت مبتسمة وهي تبتعد عنه:
- علي كل حال، يستحسن بي الصعود لأضع إيزوبيل في السرير.
- آه لا... لن تفعلي.
وأمسك بها قبل أن تصل إلي الباب ثم وضع يده علي الحائط خلفها واحتجزها قريبة منه، قال:
- قبل أن تلوذي بالفرار، أظن أن عليك الاعتذار.
- الاعتذار علي ماذا؟ علي وقوفي إلي صف فلينت؟
- لا، علي كونك صعبة المنال والمراس!
- أنا! لا بد أنك تتحدث عن نفسك!
ورفعت نظرها بخفة.
- هذه فرصتك الأخيرة، يستحسن بك أن تعتذري، وإلا....
وجال بعينيه علي وجهها وفجأة تبدل مزاجهما وتحول من مزاح إلي مشاعر قوية. وما إن أحنى رأسه حتى مدت كتفيها ووضعتهما علي كتفيه، ثم طوقت عنقه.
وتلاشت الأفكار المنطقية كلها في تلك اللحظات، وأرادت أن تغرق بين ذراعيه.
بدا وكأن صوت المطر قد طغي علي صوت عـقـلها الذي يقول لها بأن ما تفعله خطأ.
ابتعد عنها وتركها مقطوعة الأنفاس.
همست: ( لا يفترض بنا أن نفعل هذا؟).
ابتسم لها: ( ولم لا؟).
- لأن..
لأن هذا التصرف خاطئ.
- لأن هذا سيعقد علاقة العمل التي تجمع بيننا. وعلي كل حال ألم ترسل الأزهار لتوك لإيما؟ أتظن أنه من اللائق أن تعانقني وتلاحقها في الوقت عينه؟
ابتسم: ( هل تشعرين بالغيرة؟).
- لا، طبعاً لا.
جعل سؤاله المغرور الدم يغلي في عروقها، ولكنه محق. إنها تغار من إيما بالرغم من أنه لا يحق لها أن تغار.
- علي كل حال، يستحسن أن أذهب. لا أريد إبقاء إيزوبيل منتظرة. فهلا اتصلت بسيارة أجرة لتأتي وتصطحبني؟
- إن كانت هذه رغبتك.
لم تكن هذه رغبتها، نظرت إليه وشعرت بأن قلبها سينفجر. وبسرعة عادت إلي الداخل.
كانت إيزوبيل في السرير تحمل في يدها الدب الصغير. جلست بيني علي السرير قربها.
قالت إيزوبيل: ( شكراً لأنك اصطحبتني للتسوق اليوم يا ميلي).
ردت بيني بصدق: ( لقد استمتعت بذلك، كما أنك بدوت رائعة بذلك الفستان).
أومأت الفتاة، وقالت بفخر: ( لقد حصلت علي أجمل فستان في العالم).
وافقتها بيني الرأي مبتسمة: ( أظنك فعلت).
مدت يدها وأزاحت خصلة من شعرها عن وجهها، وفيما تفعل هذا أيقنت أنها لا تتمني الآن لإيزوبيل ليلة سعيدة وحسب بل تودعها أيضاً، فشعرت بقلبها يغرق في الحزن.
- أنا واثقة من أنك ستكونين الفتاة الأجمل في المسرحية. والآن هيا إلي النوم.
وانحنت وقبلتها علي جبينها.
سألتها الفتاة فجأة قبل أن يتسنى لها أن تقف:
- ميلي، هلا أتيت وحضرت المسرحية؟
عضت بيني شفتيها: ( لا أظن ذلك يا عزيزتي).
وعبست إيزوبيل: ( ولم لا؟).
- لأن...
وتوقفت للحظة عن الكلام ثم قررت إخبارها بالحقيقة:
- لأنه يتعين علي العودة إلي منزلي ورؤية والدي لفترة لأنه بحاجة إلي.
- آه!
بدت إيزوبيل وكأنها علي وشك أن تبكي. فتابعت بيني:
- لكن هذا لا يعني أبداً أنني لا أريد حضور المسرحية، فلو أتيحت لي الفرصة، كنت لأفرح كثيراً بمشاهدة المسرحية، ولكن أحياناً لا تجري الأمور كما نريد. كما أنني قلقة علي والدي فهو بمفرده. أنت تفهمين ما أحاول قوله أليس كذلك؟
أومأت إيزوبيل: ( مثلي ومثل والدي؟).
- نعم، تقريباً... لكنني سأفكر فيك وأتساءل كم ستبرعين في أداء دورك.
- وأنا أيضاً سأفكر بك.
وضمت الدب إليها بشدة.
سألت بيني وهي تغادر: ( هل أطفئ الضوء؟).
- لا، أحب إبقاء الضوء مضاء، أراك غداً يا ميلي.
- عمت مساءً إيزوبيل وأحلاماً سعيدة.
وهي تخرج من الغرفة رأت ظل لوكاس عند الباب.
سأل بصوت منخفض وهو يغلق الباب خلفه: ( لمَ لن تحضري المسرحية؟).
- قلت لك... أنا ذاهبة إلي المنزل.
بدأت تبتعد عنه وصولاً نحو السلالم. شعرت بحاجة ماسة إلي أن تغادر هذا المكان بأسرع وقت ممكن وإلا ستبدأ بالبكاء، فتوديع إيزوبيل كان أصعب مما توقعت. ولكن قبل أن تتمكن من الابتعاد كثيراً، أمسك لوكاس بيدها.
- أتعلمين أن مسرحية إيزوبيل بعد ثلاثة أسابيع؟ ظننتك قلت أنك ستعودين قبل هذا الوقت.
قربها منه فاضطرت للنظر إليه.
- أحقاً؟ حسناً أظنني سأحضر ولكن لم أرد أن أقوم بوعود قد لا أتمكن من إيفائها.
- ولكنك لا تمانعين أن تعديني ولا تفي بوعدك. ماذا يجري يا بيني؟
- قلت لك أنا قلقة بشأن والدي.
- هكذا فقط؟
- هذا يكفي... صدقني. هل اتصلت بسيارة أجرة لتأتي لاصطحابي؟
- ماذا تظنين؟
- أظن بأنه كان يفترض بك أن تفعل.
نظر إليها غاضباً: ( هل هذا ما تريدينه؟).
تريد... لو يعرف ماذا تريد!
وقالت بإصرار: ( نعم).
فقال: ( إذاً اذهبي!).
* * *


الساعة الآن 09:29 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية