منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات احلام المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f457/)
-   -   357 - كاذبة ولكن - كاثرين روس ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t132684.html)

زونار 25-12-09 02:40 PM

357 - كاذبة ولكن - كاثرين روس ( كاملة )
 
الملخص




كاذبة ولكن....




بيني كينيدي مستعدة لفعل أي شيء كي تنقذ منزلها العائلي من براثن لوكاس داريان.....حتى لو اضطرت أن تنتحل صفة سكرتيرته الخاصة!




ولكن ما لم تحسب له بيني حساباً هو أن تقع ضحية لسحر مديرها المتعجرف.... وسرعان ما وجدت نفسها مقربة منه كثيراً.....



ولكن ماذا إذا أكتشف حبيبها اللاتيني هويتها الحقيقية!




وبأي طريقة سينتقم منها؟منتديات ليلاس

زونار 25-12-09 02:41 PM

الفصل الاول:
_ كاذبة ولكن.....







تري ماذا يقول المثل...؟ شيئاً معناه إبقاء الأصدقاء قريبين منك والأعداء أشد قرباً..... تسمرت بيني وهي تدخل إلي المكاتب الرئيسية لشركة لوكاس للشحن. حسناً, إنها تخطو خطوتها الأولي نحو معسكر العدو, لكنها تشعر بأنها تقوم بعمل مفيد عوضاً عن الجلوس بانتظار المصيبة, كما يفعل والدها.
منتديات ليلاس


شعرت بلفحة من الهواء البارد تضرب جسمها وهي تدخل من الخارج إلي داخل المكتب, من الهواء الاستوائي الكاريبي إلي المكتب البارد بهواء المكيف. ارتعشت, أتراها ترتعش من البرد أو من التفكير بردة فعل والدها إذا عرف بما تنوي فعله. فمنذ بضعة أسابيع، حين اتصلت بوالدها وعرضت أن تتصل بلوكاس شخصياً وتطلب منه المزيد من الوقت لتسديد ما عليه، استشاط والدها غيظاً وصاح:



- لوكاس هو الشيطان بحد ذاته.



ردت بهدوء: ( ولكنك لست واثقاً يا أبي، فقد كنت تواجه مشاكل مع والد لوكاس، وقد توفي الآن. ولعل ابنه أفضل منه).



تضاعف غضب والدها: ( تتصرفين بسذاجة بالغة أحياناً يا بيني. فلوكاس داريان نسخة طبق الأصل عن والده، وأسمعي جيداً ما أقوله: أفضل أن أغرق في الديون وأخسر كل ما أملك علي أن أدين لعضو من أعضاء هذه العائلة بخدمة ما).



كان بإمكان بيني أن تنسي الأمر, فبعد التفكير هذا الأمر لا يعنيها، إنه عمل والدها. فهي تملك مهنة خاصة بها بعيدة كل البعد عن هذه الأجواء، فهي مديرة في منتجع جمالي متنقل راق جداً. إلا أنها، وبعد أن اتصلت بوالدها أكثر من مرة عرفت أن غضبه قد استحال انهياراً، وأيقنت أنها تهتم لأمره كثيراً، لذا لا يمكنها الوقوف ومشاهدته علي هذه الحال. تمنت لو نملك مبلغاً كافياًمن المال لتكفله، لكن هذا الأمر لن ينجح. لذا، فالحل الثاني يقضي أن تأخذ إجازة من العمل وتسافر إلي مكتب لوكاس داريان الرئيسي في بورتوريكو.



ربما يفترض بوالدها التخلي عن العمل والتقاعد. فقد عانت صناعة السكر من متاعب مؤخراً، وكان والدها يناضل منذ بعض الوقت لتحسين وضع عمله. ولكن لا يفترض به أبداً خسارة منزل العائلة والأرض أيضاً. فهذا المنزل ملك للعائلة منذ ثلاثة أجيال.... وهو أثمن من أن يتم التخلي عنه دون مقاومة....



- هل أستطيع مساعدتك؟



نظرت عاملة الاستقبال بريبة فيما اقتربت بيني منها. كانت امرأة شابة في بداية العشرينات, شعرها أشقر وقد ظهرت علامات الاستياء في عينيها الزرقاوين.



- جئت أقابل لوكاس داريان.



قالت بيني هذا بكل ما أوتيت من ثقة بالنفس، متجاهلة واقعاً صغيراً يقضي بأنها لم تضرب معه موعداً.



- آه, لا بد أنك ملدريد بانكروفت، المساعدة الشخصية الجديدة للسيد لوكاس.



اختفت فجأة معالم الاستياء من وجه عاملة الاستقبال وابتسمت بدفء لبيني: ( آه، كم سررت لرؤيتك....).



وقبل أن يتسنى لبيني قول أية كلمة، رن الهاتف بجوار المرأة فاستدارت تجيب عليه.

شعرت بيني بأنها في مأزق. فإن اعترفت بأنها ليست ميلدريد، المساعدة الشخصية الجديدة، فهي علي ثقة أنها لن تتخطي عاملة الاستقبال ولن تري لوكاس داريان اليوم. فقد سبق أن اتصلت مرتين، محاولة تحديد موعد، وقيل لها بأنه عليها الانتظار حتى آخر الشهر للحصول علي موعد. إلا أن والدها لا يملك كل هذا الوقت. فقد تسلم أمراً بإخلاء المنزل قبل الخامس والعشرين من الشهر الحالي.

آه, مرحباً!
ضحكت عاملة الاستقبال لما قيل لها عبر الهاتف وتابعت:
- لا، باتت الأمور تتحسن الآن، فقد وصل المخِ لص أخيراً، بوصول المساعدة الشخصية الجديدة. لذا يفترض بهذا أن يخفف عني بعض الضغط.... الحمد لله. نعم، يمكنني الخروج للعشاء الليلة....
دوى صوت آت من المكتب الداخلي: ( شونا!! هلا أحضرت لي الملفات التي طلبتها منك منذ نصف ساعة!).
- علي أن أذهب بول.
أقفلت شونا الخط بسرعة وابتسمت لبيني.
- إنه المدير, ولكن لا تقلقي، فالكلب الذي ينبح لا يعض.... أعني أنه لطيفا جداً لا تقلقي.
- أريد هذه الملفات اليوم، ما لم أكن أزعجك.
- آتية سيد داريان.
احمرت خجلاً وهمست وهي تبحث بين كومة من الأوراق وضعت بجانبها من دون ترتيب:
- لقد قطعت صديقته علاقتها به منذ بضعة أسابيع، واستقالت مساعدته الشخصية لأنها ستتزوج، وهو غارق في العمل حتى أذنيه..... محاولاً تنظيم أعمال والده المتوفى. أما أنا، فيترتب علي عاتقي مسؤوليات كبيرة وكثيرة....
همست بيني: ( أحقاً؟).
سرت لمعرفتها بأن العدو يعاني من المشاكل، ولم تستطع منع نفسها من التمني أن يكون تعيساً للغاية. فهو يستحق ما يناله بسبب الطريقة التي عاملت بها عائلته والدها، وقفت تتفرج علي شونا وهي تبحث بين الأوراق وأصابعها ترتجف وتمتمت:
- أين وضعت هذه الملفات بحق السماء! كانت معي منذ لحظات! ألا ترينها؟ إنها موضوعة في ملف أخضر اللون.
أحبت بيني هذه الفتاة البسيطة المنهمكة في العمل: ( أليست هناك؟).
وأشارت بيني إلي ملفين موضوعين علي الرف بجانب فنجان وصحن وضعا علي صينية فضية.
هتفت شونا: ( الحمد لله! آه! لقد نسيت قهوته وقد بردت الآن ها قد نلت نقطة سوداء أخرى.....).
قالت بيني بعطف: ( حسناً، لا يمكنك القيام بكل شيء دفعة واحدة).
ابتسمت المرأة بامتنان: ( لا ... أنا مسرورة جداً لأنك هنا).
جاءت كلماتها صادقة للغاية إلي حد أن بيني بدأت أن تشعر بالذنب لأنها ليست ميلدريد المساعدة الشخصية الجديدة.
- شونا! لم تستغرقين كل هذا الوقت؟
ظهر لوكاس داريان وقد فقد صبره.
جال نظر بيني عليه بدءاً من الحذاء الأسود اللماع صعوداً إلي البذلة السوداء الرسمية. كان طويلاً جداً ونحيفاً أيضاً إلا أن كتفاه عريضتان وتسمر نظرها علي عينيه الغامقتين وشعرت بالدهشة. فلوكاس داريان مختلف تمام الاختلاف عما توقعته، إنه خلاب جداً!
إنه في السادسة والثلاثين من عمره تقريباً، عيناه خلابتان، ووجهه جميل، فكه قاس ومربع يوحي بالقوة والعزم، وشفتاه مثيرتان للغاية وأجبرت نفسها علي تمالك أعصابها.
حسناً، إنه جذاب... جذابا إلي حد يليق به لعب دور البطولة في فيلم رومانسي! ولكن، لا يمكنها أن تنسي من هو فعلاً، إنه لوكاس داريان، عدو والدها، وليس بطلاً سينمائياً يسرق الألباب.
قالت شونا بهدوء: ( أعرفك إلي ميلدريد بانكروفت يا سيد داريان، مساعدتك الشخصية الجديدة).
ظهر حس المفاجئة في عينيه: ( أحقاً؟ أنت مختلفة تماماً عما توقعته).
وجال بنظراته عليها وكأنه يقيمها فشعرت بالدم يجري ساخناً في عروقها.
همست وهي ترفع ذقنها بتحد: ( وأنت أيضاً مختلف تماماً عما توقعت).
سألها فوراً: ( وماذا توقعت؟).
في الواقع، توقعت أن تراه شبيهاً بوالده، فقد سبق أن التقت ذلك الأخير مرتين. إنه طويل ووسيما كابنه, ولكن الشبه بينهما يقف عند هذا الحد. فلورانس داريان يتمتع بسمات انكليزية، شعر أشقر باهت، وعينان زرقاوان باهتتان، وأنف ارستقراطي، ولكن لا .. لوكاس مختلف تماماً عن والده البارد الارستقراطي .. ومن الواضح أنه يشبه والدته الإسبانية.
- حسناً ...
قاطع لوكاس حبل أفكارها، وعرفت أنه ينتظر جواباً منها.
فارتجلت: ( حسناً، أنت أصغر سناً مما توقعت).
فإن أطلعته علي حقيقة هويتها، فقد لا يسمح لها بالدخول إلي مكتبه والتحدث إليه.


ابتسم لوكاس: ( كنت سأقول لك الشيء ذاته. فبحسب سيرتك الذاتية التي أرسلتها لي الوكالة، توقعت أن تكوني في الخمسين من العمر علي الأقل).
أحمرت بيني من دون أن تفقه السبب. من الواضح أنه يعلم أنها ليست ميلدريد بانكروفت.
- آه ... حسناً ... يمكنني أن أفسر لك...
مر لوكاس من أمامها ليتوجه إلي عاملة الاستقبال التي بدت مسمرة تراقب ما يجري، قال:
- شونا! أحضري لنا فنجانين من القهوة متى تسني لك الوقت لذلك.
ثم تحدث إلي بيني: ( تفضلي إلي مكتبي).
يبدو أن الأمور تسير علي ما يرام، فكرت بيني مبتسمة. لقد عرف أنها ليست مساعدته الشخصية، وبالرغم من هذا قرر تخصيص بعض الوقت لها.
- شكراً لك.
ابتسمت له ابتسامة مشرقة وهي تدخل مكتبه. إلا أنه لم يبادلها الابتسام، الأمر الذي كان غريباً قليلاً بالنسبة لها. فبيني امرأة جميلة في الثامنة والعشرين من عمرها. شعرها أشقر طويل، وعيناها لوزيتان خضراوان، ووجهها صغير ناعم، وقد اعتادت أن يبتسم لها الرجال دائماً.
بدا المكتب مظلماً مقارنة بالضوء الساطع في ردهة الاستقبال، وقد احتاجت عيناها نحو دقيقة لتعتادا علي الضوء. كانت الجدران مزينة برفوف من الكتب، أما المكتب في وسط الردهة فكان غارقاً بالملفات.
رأت خلف المكتب خزانة ملفات وجراراً مفتوحاً علي مصراعيه كما لو كان أحدهم يبحث عن شيء فيه، في زاوية المكتب طاولة أخرى تكدست عليها صناديق ملأي بالكتب والملفات.
قادها إلي الكرسي المجاور لمكتبه، وراقبها وهي تجلس. لاحظت نظرة الاهتمام التي ظهرت في عينيه. أقله ليس محصناً تماماً تجاهها! لقد اختارت بتأن فستانها الأخضر الفاتح هذا الصباح، وهي تعلم أنه يبرز قامتها الهيفاء. علمت بيني إن كانت ستطلب الرحمة من عدو والدها، فستحتاج إلي كافة أنواع المساعدة.
جلس علي كرسيه قبالتها وأسند ظهره إلي الخلف يراقبها بعينين ضيقتين: ( من الواضح أن سيرتك الذاتية ليست دقيقة تماماً).
تفاجأت بيني، فقد ظنته علم حتماً أنها ليست ميلدريد. وقبل أن تتمكن من صياغة الرد تابع كلامه: ( لنرى... لديك عشر سنوات من الخبرة في "دانوفات" ... وخمس سنوات بصفتك المساعدة الشخصية للسيد غوردون مايسون ... ثم وظيفتك الأخيرة... ثلاث سنوات في خدمة مونتغومري كليف في باربادوس! فما لم تبدأي العمل وأنت في العاشرة من العمر، أقول أن شيئاً ما ليس صحيحاً يا آنسة بانكروفت).
انزعجت من اللهجة الساخرة التي يتحدث بها معها.
- أو هل لي بمناداتك ميلدريد؟
واقترب إلي الأمام كما لو أنه مهتم بسماع ردها.
فقدت أعصابها للحظة، ولعل السبب في ذلك هو طريقة حديثة أو عينيه، وبعد جهد تمكنت أن تقول: ( آه... يمكنك مناداتي ميلدريد إن شئت ... ولكن اسمي ....).
بدت وكأنها تعاني من مشكلة في النطق، فقالت في نفسها بحزم: ( تمالكي نفسك يا بيني، قولي له من أنت، وأخبريه بمدي قلقك علي والدك. واذرفي الدموع حتى، أن دعت الحاجة لذلك....
- جيد، ميلدريد إذاً!
لم يمنحها فرصة لتكمل حديثها، بل رجع إلي الوراء وقد بدت علي وجهه ابتسامة رضي.
طقطق بأصابعه علي المكتب. وبسبب توتر أعصابها، شعرت أن صوت الطقطقة هذا أشبه بقرع الطبول قبل عملية الإعدام.
- في الواقع، إن كنت مؤهلة لهذه الوظيفة، فأنا مستعد للتغاضي عن بعض البلاغات في سيرتك الذاتية. فكما تلاحظين، أنا بحاجة ماسة إلي موظفين، لذا يمكننا أن نجرب عملك هنا لمدة أسبوعين، ما رأيك؟
- في الواقع لوكاس، حصل سوء تفاهم، وأشعر بأن علي إخبارك.....
- حقاً ميلدريد، لا أحتاج إلي سماع الشروحات حول السيرة الذاتية ولا أريد هذا. من الواضح أنك أثرت إعجاب الوكالة لأنهم قالوا أنك تستحقين أن أنتظرك، وهذه الوكالة تتمتع بسمعة طيبة. فإن كنت تستطيعين استلام العمل بأقرب فرصة ممكنة سيكون الأمر رائعاً.
دخلت شونا وهي تحمل صينية القهوة. فقال لوكاس ضاحكاً:
- نحن بحاجة ماسة إلي المساعدة هنا أليس كذلك يا شونا؟
أومأت شونا وابتسمت إلي بيني: ( آه نعم، فأيلين، مساعدة السيد داريان الشخصية السابقة قد غادرت دون أن تقدم إنذاراً مسبقاً وتراكم العمل هنا بشكل جنوني. فكل تلك الصناديق بحاجة إلي ترتيب وفرز وأنا عاجزة من القيام بكل شيء بمفردي).
أزاح لوكاس بعض الأوراق وتناول الصينية من شونا:
- شونا لا تحولي لي أي اتصال ريثما أنتهي من الكلام مع ميلدريد.
وما أن أقفلت شونا الباب، ابتسم لوكاس وقال:
- مسكينة شونا، فهي تبذل جهداً كبيراً لتتأقلم.
- نعم، لقد لاحظت هذا.
- ثمة عمل كثير في هذا المكتب، فنحن نتعامل مع شركات كبري في الكراييب، ومع شركات استيراد وتصدير من مختلف الجزر. وفوق كل هذا لدينا أعمال والدي لتصفيتها، فقد توفي منذ ستة أشهر ولم تكن أعماله مرتبة كما يجب.
- آسفة.
شعرت بضرورة تقديم التعازي بالرغم من عدم شعورها بالأسف فعلاً.
- حسناً... لكن العمل ليس صعباً كما يبدو. فقد اضطررت مؤخراً إلي إعفاء المحامي المسئول عن أعمال والدي من مهمته لأنه كان يتصرف كما لو أنه المالك بالرغم من عدم درايته بأمور شتى. لذا، تم نقل كافة الصناديق التي ترينها أمامك، والخزائن خلفي بالإضافة إلي غرفتين مليئتين بالمستندات في المنزل من مكتب أبي إلي، وها أنا أحاول إيجاد طريقي وسط هذه الفوضى العارمة، وهنا يأتي دورك، فأنا أريدك أن تفرزي هذه الفوضى، وترتبي الملفات وتنظمي......
- لوكاس، أشعر بأننا نتصرف بطريقة خاطئة. فكما تري فقد أساءت شونا فهم الموقف تماماً عندما دخلت مكتبك. أنا.....
- هل تتناولين الحليب والسكر مع القهوة؟
- الحليب فقط.
وتساءلت غاضبة لم لا يصغي إليها؟
تابع كلامه: ( الحقيقة أن عدداً من مستندات والدي الهامة قد ضاعت. صكوك ملكية وغيرها من المستندات حول منزل قديم في أربودا.... لعلك لم تسمعي بهذه الجزيرة من قبل. إنها جزيرة جنوبي جزر العذراء البريطانية).
شعرت بيني ببعض الانزعاج. طبعاً سمعت بجزيرة أربودا، فقد ترعرعت علي هذه الجزيرة، ويبدو أنه يتحدث عن عقار والدها.
- بالطبع سمعت بها. أتحاول أن تقول أن صكوك هذا العنوان قد ضاعت؟
- حسنا، إنها ليست ضائعة تماماً، بل هي في مكان ما وسط هذه الفوضى. ولكنني بحاجة إلي إيجادها بسرعة. فقد كان والدي بصدد إعادة إمتلاك العقار عندما توفي. فقد كان يحتفظ بالصكوك كضمانة إضافية لأن الرجل العجوز الذي يعيش هناك ويدعي ويليام كيندي، يدين له بالمال منذ سنوات. لقد كانا شركاء في العمل، إلا أن والدي واجه مشاكل معه، ففض الشراكة. قال لي أنه ترك الدين إلي هذا اليوم بدافع الشفقة، فكينيدي لن يستطع يوماً ما تسديد ما عليه. لذا يستحسن به ترك المكان الآن قبل أن تتراكم عليه المزيد من الديون.
- أحقاً؟
شعرت بيني بأن نبرة صوتها قد قست. كيف يجرؤ علي الحديث عن والدها بهذه الطريقة؟ لقد عمل والدها جاهدا طيلة حياته.... كان رجلاً نزيهاً .... صادقاً.... مختلفاً تمام الاختلاف عن والده. فلورنس داريان لم يكن سوى قرصان... يجر والدها إلي الإفلاس ثم يحاول سلبه أرضه. أسوأ ما قام به والدها في حياته كان الدخول في شراكة مع ذلك الرجل...
- لسوء الحظ، أعجز عن المضي قدماً في استعادة الأرض ما لم أجد المستندات اللازمة.
تابع لوكاس كلامه من دون أن يلاحظ مدى غضب بيني: ( وما لم أجد هذه المستندات في خلال أسبوعين أو ثلاثة كحد أقصي، فستتهدم المشاريع التي بناها والدي حول هذا المكان).
سألته بيني، وهي تحاول جاهدة ألا تظهر أنها مهتمة أكثر من اللزوم:
- وما هي مشاريع والدك؟
- يملك والدي أرض الشاطئ المجاور، وثمة مشروع لبناء نحو مئة منزل هناك. وسيؤمن عقار ويليام كينيدي منفذاً إلي الطريق الرئيسية بعيداً عن الشاطئ.
سيبنون مئة منزل علي طول الشاطئ الرائع الذي لم تمسه يد الحضارة بعد! شعرت بيني بأن قلبها توقف عن الخفقان. صحيح أنها لم تعد تعيش في أربودا وبأنها تقضي معظم وقتها في العمل ولكن كلما أخذت إجازة كانت تعود إلي المنزل... وهي تحب قضاء بضعة أسابيع بمفردها تتمشي علي الشاطئ. فالمناظر الطبيعية التي تحيط بمنزل العائلة هي الأروع والأكثر بعداً عن المدينة في منطقة الكراييب. إنه موطن طبيعي لأعداد كبيرة من النبات والحيوان التي بات يندر وجودها. ترى كيف تمكن لورانس داريان من الحصول علي ترخيص لبناء مئة منزل؟
وتابع كلامه ليقطع حبل أفكارها:
ولسوء الحظ تنتهي رخصة بناء المنازل في غضون شهر.، فإن لم نبدأ العمل قبل هذه المدة لن نستطيع الحصول علي رخصة بناء ثانية بسبب تغير الإدارة المسئولة عن التخطيط المدني في أربودا.
- أتعني أن والدك رشي أحد المسئولين في مكتب التخطيط وهذا الشخص لم يعد هناك لتسوية الأمور؟

تنهد لوكاس: ( نعم، علي الأرجح. علي كل حال يمكننا البدء بأعمال البناء من دون الحصول علي أرض كينيدي، لكن ما لم نحصل عليها خلال الأسابيع المقبلة، فستفشل الخطة بأكملها).


قالت بنبرة جافة: ( يا للأسف)!


- نعم.... أليس كذلك؟


ارتشف القهوة وقال: ( إذاً، كما ترين، كلما أسرعت في فرز هذه الملفات كلما زادت فرصتي في الانتهاء من المشروع الأخير الذي كان والدي يعمل عليه).


لم تنطق بيني بكلمة فقد كان عقلها يعمل علي تحليل أمور أخري. فإن لم يتم العثور علي المستندات المطلوبة، لن تجري أعمال البناء، كما أن الموعد المحدد ليخلي والدها الأرض سيتأجل.


ولكن هذا التصرف غير نزيه، وهي ليست بشخص غير نزيه. أضف أن ميلدريد الحقيقية قد تظهر في أية لحظة


وتكشف سرها.


ولكن، ألم يكن والد لوكاس غير نزيه في تعامله مع والدها، كما أنه حصل علي طريقة البناء بطريقة مزورة؟ وبالتالي، فهي ستعمل علي إعادة الأمور إلي وضعها الطبيعي ليس إلا.


في الواقع، إن أخفت مستندات أرض والدها، فستحافظ علي أرض رائعة الجمال وستكسب بعض الوقت الإضافي لوالدها. فخلال بضعة أسابيع سيحصد قصب السكر وسيملك والدها ما يكفي من المال ليسدد دفعة من المال تساعده علي إيفاء دينه.


وفجأة سألها لوكاس: ( إذاً متي تظنين أنك قادرة علي البدء بالعمل؟).


أخذت بيني نفساً عميقاً. ستتدبر أمرها حتماً لبضعة أيام، وتعمل كمساعدة شخصية. فهي تملك بعض الخبرة في مجال عمل السكرتيرات، وردت بسرعة قبل أن تتمكن من تغيير رأيها: ( ما رأيك إذا بدأت الآن؟).

زونار 25-12-09 02:43 PM

الفصل الثاني:
- فتاة تحب الحرية
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تستطع بيني أن تنام تلك الليلة. قضت الليل بطوله تتقلب في فراشها وقد شعرت بالندم لتسرعها وادعائها أنها مساعدة لوكاس داريان الشخصية.
ما فعلته جنون مطبق، فقد تظهر ميلدريد بانكروفت غداً وستقع عندها مشكلة كبيرة. وقد يتصل لوكاس بالشرطة، وقد تحاكم بتهمة التزوير.
لم تخالف طيلة حياتها القواعد والقوانين. والآن وبسبب لحظة جنون من الممكن أن تقع في مأزق كبير. ولكنها انزعجت كثيراً من الصفات التي نعت بها لوكاس والدها، فقد كان والدها رجل أعمال محترم قبل أن يتورط مع لورانس داريان.
أما كلام لوكاس عن كرم أخلاق والده وتحمله كل هذا الوقت كي يسدد له كينيدي بدافع الصداقة فأمر محض رياء وكذب. لقد أراد لورانس أن يفلس والدها والخلاف الذي وقع بينهما منذ سنوات عديدة لم يكن بدافع المال بل بسبب حب امرأة.... وهذه المرأة ما هي إلا والدة بيني.
فقبل أن تتزوج والد بيني، كانت كلارا تواعد لورانس داريان، وكانت متيمة بحبه حتى الجنون. ثم اكتشفت أنه متزوج وله أبن وزوجة في بورتوريكو. انهارت كلارا والتجأت إلي ذراعي ويليم كينيدي بحثاً عن العزاء، وبعد شهرين تزوجا.
جن جنون لورانس وعاد إلي بورتوريكو مهدداً بالانتقام وتاركاً أعماله غير المنتهية مع ويليم، وعاد والد بيني إلي إدارة ممتلكاته محاولاً نسيان أمر لورانس داريان. وولدت بيني بعد مرور عام علي زواج والديها وبدا الزوجين سعيدين للغاية. عاشت بيني طفولة مثالية، ولم يكن أحد يتحدث عن لورانس داريان إلا بإيجاز ومن دون إعطاء أهمية كبرى للموضوع. إلا أن بيني شكت أن والدها لم يكن واثقاً تماماً من حب والدتها له، وأنها قبلت به لنسيان حبها.
ولكن عندما بلغت بيني السادسة عشر من عمرها، توفيت والدتها، وتغير كل شيء.
ظهر لورانس داريان في الدفن، وقدم تعازيه لوالدها وتعانق الرجلان وبدا وكأنهما استعادا صداقتهما... وفيما بعد علاقة العمل التي كانت تجمعهما. فلم يكن قد وضع حد قانوني لشراكتهما، لذا سهل استكمال الأمور من حيث توقفت.
لم ترتح بيني لهذه العلاقة بين والدها ولورانس داريان. تذكرت جلوس الرجلين علي الشرفة يحتسيان الشاي حتى وقت متأخر من الليل.... وتذكرت تلك النظرة القاسية التي كانت تظهر في عيني لورانس كلما ذكرت والدتها المتوفاة. وعندما أخبرت والدها بمشاعرها، صرف النظر عن الموضوع وقال لها أنها تتوهم ليس إلا. ولكنها لم تكن تتوهم، فقد عقد لورانس العزم بكل شر وقوة علي إفلاس والدها. وعندما أيقن ويليم هذه الحقيقة كان الأوان قد فات.
لم يكن حكم والدها علي الأمور صائباً لا لأنه عديم الفائدة أو غبي، بل لأنه كان في حداد، وقد استغل لورانس هذا. حتى أنه استطاع الحصول علي سندات ملكية عقارهم. والآن، وبعد مرور نحو ثلاثة عشر عاماً علي الموضوع، وبالرغم من موته، ما زال مصراً علي الانتقام. عادت بيني تتقلب في فراشها، فإن سنحت لها فرصة للتعادل مع آل داريان، ألا يحق لها استغلالها.
وتذكرت آخر مرة رأت فيها لورانس داريان وسألته لم يعامل والدها بهذه القسوة. ابتسم ببرودة الثلج، وتمتم قبل أن يدير ظهره وينصرف: ( أنا أسوي دائماً حساباتي القديمة).
إذن ألم يحن دورها لتسوي الحسابات؟ ألم يحن وقت انتقامها لوالدتها التي تأذت كثيراً بسبب هذا الرجل؟ ولوالدها أيضاً...
وأخيراً، بعد أن طلع الفجر، استسلمت بيني للنوم. ولكن صفو نومها تعكر بأحلام لا بل كوابيس مزعجة. كان لورانس داريان يلاحقها في أروقة مظلمة وحين أمسك بها أخيراً قال لها:
- إن كنت تظنين أنك قادرة علي خداع فرد من أفراد عائلتي، فأنت مخطئة جداً.
جعلت لمسة يده التي وضعها علي كتفها دمها يغلي، ولكن فيما كان يدير وجهها لتواجهه، حدث شيء ما. لم يكن الوجه البارد الذي يحدق فيها هو وجه لورانس، بل وجه لوكاس.
تمتم وهو يحدق إليها: ( ثمة ثمن لخيبة الأمل).
وفجأة تحول شعورها في الحلم من الخوف إلي الإثارة، وقال:
- آمل أنك قادرة علي التسديد....
- وما هو الثمن؟
انحنى نحوها فاستيقظت حواسها كلها كما أنها قد قفزت من طائرة علي علو ثلاثة آلاف قدم...
وقفزت من مكانها علي صوت المنبه. كان قلبها يخفق بقوة وشعرت بدوار. لم يسبق أن راودها حلم بهذه الغرابة. وحتى الآن وبعد أن استيقظت، ما زالت تشعر بانزعاج... انزعاجا حقيقي لم تعرف له مثيلاً.
أزاحت عنها الغطاء وتوجهت إلي الحمام لتستحم. من الواضح أنها تناولت العشاء في وقت متأخر ليلة أمس... أو لعله الحر في الغرفة. فالمكيف معطل والمروحة لا تفي بالغرض.
إذا كانت تنوي البقاء في الفندق لليلة أخري عليها أن تعلم مكتب الاستقبال. ترى هل يفترض بها أن تبقي لليلة أخرى؟ أعليها أن تعاني خيبة الأمل؟ أو عليها العودة إلي المنزل ومواساة والدها... ومساعدته علي حزم ممتلكاته والاستعداد للرحيل؟ قالوا لها في الشركة أنها قادرة علي أخذ إجازة لمدة خمسة أسابيع لتملك ما يكفي من الوقت لتنظيم عملية الانتقال.
شعرت بالغضب لمجرد التفكير في الانتقال. لِمَ يفترض بوالدها ترك منزله؟ هذه الفكرة مزعجة جداً. لمَ يجب أن ينجو لورانس داريان بفعلته؟ لا، عليها أن تبقي هنا، وتلعب دور ميلدريد بانكروفت أقله لهذا اليوم.
لعلها ستكون محظوظة وتجد الأوراق فوراً.... وتضعها في مكان ما لن يخطر ببال لوكاس البحث فيه ثم السفر مجدداً إلي ميامي والالتحاق بسفينتها.
لن يربط لوكاس بينها وبين الأوراق التائهة... وقد لا يعرف حتى هويتها الحقيقية. وحتى لو فعل، فإخفاء الأوراق لا يعتبر جريمة.
- ميلدريد...؟ ميلدريد...؟ ميلدريد... هل أنت صماء؟
نظرت بيني إلي الأعلى فلاحظت أن لوكاس يتكلم معها:
- آه عذراً! كنت شاردة الذهن!
اقترب لوكاس من مكتبها وحدق إليها: ( بم كنت تفكرين بحق السماء؟).
لم يكن اقترابه منها مريحاً لها، كما لم تكن نظراته وابتسامته أيضاً.
- كنت أفكر...
حاولت التفكير بحجة مقنعة، فقد حضرت إلي المكتب في التاسعة صباحاً، ولم تخرج للغداء، والآن حان وقت العودة إلي المنزل... ولم تجد بعد أي أثر للأوراق التي تبحث عنها، وهي لم تفرغ إلا خزانتين.
- كنت أفكر بأنه لا بد حان وقت العشاء.... فقد بدأت معدتي تؤلمني.
- لا يفاجئني هذا، فأنت لم تتناولي الغداء، كما أنك تعملين بجد.
ونظر برضي إلي الطريقة التي نظمت فيها الأوراق وبوبتها وقال:
- أنت دقيقة جداً.
تنهدت بيني، فهي دقيقة ومنظمة في إدارة المنتجع، وترتيب مكتب لوكاس أمر سهل بالرغم من استغراقه بعض الوقت.
قال لوكاس وهو ينظر إلي ساعته: ( يستحسن إذن أن تتوقفي عن العمل لليوم، فقد غادرت شونا منذ نصف ساعة.
تفاجأت بيني لأنها لم تسمع المرأة الأخرى تغادر:
- أحقاً؟ لم أع أن الوقت متأخر إلي هذا الحد.
ابتسم لوكاس: ( لديها موعد مهم ولم يطاوعني قلبي علي القول لها أنها تغادر باكراً فقد بقيت لساعات بعد الدوام خلال الأسابيع المنصرمة).
فكرت وهي تنظر إليه بأنه قادر علي التصرف بلطف، كما أنه يبدو وسيماً للغاية في هذه البذلة الداكنة اللون. وتساءلت إن كان يمارس الرياضة ليحافظ علي هذه البنية الرشيقة أو تراه اكتسبها من دون عناء. وفجأة.. وجدت نفسها تتذكر الحلم الذي راودها هذا الصباح... فأجتاحها الخدر في مختلف أنحاء جسمها لهذه الفكرة.
وبسرعة، أشاحت بوجهها بعيداً، لا فائدة من التفكير بهذا الحلم، فهو لا يعني شيئاً... ثم ركزت انتباهها علي كومة الأوراق الأخيرة الموضوعة علي مكتبها. فالانجذاب نحو لوكاس داريان لا يعني سوى المتاعب. فبغض النظر عن سحره لا بد أنه شبيه بوالده... كما أنه قد يكون متزوجاً... ولكن ألم تقل شونا شيئاً عن تعكر مزاجه لأن صديقته قطعت علاقتها به؟ حسناً لعله غير متزوجا؟ لكن ما همها هي؟؟
- علي فكرة ميلدريد، أحتاج لمعرفة بعض التفاصيل عنك كي أتمكن من إدراج أسمك في الملفات. أنت تعلمين، الأمور المعتادة، رقم حسابك المصرفي وغيره كي أتمكن من تحويل راتبك مباشرة إلي المصرف و...
- إن كنت لا تمانع، أفضل الانتظار حتى انقضاء أسبوعي التجربة قبل أن تدرج أسمي في الملفات وغيره.
قاطعته بيني بكل ثقة، وتفاجأت لأنها بدت واثقة من نفسها إلي هذا الحد علماً أن قلبها يخفق بسرعة خوفاً ورعباً.
نظر إليها لوكاس مباشرة، وقد جالت عيناه السوداوان علي وجهها:
- ولم هذا؟ أتفكرين بعدم البقاء؟
- لا...
حاولت بيني أن تبتسم، عليها أن تلعب هذا الدور بحذر شديد، لأنه إن عرف لوكاس بأنها محتالة، فستسوء الأمور كثيراً، وبسرعة كبرى أيضاً.
- أفضل فقط إبقاء الأمور غير رسمية إلي أن تجعل وظيفتي دائمة.
تنهد لوكاس: ( حسناً، هذا حقك. يستحسن بي إذن أن أحسن التصرف إذا أردت الاحتفاظ بك).
شعرت بيني برغبة في الاستسلام وبمبادلته بعبارة لطيفة. فبسبب أسلوبه اللطيف، يسهل عليها تقبل أي شيء فيه. فكرت بهذا وهي تنظر إلي الدفء البادي في عينيه... دفء يجعل من السهل علي المرء التجاوب معه... لكنها فضلت أن تلزم الحذر، فهزت رأسها وقالت:
- نعم، هذه فكرة جيدة.
وابتسمت له قبل أن تدير ظهرها وتعود إلي كومة الأوراق المتبقية.
أردف لوكاس: ( إذاً ما رأيك لو أحسن التصرف وأوصلك إلي المنزل؟).
- ما من ضرورة. شكراً، هذا لطف منك.
ومرة جديدة ابتسمت له ببرودة ثم تابعت عملها.
كانت تدعي انهماكها فيما تفعله، إلا أنها كانت منتبهة كثيراً إلي قربه منها وتمنت لو أنه يبتعد.
- أعلم أنه ما من ضرورة لذلك، ولكنني أعرض عليك أن أوصلك.
بدا لوكاس منزعجاً من ردودها الباردة فتابع: ( في أي منطقة تسكنين يا ميلدريد؟).
أثار هذا السؤال البسيط الريبة في قلب بيني. وتمنت لو أنها تعرف شيئاً عن تلك المرأة التي انتحلت أسمها. نظرت إليه وقد بدا الضياع واضحاً في عينيها الخضراوين. إنها تكره ما يجري معها... فهي لا تجيد الكذب... سيكشف أمرها حتماً.
وفجأة تذكرت ما قاله لها لوكاس عندما كان يجري معها المقابلة. كانت ميلدريد تعمل كمساعدة شخصية للكولونيل مونتغومري كليف في باربادوس طيلة ثلاث سنوات. وتمسكت بهذه الذكري كغارق يتشبث بمركب الأمان.
- منذ أن تركت باربادوس، أعيش حياة الترحال. إذ بقيت كمية كبيرة من ممتلكاتي موضبة والآن أنا أقيم في فندق في سان خوان.
بدا كلامها مقنعاً. ودهشت بيني لطلاقتها.
- إذاً أنت لست واثقة من رغيتك بالبقاء هنا والإقامة في بورتوريكو، صح؟
أومأت بيني، وقد رضيت أن توافق علي نظريته وهي تأمل أن يتوقف عن طرح الأسئلة.
- حسناً، لا أظنك ستندمين علي مجيئك إلي بورتوريكو، فهي جزيرة جميلة جداً. من أين أنت أصلاً؟
لم تتوقع سؤاله: ( حسناً، أنا...).
سعلت بيني، إن قالت له إنها من أربودا، فلن يطول به الوقت حتى يدرك الحقيقة.
- أنا من باربادوس.
- جزيرة جميلة، لا بد أن حياتك فيها أمر جميل ورائع.
- نعم... رائع...
أحست بيني باحمرار وجهها وشعورها بالانزعاج.
- أما زالت عائلتك في باربادوس؟
- آه..
سعلت مجدداً وحاولت أن تأخذ نفساً عميقاً.
- هل أنت بخير؟
وتقدم منها وربت علي ظهرها وهي تحاول أن تتنشق كمية كبيرة من الهواء.
همست: ( شكراً... أنا بخير..).
وقف وذهب ليحضر لها كوب ماء من براد الماء الموضوع خارج باب المكتب. راقبته بيني بحذر من تحت رموشها. أتراوده الشكوك بشأنها؟ يبدو أنه يطرح الكثير من الأسئلة.
تمكنت من استعادة رباطة جأشها قبل أن يعود، إلا أنها ادعت عدم حصولها علي كمية كافية من الهواء وذلك تحسباً لرغبته بطرح المزيد من الأسئلة. إلا أن لوكاس لم يتابع الحديث بل وقف في مكانه يتفرج عليها وهي تشرب الماء البارد.
همست وهي تضع الكوب جانباً: ( شكراً لك).
- أنت علي الرحب والسعة.
ابتسم ومد يده ليطفئ المصباح الموضوع علي مكتبها، وأردف:
- هيا لنذهب من هنا، أظن أن كلينا قد عمل بما فيه الكفاية ليوم واحد.
تناولت بيني حقيبة يدها، وقد سرت بالوقوف، فقد أرادت أن تبتعد عنه بأسرع ما يمكن كيلا يطرح عليها المزيد من الأسئلة. فقالت باقتضاب: ( حسناً، سأراك غداً صباحاً).
نظر إليها ورفع حاجبيه: ( غداً السبت يا ميلدريد).
- أحقاً؟
حزنت بيني، فآخر ما تحتاج إليه في هذا الوقت هو عطلة نهاية الأسبوع، من الضروري جداً أن تجد الأوراق التي تبحث عنها قبل أن تظهر ميلدريد الحقيقية ويفتضح أمرها ...
همست: ( لقد فقدت الإحساس بالوقت).
- في الواقع، كنت سأسألك إن كنت لا تمانعين في العمل بضع ساعات إضافية نهاية هذا الأسبوع.
قال هذا وهو يطفئ الضوء الآخر ويمسك الباب لتخرج، ثم تابع:
- في الواقع أحتاج إلي هذه المستندات بسرعة والوقت لا يعمل لصالحي.
- نعم، أفهم تماماً ما تعنيه. لا أمانع أن أعمل في عطلة نهاية الأسبوع.
ابتسم لوكاس: ( هذا عظيم، وسأجعل الأمر يستحق العناء علي الصعيد المالي طبعاً).
أومأت بيدها كمن لا يهتم، فآخر ما يشغل بالها في الوقت الحالي هو مبلغ المال الذي سيدفعه لها لوكاس، فهي لا تنوي البقاء حتى قبض مستحقاتها علي أية حال.
- سنسوى هذه المسألة لاحقاً عندما أقرر أن أبقي. أو لعلك اتخذت قرارك وتريدني أن أبقي...
رد لوكاس مبتسماً وهو يفتح لها الباب الخارجي.
- أشعر أنه من النادر ألا يرغب أصحاب العمل بأن تبقي للعمل لديهم، أليس كذلك؟
- تواضعي يحول دون إجابتي علي هذا السؤال.
لم تستطع بيني ألا تبتسم. يبدو أنه لا يشك في شيء، كل ما في الأمر هو أن ضميرها يؤنبها.
قال لوكاس وهو يقفل باب المكتب: ( إذاً إلي أين أقلك، فسيارتي في الأسفل).
- سأستقل الباص يا لوكاس....
- لا تتصرفي بسخافة.
وابتعد عنها متجهاً نحو مدخل المرآب، من دون أن يترك لها أي مجال لتغير رأيها.
من جهة، سرت لأنها وجدت من يقلها فهي تشعر بالتعب والحر، ومن جهة أخرى، سيعرف لوكاس أين تقيم.... وسيستطيع الحضور إلي الفندق والتحري عنها.
منتديات ليلاس
فتح لوكاس باب سيارة مرسيدس رمادية اللون فجلست في المقعد المجاور لمقعد السائق.
سألها وهو يخرج من المرآب متوجهاً إلي الشارع المزدحم بالسيارات: ( حسناً، إلي أين؟).
- أقيم في حي سان خوان القديم.
علق لوكاس وهو ينتظر أن يتحرك السير: ( مكان جميل أليس كذلك؟).
- إنه خلاب.
- في أي فندق تنزلين؟
- كاساديل ملاريندا. إنه فندق جميل قرب...
- أعلم تماماً أين يقع.
- آه...
صمتت. تمنت لو أنها لم تقل هذا، فلسبب ما شعرت بأنها ضعيفة. وراحت تتساءل إن كان يعرف مالكي الفندق أيضاً، وتخيلت أن يقابل في يوم ما أصحاب الفندق في مكان عام، ويقول لهم تقيم مساعدتي الشخصية ميلدريد لديكم، ويري نظرة الاستغراب في عينيهم.
شعرت برعشة قوية. فنظر لوكاس إليها: ( هل مكيف الهواء قوي بالنسبة إليك؟).
- لا، أنا بخير.
- ولكنك ترتجفين. افتحي النافذة قليلاً ودعي بعض الهواء الساخن يدخل إن شئت.
- شكراً.
لا يفوت لوكاس داريان شيء أبداً.
زادت سرعة السيارة قليلاً عندما خفت زحمة السير ودخل بعض الهواء الساخن يداعب شعر بيني ويقربه من وجهها.
سألته وهي تحاول إدعاء عدم المبالاة: ( كيف تعرف مكان الفندق الذي أنزل فيه؟).
- إنه ذائع الصيت والجميع يعرف مكانه.
لا يبدو أنه يعرف أصحاب الفندق... الحمد لله.
تابع لوكاس ببرود: ( كنت أفكر أنه يستحسن بك أن تعملي غداً في منزلي. لدي غرفتان مليئتان بملفات والدي، لذا كلما أسرعت بالبحث فيهما كلما كان ذلك أفضل).
غرفتان! قضت اليوم بطوله ترتب خزانتي ملفات صغيرتين فكم سيستغرق من الوقت البحث في غرفتين مليئتين؟
وتابع لوكاس كلامه عندما لم تجبه بشيء:
- ولكن لا تقلقي، سأساعدك علي ترتيبها غداً إذ لدي الوقت.
- آه حقاً! ما من داع لذلك!
فآخر شيء تريده هو السماح للو كاس بمراقبتها تعمل.
- سننهي العمل بسرعة أكبر إن عملنا سوية.
- أظن أنك محق.
لم يعد من مجال لتقول له شيئاً.
استدار لوكاس نحو الشمال، وارتجت السيارة علي الطريق المليئة بالحصى لدي دخولهما شارع سان خوان. كانت الأبنية ذات الطراز الإسباني منتشرة علي طول الشوارع الضيقة، وكانت مطلية بألوان فاتحة وشرفات حديدية مليئة بالأزهار.
قالت وهما يقتربان من تقاطع الطريق الذي يؤدي إلي الفندق:
- يمكنك أن تنزلني هنا إن شئت.
- سأوصلك أمام باب الفندق، لا مشكلة.
رد لوكاس بنبرة لا تحتمل الرفض ثم سألها وهو يسلك الطريق الفرعية:
- ما الذي جعلك تقررين المجئ إلي بورتوريكو؟
شعرت بأنفاسها تنقطع: ( لقد عرضت علي الوكالة الوظيفة، فبدت مثيرة للاهتمام... إذ أنني أحب التنقل ورؤية أماكن مختلفة...).
- أنت فتاة تحب الحرية إذاً؟
- نعم، أظنني كذلك.
أقله الآن بيني تقول الحقيقة. فهي تحب السفر وقد كان هذا أحد الأسباب التي دفعتها لقبول العمل في منتجع سياحي متنقل علي سفينة.
توقف أمام الفندق: ( هذا أمر مشترك بيننا، فأحد الأسباب التي دفعتني إلي تأسيس شركة شحن ولعي بالشواطئ النائية)
- هل ساعدك والدك علي تأسيس شركتك؟
- لا، لم يهتم يوماً بالتجارة البحرية... بل البرية فقط.
- وهل كنت تعمل معه في صفقاته؟
لم تعلم لم سألته هذا السؤال، وظنت أنه بدافع الفضول.
- لا، كنت شديد الانهماك بأعمالي، ولكن لم تطرحين علي هذا السؤال؟
سرت لأن الظلام قد حل كيلا يري احمرار وجهها: ( لا شيء، أردت فقط أن أعرف إن كنت تملك فكرة عن المكان الذي يفترض بنا البحث فيه عن الملفات غداً).
- لا.... للأسف لا أملك أدني فكرة.
ردت بإيجابية: ( لا تقلق، فبعملنا معاً غداً، لا بد أنا سنجدها).
- فلنأمل ذلك.
قالت في نفسها ولنأمل أن أجدها قبلك! ويا للدهشة، خرج لوكاس من السيارة وفتح لها الباب. يا له من تصرف لائق! أمسكت يده التي مدها نحوها. وبعثت لمسة يده علي يدها في داخلها إحساساً غريباً. وبسرعة أفلتت يده.
ردت بتهذيب: ( شكراً لك لأنك أقليتني!).
ابتسم: ( أنت علي الرحب والسعة، فهذا أقل ما أستطيع فعله بعد أن عملت جاهدة طيلة اليوم ولم تخرجي إلي الغداء حتى).
تلك الليلة كان الهواء منعشاً يعبق برائحة الياسمين والفل المزروع في حديقة الفندق.
وقفت للحظة تحدق إليه. وفكرت وهي تشعر بشيء من الدوار بأن لوكاس داريان جذاب للغاية. إنه طويلا ونحيل وتنبعث منه قوة غريبة. ولعل السبب في ذلك هو عرض كتفيه مما يمنحه حضوراً قوياً، أو لعل نظراته الهادئة إليها هي التي تمنحه هذا السحر.
قال بهدوء: ( سأمر لاصطحابك غداً في التاسعة إلا ربعا).
شعرت وكأنها خضعت للتنويم المغناطيسي تحت سحر عينيه، فاستغرقت بضع لحظات لتدرك أن اصطحابه لها ليست بالفكرة الحميدة. فإن سأل أحدهم في الفندق عن الآنسة ميلدريد بانكروفت فستقع في ورطة كبيرة.
ردت بتسرع: ( لا بأس، إن أعطيتني عنوان منزلك سأستقل سيارة أجرة).
ابتسم: ( تحبين أن تكوني مستقلة، أليس كذلك؟ ولكن ما من مشكلة، فأنا مضطر إلي المجيء إلي الرصيف غداً صباحاً، علي إنهاء بعض الأعمال).
- حسناً.... ولكن.
- إن كنت سأتأخر سأتصل بك. ما هو رقم غرفتك؟
- لا... لا أتذكر. ولكن اسمع، يسهل علي حقاً أن أستقل سيارة أجرة و...
مد لوكاس يده ورفع ذقنها إلي الأعلى، فاضطرت إلي النظر في عينيه مجدداً. نظرت إليه برهة إلا أن سيلاً من المشاعر اجتاح أنحاء جسمها كافة.
قال بحزم: ( سأمر لاصطحابك غداً، ولا تقلقي بشأن رقم الغرفة فأنا واثق من أن ميلدريد بانكروفت واحدة تنزل في هذا الفندق).
هذا ما تظنه أنت! وراقبته وهو يبتعد عنها.
- أراك غداً يا ميلدريد.
- نعم... غدا....
صعد لوكاس إلي سيارته، لكنه لم يذهب بل انتظر ريثما تدخل إلي الفندق. وللحظة لم تكن سوى خيال منعكس علي الضوء.
لاحظ شكل جسمها في الفستان، ولون شعرها الذهبي. وتذكر كيف نظرت إليه منذ لحظات وكيف استعرت عيناها بمشاعر عميقة... لقد نظرت إليه بهذه الطريقة مرات عديدة ذلك اليوم. وبدت تارة وكأنها علي وشك أن تنقض عليه لتفترسه، وطوراً كأنها مستسلمة له بهناء وصفاء.
إنه مستعد للتضحية بأي شيء لمعرفة ما الذي يجول في خلدها. أدار لوكاس سيارته وابتعد. مازال عطرها يعبق في سيارته، ويعيد إليه ذكرى عينيها الخضراوين. ثمة شيء في هذه الآنسة بانكروفت يثير فضوله، غموض يشده ليعرف المزيد عنها....

زونار 25-12-09 02:44 PM

الفصل الثالث:
- ضاع الأمل
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
استيقظت بيني من الفجر واستحمت بسرعة ثم ارتدت تنوره بيضاء اللون مع قميص زهري. وضعت بعض التبرج علي وجهها محاولة إخفاء علامات عدم النوم، ثم نزلت علي السلالم إلي مكتب الاستقبال.
حزنت عندما رأت أن السيدة التي اعتادت بيني رؤيتها في مكتب الاستقبال غير موجودة، بل جلس مكانها الرجل الذي سجل أسمها وبياناتها يوم وصلت إلي الفندق.
منتديات ليلاس
حياها مبتسماً عندما وصلت إلي مكتب الاستقبال:
- صباح الخير سيدة كينيدي، لقد استيقظت باكراً هذا الصباح.
حاولت بيني عدم ملاحظة اهتمامه الظاهر بها وابتسمت له:
- فكرت في الذهاب في نزهة قبل أن تزداد أشعة الشمس قوة.
- فكرة ممتازة، ألديك مشاريع معينة لهذا اليوم؟
- في الواقع، أنا خارجة لتمضية النهار.... مع صديق.
حافظت علي ابتسامتها مرغمة:
- في الواقع، سيمر لاصطحابي بعد بضع ساعات، هل ستبقي في العمل حتى هذا الوقت؟
- نعم، أنا باق حتى العاشرة.
- سأكون ممتنة لو تتصل بي عندما يصل.
ثم رمته بابتسامة من ابتساماتها الساحرة، وقالت:
- آه! كدت أن أنسي. سيسأل عني تحت أسمي المهني ميلدريد بانكروفت.
سأل الرجل بسرعة قصوى: ( ولم تستعملين أسماً مهنياً؟).
- في الواقع أمارس مهنة الكتابة في وقت فراغي تحت أسم ميلدريد بانكروفت لذلك أنا في بورتوريكو، لإيجاد موضوع لكتابي الجديد. وسأكون ممتنة إن قمت بإعلام بقية موظفي الاستقبال إن ورد اتصال باسم ميلدريد بانكروفت بأن يحولوه إلي غرفتي أو يأخذوا رسالة بالنيابة عني.
أوشك عامل الاستقبال طرح المزيد من الأسئلة حول أنواع كتاباتها، لكنها لم تشأ المغالاة في الكذب أكثر.
- علي كل حال، أفضل أن أمضي، فالوقت يمر بسرعة، ولن أستطيع الذهاب في نزهتي ما لم أسرع.
كان قلبها يقفز من دون انتظام وهي تغادر الفندق نحو الشمس المشرقة. كانت تكره كل هذه الأكاذيب، وتساءلت إذا أقنعت الرجل بقصتها.
وجدت ساحة قبالة الفندق ومقهى صغير يقدم القهوة.
جلست قرب النافذة ليتسنى لها رؤية سيارة لوكاس إن حضر باكراًً، ثم طلبت فنجان كابوتشينو.
كانت تحتسي فنجان القهوة الثاني حين رأت سيارة لوكاس تركن قرب الفندق. وبسرعة وضعت بعض الأوراق النقدية علي الطاولة وخرجت من دون أن تنتظر الفكه.
- صباح الخير يا لوكاس.
نادت عليه من الشارع المقابل وهو يهم بإغلاق باب سيارته. وخيل لها للحظة أنه لم يسمعها، ثم ما لبث أن استدار نحوها.
- صباح الخير.
استند إلي سيارته وراح يراقبها وهي تتجه نحوه، جالت عيناه عليها، تلاحظان ساقيها الطويلتين تحت البذلة الأنيقة، وارتدائها حذاء عالي الكعب يعيق تقدمها علي الطريق المليء بالحصى.
قال لها ما إن وصلت إليه: ( أنت جاهزة والوقت لا يزال مبكراً).
- فكرت في استنشاق بعض الهواء النظيف قبل أن يزداد حر النهار.
- فكرة ممتازة.
ابتسم لها. بدا دافئاً وحنوناً. ثمة شيء غريب في لوكاس داريان يجعل نبضها يتسارع . حاولت إقناع نفسها بأن السبب وراء توترها هو الأكاذيب التي لا تنفك تلفقها، ولكن لا، ففي قرارة نفسها تعرف أن السبب مغاير لما تحاول إقناع نفسها به. فالمشكلة أنها تجده جذاباً بشكل خطير.
قال لوكاس وهو يتوجه ليفتح لها باب السيارة:
- لطالما اعتبرت أن الصباح هو الفترة الأفضل في اليوم.
وافقته الرأي وهي تحاول جاهدة التركيز علي الحديث لا عليه:
- نعم، وخاصة إن كنت تنوي قضاء بقية اليوم داخل المكتب.
- هل تتمنين لو أنك لم توافقي علي العمل لساعات إضافية خلال عطلة نهاية الأسبوع؟
- لا، أنا لا أمانع.
- حسناً، أعدك بأن لا أدعك تكدين في العمل. سنتوقف عند الظهيرة ونتناول غداءً شهياً، ما رأيك بهذا الاقتراح؟
ردت من دون أن تلتزم بوعد: ( فلنر كم سننجز من الملفات اليوم قبل أن نقرر لكم من الوقت سنستريح).
قال ممازحاً: ( إن كنت تحاولين إثارة إعجابي بمدى التزامك بالعمل آنسة بانكروفت، فلقد نجحتِ).
صعدت إلي السيارة، ونظرت إليه يسير في الاتجاه المعاكس ليوافيها. المشكلة أنها تركز علي الأمور الخطأ عندما يكون بجوارها. إنه يشتت انتباهها كثيراً، كما أن ملابسه هذا الصباح تزيد من تشتت انتباهها. كان يرتدي سروال جينز أزرق فاتح مع قميص يظهر عرض كتفيه.
وبصعوبة أشاحت بنظرها عنه. لا تفكري بأمور كهذه يا بيني! ركزي انتباهك علي سبب وجودك هنا! لوكاس داريان هو العدو.
صعد إلي السيارة وابتسم لها، فبادلته الابتسامة. يا إلهي يا لروعة عينيه!
- لا تنسي وضع حزام الأمان.
- لا، طبعاً لا.
وبسرعة استفاقت من حلمها ومدت يدها لتتناول حزام الأمان. فالغريب بالأمر هو أنها لم تشعر منذ سنوات بانجذاب كهذا نحو رجل ما. فآخر رجل أثار اهتمامها كان نيك، وانتهت علاقتهما بكارثة حقيقية، وكانت السبب الرئيسي لمغادرتها أربودا والذهاب للعمل في البحر.
كانت متيمة بحب نيك. وظنت أنه يبادلها الشعور نفسه. وصدمت صدمة كبيرة عندما عرفت أنه يقابل امرأة أخرى خفية عنها. وبأن الليالي التي كان يدعي فيها العمل لساعات متأخرة لادخار المال لزواجهما، كان يقضيها مع امرأة أخرى في السهر واللهو. لقد تألمت لخيانته، وأقسمت ألا تغرم بأحد مجدداً.

بالرغم من مرور عامين علي انفصالها عن نيك، ما زال التفكير بالموضوع يزعجها. وبحزم وجهت انتباهها إلي المناظر الطبيعية علي طول الطريق. لقد غادرا المنطقة الآن، وكانت السيارة تتجه صعوداً نحو طرقات جبلية ضيقة. كان الجبل أخضر واستوائياً، وبدا المنظر من الجبل الأخضر نحو البحر الأزرق خلاباً يخطف الألباب.
اتجه لوكاس بالسيارة نحو ممر ضيق يقود إلي حدائق مزينة تسورها أشجار جوز الهند قبل الوصول إلي منزل قائم علي تل. كان الدرج يقود إلي شرفة كبيرة تلف المبني مفروشة بكراس من قصب وأرجوحة موضوعة تسمح للجالس عليها بالتمتع بمنظر الأشجار والبحر خلفها.
أول ما لفت انتباه بيني عندما ترجلت من السيارة كان الصمت والسكون المحيطان بالمكان.
قالت وهي تصعد الدرج برفقته وصولاً إلي الشرفة: ( منزلك جميل هنا).
- كان بحاجة إلي الكثير من التصليح عندما اشتريته، واحتاج إلي الكثير من العمل ليعود إلي جماله، ولكن أظن بأننا نجحنا أخيراً.
فتح لها باب المدخل وأدخلها قبله إلي ردهة استقبال كبيرة. لاحظت بيني فوراً أنه لم يوفر أي مال في سبيل إعادة المنزل إلي رونقه وجماله. كانت الأرض من الخشب الصلب مغطاة بسجادة فارسية، ودرج كبير واسع وضعت قبالته ساعة حائط كبيرة وقديمة. لاحظت إلي اليمين غرفة للرسم مفروشة بأثاث أزرق وذهبي، أما إلي اليسار فغرفة الطعام تتوسطها طاولة ضخمة من خشب الماهوغاني.
- مكتبي في الجهة الأخرى من المنزل.
وتوقف لوكاس عن الكلام عندما فتح باب وركضت فتاة صغيرة في الرواق يتبعها كلب لابرادور ينبح فرحاً.
قالت الفتاة وهي تركض نحو لوكاس وتتوق ليحملها: ( أحزر ما حصل اليوم صباحاً؟).
حملها بين ذراعيه، ثم انحنى يداعب الكلب: ( ماذا جري؟ أصمت يا فلينت).
فصمت الكلب فجأة وهو يهز بذنبه وينظر إلي لوكاس.
سأل لوكاس الفتاة مجدداً: ( إذاً، ما سبب كل هذه الحماسة؟).
- كانت السيدة غوردن تخبز قالب حلوى فاحترق وبات أسود كالفحم، وتصاعد الدخان من الفرن وانطلق جهاز إنذار الحريق وراحت تصرخ وتصرخ من دون توقف.
استدار لوكاس نحو بيني:
- ما من صباح ممل في هذا المنزل! ميلدريد أقدم لك ابنتي ايزوبيل.
للوكاس ابنة... دهشت بيني دهشة ما بعدها دهشة. أيعني هذا أنه متزوج أيضاً؟ إذ عندما ذكرت شونا انفصاله عن صديقته، استنتجت بيني أنه عازب. ولكن كان حرى بها أن تعلم، فهو زير نساء تماماً كما كان والده.
نظرت الفتاة إليها بعينين واسعتين ملؤهما الفضول. تبدو في السادسة من عمرها وهي رائعة بوجهها الناعم وشعرها الأسود اللماع الناعم، وعينيها السوداوين كالفحم.
ابتسمت بيني لها: ( مرحباً ايزوبيل).
بادلتها الابتسامة: ( مرحباً).
ظهرت امرأة في الرواق تضع واحدة من يديها علي خصرها ووجهها مقطب: ( ايزوبيل، تعالي ونظفي الفوضى التي أحدثتها من فضلك).
- حاضر سيدة غوردن.
لم تسر ايزوبيل بما طلب منها إلا أنها أذعنت للأوامر ونزلت من بين ذراع والدها علي مضض وتوجهت نحو السيدة الأخرى.
قال لوكاس ممازحاً: ( أظنك عرفت نشاطاً غير عادي في المطبخ هذا الصباح سيدة غوردن!).
ردت المرأة وهي تهز رأسها: ( لا بد أن منبه الوقت في الفرن معطل، لم يسبق أن حصلت معي كارثة مماثلة).
ونظرت إلي الكلب الذي حاول اجتيازها ليتبع الطفلة خلسة:
- كما وقلت مراراً أن المطبخ ليس بمكان يدخل إليه الكلب.
ثم قالت مشيرة بأصبعها إلي الكلب: ( هيا اذهب من هنا!).
ابتعد فلينت ثم جلس يراقب الباب بحسرة بعدما أغلق وراء المرأة والفتاة.
قال لوكاس مبتسماً وهو يدل بيني إلي رواق:
- هذه السيدة غوردن مدبرة منزلي... ومربية ايزوبيل. لا تنخدعي بمظهرها القاسي، فهذه المرأة كنز ثمين وتدير المنزل بفعالية تامة... حسناً غالباً ما تفعل هذا، فهي لم تحرق شيئاً من قبل.
تمتمت بيني: ( نمر كلنا بأيام صعبة. لا بد أن زوجتك ممتنة للحصول علي مساعدة فهذا المنزل كبير ويصعب تولي أمره).
- لسوء الحظ توفيت زوجتي منذ أربع سنوات.
- أنا آسفة جداً.
نظرت إليه بيني بأسي، وشعرت بالذنب لاعتقادها أنه زير نساء كوالده.
فتح لوكاس الباب لتظهر غرفة كبيرة فسيحة ملئي بالصناديق وخزائن الملفات التي تحجب رؤية النافذة الكبيرة الفرنسية الطراز.
قال لوكاس عندما استدار ورأي التعابير التي ارتسمت علي وجهها:
- قلت لك أنه ثمة الكثير من العمل.
لكن بيني لم تكن تفكر في كمية الملفات بل في أن من الخطأ أن تخدع هذا الرجل.
وقبل أن تتمكن من قول أي شيء، رن هاتف المكتب فأجاب لوكاس:
- مرحباً...لا، لم أجد الملفات بعد. آمل أن أجدها اليوم فنطرد ويليم كينيدي في نهاية الشهر وتتمكن الجرافات من بدء العمل.
شعرت بيني بقلبها ينقبض عندما سمعت أسم والدها يذكر بتلك الطريقة الباردة.
- سأتصل بك وسأعلمك بما يجد يا سلفادور. نعم.... ما من مشكلة، كيف حال ماريا؟ حسناً أرسل لها سلامي.
أغلق لوكاس سماعة الهاتف ونظر نحو بيني: ( هل أنت بخير؟).
ولاحظت أنها تقف مسمرة في مكانها تحدق إليه.
ردت بسرعة وهي تغلق الباب خلفها وتدخل: ( نعم... بخير).
- إنه سلفادور، صديق العائلة، ومحامي. تنتظر زوجته طفلها الأول، لذا فالجو في منزلهما مليء بالإثارة.
قالت بيني وهي تتجه نحو المكتب: ( يفاجئني أن يفكر بالعمل نهار السبت إذاً).
- نعم، أنه رجل ممتاز. أنا ممتن له لأنه قبل الحلول محل محامي والدي السابق. فذاك الرجل كان محتالاً للغاية ولم أثق به يوماً.
ولعل هذا هو السبب الذي دفع والده لتوظيفه.
- إذاً سيحرص صديقك علي تنفيذ أمر الإخلاء بحق السيد كينيدي.
- إن استطعت إيجاد المستندات اللازمة.
حاولت بيني إفساح المجال علي المكتب حتى تبدأ العمل وسألت:
- هل تراودك الشكوك حول هذا الأمر؟
- حول ماذا؟
- حول طرد رجل عاجز من ممتلكاته!
لم يجب لوكاس فوراً، ونظرت إليه وأيقنت أنها تريد من كل قلبها أن يجيب بالإيجاب. وإن أقر بهذا، فقد تخبره الحقيقة.
ابتسم ابتسامة جافة: ( تطرحين سؤالاً غريباً).
- أحقاً؟
تملكها الرعب وخافت أن تكون قد تجاوزت الحدود.
وقف لوكاس قرب خزانة الملفات وحدق إليها متسائلاً:
- نعم، لم تطرحين هذا السؤال؟
- لقد تذكرت بأنك قلت لي أن الرجل كان شريك والدك في العمل، وكنت أتساءل إن كنت تشعر ببعض التردد لاتخاذ الأمور هذا المنحي، ليس إلا.
- حسناً تعرفين ما يقال ميلدريد... لا يمكن للمشاعر أن تلعب دوراً في الأعمال.
جاء جوابه مطابقاً للجواب الذي كان سيدلي به والده لو طرح عليه السؤال عينه، فخاب أملها. أرادت أن تقول له بأن ما يجري ليس عملاً، بل هو انتقام مدبر ضد رجل عجوز ضعيف، انتقام أصر والده القاسي القلب علي المضي قدماً فيه حتى بعد وفاته. ولكن أن تقول هذا يعني أن تكشف الحقيقة، ولم تكن واثقة من رغبتها بالإقدام علي هذه الخطوة، وخاصة الآن بعد أن سمعته يتحدث إلي محاميه.
- حسناً، أظن أن علينا البدء بالعمل.
قالت هذا وهي تخلع سترتها وتتناول ملفاً من الملفات. تباً له علي كل حال! فكرت وهي تفرغ محتويات الملف علي المكتب، وتنظر إليها بحثاً عن صك ملكية منزل والدها. يستحسن بها استغلال الفرصة إلي أقصي حد. فهذه هي الفرصة الوحيدة التي يملكها والدها للخروج من مأزقه.
طارت الساعة تلو الأخرى بسرعة جنونية، وبدا البحث عن الملفات دون جدوى. وعندما اقترح لوكاس التوقف عن العمل لأخذ استراحة الغداء، رفضت بيني وتمتمت:
- علينا أن نكمل، فالوقت يداهمنا ولا يعمل لصالحنا.
- حسناً، اسمعي، سنأكل ونحن نعمل، بشرط واحد.
نظرت إليه: ( ما هو هذا الشرط؟).
ابتسم: ( أن تبقي لتناول العشاء معي هذه الليلة).
ثمة شيء في الطريقة التي وجه فيها الدعوة إليها جعلت قلبها يتوقف للحظة. ردت بتسرع: ( لا أظن أنني أقدر).
- ولم لا؟
- هذا لطف بالغ منك... ولكنني لا أريد أن أتطفل.
- أنت لا تتطفلين، فأنا أريدك أن تبقي.
والمزعج في الأمر أنها أرادت أن تبقي، بالرغم من أنها تدرك ضرورة إبقاء مسافة بينهما والحفاظ علي علاقة عمل فحسب.
- أظن أننا نستطيع عندها متابعة العمل بعد العشاء.
محاولة أن تبرر لنفسها سبب قبولها الدعوة.
- هل تتكلمين بجدية؟
نظر إليها لوكاس ممازحاً. جعلها سؤاله ونظراته تحمر:
- حسناً، أحاول أن أتصرف بطريقة مسئولة. فالوقت يمر بسرعة.
- أظن بأننا سنكون قد أنجزنا كمية كبيرة من العمل حتى وقت العشاء. والآن اعذريني، سأذهب للبحث عن السيدة غوردن لأطلب منها أن تعد لنا شيئاً خفيفاً نتناوله هنا ريثما يحل وقت العشاء.
رجعت بيني إلي الوراء علي كرسيها وتنهدت عندما غادر الغرفة. حبذا لو أنه بارد وقاس لكان سهل عليها مهمتها. نظرت إلي الملفات التي يعمل عليها وفكرت أن تلقي نظرة سريعة عليها قبل عودته.
كانت بيني تنظر إلي كومة من الرسائل حين عثرت علي رسالة بعثها والدها في العام الفائت. وبسرعة نظرت أكثر في الملف، فإن وجدت فيه رسالة لوالدها، فلا بد أن هناك المزيد.
وما إن استغرقت في البحث حتى سمعت وقع خطوات لوكاس. وبسرعة البرق دمجت هذا الملف بالملف الذي كانت تعمل عليه وعادت إلي مقعدها.
دخل لوكاس ما إن جلست علي الكرسي.
- كيف تجري الأمور؟
- بخير.
وضع كوباً من القهوة بجانبها: ( هل وجدت شيئاً؟).
- ليس بعد!
- لعلي سأكون محظوظاً بهذا الملف. لاحظت وجود بعض الرسائل من ويليم كينيدي، فربما تكون المستندات هنا أيضاَ.
- هذا مبشر فعلاً.
شعرت بيني بانقباض في معدتها. فهي لم تعي أنه سبق له أن نظر إلي علبة الملفات. سيعرف حتماً أنها أخذتها.
تمتم وهو يبحث في الملف: ( غريب أعجز عن إيجاد الرسائل).
- لا بد أنك تنظر في الصندوق الخطأ.
وقفت بيني ونظرت إلي خزانة من خزائن الملفات الموضوعة خلفه، تشغل نفسها في ترتيب أوراق سبق أن فرزتها. لن تستطيع تحمل الجلوس قبالته لأنه إن نظر إليها مباشرة وسألها إن هي أخذت الملف، فسيصبح وجهها أحمر كالدم.
فتح باب المكتب ودخلت السيدة غوردن تحمل السندوتشات. ووقفت ايزوبيل عند الباب خلفها.
قالت بخجل: ( لا تنس أنك وعدتني بأن تسبح معي بعد الظهر).
نظر لوكاس إلي ابنته: ( لا، لن أنسي يا حبيبتي).
ابتسمت الفتاة وهرعت إلي داخل المكتب لتجلس علي حضن والدها.
- لكم من الوقت ستعمل بعد يا أبي؟
- امنحيني ساعة من الوقت وسأكون بتصرفك.
وأزاح شعرها الأسود الناعم عن وجهها ثم سألها: ( هل تناولت الغداء؟).
أومأت إيزوبيل: ( نعم، تناولت البيتزا).
سألها وهو يرفع حاجبه: ( وهل تناولت بعض السلطة معها؟).
حكت إيزوبيل أنفها، فقال لوكاس بحنان:
- تعرفين أن عليك تناول بعض الخضار يا إيزي، سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع... أتذكرين؟
- نعم.
دغدغها لوكاس وضحكت ثم قال:
- يستحسن أن تتناولي الخضار أيتها الآنسة الصغيرة وإلا ستقعين في مشكلة كبيرة.
- حسناً.... حسناً...
قبل جبينها وقال:
- أنت فتاة مطيعة، والآن أذهبي ودعي والدك يعود إلي عمله. سأوافيك بعد قليل لنسبح.
لفت الفتاة ذراعيها حول والدها وقبلته: ( أحبك أبي).
- وأنا أيضاً يا صغيرتي.
وهرعت إيزوبيل نحو الباب حيث كانت السيدة غوردن تنتظرها.
- عذراً للمقاطعة. لكن كما استنتجت حتماً أنا مضطر لتركك لبضع ساعات لأقضي بعض الوقت مع ابنتي.
- لا بأس.
عادت بيني إلي مقعدها. لقد أثر بها ما جري بينه وبين ابنته.
- لا بد أن الأمر متعب أن تكون مدير شركة ووالد أعزب في الوقت عينه.
- الأمر ليس سهلاً، وأكره حين أضطر إلي العمل لساعات إضافية. لكن السيدة غوردن قادرة علي تحمل المسئولية، وإيزوبيل تحبها كثيراً، مما يخفف عني الضغط.
ومد يده إلي الملف الموضوع أمامه.
توقعت بيني أن يعلق علي الرسائل الضائعة، لكنه لم يعاود ذكر الموضوع.
نظرت إليه فإذا به غارق في قراءة مستند ما. وعلي مضض. عادت إلي كومة الأوراق الموضوعة أمامها.
ساد الصمت في الغرفة لا يقطعه سوى حفيف الأوراق، وصوت قلمها وهي تبوب المستندات. وتساءلت بم هو منهمك إلي هذا الحد.
وفجأة قال لوكاس: ( حسناً، هذا أمر مثير للاهتمام!).
- ماذا؟
- وجدت بعض الأوراق المتعلقة بالشراكة بين والدي وكينيدي.
- أحقاً؟
- كما وجدت صك ملكية كينيدي.
وحمل مستندات صفراء اللون ولوح بها عالياً.
اتسعت عينا بيني. لم تصدق ما تري. تباً! يا لحظها السيئ!
حاولت إبداء بعض الحماسة:
- آه، رائع، أيعني هذا أنك ستمضي قدماً في عملية الإخلاء فوراً؟
- لا، فبحسب سلفادور، أحتاج إلي المزيد من الأوراق، كنسخ عن الإنذارات السابقة، وغيرها. ولكن حصولي علي صك الملكية يسهل علي الكثير من الأمور.
أبعد لوكاس كرسيه عن المكتب:
- سأضعها في مكان آمن لآخذها إلي سلفادور صباح الاثنين أو ربما غداً إن كان متفرغاً.
راقبته بيني يتجه نحو الدرج الأعلى ويضع الملفات فيه، ثم يغلقه بالمفتاح ويضع المفتاح في جيب سرواله. قال لوكاس ببرودة: ( سأقضي بعض الوقت مع ابنتي. إذاً أستطيع تركك تعملين علي الملفات وتبحثين عن الإنذارات ...).
- طبعاً.
راقبته يغادر الغرفة وقد تبعه فلينت عن كثب. ثم رجعت في كرسيها إلي الوراء وأنت.
ظنت أن كل ما تستطيع فعله الآن هو محاولة إيجاد بقية الأوراق. جالت بعينيها علي الغرفة تنظر إلي الصناديق والخزائن المعدنية. وفجأة أحست بصعوبة مهمتها أكثر فأكثر، وانتابها شعور مزعج إذ أحست بأن ميلدريد الحقيقية ستظهر قبل أن تجد تلك الأوراق.
* * *

زونار 25-12-09 02:45 PM

الفصل الرابع:
- انتبهي وإلا....
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عملت بيني بجهد طيلة فترة بعد الظهر، إلا أنها لم تجد الأوراق. وما برح نظرها يميل نحو الخزانة المقفلة التي تحتوي علي صك منزل والدها.
سمعت ضحكة طفلة في الخارج فوقفت بيني تتفرج من النافذة. استطاعت أن ترى حافة بركة السباحة والمصطبة الطويلة حيث تناثرت كراس وطاولات ومظلات. وفيما هي تنظر، رأت لوكاس يسبح وإيزوبيل تركض بلباس سباحة أحمر اللون.
وقف لوكاس في الماء ومد يديه نحو ابنته. وببهجة قفزت الفتاة فحملها لوكاس ووضعها علي كتفيه.
- مجدداً...مجدداً...
وصل صوت إيزوبيل إلي مسامع بيني، كما وصلت ضحكتها عندما كان لوكاس يدور بها قبل أن يضعها علي حافة بركة السباحة لتكرار العملية نفسها.
يا لصبره معها! فكرت بيني مبتسمة وهي تشاهد لوكاس يلاعب ابنته. وفجأة انحرف تفكيرها من مدى روعته كوالد إلي جسمه الرائع.
وبغضب ابتعدت عن النافذة وعادت إلي العمل. عليها أن تكف عن التفكير بلوكاس كرجل بل عليها أن تذكر دوماً أنه العدو، فكل تفكير آخر هو جنون مطبق. كانت غاضبة جداً من نفسها، فانكبت علي العمل بسرعة أكبر. إلا أن سرعتها في العمل لم تفدها بشيء، فلم يظهر أي أثر للأوراق.
ولحين عودة لوكاس إلي المكتب بعد حوالي الساعة، كانت قد استكملت العمل علي أكثر من صندوق ولكن من دون جدوى، وشعرت بالإحباط الشديد.
قال لوكاس مسروراً وهو ينظر إلي المساحة التي فرغت في الغرفة:
- لقد أنجزت الكثير من العمل، فهل حالفك الحظ بايجاد الأوراق؟
هزت رأسها نفياً. ابتسم: ( لا تقلقي، فهي ليست مهمة للغاية الآن وقد وجدنا صك الملكية. لعلنا سنجدها غداً. والآن لم لا تنضمين إلي لشرب شيء بارد قبل العشاء علي الشرفة؟).
أسندت بيني ظهرها علي الكرسي ونظرت إليه. لاحظت أنه غير ملابسه وارتدي سروال جينز أسود وقميصاً. كان شعره منسدلاً إلي الوراء ولا يزال رطباً.
يا للأسف! إنها تجده جذاباً إلي هذا الحد، فهذا يزيد من سوء الوضع.
حدق إليها بنظرة قاتلة: ( إذاً ماذا قلت؟ هل نشاهد الشمس تغرب ونحن نتناول بعض الشاي المثلج أو العصير؟).
بدا العرض مغرياً جداً. وقد ضاقت ذرعاً من العمل.
- هذه فكرة جيدة.
تركت سترتها معلقة علي ظهر الكرسي ووقفت وتبعته إلي خارج المكتب. وبالرغم من أن الهواء دافئ في الخارج إلا أن هناك نسيم عليل يلطف الأجواء. انحنت بيني علي الشرفة الخشبية وحدقت إلي الحديقة فإلي الأشجار التي يطل البحر خلفها. بدأت الشمس بالغروب فأضاءت البحر بألسنة من نار.
انضم لوكاس إليها وقدم لها كوباً من الشاي المثلج.
ابتسمت له: ( شكراً، لديك منظر طبيعي رائع من هنا).
- نعم.
ساد الصمت للحظة تأمل فيها كلاهما الشمس تغرب، استدارت قليلاً لتنظر إليه فوجدت عينيه مسمرتين عليها. ترى هل تتخيل الأمور أم أنه يراقبها عن كثب؟ قال: ( بما أنك آتية من باربادوس، فلا بد أنك معتادة علي المناظر الطبيعية الجميلة).
إنه كلام طبيعي، ولكنه نبه أعصابها وحواسها، فوافقت محاولة التحدث بطريقة عادية خالية من الانفعال.
- باربادوس جزيرة جميلة.
- أين كنت تعيشين؟ أفي الجزء التابع للكاراييب أو للمحيط الأطلسي من الجزيرة؟
- الأطلسي.
إنها تكذب طبعاً، فلقد عاشت علي الساحل الأطلسي لجزيرة أربودا.
- المناظر الطبيعية رائعة هناك وخصوصاً علي الشاطئ الجنوبي ناحية بيتشابا.
- أري بأنك قد زرت باربادوس.
حاولت تغيير مسار الحديث لينصب عليه، فكل تلك الأكاذيب تشعرها بالانزعاج.
- أذهب في رحلات عمل كثيرة إلي هناك. كما وأنني قضيت شهر عسلي علي تلك الجزيرة.
- إنه مكان رومانسي جداً لتمضية شهر العسل.
- نعم...
صمت لوكاس لبرهة. ظنت بيني أنها رأت في عينيه بعض الغضب ولكنها لم تكن واثقة.
قالت: ( لا بد أنك تفتقدها كثيراً).
أحنى رأسه: ( كان الأمر صعباً علي في السنوات الفائتة).
هبط الليل كستار أسود، وبات صوت الحشرات يسمع كأنه أوركسترا تعزف من دون انسجام.
- أتمانع إن سألتك ماذا جرى لها، أم أنه سؤال شخصي جداً؟
تنهد: ( لا، لا أمانع. توفيت وهي تحاول إنقاذ رجل من الغرق، ما كان يفترض به النزول إلي الماء، فقد كان ثملاً كما أنهم أذاعوا طيلة النهار عن احتمال وصول عواصف. والمضحك المبكي في الأمر هو أن الرجل بخير الآن. فقد تمكن من العودة إلي الشاطئ، أما كاي، التي كانت سباحة ماهرة ومعلمة رياضة، فلم...).
ذعرت بيني: ( هل كنت معها عندما حصلت الحادثة؟).
هز لوكاس رأسه نفياً: ( لا، كنت في العمل. لم أعلم بما جري إلا عندما حضر رجال الشرطة إلي مكتبي لإعلامي بالفاجعة).
- آسفة فعلاً يا لوكاس، لا بد أنك تألمت كثيراً.
- احتجت إلي الكثير من الوقت لأتقبل الفكرة.
وتوقف للحظة عن الكلام وشرب بعض الشاي المثلج ثم أكمل:
- علي كل حال، كفي حديثاً عن هذا الموضوع المأساوي وأخبريني عنك.
- أنا؟ ما من شيء هام أخبره.
تفاجأت لتحول الحديث نحوها مجدداً.
- لا أصدق هذا، أنا علي ثقة من وجود الكثير من الأمور المثيرة للاهتمام والتي يمكنك إخباري إياها.
شعرت بيني بالانزعاج: ( هذا رهن بما تسميه مثيراً للاهتمام).
- حسناً، لم تفتقر سيرتك الذاتية إلي الدقة؟
شعرت بيني باحمرار وجنتيها.
- أنت تعلمين هذا، فبحسب الأوراق التي أرسلتها لي الوكالة، يفترض بك أن تكوني في الخامسة والخمسين من العمر. كم عمرك أساساً؟
- ألا تعلم أنه لا يفترض بالرجل النبيل أن يسأل السيدة عن عمرها؟
- لم أدع يوماً أنني رجل نبيل. أظن أنك في السادسة والعشرين من العمر.
صححت معلوماته: ( في الثامنة والعشرين).
- حسناً، لن أقول المزيد، ولكن ثمة شيء غير دقيق.
- كل ما في الأمر هو أن عدداً من أصحاب العمل يفضلون الحصول علي مساعدات شخصيات كبيرات في السن، فأضفيت بعض المبالغات علي سيرتي الذاتية. كما أنني ما إن أبدأ العمل، فلا أحد يتذمر مني.
- وأنا لا أتذمر أيضاً... أقله حتى الآن، فبالإضافة إلي المغالاة في السيرة الذاتية، ماذا تنوين بعد؟
قفز قلبها من مكانه.
عفواً؟
أوضح سؤاله: ( ماذا تفعلين في وقت فراغك؟).
ابتسمت وتابعت: ( آه... فهمت. حسناً أحب القراءة، والاستماع إلي الموسيقي، وممارسة اليوغا لأسترخي، وتعلمت الإبحار عندما كنت في أر.... باربادوس).
أوشكت أن تقول أربودا وتكشف الأمر كله. قفز قلبها في صدرها. لم تكن تجيد الكذب كما أنها تكرهه، وتكره أن تكذب عليه بشكل خاص. جال بنظره عليها، وقال: ( أنا أيضاً أحب الإبحار عندما أملك الوقت. في الواقع لدي يخت راس في مكان غير بعيد من هنا).
أقله لم يلاحظ زلة لسانها، ولكن عليها أن تلزم الحذر. سألها:
- لعلك تودين مرافقتي للإبحار في عطلة نهاية أسبوع ما؟ كعربون شكر علي عملك الشاق.
ابتسمت: ( فكرة رائعة).
وفيما نظرت إلي سواد عينيه أيقنت أن هذه الفكرة فعلاً رائعة. إنها تود لو تمضي المزيد من الوقت معه، والتعرف إليه عن كثب..... وبسرعة أشاحت بنظرها بعيداً وشربت جرعة من الشاي، لن يحصل أبداً ما تفكر فيه. إنها هنا لسبب واحد. إنه عدو والدها وهذا كل ما تحتاج لمعرفته عنه، فبمجرد التفكير أنه طيب، تخون والدها.
تابع: ( ربما يمكننا الذهاب في عطلة نهاية الأسبوع المقبلة. أشعر بأننا سنكون قد انتهينا من هذه الأعمال حتى وقتها).
- فلنأمل هذا!
- حسناً! إن لم أجد الأوراق المطلوبة حتى ذلك الوقت، فيمكنني توديع صفقة أربودا لأن رخصة البناء ستكون قد انتهت مدتها. مما يعني أنني سأفقد شاري المشروع أيضاً.
نظرت إليه بيني وقد ارتسمت علي وجهها أسئلة كثيرة.
- لقد عرض علي شخص مبلغ كبيراً من المال لقاء عقار كينيدي والشاطئ المقابل وقد وافقت علي العملية لأنني لا أنوي أبداً الإشراف علي المشروع بنفسي. ولكن المشكلة الوحيدة هي أننا إن لم نتم صفقة البيع قبل نهاية الشهر، تلغي الصفقة.
- يا للأسف!
- حسناً، فلنأمل الآن بعد أن وجدنا الصك ألا تكون الأوراق الأخرى بعيدة.
يا لوقاحة هذا الرجل! لقد وجد مشترياً لمنزل والدها الذي لم يصبح ملكه بعد!
وصلت مدبرة المنزل ووقفت أمام الباب خلفهما: ( العشاء جاهز).
- شكراً لك سيدة غوردن.
وابتسم لبيني ثم قال: ( علي كل حال كفانا حديثاً عن الأعمال لهذه الليلة).
- نعم، أنت محق. أظنني سأري صناديق من الأوراق في أحلامي الليلة.
ضحك لوكاس: ( يبدو هذا الحلم أشبه بكابوس).
أكثر مما تتصور، فكرت وهما يدخلان إلي المنزل.
جهزت غرفة الطعام الواسعة لشخصين. كان ضوء الشمعة يرقص وينعكس علي الطاولة اللامعة، وعبقت الغرفة برائحة السوسن الأبيض.
مرت السيدة غوردن بجانبها وقالت: ( لطالما أحبت السيدة داريان وضع زهور نضرة في المنزل).
عندما انفرد لوكاس وبيني، قال لها: ( السيدة غوردن مخلصة جداً لزوجتي، فقد كانت تعتني بكاي عندما كانت طفلة، وقد فكرت فيها كاي وحدها عندما بدأنا نبحث عن مدبرة للمنزل).
سُمع صوت في الرواق فاستدار.
- أبي...
وقفت إيزوبيل في وسط الغرفة ترتدي بيجامة بيضاء وتحمل دباً صغيراً في يدها.
- قالت لي السيدة غوردن أنه علي أن أتمني لكما ليلة سعيدة. ولكن ألا يمكنني السهر لفترة أطول، فما من مدرسة غداً؟
- لا أظن ذلك يا عزيزتي. فعليك أن تنهضي باكراً في الغد... قالت جدتك أنها ستمر لاصطحابك في السابعة والنصف.
اقتربت إيزوبيل أكثر.
- ولكنني لست متعبة.
- ستتعبين غداً ما لم تنامي جيداً هذه الليلة.
مد لوكاس يده وحملها ليضعها علي ركبته. ضحكت ونظرت إلي الجهة الأخرى نحو بيني بعينين تشعان: ( هل أنت صديقة أبي الجديدة؟).
ولسبب من الأسباب، لاحظت بيني بأن لوكاس ينظر إليها:
- لا إيزوبيل، أنا أعمل مع والدك، أساعده علي ترتيب كافة الملفات الموجودة في المكتب.
أومأت إيزوبيل ثم أخبرت بيني بجدية: ( سألعب دور الأميرة الجنية في مسرحية المدرسة).
- أنا واثقة من أنك ستكونين أميرة جنية جميلة جداً. ماذا سترتدين؟
عبست إيزوبيل: ( لا أعرف).
- حسناً! ترتدي الأميرة الجنية عادة فستاناً أبيض طويلاً، وتضع علي رأسها تاجاً صغيراً، وتحمل صولجاناً علي رأسه نجمة. أتظنين أنك سترتدين شيئاً كهذا؟
ابتسمت إيزوبيل ابتسامة عريضة:
- لا أعرف، يمكن.... ستصطحبني الآنسة غوردن للتسوق.
وصلت المربية في تلك اللحظة.
- لن آخذك للتسوق أيتها الآنسة الصغيرة، ما لم تذهبي إلي النوم خلال خمس دقائق.
أنت إيزوبيل بغنج، ثم قبلت والدها علي خده: ( طابت ليلتك أبي).
- عمت مساءاً صغيرتي، سأصعد بعد قليل لأتمنى لك أحلاماً سعيدة.
نزلت الفتاة من حضن والدها، ويا للمفاجأة توجهت نحو بيني وقبلتها أيضاً، كانت رائحتها كرائحة معظم الأطفال وكان شعرها ناعم الملمس علي خد بيني.
سألتها بعينين جديتين: ( أتظنين أنني سأحتاج إلي جناحين لأبدو كأميرة الجن؟).
- بالتأكيد، فكل الأميرات الجنيات يملكن أجنحة.
ابتسمت إيزوبيل: ( لا أقوى علي الانتظار).
ثم لوحت لوالدها بيدها وغادرت الغرفة.
وما إن غادرت السيدة غوردن، سألها لوكاس:
- كيف تجدين الإقامة في الفندق يا ميلدريد؟
- إنها مريحة جداً.
ما زالت تستغرب عندما يناديها ميلدريد.
- أظنك ستبحثين عن شقة قريباً، هذا إن قررت البقاء طبعاً.
- أظن ذلك، لكنني لم أفكر في الموضوع بعد.
ادعت أنها مهتمة بالقريدس والأفوكادو الموضوع أمامها. قالت محاولة تغيير موضوع مستقبلها: ( يبدو هذا لذيذاً).
- نعم، فالسيدة غوردن ماهرة جداً في الطهي، ثمة شقق جديدة في مبني قريب من المكتب، وقد سمعت أنها حسنة، ويبدو أنها مصممة بطريقة ممتازة، ما من ضير في إلقاء نظرة عليها.
- سأتذكر هذا.
- إنها شقق للإيجار، لذا لن يكون الالتزام بها أمراً شاقاً، علماً أنك تحبين التنقل كثيراً.
ارتشفت جرعة من العصير، ثم قالت:
- قد أذهب في الأسبوع المقبل وألقي نظرة عليها إن تسني لي الوقت.
- سأعطيك فرصة غداء طويلة نهار الاثنين.
سألته ممازحة: ( هل تقبض عمولة جراء تأجير هذه الشقق إذ تبدو مصمما علي أن ألقي نظرة عليها؟).
- أحاول أن أساعدك ليس إلا. أعرف أنه سيكون من الصعب عليك محاولة الاستقرار في العمل والبحث عن مكان تقيمين فيه في الوقت عينه.
تأثرت لاهتمامه بها، وشعرت بالكثير من الذنب إلي حد أنها عجزت عن النظر مباشرة إلي عينيه وهي تقول:
- شكراً لوكاس، أقدر فعلاً ما تحاول فعله.
وسرت بيني عندما عادت السيدة غوردن لإفراغ الطاولة
أزاح لوكاس كرسيه واستأذن: ( عذراً ميلدريد، سأذهب لأغطي إيزوبيل وأتمنى لها ليلة سعيدة).
بقيت بيني بمفردها لوهلة في الغرفة فراحت تراقب انعكاس ضوء الشمعة علي الكريستال. كل ما يحيط بها مسالم جداً بالرغم من ذلك شعرت بالانزعاج.
ربما يفترض بها أن ترحل الآن، أن تترك كل شيء قبل أن يحدث أي خطب. وفيما قررت الخروج، دخلت السيدة غوردن وهي تحمل الطبق الرئيسي: ( تفضلي يا عزيزتي).
قالت هذا وهي تضع أمام بيني طبقاً يحتوي علي شرائح من لحم البقر. ثم تابعت:
- سيحضر لوكاس بعد قليل، فإيزوبيل تغفو خلال دقيقتين عندما يجلس والدها بقربها ويتمني لها ليلة سعيدة.
- شكراً لك.
ابتسمت بيني للمرأة وأيقنت أن المغادرة ليست خياراً مطروحاً الآن. فسيكون تصرفها فظاً للغاية بعد أن تعبت السيدة غوردن في تحضير العشاء. ربما يجدر بها ادعاء المرض عندما يعود لوكاس إلي الطاولة! فقد تدعي إصابتها بصداع مفاجئ وتطلب منه أن يقلها إلي الفندق.
وضعت السيدة غوردن طبقاً من الخضار والفاكهة، وقالت فجأة وهي تنظر إلي بيني:
- إن كنت لا تمانعين أن أقول هذا، فأنت تذكرينني كثيراً بزوجة السيدة لوكاس رحمها الله. كانت كاي شقراء مثلك وعيناها خضراوين أيضاً.
دهشت بيني لكلام السيدة غوردن:
- أحقاً؟ شعر إيزوبيل أسود قاتم، فظننت أن كاي كان لها لون الشعر نفسه.
هزت السيدة غوردن شعرها نفياً: ( ورثت إيزوبيل شعرها الأسود عن والدها، فهي تملك دمه الإسباني، وطبعاً يرث لوكاس شكله عن والدته... إيزابيلا. كانت سيدة رائعة الجمال).
قال لوكاس مبتسماً وهو يدخل غرفة الطعام: ( أراك تحصلين علي نبذة عن تاريخ العائلة!).
تابعت السيدة غوردن من دون خجل: ( كنت أتغني بجمال والدتك ليس إلا. كيف حال إيزوبيل؟).
- لقد نامت بسرعة، شكراً لك سيدة غوردن.
وبسرور غادرت مدبرة المنزل الغرفة.
قال لوكاس عندما أغلقت السيدة غوردن الباب خلفها:
- إن خضعت السيدة غوردن لامتحان حول تاريخ عائلتي، فستنجح بامتياز.
كانت السيدة محقة في أمر واحد، لوكاس مختلف تماماً عن والده في الشكل.... ولعله أيضاً في الأخلاق.
- لن أتناول الكثير من الطعام كي أبقي مرتاحاً للخطوة التالية.
- الخطوة التالية؟
- نعم، إيصالك إلي المنزل.
- آه، فهمت. أسمع لوكاس يمكنني حقاً الذهاب بسيارة أجرة.
- لا، طبعاً لا. أود أن أوصلك إلي الفندق.
جاء كلامه حنوناً فشعرت بالدم يغلي في عروقها....
- إذاً أخبريني قليلاً عن نفسك... ميلي. أتمانعين إن ناديتك ميلي؟ إذ يبدو لي أن هذا الاسم يليق بك أكثر من ميلدريد.
رطبت شفتيها بعصبية: ( أحقاً؟).
- نعم.
وابتسم.
التقت عيناهما وشعرت بقلبها يخفق بقوة.
- هيا أخبريني كيف كانت حياتك وطفولتك في باربادوس؟
وبسرعة استعادت رباطة جأشها: ( أظنها شبيهة كثيراً بالعيش هنا).
قال لوكاس: ( ذهبت إلي مدرسة داخلية في انكلترا لسنوات عديدة، وتحديداً إلي المدرسة عينها التي تلقي فيها والدي تعليمه).
سألت بيني بفضول: ( ألم تكن تشعر بالحنين إلي المنزل؟).
تنهد: ( اعتدت الأمر، إلا أن أمي لم تسعد يوماً بهذا، لكن طباع والدي حادة وغالياً ما كان ينفذ ما يراه مناسباً).
- نعم أتخيل هذا.
قالت بيني هذا بازدراء ثم لاحظت بأنها بدت عنيفة جداً، فاستدركت الموقف: ( أعني أتخيل كم كان الأمر صعباً علي والدتك. لا بد أنها اشتاقت إليك كثيراً).
- نعم، أظن أنها كانت تشتاق إلي، فقد كنت ولداً وحيداً، ووالدي مسافر دائماً بسبب أعماله.
فكرت بيني باشمئزاز: نعم كان في أربودا يقيم علاقة مع النساء.
- أفهم من كلام السيدة غوردن أن والدتك متوفية؟
أومأ لوكاس: ( نعم، لقد توفيت منذ اثنتي عشر عاماً).
- أنا آسفة.
وتساءلت إن كان لوكاس يعلم بما جرى فعلاً في أربودا. سألته بفضول: ( وهل كنت تتفق مع والدك؟).
- لا أنكر أننا كنا نختلف، ولكن والحمد لله حللنا خلافاتنا قبل وفاته. وقد سرني هذا الأمر كثيراً.
لا بد أنه يرفض سماع أي كلام سوء عن والده.
- وماذا عنك؟ أبنيت علاقات طيبة مع والديك؟
- نعم، توفيت والدتي وأنا في السادسة عشر من العمر. وشعر أبي بالإحباط لفترة. ولسوء الحظ أتخذ بعض القرارات الخاطئة، ودخل شراكة مع شخص سيء كان يضمر له نوايا سيئة... وبدأت الأمور تتدهور. فعلت كل ما بوسعي لمساعدته، استلمت إدارة المنزل وبذلت جهدي لتسوية الأمور، لكن الوضع كان صعباً وراح يتدهور من سيء إلي أسوأ.
- إذاً، كيف حال والدك الآن؟
ترددت: ( علي الصعيد المالي لم يتحسن وضعه، في الواقع ما زال يناضل وآمل أن تتحسن أموره في القريب العاجل).
- يبدو أنه عاني وقتاً عصيباً.
- نعم، وكل ذلك لأنه انخدع بكلام رجل محتال.
- وهل حاولت تصحيح الوضع بواسطة القانون والمحاكم؟
- آه، نعم.... لجأت إلي المحامي مراراً علي مر السنين إلا أن الأمر لم يجد نفعاً، بل أدي إلي دفع فواتير باهظة، وزيادة الدين ليس إلا.
- أظن بأن الوقت قد حان ليضع حداً لخسارته ويقلص الدين.
- أظنه يفضل الموت علي...
- إنه مال ليس إلا، كما أن لديه ابنة محبة تدعمه، وهذا يعني الكثير.
ابنة محبة تدعمه وتتناول العشاء مع العدو، فكرت بيني بمضض. والأسوأ من كل هذا هو أنها تستمتع بوقتها. إذ يسهل الكلام مع لوكاس، وهو ساحر فعلاً. ولكن ألم تري والدتها لورانس داريان من المنظار نفسه؟
ما من فائدة من جلوسها وإخبار لوكاس عن والدها ما لم تطلعه علي الحقيقة كاملة... وإن فعلت هذا فستقوم القيامة. كان يفترض بها أن تغادر منذ فترة كما قررت.
- العشاء لذيذ فعلاً، لكن علي أن أرحل.
عبس: ( الآن، ما زال الوقت مبكراً. تناولي القهوة معي في غرفة الجلوس علي الأقل).
هزت بيني رأسها ووقفت: ( لم أكن أعلم أن الوقت متأخر إلي هذا الحد).
وقف لوكاس أيضاً: ( لا بد أنك متعبة. لا تقلقي بشأن استكمال العمل باكراً غداً صباحاً، فالآن بعد أن وجدت صك الملكية خف الضغط قليلاً. فقد أوصل الأوراق إلي منزل سلفادور غداً صباحا، وهكذا أصطحبك قرابة الحادية عشر إن كنت لا تمانعين؟).
- حسناً.
توترت لمجرد ذكر صك الملكية.
- لا تقلقي حيال والدك، وأعلم أن ما سأقوله كلام تقليدي، ولكن طالما يتمتع بصحته فهذا هو المهم.
يسهل عليه أن يقول هذا الآن. ولكن ماذا كان سيفعل لو كان والده مكان والدها؟ وإن كان والده هو الذي يعاني الأمرين؟
- ولكن المال مهم يا لوكاس. فلنواجه الأمر، لو لم يكن المال مهماً لما كنت تتحضر لطرد ذلك الرجل العجوز من منزله!
للحظة ضاقت عينا لوكاس في وجهه: ( الأمران مختلفان تماماً).
ردت بصوت يرتجف: ( أعجز عن رؤية وجه الاختلاف بينهما).
ولدهشتها مد لوكاس يده إلي ذقنها ورفع وجهها عالياً: ( مهلاً..... هل أنت بخير؟).
ابتلعت ريقها بصعوبة: (( طبعاً أنا بخير).
- هذا العمل في أربودا هو جزء من وصية والدي ورغبته الأخيرة. أضف أن سلفادور يدقق في كل هذه الأمور وأنا أؤكد لك بأن الأمور تجري بشفافية.
- أحقاً؟
وتشتت انتباه بيني فيما كان لوكاس يمرر يده علي خدها بحنان. وفجأة لم تعد تفكر بوالدها، بل تسمرت عيناها علي عينيه وشعرت برعشة. أحست بأن أنفاسها تنقطع.... وبأن نبضها يتسارع. مرر يده بلطف علي خديها، فاشتعلت ناراً، ثم وصل إلي شعرها الناعم.
منتديات ليلاس
كان يقف بعيداً بضع إنشات عنها، إلا أنها شعرت بنبض جسمه يدعوها للاقتراب منه. أرادت أن تقترب منه بشدة. فبذلت مجهوداً جسدياً كبيراً كي لا تفعل.
تمتم اسمها: ( ميلي....).
لكنه لم ينادها باسمها.... إنه أسم مزيف، وصلت تلك الحقيقة إلي ذهنها بسرعة البرق. يفترض بها أن تتراجع، ولكنها عاجزة عن ذلك.
وفجأة، وبشكل غير متوقع، تراجع لوكاس إلي الخلف. وتساءلت بيني إن كانت أساءت قراءة العلامات، وإن كانت قد توهمت تلك الجاذبية التي شعرت بها. نظرت إليه وقد عجز لسانها عن الكلام، وفي الصمت الثقيل، تمكنت من سماع دقات قلبها.


- ميلي، أنا.....


انقطع كل ما ينوي قوله بصوت جلبة قوية آت من خارج الغرفة.


- ما هذا بحق السماء؟


تبعته بيني إلي الردهة، وسمعا صوت أنين شخص يتألم. تبعا الصوت مباشرة إلي المطبخ، وإذا بالسيدة غوردن واقعة أرضاً وقد سقطت آنية المطبخ والطناجر من حولها.


- آه يا إلهي، هل أنت بخير؟


وهرع لوكاس نحوها وقد ارتسمت علي وجهه علامات القلق .


- نعم... نعم، أنا بخير.


تحركت المرأة وتمكنت من الجلوس، لكن وجهها كان أبيض كالثلج وشفتاها ترتجفان، وتبدو وكأنها علي وشك البكاء.


قالت وهي تنظر إلي الأرض: ( يا للفوضى التي أحدثتها! حاولت الإمساك بالطاولة كي لا أقع، ولكن وقعت الآنية كلها علي رأسي).


- لا تهتمي لهذا الأمر، فأهم شيء هو أن تتأكدي أنك لم تكسري رجلك أو يدك.


حركت السيدة غوردن رجلها وأنت.


- لا، لا أصدق أنني كنت بهذا الغباء. لقد وقع بعض الماء علي الأرض ونسيت أن أمسحه فوراً. وفجأة انزلقت رجلي.... يا لغبائي....


قال لوكاس بلطف: ( يستحسن ألا تتحركي، أين تتألمين؟).


- سأكون بخير.


وبإصرار وعزم وقفت السيدة غوردن واستندت إلي الطاولة.


- حسنا، إن كنت مصرة علي الوقوف، فدعيني أساعدك.


وبسرعة وضع لوكاس يده حولها ورفعها.


ابتسمت بشجاعة وهي تستند إلي الطاولة: ( شكراً لك، أتري... أنا بخير).


وما إن حاولت وضع رجلها علي الأرض حتى صرخت من الألم.


قال لوكاس بحزم: ( علينا الاتصال بسيارة الإسعاف).


بدت المرأة مرتعبة: ( لا، لا أريد إحداث جلبة).


قالت بيني برفق: ( عليك الذهاب إلي المستشفي سيدة غوردن).


- سأكون بخير حقاً.


وهي تتكلم حاولت وضع رجلها علي الأرض مجدداً ولكنها تألمت كثيراً.


- سآخذك إلي المستشفي بنفسي، يستحسن أن يعينك طبيب ما.


وقال لبيني: ( هلا بقيت مع إيزوبيل ريثما نذهب إلي المستشفي؟).


- طبعاً.


- شكراً.


ابتسم لها، وتجاهل اعتراضات مدبرة المنزل، فحملها كما لو كانت ريشة خفيفة الوزن وتوجه بها نحو الباب.


أسرعت بيني لتفتح له الباب، ثم تبعته في الظلام لتفتح له باب السيارة أيضاً.


قالت السيدة غوردن بصوت متقطع: ( كل هذا العذاب بسبب سقطة صغيرة، حقاً سأكون بخير بعد أن أنام هذه الليلة).


- سأرتاح أكثر أن عاينك طبيب. أرجوك كفي عن الرفض يا إيثل.


وبلطف ساعدها علي الجلوس وأدخل تنورتها كي لا تعلق في الباب. قال لميلي وهو يصعد في السيارة: ( سأعود في أسرع وقت ممكن).


- لا بأس، ما من عجلة.


تراجعت بيني إلي الخلف وراقبته يدير محرك السيارة وينطلق بعيداً. ولم تدخل إلي المنزل إلا بعد أن تلاشت أضواء السيارة في البعيد.

زونار 25-12-09 02:47 PM

الفصل الخامس:
في ضباب المشاعر


عادت بيني إلي الردهة ووقفت تنصت لتسمع أي صوت من إيزوبيل، لكنها لم تسمع إلا دقات الساعة. من الواضح أن الفتاة الصغيرة مستغرقة في النوم. نظرت إلي غرفة الطعام، فرأت الصحون مبعثرة علي الطاولة ولاحظت ضرورة ترتيب المكان.


لم يستغرق ترتيب غرفة الطعام الكثير من الوقت. ثم مسحت أرض المطبخ وجففتها كيلا تقع المزيد من الحوادث. وسرها أنها وجدت شيئاً تلهي نفسها به كيلا تفكر بلوكاس وبالمشاعر التي اجتاحتها ما إن لمسها.


انتهت من ترتيب المطبخ وعادت إلي الردهة. شعرت بغرابة لوجودها في المنزل بمفردها. ظنت أن عليها الاستفادة من الوقت والذهاب إلي المكتب والبحث عن تلك الأوراق، لكن لم تتمكن من التفكير بهذا وخيانة لوكاس والعمل من وراء ظهره، فيما ذهب إلي المستشفي لتأدية عمل إنساني.


ما إن أمسكت بمقبض الباب حتى دوى صوت قوي في أرجاء المنزل. ظنت للوهلة الأولي أنه جرس إنذار، ثم أيقنت أنه صوت الهاتف. ضحكت لسخافتها، ثم هرعت تجيب علي الهاتف:


- مرحباً، هذا أنا.


بدا صوته رخيماً دافئاً.


- مرحباً، كيف حال السيدة غوردن؟


- حسناً الخبر السار هو أنها لم تكسر شيئاً في جسمها، أما الخبر السيئ فهو بأن ثمة خطب ما في وركها ويريدون إبقاءها هنا للمراقبة.


- آه، لا! يا لها من امرأة مسكينة.


- نعم، أنها مرعوبة! فهي تكره المستشفيات. علي أي حال، لقد اتصلت بأختها وهي في طريقها إلي هنا، ولكن أظن أنه يستحسن بي أن أبقي حتى تصل.


- لا بأس، لوكاس، سأنتظر وصولك.


- كل ما في الأمر هو أنني قد أتأخر لبضع ساعات بعد، ولا بد أنك مرهقة. فلم لا تنامين في الغرفة الإضافية؟ إنها حاضرة.


- لست متعبة إلي هذا الحد، سأنتظر عودتك.


- ولكن عندها ستضطرين العودة بسيارة أجرة إلي الفندق لأنني لا أستطيع ترك إيزوبيل بمفردها. استعملي الغرفة الاحتياطية، إنها الباب الأخير إلي يمين السلالم. تصرفي وكأنك في منزلك.


وأغلق الخط قبل أن تتمكن من مجادلته أكثر. جلست إلي حافة المكتب وحدقت إلي خزانة الملفات. بحسب ما يبدو، لديها بضع ساعات بعد لتراجعها.


وقفت وفتحت الدرج الأول. ( تصرفي وكأنك في منزلك)، تردد صوت عبارة لوكاس في رأسها وهي تنظر إلي الأوراق. كانت كلماته حنونة وجعلتها تشعر بالذنب.


- تباً!


تمتمت وأغلقت الدرج مجدداً، ثم استدارت وغادرت الغرفة.


توقفت أمام باب نصف مغلق. إنها غرفة إيزوبيل. كان ضوء صغير مضاء ينير الجدران الزهرية والبيضاء والشراشف الزهرية التي تغطي سريرها. دخلت بيني لتطمئن علي الفتاة الصغيرة، إنها نائمة. غطتها بيني جيداً ولاحظت أن الدب الصغير قد وقع بين السرير والطاولة، فلمته عن الأرض ووضعته قرب إيزوبيل علي السرير. وبهدوء خرجت من الغرفة نحو الرواق.


من الواضح أن الغرفة المجاورة هي غرفة السيدة غوردن نظراً للرداء الأرجواني المعلق بجانب الخزانة. أما غرفة لوكاس فهي في الجهة المقابلة. عرفت أنها غرفته لأنها تدل علي طابع رجولي محض. وجدت فيها سريراً كبيراً، وضع عليه غطاء رمادي فاتح، ورأت جهاز كومبيوتر في الزاوية وكتب مكدسة، وكرسي وضع عليه سروالي جينز.


مشت أكثر وفتحت باباً آخر في الرواق، كانت الغرفة مزينة باللون الليلكي والأبيض، وبفرش أبيض يبعث شعوراً جميلاً. وبدا السرير مريحاً للغاية. ففكرت بأنه يفترض بها العمل بنصيحة لوكاس والنوم.


أغلقت الباب وخلعت ثيابها. وما إن وضعت رأسها علي الوسادة حتى غطت في نوم عميق. جاءت أحلامها تلك الليلة مضطربة تماماً كما كانت أفكارها طيلة اليوم. فتارة كانت تخبر لوكاس الحقيقة..... وطوراً تهرب من المنزل، وقد سرقت صك ملكية الأرض. واستيقظت من حلمها مذعورة.


كانت الغرفة مظلمة. ومرت لحظات قبل أن تتذكر أين هي. وسمعت صوتاً أشبه بالبكاء. عرفت أنها إيزوبيل، وبسرعة ارتدت تنورتها وقميصها وهرعت إلي غرفة الطفلة.


كانت الفتاة جالسة علي حافة السرير تبكي من دون وعي.


قالت بيني بنعومة وهي تتجه نحوها: ( ما الأمر يا عزيزتي؟).



- أريد أبي.
- سيعود والدك قريباً. أضطر إلي اصطحاب السيدة غوردن إلي الطبيب لأنها لوت رجلها، ولكن لا تقلقي.
نظرت إليها إيزوبيل بعينين مغرورقتين بالدموع: ( لم لوت السيدة غوردن رجلها؟).
سوت بيني غطاء السرير وقالت:
- لأنها سقطت علي أرض المطبخ، ولكنها ستكون بخير، وسيعود والدك قريباً إلي المنزل. والآن لم لا تعودين إلي السرير وتحاولين أن تنامي قليلاً؟ فأنت ستخرجين مع جدتك غداً أليس كذلك؟
أومأت إيزوبيل ولكنها لم تتحرك لتعود إلي السرير.
- هل ستذهب السيدة غوردن إلي السماء كما فعلت أمي؟
وانهمرت دمعة كبيرة من علي خدها.
انقبض قلب بيني وضمت الفتاة الصغيرة إلي صدرها بحنان:
- لا يا عزيزتي، ستكون السيدة غوردن بخير.
- أتعدينني؟
نظرت إيزوبيل إليها، وحين أومأت بيني تغلغلت فرحة بين ذراعيها.
همست: ( والآن كفاك بكاءً، فما من شيء مخيف).
همست إيزوبيل: ( قد يكون هناك غول تحت سريري، أنا أخاف منه).
- ما من شيء أسمه غول، فهذه مجرد خرافات.
- هل أنت واثقة؟
ابتسمت بيني: ( مئة في المئة عليك أن تنامي الآن، لقد أصبح الوقت متأخراً...).
نظرت بيني لسماعها حركة، وإذا بلوكاس يقف عند الباب يتفرج عليهما. وابتسم لبيني ما إن التقت عينيهما.
سألت متفاجأة: ( كم مضي علي وجودك هنا؟).
- بضع دقائق، عدت لتوي من المستشفي.
استدارت إيزوبيل ما إن سمعت صوت والدها. وصرخت فرحة وقفزت من السرير نحوه: ( أبي، أبي).
قال وهو يحملها بين ذراعيه: ( يفترض بك أن تكوني نائمة يا آنستي الصغيرة، إنها الثالثة فجراً).
- راودني حلم مزعج فاستيقظت، ظننت أن ثمة غول تحت سريري.
قال لها لوكاس بلطف: ( ميلي محقة فيما قالته لك. الغول غير موجود. والآن عودي إلي السرير).
ابتعدت بيني عن السرير لتفسح المجال للوكاس لوضع ابنته في الفراش، وراقبته وهو يغطيها.
- أحلاماً سعيدة يا عزيزتي.
- عمت مساءً أبي، عمت مساءً ميلي.
ابتسمت بيني: ( أحلاماً سعيدة عزيزتي).
بدت إيزوبيل وكأنها تجاهد لإبقاء عينيها مفتوحتين، أما لوكاس وبيني فاستدارا وغادرا الغرفة.
سألت بيني ما إن خرجا من الغرفة: ( إذاً، كيف حال السيدة غوردن؟).
أغلق لوكاس باب الغرفة: ( ليست جيدة، يبدو أنها تعاني آلاماً حادة في وركها منذ أشهر، وهي خائفة من زيارة الطبيب. والآن زادت هذه السقطة الأمور سوءاً).
- يا لها من امرأة مسكينة! ماذا قال الأطباء؟
- قال واحد من الأطباء بعد أن أجرى لها صورة أشعة بأن هناك مشكلة في مفصل الورك، مشكلة ناجمة عن التهاب المفاصل. ولكننا سنعرف المزيد غداً بعد أن يراها الأخصائي.
أخفض عينيه إلي جسمها وسأل: ( هل ارتديت ملابسك علي عجلة؟).
نظرت إلي نفسها فوجدت أن أزرار قميصها غير سوية. وفجأة أدركت كم تبدو غير مرتبة. شعرها الأشقر الطويل منسدل علي كتفيها، وهي لا تضع أي تبرج علي وجهها، ولم تكن ثيابها سوية حتى.
وبسرعة حاولت تسوية أزرار قميصها وهي تقول: ( لا بد أنني أبدو بحالة مزرية.... كنت نائمة عندما سمعت إيزوبيل تبكي).
- لا أظن أنك قد تبدين يوماً بحالة مزرية، بل علي العكس أنت امرأة جميلة جداً.
أحست بأن حرارة جسمها قد انخفضت بسبب المديح الذي وجهه لها والطريقة التي ينظر فيها إليها.
- شكراً... لم أكن أبحث عن مديح.
- أعلم هذا.
لاحظ أنها تعيد إغلاق قميصها بطريقة خاطئة، فسألها ممازحاً: ( أتريدين مساعدة؟).
- لا، شكراً.
أسدلت يديها، فهما ترتجفان ولن تساعداها علي إغلاق قميصها وقالت:
- علي كل حال، الوقت متأخر... أظن أن علينا الخلود إلي النوم.
- نعم، أظن ذلك.
لم يتحرك من مكانه وبقيت هي مسمرة أيضاً تنظر إليه وهو ينظر إليها.
قال برقة: ( شكراً لاعتنائك بإيزوبيل نيابة عني. كنت رائعة معها).
- لم يكن الأمر صعباً، فهي فتاة رائعة.
ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت الإشاحة بنظرها عنه، لكنها عجزت عن ذلك.
- علي كل حال، لا بد أنك متعب، فقد كان النهار طويلاً.
همس: ( أنا لا أشعر بالتعب).
مد يده وأزاح خصلة من شعرها عن وجهها. فشعرت برعشة لم تعرفها سابقاً، وهمست: ( ولا أنا).
- أعلم، ثمة جاذبية بيننا... أليس كذلك؟
كان كلامه تصريحاً أكثر منه سؤالاً لذا لم تجب.
- وكنت أتساءل كيف سنتابع من حيث تمت مقاطعتنا سابقاً عندما وصلنا إلي هذه المرحلة؟
- أحقاً؟
ووجدت نفسها تقترب منه، وتتساءل عما سيكون شعورها إن عانقها.
- كما تساءلت إلي أي درجة يجدر بنا أن....
اقترب منها وهمس وهو يعانقها: ( ظللت أحاول إقناع نفسي بأن هذه فكرة سيئة، وبأنك تعملين لدي، وبأن دمج العمل بالأمور الشخصية قد يؤدي إلي تعقيدات...).
فهمست: ( أنت محق، تعقيدات جمة).
حاولت أن تبتعد عنه، فهي هنا تحت اسم مزيف وبصفة مزيفة، ولم يحن الوقت بعد لتتعلق به وتغرم وهي ليست ممَن يحبذن العلاقة العابرة. أعطي عقلها الأمر لجسمها بالانسحاب إلا أن ذلك الأخير أبي التنفيذ.
- لكن لعلها مخاطرة تستحق العناء.
اقترب منها وطوقها بذراعيه فشعرت بالدم يغلي في عروقها، وعجزت عن التفكير بوضوح.
همس: ( كنت أتساءل ما سيكون شعوري إذا عانقتك منذ اللحظة الأولي التي دخلت فيها مكتبي).
- وأنا أيضاً.
كان قلبها ينبض بسرعة هائلة كما لو كان حيواناً يرغب بالخروج من الأسر. أما عقلها فينبؤها بأن ما تقوم به خطأ.
أيقظت فيها لمساته أحاسيس لم تعرف بوجودها من قبل. لم يشعرها أحد بهذه السعادة يوماً، ولا حتى نيك، وقد كانت متيمة بحبه. ولكن ما يجري كان غلطة، فلوكاس داريان هو العدو.
كانت تعيش صراعاً داخلياً، فتارة تشعر بأن ما تقوم به خطأ.... وبأنها تفقد التركيز وتضيع السبب الذي جاءت من أجله. وطوراً تحاول تجاهل هذه الإنذارات لأنها ترغب به بشدة. لم تعش يوماً صراعاً مماثلاً، بل كانت محكمة السيطرة علي مشاعرها وأحاسيسها.
همست: ( وجودنا هنا معاً غلطة كبيرة).
رد: ( ولم هذا؟).
لم تلاحظ حتى أنها تكلمت بصوت مرتفع إلا عندما وجه لها السؤال:
- لنفس الأسباب التي قلتها. إن أي شيء قد نقدم عليه سيكون مجرد علاقة جسدية.
- لم أكن أعرف أنك متحررة إلي هذا الحد.
شعرت بأنها تحمر خجلاً. فالمضحك في الأمر هو أنها ليست متحررة أبداً.... ولكنها واقعية بما فيه الكفاية لتدرك بأن التعرف علي لوكاس عن كثب وتوطيد علاقتها به أمر مستحيل في حالتهما.
وكيف يعقل لما يحصل بينهما أن يكون أكثر من علاقة عابرة في حين قد كذبت عليه كذبات لا تحصي؟ كما أنه الرجل الوحيد في العالم الذي لا يفترض بها إقامة علاقة معه، ففي كل دقيقة تمضيها بين ذراعيه تخون والدها وتطعنه في الصميم. وتسارعت الحقائق الباردة والمزعجة إلي عقلها بسرعة جنونية.
يستحيل أن يكون لعلاقتهما مستقبل!
منتديات ليلاس
همست وهي تحاول عدم الاهتمام:
- كل ما قصدته هو أنه ما من داع لتوجيه الملامات غداً...
وافقها الرأي: ( لن يوجه أحد منا الملامة للآخر).
نظر إلي وجهها المحمر، وحدق إلي عينيها الخضراوين.
- لقد تعلمت منذ سنوات ألا أقلق لما سيحدث في المستقبل.... بل أن أهتم بالحاضر وحده.
أخذ يعانقها أولاً علي مهل ثم بقوة وبشغف ثم قربها منه. وفجأة انتابتها موجة من الغضب. إنها تتصرف بجنون. فقد أتت إلي بورتوريكو كي تساعد والدها، وفقط كي تساعده. وإن لم تسرع بالرحيل من هنا فقد تفضحها ميلدريد بانكروفت الحقيقية. وهي واثقة بأن لوكاس لن يضمها بين ذراعيه ولو لثانية بعد أن يكتشف الحقيقة. بل سيستشيط غضباً ولا تستطيع لومه علي ذلك.
حاولت أن تبتعد عنه ولكنه منعها من الابتعاد فقالت: ( أرجوك... دعني!).
أفلتها ببطء وتردد... وقد أيقظت لهجتها الرافضة كرامة الرجل فيه.
- حسناً... لك ما تريدين.
ابتعدت عنه ثم انسحبت إلي غرفتها وهي تفكر في أن عليها أن تذكر أن ولائها الأول هو لوالدها ليس إلا.
عندما جاء الصباح بقيت في السرير تفكر في ما عليها القيام به فما عليها فعله اليوم هو البحث عن تلك الأوراق وإيجادها ثم وضعها في مكان لا يخطر ببال لوكاس التفتيش فيه ثم الرحيل. لا يمكن لها التفكير بلوكاس داريان علي الصعيد الشخصي.
نزلت بيني تحت الماء تستحم ووضعت وجهها تحت الرذاذ محاولة تصفية ذهنها. شعرت ببعض التحسن بعد أن استحمت وارتدت ثيابها. وبعد أن غادرت الحمام أضحت شبه مقتنعة بأولوياتها. نزلت إلي الأسفل نحو المطبخ. وما إن التقت عيناها بعيني لوكاس حتى لم يعد من معني لكل الكلام الذي حاولت إقناع نفسها به.
- صباح الخير.
ابتسم لها وشعرت بدوار فابتسمت له ابتسامة مقتضبة ثم أشاحت بنظرها عنه.
- صباح الخير.
وسرت لأنها ليست بمفردها معه في الغرفة، فإيزوبيل جالسة إلي الطاولة وأمامها كوب من الحليب.
سالت محولة انتباهها إلي الطفلة: ( كيف حالك هذا الصباح يا إيزوبيل؟).
بالكاد نظرت إليها الفتاة، وهمست: ( أنا بخير).
قال لوكاس مبتسماً:
- أعد الفطائر المحلاة المفضلة لدى إيزوبيل، أترغبين بتناول واحدة؟
- لا شكراً، فأنا لا أتناول الفطور عادة.
قالت لها إيزوبيل: ( طبعاً لن تكون هذه الفطائر لذيذة كالتي تعدها السيدة غوردن).
رد لوكاس: ( بلي، طبعاً ستكون لذيذة. أراهنك بأنني أصنع ألذ فطائر تذوقتها في حياتك. هيا تذوقي واحدة يا ميلي، لا بد أنك جائعة).
- لا، شكراً، لكنني سأعد لنفسي بعض الشاي إن كنت لا تمانع.
ومن دون أن تنتظر رده توجهت نحو الركوة. ستشرب الشاي بسرعة وتتوجه نحو المكتب. فآخر ما تحتاجه الآن هو فطور حميم.
رد لوكاس مزحاً: ( هذا رائع ولكنني سأتناول بعض القهوة).
- حسناً.
شغلت نفسها بفتح الخزانات بحثاً عن الأكواب.
سكب لوكاس بعض العجين في المقلاة، وتصاعدت رائحة الطعام الزكية.
فكرت وهي تنظر إليه بأنه يبدو صامتاً بعض الشيء. كان يرتدي سروال جينز أزرق اللون مع قميص أزرق ويضع علي كتفه فوطة مطبخ، كما لو أنه قضي الصباح بطوله يحضر الأطايب. راقبته يرقع أطراف الفطيرة ثم يقلبها كمحترف.
قالت وهي تنظر إلي إيزوبيل وتتوقع أن تضحك:
- ستندهش السيدة غوردن إن رأتك.
ولكن للأسف إيزوبيل لم تضحك بل بقيت جالسة عابسة. كانت تسند ذقنها إلي يدها، وقد ارتسمت علي وجهها علامات الحزن.
نظرت بيني متسائلة قلقة إلي لوكاس تستفسر عن سبب حزن إيزوبيل، فهز رأسه.
فسر لوكاس بلطف: ( اضطرت جدة إيزوبيل إلي إلغاء مشروعهما لليوم، فخاب أمل إيزوبيل قليلاً).
نظرت بيني إلي إيزوبيل: ( آه عزيزتي، هل خاب أملك؟).
قالت إيزوبيل بصوت منخفض: ( كانت جدتي ستصطحبني إلي البحر).
وبالنظر إلي فستان البحر الذي ترتديه، كانت إيزوبيل مستعدة للرحيل عندما وصلها الخبر. كما أن هناك حقيبة خاصة وضعت فيها منشفتها ومشطها وأغراضها الشخصية، وبجانبها وضعت الرفش والمعول الصغيرين.
قالت بيني بأسي: ( ياللأسف، لعلها ستأخذك في يوم آخر).
عبست وظهر القلق علي وجهها.
- ربما... ولكنها ليست بخير. آمل أن لا تضطر للذهاب إلي المستشفي كالسيدة غوردن .
رد لوكاس بسرعة: ( لا أظن ذلك يا عزيزتي. والآن أسديني خدمة واذهبي إلي الخارج ونادي علي فلينت).
ردت الفتاة: ( لا تسمح السيدة غوردن لفلينت بدخول المطبخ).
- حسناً، سنجري اليوم استثناءاً نظراً للظروف.
- حسناً يا أبي.
ونزلت الفتاة عن الكرسي وركضت نحو الباب. وما هي إلا بضع ثوان حتى سمع صوتها تنادي علي الكلب.
- هذا أفضل، ظننت أننا بحاجة لقضاء دقيقة منفردين.
ابتسم. ووضع فوطة المطبخ جانباً، وأطفأ الغاز، وفي الصمت شعرت بيني بقلبها يتوقف عن الخفقان فيما أقترب منها لوكاس. بدا وسيماً جداً وواثقاً من نفسه، وفجأة لم تعد واثقة من شيء.... سوى أن الكلمات التي قالتها لنفسها وهي تستحم قد تبخرت في الهواء.
ابتسم لها: ( إذاً كيف تشعرين هذا الصباح؟).
- بخير.
ومرر يديه علي خصرها بتملك.
- بخير تماماً.
وابتعدت بنعومة. كيف تمكن أن يبدو بهذه الجاذبية هذا الصباح؟ حاولت التركيز علي أمور أخرى.
- يا للأسف أن يلغي مشروع إيزوبيل.
- نعم.
إنه يدرسها عن كثب وعيناه تراقبانها بشكل يثيرها ويضيع تفكيرها. فبسبب نظرته هذه أرادت أن تنسي كل شيء وتغرق بين ذراعيه، فهي تتوق إليه توق العطشان للماء. وبصعوبة تمكنت من الابتعاد عنه والتركيز علي إيزوبيل.
- خاب أملها كثيراً.
خيل إليها للحظة أنه لن يحذو حذوها، بل سيحول الحديث إلي أحداث الأمس، ولكن بعد بعض التردد قال: ( للأسف باتت بام تلغي المواعيد مع إيزوبيل بشكل متكرر هذه الأيام).
- هل صحتها سيئة؟
هز لوكاس رأسه: ( علي العكس، صحتها ممتازة. فمشكلة بام هي أن لديها صديقاً أصغر منها بكثير ويبدو أنها لم تخبر بأنها جدة. أظنها تخشي أن يهرب إن عرف بالأمر).
- فهمت. لن يكون شخصاً جيداً إن أبعده شيء بسيط كهذا فالجدات يصغرن سناً يوماً بعد يوم.
- هذا تماماً ما قلته لها، ولكنها معجبة به كثيراً ولا تريد المخاطرة بإفساد علاقتهما. بالنهاية هذه حياتها الشخصية، وأنا ما كنت لأهتم لو لم تكن تخذل إيزوبيل مرة تلو أخرى. تتصل بها وتضع المشاريع ثم في اللحظة الأخيرة تتصل وتلغي المشروع لأنه قد وصل. لا يمكن للمرء التصرف بهذه الطريقة مع الأولاد، فهم لا يفهمون. ولذا اضطررت أن أكذب وأخبر إيزوبيل بأن جدتها مريضة.... بالرغم من أنني لا أحب هذا أبداً.
- إنه موقف صعب، ولكنك محق، لا يفترض بالمرء أن يعد الأولاد إن لم يكن سيفي بالوعد. أنا متفاجئة لعدم شعور جدة إيزوبيل بالمسئولية حيالها. فقد ظننت بأن فقدانها لأبنتها سيقدم لحفيدتها مكانة مميزة في قلبها.
- أنت محقة.
- ولكن لعلها تشعر بالحزن علي ابنتها. ولهذا سلكت هذا المنحى في الحياة. فالحزن يؤثر في الناس بطرق شتي كما تعلم.
ابتسم لوكاس لها: ( ربما).
سألت بفضول: ( لم تبتسم هكذا؟).
اقترب منها وقد بدا الفرح في عينيه:
- أنت... أنت تحبين رؤية الجهة الإيجابية في الناس أليس كذلك؟
- لا أعلم... أأنا هكذا؟
- أظن ذلك، كما أنك تتمتعين بحسنات كثيرة.
أرادت بيني الابتعاد عنه، لكنها لم تستطع. فلمسته لها تجعلها تشعر بالضعف والوهن. إنها لا تعلم إن كانت ترى إيجابيات الناس، بل كل ما تريده هو أن تنسي أن لوكاس عدو والدها وترى إيجابياته فحسب.
وفجأة لم تعد قادرة علي المضي قدماً بكذبتها وتمثيليتها الصغيرة.
- لوكاس، علينا أن نتكلم...
لم تكن تعلم ماذا ستقول، لكن بغض النظر عما كان فقد قوطع عندما فتح باب المطبخ ودخلت إيزوبيل يرافقها فلنت.
ابتعد لوكاس عن بيني فوراً، ثم انحنى ليلاعب فلينيت الذي راح يقفز عليه ويهز بذيله.
قالت إيزوبيل وهي تحمل باقات من السوسن في كل يد:
- أنظرا ماذا أحضرت، هذه للسيدة غوردن، وهذه لجدتي، و...
وبصعوبة فصلت الباقات وأعطت بضع زهرات لبيني قائلة: ( هذه لك).
قالت بيني وقد تأثرت بمبادرة الطفلة: ( شكراً لك، هذه مبادرة جميلة منك).
أخذت الأزهار من يدها وشمتها. كانت رائحتها زكية منعشة.
قالت إيزوبيل: ( يشتري والدي الأزهار للناس أحياناً، فقد اشتراها مرة لإيما).
وتساءلت بيني من تكون إيما، أهي صديقة ما؟ فبلغة الأزهار تقدم تلك الأخيرة كعربون للحب. أكان لوكاس مغرماً بامرأة ما. لعله ما زال مغرماً... ودهشت لشعورها بالغيرة. يستطيع لوكاس رؤية من يشاء... وإرسال الأزهار إلي من يشاء... فهذا الأمر لا يعنيها.
- فلنضع هذه الأزهار في الماء حتى تظل نظرة.
قالت بيني هذا محاولة تشتيت انتباهها وتفكيرها عن لوكاس وغرامياته.
- ثمة مراطبين فارغة تحت المجلي.
فذهبت بيني لإحضارها. وضعت الأزهار في الإناء فبدت جميلة ثم وضعته قرب نافذة المطبخ، وعادت تعد القهوة للوكاس وتعد لنفسها فنجان شاي.
سألت إيزوبيل وهي تعاود الجلوس إلي طاولة المطبخ:
- هل تعتقد أن جدتي قد تمر لاصطحابي لاحقاً هذا اليوم؟
وضع لوكاس صحن الفطائر أمامها: ( لا أظن هذا يا عزيزتي).
- آه.
حدقت إيزوبيل إلي صحن الطعام بحزن.
سألها لوكاس: ( هل تريدين أن أضيف السكر أو الشراب إلي فطائرك؟).
- الشراب، شكراً. هل تظن أن جدتي ستأخذني إلي الشاطئ الأسبوع المقبل؟
- لا أعلم، ولو كنت مكانك لما وعدت نفسي كثيراً.
عضت إيزوبيل شفتها السفلي.
سألت بيني محاولة تغيير الموضوع وهي تضع قهوة لوكاس أمامه:
- هل وردتك أي أخبار عن السيدة غوردن؟
- شكراً ميلي. نعم لقد اتصلت بها صباحاً. لقد نامت جيداً وهي تنتظر تقرير الأخصائي بعد ظهر اليوم، كما أن أختها عندها.
سألت إيزوبيل: ( هل نستطيع الذهاب لرؤيتها يا أبي؟ أريد أن أقدم لها الأزهار التي قطفتها لها).
- ليس اليوم حبيبتي، فالسيدة غوردن بحاجة إلي بعض الراحة.
وفجأة سألت إيزوبيل: ( هل ستتمكن السيدة إيزوبيل من أخذي للتسوق من أجل مسرحية المدرسة غداً بعد الظهر؟).
- لا أظن ذلك، عليك أن تكتفي بمساعدتي وحدي هذه المرة.
بدت إيزوبيل مذهولة: ( لا تكن سخيفاً يا أبي. فأنت لا تعرف ما علينا شراءه، هذه أمور خاصة بالفتيات).
- أظنني أعرف ما هي الثياب الرائجة للحفلات هذه السنة، يمكنك الاعتماد علي.
ضحكت بيني لكلامه، إلا أن إيزوبيل ظلت حزينة وقالت: ( لن تعرف شيئاً! سيلبس الجميع الثياب الملائمة إلا أنا! وستسخر مني جينا فريدريك وسيضحك الجميع علي!).
- هيا يا إيزوبيل، أنت تضخمين الأمور، فهذه مسرحية مدرسية، وأنت في السادسة من العمر. ولا يهم فعلاً ماذا ترتدين. فكل ما تحتاجينه هو عباءة طويلة وصولجان. لن يضحك أحد عليك.
- بلي! ستضحك جينا فريدريك علي!
بدت إيزوبيل علي وشك البكاء، وتابعت:
- تبدو جينا جميلة دوماً، فوالدتها تأخذها للتسوق حتى تبدو رائعة دائماً.
- وأنت أيضاً تبدين رائعة دائماً.
- لا، لا أفعل. فقد كنت أرتدي الحذاء الخطأ لرحلة المدرسة الثلاثاء الماضي. قالت جينا أن حذائي قديم الطراز.
وفجأة، أبعدت إيزوبيل الصحن عن المائة وخرجت من الغرفة.
- أعتذر عن هذا يا ميلي! أظن بأن إيزوبيل قد نالت أكثر من خيبة أمل في يوم واحد.
- أفهم تماماً ما تمر به. ولكن لا أظن أنه كان يفترض بك أن تقول لها بأن ما ترتديه في الحفلة أمر غير مهم. فبالرغم من أنها في السادسة فقط، فهي تعرف أن هذا الكلام غير صحيح.
رفع يديه في الهواء: ( إنها مسرحية مدرسية يا ميلي...).
- وإن يكن. من المهم أن تشعر إيزوبيل بأنها تنتمي إلي رفاقها.
تنهد: ( أظنك محقة! ولكن إن كانت تقلق إلي هذا الحد وهي في السادسة فماذا سيجري عندما تصبح مراهقة؟).
شعرت بالأسى نحوه، فليس سهلاً عليه تربية فتاة بمفرده.
- إن شئت أستطيع اصطحابها للتسوق غداً.
لم تع ما الذي عرضته إلا بعد فوات الأوان.
بدا لوكاس متفاجئاً، وتفاجأت هي أيضاً.
- أحقاً؟ سيكون هذا لطفاً كبير منك يا ميلي. أقدر لك هذا فعلاً.
ماذا تفعل؟ صحيح أن لوكاس بحاجة إلي المساعدة وأن إيزوبيل قد عانت كفايتها من خيبات الأمل، ولكن بظل الظروف الراهنة، لا يسعها التورط أكثر.
تأكد لوكاس: ( أحقاً لا تمانعين؟).
ماذا لو ظهرت ميلدريد بانكروفت غداً؟ ماذا ستفعل عندها؟ لن تقع عندها في مشكلة فحسب بل ستكون إيزوبيل قد خذلت مجدداً. يفترض بها أن تركز علي إخفاء الأوراق ومغادرة هذا المكان لا التركيز علي أي شيء آخر.
نظرت إلي الباب ورأت إيزوبيل تنظر. لا بد أنها سمعت عرضها وتنتظر الجواب بفارغ الصبر.
أخذت بيني نفساً عميقاً، وقالت برقة: ( لا، لا أمانع).
ويا للغرابة، فهي لم تكن تمانع أبداً.
سمعت إيزوبيل تطلق صيحة فرح، وبعدها هرعت الفتاة إلي المطبخ ورمت نفسها علي بيني، وسألتها بحماسة: ( أحقاً ستأخذينني للتسوق؟).
- نعم إيزوبيل، سآخذك غداً.
إن كانت تملك بعض التحفظات عما ستفعله، فقد تلاشت كلها عندما رأت الفتاة تصعد إلي الكرسي وتطوق عنقها فرحة.
صرخت الفتاة فرحة: ( شكراً.... شكراً).
سرت بيني كثيراً بردة فعل إيزوبيل. فبالرغم من كل شيء، لو كانت الظروف مختلفة، لما ترددت للحظة بمساعدتها.
قالت إيزوبيل بانتصار: ( سيكون فستاني أجمل من فستان جينا فريدريك).
- حسناً، آمل ذلك).
والتقت عينا بيني بعيني لوكاس فابتسم لها وشعرت بأن قلبها سيتوقف عن الخفقان.
أملت ألا يكون فكرة خاطئة عما يجري. صحيح أنها تحب ابنته، وتريد المساعدة، ولكنها لا تريده أن يخال أنها تحاول إقامة علاقة جديدة معه.
وما إن أفلتت الفتاة عنق بيني، حاولت تلك الأخيرة التصرف بعملية، فنظرت إلي ساعة يدها.
- قد أستطيع الذهاب إلي الفندق وتغيير ملابسي قبل أن تبدأ العمل يا لوكاس، سأتصل بسيارة أجرة.
- سأوصلك، علي الذهاب علي أية حال لإيصال الأوراق إلي منزل سلفادور كي يدقق فيها.
أحست بيني بالامتعاض لمجرد ذكر هذه الأوراق الموضوعة في خزانة الملفات.
قال لوكاس: ( اسمعي، سنتناول الغداء في مطعم " سماغلزز إن" ثم نتنزه علي الشاطئ فتتمكنين من اللعب هناك يا إيزوبيل).
صرخت إيزوبيل صرخة فرح وبدأ فلينت بالنباح.
- حسناً، ربما يمكنك إعطائي مفاتيح المنزل فأعود إلي هنا بعد أن أغير ملابسي وأبدأ البحث عن تلك المستندات.
- لدينا ما يكفي من الوقت للعمل بعد ظهر اليوم، تناولي الغداء معنا يا ميلي.
سرت بيني بالدعوة، لكنها لا تستطيع الاسترخاء، فهدفها الأول هو إيجاد الأوراق، قالت:
- لكنك بحاجة ماسة إلي هذه الأوراق يا لوكاس.
قال لوكاس وهو ينهي قهوته: ( يمكن للأوراق أن تنتظر بضع ساعات بعد).
أيقنت أنه يستطيع الاسترخاء الآن بعد أن أصبح صك الملكية الخاص بأرض والدها بحوزته. يا ليتها وجدته قبله! لكانت غادرت قبل موعد العشاء أمس، ولكانت أصبحت في المطار الآن.
- إذاً ماذا قلت؟ هل ستتناولين الغداء معنا؟
- حسناً، أنا...
قالت إيزوبيل وقد اتسعت عيناها: ( أرجوك ميلي، تعالي معنا).
نظرت بيني إلي لوكاس ثم إلي الطفلة، وذكرته بصرامة وهي تحاول ألا تضعف:
- لديك مهلة محددة من الوقت لإيجاد الأوراق يا لوكاس.
- قد لا أحتاج إليها. يعتمد هذا علي ما سيقوله لي سلفادور بعد أن يراجع الأوراق الأخرى.
- فهمت..
يبدو أنها قد فوتت علي نفسها فرصة مساعدة والدها، لذا يستحسن أن تقلل قدر الإمكان من خسارتها وتحجز لنفسها علي أول طائرة متجهة إلي أربودا لتساعد والدها علي حزم الأغراض في المنزل.
نظرت إلي إيزوبيل فإلي لوكاس الذي ينتظر ردها بفارغ الصبر. وفجأة لم تعد تحتمل فكرة الرحيل. وقررت أن تمنح نفسها يومين بعد ريثما تعرف بالمستجدات التي ستطرأ مع لوكاس بعد أن يطلع سلفادور علي الأوراق، وتأخذ إيزوبيل للتسوق.
ردت: ( يبدو الذهاب للغداء فكرة جيدة، يسرني أن أنضم إليكما).
* * *

زونار 25-12-09 02:48 PM

الفصل السادس:
تريد المستحيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان اليوم واحداً من الأيام الهادئة في الكراييب. السماء زرقاء والحرارة معتدلة، والريح قليلة البرودة.
وتساءلت ما كان سيحدث لو أخبرت لوكاس الحقيقة هذا الصباح. أكانت ستجلس هنا بقربه في السيارة وهو يتجه بها إلي الفندق؟ أو كان استدعي لها سيارة أجرة وطردها من منزله؟
نظرت إلي إيزوبيل التي تجلس في الخلف، وفلينت جالس بقربها وهي تخبره فرحة عن مشاريعها لهذا اليوم. وكان الكلب منصتاً تماماً يهز بذيله كما لو أنه يفهم كل ما تقوله له.
وصلوا إلي ضواحي المدينة، وتوجهوا نحو الحي القديم، وتوقف لوكاس قرب الفندق.
منتديات ليلاس
سألت بيني وهي تمد يدها إلي مقبض الباب:
_ هل ستذهب لرؤية المحامي ثم تعود لاصطحابي؟
- لا، سننتظرك. سيوفر هذا علي الذهاب مرتين، كما أريدك أن تقابلي سلفادور وزوجته ماريا، أنهما ثنائي لطيف.
كانت بيني تفضل عدم مقابلة محامي لوكاس، فقالت: ( لكنني قد أستغرق بعض الوقت يا لوكاس).
- لا بأس، سننتظرك.
لم تجد بيني أمامها حلاً سوى الموافقة. فأومأت ونزلت من السيارة.
دخلت إلي ردهة الفندق المبردة وحاولت عدم التفكير بهذا الموضوع لوقت طويل.
- صباح الخير آنسة كينيدي.
حيتها عاملة الاستقبال بحرارة، ولمن بيني غضبت منها. فماذا لو قرر لوكاس الدخول معها إلي الفندق، أما كانت لعبتها انفضحت؟
ورغماً عنها ابتسمت للمرأة وقالت بحزم: ( نادني ميلي، فالجميع يناديني هكذا).
- أبسبب اسمك المهني؟
من الواضح أن الرجل الذي تحدثت إليه البارحة قد نشر الخبر، وسألت بسرعة محاولة تغيير الموضوع: ( نعم، صحيح. هل من رسائل لي؟).
- لا... ما من رسائل.
- حسناً، شكراً. هل لي بالحصول علي مفتاح غرفتي من فضلك؟
عندما وصلت إلي الغرفة، خلعت ثيابها بسرعة وفتحت الخزانة وتناولت فستاناً صيفياً أزرق اللون.
ثم خرجت لموافاة لوكاس وإيزوبيل والأفكار كلها تعج في رأسها. قال لوكاس وهي تجلس قربه: ( لم تستغرقي وقتاً طويلاً).
- حسناً، حاولت أن لا أطيل البقاء.
ولاحظت نظرة الإعجاب التي رمقها بها قبل أن ينطلق بالسيارة. لم ينظر إليها سوى للحظة، لكن نظرته جاءت ملئي بالأحاسيس، إلي حد أنها أيقظت فيها مشاعر دفينة.
قال لوكاس وهو يغير السرعة في السيارة:
- حصل تغيير طفيف علي المشاريع فيما كنت في الفندق. لقد اتصلت بسلفادور وهو يقل حماته إلي منزلها الآن، لذا ارتأيت أن نتناول الغداء، ونذهب في نزهة علي الشاطئ، ثم نمر عليه في طريق العودة لشرب القهوة.
- هذا جيد.
شعرت بيني بالارتياح لتأخر لقائها بالمحامي ولو لبضع ساعات فحسب. وبعد القيادة لبضعة أميال، أوقف لوكاس السيارة علي طرف الطريق. وقال مشيراً إلي مبني أبيض تحيط به أشجار النخيل: ( المطعم هناك، يمكننا السير علي طول الشاطئ إن كنت قادرة علي هذا).
قالت بكبرياء: ( طبعاً أنا قادرة، فالمكان ليس بعيداً).
ابتسم : ( كنت أتأكد فقط).
معاً نزلت بيني وإيزوبيل من السيارة ومشتا نحو البحر. وأفلتت إيزوبيل يد بيني بعد أن قطعتا الطريق وركضت باتجاه الصخور. تبعها فلينت وهو يهز بذنبه ويقفز.
نادت بيني: ( حذار علي الصخور).
ردت الفتاة من دون أن تخفف من سرعتها: ( سأفعل).
قال لوكاس بحزم وهو ينظر إليها تقفز من صخرة إلي أخرى: ( تمهلي إيزوبيل).
بطأت سيرها قليلاً ثم قفزت إلي الرمل.
- كلما حضرنا إلي هنا أطلب منها أن تلتزم الحذر ولكنها تصر دائماً علي الركض أمامي.
مد لوكاس يده ليساعد بيني ما إن بدءا بتسلق الصخور.
- سأكون بخير
وانتزعت حذاءها العالي الكعب وتجاهلت يد لوكاس الممدودة للمساعدة، ثم تبعت خطوات إيزوبيل. ولكن ما إن وصلا إلي الجهة المقابلة ترددت، فالقاطع بين الصخور والرمل شديد الانحدار.
قفز لوكاس قبلها ثم مد يده ليساعدها، وعوضاً عن رفض المساعدة، قبلتها وأمسكت بيده ونزلت ببطء. أمسك بها عندما ارتطمت رجلها بالأرض وللحظة كانت قريبة جداً منه. وبسرعة استجابت حواسها لاقترابها منه. وشمت رائحة عطره الأخاذ وأحست بذراعيه القويتين تمسكانها. نظرت إليه بغير ثقة فالتقت عيناهما.
إلا أنه تراجع إلي الوراء، وقال بخفة كما لو أنه لم ينتبه للحظة التي جمعتهما: ( الطريق مزعجة ولكن السير ممتع إلي هنا).
ولبرهة مشيا صامتين يراقبان إيزوبيل تقفز أمامهما، تحمل بيد السطل والرفش الزهري اللون، وتضع يدها الأخرى علي رأس فلينت.
كان الرمل دافئاً تحت رجلي بيني، والشمس تداعب البحر الأزرق. ولم يكن من شخص آخر علي البحر غيرهم.
قالت وهي تأخذ نفساً عميقاً: ( المكان رائع هنا).
وافقها لوكاس الرأي: ( هذا ما نحتاج إليه بعد كل الفترة التي قضيناها في المكتب).
عادت إيزوبيل راكضة لتريهما صدفة وجدتها علي الأرض. تناولتها بيني من يدها وراحت تنظر إلي الخيوط الزهرية والبيضاء، وقالت:
- إنها جميلة جداً، عليك الاحتفاظ بها في غرفتك لتذكرك دوماً باليوم الجميل الذي قضيناه معاً علي الشاطئ.
اعجبت إيزوبيل بالفكرة: ( سأضعها فوق صندوق مجوهراتي، هلا احتفظت لي بها؟).
فتحت بيني حقيبة يدها ووضعت الصدفة فيها: ( طبعاً عزيزتي).
قال لوكاس وهما يسيران، وإيزوبيل تقفز أمامهما:
- تجيدين التعامل معها. يبدو أن لك موهبة فطرية في التعامل مع الأولاد. يدهشني أن ليس لك أولاد.
- أحب أن أكون أسرة في المستقبل البعيد طبعاً.... عندما أصبح جاهزة للاستقرار.
ابتسم: ( طبعاً. إذاً أخبريني هل أوشكت يوماً علي الاستقرار؟).
- نعم، مرة واحدة.
قال لوكاس عندما لم تتابع حديثها: ( لكنك لم تحبيه بما فيه الكفاية لترتبطي به؟).
عبست بيني: ( بلي، كنت أحبه).
عندما كانت تتكلم عن نيك، كانت تشعر ببعض الحزن والندم، إلا أنها هذا الصباح، ويا للغرابة، تتكلم عنه بطريقة عادية. تابعت:
- كنت متيمة بحبه، وظللنا معاً لنحو سنة تقريباً، وقررنا الزواج.
- إذاً، ماذا جرى؟
- لم يكن نيك ملتزماً بعلاقتنا كما كنت، فقد كان يواعد امرأة أخرى. وهكذا غادرت المنزل ودخلت إليه هي.
- متى حدث هذا؟
- منذ سنتين تقريباً.
سأل لوكاس بفضول: ( أتعتقدين أنك تخطيت حبك له؟).
- طبعاً.
لاحظ لوكاس كيف ضاقت عيناها الخضراوان وهي تتحدث محاولة إخفاء مشاعرها، تابعت: ( عرفت من صديق مشترك مؤخراً أنهما تزوجا في عيد الميلاد الفائت).
- وهل تتمنين لهما السعادة؟
نظرت إليه بدهشة ثم مازحته: ( حزنت قليلاً لأنهما لم يدعواني إلي الزفاف، لكن عدا ذلك لا أكن لهما أي ضغينة).
ضحك لوكاس: (( حسناً من الواضح أن هذا الشاب مغفل).
ردت بيني بجفاف: ( أو ربما أيقن أنه.... لم يكن مقدراً لنا العيش معاً).
أشاحت بنظرها عن لوكاس ونظرت إلي البحر:
- كنت أظن بأنه نصفي الآخر... بأن القدر جمعنا...
وأنهي لوكاس الجملة عنها: ( وعندما فسخت علاقتكما، شعرت أن فرصتك بالسعادة قد تلاشت).
نظرت إليه متفاجئة.
- هذا ما شعرت به عندما توفيت كاي. ولكن الحياة تستمر، ويستطيع الإنسان إيجاد السعادة مجدداً. علي أن أعترف بأن المرء يشعر بالذنب قليلاً حيال ذلك... أقله هذا ما شعرت به عندما بدأت بمقابلة نساء أخريات.
وشعرت بيني بانقباض في صدرها. فقلة من الناس يفهمون هذا... ولكن لوكاس فهم. إنه شريف... محترم، وها هي تخونه وتغشه.
أوشكا أن يصلا إلي نهاية الشاطئ الآن، واستطاعت بيني رؤية المطعم بوضوح. فقد تناثرت طاولات وضعت عليها شراشف بيضاء اللون تحت مظلات نبيذية اللون.
قال لوكاس: ( نحصل علي مزيج من العالمين ها هنا. إذ نستفيد من الخدمة الممتازة والطعام اللذيذ مع عدم التقيد بالرسميات والاستمتاع بالبحر).
ابتسمت بيني، ولكنها كانت تفكر في قرارة نفسها بأنه ما من شيء يدعي المزج بين العالمين. ففي هذا الوقت، لا بد أن والدها يعمل جاهداً في الحقول، وهو يعلم أنه سيخسر كل شيء، وسيذهب جهده سدى في حين أنها هنا تتناول الطعام مع العدو. تآكلها الذنب. أهي مع لوكاس أم ضده؟
أزاح لها لوكاس الكرسي لتجلس، ثم جلس قبالتها.
كانت إيزوبيل لا تزال تلعب علي شاطئ البحر، منهمكة في بناء القصور، وفلينت بجانبها يحرس كل تحركاتها.
- هل نترك إيزوبيل تلعب قليلاً فيما نطلع علي قائمة الطعام؟
تابع: ( ولكننا لن نتركها لوقت طويل، فيما أنك فوت عليك الفطائر التي أعددتها هذا الصباح، فلا بد أنك تتضورين جوعاً).
- أنت محق، فأنا جائعة. علي فكرة لقد تأثرت بمهاراتك في الطهي هذا الصباح.
- لعلك ستبقين وتتذوقينها المرة المقبلة.
سرت بيني لوصول النادل بتلك اللحظة لأنها لا تعرف بم تجيب علي هذه الملاحظة.
وفيما حيا النادل لوكاس بحرارة وتكلما لبعض الوقت نظرت بيني إلي لوكاس وإلي وجهها الجميل. لوكاس من أكثر الرجال الذين التقتهم في حياتها وسامة. كانت تحب الطريقة التي تضيء فيها عيناه عندما يضحك والغمزة في خده عندما يبتسم. نظر إليها وابتسم، فتوقف قلبها عن الخفقان للحظة.
- ماذا تريدين أن تشربي ميلي؟
- كوب من عصير الليمون من فضلك.
وبسرعة حملت قائمة الطعام وادعت أنها تنظر إليها.
قالت في نفسها: استعيدي رباطة جأشك.
ساد صمت بعد أن غادر النادل ليحضر شرابهما ولم يعكر الصمت سوى صوت البحر والأمواج ترتطم بالشاطئ.
سأل لوكاس بعد فترة: ( هل قررت ماذا تريدين؟).
ما تريده هو المستحيل..... تريد أياماً أخرى كاليوم.... وضعت قائمة الطعام من يدها وهي تشعر بالانزعاج من نفسها، ومن أفكارها.
- سأتناول طبق ثمار البحر.
- إنه لذيذ هنا، وطازج أيضاً.
جاءت إيزوبيل مسرعة وقاطعتهما: ( أبي هل لي بتناول البيتزا مع رقائق البطاطا؟).
فكر لوكاس في السؤال للحظة:
- إنه مزيج غير صحي. هل تتناولين بعض السلطة مع البيتزا وبعض الفاكهة بعد ذلك؟
حكت إيزوبيل أنفها: ( أظن ذلك).
هز لوكاس رأسه إيجاباً، فغادرت الفتاة راكضة لتكمل بناء القلعة.
- إن سمحت لها، فستأكل شتي أنواع الطعام غير المغذي.
ابتسمت بيني: ( أليست هذه حال الأطفال كافة؟).
- بلي، ولكن لو كانت كاي علي قيد الحياة، لما تمكنت إيزوبيل من التصرف علي هذا النحو. كانت كاي تحب الأكل الصحي، وتمارس الرياضة واليوغا، ولا تتناول أي شيء غير صحي وغير مدروس.
قالت بيني برقة: ( تربية إيزوبيل بمفردك مسؤولية كبرى أليس كذلك؟)
- أن يكون المرء أباً عازباً أمراً غير سهل، وبالطبع فأنا أعتمد كثيراً علي السيدة غوردن في الأعمال المنزلية، ولكنني أستمتع بكوني والداً.
أحضر النادل شرابهما وطلبا الطعام.
قالت بيني: ( لا بد أنك ستستصعب الأمور إن غابت السيدة غوردن عن المنزل لفترة طويلة).
تنهد لوكاس: ( أظنني سأحتاج إلي توظيف أحدهم لملء الفراغ. ولكن هذه المهمة ليست بسهلة، فإيزوبيل تحبها كثيراً، ويسهل علي الاعتماد عليها. آمل ألا تطول فترة مرضها).
شربت بيني جرعة من العصير وتمنت لو تستطيع أن تعرض عليه المساعدة، وحاربت هذه الرغبة وهي تقنع نفسها بأنها ستصطحب إيزوبيل للتسوق غداً وهذه مساعدة كافية.
قضيا بضعة ساعات رائعة في الغداء، فالطعام لذيذ والصحبة ممتازة. شعرت بيني بالراحة بينهما، وكأنها عرفتهما طيلة حياتها. ولكن عندما نظر لوكاس إلي ساعته وقال بإن وقت الذهاب إلي منزل سلفادور قد حان، شعرت إيزوبيل كأن غمامة سوداء قد أطبقت علي قلبها.
- أعلينا أن نذهب يا أبي؟
- أخشي ذلك، كما أن لدي بعض الأعمال لأنجزها هذا العصر، لذا عليك أن تلعبي بهدوء.
حزنت إيزوبيل، فواستها بيني:
- لا تحزني، سنذهب غداً للتسوق وسنتسلى
قام لوكاس ودفع الحساب ثم اتجها نحو الشاطئ.
سألته بيني وهي قلقة بشأن لقاءها بسلفادور: ( ماذا فعلت بالنسبة للأوراق مع سلفادور؟).
- لقد وضعتها في صندوق القفازات في السيارة وأقفلت عليها.
وجدت بيني نفسها تأمل أن تكون السيارة قد اختفت، ثم تمالكت أعصابها بصعوبة. لا يحق لها أن تتمني هذا.
وصلا إلي الصخور ومد يده ليساعدها علي اجتيازها. قالت بيني محاولة تجاهل المشاعر التي شعرت بها جراء لمسة يده علي يدها:
- لقد استمتعت كثيراً بالغداء، شكراً لك.
- ربما يمكننا الخروج للغداء مجدداً، ربما في نهاية الأسبوع المقبل مثلاً قد نأخذ اليخت ونبحر إلي ميناء آخر.
- ربما.
شعرت بقلبها يعتصر من الألم. ستكون الأسبوع المقبل في أربودا علي الأرجح تساعد والدها. ابتعدت عنه ولحقت بإيزوبيل.
وصلا إلي السيارة، فساعدت بيني إيزوبيل علي إزالة التراب عن رجليها ومن حذائها.
تناول لوكاس السطل والرفش وشكر بيني قائلاً:
- شكراً ميلي، سأقدم بعض الماء لفلينت من صندوق السيارة. هلا تأكدت أن الأوراق في صندوق القفازات؟
وناولها المفاتيح وقال: ( إنه المفتاح الذهبي الصغير).
نظرت بيني إلي المفاتيح وتسارعت نبضات قلبها. وأخيراً ستضع يدها علي صك الملكية. ترى أهذه هي الفرصة التي تنتظرها؟
ركضت إيزوبيل إلي مؤخرة السيارة مع والدها وجلست بيني بشكل جانبي كي تفتح صندوق القفازات.
كانت الأوراق موضوعة في مغلف كبير، فتحته ونظرت إلي ما بداخله، ووجدت عدداً من الأوراق خول شراكة والدها مع لورانس داريان، وخلفها الصك الأصفر التابع لملكية كينيدي. وتساءلت هل تضع الصك في حقيبتها فيما إيزوبيل والكلب منهمكان بالكلب؟ يمكنها أن تقول للوكاس أنها لم تجد الأوراق وبأنها ما زالت في خزانة الملفات فهو لن يشك أبداً أن الصك بحوزتها.... أليس كذلك؟
- هل كل شيء في مكانه؟
سمعت صوت لوكاس آتياً من خلف باب السائق، فقفزت خوفاً.
- نعم، علي ما يبدو.
- رائع.
ابتسم لها ثم نظر إلي الأوراق بين يديها وقال: ( كنت خائفاً جداً، ولكن ما هو المثل؟ ما يأتي بسرعة... يختفي بسرعة).
رفع لوكاس حاجبه وقال:
- لا أعتبر أن حصولي علي هذه الصكوك جاء بسرعة وسهولة، فبحسب ما قال والدي، عانى طيلة سنوات من مشاكل ويليم كينيدي، ومنحه كماً هائلاً من الفرص ليعيد ما يدين به.
- أحقاً؟
جاء رد بيني عنيفاً بعض الشيء ومليئاً بمشاعر متناقضة.
- نعم، فعلاً.
وتشتت انتباه لوكاس لرؤية إيزوبيل تلعب مع فلينت علي الطريق.
قال لها: ( هيا إيزوبيل، اصعدي إلي السيارة الآن).
لم يكن لبيني خيار آخر سوى وضع الأوراق في المغلف. فهي لا تستطيع أخذها الآن بعد أن رآها لوكاس في يدها.
تابع لوكاس كلامه مع بيني بعد أن أطاعته ابنته: ( أسمعيني ميلي، أعلم أنك لا تحبين فكرة طرد أحدهم من منزله ولا أنا أيضاً، ولكن هذه أعمال لا إحسان).
ردت بعنف: ( أنت بارد وقاسي القلب يا لوكاس. في الواقع أنت تذكرني بقرش يدور في الماء وهو يشتم رائحة الدم).
رد لوكاس عليها بتهكم: ( يا للتشبيه الرائع! ولكن اسمحي لي وبكل احترام أن أخبرك أنك لا تعرفين شيئاً عن هذه القضية).
أرادت بيني أن تخبره بأنها تعرف أكثر منه بكثير، ولكنها فضلت التزام الصمت. وما هي إلا لحظات حتى توجهوا إلي الطريق العام، وقد اختفي الجو الجميل الذي خيم وقت الغداء علي جلستهما.
شعرت بيني بالتوتر وبألم يخيم علي عينيها ورأسها. نظرت إلي لوكاس الذي بدا خائباً ومستاء جداً. من الواضح أن كلامها لم يعجبه.
يمكن للوكاس أن يكون شخصاً طيباً، ولكنه قبل كل شيء هو ابن والده، ولا يمكن للدم أن يستحيل ماءً.
نظر إليها لوكاس وقال:
- لا أعلم لم نتشاجر حول هذا الموضوع يا ميلي، أظن بأن علينا الاتفاق علي تغيير الموضوع.
ردت بخفة: ( حسناً).
أدركت أنه ينظر إليها بغرابة، فأجبرت نفسها علي الابتسام وقالت:
- وتماماً كما قلت، فهذا الأمر لا يعنيني.

قاد السيارة عبر مناظر طبيعية رائعة. وبعد قليل ظهر منزل أبيض اللون له نوافذ زرقاء. بني المنزل علي حافة حديقة كبيرة تقدم منظراً رائعاً علي الكراييب. ولكن لم يكن منظر البحر هو الذي لفت انتباه بيني بل المرأة الجميلة التي تقف عند العتبة. كان شعرها نحاسياً طويلاً رائعاً وهي ترتدي فستاناً صيفياً أبيض اللون فضفاضاً، يظهر ساقيها المثيرتين.
- مرحباً لوكاس، يا لها من مفاجأة! لم أتوقع رؤيتك هنا.
- مرحباً إيما، لم أتوقع رؤيتك أيضاً، ولكن هذه مفاجأة سارة.
عرفت بيني لم بدت المرأة مرتبكة، فهي صديقة لوكاس السابقة. تقدم منها وقبلها علي خدها، فاحمرت لساعتها. ولكن ما لفت انتباه بيني هو الطريقة التي نظرت فيها المرأة إلي لوكاس. وأيقنت بيني فوراً أن إيما ما زالت مغرمة به. لا مجال للشك، فهي تنظر إليه وكأنها تعبده. ترى لم ظنت شونا أن إيما هي التي قطعت علاقتها به؟
ولكن يصعب فهم لوكاس. فقد يكون منكسر القلب جريحا. ولمجرد التفكير في الموضوع شعرت بيني بألم لم تعرف مثله في حياتها.
غضبت من نفسها لهذا التفكير. فحياة لوكاس العاطفية لا تعنيها البتة.
نزلت إيزوبيل من السيارة وركضت نحو المرأة تحييها.
- مرحباً عزيزتي.
ابتسمت إيما وابتسمت إيزوبيل أيضاً، لكنها بقيت خلف والدها تحاول الإمساك بيده.
قالت إيما وهي تمد يدها وتربت علي رأس فلينت:
- دعتني ماريا لشرب القهوة في الواحدة والنصف.
بدا لوكاس مسروراً: ( أحقاً؟ ودعتني أنا أيضاً لشرب القهوة في الواحدة والنصف).
بدت المرأة منزعجة تماماً الآن: ( آه! اسمع لم أكن أعلم أنها تخطط لشيء من هذا القبيل).
- ولا أنا أيضاً، لكنك تعرفين ماريا، نواياها صادقة.
- أظن ذلك، لكن الأمر محرج قليلاً.
ونظرت إلي السيارة حيث تجلس بيني، وتابعت:
- اسمع، سأذهب، قل لماريا أنني سأتصل بها لاحقاً.
عبس لوكاس: ( ما من داع لذلك، فأنا لن أطيل البقاء. جئت لأري سلفادور بشأن موضوع في العمل، كما علي العودة للعمل بعد ظهر اليوم).
ابتسمت له ممازحة: ( بعض الأشياء لا تتغير أبداً).
- لا، فأنت تعرفينني.
- تكرس وقتك كله للعمل، نعم أنا أعرفك.
ساد الصمت بينهما لفترة ظلا خلالها ينظران إلي بعضهما البعض. شعرت بيني ببعض الغرابة. لم تعرف ما إذا كان عليها أن تبقي في السيارة كيلا تتطفل أو أن تنزل لتوافيهم.
وفجأة سأل لوكاس إيما: ( هل قرعت الباب؟).
- آه! لا! كنت علي وشك قرع الباب عندما وصلت.
نظر لوكاس إلي بيني، كما لو أنه عرف لتوه أنها في السيارة:
- ميلي، هلا أحضرت الأوراق من السيارة؟
تمتمت وهي تفتح صندوق القفازات وتخرج الأوراق للمرة الثانية هذا اليوم: ( حاضر سيدي).
لم تعرف لما شعرت بالانزعاج عندما استدار لوكاس أخيراً نحوها ووجه لها طلباً متعلقاً بالعمل. ربما هذه طريقته لإخبار إيما بأنها مجرد زميلة في العمل أو ما شابه ليس إلا.
وهي تخرج من باب السيارة، فتح باب المدخل وظهرت سيدة سمراء وحيتهم بحرارة.
- لوكاس، إيما، كم هو رائع أنكما جئتما معاً.
قالت إيما وهي تقترب من المرأة وتقبلها علي خدها:
- حسناً أظن أن هذا من تخطيطك أكثر مما هو وليد الصدفة. سأسامحك هذه المرة فقط يا ماريا لأنك حامل. لا تحاولي القيام بخدعة مماثلة مرة أخرى.
- حسناً أنتما تعرفان ماذا يقال، لا يجري مسار الحب الحقيقي أبداً بطريقة سلسة. وبما أنكما صديقاي العزيزان، ظننت أنكما بحاجة ألي بعض التأنيب...
كانت ماريا علي وشك إكمال حديثها حين رأت بيني تقترب فاندهشت: ( آه!).
تدخل لوكاس بسرعة: ( أقدم لكما ميلي بانكروفت، ميلي إليك ماريا ساندينيو وإيما جونسون).
ابتسمت بيني بإشراق وقالت:
- سررت بلقائكما، أنا مساعدة لوكاس الشخصية.
بدت ماريا مطمئنة، ولكن بيني شعرت بأنها تشك بعض الشيء.فقالت: ( حسناً، سررت بالتعرف إليك أيضاً. تفضلوا، لقد وقفنا في الحر بما فيه الكفاية).
ناولت بيني المغلف البني للوكاس وهي تمر أمامه لتدخل والتقت عينيهما للحظة. وتساءلت إن كان قد سر لأنها عرفت عن نفسها علي أنها مساعدته الشخصية ليس إلا. ولكن من الصعب فعلاً معرفة ما الذي يدور في خلده.

زونار 25-12-09 02:49 PM

الفصل السابع:
غداً لن تشرق الشمس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قابلهم سلفادور في الردهة. إنه أكبر سناً من زوجته، فماريا في آخر العشرينات، أما هو فيبدو في بداية الأربعينات. شعره الأسود تتخلله خصلات رمادية، وقد بدأ يفقد شعره إلا أنه دافئ وحنون وجذاب.
قال وهو يسلم علي بيني: ( سررت بالتعرف إليك).
بادلته بيني الابتسام، وتمنت مرة أخرى لو أن الظروف مختلفة ولو أنها لا تكذب.
قال سلفادور وهو يستدير ليأخذ الأوراق من لوكاس: ( إذاً هذه هي الأوراق التائهة!).
- نعم، وجدناها أخيراً أمس.
- حسناً سنذهب إلي مكتبي لإلقاء نظرة عليها.
وقبل أن يتمكن أحد من قول أي شيء، سحب سلفادور لوكاس من الغرفة، وقال وهو يغلق الباب خلفهما: ( لن نتأخر سيداتي).
قالت إيما لماريا وهي تضحك:
- آه! يا إلهي! أين سمعنا هذه العبارة من قبل؟ أتذكرين حين ذهبنا إلي فيكنز لقضاء عطلة نهاية الأسبوع وقضي هذان الاثنان طيلة بعد الظهر في العمل؟
- بالكاد... والآن ماذا سنشرب الشاي أم القهوة؟
وابتسمت ماريا لبيني وأشارت إليها لتجلس علي واحدة من الكراسي الجلدية البيضاء.تابعت إيما الكلام من دون أن تعي أن صديقتها تحاول تغيير الموضوع مراعاة لوجود بيني:
- لا بد أنك تذكرين ماريا؟ لقد قضينا وقتاً ممتعاً. كان الفندق رومانسيا للغاية، وقدم لي لوكاس تلك الصور التي أحب عن تلك المنارة القديمة!
- آه! نعم... أذكر شيئاً من هذا القبيل.
وغمزت ماريا إيما لكن تلك الأخيرة لم تلاحظ وذهبت تجلس علي كرسي من الكراسي.
نظرت إيما إلي بيني توضح لها الأمر:
- لقد عارضت وماريا أن يأخذا العمل معنا في الرحلة... أليس كذلك؟ ولكن أنت تعرفين الرجال. بصراحة، أظن أن لوكاس لا يمانع البقاء في مكتب مغلق طيلة أيام. فعندما كنا نتواعد، كنت أشير إلي عمله باسم المرأة الأخرى... ولا أظن أنه تغير الآن.
همست بيني: ( في الحقيقة لا يمكنني الجزم، فأنا لا أعمل لديه منذ فترة طويلة).
أومأت إيما وبدت مسرورة بالرد. وتساءلت بيني إن كانت تلك المرأة تحاول استفزازها بإخبارها عن العلاقة الرومانسية التي جمعت بينهما، أو لعلها تحاول تبرير انفصالهما بإلقائها اللوم علي عمل لوكاس.
حاولت ماريا تغيير الحديث:
- والآن، ماذا يمكنني أن أقدم لكن؟ أتشربين الكولا يا إيزوبيل.
أومأت إيزوبيل.
- وماذا عنكما يا سيدتي.... الشاي أم القهوة؟
ردت بيني بتهذيب: ( أنا لا فرق عندي، سأشرب ما تعدين).
من جهتها قالت إيما بحزم: ( ستكون القهوة رائعة).
وما إن غادرت ماريا الغرفة حتى جلست إيزوبيل علي ركبتي بيني وهمست:
- هل أستطيع الحصول علي الليموناضة عوضاً عن الكولا؟
- لا أعلم،ربما لا تملك ماريا الليموناضة، لم لا تلحقين بها وتسألينها؟
هزت إيزوبيل رأسها نفياً بخجل.
- هل أذهب وأسألها نيابة عنك؟
هزت إيزوبيل رأسها إيجاباً وقد بدت مسرورة بالاقتراح. من جهتها انزعجت إيما مما يجرى. تساءلت بيني لم عساها انزعجت وهي تنزل إيزوبيل عن حضنها!
وجدت بيني ماريا تفتح خزانة في المطبخ الذي يطل علي البحر، قالت بيني عندما استدارت ماريا:
- عذراً علي التطفل ولكن إيزوبيل تتساءل إن كان بوسعها الحصول علي الليموناضة عوضاً عن الكولا؟
فتحت ماريا الثلاجة وتناولت قنينة: ( بالطبع تستطيع. في الواقع أنا مسرورة لأنني تمكنت من الانفراد بك للحظة. أعتذر عما سبق أن حصل... أنت تعرفين. فمحاولة جمع لوكاس وإيما كانت فكرة جنونية. لم أكن أعلم أنه يخرج مع امرأة أخرى).
قالت بيني بصراحة: ( لا داع للاعتذار مني، حقاً.... فأنا لا أخرج مع لوكاس).
لم تبد ماريا مقتنعة تماماً.
- إنه رجل جذاب جداً...
تنهدت بيني، ولكن ولسبب من الأسباب، وجدت نفسها تفضي إليها قائلة: ( بصراحة، لا أظن أنني سأبقي هنا لفترة أطول، ولكنني لم أخبر لوكاس بعد).
- يا للأسف! يبدو أنه يقدرك كثيراً. لقد سمعته يتحدث إلي سلفادور ويخبره كم كنت رائعة معه خلال الأيام الماضية، وكيف أن إيزوبيل متعلقة بك.
شعرت بيني بانقباض في قلبها: ( نعم، سأشتاق كثيراً لإيزوبيل).
نظرت ماريا إليها. فتابعت كلامها وهي تحاول أن تكون عملية.
- ولكن الأمور ليست جيدة بالنسبة لي هنا، لذا يستحسن أن أغادر.
لم تتابع ماريا الحديث بل قالت: ( سيغضب سلفادور مني كثيراً لأنني دعوت إيما، فهو يطلب مني دائماً ألا أتدخل في مشاكل الآخرين. كل ما في الأمر هو أنني شعرت بالأسى عليها. فقد كانت ولوكاس سعيدين لفترة، ولكن فجأة ومن دون سبب قطع علاقته بها. وكنت أتساءل إن كان فعلاً لا يريد الاستمرار معها أو أنه شعر بأنه يتعلق بها فخاف وذعر وقرر الابتعاد. فقد كان متيماً بحب كاي. أيبدو كلامي سخيفاً؟).
همست بيني: ( لا، فكلامك ليس سخيفاً، فمن الممكن جداً أن يكون لوكاس قد فسخ علاقته بإيما لتلك الأسباب التي ذكرتها).
وتذكرت بيني ما قاله لها عن شعوره بالذنب
حسناً، وكما يقول سلفادور، لا دخل لي بالموضوع. ولكن أريد أن يكون لوكاس سعيداً، فهو يستحق السعادة وقد عانى الكثير حتى الآن.
أنهت ماريا تحضير الصينية، فطلبت بيني أن تحملها عنها، وقالت:
- دعيني أساعدك، فأنت تحملين وزناً كافياً.
قالت هذا مشيرة إلي حملها. فضحكت ماريا وربتت علي بطنها: ( أنت محقة).
- متى سيحين موعد ولادتك؟
سألتها بيني وقد سرت بالانتقال إلي موضوع أقل جدية. فهي لا تريد أن تعرف إن كان لوكاس مغرماً بإيما أم لا.
- بعد أسبوعين من الغد.
- لم يعد هناك وقت طويل. هل حضرت كل شيء؟
- آه نعم. حقيبتي جاهزة في غرفة النوم. ففي كل مرة أتأوه فيها ينظر سلفادور إلي الحقيبة ويتساءل إذا حان الوقت لإحضارها ونقلي إلي السيارة.
ضحكت بيني: ( أظن أنكما متوتران).
- في الواقع هو أكثر حماسة وتوتراً مني.
فتحت ماريا باب الردهة لها.
سألت إيزوبيل بخجل ما إن دخلتا الغرفة:
- أكان عندك ليموناضة، عمتي ماريا؟
- نعم حبيبتي.
وتناولت ماريا الكوب من علي الصينية وناولته لإيزوبيل وقالت:
- والآن أخبراني عما كنتما تتحدثان؟
ردت إيما وهي تتناول الفنجان الذي تقدمه لها ماريا:
- كانت إيزوبيل تخبرني أن السيدة غوردن في المستشفي.
- لا!
نظرت ماريا إلي بيني لتستعلم عن الموضوع.
- هذا صحيح، سقطت مساء أمس علي أرض المطبخ واصطحبها لوكاس إلي المستشفي، وهم يبقونها هناك للمعاينة.
بدت ماريا مستاءة: ( يا للمرأة المسكينة).
قالت إيما والباب قد فتح ودخل الرجلان:
- أتساءل كيف يتدبر لوكاس أمره من دونها؟
قال لوكاس: ( أظن بأنكن تتحدثن عن السيدة غوردن!).
- نعم كانت ميلي تخبرنا عنها، أتساءل كيف ستتدبر أمرك من دونها؟
- قد أضطر إلي توظيف شخص ما، ولكن آمل ألا يطول الأمر.
قطع كلام إيزوبيل الحديث وقد عبست:
- أيعني هذا أن شخصاً آخر سيعتني بي؟
رد لوكاس بحذر: ( ربما حبيبتي، ولكن فقط حتى تتعافي السيدة غوردن).
- وهل سيكون شخصاً أعرفه؟
هز لوكاس رأسه: ( لكنك ستتعرفين إليها بسرعة).
بدت إيزوبيل وكأنها علي وشك البكاء:
- ولكنني لا أريد أحداً آخر ما لم أكن أعرفه.
ونظرت إلي بيني ثم قالت بعينين ملؤهما الدموع: ( هلا اعتنيت بي يا ميلي؟).
أيقنت بيني أن عيون الجميع مسلطة عليها، ولكن في الوقت عينه أشفقت علي الطفلة. كانت مستعدة للتضحية بكل شيء لتجيبها نعم، ولكن عوضاً عن ذلك ردت برفق وحنان:
- حسناً، الأمر ليس بهذه السهولة إيزوبيل. ولكن والدك ذكي جداً وسيجد لك شخصاً ممتازاً، أنا واثقة.
وضع لوكاس قهوته جانباً وقام وحمل ابنته ووضعها علي حضنه ثم قال: ( طبعاً سأفعل، كما أن السيدة غوردن ستعود قريباً).
أومأت إيزوبيل، ولكن شفتها السفلى كانت ترتجف.
نظرت بيني من حولها فرأت عيني إيما مسلطتين عليها وأدركت مدى امتعاضها لأن إيزوبيل طلبت من بيني رعايتها.
وسألت ماريا محاولة مرة أخرى تغيير الموضوع: ( إذاً كيف حال الأعمال؟ فأنت لم تبق في المكتب فترة طويلة كما توقعنا!).
- هذا لأن الأمور بدأت تنحل، ومساعدة سلفادور قيمة جداً. فأنا ممتن له جداً لأنه وجد لي بعض الوقت بالرغم من انشغاله.
رد سلفادور: ( ما من داع لتشعر بالامتنان. فما من سبب يحول من تسوية الأمور في نهاية الشهر. فكما أن سبق أن قلت لك، الآن وبعد حصولك علي صك الملكية، ستستملك الأرض في الوقت المحدد، وستبدأ أعمال البناء، فبحسب القوانين المرعية الإجراء في أربودا، ما إن تبدأ أعمال البناء، لن يستطيعوا إلغاء الرخصة. لذلك إن اتفقت مع المقاول الذي يريد شراء المكان وسمحت له بالعمل فوراً فلن يكون هناك من مشكلة).
شعرت بيني بالدوار. إنها هنا قلقة بشأن إيزوبيل وبشأن أمور تافهة كحب لوكاس لإيما في حين أن والدها يوشك علي فقدان المنزل.
سألتها ماريا فجأة: ( ميلي، هل أنت بخير؟ تبدين شاحبة بعض الشيء).
أيقنت أن لوكاس ينظر إليها، فأرغمت نفسها علي الابتسام:
- أعاني صداعاً ليس إلا، سأكون بخير بعد قليل.
سألت ماريا بلطف: ( هل أحضر لك مسكناً للألم وكوب ماء؟).
- لا... شكراً أنا بخير... صدقاً.
نظر لوكاس إلي ساعة يده: ( أظن بأنه علينا الذهاب).
فقالت ماريا: ( لا، لا تذهبوا، كنا نأمل أن تبقوا جميعاً، سيحضر سلفادور المشاوي بعد قليل).
قال لوكاس وهو يقف: ( مرة أخرى ماريا، ولكن شكراً علي الدعوة).
وقف الجميع ورافقوهم حتى باب المدخل.
لاحظت بيني أن إيما أمسكت بذراع لوكاس وشدته نحوها، ثم قالي له بصوت منخفض:
- إن احتجت إلي أية مساعدة، فلا تتردد في الاتصال بي.
- شكراً إيما، هذا لطف منك.
أرادت إيزوبيل أن تنزل من بين ذراعي والدها، فلبي طلبها وركضت نحو فلينت الذي يجلس في الخارج منتظراً بفارغ الصبر خروجهم.
تابعت إيما بإصرار:
- أنا أعني ما أقول، فكما تعلم، أنهي عملي معظم الأيام حوالي الرابعة والنصف، ويسرني أن أعتني بإيزوبيل عنك.
لم تسمع بيني ما كان رد لوكاس لأن فلنت راح ينبح وهو يركض مع إيزوبيل في الحديقة، ولكن من طرف عينها، رأت لوكاس ينحني ويقبل إيما علي خدها، وبسرعة أشاحت بيني بنظرها.
قالت ماريا بصوت منخفض وهي تخرج بالقرب من بيني:
- سررت حقاً بالتعرف إليك وآمل أن نراك مجدداً قبل رحيلك.
ابتسمت بيني: ( سررت أنا أيضاً بالتعرف إليك. وأتمنى لك السلامة في الولادة ولطفلك أيضاً، هل تعرفين أن كان المولود صبياً أم فتاة؟).
- لا، ستكون مفاجأة لنا.
أيد سلفادور زوجته وطوقها بذراعه: ( مفاجأة فعلاً).
قالت بيني وهي تضع حزام الأمان: ( أصدقائك لطيفون).
- نعم، أليس كذلك؟
وسلك لوكاس الطريق نفسها من دون أن يتكلم. وبعد فترة سألها:
- كيف تشعرين الآن؟
- ما زال رأسي يؤلمني.
ولم تكن تكذب، فهي تعاني صداعاً أليماً.
قال لوكاس فوراً: ( سأقلك إلي الفندق ويمكنك الاستراحة لبقية اليوم، لا بد أنك متعبة).
سألت بفضول:
- ماذا عن الأوراق التي كنت تحتاجها؟ ألم تعد مضطراً لإيجادها؟
هز لوكاس رأسه: ( قال سلفادور بأننا نملك ما يكفي من المستندات).
- فهمت.
إذاً حسم الأمر وتلاشت فرصتها الأخيرة لمساعدة والدها. وقد فوتت علي نفسها بضع فرص.... إذ انهمكت في التفكير بلوكاس عوضاً عن التفكير بوالدها. يستحسن بها أن تغادر علي أول رحلة.
سألت إيزوبيل من مؤخرة السيارة: ( هل ستتحسنين لتأخذيني للتسوق؟).
وفجأة داهمها شعور بالذنب.
- نعم، سأنام الليلة جيداً وكل شيء سيكون علي خير ما يرام غداً.
وبالرغم مما قالته عرفت أن الأمور لن تكون بخير غداً، بل ستزداد سوءاً. فغداً هو الاثنين، ولا بد أن ميلدريد بانكروفت الحقيقية ستظهر. كما أن سلفادور سيرسل ورقة الإخلاء غداً لوالدها، مما سيقضي علي كافة آمال الرجل المسكين. نعم غداً سيكون يوماً سيئاً فعلاً.
غرقت بيني في الصمت... تفكر بمستقبل لن تجد قيه لوكاس أو إيزوبيل.
عندما وصل لوكاس إلي ضواحي سان خوان علق في زحمة سير رهيبة، كانت الشوارع ملئي بأشخاص يرتدون ملابس ملونة فضفاضة.
منتديات ليلاس
قال لوكاس وهو يهز رأسه: ( لا بد أنه ثمة كرنفال ما اليوم، قد نستغرق بعض الوقت لنصل إلي الفندق الذي تنزلين فيه).
ردت بيني بسرعة:
- أنزلني هنا، وسأمضي مشياً فأنا أحتاج إلي بعض الهواء النقي.
نظر إليها لوكاس:
- هل أنت واثقة؟ فإن كان رأسك يؤلمك، لا يفترض بك أن تسيري في الحر.
أصرت بيني: ( حقاً لوكاس، أنزلني هنا، سيفيدني السير).
أوقف لوكاس السيارة بعيداً عن الحشود تحت ظل شجرة صنوبر:
- سنوصلك أنا وإيزوبيل.
نظرت بيني إلي المقعد الخلفي:
- أظن بأن إيزوبيل قد نالت نصيبها من الإثارة اليوم.
نظر لوكاس إلي الخلف، فرأي إيزوبيل نائمة وقد استعملت بطن فلينت كوسادة.
ابتسم: ( أظنك محقة).
- علي كل حال شكراً علي الغداء الرائع، وسأراك غداً صباحاً في المكتب.
مد لوكاس يده وأمسك بيدها وهي تستدير لتغادر.
- ألم تنسي شيئاً؟
- لا أظن ذلك.
بدا وكأن قلبها سيقفز من مكانه، واتسعت عيناها الخضراوان. أتراه سيعانقها؟ كانت هذه الفكرة كافية لإرسال الدم إلي رأسها.
- حقيبة يدك.
لم تصدق بأنها أوشكت علي نسيانها! فهذا دليل واضح علي اضطرابها.
- آه! نعم! عذراً.
وتناولتها منه وتساءلت إن عرف ما تفكر به حول العناق. مدت يدها إلي مقبض الباب مجدداً، وقالت: ( شكراً لك).
- ميلي؟
ونظرت من حولها تتساءل ماذا نسيت هذه المرة. وعندها أقترب نحوها وعانقها، وكان عناقه ناعماً ورقيقاً ولكنه أثار فيها مشاعر قوية صاخبة جعلتها ترتجف.
همس وهو يرجع إلي الوراء:
- شكراً علي قضائك اليوم معنا وتصرفك بلطف بالغ مع إيزوبيل.
همست وهي تحاول استعادة رباطة جأشها: ( لم يكن الأمر صعباً، فهي طفلة رائعة).
ابتسم: ( وأنا أيضاً أظن هذا ولكنني متحيز).
حدقت إلي عينيه السوداوين وأيقنت فجأة أنها مغرمة به.
ابتلعت ريقها بصعوبة: ( علي كل حال، علي أن أرحل. أراك غداً في المكتب).
- نعم، أراك غداً.
نظر إليها تخرج من السيارة ثم قال لها:
- آمل أن يزول صداعك، تناولي حبة أسبيرين.
تحتاج إلي أكثر من الأسبرين لتشفي من علتها، فكرت بهذا وهي تسير غاضبة بعيداً عنه وتدخل بين الجموع المحتشدة في الشارع.
عندما وصلت بيني إلي الفندق توجهت إلي غرفتها، ثم استلقت علي السرير تحدق إلي السقف وتحاول إيجاد حل لوضعها.
قالت لنفسها مراراً وتكراراً أنها ليست مغرمة بلوكاس، ولتثبت ذلك لنفسها تناولت دليل الهاتف من علي المنضدة وبحثت عن رقم المطار. لقد انتهي وقتها هنا. ستحجز علي متن رحلة الغد. وبعزم رفعت سماعة الهاتف الموضوع قرب سريرها.
أنجزت المهمة، غداً في الثانية عشرة إلا ربع مساء ستسافر إلي أربودا لتدعم والدها وتساعده.
كان من المفترض أن تعزيها هذه الفكرة، فهي تفعل أخيراً الشيء الصحيح. ما كان يفترض بها أن تأتي إلي هنا أصلاً. وتخيلت ما سيكون موقف والدها لو عرف... سيتحطم فعلاً. لا، لوكاس ليس مقدراً لها. علي كل حال، سيسعد أكثر مع إيما... فهي تحبه بجنون وتبدو حنونة مع إيزوبيل.
استدارت بيني، ودفنت وجهها في الوسادة، وحاولت تجنب آلام رأسها الحادة.
* * *

زونار 25-12-09 02:50 PM

الفصل الثامن:
ساعة الحساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بدا من الظلم أن تشرق الشمس في حين يخيم الظلام علي قلب بيني. حتى أن التحية الصباحية الحنونة التي أطلقتها شونا، لم تغير مزاجها.
ابتسمت بيني ابتسامة جافة: ( صباح الخير شونا).
ردت المرأة: ( هل أنت بخير؟ تبدين شاحبة بعض الشيء).
- أنا بخير. هل وصل لوكاس؟
- آه نعم، وصل لوكاس قبلي كالعادة.
ولكنه ليس في مزاج هادئ هذا الصباح، لذا أنصحك بعدم إزعاجه.
عبست بيني: ( أحقاً؟ ما خطبه؟).
تنهدت شونا.
- لا أعرف. كان يتحدث عبر الهاتف عندما وصلت. لعل الأمر متعلق بذلك الاتصال الهاتفي.
مررت بيني يداً ترتجف فوق فستانها الزهري الفاتح وحاولت تحضير نفسها للدخول إلي مكتبه ومواجهته. قررت أن تصارحه بالحقيقة قبل أن تغادر، أي هذا الصباح أو بعد الظهر بعد أن تصطحب إيزوبيل للتسوق.
قالت شونا وهي تنظر عابسة إلي كومة من الأوراق المكدسة أمامها: ( وصلنا الكثير من البريد).
سألت بيني محاولة تجنب مقابلة لوكاس:
- هل تريدينني أن أساعدك في الاطلاع علي البريد؟
فإن كان مزاج لوكاس معكرا، فربما يستحسن بها الانتظار قبل أن تبوح له بالحقيقة.
- شكراً لك.
قالت هذا وهي تمرر لها نصف الأوراق المكدسة أمامها، ثم سألتها: ( إذا كيف كانت عطلة نهاية الأسبوع؟)
حاولت بيني عدم تذكر العطلة المليئة بالشغف والغداء الرائع، فردت: ( لا بأس، ماذا عنك؟)
لوحت شونا بيدها أمام عيني بيني، فلاحظت تلك الأخيرة الخاتم في يدها: ( لقد عرض بول علي الزواج).
- آه! شونا! هذا رائع، تهاني.
- شكراً لك! كم أنا مسرورة، فأنا أعشقه.
قالت بيني بحنان: ( أنا مسرورة جداً لك، وهل حددتما موعداً للزفاف؟).
- نفكر في حجز أول موعد متوفر في الكنيسة، فأنا لا أريد الانتظار. ولكن والدتي قلقة بعض الشيء وتفضل أن تطيل فترة الخطوبة، فنحن لا نعرف بعضنا منذ وقت طويل. ولكنني قلت لها عندما تقابل الفتاة الرجل المناسب لها والذي ترغب بقضاء بقية عمرها معه، فهي ترغب بأن يبدأ بقية عمرها في أسرع وقت ممكن... وعلي كل حال، لقد عرفت منذ اللحظة الأولي التي تعرفت فيها إلي بول أنه رجل أحلامي. نظرت إلي عينيه فحسب، وعلقت في حبه.
تذكرت بيني يوم دخلت إلي مكتب لوكاس الأسبوع الفائت وأول مرة نظرت إلي عينيه. لقد حدث شيء ما في تلك اللحظة. شيء سري! آه! كم حاولت ادعاء العكس... وإقناع نفسها بأن الانقباض الذي تشعر به في قلبها وتسارع نبضها كلها أمور من نسج خيالها. ولكن هذا غير صحيحا. إنها مغرمة به، وقد وقعت في حبه منذ اليوم الأول للقائهما. صحيح أن حبها هذا جنون مطبق وخيانة عظمى لوالدها، ولكنها عاجزة عن كبح مشاعرها.
حدقت بيني إلي المغلفات الموضوعة أمامها وحاولت التصرف بعقلانية وطرد هذه الأفكار من عقلها، ولكن من دون جدوى.
رن الهاتف فأجابت شونا، أما بيني فجلست علي كرسي وراحت تطلع علي البريد.
وفجأة فتح الباب ودخلت امرأة.
- هل لي بمساعدتك؟
سمعت بيني شونا تسأل بتهذيب، لكنها لم تستدر فقد كانت تفرز البريد.
ردت المرأة:
- ميلدريد بانكروفت، جئت أري السيد داريان.
شعرت بيني بأن الدم تجمد في عروقها ونظرت مرعوبة.
كانت شونا تحدق إلي المرأة باستغراب.
- عذراً؟ أقلت أنك تريدين رؤية ميلدريد أو السيد داريان؟
عبست المرأة، فهي تبدو كمديرة مدرسة قديمة الطراز تقاصص التلامذة وتبث الرعب في قلوبهم. كان شعرها الرمادي مشدوداً إلي الخلف بطريقة جدية، وكانت ترتدي قميصاً أبيض وتنوره سوداء.
قالت بنبرة جافة: ( أظنك أسأت الفهم أيتها الشابة، أنا ميلدريد بانكروفت وجئت أرى السيد داريان).
فتحت شونا فمها عاجزة عن التفوه بكلمة ونظرت نحو بيني، لو لم يكن الوضع حرجاً إلي هذا الحد لكانت ضحكت للتعبير الذي علا وجه شونا، ولكن، لسوء الحظ، فمزاج بيني لا يسمح لها بالضحك.
تمتمت بيني بحذر: ( يستحسن بك إخبار لوكاس أنها وصلت).
وقبل أن تتمكن أي واحدة منهما من التحرك، فتح باب مكتب لوكاس وظهر ذلك الأخير وقد علت وجهه تعابير لم يسبق لبيني أن رأتها مما زاد من حدة توترها.
قالت المرأة بأمل: ( آه، لا بد أنك السيد داريان، لقد اتصلت بك منذ قليل).
رد لوكاس بثقل: ( نعم... ميلدريد بانكروفت أليس كذلك؟).
مشت المرأة حول المكتب ومدت يدها: ( هذا صحيح. يسرني أنني التقيتك أخيراً).
- وأنا أيضاً.
سلم لوكاس عليها ودلها إلي مكتبه. وللحظة التقت عيناه بعيني بيني. جاءت نظرته باردة وقاسية، ومختلفة تمام الاختلاف عن الطريقة التي نظر فيها إليها البارحة، ثم قال لها بقسوة:
- يمكنك الدخول بعد أن أنتهي مع السيدة بانكروفت.
وبدا كلامه أمراً أكثر منه دعوة، ثم دخل مكتبه وأقفل الباب بحزم.
استدارت شونا لتنظر إلي بيني:
- حسناً! ماذا يجري بحق السماء؟ وإن كانت هي ميلدريد بانكروفت فمن تكونين أنت؟
مررت بيني يداً ترتجف علي شعرها:
- آسفة شونا! كل ما في الأمر هو أنك تستخلصين الأمور بطريقة خاطئة عندما أتيت لأري لوكاس ذلك اليوم، وكنت يائسة جداً فجاريت الموضوع.
اتسعت عينا شونا بذهول: ( آه! يا إلهي! أأنت عاطلة عن العمل منذ فترة طويلة؟).
- لا... أنا...
تنهدت بيني يائسة. فهي لم ترد إخبار شونا بالموضوع قبل أن يتسنى لها المجال لتتكلم مع لوكاس.
قالت شونا برقة: ( اسمعي، لا تقلقي للأمر، أنا واثقة من أن السيد داريان سيسامحك لأنك، والحق يقال، بارعة جداً في عملك، وقد تحسنت الأمور كثيراً منذ مجيئك).
- شكراً شونا.
ابتسمت بيني للمرأة شاكرة ممتنة، وتمنت لو كانت الأمور بهذه البساطة.
- كما أنه لن يوظف تلك العجوز الشمطاء! هل رأيت كيف نظرت إلي باستعلاء؟ يا لها من متكبرة، من تخال نفسها؟
- تخال نفسها ميلدريد بانكروفت.
نظرت إليها شونا وضحكت. وفوراً، فتح باب المكتب وظهرت ميلدريد بانكروفت.
وبرأس شامخ إلي الأعلى، مشت قربهما من دون أن تنظر إليهما وخرجت من المكتب.
ترك باب مكتب لوكاس مفتوحاً علي مصراعيه، ولكن لم يظهر أي أثر للوكاس.
همست شونا: ( ماذا حصل برأيك؟).
هزت بيني كتفيها، وصدر صوت من الداخل: ( ميلي، تفضلي إلي هنا).
انقبضت معدة بيني، ووقفت.
همست شونا: ( حظاً سعيداً).
- شكراً... أشعر بأنني سأحتاج إلي الحظ.
كان لوكاس جالساً وراء مكتبه ورأسه محني يطلع علي ملاحظات ما دونها علي ورقة أمامه. قال لها بحزم من دون أن ينظر إليها حتى: ( أغلقي الباب).
نفذت ما طلبه منها ثم اتجهت نحو المكتب. لم ينظر لوكاس إليها بعد.
قالت بسرعة: ( قبل أن تبدأ بتأنيبي، أود أن أقول لك إني آسفة كنت مخطئة، وأنا أعتذر بشدة).
رمى لوكاس القلم من يده ورجع إلي الوراء. والتقت عينيهما.
صعب عليها أن تعرف ما الذي يجول في فكره. بدا هادئاً للغاية، ولكن صمته هو الذي أخافها. يا ليته صاح وصرخ عليها لكانت تجاوبت معه أكثر! ولكن هذه النظرة التي تراها في عينيه تمزقها في الصميم، فإن كان ينظر لها هكذا الآن، فماذا سيفعل ما إن يعرف أنها ابنة ويليم كينيدي؟
حاولت مجدداً: ( اسمع، أنا آسفة فعلاً! لم أخطط لأنتحل شخصية شخص آخر، ولست بامرأة غير شريفة).
ثني يديه، وسألها بهدوء: ( إذاً، من أنت؟).
قفز قلبها في صدرها وشعرت بركبتيها ترتجفان. جلست علي الكرسي قبالته، وقالت: ( يمكنك أن تناديني بيني!).
رد بسخرية: ( آه! حقاً! وما هذا؟ اسم مستعار آخر؟ هل ستدخل بيني الحقيقية بعد بضعة أيام؟).
ردت بانزعاج:
- لا تكن سخيفاً! اسمع أنا آسفة.... حاولت أن أقول لك أنني لست ميلدريد عندما حضرت إلي مكتبك الأسبوع الفائت، ولكنك لم تمنحني المجال. فقد كنت بحاجة ماسة إلي من يساعدك، أتذكر؟
قال وقد رفع حاجبيه باستغراب:
- آه، وقد أحسنت إلي كذلك؟ فأنت تهوين الأعمال الاجتماعية والخيرية أليس كذلك؟
تنهدت بعجز: ( لا... طبعاً لا. لقد نظرت إلي...و... لا أعرف... وجدت نفسي أغرق في الأكاذيب).
رد بنعومة: ( أظن أن العديد من الفرص قد أتيحت لك كي تخبريني الحقيقة، ولكنك لم تستغلي أية واحدة منها).
احمرت وجنتاها وردت بخجل: ( لا... أنت محق، لم أفعل).
نظر إليها ببرودة: ( إذاً ما الذي منعك من ذلك؟).
ردت: ( أظن أنه الخوف من أن تنظر إلي كما تفعل الآن).
وساد صمت للحظات، وتابعت بصعوبة: ( أنا فقط..).
- بحاجة ماسة إلي العمل.
- لا... كنت سأقول أنني علقت في الوضع. فقد سألتني إن كنت أستطيع البدء بالعمل فوراً، ووجدت نفسي أوافق. كان تصرفاً مجنوناً، فقد كنت واثقة أن ميلدريد الحقيقية ستظهر إن عاجلاً أو آجلا، ولكن...
- ولكن ظننت أنك ستثبتين نفسك حتى مجيئها فيصعب عندها الاستغناء عنك.
ردت وهي تنظر إليه بتلك العينان الخضراوان الخلابتان:
- لم أكن سأقول هذا، وأرجوك توقف عن إنهاء جملي عني.
- اسمعي، لست في وضع يسمح لك بإملاء شروطك علي. حسناً، ماذا جرى؟ هل أرسلت الوكالة في طلبك وعندما وصلت إلي هنا وجدت أن الوظيفة قد منحت لشخص آخر؟ اسمعي، أفهم سبب استياءك، فقد قطعت مسافة طويلة لتصلي إلي هنا. كان حرى بك أن تخبريني الحقيقة، لم يكن يفترض بك تكبد كل هذا العناء للحصول علي الوظيفة، لأنه نظراً للاختيار بينك وبين ميلدريد الحقيقية، فقد كنت لأوظفك أنت حتماً.
- أحقاً؟
شعرت بنبضات قلبها تتسارع واجتاحتها مشاعر متناقضة.
وتساءلت: ( وأين كانت علي أية حال؟).
- التزامات عائلية أجبرتها علي البقاء في باربادوس لفترة أطول مما توقعت.
هز لوكاس رأسه وتابع:
- أتتخيلين؟ طنت أنها تستطع الدخول إلي هنا بعد أيام من التأخير من دون الاتصال للاعتذار أقلة، علي كل حال قلت لها إن الوكالة أرسلت لي شخصاً آخر لأنني لم أستطع انتظارها.
حدقت إليه بيني مذهولة: ( آه! أتعني أنك طردتها؟).
تنهد لوكاس: ( ليس بكل ما للكلمة من معنى! لقد عقدنا اجتماعاً ودياً، وفهمت المعضلة التي أعانيها. حاولت إخباري بأنها أرسلت لي رسالة تخبرني فيها بتاريخ قدومها، ولكنني لم أستلم الرسالة، وعلي كل حال، وبصراحة لقد فات الأوان).
منتديات ليلاس
ربت بأصابعه علي المكتب وقد نفذ صبره:
- أتصدقين أنها قالت لي أن عاملة الاستقبال ليست بالفعالية المطلوبة؟ يا لها من وقحة! ما كانت لتناسب العمل في هذا المكتب علي أية حال!
عضت بيني شفتها السفلى: ( إذاً، لن تعود؟).
ابتسم: ( لا، لن تعود! لقد أخبرتك بهذا لتوى!)
نظرت إليه بيني والذنب يتآكلها. لقد تسببت بأن تفقد المرأة عملها.
- فهمت! أتظن أنك قد تسرعت قليلاً؟ هل تملك رقماً تتصل بها عليه؟
حسم لوكاس الأمر: ( لا أحتاج إلي رقم هاتفها لأنني لن أتصل بها. لذا... أظنني أحاول أن أقول لك أنك إن أردت الوظيفة فهي لك).
جلست بيني صامتة صمت القبور، فهي لم تتوقع هذا.
تابع يقول: ( أنا لا أحب الكذب... بمختلف أشكاله. ولكنني فكرت بالأمر وأفهم سبب استياءك، فقد سافرت كل تلك المسافة لتجدي أن الوظيفة التي أردتها قد منحت لشخص آخر. لذا...).
ووقف عن كرسيه وتوجه نحوها، وأكمل كلامه: ( لقد غضضت النظر عن تصرفك هذه المرة، إذاً ما رأيك؟ هل نبدأ من البداية؟).
كانت بيني مستعدة لوهب حياتها مقابل أن تقول له نعم.... ولكن كيف عساها تفعل هذا؟ فهي لا تنتمي إلي هذا المكان. إنها تنتمي إلي أربودا. مع والدها. أو مع السفينة مع الطاقم... كل هذا كذب.
قالت: ( الأمر أكثر تعقيداً مما تتصور).
- لا، كل ما كان عليك فعله هو إخباري الحقيقة منذ البداية ليس إلا... يا بيني.
قفز قلبها من مكانه فرحاً لسماعه ينادي اسمها. بدا اسمها رقيقاً عذباً... وأجبرت نفسها علي عدم الاسترسال خلف الأفكار الرومانسية التي بدأت تراودها.
- أعلم هذا.
وساد صمت طويل حاولت خلاله استجماع قوتها. عليها إخباره كل شيء. ربما إن وضعت نفسها في تصرفه فسيستجيب لها ويصبر علي والدها. أو لا... ولعل هذا سيزيد الأمور سوءاً بالنسبة لوالدها.
وتجمدت لهذه الفكرة... فالكذب بشأن اسمها أمر سيء... أما الكذب بشأن سبب وجودها هنا، فأمر أسوأ.
- الواقع هو أنني أشعر بذنب كبير لأنني جعلت ميلدريد بانكروفت تفقد وظيفتها.
رد لوكاس بحزم:
- لا تقلقي لهذا الأمر. فلو لم تحضري في الوقت الذي حضرت فيه، كنت سأستدعي شخصاً آخر، فلم أكن سأنتظر أكثر. والآن بعد أن أوضحنا كل شيء، فهل ستبقي هنا وتعملين كمساعدتي الشخصية؟
كان قلبها يخفق بسرعة. رطبت شفتيها بتوتر وأخذت نفساً عميقاً، ثم قالت: ( لا أستطيع يا لوكاس، أنا آسفة).
عبس، ومرت بضعة لحظات قبل أن يقول لها: ( هل تمانعين بإخباري عن السبب؟).
- لدي أسباب شخصية، كما أنني لا أرى بأن الأمور تسير بشكل جيد هنا.
أجبرت نفسها علي الكلام وهي ترتجف كالورقة.
- ألكلامك هذا دخل بالعواطف؟
احمرت للطريقة المباشرة التي طرح فيها السؤال عليها ولأن نظره مسمر عليها أيضاً، قالت:
- لا، طبعاً لا.
- هل أنت واثقة؟
- طبعاً أنا واثقة.
كان قريباً جداً منها، فلو حركت رجلها ستصطدم برجله حتماً.
- أظن أن ما جرى بيننا سيء علي الصعيد العملي، ولكن...
وتوقف عن الكلام عندما رن الهاتف علي مكتبه.
- شونا هلا قطعت الاتصالات عني؟
قاطعته بسرعة قبل أن يتمكن من قول المزيد:
- لا دخل لكلامي هذا بما جرى بيننا، قلت لك... وقد نسيت الموضوع تماماً.
رفع حاجبه وقال ببرودة: ( أحقاً؟).
- نعم.
والتقت عينيهما للحظة قبل أن تشيح بنظرها سريعاً.
قال بلطف: ( بيني؟).
وفيما أشاحت بنظرها بعيداً عنه رفع يده ووضعها علي خدها ورفع وجهها نحوه فأجبرت علي النظر إليه، أسرتها عيناه فشعرت وكأنهما تنفذان إلي عمق روحها.
- هلا بقيت حتى أجد بديلاً عنك؟
جاء السؤال المتعلق بالأعمال غريباً جداً مقارنة بنبرة صوته.
همست وهي تبتعد عنه: ( لا أظن أنني أستطيع).
بالرغم من أنه لم يعد يلمسها، ما زالت تشعر بدفء لمسته علي وجهها. سمع قرع عند الباب:
- سيد داريان، إنه الاتصال الذي كنت تنتظر وروده من أربودا.
وجال نظر شونا علي بيني ولوكاس ولاحظت أنه ليس جالساً إلي مكتبه بل هو واقف قربها.
رد لوكاس بهدوء: ( قولي له إنني سأتصل به).
- أظن بأن الاتصال هام، فقد بدا مضطرباً وأصر علي الحديث معك.
رد لوكاس بحزم: ( قولي له إنني سأتصل به بعد قليل).
خرجت شونا وأغلقت الباب.
سأل لوكاس بيني كما لو أن أحداً لم يقاطع حديثهما:
- إذاً، هل ستخبرينني عن سبب رفضك؟
أخذت بيني نفساً عميقاً والتزمت بالحقيقة قدر ما استطاعت:
- يعاني والدي مشكلة كبيرة وعلي الذهاب إلي المنزل لمساعدته.
لم يقل لوكاس شيئاً بل اكتفي بالنظر إليها، فتابعت:
- أخبرتك عنه، أتذكر؟
- نعم، أذكر.
وقف عن حافة المكتب وعاد إلي كرسيه وقال:
- حسناً سأمهلك بضعة أسابيع لتحلي المسألة مع والدك، ثم أريدك أن تعودي.فعندي عمل كثير في منتصف الشهر المقبل، فهل تستطيعين العودة قبل هذا التاريخ؟
ترددت بيني، ثم هزت رأسها. ما من جدوى من مناقشة هذا الموضوع فقد حجزت علي متن الرحلة المتوجهة إلي أربودا هذا المساء، وهي لن تعود إلي هنا.
وغيرت الموضوع فسألته: ( في أية ساعة تريدني أن أصطحب إيزوبيل للتسوق؟).
نظر إليها لوكاس: ( ظننت أنه بمقدورنا المغادرة باكراً واصطحابها من المدرسة).
سألت مفاجئة: ( هل أنت قادما معنا؟).
ابتسم: ( طبعاً أنا قادم، فأنتما بحاجة إلي من يقلكما ويحمل الأكياس، أليس كذلك؟).
رن جرس الهاتف مجدداً، ثم توقف إذ أجابت شونا ثم دخلت المكتب مجدداً وقالت بنبرة يائسة:
- إنه المقاول مجدداً.
تناول لوكاس سماعة الهاتف:
- مرحباً جون، كيف حالك؟ أجل أعتذر فقد كنت في اجتماع هام مع واحد من طاقم الموظفين لدي.
ونظر إلي بيني مبتسماً. لم تبادله الابتسام، فقد كان الذنب يتآكلها لأنها كذبت عليه. إلا أنه لا يشعر بالذنب أبداً لما يفعله بوالدها.
أبعدت كرسيها عن المكتب. فكلما أسرعت في الابتعاد عنه ونسيانه كلما كان ذلك أفضل.
* * *

زونار 25-12-09 02:51 PM

الفصل التاسع:
– لو يتوقف الزمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دارت إيزوبيل المرة تلو الأخرى وهي ترفع يديها إلي الأعلى وترتدي فستاناً أبيض طويل، وشعرها الأسود يدور ويهتز.
سألت متحمسة: ( ما رأيك يا ميلي؟).
- رأي أنك ستشعرين بالدوار وتقعين أرضاً. قفي جامدة للحظة.
فعلت الطفلة ما طلبته منها بيني. بدت كملاك صغير. كانت حاشية الفستان رائعة وأكمامه القصيرة المطرزة أضفت عليه رونقاً وجمالاً. رفعت إيزوبيل رأسها نحو بيني، وقد أزهرت وجنتاها ولمعت عيناها وهي تبتسم متوترة، وسألت: ( ما رأيك؟).
- أظنك تبدين أروع أميرة جنية في العالم.
ابتسمت بيني ثم انحنت وقبلت جبين الطفلة.
عانقتها إيزوبيل بحرارة وقالت: ( انتظري حتى تري جينا فريدريك فستاني).
- ستندهش كثيراً، وكما أظن فإن والدك سيندهش أيضاً.
- أنا مندهش فعلاً.
قال لوكاس هذا، وقد فاجئهما ظهوره خلفهما. فقد أطل برأسه من الباب المؤدي إلي غرفة تغيير الملابس.
قالت إيزوبيل
وهي تهز إصبعها نحوه رافضة تصرفه هذا:
- لا يسمح لك بالدخول إلي هنا أبي، فهذا المكان مخصص للفتيات فحسب.
- لا أظنني سأري شيئاً لا يفترض بي رؤيته. هيا أخرجي حتى ألقي نظرة كاملة علي الفستان، فقد بدأت أشعر بالوحدة هنا.
وخرجت إيزوبيل إلي الردهة الرئيسية في المحل، وأثارت إعجاب العاملات في المحل اللواتي أتين يتفرجن علي الفستان.
قالت بيني للوكاس وهي تقف بجانبه وإيزوبيل تتبختر أمام المرآة:
- تبدو رائعة أليس كذلك؟
وافق لوكاس علي كلامها ثم ابتسم لبيني: ( نعم، أنها رائعة. كما أنك محقة، فهذا الفستان يستحق عناء البحث عنه في مختلف المحال التجارية في المنطقة).
- أنت تتعلم بسرعة.
ضحكت بيني. فقد تذمر لوكاس عندما رفضت الآنستان الفستان تلو الآخر. وأوشك أن يوقف عملية التسوق إذ أنهما تنقلتا من محل إلي آخر. ولكن بيني أصرت علي أن تجد بيني فستانها اليوم بالذات. فقد أرادت أن تصعد إلي الطائرة، وهي تعلم بأنها أنجزت شيئاً من رؤيتها، حتى ولو كان هذا الشيء صغيراً كإسعاد فتاة.
قالت بيني بخفة ومزاح:
- عليك أن تتمتع بالقدرة علي التحمل عندما ترافق الفتيات للتسوق، أليس هذا صحيحاً يا إيزوبيل؟
أومأت إيزوبيل فرحة، رد لوكاس بحزم:
- حسناً، لقد أثبت وجهة نظرك ولكن حان وقت تناول الطعام الآن، ثمة مطعم صغير ممتاز علي مقربة من هنا.
قاطعته إيزوبيل:
- ولكنني لم أشتر الجناحين بعد يا أبي، لا أستطيع أن أكون أميرة جنية من دون جناحين.
ردت بيني :
- لا أظن أننا سنتمكن من إيجاد الجناحين في متجر ما. اسمعي ماذا سنفعل، سنجد محلاً لبيع السلع الصغيرة ونشتري من عنده بعض الأسلاك المعدنية والأدوات وسأصنع لك جناحين رائعين.
رد لوكاس: ( ما من نهاية لمواهبك، أليس كذلك؟).
ردت بيني تمازحه مبتسمة: ( لا، لا أظن هذا).
بادلها الابتسام، وما إن التقت عينيهما حتى شعرت بأن قلبها توقف عن الخفقان. فأشاحت بنظرها بسرعة. لا يمكن لها السماح لنفسها بالتفكير بمدى وسامته... لأنه يستحيل عليها أن ترتبط به، فهو لوكاس داريان. وشعرت بألم يعصر قلبها.
سألت إيزوبيل بقلق: ( متى ستصنعين لي الجناحين؟).
وعدت بيني: ( الليلة).
قال لها لوكاس: ( لست مضطرة إلي صنعها بهذه السرعة، فالمسرحية بعد ثلاثة أسابيع).
- حتى ولو كان هذا صحيحاً، فيستحسن الانتهاء منهما الآن.
أومأت الفتاة فرحة. واقترح لوكاس:
- حسناً، بما أنك ستكونين منهمكة في تحضير زى ابنتي، فما رأيك لو أحضر لنا العشاء في المنزل؟
ترددت بيني. كانت خطتها أن تقضي بأن تصنع الجناحين لأيزوبيل في غرفتها في الفندق، ثم تتركهما علي عتبة باب لوكاس وهي في طريقها إلي المطار. ولكن بدا من المنطقي أكثر أن تصنع الجناحين في منزله ثم تغادر.
قالت بيني: ( حسناً اتفقنا).
وبعد حوالي نصف الساعة عادوا جميعاً إلي منزل لوكاس وهم يحملون الكثير من الأكياس.
قال لوكاس وهو يضع الأغراض في المطبخ:
- لا أعلم رأيك لكنني أحتاج فعلاً إلي شراب منعش، ما رأيك بكوب من عصير الليمون البارد؟
- شكراً أود ذلك كثيراً.
تناولت بيني الكيس الذي وضع فيه فستان إيزوبيل وناولته لها:
- يستحسن بك الذهاب لتعليقه في الخزانة قبل أن يتجعد.
ردت الفتاة فرحة: ( نعم ميلي).
- إيزوبيل؟
توقفت الفتاة واستدارت، فقالت لها بيني:
- يمكنك مناداتي بيني إن شئت، فهكذا يناديني أصدقائي.
أخذت الفتاة تفكر للحظة، ثم أجابت:
- أفضل أسم ميلي، هل أستطيع الاستمرار بمناداتك ميلي؟
ردت بيني مندهشة: ( نعم، إن شئت).
- جيد.
ابتسمت الفتاة وغادرت راكضة.
تمتم لوكاس: ( أتساءل عن السبب وراء هذا؟).
تنهدت بيني: ( لا أدري، لعلها تستغرب مناداتي باسمين مختلفين).
رد لوكاس ممازحاً: ( لا أستغرب هذا، فقد شعرت بالضياع لمناداتي عليك باسمين مختلفين!).
- حسناً، أعتذر عن هذا.
- لا بأس، لكن آمل أن لا تمانعي إن ناديتك ميلي سهواً. فأنا أميل إلي التفكير بك تحت اسم ميلي.
طمأنته وقد ارتسمت علي شفتاها شبه ابتسامة: ( إن زل لسانك فسأسامحك).
ولكن عندما التقت عينيهما مجدداً، شعرت كأنها فقدت اتزانها.
ابتسم لها وقال: ( شكراً لك لأنك ساعدت إيزوبيل اليوم. لا أعلم ما كنا لنفعل من دونك).
- أنا علي ثقة من أنك كنت لتتدبر أمرك.
استدارت وحاولت إلهاء نفسها في التفتيش في الأكياس الموضوعة علي الطاولة، ثم قالت:
- أظن بأنه علي البدء بصنع زى إيزوبيل.
- يمكنك العمل علي هذه الطاولة إن شئت.
قال هذا وهو يساعدها علي إفساح المجال علي الطاولة وإزاحة الأكياس جانباً.
- لا أريد اعتراض الطريق وإلهاؤك عن الطهي.
- لا تخافي لن تعترضي طريقي. كما أنني بحاجة إلي بعض الدعم المعنوي، فأنا لا أجيد الطهي كثيراً. في الواقع لقد حرقت عشاءنا البارحة ولم أكن أحضر سوى الهمبرجر والسلطة.
- ماذا أحرقت اللحم أم الخس؟
- لست عديم الخبرة إلي هذا الحد، ولأثبت لك كلامي، سأحضر تحفة فنية هذا المساء. كل ما أحتاجه هو شاهد... وبعض النصائح أيضاً.
- أنت تسأل الشخص الخطأ، فأنا لست بطاهية ممتازة.
خلع لوكاس سترته وطوي قميصه واستعد للبدء بالعمل. أما هي فشغلت نفسها بإحضار المواد التي تحتاجها كيلا تنظر إلي لوكاس الذي يبدو خلاباً.
سألت محاولة تغيير الموضوع: ( كيف حال السيدة غوردن؟).
- إنها بخير، لقد اتصلت بالمستشفي هذا الصباح وقالوا لي بأنها نامت جيداً أمس. وقد أخبروني بأنها قد لا تحتاج لإجراء عملية لوركها وبأن العلاج الفيزيائي كفيل بجعلها تتحسن. ولكن عليها أن ترتاح لبضعة أسابيع.
- ستشتاق إليها حتماً.
فتح لوكاس البراد وتناول بعض الخضار، ثم رد:
- أتمزحين؟ سآخذ إيزوبيل لزيارتها مساء غد. تعالي معنا إن شئت.
- هذه ليست بفكرة سديدة، لعلها ليست مستعدة لاستقبال هذا العدد من الزوار دفعة واحدة.
- حسناً سأستعلم وأخبرك غداً.
غداً ستكون في أربودا. وقد لا ترى لوكاس أو إيزوبيل بعد ذلك. سألته محاولة تسليط الضوء علي السبب الذي يحول دون بقائها هنا: ( إذاً كيف تجرى معاملات إخلاء المنزل في أربودا؟ لقد قضيت وقتاً طويلاً علي الهاتف اليوم!).
- هذا بسبب وجود الكثير من الأمور التي تستوجب الحل.
- هل أرسل سلفادور أمر الإخلاء بعد؟
- تبدين معارضة جداً للموضوع.
توقف عند الطاولة، وعندما لم تجبه أو تنظر ناحيته، تقدم منها ووضع يده علي ذقنها يرغمها علي النظر إليه.
قالت بحذر: ( أنا أعارض هذا الموضوع، فقد سبق أن أخبرتك هذا).
- وأنا أيضاً قلت لك أنها مجرد أعمال. فالاستحواذ علي أملاك أحدهم ليس بالأمر الجميل لكنه واقع.
ابتعدت عنه غاضبة. ولكن في الواقع كانت غاضبة أكثر من نفسها، لأنها وبالرغم من موضوع الحديث المزعج، فهي تشعر بالانجذاب نحوه وتتوق إليه. وصدمت لأنها ما زالت تشعر بهذا بالرغم من معرفتها بأن نهاية والدها قد حانت...
حاولت إخفاء مشاعرها المضطربة فأرادت إنهاء الموضوع بقولها:
- علي كل حال ألم نتفق علي أن يحتفظ كل واحد منا برأيه الخاص بهذه المسألة؟
رد فجأة: ( أظنك تشعرين بالسوء حيال هذه القضية لأنك قلقة علي والدك بسبب المشاكل المادية التي يعانيها).
نظرت إليه بحدة. أتراه يعرف الحقيقة؟ وخافت لمجرد التفكير بالموضوع:
- - أنا أعارض الموضوع بشدة لأنني أعتقد أن ما تفعله خطأ.
- أنت تتظاهرين بالتقوى بشكل مبالغ فيه.
عبست وتمتمت: ( حسناً قلت لك إني آسفة، فأنا لم أتعمد أن أكذب أو أجرح مشاعر أحد).
- اسمعي بيني، لقد أوكل إلي والدي مهمة وأنا أنجزها.
وفكرت: والدم لا يستحيل ماءً أبداً. فإن قالت له إن والده غشاش فلن يلين قلبه، بل ستضيع وقتها فحسب.
ولحسن الحظ، دخلت إيزوبيل في تلك اللحظة.
سألت مسرورة: ( ماذا سنتناول للعشاء يا أبي؟).
- خضار مطبوخ وشرائح لحم.
- هل أستطيع تناول شرائح البطاطا؟
- لا، لا تستطيعين.
حزنت إيزوبيل، ثم أخبرت بيني وهي تصعد إلي المقعد لتجلس قربها إلي الطاولة:
- أحرق أبي العشاء مساء أمس، وكان طعمه رهيباً.
- نعم شكراً لك أيتها الواشية.
وداعب لوكاس شعرها فضحكت.
ساد الصمت لبعض الوقت وأكمل لوكاس تحضير العشاء في حين جلست إيزوبيل تراقب بيني.
وسألت إيزوبيل بيني فجأة: ( هل تحبين أبي؟).
فاجأ السؤال بيني: ( حسناً... نعم).
ردت الفتاة مسرورة: ( وهو أيضاً يحبك، أليس كذلك يا أبي؟).
نظرت بيني إلي لوكاس والتقت عيناهما. في حين شعرت بالإحراج من سؤال إيزوبيل، لم يبد هو مسروراً.
- حسناً، في معظم الأوقات. فقد كان بوسعي الاستغناء عن مفاجأة هذا الصباح.
سالت إيزوبيل: ( أية مفاجأة؟).
أطفأ لوكاس الفرن: ( لا تقلقي لهذا، سأقدم العشاء الآن. كم تحتاجين من الوقت بعد يا بيني؟).
- أوشكت علي الانتهاء.
وألصقت بيني القطعة الأخيرة من الشبك.
- سنتناول العشاء في غرفة الطعام، تعالي وساعديني علي إعداد الطاولة يا إيزي.
كان لوكاس علي وشك نقل الطعام إلي الغرفة الأخرى عندما رن الهاتف.
- هلا تلقيت المكالمة عني يا بيني! قولي للمتصل بأنني سأعاود الاتصال به بعد العشاء.
كانت إيما، وقد ظهرت منزعجة عندما سمعت صوت بيني، فقالت لها: ( أتعملين حتى وقت متأخر؟).
- كنت أساعد إيزوبيل علي إعداد زيها لمسرحية المدرسة.
- آه فهمت.
- لوكاس يحضر العشاء، فهل يستطيع الاتصال بك لاحقاً؟
- أردت فقط إخباره أن ماريا ذهبت إلي المستشفي لتلد، نقلها سلفادور إلي هناك بعد الظهر.
- هذه أخبار رائعة. آمل أن يسير كل شيء بخير معها!
- نعم، وأنا أيضاً. وهلا قلت للوكاس شكراً نيابة عني علي باقة الأزهار. إنها رائعة. سأتصل به غداً فأنا ذاهبة إلي السينما الآن.
- حسناً، سأخبره.
أغلقت بيني سماعة الهاتف، وراحت تفكر. إن كان لوكاس يرسل الأزهار لإيما، أيعني هذا أنه يريدها أن تعود إليه؟
ناداها لوكاس من الغرفة الأخرى: ( بيني، بدأ عشاؤك يبرد).
- عذراً.
قالت هذا وهي تدخل غرفة الطعام وجلست في المقعد المقابل لمقعده: ( اتصلت إيما، قالت إن ماريا في المستشفي، لقد دخلت في المخاض).
رد لوكاس: ( أرجو أن تكون ولادتها سهلة وأن يسير كل شيء علي خير ما يرام).
- نعم، وأنا أيضاً.
ونظرت بيني إلي الطعام الموضوع أمامها: ( يبدو الطعام لذيذاً).
قالت إيزوبيل: ( لكانت رقائق البطاطا ألذ طعماً، فهي أكلتي المفضلة خاصة إن أكلتها مع الكاتشاب).
قال لوكاس وهو يهز رأسه:
- ذوق ابنتي في الطعام ممتاز، ألا تظنين هذا يا بيني؟
- بالطبع.
وغمزت بيني إيزوبيل، ثم عادت فحولت انتباهها إلي لوكاس:
- آه، وطلبت إيما أن أشكرك نيابة عنها علي باقة الأزهار. قالت إنها رائعة، وستتصل بك غداً لأنها ذاهبة إلي السينما الآن.
أومأ لوكاس: ( يسرني أن الأزهار أعجبتها).
تلاعبت بيني بالطعام في صحنها. صحيح أنها كانت تشعر بالجوع لكن قابليتها قد انقطعت. فالتفكير بعودة لوكاس وإيما معاً أشبه بسكين يقطع أحشائها. ومعرفتها بأن ما تشعر به ما هو إلا سخافة، زاد من سوء الأمور.
سأل لوكاس: ( كيف تجدين طهوي؟).
- يفاجئني أنه لذيذ.
وابتسمت له ثم أردفت: ( الطعام لذيذ فعلاً. لكانت السيدة غوردن ستفتخر بك).
وصرخت إيزوبيل فجأة: ( إنها تمطر يا أبي).
نظروا جميعاً إلي النافذة. كان المطر ينهمر بقوة إلي حد أنه أوشك علي حجب منظر الحديقة.
- آه! يا إلهي! آمل ألا يستمر المطر لفترة طويلة وإلا تبللت وأنا في طريقي إلي الفندق.
اقترح لوكاس: ( يمكنك أن تبيتي الليلة هنا).
ردت بسرعة: ( لا، لا بأس، سأكون بخير).
ولكنها لم تستطع منع نفسها من النظر ناحيته وهي تكلمه. أهو يدعوها لتشاركه فراشه أو أنه يعرض عليها النوم في الغرفة الإضافية ليس إلا؟ لم تكن متأكدة. ولكن في كلتي الحالتين عليها ألا تبقي وترفض عرضه.
- في الواقع، سأساعدك علي إعادة ترتيب غرفة الطعام ثم علي الاتصال بسيارة أجرة. إذ يتعين علي إجراء بعض الاتصالات الهاتفية من الفندق.
أرغمت نفسها علي قول هذه الكلمات وادعاء البرودة.
منتديات ليلاس
أومأ لوكاس: ( كما تشائين).
سألت إيزوبيل: ( أبي، هل أستطيع الانصراف؟).
نظر إلي المائدة ليري كمية الطعام التي تناولتها.
- حسناً، ولكن الوقت يتأخر الآن، عليك الاستعداد للنوم.
- هل ستأتي لتضعني في السرير؟
رد لوكاس مبتسماً: ( ألا أفعل هذا عادة؟).
- بلي، ولكنني أفضل أن تأتي ميلي... فهل تأتين لتضعيني في السرير يا ميلي؟
ردت بيني بنعومة وقد تأثرت بطلب الطفلة: ( إن شئت ذلك).
- وحتى ذلك الوقت، أذهبي للاستحمام أيتها الآنسة الصغيرة.
وقام ليأخذ الصحون عن الطاولة.
قالت بيني: ( دعك من هذا يا لوكاس، سأهتم به وأذهب لمساعدة إيزوبيل).
- شكراً لك.
وفيما اختفي الأب وابنته وصعدا إلي الطابق العلوي، حملت بيني صحون الطعام وتوجهت إلي المطبخ. كانت تسمع ضحكة إيزوبيل وابتسمت لذلك وهي تضع الصحون في الجلاية.
وتساءلت كيف ستكون الأمور إن أصبحت جزءاً من حياتهما؟ إن عاشت معهما هنا كعائلة؟
سمحت لنفسها بالحلم قليلاً وهي تراقب هطول المطر. حضر فلينت وبدأ ينبح يريد الخروج فشتت انتباهها:
- هل أنت واثق أنك تريد الخروج فالطقس ممطر؟
نبح الكلب مجدداً، ففتحت له الباب. وتراجع إلي الخلف ما أن رأي المطر. ابتسمت بيني:
- لا تقل أنني لم أحذرك.
وبعد بضع لحظات من التردد، خرج الكلب إلي الشرفة ثم إلي الحديقة. وما هي إلا ثوان حتى تواري عن نظرها.
نادت بيني: ( فلينت، هيا يستحسن بك الدخول).
ولكن لم يظهر الحيوان، فخرجت إلي الشرفة: ( فلينت، تعال!).
بدأ الضوء يتلاشي، والظلمة تهبط بسرعة. كانت رائحة المطر نضرة منعشة، وبالرغم من أن الطقس ما زال حاراً، فالحرارة متدنية مقارنة بالأيام الأخرى.
استندت بيني إلي الباب وأخذت نفساً عميقاً.
- منظر المطر رائع هنا، أليس كذلك؟
استدارت وإذ به يقف في المدخل.
- نعم منظر رائع ومريح للأعصاب، كنت أنتظر فلينت، لقد خرج بشجاعة إلي الحديقة.
مشي لوكاس ووقف قربها: ( يحب فلينت برودة الطقس، وأنا أيضاً. إذ يبدو وكأن كل شيء قد غسل واستحال نظيفاً، أليس كذلك؟).
خيم الصمت لبعض الوقت ولم تسمع إلا طقطقات المطر علي السقف فوقهما.
سألها فجأة: ( هل ننسي خلافنا؟).
هزت رأسها، وتابع: ( أنا لا أظن بأنك تدعين التقوى. كل ما في الأمر أنك تغضبين بسرعة وأنت عنيدة أحياناً).
استدارت نحوه وقد رفعت حاجبها:
- عنيدة؟ وكيف وصلت إلي هذا الاستنتاج؟
- حسناً، أنت لا تعترفين بأنني محق. بالرغم من أنني كذلك في معظم الأوقات.
- أنت تحلم.
هزت رأسها وأشاحت بوجهها بعيداً عنه.
- بيني؟
نظرت إليه بتساؤل.
- هل أنت بخير؟
- نعم لماذا؟
- جيد... يسرني أننا ما زلنا صديقين.
وأثارت ابتسامته الممازحة جنونها. لعلهما هنا في المنزل صديقين، ولكن في العالم الحقيقي، فهو لن يكون إلا عدو والدها. وهي تنظر إلي عينيه، تمنت لو يستطيعان البقاء هكذا إلي الأبد، بعيدين عن العالم، وأملت لو يتوقف الزمن عند هذه اللحظة.
عاد فلينت راكضاً نحو الشرفة، وقبل أن يتسنى لهما الابتعاد، نفض الماء عنه بقوة. فصرخا صرخة واحدة عندما تبللا من الماء:
- فلينت!
ثم قال لوكاس وهو يمسح الماء عنه:
- شكراً جزيلاً يا سيد فلينت.
نظر إليه فلينت بعينين غير مباليتين ونفض الماء عن جسمه مجدداً فضحكت بيني إذ أنها كانت قد ابتعدت قليلاً عنه.
نظر إليها لوكاس وابتسم ساخراً:
- مضحك جداً، أنظري إلي أنا مبلل.
ردت بيني وهي تضحك أكثر:
- سيعلمك هذا أن لا تعتبر نفسك دائماً محقاً.
- حذار، اسحبي ما قلته فوراً. فأنا أتوقع طاعة وخضوعاً من موظفي.
- إذاً أظنك حصلت علي الموظفة الخطأ.
- لعلك محقة.
واقترب منها وقد ظهرت في عينيه نظرة ساحرة.
قالت مبتسمة وهي تبتعد عنه:
- علي كل حال، يستحسن بي الصعود لأضع إيزوبيل في السرير.
- آه لا... لن تفعلي.
وأمسك بها قبل أن تصل إلي الباب ثم وضع يده علي الحائط خلفها واحتجزها قريبة منه، قال:
- قبل أن تلوذي بالفرار، أظن أن عليك الاعتذار.
- الاعتذار علي ماذا؟ علي وقوفي إلي صف فلينت؟
- لا، علي كونك صعبة المنال والمراس!
- أنا! لا بد أنك تتحدث عن نفسك!
ورفعت نظرها بخفة.
- هذه فرصتك الأخيرة، يستحسن بك أن تعتذري، وإلا....
وجال بعينيه علي وجهها وفجأة تبدل مزاجهما وتحول من مزاح إلي مشاعر قوية. وما إن أحنى رأسه حتى مدت كتفيها ووضعتهما علي كتفيه، ثم طوقت عنقه.
وتلاشت الأفكار المنطقية كلها في تلك اللحظات، وأرادت أن تغرق بين ذراعيه.
بدا وكأن صوت المطر قد طغي علي صوت عـقـلها الذي يقول لها بأن ما تفعله خطأ.
ابتعد عنها وتركها مقطوعة الأنفاس.
همست: ( لا يفترض بنا أن نفعل هذا؟).
ابتسم لها: ( ولم لا؟).
- لأن..
لأن هذا التصرف خاطئ.
- لأن هذا سيعقد علاقة العمل التي تجمع بيننا. وعلي كل حال ألم ترسل الأزهار لتوك لإيما؟ أتظن أنه من اللائق أن تعانقني وتلاحقها في الوقت عينه؟
ابتسم: ( هل تشعرين بالغيرة؟).
- لا، طبعاً لا.
جعل سؤاله المغرور الدم يغلي في عروقها، ولكنه محق. إنها تغار من إيما بالرغم من أنه لا يحق لها أن تغار.
- علي كل حال، يستحسن أن أذهب. لا أريد إبقاء إيزوبيل منتظرة. فهلا اتصلت بسيارة أجرة لتأتي وتصطحبني؟
- إن كانت هذه رغبتك.
لم تكن هذه رغبتها، نظرت إليه وشعرت بأن قلبها سينفجر. وبسرعة عادت إلي الداخل.
كانت إيزوبيل في السرير تحمل في يدها الدب الصغير. جلست بيني علي السرير قربها.
قالت إيزوبيل: ( شكراً لأنك اصطحبتني للتسوق اليوم يا ميلي).
ردت بيني بصدق: ( لقد استمتعت بذلك، كما أنك بدوت رائعة بذلك الفستان).
أومأت الفتاة، وقالت بفخر: ( لقد حصلت علي أجمل فستان في العالم).
وافقتها بيني الرأي مبتسمة: ( أظنك فعلت).
مدت يدها وأزاحت خصلة من شعرها عن وجهها، وفيما تفعل هذا أيقنت أنها لا تتمني الآن لإيزوبيل ليلة سعيدة وحسب بل تودعها أيضاً، فشعرت بقلبها يغرق في الحزن.
- أنا واثقة من أنك ستكونين الفتاة الأجمل في المسرحية. والآن هيا إلي النوم.
وانحنت وقبلتها علي جبينها.
سألتها الفتاة فجأة قبل أن يتسنى لها أن تقف:
- ميلي، هلا أتيت وحضرت المسرحية؟
عضت بيني شفتيها: ( لا أظن ذلك يا عزيزتي).
وعبست إيزوبيل: ( ولم لا؟).
- لأن...
وتوقفت للحظة عن الكلام ثم قررت إخبارها بالحقيقة:
- لأنه يتعين علي العودة إلي منزلي ورؤية والدي لفترة لأنه بحاجة إلي.
- آه!
بدت إيزوبيل وكأنها علي وشك أن تبكي. فتابعت بيني:
- لكن هذا لا يعني أبداً أنني لا أريد حضور المسرحية، فلو أتيحت لي الفرصة، كنت لأفرح كثيراً بمشاهدة المسرحية، ولكن أحياناً لا تجري الأمور كما نريد. كما أنني قلقة علي والدي فهو بمفرده. أنت تفهمين ما أحاول قوله أليس كذلك؟
أومأت إيزوبيل: ( مثلي ومثل والدي؟).
- نعم، تقريباً... لكنني سأفكر فيك وأتساءل كم ستبرعين في أداء دورك.
- وأنا أيضاً سأفكر بك.
وضمت الدب إليها بشدة.
سألت بيني وهي تغادر: ( هل أطفئ الضوء؟).
- لا، أحب إبقاء الضوء مضاء، أراك غداً يا ميلي.
- عمت مساءً إيزوبيل وأحلاماً سعيدة.
وهي تخرج من الغرفة رأت ظل لوكاس عند الباب.
سأل بصوت منخفض وهو يغلق الباب خلفه: ( لمَ لن تحضري المسرحية؟).
- قلت لك... أنا ذاهبة إلي المنزل.
بدأت تبتعد عنه وصولاً نحو السلالم. شعرت بحاجة ماسة إلي أن تغادر هذا المكان بأسرع وقت ممكن وإلا ستبدأ بالبكاء، فتوديع إيزوبيل كان أصعب مما توقعت. ولكن قبل أن تتمكن من الابتعاد كثيراً، أمسك لوكاس بيدها.
- أتعلمين أن مسرحية إيزوبيل بعد ثلاثة أسابيع؟ ظننتك قلت أنك ستعودين قبل هذا الوقت.
قربها منه فاضطرت للنظر إليه.
- أحقاً؟ حسناً أظنني سأحضر ولكن لم أرد أن أقوم بوعود قد لا أتمكن من إيفائها.
- ولكنك لا تمانعين أن تعديني ولا تفي بوعدك. ماذا يجري يا بيني؟
- قلت لك أنا قلقة بشأن والدي.
- هكذا فقط؟
- هذا يكفي... صدقني. هل اتصلت بسيارة أجرة لتأتي لاصطحابي؟
- ماذا تظنين؟
- أظن بأنه كان يفترض بك أن تفعل.
نظر إليها غاضباً: ( هل هذا ما تريدينه؟).
تريد... لو يعرف ماذا تريد!
وقالت بإصرار: ( نعم).
فقال: ( إذاً اذهبي!).
* * *

زونار 25-12-09 02:52 PM

الفصل الاخيــــــر:
- باق من العمر خفقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت الساعة حوالي العاشرة عندما غادرت ونظرت نظرة أخيرة إلي لوكاس الواقف عند الباب من نافذة سيارة الأجرة وهي تبتعد بها بعيداً.
وبعد لحظات نظرت إلي الأمام وسمرت نظرها علي الطريق. والدها يحتاج إليها، وولاءها الأول هو له. لن تنظر إلي الوراء بعد الآن. أصبح لوكاس وإيزوبيل من الماضي.
منتديات ليلاس
تأخرت رحلتها، وكان ذلك لصالحها لأنها ما كانت لتلحق بها لو طارت في موعدها، ولكن لسوء الحظ، تأخرت الرحلة أكثر مما توقعت وقضت الليل بطوله تحدق إلي الشاشات تنتظر الإعلان عن موعد الرحلة.
كان النهار قد طلع عندما حطت أخيراًَ علي أرض أربودا. وشعرت بالغرابة عندما أحست بالحرارة صباحاً. لم يتغير شيء علي جزيرتها الصغيرة، فكما لو أن الزمن قد توقف، حتى أنها وجدت سائقي سيارات الأجرة نفسهم يدخنون ويضحكون منتظرين الركاب.
وهي تصعد في سيارة الأجرة التي ستنقلها إلي المحطة الأخيرة من رحلتها، شعرت بالتعب والوهن. أرجعت رأسها إلي الخلف وأغلقت عينيها، وتزاحمت في رأسها ذكرياتها مع لوكاس. ماذا سيفكر عندما يكتشف أنها غادرت؟ وعندما سيقرأ رسالتها التي أخبرته فيها عن عدم عودتها وعن مدى أسفها لما آلت إليه الأمور؟
حاولت عدم التفكير بالأمر. لن يعرف كيف خدعته، ولن يكتشف هويتها الحقيقية... فقد حرصت علي أن تمحي كافة السجلات التي تحمل اسمها في الفندق. فقد تفهمت عاملة الاستقبال موقفها. أما الرجل الذي يعمل أيضاً علي مكتب الاستقبال فبدا أكثر تشكيكاً عندما أطلعته علي الرواية نفسها هذا الصباح، ، لكنها عادت وأعطته بضع دولارات فأومأ وهز كتفيه. وبما أنها لم تعطهم عنوانها في أربودا، ظنت أن سرها بات بأمان.
ولكن حتماً لوكاس لن يبحث عنها. لا بد أنه سيكون منشغلاً جداً فقد تركته في زحمة العمل.
توقفت سيارة الأجرة أمام منزل والدها، ولاحظت أن قصب السكر ما زال مزروعاً في الحقول.
بدا المنزل مهملاً بشكل يثير الحزن في القلب. سألت بيني وقد اقتربت من سائق سيارة الأجرة:
- هل رأيت والدي مؤخراً يا جوشوا؟
- لا آنستي.اضطر إلي صرف بعض عماله، وقد سمعت من السيدة غيلنغهام أن حاله سيئة. فهي تحضر له حساء الدجاج، وتساعده علي قدر استطاعتها.
انقبض قلب بيني. فإن كان والدها يقبل مساعدة السيدة غيلينغهام فلابد أنه بحالة مزرية السيدة غيلنغهام جارة والدها، أرملة تمر أحياناً لرؤيته بالرغم من انزعاجه منها. فهو لا يطيق رؤيتها ويتذمر منها بصوت مرتفع.
- شكراً جوشوا.
وما إن توقفت السيارة حتى قفزت بيني ودفعت للسائق وركضت باتجاه المنزل.
- أبي؟
نادت بصوت مرتفع من عند الباب الأمامي. بدا المكان مرتباً ونظيفاً، وقد استغربت الأمر لأنها كلما أتت في إجازة قضت وقتها تنظف المنزل وترتبه.
- أبي، هل أنت بخير؟
فتح الباب المؤدي إلي المطبخ وخرجت السيدة غيلينغهام. إنها امرأة ممتلئة الجسم في الستينات لها وجها جميل ضحوك.
- آه، هذه أنت عزيزتي. تساءلت عن من حضر في سيارة الأجرة. والدك فوق في سريره. لقد تعرض لحادث منذ بضعة أيام...
سألت بيني قلقة: ( أي نوع من الحوادث؟ هل هو بخير؟).
- تعرض لحادث سيارة وكسر رجله. كان الرجل المسكين في وضع سيء للغاية.
- آه، لا! شكراً لك سيدة غيلينغهام.
وصعدت بيني ركضاً تهرع لرؤية والدها.
وجدته مستلقيا علي سريره يقرأ الجريدة. وضع الجريدة جانباً عندما رآها وصدمت لرؤيته ضعيفاً إلي هذا الحد. لقد اختفي اللون من وجهه وخسر الكثير من الوزن منذ رأته في زيارتها الأخيرة منذ بضعة أشهر.
اقتربت منه تعانقه: ( أبي هل أنت بخير؟).
ابتسم لها بحنان وهي تبتعد قليلاً عنه.
- لقد أصبحت أفضل الآن بعد أن رأيتك. أين كنت؟ لقد حاولت الاتصال بك عبر شركتك فقالوا لي أنك في إجازة.
ردت بيني وقد تملكها الشعور بالذنب: ( كان لدي بعض الأعمال. كان بوسعك الاتصال بي علي هاتفي الخلوي).
- لقد أضعت الرقم، لا أعلم أين وضعت دليل الهاتف؟
- آه يا أبي، ماذا سأفعل بك؟
- والأسوأ من هذا أظنني خسرت المنزل.
- هل تلقيت أمر الإخلاء؟
هز والدها رأسه نفياً: ( ولكنني قد أتلقاه في أية لحظة الآن. فأنا عاجز عن تسديد الدفعات الكبيرة التي يطالبني بها لوكاس داريان. وقد اضطررت إلي صرف بعض العمال، مما يعني أنني لن أحصد محصول السكر في أوانه، وبالتالي سيتراكم ديني).
قالت بيني والأسى يعصر فؤادها: ( آسفة يا أبي).
ابتسم بحزن: ( الغلطة ليست غلطتك، إنها غلطتي لتورطي مع لورانس داريان. فذلك الرجل لم يسامحني يوماً لأنني سلبته أمك).
- ولكنك لم تسلبها منه، كل ما في الأمر هو أنها اكتشفت أنه متزوج وقطعت علاقتها به.
أحنى ويليم كينيدي رأسه وقال: ( لكنها اكتشفت أنه متزوج لأنني أخبرتها بذلك).
- ولكنه كان متزوجاً، فهو الذي تصرف بشكل رديء.
- جسناً، علي كل حال.... لم يسامحني أبداً. والآن يبدو أن ابنه قاس مثله.
فكرت بيني بلوكاس: قاس، لا إنه بعيد كل البعد عن القساوة.
- أنت لست متأكداً من هذا يا أبي!
نظر إليها بعينين مشككتين: ( هذا الشبل من ذاك الأسد. فإن رأيته يوماً سوف...).
واحمر وجهه فخافت عليه.
وفي تلك الأثناء دخلت السيدة غيلينغهام وهي تحمل صينية بيدها:
- هيا يا ويليم... أنت لا تغضب نفسك أليس كذلك؟
وضعت صينية الطعام جانباً واقتربت منه تسوى الوسادات خلفه.
قال لها مضطرباً: ( لا تبدئي يا امرأة، أنا بخير).
- لا، لست بخير. فأنت ترفع ضغط دمك من دون سبب.
تمتم: ( كان ضغط دمك ليرتفع لو كنت تخسرين منزلك).
حدقت رونا غلينغهام إلي بيني: ( ركز انتباهك علي تناول الطعام والتعافي. سأمر بك لاحقاً للاطمئنان عليك).
- سأكون بخير الآن وقد أتت بيني.
- حسناً سأحضر علي كل حال.
قالت بيني وهي تمرر الصينية لوالدها:
- لا تكن مزعجاً يا أبي، أنت محظوظ لأن لك جارة لطيفة.
- أتعرفين؟ لم تتركني أبداً، بقيت هنا صباحاً وظهراً ومساءاً. إنها امرأة جيدة... امرأة جيدة.
ابتسمت: ( أبي، مازالت الحياة تدب فيك بالرغم من هذا الجفصين الموضوع علي رجلك).
ابتسم: ( حبذا لو أستطيع نسيان أمر لوكاس داريان، لكنت نعمت بالسعادة).
- لا أظنك تملك فرصة كبيرة في الحفاظ علي المنزل. الآن لقد عدت إلي المنزل، لذا سأساعدك في توضيب الأغراض.
- لا لن تفعلي. لن أوضب شيئا ما لم أضطر لذلك. ولكن إن ساعدتني علي تنظيم العاملين وحصد السكر فسأكون ممتناً لك، من يدري! قد نستطيع حصد المحصول.
- أتعني إن عملت ليل نهار؟
- هيا يا بيني! افعلي هذا من أجل والدك العزيز. وفكري أننا قد نستطيع تلقين لوكاس داريان درساً فأنا لا أحب أن يستخف أحداً بآل كينيدي
بالرغم من النسيم كان الحر مزعجاً. أحضرت بيني بعض الماء للعاملين في الحقل، وجلست في حقل قصب السكر ونظرت إلي السماء الزرقاء.
مر نحو أسبوعين علي مغادرتها بورتوريكو، ولم يصل أمر الإخلاء بعد. في الواقع، لم يصل أي خبر من لوكاس حتى الآن، وستنتهي رخصة البناء بعد يومين. وتساءلت عما يجري. هل حصل شيء ما للوكاس؟ لعله مريض؟ ولعل إيزوبيل مريضة وقد نسي هموم العمل بسبب انهماكه بها؟
أقفلت عينيها وحاولت طرد هذه الأفكار التي تطاردها منذ بضعة أيام. لوكاس بخير... وإيزوبيل أيضاً. لعلها ستسمع عنه اليوم، وغداً ستصل الجرافات وتبدأ بحفر الأساسات.
هبت ريح خفيفة. آه... كم تشتاق إليه... تفكر فيه كل يوم وتتذكر... وحنت للمساته وابتسامته.
سمعت صوت سيارة تقترب من المنزل، لكنها لم تستدر فهي تحلم بأنها مستلقية بين ذراعي لوكاس.
نادي أحدهم علي واحد من العمال.
- مرحباً، أنا أبحث عن منزل آل كينيدي.
قفز صوت بيني لسماعها صوت الرجل. إنه لوكاس، أتراها تتخيل وجوده هنا؟
استقامت ونظرت عبر الحقل إلي رجل طويل القامة يقف عند الطريق. كان يدير لها ظهره، ولكن جسمه شبيه بجسم لوكاس وشعره أسود. كان يرتدي سروالاً كاكي اللون مع قميص يناسبه.
رأت شريكها ماثيو يدل السائق إلي منزل والدها. استدار الرجل ليصعد في السيارة وشعرت بيني بالدوار، إنه لوكاس داريان. وللحظة سرت لرؤيته كثيراً إلي حد أنها لم تفكر بأي شيء آخر. ولكن ما إن ركب السيارة الحمراء الرياضية واتجه نحو منزل والدها حتى بدأت تضبط نفسها وتحاول التفكير.
ماذا يريد بحق السماء؟ أجاء يستولي شخصياً علي الأرض عوضاً عن إرسال واحد من رجاله؟ وشعرت بالخوف يتملكها، فهذا الأمر كفيل بأن يسبب لوالدها ذبحة قلبية.
عليها أن تعود إلي المنزل وبسرعة أيضاً. ولكن المشكلة هي أن واحداً من العمال قد غادر بالشاحنة منذ أقل من عشر دقائق. ما من حل أمامها سوى الركض. سلكت طريقاً مختصراً عبر الحقول، واستغرقت حوالي نصف ساعة للوصول إلي المنزل. وصلت في الوقت المناسب لترى لوكاس يغادر مكشراً. لم يرها، فقد كان مستعجلاً للصعود إلي السيارة والمغادرة.
دخلت بيني المنزل وقلبها يخفق بقوة وقد جف فمها وهي تتساءل عن الحالة التي ستجد فيها والدها.
وجدته جالساً في الردهة يحدق في النافذة بصمت غريب.
تقدمت بيني منه بحذر: ( أبي! ما الأمر؟ هل كل شيء علي ما يرام؟).
- ماذا؟
نظر ويليم كينيدي إلي ابنته وقد بدا شارد الذهن.
- أكان هذا لوكاس داريان؟
- نعم... أمر غريب.
- ما الغريب؟ ماذا جري يا أبي؟
- لقد اعتذر مني، هل تصدقين هذا؟ أخبرني أنه سيتصل بمحاميه وأن المنزل ملك لي.
جلست بيني علي الكرسي المجاور وقد خانتها رجلاها: ( لماذا؟).
- يبدو أنه كان يراجع ملفات والده وقد وجد ملحقاً للوصية. لقد فكر لورانس مجدداً وقرر التخلي عن محاولته الانتقام مني.
ومد لها رسالة ثم تابع: ( كما أنه ترك لي رسالة كتبها وهو يحتضر، يخبرني بها بمدى أسفه علي ما فعله... وبأنه كان مهووساً بكلارا ولم يتجاوز قط خسارته لها...).
دهشت بيني: ( أحقاً؟ وماذا قال لوكاس؟).
- حسناً، لم يقرأ الرسالة، فقد كانت مغلقة وموجهة إلي، وقال أنه أرتئي تسليمي إياها شخصياً. كما سلمني شيكاً كتعويض عن الخسارة التي تكبدتها. كنت أنوى إحداث جلبة لكنه اعتذر مني بصدق، فلم استطع إخباره رأيي... فهو مهذب جداً... من كان ليصدق...؟
سألت بيني وقلبها يخفق بسرعة: ( هل ذكرني؟).
عبس ويليم: ( ذكرك؟ ولم عساه يفعل شيئاً كهذا؟).
إنه محق، فكيف عساه يفعل هذا وهو لا يعرف علاقتها بالموضوع؟
عضت بيني علي شفتها: ( أنا لم أخبرك يا أبي لكنني ذهبت لرؤيته).
نظر إليها والدها كما لو أنه يراها للمرة الأولي، ثم ابتسم:
- آه! أهو السبب في تعاستك البادية خلال الأسابيع الماضية؟
أومأت بيني.
- حسناً، يستحسن بك اللحاق به إذاً، فهو باق هذه الليلة علي الجزيرة. سينزل في فندق الشيراتون وسيغادر غداً صباحاً.
وقفت بيني وهرعت، وما إن عبرت الردهة حتى رأت نفسها في المرآة، إنها ترتدي جينز أزرق باهت اللون وقميص بيضاء قديمة. وفكرت أنه يستحسن بها تغيير ملابسها.
شعرت بالغرابة وهي تستحم وتغير ملابسها لتلاقي لوكاس. كانت تشعر بالإثارة. وما إن ركنت شاحنة والدها القديمة علي بعد بضعة مبان من الفندق، حتى بدأت تساورها الشكوك...
صحيح أنها تريد اللحاق به... ولكن ماذا لو لم يكن مهتماً بها؟ ... لعله لم يشتق إليها حتى. وقد يكون قد عاد إلي إيما.
ترجلت من الشاحنة ومررت يداً ترتجف علي فستانها الأزرق. ماذا يفترض بها أن تقول له؟ فبالرغم من أنه اكتشف حقيقة والده، فالأمر ليس سهلاً عليه. ولعله ليس في مزاج جيد، واكتشافه أنها ابنة ويليم كينيدي قد يزيد من غضبه.
كانت الشمس تغرب فيما اقتربت بيني علي مهل من الفندق. كانت الأضواء الذهبية تنير الردهة. الآن أو أبداً! قالت في نفسها.
وهي تتجه إلي مكتب الاستقبال مر رجل بقربها لكنها لم تنتبه إليه لشدة انهماكها بتحضير ما ستقوله للوكاس.
لكن ما إن قالت عاملة الاستقبال: ( مساء الخير سيد داريان).
حتى أيقنت بيني أنه لوكاس، إنه الرجل الذي يدير ظهره لها ويبعد عنها بضع خطوات فحسب.
- مساء الخير دومينيك، هل من رسائل لي؟
- اتصالين فقط سيدي.
وناولته المرأة ورقة صغيرة موضوعة في الخزائن الصغيرة خلفها.
ابتسم: ( شكراً).
واستدار، لحظتها وقع نظره علي بيني.
حياها متعجباً: ( بيني، ماذا تفعلين هنا بحق السماء؟).
ردت بهدوء: ( أنا أعيش هنا، أنا..).
- ماذا؟ في فندق الشيراتون في أربودا؟ ماذا تفعلين؟ تنتقلين في مختلف أنحاء الكراييب مستعملة أسماء مستعارة مختلفة؟
- لا تكن سخيفاً!
- سخيفاً!
ضاقت عيناه وأيقنت أنها قالت شيئاً خاطئاً. اقترب منها ببطء وشعرت بقلبها ينقبض مع كل خطوة يخطوها نحوها. ما من شك أنه غاضب جداً منها.... لا بل يستشيط غيظاً.
- ماذا تظنين نفسك فاعلة؟ ألديك أدنى فكرة عما شعرت به عندما قرأت الورقة بعد رحيلك؟
هزت رأسها مرغمة: ( اضطررت للرحيل يا لوكاس).
- ومن دون أن تخبريني؟
هز رأسه انزعاجاً، ثم أمسك بيدها وضغط عليها.
- حاولت إخبارك أنني مضطرة للرحيل. لكنك لم ترد الاستماع إلي.
- حسناً، سأستمع الآن...
وقادها عبر الردهة.
- إلي أين نحن ذاهبان؟
- إلي مكان منفرد تفسرين لي فيه لم فعلت ما فعلت!
توقف عند المصعد ثم ضغط علي زر من الأزرار ففتح باب المصعد. ثم مشي معها إلي داخل المصعد.
ساد الصمت فيما صعد المصعد بهدوء. ونظرت بيني إلي لوكاس، لم يسبق لها أن رأته غاضباً إلي هذا الحد.
همست وهي تنظر إلي يده التي تشد علي ذراعها:
- لوكاس هلا أفلتني!
- لا أرغب بإفلاتك، فعليك أن تفسري لي بضعة أمور.
فتح باب المصعد وقادها علي طول الرواق الطويل الفارغ.
- اسمع، أعلم أن علي أن أوضح لك الكثير من الأمور، لذا جئت، فما من داع لتجرني أمامك كسجينة.
وبالرغم من كلامها هذا لم يفلتها. راقبته يدخل البطاقة في مقبض واحد من الأبواب ويفتحه. ثم دخلا إلي شقة فخمة. رأت في الشقة سجادة ذهبية وكنبة كبيرة، كان هناك بابين من جهة، وشرفة تطل علي البحر.
قال لوكاس بعزم وهو يفلتها: ( حسناً، قلت أن لديك بعض التفسيرات، فهيا قولي...).
مررت يداً ترتجف علي شعرها الأشقر الطويل.
- لديك كل الحق بأن تغضب، أنا أعلم هذا تماماً.
- جيد.
جال بنظره عليها يتأمل حذائها العالي الكعب، وساقيها الطويلتين، وفستانها الأزرق الذي يبرز مفاتنها. تابع: ( لأنني لست غاضباً بل أنا أستشيط غيضاً. والآن أين كنت؟).
- قلت لك أنني اضطررت للعودة إلي المنزل، وأن والدي بحاجة إلي.
وتوقفت عن الكلام للحظة حتى استجمعت قواها، وأردفت:
- والدي هو ويليم كينيدي، لقد حضرت لرؤيته اليوم. أنا بيني كينيدي.
ضاقت عيناه وردد غير مصدق: ( أنت ابنة ويليم كينيدي؟).
- نعم.
وجلست علي ذراع الكنبة وتابعت: ( السبب الأساسي الذي دفعني للذهاب إلي بورتوريكو كان أن أترجاك لترحم والدي).
نظرت لترى إن كان يصدق كلامها، ولكن صعب عليها التأكد، فأكملت: ( لم أنو البقاء...أو خداعك. ولكن عندما اتهمت والدي بأنه عديم الفائدة... ولا يصلح لشيء..).
قاطعها لوكاس: ( لم أقل هذا يوماً).
نظرت إليه: ( ربما لم تقل هذا، لكن هذا ما كنت تفكر به وقد جعلني هذا أغضب كثيراً).
- أحقاً؟
- علي كل حال... عندما أخبرتني أنه يتعين عليك إيجاد صك الملكية قبل نهاية الشهر، خطر ببالي أنه إن استطعت إيجاد المستندات قبلك فستتوقف أعمال البناء، وبالتالي يمنح والدي المزيد من الوقت لتسديد دينه، ويزاح الضغط عنه.
رد ساخراً: ( إذاً كنت تحاولين حماية البيئة والتجسس لصالح والدك).
نظرت إليه مترجية:
- كفى لوكاس، امنحني فرصة. في النهاية لم أقدم علي أي شيء خاطئ، لقد كنت نعمة أكثر منه عبئاً، عليك الاعتراف بهذا.
هز لوكاس برأسه: ( أحقاً؟ أظنك كنت عبئاً كبيراً).
عضت علي شفتها: ( حسناً يؤسفني أن يكون هذا شعورك... ولكن ما كنت تفعله كان خطأ...).
- كنت وبكل بساطة أنفذ شروط وصية والدي، لقد عينني وصياً ومنفذا للوصية وكنت ألبي التزاماتي نحوه ليس إلا.
- نعم، كانت نواياك شريفة تماماً. فلم تكن ستجني مبالغ كبيرة من المال جراء بيع ملكية والدي لمتعهد البناء ذلك.
- أهذا رأيك بي؟ أن همي الوحيد هو المال؟
عبست، ثم أقرت: ( لا، هذا ليس رأيي بك).
- عليك أن تفهمي يا بيني أنني لم أتفق يوماً مع والدي. كنت أعلم أنه زير نساء... وأنه تورط بأعمال غير شريفة علي مر السنين. ولكنا سوينا خلافاتنا قبل وفاته وقد سررت بهذا. لقد اعتذر لي قبل وفاته، وأعرب عن ندمه عن بعض ما قام به، وطلب مني الاعتناء بأعماله، وأخبرني بأنه يريد ترك معظم ثروته لي. وعندما أخبرته أنني لا أريد شيئاً ولا أحتاج لشيء، قال بأنه علي أن أقبل من أجل إيزوبيل، وأنه يريد التعويض عن عدم تواجده بقربها.
تنهد وتابع: ( لقد أطعته وحاولت التقيد بالقانون. تخلصت من محاميه المحتال، ودققت في شؤونه المالية. لم أكن أعلم أن مسألة استملاك الأرض هي مسألة شخصية).
- أعلم هذا.
نظر إلي عينيها: ( كان عليك أن تخبريني).
- لم أظن أن هذا الأمر سيعود بالفائدة، كيف عساي أخبرك بأن والدك...
وتوقفت عن الكلام، صحيح أنه ينتقد والده لكن سيختلف الأمر إن انتقدته هي أيضاً. فتابعت:
- لم يكن طيباً جداً. لم أستطع القيام بهذا يا لوكاس، كما أنني انغمست في الأكاذيب وخفت من إخبارك الحقيقة.
رفع حاجبه: ( أحقاً ما تقولين؟).
حدقت إليه: ( نعم، حقاً. لم أكن أريدك أن تكرهني...).
- لقد هربت؟
- لم أهرب، كل ما في الأمر هو أنني اضطررت للمغادرة. ألا تفهم يا لوكاس؟ لقد كنت عدو والدي، وأنا كل ما يملكه في الوجود. لقد عانى الكثير حتى الآن، وهو قلق حول فقدان منزله، فكيف أخبره أنه سيخسرني أيضاً... وبأنني وقفت إلي جانب عدوه؟ ففي الحالة التي كان فيها، كان مثل هذا الخبر ليودي بحياته.
رد بهدوء: ( إنه رجل محظوظ لحصوله علي شخص يكن له كل هذا الوفاء).
همست: ( لم أشعر دائماً بأنني وفية له).
واحمرت خجلاً، والتقت عيناهما، فأشاحت بنظرها بسرعة وقالت: ( علي كل حال... آمل أن تسامحني).
لم يتفوه لوكاس بكلمة طيلة فترة طويلة، وشعرت بيني بأعصابها تنهار. وبعد طول انتظار سألها: ( هل تشربين شيئاً؟).
نظرت إليه بيني بغضب، أهذا كل ما سيقوله؟
- لا، علي الذهاب إلي المنزل.
- إذاً، هنا ديارك؟
وتراءى لبيني للحظة ذكرى العشاء في منزله علي ضوء الشموع وإيزوبيل تتذمر لرغبتها بالحصول علي رقائق البطاطا. تذكرت وقوفها في المطبخ تتأمل المطر وتسمع ضحك إيزوبيل. لقد شعرت بالانتماء إلي ذلك المنزل، وبأنها جزء من عائلة. وقد تاقت إلي هذا بقدر ما تاقت ليضمها لوكاس بين ذراعيه.
ردت بسرعة: ( نعم أحياناً. ولكنني لا أقيم هنا، فأنا مديرة منتجع سياحي متنقل علي متن سفينة).
- أنت مليئة بالمفاجئات يا آنسة كينيدي.
شعرت بيني بانقباض في معدتها. يبدو أن لوكاس لن يسامحها.
- وقد كنت مساعدة شخصية ممتازة.
عبست: ( لقد أجدت العمل كمساعدة شخصية وأنت تعرف هذا. فأنا ملمة بالكمبيوتر وأستطيع إدارة مكتب كمكتبك بسهولة).
- نعم، هذا ما قلته، كنت مساعدة شخصية ممتازة. فكيف أجدت العمل في مكتبي في حين أن هذا المجال بعيد كل البعد عن مجال عملك؟
- لقد أخذت دروساً في الإدارة منذ بضع سنوات.
تنهدت، لم تشعر برغبة في الحديث عن أمور تافهة. ولكن بعد أن ساد الصمت مجدداً وجدت نفسها تسأله عن العمل: ( هل وجدت من يحل مكاني؟).
ابتسم فجأة: ( لمَ؟ أتريدين استعادة وظيفتك؟).
- لا، كنت أتساءل فقط.
وعبست وتمنت لو لم تسأله، ثم أردفت:
- لدي عمل خاص بي، وهو يرضيني. أتعلم شيئاً؟ يمكنك أن تتصرف أحياناً بكثير من العجرفة.
- إن كنت تصرين علي المعرفة، فقد اشتقت إليك بجنون.
نظرت إليه، وراح قلبها يخفق بسرعة وتساءلت إن كان يتحدث عن اشتياقه لها علي الصعيد العملي أو الشخصي. وقالت بعد جهد بسخرية:
- بالرغم من قولك منذ بعض الوقت إنني كنت عبئاً عليك وأسأت إليك كثيراً.
- هذا صحيح، كنت مصدراً للإلهاء.
تسارعت دقات قلبها وهو يقترب منها.
- وأنت مصدر إلهاء الآن. أحياناً أعجز عن التفكير باتزان حين أنظر إليك... أتعلمين هذا؟
نظرت إليه دون أن تفقه تماماً معنى حديثه.
- أتعلمين؟ هذا تماماً ما أقصده. تنظرين إلي بتلك العينين الخلابتين، فتبدأ الأفكار بالتشتت في رأسي... وقد حصل هذا معي في أول يوم دخلت فيه المكتب. عرفت أن علي أن أطرح عليك المزيد من الأسئلة خصوصاً وأن سيرتك الذاتية لم تكن صحيحة. ولكن كل ما كنت أفكر فيه هو... أريد أن تبقي هذه المرأة معي.
قفز قلب بيني من مكانه. وتابع، وعيناه مسمرتان عليها:
- لم يراودني هذا الشعور منذ وقت طويل.
- أخذت نفساً عميقاً: ( أحقاً؟ إن كنت تريد الحقيقة، حصل معي شيء أيضاً ذلك اليوم... فعندما دخلت ونظرت إلي كدت أن أنسي لم حضرت إلي مكتبك. وأظن بأن هذا أحد الأسباب التي دفعتني للانغماس في الكذبة).
- وبعدها تركتني بكل بساطة. ألديك أدنى فكرة عما شعرت به؟
فتحت فمها لتجيب ولكنها وجدت نفسها بين ذراعيه يعانقها بشغف. اقتربت منه وقد شعرت بمدى توقها إليه.
- لم أرد الذهاب لوكاس... صدقني لم أرد ذلك.
قالت هذا بأنفاس متقطعة وقالت:
- أنا آسفة... آسفة جداً.
ومررت أصابعها في شعره الأسود، وقد سُرت لوجودها قربه، قادرة علي لمسه... وحبه.
همس: ( لا، أنا آسف لأنني تركتك تهربين مني بسهولة. أفهم الآن بأن علي التوصل إلي حل جذري لهذه المسألة...).
ابتعدت عنه، وقد قطبت جبينها، فتابع:
- وأري أيضاً أن علي وضع حد لتغييرك الدائم لأسمك.
- لن أغير أسمي مجدداً يا لوكاس، اسمي بيني كينيدي. ظننت أننا أوضحنا هذه المسألة بشكل نهائي.
- لقد فعلنا.
قبل أنفها وزال العبوس عن وجهها، فقال:
- كل ما في الأمر هو أنه علينا تغييره هذه المرة بشكل دائم.
ابتعدت عنه: ( لوكاس، ما الذي تحاول قوله؟).
قال برقة: ( أقول بأنه علينا تغيير أسمك إلي السيدة بيني زوجة لوكاس داريان. بيني أريدك أن تتزوجيني... فأضمن أنك ستبقين قربي صباحاً ومساءً طيلة أيام حياتي).
دهشت إلي حد أنها عجزت عن الكلام. لاحظ شحوب وجهها.
- بيني؟
- لِمَ تطلب مني هذا؟
أجابها بصدق: ( لأنني مغرم بك ولا أريد أن أخسرك مجدداً).
سُرت لا بل طارت من الفرح لسماعها كلماته. حدقت إليه لبضع ثوان، ثم قال وقد أغرورقت عيناها بالدموع:
- ظننت... أعني أنا أتساءل إن كنت ترى إيما مجدداً..
- ولم تظنين هذا؟
تنهدت: ( لأنك أرسلت لها الأزهار... ولأن ماريا قالت لي بأنك أصبحت سعيداً منذ أن بدأت تخرج برفقتها).
- لم تكن إيما سوى صديقة. لقد أرادت مني أكثر مما استطعت تقديمه لها. لقد أرسلت لها الأزهار بدافع الصداقة بمناسبة عيد مولدها، وقد أوضحت لها غياب أي دافع آخر.
قال هذه الكلمات ثم قربها منه، وتابع:
- إنها إنسانة ممتازة، ولكنها غير مناسبة لي. في الواقع كنت قد فقدت الأمل في إيجاد الشخص الملائم لي إلي أن... دخلت مكتبي.
انهمرت دمعة علي خدها. فخلال الأسابيع التي ابتعدت فيها عنه، حلمت بهذه اللحظة، ولكنها لم تجرؤ يوماً علي الاعتقاد أنها ستحدث.
- اسمعي أعلم بأن وظيفتك رائعة.. وبأنك تحبين حريتك... ولكن أن وافقت علي الزواج بي... فسأفعل كل ما بوسعي لأسعدك. فلو لم أكن متيماً بحبك... لما طلبت يدك للزواج.
- آه لوكاس، أنا متيمة بحبك أيضاً. أعشقك. أظنني أغرمت بك منذ أن وقع نظري عليك.
رأت بريق السعادة في عينيه وهي تقول هذه الكلمات.
همست وقد ابتعد عنها قليلاً لينظر إليها: ( لا أصدق بأن هذا يحصل).
- ولا أنا، انتظري حتى تسمع إيزوبيل بالخبر، ستطير من الفرح.
سرى الدفء في عروقها لسماعها هذه الكلمات. قالت:
- لقد اشتقت كثيراً لإيزوبيل... كيف حالها؟
- إنها بخير، تقضي بعض الوقت مع جدتها، ولكن علي العودة غداً.
وتوقف للحظة عن الكلام ونظر إليها ثم تابع: ( ستأتين معي أليس كذلك؟).
أومأت، ثم همست بلطف: ( حاول أن تمنعني. فكما قالت شونا يوماً، حين تتعرف المرأة إلي الرجل المناسب لها والذي ترغب بقضاء بقية عمرها معه، فهي تريد أن يبدأ بقية عمرها فوراً...).
* * *



تــــــمـــــــت

العبير 26-12-09 12:50 AM

واااااااااااااااااااااااااااو
باين
من الملخص انها روايه خطيره
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

اسماء88 27-12-09 04:01 PM

جزاك الله الف خير

Rehana 27-12-09 08:32 PM

يعطيك العافية ..زونار

jooody 28-12-09 04:02 AM

جزاك الله الف خير
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

sassou 29-12-09 05:49 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرواية روووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووعة
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

الجبل الاخضر 30-12-09 08:41 AM

تسلم رووووووووووعه

safsaf313 30-12-09 10:17 PM

ثانكس زونار مجهود مميز

moura_baby 16-01-10 07:20 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

الجيتار 17-01-10 09:18 PM

http://abeermahmoud.jeeran.com/page%205/378-Thanks.gif

rora142004 21-01-10 05:41 PM

الف شكر على مجهودك الكبير معانا فى كتابه القصه

انا بحبها جدا و اتبسط لما قرتها تانى تسلم ايدك

قماري طيبة 04-03-10 05:38 PM

بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه... موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

sweetnada 22-04-10 11:17 PM

شكرا روايه تحفه
:)

sweetnada 22-04-10 11:20 PM

http://i195.photobucket.com/albums/z...11/Romance.jpg

eanas 11-05-10 12:27 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

جاسم المهاجر 11-05-10 02:24 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

rana_rana 18-07-10 07:54 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

حجر فيروزي 31-07-10 03:01 PM

تسلمي الرواية روووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووعة:55:

asmaa_amr 02-08-10 10:14 PM

شكرا ويعطيك العافية

شاهد 10-12-10 10:47 PM

روووووووووووووووووووعة

نجمة33 18-12-10 05:49 PM

جزاك الله الف خير
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

طائر عاصي 17-02-11 12:42 AM

الرواية تحفة :rdd12zp1::congrats::0041:

طيف السما 19-02-11 02:46 AM

شكراااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا على الروايه الرائعه :8_4_134:

سومه كاتمة الاسرار 20-02-11 01:20 AM

مشكوووووووووووره على الروايه ياقمر
:8_4_134::flowers2::flowers2::flowers2:

عصافير الجنة 20-11-11 12:46 AM

:rdd12zp1::rdd12zp1::rdd12zp1::rdd12zp1::rdd12zp1:

أميرةالاحساس 21-11-11 11:18 AM

شكرا على الرواية

امبراطورية ع 21-11-11 10:12 PM

روووووووووعه الروايه زونار
تسلم اخى

hamesha 24-11-11 02:16 AM

mmmmm rewayaaa raw3aaaaaaa ^^ chokrann lakiiii

نونا المجنونه 25-11-11 03:15 AM

:55:
:55::55:
:55::55::55:

ندى ندى 07-01-12 05:35 PM

روووووووووووووووووووووووعه

ملك فارس 15-05-12 04:40 AM

بصراحه روايه جامده جدا ومميزه زونار ومشكوره على روايتك يا عثل ويا ثكر

شووقهـ 18-09-13 12:56 AM

رد: 357- كاذبة ولكن - كاثرين روس ( كاملة)
 
راااااااااااااائعة وجمييييييييييييلة جداااا

نور الصباح المشرق 17-02-15 02:09 PM

رد: 357 - كاذبة ولكن - كاثرين روس ( كاملة )
 
يعطيك الف عافيه رواية روعه

فرحــــــــــة 28-08-16 08:59 PM

رد: 357 - كاذبة ولكن - كاثرين روس ( كاملة )
 
غاليتى
زونار
قصة جميلة رائعة
لك منى كل الشكر والتقدير
على الانتقاء الممتع
وننتظر جديدك القادم
دمتى بكل الخير
فيض ودى

fadi azar 07-08-21 11:42 PM

رد: 357 - كاذبة ولكن - كاثرين روس ( كاملة )
 
مشكورة على الرواية الرائعة


الساعة الآن 07:26 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية