منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات أونلاين و مقالات الكتاب (https://www.liilas.com/vb3/f743/)
-   -   جريمة رقمية للدكتور نبيل فاروق كاملة (https://www.liilas.com/vb3/t120751.html)

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:12 AM

جريمة رقمية للدكتور نبيل فاروق كاملة
 
ومع الجديد دوما والحصرى فقط على ليلاس
الرواية البوليسية المثيرة جريمة رقمية
للدكتور نبيل فاروق

الفصل الاول : الزائر
بدأ ذلك الصباح عادياً كأي صباح ...
استيقظت تعباً مجهداً كالمعتاد، وكأنني كنت أعدو طوال الليل، وبذلت جهداً خرافياً كالمعتاد أيضاً، حتى أنتزع نفسي من فراشي، وأدس قدمي المكدودتين في ذلك الشبشب القديم، الذي أنوي تغييره منذ فترة طويلة للغاية، ولا أضع هذا القرار أبداً موضع التنفيذ، ورحت أزحف معه وبه، حتى وصلت إلى حمام شقتي الصغيرة وأنا ألهث، على الرغم من أن مساحتها كلها لا تزيد عن مساحة صالة الانتظار، في شقة الأستاذ (حازم).
وفي تكاسل -هو سمة من سمات شخصيتي- رحت أحلق لحيتي، التي يصرّ الأستاذ (حازم) على أن يراها ناعمة كل صباح، وكأننا جنود في ثكنة عسكرية، ثم وضعت جسدي بالكاد في ملابسي التي يفترض أن تبدو أنيقة، بما يتناسب مع مكانة المكتب، ثم دفعت نفسي دفعاً إلى الخارج، لأبدأ يومي المعتاد الممل..
والطريق من حيث أقيم إلى المكتب، يستغرق ساعة من السير على الأقدام، ولكن بالنسبة لشخص نحيل مثلي يعاني من حساسية صدرية (منذ كان في الخامسة من عمره) هو أشبه بحكم إعدام، مع سبق الإصرار والترصّد، فأنا أستقل ذلك الشيء المتهالك، الذي يقوده شخص هستيري، نصف مختل، وحتماً مسجل خطر، والمعروف باسم (الميكروباص)، وأظل أدعو الله سبحانه وتعالى طول الوقت، أن أصل بأمان..
وأخيراً، وبعد حرب أعصاب، تستغرق عشرين دقيقة؛ نظراً للزحام المروري المعتاد، أصل إلى المكتب..
ويبدأ العذاب اليومي..
الأستاذ (حازم) يصرخ ويأمر طوال الوقت..
والآنسة (حنان) باردة كالثلج، وطلباتها لا تنتهي أبداً..
و(حسن) عامل البوفيه لا يتوقف عن الحديث لحظة واحدة..
و(حلمي) زميلي الوحيد بالمكتب يتصرّف طوال الوقت وكأنه (شيرلوك هولمز) في زمانه..
كلهم يبدءون بحرف الحاء كما ترون..
فيما عداي أنا..
آه.. معذرة.. كنت أتحدَّث طوال الوقت مثل (حسن)، ونسيت تقديم نفسي لكم، كما تحتم أصول اللياقة..
الواقع أنني أزيد عن كل من في المكتب..
أزيد عنهم بنقطة..
كلهم يبدءون بحرف الحاء، وأنا وحدي، أبدأ بحرف الخاء..
اسمي هو (خالد)..
(خالد خيري)، أو(خ خ).. كما أحب أن أسمي نفسي، وكما أحب وأتمنى أن يناديني الآخرون.. وكلهم ينادونني به أحياناً.. من باب السخرية فقط..
(حلمي) يقولها باعتبار أنها اختصار (خالد خايب)، وحنان تقولها (خايب خيابة)، و(حسن) -عامل البوفيه- يسألني دوماً إذا ما كنت أرغب في شرب (خروب خشن)، وهو يبتسم في خبث سخيف..
أما الأستاذ (حازم) نفسه، فيستخدم مصطلحاً، أكره حتى أن أكتبه، لما له من صلة بالفضلات الإنسانية، و...
إحم.. المهم أن اسمي الرسمي هو (خالد خيري)، وهذا يكفي..
وأنا أعمل منذ سنوات في مكتب الأستاذ (حازم)، المحامي الجنائي المعروف، والذي لم يخسر في حياته كلها سوى ثلاث قضايا، كنت أنا المسئول عن واحدة منها للأسف.. وأنا في الواقع لست محامياً لدى الأستاذ (حازم)، ولكنني مساعدة..
وكيل محامي لو شئنا استخدام المسميات الشعبية المعتادة..
ولكن دعونا من كل هذا، ولنعد إلى ذلك اليوم، الذي بدأت فيه هذه القصة..
كان كما أخبرتكم يوماً عادياً ككل يوم، ولكنني عندما وصلت إلى مكتبي، كانت هناك مفاجأة في انتظاري..
فعلى سطح المكتب، وسط الملفات العديدة، كانت هناك علبة مكعبة، وردية اللون، كتب عليها بحروف كبيرة أنيقة، ذلك اللقب الخاص بي..
حرفي خاء منفصلين..
وتوقفت أحدّق في العلبة، وأنا أدرك أنها مزحة من أحد العاملين في المكتب..
وبالأخص لأنهم جميعاً تظاهروا بأنهم حتى لم يلحظوا وصولي إلى المكتب..
(حنان) كانت تبدو منشغلة بجهاز الكمبيوتر أمامها، على الرغم من أن العمل لم يبدأ بعد..
و(حلمي) يتظاهر بالانشغال في مراجعة بعض الملفات القديمة..
و(حسن) في المطبخ، الذي تفوح منه رائحة الخروب المغلي..
ولكن أحدهم حتماً أحضر تلك العلبة..
والسؤال هو مَن منهم؟!..
مَن؟!..
***
على الرغم من أنني لست ممن يتميزون بالجرأة في المعتاد، فقد حسمت أمري في سرعة لم أعتدها في تعاملاتي، واتجهت نحو الآنسة (حنان)، وقلت، محاولاً التظاهر بالثقة:
- أعجبتني هديتك.
التفت إليّ، وبراءة الأطفال في عينيها، متسائلة:
- أية هدية؟! ملت نحوها، قائلاً بابتسامة، أظنها تشبه ابتسامه (أحمد عز)، في أفلامه:
- العلبة الوردية.. في سواك يختار اللون الوردي والحرفين الكبيرين لهديته؟!.. (حلمي) سيختار حتماً شيئاً أكثر تعقيداً من مجرد علبة مكعبة، و(حسن) لن يختار اللون الوردي حتماً؛ لأن هذا لا يتناسب مع ثقافته، فمن تبقى؟! أجابتني في سرعة: مرة أخرى، حاولت أن أبتسم ابتسامة (أحمد عز)، وأنا أنظر في عينيها مباشرة، على الرغم من أن ني لا أشبه (أحمد عز) على الإطلاق، وعلى الرغم من أنها لن ترى مني شيئاً، عبر عدسات منظاري السميكة..
ولكن المدهش أن هذا قد أفلح..
لقد أطلقت الآنسة (حنان) ضحكة، عجزت عن كتمانها طويلاً، وهي تقول.
هل أعجبتك حقاً، أم..؟!
سألتها، في أسلوب لا يُشبه أسلوب (عز) حتماً:
- ما رأيك أنتِ؟!
ضحكت مرة أخرى، وهي تجيب:
- أم..
لم ترق لي إجابتها
ولا حتى ضحكتها..
ولكن مَن أنا لأفصح عن مشاعري وضيقي، خاصة وأنني قد ورطت نفسي في تلك الهدية الإجبارية والاستفزازية، فبعد أن شكرت الآنسة (حنان)، لم يكن من التهذيب أن أتخلّص منها، ولا مناص من رؤيتي لها على سطح مكتبي طوال الوقت..

كل ما استطعت فعله هو أن أتحاشى النظر إليهم، وأدفن وجهي في كومة الملفات أمامي، وألعن تلك الهدية المستفزة في كل لحظة، وأضع الخطط للتخلص منها بأية وسيلة..
المشكلة أنها مصنوعة من البلاستيك اللين، الذي يصعب كسره..
ولكن ماذا لو سقطت سهواً في سلة المهملات، قبل أن يفرغ (حسن) محتوياتها بلحظات؟!
لابد في هذه الحالة أن أكتسب موهبة (خالد صالح) في التمثيل، وأتظاهر بالارتياع لفقدان الهدية!..
ولكن دعونا من كل هذا، ولندخل في صلب القصة..
لقد باءت كل محاولاتي لتحاشي النظر إلى الزملاء بالفشل، وخاصة عندما وصل الأستاذ (حازم)، وبدأ عملية الصراخ والمطالب، مما جعلنا نعدو طوال الوقت لتلبية مطالبه، ونحن لا ندري حتى لماذا هو غاضب ويصرخ باستمرار!!
وفجأة، وبينما ننهمك في العمل، اندفع إلى المكتب رجل أنيق..
لم يكن من زبائن المكتب المعتادين، ولكن كل لمحة منه كانت تؤكد أنه أحد ذوي الشأن..
كان يرتدي حلة رمادية بالغة الأناقة، ومن الواضح أنه لم يشترها من العتبة، التي اشتريت منها حلتي السوداء اليتيمة، فقماشها من النوع السميك اللافت للنظر، وأناقتها وفخامتها واضحين، على الرغم من أن أحد أزرار كمها الأيسر مفقود، وفي خنصر يده اليسرى خاتم ذهبي، به فص أسود، وقميصه يلمع تحت ضوء المكتب، ومن جيب سترته يطل منديل قرمزي حريري، أكمل أناقة زيه..
أما حذاءه فقد جعلني أكره ذلك الحذاء الذي أرتديه، والذي اشتريته من العتبة أيضاً..
المهم أننا في نفس اللحظة، التي التفتنا إليه فيها، كان يهتف في توتر بالغ الشدة:
الأستاذ (حازم).. أريد مقابلة الأستاذ (حازم) فوراً.. أين هو؟!
أسرعت إليه محاولاً تهدئته، وأنا أقول:
الأستاذ (حازم) هنا، ولكن أخبرني لماذا تريده، حتى أ...
قبل أن أتم عبارتي، صرخ في وجهي:
لا.. لن أخبر أحداً.. أريد مقابلة الأستاذ (حازم) الآن.. أريد مقابلته شخصياً.
التف الجميع حولنا صامتين، وأنا أحاول تهدئته..
(حلمي).. و(حسن).. والآنسة (حنان).. ولكنه صرخ بمنتهى العصبية:
لماذا لا يقابلني الأستاذ (حازم) بنفسه؟.. سأدفع له كل ما يطلبه.. أين هو؟!
قبل أن أجيبه هذه المرة، فتح الأستاذ (حازم) باب مكتبه، وأطلّ منه بكرشه الضخم، الذي يجعلني دوماً أتذكر معدتي، التي تلتصق بعمودي الفقري من شدة نحولي، كما يتندرون، وصرخ كالمعتاد.
- ماذا هناك؟!.. مَن يصرخ؟!
كدت أخبره أنه الوحيد الذي يصرخ طوال الوقت، ولكن ذلك الزائر سبقني، وهو يندفع نحوه، ويتشبّث به، هاتفاً:
أستاذ.. أنقذني يا أستاذ.. أنقذني.
وهنا حدث أمر عجيب..
عجيب جداً..
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:14 AM

الفصل التانى : الجريمة

على الرغم من أن الأستاذ دائم الصراخ، إلا أنه ما أن يرى زبوناً تفوح منه رائحة الثراء، حتى يتحوّل فجأة إلى حمل وديع، وتعلو شفتيه ابتسامة لا نراها في غير تلك المناسبات أبداً، لذا فقد استقبل زائره الثري الملهوف في وداعة، وهو يقول:
اهدأ يا أستاذ.. اهدأ.. كل مشكلة لها حل.. كل مشكلة.

أجابه الرجل في عصبية شديدة:
أنا (منير).. (منير صفوان).. صاحب مصانع (صفوان) للملابس.

شهقت الآنسة (حنان) مبهورة، ومط (حلمي) شفتيه، وكأنه قد فهم ما يحدث في حين مال عليه (حسن)، يسأله عما يعنيه هذا.. أما أنا فقد أدركت عظمتها فقط، لماذا بدا لي وجه الرجل مألوفاً منذ البداية!..

إنه (منير صفوان)، صاحب مصنع الملابس الشهير، وصاحب أكبر وأشهر فضيحة لهذا العام.

لقد لقِيَت سكرتيرته السابقة مصرعها في حادث سيارة، بعد إشاعتها وجود علاقة بينها، واتخذته الصحف عندئذ مادة دسمة للتوزيع، حتى إن الشرطة نفسها قد أجرت تحقيقاً معه، ثبت خلاله تواجده بعيداً عن مسرح الجريمة عند حدوثها (هذا لو أنها جريمة، وليست حادثة)..

المهم أنه قد تجاوز الاتهام، وإن لم ينجح في فضيحة علاقته بسكرتيرته، ولكن مثله سرعان ما يتجاوزون هذا..
وسرعان ما يتورّطون أيضاً في فضيحة جديدة..

المهم أن الأستاذ (حازم) قد اصطحبه إلى مكتبه، وهو يردد عبارته السابقة أنه لكل شيء حل، ولكن قبل أن يدخل مكتبه التفت إلينا، وقال في صرامة متجهمة:
- تعال..
لم نفهم ساعتها مَن مِنا المقصود بالطلب؟!..
مَن؟!..

وهل يمكنكم أن تتصوّروا أن الأستاذ (حازم) كان يقصدني أنا بندائه هذا؟!..
كيف لم أدرك هذا في اللحظة الأولى؟!..
كيف؟!..
لو أنه أراد الآنسة (حنان)، لتحدَّث بلهجة أقل صرامة، أو لما تجهم على الأقل، ولو أنه أراد (حسن) لطلبها بلهجة آمرة.
وهو بالطبع لن يدعو (حلمي هولمز) إلى مكتبه، في وجود زبون..
إنه سيختار حتماً أقل الموجودين بالمكتب شأناً؛ فقط لتدوين ما سيقوله الزبون.
سيختارني أنا..
ولأنني أخشاه طوال الوقت، فقد لبيت النداء في سرعة، وربما دخلت إلى المكتب قبل حتى أن يدخله هو..
أو ربما بعده..
لست أذكر بالضبط..
المهم أن حجرته بعد أن أغلقنا بابها، أصبحت تضم ثلاثة فحسب.. هو.. والزبون.. وأنا..
وفي نفس اللحظة، التي أغلقنا فيها المكتب، تشبّث الأستاذ (منير) بالأستاذ (حازم) هاتفاً:
سأدفع لك كل ما تطلبه، لو أخرجتني من هذه الورطة.
جلس الأستاذ (حازم) بكرشه الضخم خلف مكتبه، وقال بفخامة كعادته:
لابد لي مِن معرفة الورطة أولاً.
التقط الأستاذ (منير) لعابه في صعوبة، على نحو يُوحي بتلك الصحراء القاحلة في حلقه، قبل أن يقول:
إنهم يتهموني بقتله.
انتبهت حواسي كلها للعبارة، واعتدل الأستاذ (حازم) على مقعده، وهو يسأله في اهتمام مشوب بالتوتر:
قتل مَن؟!
كان الأستاذ (منير) يلهث، كما لو أنه قد قطع نصف العالم جرياً، وهو يقول:
شقيق تلك السكرتيرة.. لقد عثروا عليه مقتولاً في شقته، أمام جهاز الكمبيوتر ووجدوا إلى جواره أحد أزرار سترتي، وفي مكتبه رسالة أرسلتها إليه في ساعة غضب، أطلب منه فيها أن يتركني وشأني، وإلا فهو الجاني على نفسه.
وبلا وعي، وجدت نفسي أنقل بصري، من وجه الأستاذ (منير) الشاحب، إلى زر كم سترته الناقص، وودت لو أقول شيئاً، ولكن الأستاذ (حازم) سبقني وهو يسأله في اهتمام:
هل يمكنك أن تروي لي الأمور من البداية؟!.. مَن هي تلك السكرتيرة؟!.. وما الذي لم يتركك شقيقها فيه وشأنك؟! باختصار أريد أن أعرف القصة منذ بدايتها..
التقط الأستاذ (منير) نفساً عميقاً، وبدأ يروي..
وبمنتهى الاهتمام، استمعت إليه صامتاً..
كانت قصة نمطية، أشبه بالأفلام العربية القديمة، الأبيض والأسود، حتى إنني تخيّلت الأستاذ (منير) أشبه بالراحل (زكي رستم) وهو يرويها..
القتيل هو شقيق تلك السكرتيرة، التي ألقت مصرعها قديماً، في ذلك الحادث الغامض، ومنذ حدوثه، وهو كباقي المجتمع، يتهم الأستاذ (منير) بقتلها، وتلفيق الحادث، ومثل باقي المجتمع أيضاً لا يثق بتبرئة الشرطة له، ويصرّ على أنهم عجزوا عن إثبات التهمة عليه فحسب..
ومنذ ذلك الحين، والشقيق (صفوت)، يُطارد الأستاذ (منير) في كل مكان..
وكل زمان..
في مكتبه..
وبيته..
وناديه..
باختصار، لقد أحال حياته إلى جحيم، وجعله يكره استيقاظه كل صباح..
عجباً!!..
هناك تشابه إذن، بين حياة الأثرياء وحياة الفقراء، مع اختلاف الدافع..
المهم.. لقد استمر (صفوت) في مطاردته للأستاذ (منير)، حتى أرسل إليه الأخير تلك الرسالة، التي وجدوها في درج مكتبه بعد مقتله..
وكان من الطبيعي أن يُصبح الأستاذ (منير) هو المشتبه فيه رقم واحد، ولكن من الواضح أنهم لم يلقوا القبض عليه بعد؛ لأنه يجلس هنا..
يا للذكاء!..
"قل لي يا أستاذ (منير).. أين كنت ساعة ارتكاب الجريمة؟!"
ألقى الأستاذ (حازم) هذا السؤال في اهتمام، فبدت حيرة متوترة على وجه الرجل، وقلّب كفيه قائلاً:
وما أدراني ما هي ساعة الجريمة!.. أخبروني فحسب أنه قُتل، وأنني المشتبه فيه رقم واحد.
"مَن أبلغك بالضبط؟!"..
كنت أنا من اندفع ملقياً السؤال هذه المرة، فأدار الأستاذ (حازم) عينيه إليّ في غضب، وبدا لحظة وكأنه سينفجر في وجهي، حتى أنني انكمشت في مكاني، وتراجعت ملتصقاً بالجدار، ولكن من الواضح أن الأستاذ (منير) لم ينتهِ إلى هذا، فقد التفت إليّ، قائلاً بنفس توتره:
لست أدري.. لقد كان.. كان..
وصمت لحظة، قبل أن يُضيف مرتجفاً:
- كان مخيفاً.
تنحنح الأستاذ (حازم)، قبل أن يسأله في خشونة، كنت المقصود بها:
- رجل أم امرأة؟!.
بدا الأستاذ (منير) حائراً، وهو يُجيب:
ليس رجلاً.
قال الأستاذ (حازم)، بلهجة توحي بالاستيعاب:
هي امرأة إذن.
أدار (منير) عينيه إليه في سرعة، قائلاً:
وليس امرأة.
وهنا اتسعت عينا الأستاذ في شدة ودهشة، وهو يقول مستعيداً صراخه المعتاد:
ليس رجلاً وليس امرأة؟!.. ماذا يكون إذن؟!
وقفز السؤال نفسه إلى ذهني..
نعم.. ماذا يكون؟!..
ماذا؟!..
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:15 AM

الفصل الثالث : مسألة رقمية

على الرغم من أن كل هذا الجيل يعشق الكمبيوتر، ويعشق إلى حد الجنون التعامل معه، وعلى الرغم من أنني المسئول الرئيسي عن تحويل كتابات الأستاذ حازم -بذلك الخط الشهير، الشبيه بنبش الدجاج- إلى شاشة الكمبيوتر، فإنني أعترف أنني -وحتى هذه اللحظة- تور الله في برسيمه، في هذا الشأن..

كل ما أعرفه عن الكمبيوتر، هو أن أضغط زر تشغيله فور وصولي إلى مكتبي..
ثم أفتح برنامج (الأوفيس)..
وبعدها أبدأ عملية الترجمة..
ترجمة المذكرات من نبش الدجاج، إلى اللغة العربية..

ولا يمكنكم أن تتصوّروا مدى العذاب الذي ألاقيه، في هذا الشأن..
ولا مدى الغضب الذي يواجهني به الأستاذ حازم، إذا ما نسيت حرفاً، أو إذا أخطأت في ترجمة كلمة، يستحيل حتى على خبراء الآثار قراءتها، إلى العربية..

المهم أنه -وعلى الرغم من ضعفي الشديد في الكمبيوتر- كنت قد سمعت منذ أيام (حلمي هولمز) وهو يتحدّث مع الآنسة (حنان) عن أجهزة رقمية حديثة، يُطلق عليها اسم مغيّرات الأصوات، يمكنها تشويه الصوت البشري، أو تحويله إلى أية طبقة مخالفة.
إلى صوت امرأة..
أو طفل..
أو شيخ طاعن في السن..
بل لقد أكّد (حلمي) أن باستطاعة الأجهزة الغالية منها، أن تُحاكي صوت أي إنسان تشاء..

من الواضح أنني بعيد تماماً عن عالم الكمبيوتر..
أو ربما عن القرن الحادي والعشرين كله..
أو..
"مغير أصوات"..
تساءلت لحظة، من نطق هذه العبارة، ولكنني وجدت الأستاذ (حازم) يلتفت إليّ، قائلاً:
أهذا ممكن؟!

عندئذ فقط، أدركت من نطق العبارة..
لقد كان أنا..
حماسه الداخلي جعله يفلت مني، دون أن أدري..

ومع سؤال الأستاذ (حازم)، ارتبكت، ووقفت لحظة أحدّق فيه كالأبله، مما رسم الغضب المعتاد على وجهه..
أما الأستاذ (منير) فقد أتى رد فعله مختلفاً تماماً..
لقد التفت إليّ في لهفة..
لهفة غريق، وجد قشة أكثر نحولاً مني؛ ليتعلّق بها..
وهنا، لم يعد هناك بد من الإجابة..

وقبل أن ينتقل الأستاذ (حازم) إلى حالة الصراخ، اندفعت أخبرهما بكل ما سمعته من (حلمي)، عن مغيرات الأصوات، التي علمت فيما بعد أن اسمها بالإنجليزية هو (voice changers)..
والحقيقة أنهما استمعا إليّ في اهتمام شديد..
اهتمام، ربما يكون أكثر بكثير من فهمي للأمر..
وعندما انتهيت، قال الأستاذ (حازم) في جدية:
- إذن فهناك من استخدم مغيّر صوتي رقمي؛ لكي يبلغك بالجريمة..
بدا الأستاذ (منير) حائراً، وهو يقول:
ولكن لماذا؟!
كان المفترض أن ألمّ لساني داخل حلقي، أو أبتلعه وأصمت تماماً، ولكن عقلي المريض جعلني أندفع، قائلاً:
لأنه شخص يمكنك تمييز صوته.

رمقني الأستاذ (حازم) بنظرة نارية، كادت تشعل حُلّتي الوحيدة المسكينة، التي لو احترقت لاحتجت إلى عام ونصف، ببدل الجوع، الذي نتقاضاه من المكتب؛ حتى يمكنني شراء حُلة أقل جودة منها..
ولكن الأستاذ (منير) بدا شديد الاهتمام، وهو يقول:
فكرة معقولة جداً..
اختفت نظرة الأستاذ (حازم) فجأة، وقال في حسم، مع شيء من التباهي:
كل موظف في مكتبي يجد أفكاراً معقولة.
ثم لوّح بيده، في حركة مسرحية، مكملاً:
إنني ألهمهم.
نطقها بنرجسيته المعتادة، ولكن الأستاذ (منير) لم ينتبه إليها، وربما لم يسمعه من الأساس، وهو يقول:
ولكن لماذا؟!
دا لي أنه يكرّر سؤاله السابق، فقلت:
أخبرتك أنه حتماً شخص..
قاطعني في توتر:
لماذا أخبرني بوقوع الجريمة أصلاً؟!

بدا لي سؤاله منطقياً للغاية..
وبدا لي أنه لا جواب منطقي له..
قبل أن أندفع لألقي سؤالاً جديداً، بنفس أسلوبي الغشيم، قال الأستاذ (حازم) في صرامة، ليس لها في المعتاد ما يبررها أبداً:
ماذا فعلت بعد أن وصلك الخبر يا أستاذ (منير)؟
شحب وجه الأستاذ (منير)، وارتبك، وهو يقول:
شككت في الأمر.

كررّ الأستاذ (حازم)، في لهجة أكثر صرامة:
وماذا فعلت؟!
ازداد ارتباك الأستاذ (منير)، وهو يقول في خفوت، وكأنه يخشى ما سينطق به:
كان لابد وأن أتأكّد!
قال الأستاذ (حازم):
وذهبت إلى مسرح الجريمة..
أعجبني المصطلح، وربما لأنني من هواة التمثيل والمسرح والسينما، وتخيّلت الأستاذ (حازم) على خشبة مسرح، يُؤدي دور (عبد الفتاح القصري) وأمامه (محمود المليجي) في دور الأستاذ (منير)، الذي بدا وكأن
سينكمش في مقعده، وهو يغمغم في اضطراب:
كان لابد وأن أتأكّد.
مطّ الأستاذ (حازم) شفتيه، فبدا أشبه بـ(علاء ولي الدين) رحمه الله، في فيلم (الناظر)، وهو يقول:
خطأ..
اندفع الأستاذ (منير)، وهو يقول في توتر شديد:
ولكنه كان قتيلاً، عندما ذهبت إلى هناك.
مطّ الأستاذ (حازم) شفتيه مرة أخرى، وقال في صرامة، وكأنه يُؤنب طفلاً في العاشرة، ارتكب شقاوة كبيرة:
ولكنك تركت آثارك في مسرح الجريمة.
هتف الأستاذ (منير)، كتلميذ يُدافع عن نفسه:
لم ألمس شيئاً.. لقد وجدته صريعاً، فهربت من المكان فوراً.
سألته أنا بنفس الاندفاع الطائش، الذي سيكون وثيقة فصلي من المكتب ذات يوم:
وماذا عن زر سترتك؟!
هتف، في لهجة أقرب إلى البكاء:
- لم أرَه هناك.. ولم أفقده هناك أيضاً.. هناك من دسّه في مسرح الجريمة حتماً..
غمغم الأستاذ (حازم)، وكأنه يفكّر في عمق:
- نفس الشخص، الذي استخدم مغيّر الصوت الرقمي، ليخبرك بالجريمة.
ثم ضرب سطح مكتبه بقبضته، هاتفاً:
- القاتل الحقيقي.

بدا لي هذا أشبه بمشهد من فيلم بوليسي قديم، والفنان الراحل (سراج منير) يلعب دور المحامي، وابتسمت دون أن أدري، ثم أفقت من ابتسامتي على نظرة قاتلة من الأستاذ (حازم)، فتنحنحت في ارتباك، وقلت أيضاً بذلك الاندفاع العبيط:
وهل رآك أحدهم، وأنت تفرّ من مسرح الجريمة؟
شحب وجه الأستاذ (منير) في شدة، وانكمش أكثر وأكثر في مقعده، وهو يُجيب بهمهمة غير مفهومة، فمال الأستاذ (حازم) نحوه متسائلاً:
عفواً؟!
ارتفع صوت الأستاذ (منير) قليلاً، وهو يغمغم في توتر:
البوّاب.

وتراجع الأستاذ (حازم) في حركة حادة، في حين اتسعت عيناي أنا حتماً..
فبالنسبة لما سمعته يبدو أن هذه ستكون القضية الرابعة، التي سيخسرها المكتب..
حتماً...
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:17 AM

الحلقة الرابعة أهناك امل ...؟

لم يكن من السهل عليّ أبداً، في أية مرحلة من عمري،أن أعرف ما يفكّر فيه الآخرون وبالذات الأستاذ (حازم)، الذي كلما تحدّث أحدهم عن عقلي، وصفني ساخراً بأنني أمتلك مخ البازلاء.....

وهذا المصطلح يدهشني دوماً، لأنني كنت أقرأه من لسان عم (دهب)، وهو يصف به (بطوط) على صفحات مجلة (ميكي)، التي أداوم على قراءتها بانتظام، وتستنزف جزءاً من دخلي المحدود....

واستخدام الأستاذ (حازم) لهذا المصطلح يعني أنه يداوم على قراءتها مثلي ،ولعله يدسّها بين صفحات المراجع القانونية الضخمة، التي نراه يطالعها طوال الوقت....
آه...... لئيم هو (حازم) بك هذا.....
لئيم كمحام عقر.....
المهم أنه -عندما أكّد الأستاذ (منير) أن بوّاب عمارة (صفوت) قد رآه- انكمش هو في مقعده، أمام الأستاذ (حازم)، الذي كاد يخترق جسده بنظرة كأشعة الليزر، وأنا في الواقع أجهل ما يمكن أن تفعله أشعة الليزر هذه، سوى أنها تصلح عيوب الإبصار، كما سمعت في التليفزيون. ثم لم يلبث أن هدأ، وتراجع في مقعده، وضم راحتيه أمامه؛ ليمنح نفسه ذلك المشهد الوقور، قبل أن يقول:
- أنها قضية صعبة يا أستاذ (منير).
ولأن الأستاذ (منير) لا يعرف من هو الأستاذ (حازم)، ولا يدري شيئاً عن أساليبه؛ فقد ازداد انكماشه في مقعده، وهو يغمغم، في صوت أشبه بالضياع:
- أعلم هذا.
وهنا تنحنح الأستاذ (حازم)....
وما أدراك ما هي نحنحة الأستاذ (حازم)
إنها ليست نحنحة عادية....
بل نحنحة سوبر....
أنها تنفخ فيه كل شيء...
وجنتاه تنتفخان، ليصبح وجهه كبالون من بالونات الأعياد....
وينتفخ كرشه، ليفسح مكاناً لما سيطالب به....
وينتفخ لسانه حتماً لمنحه ذلك الصوت الفخم الغليظ، والذي سمعته يقول به:
- سيكلفك دفاعي عنك ثروة.
بدا الأستاذ (منير) أشبه بفأر في مصيدة، وهو يقول:
- أعلم هذا أيضاً.
انطلقت الكلمات من بين شفتي الأستاذ (حازم) كالرصاصة:
- مليون جنيه.
بدا وكأنه قد أفرغ في الكلمة كل انتفاخه؛ حتى خُيِّل إليَّ أنه قد أطلق عاصفة هوائية في وجه الأستاذ (منير)، وأن كرشه الضخم قد انخفض بعدها....
أما الأستاذ (منير)، فقد غمغم في انكسار:
- أنا مستعد.
تألّقت عينا الأستاذ (حازم)، وهو يضيف في ظفر:
- ومثلها بعد البراءة بإذن الله.
اعتدل الأستاذ (منير)،وكأنما أعاد إليه لفظ البراءة الأمل، وقال في حماس :
- اتفقنا.
وهنا انتفخ الأستاذ (حازم) مرة أخرى، وقال:
- بقي إجراء واحد.
كنت أعلم ما يقصده قبل أن يسأله الأستاذ (منير) :
- وما هو ؟!
أجابه في حزم:
- أن تسلّم نفسك للقانون
وعاد الأستاذ (منير) ينكمش....
وبشدة....

* * *
نفّذ الأستاذ (منير) تعليمات الأستاذ (حازم) بمنتهى الدقة؛ فبعد ساعة واحدة من المقابلة، سلّم نفسه للشرطة، التي اتهمته رسمياً بقتل صفوت، وألقت القبض عليه، وعملت على تسليمه للنيابة....
وطبعاً لا يوجد في المكتب كله من يدور في كل الدوائر، ويدوخ السبع دوخات في هذا الأمر، سوى أنا...

فالآنسة (حنان) سكرتيرة....
و(حسن) ساع....
و(حلمي هولمز) هو الذي يراجع كل ملفات القضايا، ويكتب كل المذكرات القانونية....
والأستاذ (حازم) هو البك صاحب المكتب....
وأنا.... أنا طبعاً مرمطون المكتب....

وهكذا سرت وراء الأستاذ (منير) من القسم إلى الترحيلات إلى النيابة....

وهناك فقط ظهر الأستاذ (حازم) بكرشه الضخم، الذي يبدو أنه يمنحه شيئاً من الأهمية والوقار، يجبر رجال النيابة والقضاء على معاملته باحترام كبير....

ولقد جلس أمام وكيل النيابة في وقار وفخامة، وطالبه بالإفراج عن موكله بضمان محل إقامته وكيانه كعضو بارز في المجتمع....
وعلى الرغم من رصانته ابتسم وكيل النيابة في سخرية، وهو يقول:
- أنه اتهام شبه كامل يا أستاذ.... عشرات سمعوا الشجار بين

- القتيل والأستاذ (منير)، وتهديدات كل منهما للآخر.

- والمعمل الجنائى أكّد وجود بصمات حديثة له، على باب شقة القتيل.

- ووجود زر منتزع من كم سترته في مسرح الجريمة؛ أضف إلى هذا شهادة البوَّاب الذي رآه يعدو خارجاً عقب الحادث مباشرة، وأمكنه تعرَّفه بمنتهى الدقة.
فنفخ الأستاذ (حازم) أوداجه مرة أخرى، وقال في فخامة:
- الناس تتشاجر كل يوم، وانفلات الأعصاب يجعل كل منهم يوجّه إلى الآخر ألف تهديد وسباب ووعيد؛ ولكن كل هذا ليس مبرراً للقتل.
اعتدل وكيل النيابة يقول:
- وماذا عن ملاحقة القتيل المستمرة له.... أليست مبرراً كافياً لتخلص الأستاذ (منير) منه.
ابتسم الأستاذ (حازم)، وأشار بيده في حركة مسرحية، قائلاً:
- حتى لو كانت مبرراً، هل سيعجز مليونير مثل (منير صفوان) عن استئجار من يقوم بالمهمة بدلاً منه؟!
قال وكيل النيابة في لهجة بدت لي أقرب إلى التحدّي:
- وربما دفعته ثقته بنفسه إلى تنفيذ جريمته ذاتياً، حتى لا يشاركه أحد سره.
مال نحوه الأستاذ (حازم) قائلاً:
وهل سيخطّط لهذا ولتنفيذه بنفسه، ثم لا يرتدى قفازين ببضعة جنيهات ليخفى بصمات أصابعه؟!
تراجع وكيل النيابة، وبدا وكأن منطق الأستاذ (حازم) قد أثار داخله موجة من التفكير، وغمغم مرتبكاً:
- لم يحدث أبداً أن تم الإفراج عن متهم في جناية قتل بضمان محل إقامته، أو حتى شخصيته في المجتمع.
قال الأستاذ (حازم) في سرعة:
- ربما بكفالة مالية.
هزّ وكيل النيابة رأسه، وهو يقول في خفوت:
- ومع كل هذه الأدلة ؟!.... مستحيل !
دون أن أدري وجدت نفسي أندفع قائلاً :
- أستاذ (منير)، ألا يوجد شاهد واحد على وجودك بعيداً عن مسرح الجريمة وقت حدوثها؟!
استدار إليّ الأستاذ (حازم) بنظرة غاضبة صارمة، والتفت إلى وكيل النيابة في دهشة؛ في حين هزّ الأستاذ (منير) رأسه قائلاً في أسى:
- لست أدري حتى متى حدثت الجريمة.
مال وكيل النيابة نحوه، يقول:
- ما بين الثالثة والخامسة ظهراً.
هز الأستاذ (منير) رأسه مرة اخرى، ثم فجأة تألقت عيناه، وهتف:
- ما بين الثالثة والخامسة ؟!... بالطبع.... بالطبع....

- ليس شاهد واحد.... بل شهود.
وهنا تألّقت عينا الأستاذ (حازم) بدوره، واعتدل في مقعده، وأشار إليّ قائلاً:
- (خالد).... سأعطيك عشرين حنيهاً مكافأة.
وهنا أيقنت من أنه يتابع مجلة (ميكي)، ويتأثر بشخصياتها أيضاً؛ لأنه في هذه اللحظة،كان يلعب دور أحد شخصياتها....
عم (دهب).
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:19 AM

الحلقة الخامسة .... الشهود

منذ بدأت عملي مع الأستاذ (حازم)، بمرتب أخجل أن أذكره، أو حتى أتذكّره، تعلّمت حقيقة هامة جداً، خالفت كل ما كنت أتصوّره، عن المحاكم والقضايا...
وعن السينما أيضاً...

ففي الأفلام القديمة، كنت أشاهد (حسين رياض) أو (عماد حمدي)، وهو يترافع في قضية ما، مرافعة بليغة، ثم يأتي بشاهد إثبات في اللحظة الأخيرة، فيقلب الأمور كلها رأساً على عقب، ويدفع حكم البراءة إلى فم القاضي دفعاً، وتلتهب عيوننا بالبكاء، وأكفنا بالتصفيق، و...
وينجح الفيلم...

وفى آخر فيلم شاهدته، كان (أحمد عز يحل اللغز في المحكمة، ويبرئ (غادة عادل)، ويضع نور في السجن، ونحن محتارون، هل نفرح لأنه برّأ (غادة) الرقيقة، أم نبكي لأنه أدخل نور الجميلة السجن؟!..
ولكن في المحاكم الحقيقية، تعلمنا أن الصورة تختلف تماماً....

وبالذات في الجنايات...
فرجال القانون يؤكدون دوماً، أن القضاء المدني قضاء مستندات، في حين أن القضاء الجنائي قضاء وجدان...

وبالطبع لم أفهم هذا في البداية...
لم أفهم بالضبط ما يعنيه...
وخصوصاً أن لي جارة اسمها (وجدان)، تنتظر عودتي كل ليلة، وأنا منهك مهدود ومكدود؛ من العمل المضني في مكتب عم (دهب)، الشهير بالأستاذ (حازم)، فقط لتلقي عليّ تحية المساء، وهي تبتسم ابتسامة واسعة، كما أخبرني أهل الخير؛ لأنه لا نظري، ولا الحالة التي أعود عليها، يسمحان لي برؤية أي شيء، عندما يأتي المساء...

ولقد أدهشني في البداية أن يكون لـ(وجدان) صلة بالقضاء، ولكن (حلمى هولمز) أفهمني في صبر، ما تعنيه العبارة...

ففي القضاء الجنائي، قد يأتي المتهم بعشرات الشهود، الذين يحلفون ألف يمين، على أنهم يشهدون بالحقيقة، ولكن وجدان المحكمة، المتمثلة في القاضي، لا يطمئن لشهادتهم، فلا يأخذ بها، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.....

لهذا، فأي محام قديم، مثل الأستاذ (حازم)، لا يمكن أن يلقي ثقله أبداً على أقوال الشهود فقط...

ولكن في حالة الأستاذ (منير)، لم يكن هناك سبيل آخر...
وجاء الشهود إلى النيابة...
والشهود كانوا في الواقع: سكرتيرته الجديدة (ماسي)، وبعض عملاء مكتبه، الذين كانوا موجودين في حجرة السكرتيرة، في نفس الموعد، الذي حدّده الطبيب الشرعي، لوقوع الجريمة...
ما بين الثالثة والخامسة ظهراً...

ولقد استمعنا جميعاً لأقوالهم... بمنتهى الدقة...

السكرتيرة (ماسي) أكّدت بشدة أن الأستاذ منير لم يغادر مكتبه في ذلك اليوم، من منتصف النهار وحتى الخامسة والنصف، على الرغم من أنه كان شديد العصبية طوال الوقت، ورفض أن يقابل مخلوقاً واحداً...

"هذا يعني أن أحداً غيرك لم يره، في ذلك اليوم.."..

ألقى عليها وكيل النيابة السؤال على نحو مفاجئ، فقالت مصدومة:
- كلا بالطبع.

ثم استدركت، في سرعة وعصبية:
- ولكنهم جميعاً سيشهدون بأنه كان هناك.

لم أفهم سر تأكيدها، ومن الواضح أن الأستاذ حازم ووكيل النيابة أيضاً لم يفهماه، فقد سألها ألأخير في صرامة:
- وكيف هذا؟!..

أشارت بيدها في حماس سينمائي، قائلة:
- لقد اتخذ قرارات حاسمة، في كل ما يخصّهم، وبعضهم سمعه بنفسه، وهو يصرخ فيّ لإغلاق الباب خلفي، و....

استفاضت في الدفاع عن موكلها، الذي ظل صامتاً منكسراً طوال الوقت، حتى اكتفى منها وكيل النيابة، واستدعى باقي الشهود، الذين أكّدوا كلهم ما قالته، وأضاف إليه بعضهم أنهم يعرفون صوت الأستاذ (منير) جيّداً، وأنه من المستحيل ألا يكون هو من سمعوه، حتى ما بعد الخامسة بقليل...

وبناءً عليه، صار الأمر متأرجحاً، بين جهات أمنية، تصرّ على اتهام الأستاذ (منير)، وشهود يؤكدون براءته، ولم يعد أمام وكيل النيابة عندئذ، سوى أن يصدر قراره بالإفراج عنه بكفالة مالية كبيرة، وتحويل الأمر برمته للقضاء..

"لست أدري ماذا أقول!!.. هذا أفضل ما كنت أتمناه"...

هتف بها الأستاذ (منير)، فور خروجنا من النيابة، بعد أن دفعت (ماسي) كفالته، فرسم الأستاذ (حازم) على وجهه ملامح الصرامة والرصانة، وهو يقول:
- الأمر لم ينته بعد يا أستاذ (منير)؛ فمازالت هناك قضية، ومازالت الجهات الأمنية تصرّ على اتهامك.

اندفعت (ماسي) قائلة في حماس حار:
- أنا واثقة من براءة الأستاذ (منير).

بدا لي حماسها زائداً عن الحد، ولكنني أعزيته لحظتها للظروف، ولأنه مخدومها، في وظيفة جديدة، ولكنني –وكالمعتاد- اندفعت أقول:
- هذا لا يهم.

توقّف الأستاذ حازم، والتفت إليّ بتلك النظرة النارية، التي تبدو لي دوماً، وكأنها تقول: "كيف لتافه مثلك أن يتدخّل في عمل أساتذة؟؟!!.."؛ مما جعلني أبحث ببصري عن أقرب بالوعة، يمكنني أن أختبئ فيها؛ لأن ما سأجده داخلها، سيكون حتماً أفضل مما سأجده، في المكتب، عنذ عودتي...

ولكن العجيب أن الأستاذ (منير) سألني في اهتمام بالغ، ودون أدنى ضيق:
_ لماذا تقول هذا؟!..

اختلست نظرة إلى الأستاذ (حازم)، الذي أشاح بوجهه عني في ازدراء، وهو يركب سيارته، التي فتح الأستاذ (منير) بابها الآخر، وهو مازال ينظر إليّ في اهتمام؛ منتظراً الجواب؛ مما جعلني أجيب في خفوت:
- لأنه ليس المهم أن تثق سكرتيرتك في براءتك... المهم أن يثق فيها القضاة..

ركب السيارة، في المقعد الخلفي، وهو يهز رأسه مفكراً ومتفهماً، وركبت إلى جواره (ماسي)، في حين تردّدت أنا لحظات، حتى قال الأستاذ (حازم)، في لهجة صارمة، أعرفها، وأدرك تبعاتها جيداً:
- اركب.

وركبت...

وبعد أن رحل الأستاذ (منير) وسكرتيرته، وصعدنا إلى المكتب، استقبلنا الجميع بنظرات فضول وتساؤل، حوّلتهما الآنسة (حنان) وحدها إلى لغة مسموعة، وهي تقول:
- ماذا تمّ في النيابة ؟!..

أجابها الأستاذ (حازم) في صرامة، وهو يتجه مباشرة إلى مكتبه:
- كيف يمكنك أن تقلقي؟..

ثم استدار إلينا، قبل أن يغلق باب المكتب خلفه مباشرة، وأكمل:
- لقد كان الأستاذ (خالد) معي هناك.
قالها، وصفق الباب بكل قوته...
وران على المكان كله صمت رهيب....
صمت نطقت خلاله العيون بألف ألف اتهام....
ثم فجأة تحوّلت كل هذه الاتهامات الصامتة، إلى صوت مسموع...
بل متفجّر...

"ماذا فعلت أيها التعس؟!.."..

هتف بها (حلمي) في استنكار، في نفس اللحظة التي صاحت فيها الآنسة (حنان)، في لهجة مدرسة، تؤنب تلميذاً خائباً:
- كنت أعلم أنك ستفسد الأمر!..

غمغم (حسن):
- إعدام؟!..

قلت في سخافة متعمّدة:
- إفراج بكفالة..

هزّ (حلمي هولمز) رأسه في رصانة، وهو يقول:
- هذا يعنى أنه هناك قضية.

أجبته في شيء من الإحباط، أردته معبراً:
- وهل كنتم تتصوّرون غير هذا ؟!..

مالت الآنسة حنان نحوي، قائلة:
- المهم ماذا فعلت بالأستاذ؟!..

قبل أن أفتح فمي لأجيب، فتح الأستاذ باب مكتبه، وقال في هدوء شديد:
- تعال.

وامتقع وجهي، وأنا أنهض إليه؛ فمن طبيعة الأستاذ، أنه إذا ما تحدث بهدوء شديد، إلى شخص يغضب منه؛ فهي دلالة على أنه أعد له انتقاماً رهيباً...

وبقدمين مرتجفتين، دخلت مكتبه، ولم أنطق بحرف واحد....
ونطق هو....

وعندئذ أدركت أنني كنت على حق فيما توقّعته...
الأستاذ (حازم) لم يعد يلعب دور عم (دهب)...

إنه يلعب الآن دور (عادل أدهم)...
في فيلم (المنتقم)
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:21 AM

الحلقة السادسة .... الملف

من باب التأديب والتهذيب والإصلاح، أعطاني الأستاذ (حازم) ملف قضية (منير صفوان) كله، وهو يقول بنظرة شامتة، وابتسامة كبيرة متشفية:
- أريدك أن تراجع كل شيء بنفسك.... ادرس الملف حرفاً بحرف، وليس كلمة بكلمة، وراجع شهادات الشهود، وشهادة السكرتيرة (ماسى)، واذهب إلى مسرح الجريمة، واستجوب كل من تجده هناك... أريد أية معلومات، يمكن أن تقودنا إلى دليل براءة... هل تفهم؟!... أية معلومات.
خرجت من مكتب الأستاذ، وأنا أحمل الملف كله، ونظرة يأس مريرة تطلًّ من عينيّ بوضوح حتماً؛ لأنني وجدت الجميع يحدقون فيّ، وسمعت الآنسة (حنان) تغمغم في أسى:
- يا للمسكين!
وسألني (حلمي) في توتر:
- ماذا ستفعل بهذا الملف؟!..

أجبته في يأس:
- كل شيء.

بدا عصبياً وهو يسألني:
- هل أسنده إليك الأستاذ كله؟!..

قلت، وأنا أجلس خلف مكتبي في إحباط:
- للأسف.

هتف في غضب:
- وماذا عني أنا؟!... هل سأكتفي بكتابة مذكرات الدفاع فحسب.

غمغمت الآنسة (حنان) في خبث:
- هذا ما تجيده.

صاح بها محتداً:
- هل نسيت من أنا ؟!.. أنا (حلمي)... (حلمي هولمز)... أنا العقل النشط في هذا المكتب.

أجابته بنفس الخبث:
- حسناً أيها العقل النشط، لا ترهق عقولنا معك بهذا الصراخ.... أكمل مذكراتك في صمت.

قالتها، والتفتت إليَّ بنظرة مشجعة، ربما لأشاركها هذا العبث، ولكنني أشحت بوجهي، مع ما أشعر به من إحباط، ونفور شديد من فكرة المزاح، في نفس الوقت الذي انحنى فيه (حسن) على أذني، وسألني:
- أترغب في كوب خروب خشن.

التفتت إليه بحركة حادة، وأنا أنوي الانفجار في وجهه؛ ولكن نظري ارتطم بوجه الأستاذ (حازم) وكرشه الضخم، وهو يزمجر كغوريلا غاضبة، هاتفاً:
- أما زلت تجلس هنا؟!..

قفزت من خلف مكتبي، واختطفت الملف، وأنا أعدو نحو الباب، هاتفاً:
- كنت في سبيلي للانصراف فوراً.
خرجت من المكتب مهرولاً، وكأن الأستاذ (حازم) سيعدو خلفي، على الرغم من ثقتي في أنه لن يستطيع هذا، مهما كانت لديه الرغبة فيه؛ فمع كرش كمنطاد صغير، سيعد المشي في ذاته مغامرة، غير مأمونة العواقب...
كل ما فعلته هو أنني تشبثت بالملف، حتى لا أفقده، أو أفقد ورقة واحدة منه، حتى وصلت إلى الشارع؛ فوقفت أمام المبنى ألهث لبضع لحظات، قبل أن أسترد أنفاسي، وأغمغم في حنق شديد:
- ألا يوجد سواي في هذا المكتب؟!..

لم يجبني أحد بالطبع، ولا حتى نفسي، فالتقطت أنفاسي مرة أخرى، وبدأت أحسبها...

مسرح الجريمة في (مصر الجديدة)، ومكتبنا في المهندسين، وهذا يعني أنني أحتاج إلى مواصلة خاصة....
وهذه مشكلة....
فعم (دهب).... أقصد الأستاذ (حازم)، يمكن أن يكلف السفر إلى المريخ، والعودة في اليوم نفسه؛ ولكن من رابع المستحيلات أن يدفع ولو حتى ثمن تذكرة أتوبيس...
المفترض إذن أن أحصل على أقل القليل، وأنفق نصفه على الانتقالات في الوقت ذاته...

وبحسبة بسيطة، قررَّت أن أستقل الميكروباص، من المهندسين إلى محطة رمسيس، ثم أنتقل إلى مترو (مصر الجديدة) من هناك...
كان هذا كفيلاً بتوفير نصف جنيه، يكفى لشراء باكو بسكويت، إذا ما قرصني الجوع..
هذا لأننا لا نحصل على بدل تغذية أيضاً....
المهم أنني -تحت الشمس الحارقة- قطعت هذه الرحلة، التي جعلتني أشبه بالرحّالة (إنديانا جونز)، وهو يبحث عن الكنوز الأثرية المفقودة، وإن كنت أتمنى طبعاً ألا أواجه تلك الأهوال، التي يواجهها في أفلامه....
فمن ناحية النشاط والحركة، ولقطات الأكشن، أنا أقرب إلى (إسماعيل ياسين)، في فيلم (ابن حميدو)، على أقصى تقدير...
المهم أنني في النهاية؛ سواء كنت (ابن بطوطة) أو (بطوط) نفسه، وصلت إلى مسرح الجريمة...
كان المكان مغلقاً، والبواب يتابعني بنظرة شك، وكأنه يدرسني جيداً، وأنا أتجه إلى شقة (صفوت) القتيل، ومن الواضح أنه قد استشف من مظهري أنني ضئيل الشأن، إلى حد يستحيل معه أن أكون أحد ضباط الشرطة، أو حتى أحد خبراء المعمل الجنائي، فقد هتف بي في خشونة:
- ماذا تريد يا أستاذ؟!...
أجبته؛ محاولاً وضع أكبر قدر ممكن من الغطرسة والتعالي والصرامة في صوتي:
- هذه شقة القتيل... أليس كذلك؟!..

واضح أن أسلوبي لم يفلح قط؛ فقد أجابني في خشونة أكثر:
- ماذا تريد منها؟!..

أجبته في سرعة:
- أنا محامي المتهم.

كنت أتصوَّر أن هذه العبارة ستكفى؛ لكي يمنحني شيئاً، ولو قليلاً من الاحترام؛ ولكنه زمجر زمجرة أشبه بزمجرة وحيد القرن (وإن كنت لم أسمع زمجرة وحيد القرن) وهتف:
- اذهب إلى النيابة إذن، واحصل على إذن بدخولها.
وقفت حائراً مرتبكاً...
كيف فاتني هذا؟!...
كيف فاتني أن دخول شقة، كانت مسرحاً لجريمة قتل، سيستلزم حتماً تصريحاً من النيابة...
وهذا التصريح يحتاج إلى يوم كامل للحصول عليه؛ مما يعني أن هذا اليوم، مع كل رحلة العذاب فيه، قد ضاع هباءاً....
إلا إذا....

قفزت الفكرة إلى رأسي فجأة، فسألت الرجل في اهتمام:
- قلت: إنك رأيت الأستاذ (منير) يخرج من هنا مسرعاً، قبل اكتشاف الجريمة... أليس كذلك؟

زفر في توتر، وكأنه مضطر لتكرار أمر يبغضه، وقال:
- كان يجرى وكأنه قد فعلها للتو.

سألته:
- ومتى تم كشف الجريمة بعدها.

هزَّ كتفيه، قائلاً:
- الأستاذ ترك باب الشقة مفتوحاً، مع سرعة فراره، ولقد أقلقني هذا، فطرقت الباب، ورننت الجرس عدة مرات، ولم يستجب أحد، جعلني أدخل في حذر، ففوجئت بالحال.
أدهشني قوله، فسألته، في اهتمام أكبر:
- هذا يعني أنك قد دخلت الشقة، قبل حضور رجال الشرطة.

أشار إلى صدره، قائلاً:
- أنا أبلغت رجال الشرطة.

فسألته، وكأنني أحاول الإيقاع به:
- ولكنك اتهمت الأستاذ (منير) مباشرة؛ فهل أمكنك تعرَّفه بهذه السرعة، على الرغم من أنها أوَّل مرة تراه فيها؟!..

بدت عليه الحيرة، وهو يقول:
- أوَّل مرة؟!... كلا.... إنها ليست أول مرة.

انتقلت حيرته إليَّ أنا، وأنا أسأله:
- هل رأيته قبلها؟!...

أجاب في سرعة:
- بالطبع... إنه يدفع إيجار شقة الأستاذ (صفوت) منذ أكثر من عام.
ومن المؤكَّد أن ملامحي صارت صورة مجسَّمة للبلاهة حينذاك..
فقد كانت المفاجأة مدهشة...
إلى أقصى حد.
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:22 AM

الحلقة السابعة .... المفاجأة

ليست هناك ذرة واحدة من الشك، في أن بوَّاب البناية قد تأكَّد، في تلك اللحظة من أنني شخصية بلهاء؛ فهذا ما أقوله لنفسي كل صباح، عندما ألتقي بوجهي في مرآة الحمام ذات الزاوية المكسورة....
فما بالك بملامحي، في موقف كهذا....
لقد حدَّقت في وجه الرجل على نحو عجيب، جعله يسألني في قلق:
- ماذا بك يا أستاذ؟!

حاولت بسرعة استعادة ملامحي القبيحة، متصوِّراً أن هذا حتماً أفضل من ملامحي البلهاء، وأنا أقول، في شيء من الحدة:
- ولماذا لم تقل هذا لرجال الشرطة؟!

قلب كفيه، مجيباً في بساطة:
- لم يسألني أحد.
ثم استعاد شعوره بالحذر وعدم الاحترام، وهو يضيف.
- أأنت محامي الأستاذ (منير)، أم عائلة المرحوم؟

أجبته في سرعة، محاولاً اكتساب لمحة من احترامه:
- محامي الأستاذ (منير)

بدت عليه دهشة حقيقية، وهو يسألني:
- لماذا تطلب مني إبلاغ الشرطة بهذا إذن؟!

أربكني سؤاله، وجعلني أفيق من أوهامي، وأدرك أنني مجرَّد وكيل محام، لكرش الأستاذ (حازم)..
أو لجزء منه على الأقل....
هناك نقاط عديدة تغيب عن ذهني...
نقاط حيوية للغاية....

نقاط جعلتني أجيبه في عصبية:
- لم أطلب منك إبلاغهم... فقط سألتك إذا كنت قد فعلت..

مال نحوي، متسائلاً في شيء من الخبث:
- وهل تريد مني ألا أفعل؟!!

أدهشني أسلوبه هذا؛ ولكنه أعطاني لمحة عمن يكون....
هذا حتى قبل أن يعتدل؛ مكملاً بلهجة خاصة:
- أنا رهن إشارتك.

كان من الواضح أنه يطلب رشوة، مقابل إغلاق شفتيه، وإخفاء المعلومة....
رشوة لم أكن بقادر على منحه إياها، حتى لو أردت...

ففي جيبي الهزيل، لم أكن أملك سوى أجر العودة إلى منزلي؛ بالإضافة إلى جنيهات قليلة، تكفي بالكاد للأيام الثلاثة المتبقية، قبل موعد قبض أجر الشهر التالي....

وكمحاولة لمحاورته، سألته في حذر:
- وماذا عن العدالة؟

قلب شفتيه في غضب، وقال:
- أية عدالة؟!... (صفوت) هذا كان يستحق القتل ألف مرة.

أدهشني رد فعله، ودفعني إلى سؤاله:
- لماذا بالضبط؟!

أشار بيده إشارة حادة، وهو يجيب:
- كان يحيا على نفقة الأستاذ (منير)، وعلى الرغم من هذا، لم يدفع أجري منذ شهور.

بدت لي هذه نقطة تستحق التوقف؛ فسألته:
- ولماذا لم تطلبها من الأستاذ (منير)؟!

هتف هتف محنقاً:
- رفض أن يدفعها.

بدا لي الأمر عجيباً حقاً...
الأستاذ (منير) يدفع أجر الشقة، ويرفض أن يدفع جنيهات قليلة أجراً للبوَّاب...
فلماذا؟!...
لماذا؟!....
وفجأة، خطرت ببالي فكرة...

فكرة جعلتني أسأل البوَّاب، في لهفة لم أستطع مداراتها:
- منذ متى يقيم الأستاذ (صفوت) هنا؟!

مط شفتيه، وهز كتفيه، قائلاً:
- منذ ثلاثة عشر شهراً.

ثم استطرد في حدة:
- ولم يدفع أجرى، إلا خمسة أشهر منها فحسب.

أعتقد أن عبارته الأخيرة دخلت عقلي الباطن فقط؛ فقد كان عقلي الواعي منشغلاً للغاية....

ثلاثة عشر شهراً؛ أي نفس الموعد، الذي لقيت فيه السكرتيرة السابقة للأستاذ (منير) مصرعها...

السكرتيرة، التي هي في الواقع شقيقة (صفوت)...
الأستاذ (منير) إذن يدفع إيجار شقة شقيق السكرتيرة، التي اتهموه بقتلها....
وذلك الشقيق يطارده، ويتهمه بقتل أخته...
ثم يموت!!....

فما الذي يعنيه كل هذا؟!...
ما الذي يعنيه؟!....
* * *
"أنت شخص غبي..."...

صدمني الأستاذ (حازم) بهذه الصرخة، بعد أن رويت له كل ما حدث، وازداد احتقان وجهه على نحو جعلني أشبهه بثمرة بطيخ بدون قشرة، وهو يكمل:
- لماذا لم تنبه البوَّاب أيضاً أن يفعله، حتى يضمن خسارتنا لقضيتنا.

غمغمت، محاولاً منع ارتجافتي:
- إنه لن يخبر الشرطة؟!..

هتف في غضب:
- ومن أدراك؟!...

أجبته مرتبكاً:
- هو قالها؟!...

صرخ، وهو يضرب سطح المكتب في قوة، جعلته يبدو أشبه بالرجل الأخضر... أو الأحمر على وجه الدقة:
- وماذا عن محامي الخصم... هل سيعده أيضاً بأن يتحدَّث.

اتسعت عيناي، وأنا أغمغم مصدوماً:
محامي الخصم؟!.

صرخ في ثورة:
- ألم أقل لك: إنك غبي... هل تصوَّرت أن عائلة (صفوت) لن توكل محامياً، لإدانة من قتل ابنها؟!

سألته في توتر:
- ومن هو؟!

كاد يشد شعر رأسه، أو ما تبقى منه، وهو يصرخ
- غبي... غبي... غبي.

أدركت أن كل حرف أنطق به، يأتيني برد فعل صارم غاضب؛ لذا فقد آثرت الصمت، وانكمشت في ركن المكتب، وهو يكمل كعاصفة ذات كرش ضخم:
- لا يهم من هو المحامي بالضبط... المهم أنه سيكون هناك حتماً واحد يقف ضدنا، ولابد وأن نمنعه من معرفة ما قاله البوَّاب، الذي رفضت أن تعطيه رشوة، أيها البخيل الأحمق...

بخيل... وأحمق؟!...
أنا؟!...
فكرت جدياً، في هذه اللحظة، في أن ألقي نفسي من نافذة المكتب، لأتخلص من هذه الحياة البائسة....
أو إلقاء نفسي تحت أوَّل سيارة مسرعة، فور خروجي من هنا....

وماذا عن أسطوانة الغاز نصف الفارغة في مطبخي...
أو ذلك السكين اليتيم الوحيد الذي أمتلكه....
أو الــ....

" هل تسمعني؟! "....
انتزعتني صرخة الأستاذ (حازم) من أفكاري الانتحارية؛ فأومأت إليه برأسى إيجاباً، دون أن أنبس ببنت شفة، فأخرج من جيبه رزمة نقود، ألقاها في عنف على سطح مكتبه، وهو يقول في حدة:
- هيا... عد إلى البوَّاب، واشتر سكوته.

أحنقني المبلغ الضخم، الذى سيرش به البوَّاب، وإن كنت أعلم أنه سيأخذ ضعفه من الأستاذ (منير)؛ ولكنني عدت مستسلماً إلى ذلك البوَّاب، الذي استقبلني في برود عجيب، وهو يسألني:
- خيراً...؟

ناولته المبلغ، وأنا أقول في حقد واضح:
- أهذا يكفي؟!...

تفقد المبلغ في لا مبالاة واضحة، وكأنه اعتاد التعامل بمبالغ كبيرة، ثم قال في استهتار:
- هل تريد معرفة أي شيء آخر؟!..

قلت في حزم غاضب:
- هذا لكي تغلق فمك.

دس المبلغ في جيب جلبابه، وهو يقول:
- أنا رجل كريم.

أحنقني أسلوبه أكثر، وسألته، من باب الاستفادة بكل قرش من المبلغ:
- هل كان هناك من يتردَّد على (صفوت) في انتظام؟!

أجاب في سرعة:
- فقط تلك الفتاة.

سألته في دهشة:
- أية فتاة؟!
شمله حماس، ليس له ما يبررَّه، وهو يصف تلك الفتاة في دقة مدهشة، كان وصفها ينطبق على فتاة أعرفها جيداً....
(ماسي).... سكرتيرة (منير صفوان) الجديدة.
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:24 AM

الحلقة الثامنة .... السكرتيرة

وفقاً لما رواه لي بوَّاب البناية؛ فالسكرتيرة (ماسي) كانت تتردَّد بانتظام على (صفوت)، مرة واحدة شهرياً على الأقل، وتقضي معه ما يقرب من نصف الساعة، ثم تنصرف..

وخلال الشهرين الماضيين، زادت نسبة ترددَّها عليه، على نحو ملحوظ؛ فقد أصبحت تزوره مرة أسبوعياً، ولمدة ساعة كاملة، ثم تنصرف بعدها مسرعة، متحاشية أن يراها أحد...

ولقد كانت آخر زيارة لها، قبل مقتل (صفوت) بيوم واحد بالضبط..

وعلى الرغم من أنني لم ألقي على البوَّاب سؤالاً آخر، فقد أطلق ما عرفته في ذهني سؤالاً خطيراً للغاية.....

ما علاقة (ماسي) بالقتيل بالضبط؟!...
وهل يعلم الأستاذ (منير) بهذه العلاقة؟!...
هل؟!....
تركت البناية، وعدت أستقل مترو (مصر الجديدة)؛ متجهاً إلى محطة (رمسيس)، وذهني يموج بأسئلة فرعية، كادت تلتهم رأسي بلا رحمة....

ثم، هل أخبر الأستاذ (حازم) بهذا الجديد، وأحتمل اتهامه لي بالغباء مرة أخرى، أم أخفي هذا في أعماقي؟!...

لم يكن الجواب عسيراً، فور أن تذكَّرت كيف كنت أقف أمامه مرتجفاً كالفأر المذعور، الذي ينكمش أمام أكبر قط بكرش، في الدنيا كلها، مرتجفاً مذعوراً، ينتظر لحظة التهامه....

وأنا نحيل للغاية، لن يشبع التهامي أحد، اللهم إلا كلباً من الكلاب الشرهة، التي تهوى قرقشة العظام.....
انتفض جسدي، وأنا أتخيل صوت قرقشة عظامي، ووجدت نفسي أهتف:
- يا للبشاعة!
التفت إليّ كل ركاب المترو في دهشة مستنكرة، وشعرت أنهم جميعاً يُرَدّدن الكلمة نفسها، وهم ينظرون إلى وجهي القبيح، وجسدي النحيل غير المتناسق...

ولأنني قوي العزيمة شديد الحساسية، فقد تركت المترو، قبل أن يصل إلى محطة (رمسيس)،قبل أن تخترقني نظرات الركاب، وتصم أذنيَّ همهماتهم الساخطة....

وعلى مسار محطتي مترو، رحت أسير في الطريق، وأنا ألعن تلك الكلمة، التي أفلتت مني، دون أن أشعر...

ولكن هذه التمشية الإجبارية، كان لها تأثير كبير على ترتيب أفكاري في هذا الشأن.

الأستاذ (منير) لا يعلم حتماً علاقة (ماسي) بـ(صفوت) شقيق سكرتيرته الراحلة، والذي ظل يبتزه بتهديداته المستمرة، بأن يشوَّه سمعته، عن طريق اتهامه المستمر بقتل شقيقته، ولكي يتفاداه الأستاذ (منير) ويحافظ على سمعته، استجاب لتهديداته، وراح يسددَّ عنه إيجار شقته في انتظام، وفقاً للاتفاق...

لهذا رفض دفع راتب بوَّاب البناية؛ لأنها خارج الاتفاق...

أما (ماسي)؛ فقد دسَّها (صفوت) على (منير)، حتى تنقل إليه أخباره أوَّلاً بأوَّل؛ فيظل تحت سيطرته طوال الوقت....

تحليل ممتاز، جعلني أشعر وكأنني (ماجد المصري)،بجسده الضخم، وعضلاته المفتولة، وهو يلعب دور مخبر سري عبقري، و.....

وفجأة، ارتطم ذهني بسؤال، حوَّلني من (ماجد المصري) إلى (ماجد الكدواني) دفعة واحدة...
كل هذا جميل؛ ولكنه لا يجيب السؤال الأساسي...
من قتل (صفوت)؟!....
من صاحب المصلحة من قتله؟!....
الأستاذ (منير) لديه شهود عديدون، على أنه كان بعيداً عن مسرح الجريمة، عند ارتكابها.....
و(ماسي) كانت معه، ولا مصلحة لها في مقتل (صفوت)....
والبوَّاب....

لحظة.... لماذا لم يتهم أحدٌ البوَّاب؟!....
إنه يكره (صفوت)، وتشاجر معه أكثر من مرة، وبصماته ستتواجد حتماً في مسرح الجريمة، وهو بررَّها بدخوله إلى هناك، عقب انصراف الأستاذ (منير) مباشرة....

فلماذا نفترض أنه صادق في هذا؟!...
الأستاذ (منير) قال: إن (صفوت) كان صريعاً، عندما وصل إليه؛ فلماذا لا يكون البوَّاب قد قتله قبلها؟!...
لماذا؟!...
انتبهت فجأة إلى أنني قد تجاوزت محطة (رمسيس)، وأصبحت قريباً من ميدان التحرير، دون أن أنتبه إلى هذا، في غمرة انشغالي بالتفكير في الأمر....

وفور انتباهي إلى هذا، شعرت بآلام مبرحة في ساقيَّ النحيلتين، وبدت الرؤية مشوَّهة أمام عينيَّ؛ فتوقفت مستنداً إلى جدار قديم، وأنا أسب الأستاذ (حازم) في أعماقي؛ لأنه لولا تقمصه لشخصية عم (دهب)، لوجدت ما يكفي لأستقل سيارة تاكسي إلى منزلي...
وعلى الرغم مني، أكملت السير حتى ميدان التحرير، ومن هناك استقليت ميكروباصاً إلى منزلي....
ونمت...
لا أستطيع أن أصف إلا بأنني قد نمت؛ فما إن وصلت إلى منزلي، حتى ألقيت ملابسي، وقفزت إلى السرير.... ونمت...
وعندما استيقظت في الصباح التالي، شعرت بثقل كبير يجسم على صدري، ويرهق أنفاسي...
لم يكن مرضاً والحمد لله؛ وإنما كان شعوري بأنه يجب أن أبدأ كل شيء من جديد....
وبمنتهى الإرهاق، أنهيت الروتين اليومي، وغادرت منزلي في تكاسل معتاد، وانتظرت الميكروباص التقليدي، وركبته، وأنا أقاوم رغبتي الشديدة في استمرار النوم، حتى لا أفقد نقطة نزولي، وقررَّت التركيز على الطريق؛ حتى وصلت إلى قرب المكتب؛ فاتجهت إليه، وأنا أشعر بضيق شديد؛ لأنني سأواجه الأستاذ (دراكيولا)...
أقصد الأستاذ (حازم) مرة ثانية، و....
وفى بلاهة، كادت تصبح سمة من سمات شخصيتي، وقفت أحدَّق في باب المكتب المغلق....
إنها التاسعة إلا ست دقائق، ومن غير الطبيعي أن يكون الباب مغلقاً حتى هذه اللحظة.
صحيح أن (حلمي) والآنسة (حنان) يصلان في التاسعة، أو بعدها بقليل... أو كثير، ولكن (حسن) يصل دوماً في الثامنة؛ ليقوم بتنظيف المكتب، وترتيبه، وإعداده لوصولنا، و...
توقفَّت أفكاري دفعة واحدة، عندما وقع بصري على تلك اللوحة الصغيرة، المعلَّقة على باب المكتب...
اللافتة التي تحوي مواعيد العمل الرسمية...
وشعرت في أعمق أعماقي بغضب، ما بعده غضب...
المكتب، كمعظم مكاتب المحامين، يحصل على إجازته الأسبوعية يوم الخميس؛ باعتبار أن الجمعة إجازة محاكم، والسبت يوم عمل، ومعظم العملاء لا يحضرون المستندات المطلوبة لقضيتهم؛ إلا في آخر لحظة، مما استتبع أن تكون مكاتب المحامين، في أغلبها مفتوحة أيام الجمع، ومغلقة أيام الخميس.....
وأنا لم أنتبه إلى هذا، وانتزعت نفسي من فراشي، وتحملت زحمة وضوضاء الميكروباص، وجئت إلى مكان أبغضه.. في يوم الإجازة...
مرة أخرى، شعرت أننا داخل مجلة (ميكي)، وأنني واحد من أهم وأشهر شخصياتها
(بندق)....
* * *
أرجوكم، لا تسألوني كيف حدث هذا، ولا كيف قادتني قدماي إلى هناك، ولكنني وجدت نفسي فجأة، في مكتب الأستاذ (منير)، في شارع جامعة الدول العربية....

ولقد استقبلتني السكرتيرة (ماسي) في دهشة، وهي تقول:
- أستاذ (خليل).... يا لها من مفاجأة!
قلت مصححاً:
- (خالد)... اسمي (خالد) يا آنسة (ماسي).
ألقت نظرة طويلة عليَّ، من أعلى إلى أسفل، قبل أن تمط شفتيها، قائلة:
- (خليل) يناسبك أكثر.
لم أفهم بالضبط ما تعنيه بهذا، واشتممت فيه رائحة سخرية من نوع ما، ولكنني كتمت هذا في أعماقي، وأنا أقول:
- والداي لم يوافقاك الرأي.
ابتسمت ابتسامة غامضة، وهي تقول:
- ربما لم يتوقعا ما ستكون عليه..
هضمت هذا أيضاً في صعوبة، وشعرت أنه أصابني بشيء من عسر الهضم، وهي تضيف، في لهجة أشبه بالتحذير:
- هل تريد مقابلة الأستاذ (منير)؟!..
تجاهلت سؤالها تماماً، وأنا أسألها مباشرة:
- منذ متى تعملين هنا يا آنسة (ماسي)؟!
بدا وكأن السؤال قد فاجأها، فتراجعت بحركة حادة، وهي تقول في عصبية:
- وما شأنك بهذا؟!
كنت أهم باختراع جواب ما، عندما سمعت صوتاً هادراً يهتف في غضب:
- ماذا تفعل هنا؟!
وكاد قلبي يتوقَّف بالفعل..
فالصوت كان صوت (دراكيولا)..
الأستاذ (حازم).. شخصياً.
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:25 AM

الحلقة التاسعة ....دراكيولا....

كنت أنوي أن أروي لكم ما فعله بي الأستاذ (حازم)، الذي ذهب لمقابلة الأستاذ (منير)؛ ليحصل على شيك من شيكاته، عندما فوجئ بي هناك؛ ولكن كرامتي تأبى علىَّ أن أروي هذا....
أو هي تلك الإصابة في فكي....
أو كلاهما....
المهم أنني لن أروي ما حدث، وسأكتفي بأن أقول: إن المواجهة مع مصاص الدماء (دراكيولا)، كانت ستبدو أشبه بفيلم كوميدي، مقارنة بما حدث....

المهم أنني غادرت مكتب الأستاذ (منير)، وأنا أجر أذيال الخيبة، وساق مصابة بركلة مباشرة، وركبت الميكروباص اللعين، الذي لا يحترم أي قاعدة من قواعد المرور، ولا حتى قاعدة (أرشميدس)، والذي يسير في الطرقات في سرعة، متصوراً أنه (موتوسيكل)....

المهم أنه قد أوصلني إلى منزلي، الذي لم أكد أدخله، حتى أطلقت العنان لتأوهات الألم، التي كتمتها في أعماقي طوال الطريق، وتركت دموعي تنهمر على وجهي، من شدة القهر والألم، وحاولت أن أصنع لنفسي كوباً من الشاي، ولكنني واجهت عقبتين رئيسيتين....
لم يكن لدي سكر...
ولم يكن لدي شاي....
لذا؛ فقد اكتفيت بالاستلقاء على فراشي، الذي لم أغيرَّ ملاءاته منذ ستة أشهر، وأنا أسترجع كل شيء....

بالطبع لم أسترجع ما فعله بي الأستاذ (دراكيولا)؛ لأنني بطبعي أكره الخوض في الأمور المحزنة والمؤلمة....

لقد استعدت فقط تفاصيل قضية الأستاذ (منير)....
واستوقفتني بضع نقاط أساسية....
لماذا لم يوجّه أحد أي اتهام للبوَّاب...
ولماذا انزعجت (ماسي)، عندما سألتها: متى بدأت عملها، عند الأستاذ (منير)؟!...

وهنا أدركت أنني قد أخطأت، عندما وجهت هذا السؤال إلى الآنسة (ماسي)؛ فقد كان ينبغي أن أوجهه إلى الأستاذ (منير) نفسه، ولكن أسلوبها الاستفزازي معي، هو الذي دفعني إلى توجيه هذا السؤال إليها....

ثم أن وصول (دراكيولا) أفسد كل شيء.....
وما فعله معي سيمنعني من دخول مكتب الأستاذ (منير) مدى الحياة...
أو ربما بعد هذا أيضاً.....
غرقت طويلاً في هذه الأفكار، وأنا راقد على فراشي، و.....
اسيقظت فجأة....
لم أدر حتى متى استغرقت في النوم؛ ولكنني استيقظت على رنين هاتفي المحمول الصغير جداً، صاحب الرنين المرتفع جداً، فقفزت من فراشي مذعوراً، وصرخت صرخة عالية؛ لأنني هبطت على ساقي المصابة، ولكنني تحاملت على نفسي، والتقطت الهاتف، قائلاً في صوت امتزج فيه الألم بالفضول:
- من؟!..
وجاءني آخر صوت أتخيل سماعه في الدنيا، وهو يقول:
- أستاذ (خالد)..
خٌيّل إلي في البداية أنني لم أميَّز الصوت جيداً، ثم لم ألبث أن تعرَّفته، فقلت في لهفة وحماس:
- الأستاذ (منير)؟!
قال في هدوء، لا يتناسب مع شخص متهم بارتكاب جريمة قتل:
- دعني أوَّلاً أعتذر عما حدث في مكتبي.... لقد حاولت منع الأستاذ (حازم)، ولكنه كان ثائراً للغاية، ولست أدري لماذا؟!
غمغمت في مرارة، مسترجعاً العلقة كلها:
- أنا أعرف.
لم يبد لي أنه حتى قد سمع ما قلته، وهو يقول:
- الأستاذ (حازم) لا يعرف لماذا جئت إلى مكتبي، ولعل هذا سبب ثورته، فهل تسمح لي بسؤالك عن هذا، دون أن أسببَّ أي حرج؟!
أدهشني أسلوبه شديد الاحترام والتهذيب، ربما لأنني لم أعتده لا منه، ولا من أي شخص آخر، فهتفت في حماس:
- بالطبع.
سألني في اهتمام شديد:
- لماذا زرت مكتبي، يا أستاذ (خالد)؟!
خُيَّل إلي أن لهجته قد فرغت من ذلك التهذيب اللطيف، واكتسبت رنة شرسة إلى حد ما، فأجبت في تردُّد:
- أردت فقط أن أسألك، منذ متى تعمل الآنسة (ماسي) لديك؟!
جاوبني صمت مطبق لعدة ثوان، قبل أن يقول الأستاذ (منير)، في شراسة واضحة هذه المرة:
- ولماذا أردت هذا؟!
قلت مرتبكاً:
- أردت فقط أن أعرف، لو أن....
قاطعني في توتر عصبي:
- هل تشك في (ماسي)؟!
من المؤكَّد أن صمتي قد أصابه بالمزيد من التوتر، فقال في حدة:
- فيم تفكَّر؟!
أدهشني بشدة ذلك التحوّل الشديد في أسلوبه، فقلت مرتبكاً بشدة:
- أستاذ (منير).... أنا أدرس كافة الاحتمالات فحسب.
قال في حدة:
- لا يوجد أي احتمال... (ماسي) كانت معي هنا في المكتب، في الموعد الذي حددتموه لوقوع الجريمة.
قلت مندهشاً:
- ولكنني لم أتهمها قط بارتكابها.
سألني في لهجة، أقرب إلى الصراخ:
- فيم تشك فيها إذن؟!
لم أجد بداً من أن أصارحه بالموقف، وأنا أقول:
- أستاذ (منير)، هل كنت تعلم بوجود علاقة بين سكرتيرتك والأستاذ (صفوت)؟!
طال صمته هذه المرة، قبل أن يقول، في صوت واضح الغضب:
- من أخبرك بهذا؟!
أجبته متردّدَاً:
- بوَّاب بناية (صفوت).
طال صمته، وطال، وطال، حتى أنني سألته في قلق:
- أستاذ (منير)... أمازلت هناك؟!
أجابني بصوت مختنق:
- أشكرك يا أستاذ (خالد).... أشكرك كثيراً.
وقبل أن أسأله عما يعنيه، أنهى الاتصال دفعة واحدة...
وانعقد حاجباي في توتر....
لقد كان الأستاذ (منير) يتحدَّث من تليفون مكتبه، وعندما أنهى المحادثة، ظل الخط بعدها مفتوحاً لحظة، سمعت بعدها صوت إغلاقه....

وكان هذا يعني شيئاً واحداً.....
هناك من كان يستمع إلى المحادثة....
ومن داخل مكتب الأستاذ ( منير)...
وكرد فعل غريزي، قفز إلي اسم واحد....
(ماسي).....
وشعرت بقلق شديد....
فلو أنها من كان يستمع إلى حديثي مع الأستاذ (منير)؛ فهذا يعني أنها تعرف أمرين هامين الآن.....
أوَّلهما: أنني قد كشفت علاقتها بالقتيل (صفوت).....
وثانيهما: أنني أخبرت الأستاذ (منير) بهذا....
فكيف سيكون رد فعلها إذن؟!...
كيف؟!....

شغلني الأمر كثيراً؛ حتى أن الوقت مرَّ سريعاً، وهبط الليل، وتوغَّل، حتى بلغت الساعة منتصف الليل تقريباً.
ولسبب ما، شعرت برغبة عارمة في شرب كوب من الشاي، في هذا الوقت المتأخَّر، على الرغم من معرفتي أنني لا أمتلك السكر، أو حتى الشاي....

فكّرت أن أقترض بعض الشاي والسكر، من جاري الأستاذ (علي)؛ ولكنني تذكَّرت كيف ترمقني زوجته بنظرات نارية ملتهبة، كلما رأتني على السلم، وتصوَّرت ما يمكن أن تفعله بي، لو دققت بابهم، في هذه الساعة.....

ولما كانت رغبتي في شرب الشاي ملحَّة، قررت أن أتحامل على نفسي، وأهبط إلى ذلك المقهى، عند ناصية الشارع، لتناول كوب من الشاي، وصل ثمنه إلى جنيه كامل، وأمري إلى الله....
فعلتها، وغادرت المنزل، وبدأت أهبط في درجات السلم، لخمسة طوابق كاملة، و...
التقيت بهذين الرجلين على السلم....
اثنان ليسا من سكان البناية، ويبدوان أشبه بالمصارعين، رمقاني بنظرة شرسة، وأحدهما يسألني في خشونة:
- أتعرف أين شقة (خالد خيري)؟!
أدهشني سؤالهما؛ فقلت في تردد:
- أنا ( خالد خيري).... من يريدني؟!
لم ينطق أحدهما بحرف واحد...
فقط انقضا عليّ، وحملاني كورقة شفَّافة، ودون أية مناقشة، ألقياني في بئر السلم
من الطابق الرابع.
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:26 AM

الحلقة العاشرة .....السقوط....


منذ طفولتى، وأنا مصاب بهلع مرضي من المرتفعات، حتى أنني أعجز عن مجرَّد النظر من مكان مرتفع....

وعندما بدأت رحلة البحث عن شقة صغيرة، في قلب القاهرة، كنت أبحث باستماتة عن شقة في الطابق الأرضي، أو حتى تحت الأرضي، ولكن من العسير، بل من المستحيل، في بلد مثل (مصر)، وفي عاصمة تعد من أكثر عواصم العالم ازدحاماً، مثل (القاهرة)، أن تسكن في شقة تناسبك، وخاصة لو كنت مثلي، تبحث عن شقة صغيرة، تناسب إمكانياتك، شبه المنعدمة.....

وللأسف، لم أجد سوى شقة صغيرة (جداً)، من حجرة واحدة، في الطابق الخامس من بناية نصف قديمة، ارتفاعها خمسة طوابق فحسب....

ولا أصف الشقة بالطبع، فهي مجرَّد حجرة واحدة ودورة مياه، وقليل جداً جداً من الأثاث، ولها نافذة واحدة، لم أفتحها منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام، هي كل فترة إقامتي في الشقة.....
تصوَّر الآن حال شخص مثلي، يلقيه مصارعان قويان، من الطابق الخامس!!...

الأمر كله لم يتجاوز لحظات، بدت بالنسبة لي أشبه بدهر كامل، وأنا أسقط....
وأسقط....
وأسقط....

ويمكنك أن تكررَّ هذا السطر الأخير، إلى ما لا نهاية، وتضيف إليه أنني كنت أصرخ.... وأصرخ، ويمكنك تكرار الكلمة إلى أبد الآبدين....

كنت واثقاً من أنني أشهد آخر لحظات حياتي البائسة، ولم أدر لحظتها هل ينبغي أن يفرحني هذا؛ لأنني سأنهي عمراً من الفشل والإحباطات المتتالية، أم يحزنني؛ لأنني لم أحظ بكوب الشاي بعد؟!....
وعلى أية حال، فالوقت لم يكن يكفي للشعور بهذا أو ذاك؛ فقبل حتى أن أتخذ قراري
ارتطم جسدي....
ولم أصدق نفسي حينذاك.....
لقد كان أمراً أشبه بما يحدث في أفلام السينما الساذجة، التي تمتلئ بالمصادفات المدهشة، دون أي تبرير منطقي....

فأنا لم أرتطم بالأرض....
بل بكومة كبيرة من الأثاث والمفروشات، التي أحضروها لفرش شقة العروس الجديدة، في الطابق الأول....

فجأة، شعرت بجسدي يرتطم بمرتبة إسفنجية سميكة، ثم يرتفع بضعة سنتيمترات، ويرتطم بها مرة ثانية، ثم ينزلق عنها إلى كنبة كبيرة، ومنها إلى الأرض....

كانت صدمتي بالأرض مؤلمة؛ ولكنها لن تقارن طبعاً بما يمكن أن تكون عليه، لو ارتطمت بالأرض، في غياب هذا الأثاث....

المهم أنني، وأنا ملقى أرضاً، سمعت صوت المصارعين يهبطان في درجات السلم في سرعة، فمنحني هذا قوة مدهشة، جعلتني أقفز واقفاً على قدميَّ، وأعدو بكل قوتي خارجاً....

ولأن الشارع الذي أسكنه صغير، وفي حي شعبي معروف / متاخم لمنطقة المهندسين، فقد هبَّ الكل إليَّ في دهشة وقلق، والتفوا حولي يسألونني عن سبب كل هذا الذعر الذي يملؤني.....

وبكل رعب وارتجاف الدنيا، أخبرتهم....
ولثوان، حدَّق في الجميع، كما لو كنت مجنوناً، ثم فجأة، وكما يحدث في الأحياء الشعبية كلها، اندفع الكل في حماسة وشهامة نحو منزلي؛ بحثاً عن المصارعين....

والمدهش أنهم لم يعثروا لهم على أدنى أثر!!!...

من الواضح أنهما قد استغلا حالة الهرج والمرج في الحي، ولاذا بالفرار بأقصى سرعة....

ولكن عملية البحث استغرقت ما يقرب من ثلاث ساعات كاملة، في المبنى والمباني المجاورة، قبل أن يقول المعلم (ماجد)، صاحب المقهى في استخفاف:
- يبدو أنه كان كابوساً يا أستاذ (خالد).

كان ينطقها دوماً بتفخيم حرف الخاء، على نحو مستفز، جعلني أقول، في شيء من الحدة:
- وهل سيلقيني الكابوس من الطابق الخامس؟!..

نظروا إلى بعضهم البعض في حسرة، كما لو أنهم يسمعون قصة مجنونة كصاحبها، ثم ربَت المعلم (ماجد) على كتفي، قائلاً:
- عد إلى منزلك يا أستاذ (خالد)، وتأكد من إحكام الغطاء حولك هذه المرة...

لم أحاول حتى مناقشته، أو معاتبته على ما قاله، ونسيت حتى أن أتناول كوب الشاي، وأنا أعود إلى شقتي، وأغلق بابها عليَّ في أحكام، وأضع خلفه المنضدة اليتيمة التي أملكها، والتي سيزيحها هذان المصارعان كلعبة صغيرة حتماً، إذا ما عادوا مرة أخرى....

كانت الساعة قد تخطت الثالثة صباحاً، فحاولت أن أنام، حتى يمكنني القيام بالواجبات المعتادة، وتحَّمل سخافات كرش الأستاذ (حازم)، عندما أذهب إلى المكتب، بعد بضع ساعات....

ولكن هيهات....
هيهات أن يزور النوم عيناً رأت ما رأيته أنا، في هذه الليلة الليلاء....
هيهات...

ولخمس ساعات كاملة، ودن أن أرفع عيني عن باب الشقة، رحت ألعن ذلك الذي تورَّطت فيه....

صحيح أنني أسعد كثيراً بلعب دور (شيرلوك هولمز)، إلا أنني لست مستعداً أبداً للعب دور (جيمس بوند)....
مهما كانت الأسباب....

صحيح أن (شون كونوري) يمتلك جاذبية خاصة، وكذلك (روجر مور) و(ثيموثي دالتون)، و(بيرس برسنان)، وحتى ( دانيال كريج)، إلا أن أحداً منهم لا يشبهني قط....

كلهم لديهم لحم يكسي عظامهم على الأقل....
ثم لماذا حاول هذان المصارعان قتلي؟!...

لا ريب في أنني قد عرفت سراً، لم يكن ينبغي أن أعرفه....
سر عرفوا أنني أعرفه....
ما هي علاقة (ماسي) بالقتيل؟!...
أم أن الأستاذ (منير) كان يدفع إيجار شقة صفوت؟!....

بحسبة بسيطة، أدركت أن الاحتمال الأول هو الأكثر منطقية، خاصة وأنني واثق من أن (ماسي) قد سمعت حديثي مع الأستاذ (منير)، عندما أخبرته بهذا....

ولكن هل يمكن أن تمتلك (ماسي) هذه العقلية الإجرامية، التي تدفعها إلى استئجار قاتلين محترفين؛ لقتل شخص ضئيل مثلي، كان يكفيه كلب من نوع اللولو، لأداء المهمة نفسها بكفاءة؟!...
أم أن لها شريكاً آخر؟!

كانت الساعة تدق تمام الثامنة، عندما قفزت إلى ذهني هذه الفكرة، وقفزت أنا بدوري من فراشي، وانأ أرتجف حماساً....
نعم... هذا يفسر كل شيء....

(ماسي) لها شريك.....
شريك قتل (صفوت)، في نفس الوقت الذي كانت فيه هي تثبت وجودها في المكتب، مع الأستاذ (منير).....

لهذا أكدت حجة غيابه في حماس....
فحجة غيابه، تعتبر في الوقت ذاته، حجة غيابها هي....
ولكن من هذا الشريك؟!...
من؟!....
* * *

كان صباحاً مرهقاً منذ بدايته....

الميكروباص صدم سيارة شرطة، والتف المخبرون حوله، وسمعنا صوت رنين أكفهم على قفا السائق، واضطررنا للنزول، وإيقاف ميكروباص آخر، ووصلت إلى المكتب متأخراً نصف ساعة كاملة، والأسوأ أنني وجدت الأستاذ (حازم) هناك، بكرشه الضخم، ووجهه البطيخى الغاضب، وصراخه الذي كاد يلقيني خارج المكتب كعاصفة من النار، فور دخولي....

وعلى غير المعتاد، وبخني الأستاذ (حازم) أمام الجميع، ولكنه لم يستخدم يديه أو قدميه كالمعتاد، والحمد لله، ثم طردني تقريباً من المكتب، ليس بصفة دائمة، ولكن لكي أكمل جمع ما يريد من معلومات، وهو يصرخ في وجهي:
- نريد معلومات لصالح الموكَّل، وليس ضده أيها الغبي.

خرجت من المكتب مسرعاً، حتى أهرب من نظرات الزملاء، وما إن أصبحت في الشارع، حتى شعرت براحة عجيبة....

راحة جعلتني أستقل أول ميكروباص صادفني، وأتجه به إلى محطة (رمسيس)، في طريقي إلى (مصر الجديدة)، حيث منزل القتيل....

وعندما وصلت إلى المكان، وقبل أن أتجه إليه مباشرة، رأيت مشهداً جعلني أتسمر في مكاني لحظة، ثم أسرع بالاختفاء.....

لقد كانت (ماسي) هناك، تقف مع البوَّاب، وتتحدَّث إليه في مودَّة مدهشة.....
مودَّة جعلتني أدرك الحقيقة.....
حقيقة شريك (ماسي).
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:28 AM

الحلقة الحادية عشر ... الشريك ...

ربع الساعة، قضتها (ماسي) تتحدَّث إلى بوَّاب البناية، في مودة شديدة، توحي بأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ زمن، وفي نهاية المحادثة رأيتهما يتصافحان...

لم تكن مصافحة بالمعنى المعروف، ولكن (ماسي) كانت تضع في يده رزمة مالية، من فئة المائتي جنيه، التقطها هو متظاهراً بمصافحتها، قبل أن يدس الرزمة في جيبه في سرعة، وتنصرف هي....

زمن طويل مضى، منذ أن رأيت ورقة مالية من فئة المائتي جنيه، فما بالك برزمة كاملة منها؟!....

ثم إنني، ودون أن أشعر، وجدت نفسي أحقد على ذلك البوَّاب، وأتساءل: لماذا أخطأت في اختيار مهنتي؟... لماذا؟!....

كانت (ماسي) تقرب من حيث أختبئ، وهي تتحدَّث عبر هاتفها المحمول، فتواريت خلف كشك صغير، وشعرت بها تمر إلى جواري، وهي تقول عبر الهاتف:
- إنه يعلم، ولكنه لن يخبر أحداً.... اطمئن.

أدهشتني تلك العبارة تماماً، فمنذ لحظات، تصوَّرت أنني قد حللت اللغز، وعرفت من هو شريك (ماسي)....

كنت أتصوَّر أنه البوَّاب، ثم انسحق هذا التصوَّر سحقاً بعبارتها هذه، والتي تشير إلى أنها كانت ترشوه، ولا تتحدَّث فقط معه..

هناك شريك آخر... شريك خفي...
تبعتها سراً في حذر، في محاولة لمعرفة شيء عنها...
أي شيء....

وهناك... عند الناصية التالية، كانت هناك سيارة تنتظرها، وبداخلها شاب وسيم قوي، مفتول العضلات، يحاول إخفاء ملامحه بنظارة شمس ضخمة....

وفي خطوات سريعة، اتجهت (ماسي) نحو السيارة، وقفزت داخلها، فانطلقت بها السيارة على الفور....

وكما ينبغي أن يفعل أي مخبر يقظ، أسرعت التقط وأدوَّن رقم السيارة ، قبل أن تختفي عند نهاية الشارع..

ودون إضاعة ثانية واحدة ، استقللت ميكروباصاً آخر، إلى إدارة المرور مباشرة..

لم تكن السيارة مسجَّلة في إدارة مرور القاهرة، ومشكلة الأرقام الجديدة، ذات الحروف الثلاثة والأرقام الثلاثة، أنها لا تحدَّد إلى أية إدارة مرور تنتمي السيارة..

والمشكلة في أنها لا تتبع إدارة مرور (القاهرة) أنني مضطر لركوب ميكروباص آخر، حتى إدارة مرور (الجيزة)...
كان الأمر يستلزم دفع إكرامية، التهمت تقريباً كل ما تبقى من راتبي، حتى أحصل على اسم وعنوان مالك السيارة..
(أحمد منصور شوكت)..

كان الاسم يظهر لأول مرة في القضية، ولكنني حملت الورقة، التي تحمل اسمه وعنوانه، وعدت إلى المكتب؛ لأستدين خمسة جنيهات من الآنسة (حنان)، التي رمقتني بنظرة ساخرة، وهي تسألني:
- ماذا أصابك؟ هل تلعب القمار هذه الأيام؟!

أجبتها في حسرة:
- بمرتب كالذي نتقاضاه هنا، يمكن أن يفلسنا إدمان الفول السوداني واللب.

ضحكت بشدة، وراقت لها عبارتي، على الرغم من مرارتها، ولكن الأهم هو أنها قد أعطتني الجنيهات الخمسة، التي اختطفتها من يدها اختطافاً، وأنا أعدو خارجاً كالمجنون..

كان الأمر قد سيطر عليَّ تماماً، حتى لم يعد بالنسبة لي مجرَّد قضية، من قضايا المكتب، بل صار قضية شخصية..
وشخصية جداً أيضاً..

فبعد محاولة قتلي أمس، أصبح حل لغز القضية بالنسبة لي، مسألة حياة أو موت، فماداموا قد فعلوها مرة، فلن يمنعهم أي شيء من فعلها مرة ثانية، أو حتى ثالثة، حتى يضمنوا سكوتي..
إلى الأبد..

مرة أخرى حقدت على ذلك البوَّاب؛ لأنهم اكتفوا برشوته، حتى يغلق فمه، ولم يحاولوا رشوتي بدلاً من قتلي!!!
يا للأوغاد!!..

خرجت من البناية، ورأيت لحسن الحظ سيارة ميكروباص تتجه نحوي، فأسرعت أعبر الطريق، وأنا أهتف بسائقها:
- قف.

وفجأة، سمعت صرير إطارات قوية يقترب مني..

ثم شعرت بالصدمة..

صدمة عنيفة، طار معها جسدي في الهواء بمعنى الكلمة، ودون أدنى مبالغة، وارتطم بذلك الميكروباص، ثم سقط على الأرض" لقد فعلوها مرة أخرى"..

كان هذا آخر ما جال بخاطري، قبل أن تظلم الدنيا من حولي..
تماماً..
* * *
للمرة الأولى في حياتي أعرف ما هي الغيبوبة، التي تحدث كثيراً لأبطال معظم الروايات التي أقرأها طوال عمري..

للمرة الأولى أمر بها، وأفقد وعيي فجأة، وافتح عينيَّ، وأحدق في الوجوه التي مالت تتطلَّع إليَّ، وأنا مازلت أرقد على أرض الشارع، مما يعني أنني لم أستغرق وقتاً طويلاً بين فقدان الوعي واستعادته...

كانت هناك وجوه عديدة مجهولة بالنسبة لي، وبينها وجهان فقط اعرفهما.. (حسن)، و(حلمي هولمز)..

كانا مذعورين حقاً، ولقد هتف الثاني في لهفة، في نفس اللحظة، التي فتحت فيها عينيَّ:
- أأنت بخير؟!

سألته في دهشة :
- ألم أمت بعد؟!

ابتسم (حلمي) وهو يقول:
- للأسف!

وأضاف (حسن) في لهفة متوترة:
- لقد كنت تعبر الشارع مسرعاً، فصدمك ميكروباص آخر.

هتفت في دهشة:
- ألم يحاولوا قتلي؟!

سمعت صوتاً يهتف في غضب:
- ولماذا نحاول قتلك يا أستاذ؟! أنا لا أعرفك أصلاً!

كان سائق الميكروباص الذي صدمني، يدافع عن نفسه؛ فقلت في سرعة، وأنا أحاول النهوض:
- لا بأس.. أنا المخطئ.. لقد عبرت الشارع في سرعة، ودون أن أنظر.

عاونني (حلمي) على النهوض، وهو يقول للسائق مهدداً:
- نحن مكتب محامٍ، وسنلاحقك قضائياً.

راح السائق يحاول الدفاع عن نفسه، وعن رعونة قيادته، واستهتاره بكل قوانين المرور، وتجاهلته أنا تماماً، وأنا أستند إلى ذراعَي (حسن) و(حلمي)، الذي هتف بنفسي اللهجة التهديدية، ونحن نتجه إلى البناية:
- لقد حصلنا على رقمك، وستبيع هذا الميكروباص؛ لتسدَّد التعويض الذي سنطلبه.

هتف السائق بعبارتين ساخطتين، كل ما فهمته منهما هو أن كل الركاب قد غادروا الميكروباص بعد الحادث، دون أن يدفعوا الأجرة، و..

وفجأة قفزت إلى ذهني فكرة، بدت لي آنذاك عبقرية، فتملَّصت من ذراعَي (حسن) و(حلمي)، وأنا ألتفت إلى السائق قائلاً:
- إلا إذا..

رمقني (حلمي) بنظرة صارمة غاضبة، و(حسن) بنظرة مندهشة حائرة، في حين تساءل السائق في لهفة:
- إلا إذا ماذا؟!

أجبته في حزم، تقمصت خلاله شخصية (رشدي أباظة):
- إلا إذا أوصلتني إلى شارع الثورة في (مصر الجديدة) .

وتفجرَّت دهشة الجميع..
بلا استثناء..

ولكنه فعلها..
وأوصلني إلى هناك..
إلى عنوان (أحمد منصور شوكت)..

كان يقيم في الطابق الثالث من بناية جديدة، في منتصف شارع الثورة تقريباً، وأسفله مطعم شهير، آلمت الروائح المنبعثة منه معدتي، وذكّرتها بالجوع الذي أعانيه منذ الأمس، وبأن الجنيهات الخمس في جيبي، لن تكفي حتى ثمن ساندويتش صغير منه..

المهم أنني قاومت جوعي، وسددت أنفي، وأنا أسرع إلى البناية وأتجه مباشرة إلى مصعدها الفاخر، وحارس البناية يلاحقني، هاتفاً:
- إلى أين يا أستاذ؟!

تظاهرت بالدهشة، وأنا أقول:
- ألم يخبرك (أحمد بك شوكت) بأنني قادم إليه؟! لقد طلب مني الحضور على وجه السرعة..

أجابني في صرامة:
- لابد وأن أتصل به أولا.

اتجه نحو الهاتف الداخلي، فأسرعت استقلّ المصعد إلى الطابق الثالث، وأنا أسمعه يهتف خلفي:
- انتظر يا أستاذ.

لم يكن العثور على شقة (أحمد) عسيراً، في الطابق الذي يضم أربع شقق؛ فقد كانت تحمل لافتة باسمه، فأسرعت أضغط جرس الباب، وسمعت خطوات تقترب، و..
و... و... وفتح الباب..

وكدت أشهق بمنتهى القوة..
فالذي فتح الباب لم يكن (أحمد)..

كان (ماسي)..
السكرتيرة (ماسي) .
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:29 AM

الحلقة الثانية عشر .... اللغز ...

لو أنك لم تر أبداً ذلك الذهول المصدوم، الذي تقرأ عنه في الروايات البوليسية، لكان ينبغي أن تشاهد وجه الآنسة (ماسي)، عندما فتحت الباب، فوجدتني أمامه...

لقد اتسعت عيناها على نحو، لم أتصوَّره أبداً ممكناً، ومال عنقها برأسها إلى الأمام، وسقطت شفتها السفلى على نحو مضحك، في حين سمعت صوتاً شاباً من الداخل، يسألها:
- هل وصل؟!

ابتسمت وأنا أقول:
- مساء الخير يا آنسه (ماسي).

لم تنطق (ماسي) بحرف واحد، من شدة صدمتها، في حين ظهر ذلك الشاب، الذي كان ينتظرها في السيارة خلفها، وتطلَّع إليَّ في دهشة حذرة، وهو يقول:
- من أنت؟!

أجبته، محاولاً بث أكبر قدر من الحزم في صوتي:
- أنا (خالد) يا أستاذ (أحمد)... (خالد) من مكتب الأستاذ (حازم).

انعقد حاجباه في توتر شديد، وهو يهتف:
- من؟!

أجابته (ماسي)، في عصبية شديدة:
- (خليل) يعمل في مكتب المحامي، الذي حدَّثتك عنه.

قلت في غضب:
- (خالد) يا آنسه (ماسي).... (خالد).

عادت تحدَّق في وجهي على نحو عجيب، في حين هتف (أحمد) في غضب:
- وماذا تفعل هنا؟!

أشرت إليه، قائلاً:
- هل تحب أن أتحدَّث هنا، أم في الداخل؟

بدا من الواضح أنه سينفجر في وجهي غضباً، ولكن (ماسي) استوقفته بحركة صارمة، تشف عن مدى سيطرتها عليه، وهي تقول في عصبية:
- أستاذ (خليل)... لا يمكننا استقبالك الآن، فنحن في انتظار قريب لنا، و...

قاطعتها وأنا أقول في صوت، تعمدَّت أن يبدو مرتفعاً:
- كنت هنا فقط لسؤالك: هل يعلم الأستاذ (منير) بعلاقتك بالقتيل (صفوت)، وببوَّاب بنايته؟!... وهل يعلم أساساً بوجود الأستاذ (أحمد)، وبأنه....

قاطعتني هي هذه المرة، وهي تفسح أمامي المدخل، قائلة في عصبية شديدة:
- ادخل.

كانت فرصة، يصعب أن أضيّعها، لذا فقد أسرعت أدخل الشقة، التي أغلق (أحمد) بابها خلفي، وهو يقول في صرامة:
- من الواضح أنك تعرف الكثير؟!

قلت، محاولاً أن أبدو صارماً:
- ألهذا حاولتما قتلي أمس؟!

كنت أريد عبارتي صارمة؛ إلا أنها جاءت مرتعشة مرتجفة، ناقلة ما أشعر به، في كل خلية من جسدي، فانعقد حاجبا (ماسي) في شدة، في حين هتف (أحمد) مستنكراً:
- قتلك؟!!

ثم التفت إلى (ماسي)، مكملاً في عصبية؟!

أجابته في بطء أقلقني جداً:
- إنه مجنون.

ثم أمسكت هاتفها المحمول، وضغطت أزراره، قائلة:
- سأتصل بالشرطة.

حاولت أن أبدو هادئاً، وأنا أقول:
- افعلي؛ فلديّ الكثير لأخبرهم به.

هتفت عبر الهاتف في توتر:
- الشرطة... أرجوكم، احضروا بأقصى سرعة.

ثم أنهت المحادثة، وهي تقول لي في عصبية.
- لست تملك ما تقوله لهم.

قلت، محاولاً التظاهر بالقوة، وكل ذرة في كياني ترتجف في رعب:
- يكفي أن أخبرهم ما أعرفه.

راح (أحمد) ينقل بصره بيني وبينها في عصبية، في حين هتفت هي:
- كل شيء له أكثر من تفسير... ما ستقوله لهم مجرَّد معلومات، يستحيل عليك تأكيدها، وحتى لو فعلت، فلدي تفسير لكل لمحة منها..

هتف (أحمد) عندئذ، في عصبية شديدة:
- أريد أن أفهم ما يحدث هنا.

سمعنا في تلك الفترة طرقاً قوياً على الباب، فاعتدلت هي، وبدا وكأنها قد اكتسبت فجأة قوة وثقة، وهي تعقد ساعديها أمام صدرها، قائلة:
- لقد وصلوا.
قالتها، واتجهت نحو الباب لتفتحه، و....
وفجأة، انتبهت إلى أمر، لم أدر كيف لم أنتبه إليه لحظتها.....
إنها لم تخبر من أجرت اتصالها بهم، بعنوان منزلها....
وهذا يعني أمراً واحداً....
أنهم يعرفون المكان.....
ويعرفونها....

وهذا يعني بالتبعية أنهم ليسوا من رجال الشرطة....
حتماً....

قفزت من مكاني، وتلفَّتّ حولي في توتر، بحثاً عن مهرب، في حين فتحت هي الباب، وهي تقول، في شيء من الارتياح:
- وصلتم في الوقت المناسب.

وعند الباب ظهر المصارعان، اللذان ألقياني من الطابق الخامس بلا تردَّد....
واتجها نحوي مباشرة....
وبدون تفكير، وعلى الرغم من جهلي بالمكان، انطلقت أعدو فيه بكل قوتي....

والمدهش أنني، من فرط رعبي، نسيت حتى ساقي المصابة، أو أنني لم أبال بها، وأنا أسعى للحفاظ على ما هو أهم....
على حياتي....

ولقد كان المشهد، على الرغم من كل الرعب الذي أشعر به، أشبه بمشهد هزلي، في فيلم من أفلام (شارلي شابلن) القديمة....

كنت بحجمي الضئيل أجري داخل المكان، ومصارعان قويان يطارداني كما لو كنت فأراً صغيراً، يطارده قطان ضخمان لافتراسه، وأنا أقفز من مكان إلى آخر، بالضبط كما لو كنت ذلك الفأر....

أما (أحمد)، فقد راح يصرخ:
- ماذا يحدث هنا؟!

وعلى الرغم من حالة الذعر والهلع الشديدين، التي كنت أمر بها، انتبهت إلى حقيقة هامة جداً....
(أحمد) لا يعرف شيئاً عما يحدث....
و(ماسي) متورَّطة فيه حتى النخاع.....
وهذا جعل الحقيقة تضيء في ذهني واضحة جلية....

(ماسي) هي التي دبرَّت كل شيء منذ البداية، وبمعاونة بوَّاب البناية، ومن الواضح أن كليهما كان يكره (صفوت) بشدة.....
وكان من الطبيعي أن يتعاونا على قتله....

(ماسي) أقامت علاقة ما معه، حتى اطمأن إليها، وحصلت على كل أسراره، ثم دبرت الأمر بإحكام، مستغلة عملها في مكتب (منير)... علَّمت البوَّاب كيف يستخدم مغيَّر الصوت الرقمي، وأثبتت وجودها في مكتب (منير)، عندما كان البوَّاب يقتل (صفوت).

ولأنها تعرف (منير) جيداً، بحكم عملها معه، كانت تعرف أنه سيهرع إلى شقة (صفوت)، فور تلقيه الاتصال....

ومن المؤكد أنها قد حصلت على زر كم سترته مسبقاً، وجعلت البوَّاب يضعه هناك، في مسرح الجريمة، ثم يشهد بوجود( منير)، فيصبح المشتبه فيه رقم واحد....

كنت أرغب في الاستطراد في الشرح، لولا أن المطاردة الداخلية وصلت لما كان متوقعاً لها....
لقد وقع الفأر في براثن القطين الضخمين....

هل سمعتم في حياتكم عن فأر نحيل، استطاع الفرار من قطين هائلين؟!..
بالطبع مستحيل....

ولقد كنت ألهث في شدة، عندما وضعاني عنوة على الأريكة، في مواجهة (ماسي)، و(أحمد) مازال يصرخ:
- أريد أن أعرف ماذا يحدث؟!

أجابته (ماسي) في برود مخيف:
- مجرَّد مشكلة، سننتهي منها خلال لحظات.

قال في صرامة:
- دعيني أفهم أولاً.

استدارت إليه في شراسة مخيفة، جعلتها أشبه بالأفعى (سونيا جراهام) في روايات (رجل المستحيل)، وهي تصرخ:
- اخرس.

تراجع (أحمد) مصعوقاً، في نفس اللحظة التي سمعت فيها صوت دوران مفتاح في الباب....

وتحرَّكت (ماسي) في عصبية، في نفس الوقت الذي فُتح فيه الباب، ودخل منه شخص يقول:
- ماذا يحدث؟!

وانتفض جسدي بمنتهى، منتهى العنف.
فذلك القادم كان آخر شخص يمكنني توقعه...
على الإطلاق.
* * *

السنيورا الغامضة 06-10-09 11:31 AM

انتظرونى قربياًان شاء الله مع الحلقة الاخيرة من ......

جريمة رقمية............

للعبقرى د. نبيل فاروق ......

منى توفيق 06-10-09 12:53 PM


سنيورا يا رائعة ^^ ... سلمت يداكي وبانتظار التكملة يا عسل ... جزاك الله الف خير

السنيورا الغامضة 06-10-09 08:11 PM

الحلقة الأخيرة ...

الأستاذ (منير)....
ذلك الذي فتح باب الشقة بمفتاحه، ودخلها في بساطة، وكأنه اعتاد هذا طويلاً، كان الأستاذ (منير).....

ولقد وقع بصره عليَّ، ووقع بصري عليه، وانتفض كلانا في قوة، وألجمت المفاجأة لساني، في حين هتف (منير) ذاهلاً:
- أنت؟!...

أجابته (ماسي) في عصبية:
- لقد كشف تقريباً كل شيء.

هتف وهو يشير إليَّ مستنكراً:
- هذا؟!

أحنقني استنكاره هذا؛ خاصة وأن وصوله قد أضاء الحل الحقيقي في ذهني دفعة واحدة:
الأستاذ (منير) هو المدبَّر الحقيقي لكل هذا...

ربما قتل سكرتيرته السابقة أو لم يقتلها؛ ولكن شقيقها (صفوت) كان يبتزه في كل الأحوال، ويجبره على أن يدفع له مبالغ مالية شهرية؛ بالإضافة إلى تهديداته المستمرة بالإساءة إلى سمعته في السوق، حتى سئم هو كل هذا، وقررَّ التخلَّص من (صفوت)....

وعلى عكس ما فهمت، كان (منير) هو الذي دسَّ (ماسي) في شقة (صفوت)، حتى تنقل إليه تفاصيل حياته، ثم اختار لحظة رتّبَاها معاً، ليضرب ضربته.....

لم يكن هناك مُبَلّغ مجهول، أو أجهزة تغيير صوت رقمية أو غيره؛ فقد ذهب (منير) إلى (صفوت) في شقته، وهناك، وأثناء عمل هذا الأخير على جهاز الكمبيوتر، باغته بضربة قاتلة، سقط معها زر قميصه في مسرح الجريمة، قبل أن يفرَّ منها، ويراه البوَّاب؛ مما استلزم اعترافه بالذهاب إلى هناك، معتمداً على خطة رقمية، أثبت بواسطتها وجوده في مكتبه، ساعة ارتكاب الجريمة، وبشهادة عدد من الشهود....

وهنا تكمن اللعبة.....

الشهود جميعهم سمعوا صوت (منير) فقط، وهو يتفاعل معهم.....
و(ماسي) وحدها شهدت بأنها قد رأته...

ولكن الواقع أنه لم يكن في مكتبه من الأساس....
كان يرتكب جريمته، التي ما إن ارتكبها، حتى أجرى اتصالاً بكمبيوتر مكتبه، عبر شبكة الإنترنت، وباستخدام أحد برامج التخاطب والرؤية المباشرة، وهي كثيرة، كما تقول الآنسة (حنان) دوماً، راح يتحدث مع (ماسي) ويتفاعل معها، وسمَّاعات الكمبيوتر الكبيرة تنقل صوته في وضوح للجالسين في الخارج، والذين تصوَّروا أنه داخل مكتبه، يتفاعل معهم مباشرة.....

أما البوَّاب؛ فهو مجرَّد رجل طمّاع، وجد لديه فرصة لابتزاز أحد رجال الأعمال الكبار، فاغتنمها.....

" ماذا سنفعل به؟!..."

ألقى (منير) السؤال في توتر، فقالت (ماسي) في عصبية:
- لن يفسد كل ما فعلناه.

صرخ (أحمد) هذه المرة في عصبية شديدة:
- أخبروني ماذا يحدث هنا..

صرخت فيه (ماسي) في غضب مماثل:
- هل تتظاهر بالغباء؟!... ألم تفهم كل شيء منذ البداية؟!... هل تصوَّرت أن (منير) سيعطينا مائة ألف جنيه، فقط لنراقب (صفوت)...

امتقع وجهه، وهو يقول:
- أتعنين أنني شاركت في....

قاطعته بنفس الغضب:
- في قتل (صفوت).... نعم... سواء كنت تعلم أم لا؛ فأنت شريك متضامن معنا، ولقد قبضت الثمن مقدماً.... هل تذكر هذا؟!

ازداد امتقاع وجه (أحمد)، وتراجع مرتجفاً مصدوماً، حتى سقط على مقعد كبير، وأخفى وجهه بين كفيه، وراح ينتحب بصوت مكتوم وهو يرددَّ:
- ماذا فعلت بنفسي... ماذا فعلت بنفسي؟!...

قال (منير) في عصبية:
- شقيقك هذا يمكن أن يكشف أمرنا بضعفه.

قالت في عصبية:
- ليس شقيقي... إنه أخي من أمي فحسب.

أشار إليَّ، قائلاً:
- وماذا عن هذا؟!

انعقد حاجباها في شدة، وأشارت إلى المصارعين، قائلة في لهجة شرسة:
- أريد أن يبدو الأمر كحادثة.

لم تكن حتى قد أتمت عبارتها، حتى انتزعني المصارعان من مكاني في عنف، واتجها بي نحو الشرفة، و....
عاودني رعب المرتفعات.... بعنف....
* * *
حتى في أفلام السينما التي عشقت متابعتها منذ طفولتي، لم تَسِر الأمور بدقة على هذا النحو المدهش...

ففي نفس اللحظة، التي هَمّ فيها المصارعان بإلقائي من شرفة المنزل، سمعنا تلك الطرقات العنيفة على باب الشقة....

وعلى نحو أجمل مما يحدث على شاشة السينما، اقتحم رجال الشرطة المكان، وهتف ضابطهم بكل الصرامة:
- ارفعوا أيديكم جميعاً...

وصرخ (أحمد) واتسعت عينا (منير) عن آخرهما، في حين امتقع وجه (ماسي) في شدة، وهي تهتف:
- مستحيل!..... مستحيل!!!

أما (حلمي هولمز) فقد اندفع نحوي، من بين رجال الشرطة، وهو يهتف:
- (خالد)... أأنت بخير؟!

وعندئذ، وللمرة الثانية في حياتي.... فقدت الوعي....
* * *
"(خالد) لعبها بعبقرية يا أستاذ (حازم)..."

عقد الأستاذ (حازم) كفيه خلف ظهره في صعوبة، ومد كرشه إلى أقصى الأمام، وعقد حاجبيه في صرامة، وهو يستمع إلى (حلمي)، الذي وضع يده على كتفي في فخر، شاركته إياه بالطبع، مكملاً في حماس:
- قبل أن يذهب إلى شقة (أحمد) هذا أعطاني عنوانها، وطلب مني أن أنتبه طوال الوقت، وعندما بدءوا مطاردته هناك، طلب رقمي من هاتفه المحمول، وترك الخط مفتوحاً، وكنت أنتظره في أوَّل الشارع كطلبه، فسمعت كل ما حدث، وأبلغت الشرطة فوراً..

قالت الآنسة (حنان)، ما بين الانبهار والحيرة:
- وكيف وصلت الشرطة بهذه السرعة؟!... بل وكيف أقنعتهم باقتحام شقة (أحمد)، على هذا النحو الذي وصفته؟..

ضحك، قائلاً:
- أخبرتهم أن بها إرهابيين، يستعدون لتفجير المبنى.

وقفت صامتاً طوال الوقت، مكتفياً بابتسامة زهو، باعتباري، ولأوَّل مرة في حياتي، ألعب دور البطولة، بعد سنوات طوال من لعب دور الكومبارس الصامت....

ولقد بدا (حسن)، ولأوَّل مرة مبهوراً بما يسمعه عني، في حين ربَّت (حلمي هولمز) على كتفي، قائلاً:
- الواقع أن (خالد) كان عبقرياً هذه المرة.

غمغمت الآنسة (حنان):
- ولآخر مرة.

لم أفهم تعليقها، وأنا أنظر إلى الأستاذ (حازم) في لهفة، منتظراً رد فعله؛ خاصة وأن وجهه بدا منتفخاً محمراً كالمعتاد، وهو يقول بصوته الضخم الفخم:
- ما فعلته يا (حلمي) أنقذ حياة (خالد)، ولكنه سيعرضك لتهمة البلاغ الكاذب، ولما كان بلاغك الكاذب يتعلَّق بالإرهاب؛ فأعتقد أن هذا سيعرضك للمساءلة في مباحث أمن الدولة.

امتقع وجه (حلمي)، وشعرت بيده ترتجف، وهو يرفعها عن كتفي، في حين التفت إليّ الأستاذ (حازم)، قائلاً:
- أما بالنسبة إليك، أتعلم ماذا فعلت بالمكتب؟!...

سألته، وابتسامتي لاتزال تملأ وجهي:
- جعلته شهيراً؟!..

صرخ بكل الغضب:
- بل جعلته يخسر أكثر من مليون جنيه.

والآن، ومنذ ذلك اليوم، مازلت أطمح في شرب كوب من الشاي، ومازلت لا أملك السكر أو الشاي.....

فهل لدى أحدكم وسيلة، لإقناع الأستاذ (حازم)، بإعادتي إلى عملي، قبل أن أمتهن التسوَّل، أمام جامع الحسين؟!
هل؟!..
* * *

تمت بحمد الله

مع خالص تقديرى واعتزازى للدكتور نبيل فاروق.....
وخالص شكرى وعرفانى لاسرة موقع ليلاس ...
ولمن سيقوم بالرد على الموضع ...


السنيورا الغامضة ......؟

منى توفيق 06-10-09 08:35 PM

سلمت يداكي عزيزتي سنيورا ... والله انك رائعة ... شـكــ وبارك الله

فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية ... بانتظار جديدك وتميزك دائما

لؤلؤة المحيط 06-10-09 09:27 PM

تسلم الايدين الحلوة على الرواية

ABDULLAH OMAR 07-10-09 11:04 AM

جزاك الله خيرا يا سنيورتى.

Eman 09-10-09 01:42 PM

تسلم ايديكي عزيزتي سنيورا على الرواية الرائعة..
يعطيكي ربي الف عافية..
موفقة..

malak2007 21-01-10 03:18 AM

مشكووووووووووووووووووورة

AZAHEER 23-02-10 06:11 AM

thaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaanks

جنون العشق 29-10-10 06:21 PM

رواية رائعة مثل ماعودنا الدكتور نبيل فاروق

مشكوووووووووورة

sad moon 22-11-10 01:48 AM

very nice from u i really like it thanks again


الساعة الآن 05:53 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية