منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   أغاثا كريستي , روايات أغاثا كريستي (https://www.liilas.com/vb3/f186/)
-   -   اغاثا كريستي , الطائرة الضائعة (https://www.liilas.com/vb3/t119380.html)

جيرمون111 14-09-09 10:43 AM

اغاثا كريستي , الطائرة الضائعة
 
الطائرة الضائعة


ازاح الرجل الجالس إلى المكتب ثقالة الورق إلى يمينه بضع بوصات . كان وجهه اقرب إلى أن يكون جامد السمات خلوا من التعبير اكثر من ان يكون غارقا في التفكير او شارد الذهن . وكان من الصعب عليك ان تتكهن بحقيقة عمره ، فهو لا يبدو كهلا ولا يبدو شاباً فقد كانت بشرته ناعمة ملساء خاليه من الغضون وإن أطلت من عينيه نظرة تستشف منها الإعياء .

أما الرجل الآخر الذي يشاركه الغرفة نفسها فأكبر سنا وكان ملوح الوجه اسمرارا ، وله شارب صغير عسكري الطراز ، وكان يبدو ملولا لا يستقر على مقعده ، ولا يفتأ يذرع الغرفه جيئة وذهابا ، ومن حين لآخر يلقي بملاحظاته في كلمات حانقه .

إنفجر يقول ساخطاً :

-كلها مجرد تقارير ! تقارير وتقارير ولكن لا نفع فيها ..

وتطلع الرجل الآخر الجالس إلى المكتب في الأوراق المكدسة امامه ، والتي رشقت فيها بطاقة تحمل هذه الكلمات ( بيترتون ، توماس شارل) وبعد الاسم علامة استفهام كبيره .

ورفع الجالس إلى المكتب رأسه عن الأوراق وقال :

-إنك طبعا قرأت كل هذه التقارير . أفلم تجد فيها بادرة ذات جدوى؟

فأجاب الآخر متسائلا :

-من يدري ؟!

-صدقت .. تلك هي المشكله .. فلا أحد يستطيع ان يقطع برأي .

وعقب الأكبر سنا بسيل من الكلمات بدا وكأنها تنطلق من مدفع رشاش :

-تقارير من روما .. وتقارير من تورين .. لقد شوهد في الريفيرا.. وشوهد في انتورب .. من المؤكد أنهم رأوه في أوسلو .. ومن المؤكد أنه رؤي .. في ستراسبورج، وكان سلوكه باعثا على الريبه ، وكذلك شوهد في شاطئ اوستند وفي صحبته شقراء رائعة الجمال .. والبعض لمحوه في شوارع بروكسل ومعه كلب سلوقي .

ثم أردف في نبرة تتسم بالسخريه :

-لم يبق إلا أن يشاهد في حديقة الحيوان ، يحتضن حمارا مخططاً وحشياً .

وقال صاحب المكتب :

-إنك رجل تفتقر إلى الخيال يا هوارتون أما أنا فأعلق شيئاً من الأهمية على تقرير انتورب.

وارتمى الكولونيل هوارتون جالساً على مسند مقعد ، وقال في إلحاح :

-ولكن يجب أن نميط اللثام عن هذا اللغز، يجب أن نجد جوابا على هذه الأسئلة : (كيف واين ) إنك لا تستطيع ان تسكت على اختفاء عالم فذ كل شهر تقريبا ثم تجد نفسك عاجزا عن الإجابة على هذه الأسئلة البسيطة : ( كيف ولماذا وأين ) .أتراه حيث تعتقد أنه موجود أم انه ليس هناك ؟!

ثم أردف :

-أتراك قرأت نتيجة التحريات الأخيره ، عن بيترتون في أمريكا ؟!

وأومأ الرجل الجالس إلى المكتب برأسه إيجابا وقال :

-الميول اليسارية المعروفة نفسها ، في الوقت الذي شاعت فيه واعتنقها الناس جميعا .. ميول غير ثابتة وذو طبيعه غير مستقره كما تبين فيما بعد ، وقبل الحرب انجز أعمالا هامة ذات شأن ، وعندما هرب مانهيم من ألمانيا عين بيترتون مساعداً له ، وانتهى به الأمر إلى أن تزوج ابنة مانهيم . ثم قفز إلى الشهرة باكتشافه المثير لتحطيم الذره ، والحق ان تحطيم الذره كان من دون شك اكتشافا ثوريا دفع بيترتون إلى القمه وجعل منه قطبا من اقطاب العلوم الذريه. ولكن زوجته مالبثت ان ماتت عقب الزواج، فانهار بيترتون حزنا عليها وفجعه موتها ، ثم جاء إلى انجلترا وعمل في هارويل ثمانية عشر شهرا ، ومنذ ستة شهور تزوج للمرة الثانيه .



فتساءل هوارتون في حدة :

-وما معلوماتنا عن زوجته ؟!

-لا شيء ذو أهميه ، كل مانعرفه عنها انها ابنة محام من اهل المنطقة وكانت تعمل في إحدى شركات التأمين قبل زواجها ، وليست لها فيما عرفنا اتجاهات سياسية واضحه .

-وما الذي يقولونه عنه في هارويل ؟

-شخصية لطيفة محبوبه أما عن عمله فلا شيء ذا شأن بارز ، مجرد تحسينات أدخلها على جهاز تفتيت الذرة.



وران الصمت على الرجلين برهة من الوقت وكان حديثهما مجرد ثرثرة قطعا للوقت ، لا تتسم بشيء من الجدية فإن تقارير الأمن لا تحتوي عادة على شيء جدير بالاهتمام .

قال هوارتون متسائلا:

-وطبعا كانت تحركاته محل مراقبه ، منذ حط قدميه في انجلترا ؟!

-وكان كل شيء مرضيا تماما.

فقال هوارتون متأملا:

-ثمانية عشر شهرا وهو تحت المراقبه . إنك تعلم أن هذه المراقبة تثير اعصابهم .. إحتياطات الأمن المتواصلة تحطم نفسيتهم ، الشعور بأنهم دائما تحت المجهر ،، هذه الحياة المحسوبة عليهم في كل حركة من حركاتهم وكل لفتة من لفتاتهم .. كل هذا كفيل بأن يجعلهم عصبيين وان يحملهم على تصرفات شاذه. فقد رأيت الكثير من هذه الحالات .



وسكت هنيهة ثم استطرد يقول :

-وعندئذ يبدأون في أن يحلموا بعالم مثالي ، عالم تسوده الحريه والأخوه ، وتتشارك فيه الدول في اسرارها العلميه ذات الطابع العسكري ، وتعمل متضافره من أجل خير الإنسانيه .وتلك هي اللحظه الملائمة كي ينقض عليهم شخص لا يهمه إلا أن يدمر الإنسانية ، إنه يرى الفرصة السانحة ويبادر إلى اقتناصها.

-وددت لو انني عرفت المزيد عن بيترتون ، لا اعني بذلك حياته او عمله وإنما الأشياء الأخرى الصغيره. إن هذه الأشياء التافهه تكشف الكثير.. النكات التي تضحكه ،، مايستفزه ويثيره ،، مايجعله يسب ويلعن الأشخاص الذين يعجب بهم او يثيرون حنقه.

وتطلع إليه هوارتون في عجب واستغراب ثم تساءل :

-وماذا بشأن زوجته ؟! أتراك استجوبتها ؟!

-عدة مرات .

-اما من فائدة ترجى منها ؟

-لا لاشيء حتى الآن .

-اتعتقد انها تعرف شيئا ؟!

-إنها لم تعترف، طبعا بأنها تعرف شيئا، أو انها لاحظت شيئا. لا قلق ولا حزن ولا يأس ولا اكتئاب. كانت تسير سيرا طبيعيا عاديا بلا ضغوط من اي نوع كان .. وهي تعتقد بأن زوجها قد اختطف .

-وأنت لا تصدق هذا ؟!

-إنني رجل كثير الوساوس والشكوك ولهذا لا أصدق أحدا.

قال هوارتون في بطء وتمهل :

-على أية حال ينبغي على المرء أن يكون ذا ذهن متفتح بعيد عن التشبث.

ثم اردف :

-ولكن مارأيك في الزوجه؟

-طراز عادي تلقاه كل يوم منهمكا في لعب البريدج.

-هذا يزيد الأمر صعوبه وتعقيدا

-إنها موجوده هنا الآن لمقابلتي ومن جديد سوف نعيد ونبدأ فيما كنا فيه .

فقال هوارتون:

-الآن لا داعي لبقائي ، فلا أريد أن احتجزك أكثر من هذا إذ ليس لدينا مانتداول فيه ، أليس كذلك ؟!

-لا لسوء الحظ ولكني اريد منك ان تدرس تقرير وارسو وتتحرى عن دقة مافيه من معلومات إذ يتراءى لي انه بداية طيبه.

اومأ هوارتون برأسه موافقا وغادر الغرفه.

ورفع الجالس إلى المكتب سماعة التلفون وأمر باستدعاء مسز بيترتون لمقابلته.



******



سمعت نقرات خفيفه على الباب ودخلت مسز بيترتون. كانت امرأه طويلة القامة في حوالي السابعه والعشرين من العمر تتميز بشعر رائع أحمر اللون ذو مسحه نحاسيه. ولاحظ ان وجهها كان خاليا من التجميل .

اثارت هذه الملاحظات في نفسه الشعور بأن مسز بيترتون تعرف شيئا وتخفي ماتعلم .

لقد علمته خبرته الطويله ان المرأه المسرفه في حزنها وقلقها لا تهمل ابدا تجميل وجهها ، فهي تعرف ان الحزن الشديد يضفي على وجهها سمة منفره بشعه ، فتبذل مافي وسعها لكي تصلح ما افسده الحزن. ولكن لعل مسز بيترتون آثرت ان لا تتجمل حتى تبث في نفسه الاعتقاد بأنها شاردة الذهن غارقة في همومها لا تحفل بنفسها.



رحب بها الرجل واشار إلى مقعد ودعاها للجلوس ، وقبل ان تستقر عليه هتفت به منبهرة الأنفاس :

-اوه مستر جيسوب أما من نبأ عن زوجي ؟!

-يؤسفني يامسز بيترتون أن جشمتك مشقة الحضور ، ولكني أخشى أن لا تكون لدي حتى الآن أنباء مؤكدة.

فعقبت اوليف بيترتون في كلمات سريعه :

-اعرف هذا فأنك أشرت إلى ذلك في خطابك ، ولكني كنت أرجو ان يكون قد بلغك نبأ جديد منذ بعثت إلي برسالتك .. ولكنني سعيدة بأنك دعوتني إلى الحضور فأسوأ مافي الأمر أني حين أخلو إلى نفسي في البيت لا أملك إلا أن افكر واتعذب فلا شيء لدي أفعله سوى هذا.

-أرجو أن لا يضايقك يا مسز بيترتون أن اعود مره أخرى إلى ماكنا فيه وإلى ترديد الأسئلة نفسها ومعاودة الإلحاح على النقط نفسها ، فإن من المحتمل دائما أن تبدر كلمه واحده تكون مفتاحا لحل اللغز او ان تذكري شيئا نسيته في مره سابقه.

-إني أدرك ذلك فوجه إلي مرة اخرى الأسئلة نفسها إذا طاب لك ذلك .

واستهل مستر جيسوب استجوابها بأن قال:

-كانت اخر مرة رأيت فيها زوجك في اليوم الثالث والعشرين من شهر أغسطس أليس كذلك ؟!

-تماما يا سيدي .

-وكان هذا عند مغادرته إنجلترا إلى باريس لحضور أحد المؤتمرات؟!

-نعم

-وحضر زوجك اليومين الأولين من أيام انعقاد المؤتمر، ولكنه تخلف في اليوم الثالث وتبين انه ذكر لأحد زملائه أنه سيذهب بدلا من ذلك في رحلة نهريه في نهر السين.

-رحلة نهريه؟

-نعم ، في تلك القوارب التي تجوب نهر السين.

ثم تأملها جيسوب بنظره فاحصه وقال:

-ايدهشك هذا التصرف من قبل زوجك يا مسز بيترتون؟!

فأجابت بشيء من التردد:

-نعم يدهشني .. فعهدي به أنه كان شديد الحرص على حضور المؤتمر.

-هذا جائز ومع ذلك فإن الموضوع الذي كان مطروحا للمناقشة في المؤتمر في ذلك اليوم ماكان من الموضوعات التي تهم زوجك ولذا آثر ان يتخلف عن الجلسة وان يمنح نفسه عطلة يرتاح فيها ،، ولكن ألا يبدو ذلك لك غريبا أن زوجك مولع بالرحلات؟!

وهزت رأسها إيجابا ، واستطرد جيسوب :

-وفي تلك الليله لم يرجع زوجك إلى فندقه ، وطبقا لمعلوماتنا المؤكده فإنه ماعبر الحدود ، أو على الأقل لم يستخدم جواز سفره في اجتيازها هذا إذا كان قد عبرها .

ثم اردف يسألها:

-اتعتقدين ان لزوجك جواز سفر آخر باسم مستعار مثلا؟

-لا بالطبع ، ما الذي يدعوه إلى ذلك؟!

-ألم تري في متاعه مقل هذا الجواز ؟!

هزت رأسها نفيا بشده واضحه وقالت :

-لا ، كما إني لا اصدق ابدا أنه يمكن ان يقدم على هذا.. إنه لا يمكن أن يغادر باريس عمدا واختيارا كما تحبون أن تصوروا اختفاءه . لا بد ان شيئا حدث له ، او انه فقد ذاكرته .

-اكانت صحته عادية وسليمه ؟!

-نعم ، كان يجهد نفسه في العمل وفي بعض الأحيان يحس انه متعب مكدودا ولكن لاشيء اكثر من هذا.

-ألم يكن يبدو قلقا او مكتئبا على اية صوره؟

-لا لم يكن ابدا قلقا او مكتئبا لأي سبب كان.

وبأصابع مرتعده فتحت حقيبتها وتناولت منديلها وسترت به وجهها . وتهدج صوتها وهي تقول :

-إن الأمر فظيع ، فظيع جدا.. إني لا استطيع ان اصدق ما حدث .. إنه لم يسافر أبدا دون ان يخطرني ، لابد وان شيئا حدث له إما ان يكون قد اختطف وإما ان اعتداء وقع عليه . إني أحاول دائما طرد الأفكار والوساوس من ذهني ولكني في بعض الأحيان لا املك إلا ان اتخيل ان التعليل الوحيد هو انه قتل .

-ارجوك يامسز بيترتون ان تنزعي هذا الخاطر من رأسك إذا كان قد قتل فلا بد ان تكون جثته قد اكتشفت الآن .

-ومايدرينا أن يكون قد اغرق في احد الأنهار مثقلا بالأحجار ؟ هذا مايحدث في بعض الأحيان.

-إنك تسرفين في الأوهام والتخيلات يا مسز بيترتون.
-------------------------------
وأزاحت المنديل عن عينيها وحدجته بنظره يتبدى فيها غضب شديد وقالت :

-إني اعرف ما يدور في خلدك ، ولكن الأمر ليس كما تتصور ، إن توم لا يمكن ان يبيع الأسرار او يفشيها . إنه لم يكن شيوعيا او فاشستيا حتى يفشي اسرارا إلى هؤلاء او أولئك.

-وماعسى ان تكون معتقداته السياسيه يامسز بيترتون؟

-اعتقد انه كان في امريكا ديموقراطيا ، وهنا في انجلترا كان يصوت مع حزب العمال.. وعلى اية حال فإنه لم يكن يهتم بالسياسه.

ثم اضافت بنبرة منطوية على التحدي:

-انه كان عالما قبل كل شيء . وكان عالما فذا لامعا.

فقال جيسوب:

-تماما كان عالما فذا لامعا وتلك هي المشكله مايدرينا أنه عرض عليه مرتب ضخم أغراه بمغادرة البلاد ليعمل في مكان آخر .

تفجر الغضب في صوتها وهي تقول في انفعال:

-هذا غير صحيح.. وهو ماتحاول الصحف أن توحي به وتثبته في الأذهان، وهو مايدور في رؤوسكم جميعا عندما جئتم إلي تستجوبونني .. ولكنه ليس صحيحا . إنه ماكان ليرحل أبدا إلا إذا اخطرني أو على الأقل اعطاني فكره عن نواياه.

-ألم يخبرك بشيء؟ اي شيء؟!

وللمرة الثانية كان يحدجها بنظرات متفحصة .

فأجابت :

-لاشيء على الإطلاق .. إنني لا اعرف اين هو الآن ولكني اعتقد انه إما ان يكون قد اختطف ,, او قتل.

-إني آسف يا مسز بيترتون .. اسف جدا ولكن ارجوك ان تتأكدي من اننا نبذل اقصى ما في وسعنا فنعرف حقيقة ما وقع لزوجك، إننا نتلقى كل يوم تقارير من مختلف الجهات.

فتساءلت في حده:

-ومالذي تحتويه هذه التقارير؟!

-إننا لا نزال ندرسها ونتبين صحتها من زيفها ، لكنها بوجه عام غامضه ولا شيء قاطع فيها.

فعادت تردد في صوت نابض باليأس:

-ولكن يجب ان اعرف مافيها ,, إنني لا استطيع ان استمر على هذا .

وران عليهما الصمت برهه ثم قال جيسوب:

-الذي احاول ان اصل إليه يامسز بيترتون هو ان اتمثل صوره صادقة لزوجك .. اي نوع من الرجال هو ؟ ولكني أرى انك لا تحاولين ان تساعديني ..

-وما عساي استطيع ان اقول اكثر مما قلت؟ فقد اجبت على جميع اسئلتك.

-صحيح انك اجبت على اسئلتي غير ان معظم اجاباتك كانت التفي او الإنكار .. إني اريد ردا ايجابيا ردا بناءا. هل تدركين ما اعني؟ إنك تستطيعين ان تنفذي إلى خبايا الرجل ودخائله إذا عرفت اي نوع من الرجال هو.

تريثت فتره مفكره ثم ردت:

-فهمت ، وكل ما استطيع قوله هو ان توم كان رجلا مرحا ، لين العريكه وكان طبعا قديرا في مهنته.

-هذه اوصاف عامه يمكن ان تنطبق على اي انسان ، الا يمكن ان نتكلم عن صفات ذات طابع شخصي صفات اكثر اتصاقا به، مثل هل هو مولع بالإطلاع والقراءه؟!

-نعم إنه يقرأ كثيرا.

-اي نوع من الكتب يؤثره؟

-تراجم المشهورين وسير حياتهم.. وأيضا كتب الاجتماع وقصص الجريمه عندما يكون مجهدا .

-إذن فهو قارئ تقليدي كمعظم الناس

ثم اردف يسألها :

-ايلعب الورق او الشطرنج؟!

-إنه يلعب البريدج ، وقد اعتدنا ان نلاعب الدكتور إيفانز وزوجته مره او مرتين في الأسبوع.

-هل لزوجك اصدقاء كثيرين ؟!

-نعم فهو يحب الاختلاط والحياه الاجتماعيه .

-ليس هذا ماعنيت، وإنما اردت ان اسأل عما إذا كان رجلا يولي اصدقاءه اهتماما شديدا؟

-إنه يلعب الجولف عادة مع واحد او اثنين من جيراننا.

-أليس له اصدقاء حميمون او خلان قدماء؟

-كلا. إنك تعلم انه ولد في كندا وامضى في الولايات المتحده ردحا طويلا من الزمن فلم تهيأ له الفرصه هنا لمعرفة الكثيرين.

تطلع جيسوب في ورقة منشوره امامه على المكتب وقال:

-إننا نعرف ان ثلاثة اشخاص من الولايات المتحده زاروه في الأيام الأخيره وأسماؤهم مسطوره لدي هنا.. وطبقا لتحرياتنا فإن هؤلاء الثلاثة هم الوحيدون الذين زاروه من خارج البلاد.ولذلك فإننا نولي امرهم اهتماما خاصا واولهم ولتر جريفيث وقد زاركم في هارويل.

-صحيح فقد اتى إلى انجلترا وحضر لزيارة توم.

-وماذا كان رد الفعل عند زوجك؟

-دهش توم لرؤيته ولكنه كان سعيدا جدا بهذه الزياره فقد كانت بينهما في امريكا معرفة وثيقه.

فسألها جيسوب:

-وعلى اية صوره بدا جريفيث في نظرك؟

-ولكنكم حتما تعرفون كل شيء عنه؟

-نعم إننا نعرف عنه كل شيء، ولكني اريد ان اسمع منك انت رأيك فيه.

فكرت لحظه ثم ردت:

-إنه يبدو رجلا جادا يبعث مجلسه على الضجر، وكان مهذبا جدا شديد المجامله في لقائه معي . ولاح لي انه مولع جدا بتوم ومتلهف إلى أن يحدثه عما جرى في الولايات المتحده منذ ان بارحها توم إلى انجلترا . وأظن ان حديثه كان يدور حول الأخبار المحليه ولكنه لم يكن بالنسبة لي حديثا مسليا ، إذ لم اكن اعرف احدا ممن يتحدث عنهم وعلى اية حال فقد كنت بسبيل اعداد العشاء ولذا تركتهما معا يستعيدان الذكريات القديمه .

-ألم يتحدثا في السياسه؟

تضرج وجه مسز بيترتون احمرارا وردت:

-لعلك تحاول ان تلمح إلى ان جريفيث شيوعي او فاشيستي ، إني واثقه من انه ليس بهذا او ذاك ، إنه فيما اعتقد موظف في مكتب النائب العام.

-والآن فلننتقل إلى الزائر الثاني الذي اتى من وراء البحار ، الدكتور مارك لوكاس، إنكما التقيتما به صدفة في فندق دورسيت.

-هذا صحيح ،، كنا نتناول العشاء في دورسيت بعد خروجنا من المسرح، فإذا بنا نلتقي فجأه بهذا الرجل ، إنه يعمل باحثا كيماويا وآخر مره التقى فيها بتوم كانت في الولايات المتحده .. وهو لاجئ الماني اكتسب الجنسية الأمريكيه وانت طبعا تعرف كل هذا.

-نعم إني اعرف ذاك يامسز بيترتون. هل دهش زوجك لرؤيته؟

-نعم دهش جدا.

-وهل سر بلقائه؟

-نعم ، نعم اظن ذلك.

-ولكنك غير متأكده؟

-قد فهمت من توم فيما بعد ان هذا الرجل لا يهمه.

-وهذا اللقاء ؟ اكان مجرد صدفه ؟ الم يكن هناك تدبير سابق بحيث يبدو اللقاء عرضا؟!

-كلا بل كانت مقابله عارضه.

واستطرد جيسوب:

-اما الزياره الأخيره فقد كانت صاحبتها سيده تدعى مسز كارول سبيدر وكانت هي الأخرى قادمه من الولايات المتحده ، فكيف تمت هذه المقابله؟!

-اعتقد انها موظفه بالأمم المتحده وكانت قد تعرفت على توم عندما كان مقيما في امريكا، وقد اتصلت به تلفونيا من لندن واخبرته بوجودها في انجلترا وسألته عما إذا كنا نستطيع ان نتناول الغداء في يوم من الأيام ولكننا اعتذرنا عن عدم تلبية دعوتها.

-إنك انت التي لم تزوريها، اما زوجك فقد لبى الدعوه.
فحملقت فيه دهشه وهي تقول :

-ماذا تقول ؟

-الم يقل لك زوجك انه زارها ؟

-كلا لم يخبرني بشيء

وبدت مسز بيترتون قلقه ومرتبكه/ واحس الرجل الذي استجوبها بالرثاء لها.



وغمغمت الزوجه في صوت خافت مأخوذ:

-من الغريب انه لم يحدثني بشيء عن زيارته لها.

-لقد تناول الغداء معها في فندق دورسيت حيث كانت مسز سبيدر تقيم ، وكان ذلك في يوم الأربعاء 12 اغسطس.

فقالت متأمله :

-الأربعاء 12 اغسطس؟! نعم فقد ذهب إلى لندن في ذلك اليوم ولكنه لم يشر إلى التقائه بها.

ثم تفجر على لسانها السؤال الذي كان يصطخب في رأسها :

-ماشكلها؟ ما هيئتها؟!

-ليست من النوع الرائع الخلاب يامسز بيترتون.. امرأه شابه كادحه في الثلاثين من العمر وليست من النوع الذي يسترعي الأنظار، وليس هناك مايدل مطلقا على انها من النوع الذي يسترعي الأنظار ، وليس هناك مايدل مطلقا على انها على صداقة وثيقه بزوجك / فهذا ما يدعو إلى التساؤل عما حدا به إلى كتمان الأمر عنك .

-نعم نعم ، إنه غريب حقا .
---------------------------
-والآن ارجوك يامسز بيترتون. ان تفكري جيدا .. الم تلاحظي اي تغيير في سلوك زوجك منذ ذلك اليوم؟ اي حوالي منتصف شهر اغسطس؟ اعني قبل سفره إلى المؤتمر بنحو اسبوع؟

-لا .. لا.. لم الاحظ اي شيء.. كان سلوكه عاديا لم يطرأ عليه تغيير.

دق جرس التليفون الداخلي الموضوع على مكتبه فتناول السماعه وادناها من اذنه واتاه صوت من الطرف الآخر يقول :

-هنا رجل يريد ان يقابل احد المسؤولين بشأن موضوع بيترتون.

-ما اسمه؟

خط جيسوب الاسم على قصاصه امامه ثم قال:

-اهو بولندي الجنسيه؟

-لا ادري ياسيدي؟ انه يتكلم الانجليزيه بطلاقه ، ولكن بلكنه اجنبيه.

-حسنا اطلب اليه ان ينتظر ,

دفع جيسوب إلى مسز بيترتون بالقصاصه المسطور عليها الاسم وسألها

-اتعرفين احدا بهذا الاسم؟!

اتسعت عيناها دهشه وهي تقرأ الاسم وخيل إليه ان بادره من الخوف غشت عينيها لحظة :

-نعم اني اعرفه .. فقد بعث إلي بخطاب بالأمس... إنه ابن خخالة زوجة توم الأولى. وقد وصل لتوه إلى هذه البلاد، وكان شديد الاهتمام بمسألة اختفاء توم، فكتب إلي يسألني عما اذا كانت لدي اية انباء عنه.

-الم تسمعي عنه من قبل؟ الم تتقابلا؟

-لا ، لم يحدثني زوجي عنه ابدا ولم التق به في يوم من الأيام .

-إذن من المحتمل ان يكون مدعيا ؟

-هذا الخاطر لم يدر بخاطري.

ثم اردفت :

-كانت زوجة توم الأولى اجنبيه ، انها ابنة البروفيسور مانهايم. فهذا الشخص كما يتبدى من خطابه يعرف كل شيء عنها وعن توم. ولكن إذا كان مدعيا فما الهدف من وراء ذلك؟

فرد جيسوب باسما:

-إنه السؤال العويص الذي يتردد على السنتنا بهذا المكتب. إننا دائما نسأل انفسنا ما الهدف من هذا وما الهدف من ذاك ؟ ومع ذلك فالجواب دائما مستعص لا سبيل إليه.

قالت مسز بيترتون:

-إني لم اعد اطيق هذه الحال . لا شيء إلا ان اجلس وانتظر .. إني اريد ان اسافر إلى اي مكان على سبيل التغيير .. وإني افضل ان اسافر إلى الخارج لأروح عن نفسي.. إني موشكه على الانهيار. إني احاول ان اتشبث بالشجاعه ولكن اعصابي لم تعد تحتمل .. فقد كتبت إلى طبيبي استطلع رأيه ، فأشار علي بضرورة السفر على سبيل الاستجمام ثلاثة او اربعة اسابيع.

اخرجت من حقيبتها خطاب الطبيب ودفعت به إلى جيسوب فقرأه وأعاده إليها فسألته:

-ايمكن السماح لي بالسفر؟

نظر إليها بدهشه وقال:

-طبعا يمكنك ان تسافري متى شئت يا مسز بيترتون.

-كنت اخشى ان تعترضوا.

-ولماذا نعترض؟ كل ماهنالك هو اني اريد ان اعرف مقرك لأتصل بك إذا أتتنس بعض الأنباء.

فردت:

-في نيتي ان اسافر إلى مكان مشمس ، اسبانيا او مراكش.

-إذن اتمنى لك رحلة طيبه .

وانصرفت وهي ماتزال بادية القلق والاضطراب.

ما ان انصرفت اوليف بيترتون حتى استدعي الزائر الذي كان في الانتظار إلى مقابلة مستر جيسوب.

قال الزائر وهو يستوي جالسا على احد المقاعد :

-إني الميجور غلايدر ، وهاك خطاب تعريف من السفارة الأمريكيه.

جرى جيسوب بعينيه على سطور الخطاب في نظرة سريعه ، ثم وضعه أمامه على المكتب وسأله:

-أية خدمة استطيع ان اؤديها لك يا ميجور ؟!

-إنني قادم لتوي من الولايات المتحدة وقد اتيت إليك أسألك عما إذا كانت لديك أنباء جديده عن توماس بيترتون الذي اختفى اخيرا بطريقة مثيره ، إن المرء لا يستطيع ان يصدق دائما ماتنشره الصحف ، وقد قيل لي انك الوحيد الذي لديه معلومات موثوق بها .

فقال جيسوب :

-يؤسفني أنه ليست لدي معلومات مؤكدة عن بيترتون.

-لقد خطر لي أنه ربما أوفد إلى الخارج في مهمة خاصه. مهمة سريه.

فقال جيسوب في كلمات متمهله :

-إن بيترتون ياسيدي العزيز مجرد عالم وليس دبلوماسيا او عميلا سريا.

استطرد الميجور غلايدر باللهجة الجديه نفسها :

-إن الألقاب كثيرا ماتكون خداعه يامستر جيسوب ولعلك الآن تتساءل عما يدفعني إلى الاهتمام بهذا الموضوع .. إن توماس بيترتون يمت إلي بصلة القربى عن طريق الزواج .

-إنك فيما اعتقد ابن اخت البروفسور مانهايم؟

-آه إنكم هنا تتحرون عن كل إنسان .

فغمغم جيسوب باسما :

-إن الناس يأتون إلينا هنا ويفضون بما لديهم ، لقد كانت المسز بيترتون هنا وهي التي اخبرتني بهذا وقالت أيضا أنك بعثت إليها برساله.

-نعم .. كتبت إليها اعزيها واسألها عما إذا كانت لديها انباء جديده.

واستطرد الميجور غلايدر يقول:

-إن امي هي الأخت الوحيده للبروفيسور مانهايم، وكانا شديدي التعلق كلاهما بالآخر ، وعندما كنت طفلا كنت اقضي معظم الوقت في بيت خالي ، وكانت إلزا بالنسبة لي بمثابة اخت شقيقه وعندما مات ابي وامي انتقلت للإقامة في بيت خالي وكانت اياما سعيده ثم جاءت الحرب بويلاتها ومآسيها ، وهرب خالي وإلزا إلى امريكا اما انا فبقيت في بولندا وانضممت إلى المقاومة السريه ، وبعد ان وضعت الحرب أوزارها سافرت إلى الولايات المتحده لأزور خالي وابنة خالي ، هذا هو كل شيء.
وتابع الحديث قائلا:

-وبعد ان فرغت من انجاز المهام التي أوكلت إلي في اوروبا قررت ان استقر في الولايات المتحده بصفه دائمه لأكون على كثب من خالي وابنة خالي وزوجها ، ولكن ، وا أسفاه !! ماكدت اصل إلى أمريكا حتى مات خالي في حادث سياره ثم ماتت إلزا ابنة خالي ، اما توماس بيترتون زوج ابنة خالي فرحل إلى انجلترا وتزوج للمرة الثانيه ، وعدت أنا كما كنت من قبل بغير اسرة ارتبط بها ، وعندئذ قرأت في الصحف نبأ اختفاء العالم الشهير توماس بيترتون ، فحضرت إلى انجلترا لأرى مايمكن عمله .

وتراخى الميجور غلايدر في مقعده وقال متسائلا:

-مستر جيسوب ، لماذا اختفى بيترتون؟

فقال جيسوب:

-تمنيت لو اني عرفت .

-ولكنك تشتبه في شيء ما على الأقل ؟!

فقال جيسوب في حذر :

-هذا جائز فاختفاء بيترتون ليس الأول من نوعه .

-هذا صحيح فقد قرأت عن الكثير من حوادث الاختفاء.

واخذ الزائر يشير في كلمات سريعه إلى عدد من حوادث الاختفاء التي وقعت في العهد الأخير

ثم عقب بقوله :

-وكلهم من العلماء ، أليس هذا غريبا؟

لبث جيسوب صامتا .

فاستطرد الميجور جلايدر:

-اتراهم ذهبوا إلى ماوراء الستار الحديدي؟

-هذا احد الاحتمالات ولكنه ليس احتمالا قاطعا ، فمن المستحيل انهم انضموا إلى إحدى الجماعات السريه الفاشستيه او انهم ضاقوا بعملهم .

-ولكنهم طبعا ذهبوا طواعيه واختيارا؟

فقال جيسوب:

-حتى هذا السؤال من الصعب الإجابة عليه.

ثم اردف :

-ولكن ماهو سر اهتمامك ببيترتون، وهو بالنسبة إليك ليس إلا مجرد نسيب عن طريق الزواج؟ بل إنك لم تقابله ابدا في حياتك .

-هذا صحيح ولكن الأسره عندنا معشر البولنديين من الروابط الوثيقة وهي تفرض علينا التزامات لانملك ان نتحلل منها .

ونهض جلايدر واقفا واحنى رأسه تحية في جفاء وقال:

-يؤسفني ان شغلت من وقتك اكثر مما ينبغي ، شكرا على انك قابلتني

نهض جيسوب واقفا وهو يقول :

-يؤسفني انني لم استطع ان اساعدك ولكني احب ان اؤكد لك اننا لا نعرف شيئا على وجه اليقين، ولكن إذا بلغني اي نبأ فأين يمكن ان اتصل بك ؟

-طرف السفارة الأمريكيه ، واكرر لك الشكر.

وللمرة الثانيه انحنى تحية واستدار منصرفا.

ورفع جيسوب سماعة التليفون يدعو الكولونيل هوارتون إلى مكتبه .

وابتدره جيسوب قائلا:

-اخيرا بدأت الأمور تتحرك .

-حقا وكيف حدث هذا ؟!

-مسز بيترتون تريد ان تسافر إلى الخارج.

-أتراها تنوي ان تلحق بزوجها ؟

-هذا ما ارجوه ، لقد جاءتني مزوده بتقرير طبي ينصحها بالسفر طلبا للراحه والاستجمام.

-تدبير محكم منها.

فقال محذرا:

-ومع ذلك فقد تكون حقا مقبله على انهيار عصبي .

تساءل هوارتون:

-هل استطعت ان تنتزع منها شيئا؟

-مجرد بادره ضعيفه، بيترتون كتم عن زوجته انه تناول الغداء في فندق دورسيت مع هذه المرأه المدعوه سبيدر.

فغمغم هوارتون قائلا:

-اتعتقد ان لهذا صلة باختفائه؟

-ربما فقد سبق ان استجوبت كارول سبيدر، امام لجنة فحص النشاط المعماري لأمريكا / وإن كاننت قد استطاعت ان تثبت براءتها.

-وهل اتصلت مسز بيترتون بإحد فأصدر إليها تعليماته بالسفر إلى الخارج ؟!

-لم يزرها احد في بيتها وان كانت قد تلقت بالأمس خطابا من رجل بولندي هو ابن خالة بيترتون الأولى وقد كان هنا في مكتبي منذ قليل يستفسر عما لدي من أنباء.

-أيكون هو الذي حرضها على السفر؟

-هذا محتمل وإن كنت لا ادري الحقيقه

-وهل تنوي ان تضعه تحت المراقبه ؟
-----------------------------
فأجاب جيسوب :

-بل وضعته فعلا ، فقد دققت الجرس السري مرتين بمجرد خروحه من مكتبي ..

فضحك هوارتون قائلا :

-يالها من رموز سريه تفيد في حالات الاستعجال .

وعاد هوارتون يتساءل :

-وإلى أية جهة تنوي بيترتون أن تسافر ؟ إلى سويسرا؟

-بل إلى مراكش او اسبانيا



وقلب جيسوب بطرف اصبعه التقارير المكدسة امامه وقال:

-هذان هما البلدان الوحيدان اللذان لم يرد إلينا منهما أي تقرير عن بيترتون.

وتراخى جيسوب في مقعده وأسند رأسه على ظهر المقعد وهو يقول:

-إنني لم اقم بعطلة منذ شهور ولعل مما يفيد صحتي ان أسافر إلى الخارج هذه الأيام ..

فضحك هوارتون وقال :

-طبعا إلى مراكش او اسبانيا، وفي اعقاب مسز بيترتون .

والتقت نظراتهما في تفهم كامل .
------------------------
" انتبهوا .. انتبهوا .. شركة إيرفرانس .. الرحلة رقم 108 إلى باريس.. "

نهض الجالسون في قاعة الانتظار في مطار هيثرو وتقاطروا متحهين إلى الباب ينشدون الطائره التي ستقلهم إلى باريس.

وتناولت هيلاري كرافن حقيبه سفرها الصغيره الحجم وانضمت إلى موكب المسافرين .

كان الجو باردا لاذعا في ساحة المطار وشدت هيلاري معطفها الفراء حول عنقها تقي نفسها لسعات البرد وهي تتبع المسافرين إلى حيث تستقر الطائره.

إذن فقد انتهى الأمر ، هاهي ذي منطلقة هاربه بعيدا عن الاكتئاب والبرد والبؤس المميت . هاربه إلى الشمس المشرقة والسماء الزرقاء الصافيه، إلى حياة دافقه .. وستطرح وراءها كل الهموم والأثقال، هذه الهموم المتسمه بالبؤس والقلق.

وتابعت طريقها إلى ممر الطائره واستقرت على المقعد الذي أرشدتها إليه المضيفه .

ولأول مره منذ شهور خالجها شعور بالراحة من العذاب الذي أمضّها بقسوة حتى لقد احست منه بما يشبه الألم الجسماني .

تمتمت تحدث نفسها في امل ورجاء :

- سأهرب ، سأبتعد ، نعم سأبتعد !

وانتزعها من خواطرها هدير الطائرة الصاخب ولكنها مالبثت ان عادت تردد في نفسها :

- الآن سأذهب وابتعد .

وبدأت الطائره تنزلق على ارض الممر ، وقد شد المسافرون احزمة الوقاية على بطونهم . ودارت الطائره نصف دورة في ساحة المطار ثم توقفت تنتظر إشارة الرحيل.

وخطر لها:

- مايدريني لعل الطائرة قد تتحطم ، وعندها قد تكون تلك النهاية ، الحل الموفق لكل شيء.

وخيل إليها انهم انتظروا في ساحة المطار وقتا طويلا لا ينتهي مترقبين إشاره الرحيل إلى الحريه.

وهمست تخاطب نفسها :

- يبدو أنني لن اسافر أبدا وسأظل هنا حبيسة لا استطيع الفرار.

واخيرا هدرت المحركات من جديد وبدأت الطائره تجري على الممر الممهد المرصوف .. أسرع ثم اسرع .

- ولكن من يدري .. ربما لن تعلو في الجو .. أتكون هذه إذن هي النهايه؟!

ولكن الطائره اخذت تعلو في الجو وبدأوا يبتعدون عن سطح الأرض .. وبدا كل شيء صغيرا ضئيلا حتى الهموم تضاءلت وانكمشت وحتى القلق تبدد وتوارى وبدت الأبنية والسيارات وكأنها لعب اطفال .

والآن كانوا فوق السحب البيضاء ، المشوبه بمسحه رماديه .. لا بد انهم الآن فوق القنال الانجليزي.

وارخت هيلاري جفونها واطبقت عينيها ، واسندت رأسها إلى ظهر المقعد.

الهرب، الهرب .. فها هي ذي قد غادرت إنجلترا إلى غير رجعه ، هاهي ذي قد تركت خلفها نايجل وتركت خلفها تلك البقعه الحزينه المقبضه التي هي قبر بريندا .

كل ذلك تركته خلفها ، بعيدا ، بعيدا.

وفتحت هيلاري عينيها ثم عادت تطبقهما مره اخرى ثم مالبث النعاس ان طغى عليها واستغرقت في النوم .

******

وعندما صحت هيلاري من نومها كانت الطائره في طريقها إلى الهبوط .. لابد اذن انهم وصلوا باريس ..

وزايلت كرسيها وحملت حقيبتها ونزلت من الطائره إلى سيارة المطار ولكنها لم تكن باريس تلك التي نزلوا فيها .

اتت المضيفه الجويه إلى السياره وتحدثت إليهم بذلك الصوت الناعم الحنون المأثور عن المضيفات :

- لقد اضطررنا أن نهبط في بوفيه لأن الضباب كثيف في باريس.

ونظرت هيلاري من وراء زجاج السياره لكن الرؤيه كادت تستحيل عليها فقد كانت بوفيه هي الأخرى غارقة في الضباب. وتوقفت بهم السياره امام مبنى خشبي عتيق ليس فيه إلا بضعة مقاعد وأرائك من الخشب.

وطغى على هيلاري شعور بالانقبائ حاولت ان تدفعه عن نفسها ، وغمغم الرجل الجالس قربها :

- إنه مطار حربي قديم بلا تدفئه ولا شيء من وسائل الراحه، ولكن ما احسل وهم فرنسيون ان يبخلوا علينا بالشراب.

ونطق الرجل حقا ، فما هي إلا لحظات حتى اتى مضيف يدور عليهم بأقداح الشراب.

وتتابعت الساعات دون ان يقع جديد، فيما عدى طائرات تنبثق متتابعه من استار الضباب وتحط متزاحمه على ارض المطار الصغير وتكدست القاعه بمسافرين حانقين متذمرين من التأخير الذي طرأ على رحلاتهم.

واخيرا عندما هبط الليل اتت سيارات الأوتوبيس لتحمل المسافرين إلى باريس.

كانت رحله ممله مضجره انحشر الركاب في السيارات اربع ساعات إلى ان شارفوا ضواحي باريس فبلغوها وقد انتصف الليل .

واسعد هيلاري ان تحمل حقيبتها وتستقل تاكسيا وتمضي إلى فندق حجزت لها فيه احدى الغرف ، وكانت متعبه مكدوده، تهفو إلى حمام ساخن تلوذ بعده بالفراش.

وكان مقررا ان تبرح الطائره المسافره إلى كازابلانكا مطار اورلي في العاشره والنصف من صباح اليوم التالي ، بيد ان مطار اورلي في ذلك الصباح المعهود كان خليه من الفوضى والارتباك: مسافرون يروحون ويغدون ، موظفون يدخلون ويخرجون، حمالون يذهبون ويجيئون والطائرات مرصوصه على ارض المطار مكدسه متزاحمه إذ كان هناك تأخير في مواعيد السفر بسبب الضباب.

وقال لها موظف الاستعلامات :

- مستحيل يا سيدتي ان تسافري على الطائره التي سبق ان حجزت لنفسك فيها مقعدا فأرجوك ان تنتظري في قاعة الاستراحه حتى يخلو مقعد في طائره اخرى.

وعلى مضض مضت إلى قاعة الانتظار ترقب مقعدا يخلو لتجلس عليه .

وبعد ساعة قيل لها ان هناك مقعدا خاليا بالطائره المسافره إلى داكار، وفي الطريق إليها تهبط في كازابلانكا وإن كانت سوف تصل إليها متأخره ثلاث ساعات عن الموعد الذي كانت ترجوه.

قال الموظف : هذا كل ما استطيع فعله لأجلك سيدتي .

وتقبلت هيلاري كرافن المقعد المعروض عليها بغير تذمر او احتجاج دون ان تتشبث بالمقعد الذي سبق ان حجزته على الطائره الأصليه إلى كازابلانكا.

وحين هبطت في كازابلانكا همس الخمال الذي اخذ حقائبها:

- إنك لمحظوظه يا سيدتي أن اتيت بهذه الطائره الإضافيه بدلا من طائرة كازبلانكا الأصليه التي كان مفروضا ان تصل قبل هذه فإنها قد تحطمت ومات طاقمها ومعظم الركاب، فلم يبق منهم على قيد الحياة إلا اربعه اشخاص او خمسه نقلوا إلى المستشفى مصابين بإصابات جسيمه.

كان اول رد فعل في نفسها أن طغى عليها شعور جارف بالغضب وعلى غير وعي منها اصطخب داويا في رأسها هذا السؤال:

- ياإلهي لم لم اكن انا في هذه الطائره؟ لو إني كنت فيها لانتهى كل شيء. لا قلق ولا احزان ولا هموم. ألا ليتني كنت فيها. إن الذين استقلوا هذه الطائره كانوا متشبثين بالحياة أما انا فلكم كنت ارحب بالموت .

وانهت إجراءاتها الجمركيه في دقائق قليله ومضت إلى إحدى سيارات التاكسي ذاهبه إلى فندقها. وفي غرفتها فتحت النوافذ واطلت على المدينه .. كانت السماء زرقاء صافيه والشمس مشرقة فياضة بالضوء.

كان هذا ماترجوه .. كانت هذه هي الحياة التي سعت إليها .. الفرار .. الهرب ، بعيدا عن انجلترا. بيد انه في هذه اللحظه اعتصرت قلبها يد باردة ساحقه فقد ادركت في صدمه هزت كيانها ان الأمر هنا لا يختلف عما كان في انجلترا ، لا مهرب ولا فرار.

كان قبر بريندا في انجلترا والماضي يجري في اعقابها ولا شيء يمكن ان يجعلها تنسى.

إن الخلاص الوحيد في حبوب منومه تفرغ منها في احشائها قنينه كامله.

وانبعثت واقفه وقد استقر رأيها على ان تبادر إلى الصيدليه، ففيها شفاؤها من المتاعب والهموم والأحزان.

ومضت إلى الخارج مسرعه كي تعود بما يجعلها تنام تلك النومه الأبديه المريحه التي تهفو إليها ..

*****

كانت هبلاري كرافن تعتقد ان من السهل شراء الجبوب المنومه في البلاد الأجنبيه . ولكنها لدهشتها ما لبثت ان ادركت انها كانت مخطئه في ظنونها . فقج رفض الصيجلي ان يزودها إلا بحبتين اثنتين وان لها ان شاءت المزيد ان تأتيه بتذكره طبيه. فشكرته هيلاري ودست في حقيبتها الحبتين . وفيما هي تغادر الصيدليه كادت تصطدم برجل طويل القامه جاد السمات ، فاعتذر لها بأدب بالانجليزيه. وسمعته وهي تنصرف يسأل الصيدلي عن معجون اسنان.


واحست بغصه انقبض لها قلبها فقد كان المعجون الذي طلبه من الماركة نفسها التي يؤثر نايجل استعمالها. وعبرت الطريق إلى الصيدليه المقابله واتبعتها بغيرها حتى اكتملت اربعا ولفت نظرها ان لمحت في الصيدليه الثالثه الرجل الجاد السمات نفسه ذا الوجه الذي يشبه وجه البومه، وكان يسأل عن معجون الأسنان نفسه الذي طلبه في الصيدليه الأولى.


عادت هيلاري إلى فندقها ، فأبدلت ملابسها ونزلت تتناول العشاء وقد كادت القاعه تقفر من النزلاء ولكنها لمحت رجل معجون اسنان، جالسا إلى مائده ملاصقة للجدار يتناول طعامه وقد نشر امامه صحيفه فرنسية واستغرق في قراءتها.

وامرت لنفسها بطعام شهي وزجاجة من النبيذ ، واقبلت تأكل وتشرب بنهم وهي تردد في نفسها:

- وبعد فتلك هي المغامره الأخيره ثم ينتهي كل شيء.

وصعدت إلى الغرفه وقد فرغت من الطعام فأغلقت الباب وراءها بالمفتاح وخلعت ثيابها وتناولت اللفافات الأربع التي اتت بها من الصيدليات وفضتها وتناولت منها الحبوب المنومه ورصفتها على المنضده امامها ومضت تتأملها بصمت .

لم تكن متردده ولم تكن خائفه فذلك هو سبيل الخلاص .. ذلك اخيرا هو الفرار .. الفرار الحقيقي.

والأمر بعد هين بسيط : تبلع الحبوب وتزدردها بجرعه من الماء ثم تستلقي على الفراش وتنام ثم لا تستيقظ ابدا من النوم .

لم يكن في نفسها من الدين وازع يردها عما هي بسبيله فقد اتت وفاة بريندا على كل ما بنفسها من شعور ديني ، فليس ثمة شيء له عندها قيمه او اهميه.

نعم إنها الآن بلا قيد يعرقل خطاها ، متأهبه للشروع في رحلتها إلى المصير المجهول.

ومدت يدها وتناولت الحبه الأولى رفعتها إلى فمها .. وفي هذه اللحظه طرق باب الغرفه نقرات خفيفه. قطبت هيلاري جبينها وتجمدت يدها في الهواء قبل ان تبلغ فمها. ولكنها لزمت مكانها لا تفتح الباب معما يكن من امر فهي لن ترد عليه فلا يلبث ان ينصرف .

ولكن الطرقات عادت تدق الباب من جديد ، وفي هذه المره كانت بصوت اشد واعلى. وفجأه اتسعت عيناها دهشه وهما مستقرتان على الباب..

رأت المفتاح الذي في ثقب الققل من الداخل يدور حول نفسه ثم يقفز من صثبه إلى الأرض مرسلا رنينا معدنيا ، ثم رأت مقبض الباب يتحرك ويدور ثم انفتح الباب وإذا برجل يدلف إلى الغرفه.

عرفت فيه على الفور ذلك الرجل الجاد السمات الذي رأته من قبل مرتين في الصيدليه يشتري معجونا للأسنان ثم رأته يتناول بعد ذلك عشاءه في الفندق.

واستدار الشاب فأغلق الباب وتناول المفتاح من على الأرض ودسه في الثقب و اوصده ثم جاء عبر الغرفه إليها واستوى على احد المقاعد جاسا وقال في بساطه:

- إنني أدعى جيسوب.

تضرج وجه هيلاري احمرارا ومالت إليه عبر المنضده التي بينهما وفي صوت يخالطه الغضب سألته:

- هل لي ان اسأل عما اتيت تفعله في غرفتي؟

حدجها بنظره طويله ثاقبه وقال يسأل :

- ما أعجب هذا !! إنني أنا الذي اتيت اسألك عما تفعلين انت في غرفتك؟

حملقت فيه باستغراب وتساءلت :

- إنني لا افهم ماتعني ؟!

فأدار رأسه يتأمل الحبوب المنومه على المنضده ثم تطلع إليها قائلا:

- لو انني مكانك لما فعلت هذا، فليس الأمر كما تظنين.. إنك تعتقدين انك تتناولين الأقراص ، وتستغرقين في النوم ثم لا تنهضين أبدا ولكن ماسوف يحدث شيء غير هذا تماما.. فستعانين أعراضا اليمه .. تقلصات وقيء وآلام تمزق المصارين .. وإذا كانت طبيعة جسمك مقاومه للمخدرات ، فإن الحبوب المنومه لا تبدأ فعلها إلا بعد فتره طويله ، وفي خلال هذه الفتره يعثرون عليك ويحاولون انقاذك ، وتتعرضين لأشياء مؤلمه غسيل معده ، زيت خروع ، قهوه ساخنه كما يهزونك بعنف ويلطمون وجهك حتى تستفيقي ، فهل انت مستعده لهذا؟

تراخت مسز كرافن في جلستها واغتصبت ابتسامه خفيفه وقالت:

- يالها من فكره سخيفه !! إذن فأنت تتخيل أنني كنت انوي الانتحار؟

- إنني لا اتخيل ، ولكني على يقين .. فقد دخلت إلى الصيدليه لأشتري معجونا للأسنان حين كنت هناك تطلبين حبوبا منومه ولما لم اجد النوع الذي ابغيه ذهبت إلى صيدليه اخرى فإذا بك امامي تشترين حبوبا للمرة الثانيه وبدا لي الأمر غريبا فرأيت ان اتعقب خطواتك لأرى مايكون من امرك وطبعا لم يكن من العسير علي بعد ذلك ان اتكهن بما تنوين.

- إنك قد تقدر ان تمنعني الآن من الإنتحار ، وقد تقذف بالحبوب من النافذه ولكنك لن تقدر ان تصدني غدا عن شراء حبوب اخرى او ان القي بنفسي إلى الطريق من سطح عماره عاليه ، او ان ارتمي أمام قطار مسرع .

- إنك قد تحاولين ان تنتحري اليوم ، هذا صحيح ولكن إذا جاء الغد ثاب المنتحر إلى رشده وعاوده صوابه ، هذا عادة مايحدث للمنتحرين.

- هذا اذا كان المنتحر قد اقدم على فعلته وهو في فورة يأس مفاجئ أما انا فقد تدبرت الأمر في هدوء وبرود حتى استقر عليه عزمي .. ألا تعلم يا مستر جيسوب أنني امرأة ليس لديها ماتعيش من اجله، وما يجعلها تتشبث بالحياة؟

ثم اردفت :

- زوجي الذي همت به حبا هجرني، وابنتي الوحيده التي اعبدها ماتت بالالتهاب السحائي، وانا بعد امرأه بلا اصدقاء او اقارب وليس لي هوايه تستهويني او عمل يشغلني ، فلم اذن اعيش؟

وبعد سكتة قصيره ، رفعت إليه رأسها قائله:

- والآن يا مستر جيسوب هل لك ان تنصرف وتتركني لشأني ؟

- لم يحن الوقت ، فإنني لم افرغ بعد من حديثي.

ثم استطرد على عجل :

- الآن عرفت انك كارهه لدنياك غير متشبثه بالحياة وانك تنوين الانتحار ولكن الذي اتساءل عنه هو : لم آثرت الحبوب المنومة وسيلة للانتحار؟

فبدت الدهشة في عينيها وتساءلت:

- ماذا تقصد؟

- لقد عرفنا ان الحبوب المنومه غير مضمونه النتيجه ، فضلا عما يصاحبها من الام وكذلك الشأن بالنسبة إلى الارتماء تحت القطار ، او إلقاء نفسك من مبنى مرتفع، إنك قد تصابين بعاهه او بالشلل او ببتر ذراعيك اوساقيك ، ولكنك ستعيشين. هناك طرق اخرى للانتحار انجح واضمن.

- طرق اخرى

- طبعا.. طرق اخرى حافلة بالإثاره والمتعه ومع ذلك فلست اكتمك انك قد تنجين من الموت ، ولكنك على الأقل ستجدين فيها تسليه وطرافه تشغل فراغك وتبدد همومك .

فهزت رأسها في حيرة وتساءلت:

- الحق اني لا ادري فيم تتحدث .

لاذ بالصمت برهة ثم اردف:

- لكي تدركي ما ابغي لابد ان اروي لك قصه صغيره فهل لك ان تعيريني سمعك؟

- إني مصغيه إليك فهات ماعندك.

- إنك طبعا تطالعين الصحف ولابد انك قرأت حوادث اختفاء بعض العلماء في الشهور الأخيره وكان اخرها اختفاء عالم الذره توماس بيترتون.

فقالت هيلاري:

- نعم لقد قرأت عنه في الصحف.

واستطرد جيسوب:

- إننا في بلد حر ولمن شاء ان يرحل أنى شاء.. ولكن في مثل هذه الظروف يجب ان نعرف لماذا اتختفى هؤلاء القوم، واين ذهبوا وكيف ذهبوا؟ . هل اختفوا طواعيه واختيارا من تلقاء انفسهم ، ام انهم اجبروا على الذهاب او اختطفوا او هددوا وما هو الطريق الذي سلكوه في سفرهم وما هي المنظمة التي تتولى امرهم وماهو الهدف الذي ترمي إليه المنظمه. إننا نسعى إلى رد شاف على هذه الأسئله ولعل في مقدورك انت ان تساعدينا في الحصول على جواب لهذه الأسئله.

- أنا ، ولكن كيف ؟! ولماذا؟!

فقال جيسوب:

- منذ شهرين اختفى توماس بيترتون فجأه وهو في باريس تاركا امرأته في لندن وقد نزل اختفاؤه عليها نزول الصاعقه ، او كذلك ادعت وزعمت وقد اقسمت على انه ليس لديها اية فكره عن مكانه وانها لا تعرف من الأمر شيئا، وقد تكون صادقه في اقوالها ، او كاذبه ، وانا من الذين يعتقدون انها كاذبه

وتابع جيسوب الحديث قائلا:

- وضعنا مسز بيترتون تحت المراقبه الدقيقه ومنذ اسبوعين جاءت تزورني في مكتبي وذكرت لي أن طبيبها امر بأن تسافر إلى الخارج للراحة والاستجمام لأنها ضاقت بأصدقائها واقاربها والمخبرين والصحفيين الذين لا يفتأون يلحون بالسؤال عن زوجها وكيف اختفى حتى لقد كادت تصاب بانهيار عصبي . وبالأمس غادرت مسز بيترتون إنجلترا إلى كازابلانكا.

فقالت متبرمه :

- ولكن ما شأني انا بكل هذه القصه؟

فأجابها جيسوب باسما:

- إن لك شأنا كبيرا لأن شعرك احمر .

- ماذا تقصد؟

- اهم مايمز مسز بيترتون هو شعرها الأحمر النحاسي واهم مايميزك انت ايضا هو الشعر الأحمر النحاسي نفسه.

- فليكن ، مجرد صدفه ، ولكن ما اهمية ذلك؟

- أهميته ان طائرة كازابلانكا التي سافرت فيها مسز بيترتون تحطمت وقتل معظم من فيها اما هي فأخرجت من تحت الأنقاض وماتزال على قيد الحياة وقد نقلت إلى المستشفى ولكن الأطباء يرون انها لن تعيش إلا حتى صباح الغد.

ظلت هيلاري تتابعه بعينين تتساءلان عما يبغي منها.

واستطرد جيسوب:

- غدا ستلفظ مسز بيترتون انفاسها الأخيره ، ولكنها مع ذلك ستواصل رحلتها لأنك ستتقمصين شخصيتها وتنتحلين اسمها.

ظلت هيلاري تحملق فيه كالمشدوهه فاغرة فمها، ثم قالت :

- ولكنهم طبعا سيعرفون في الحال أني لست مسز بيترتون؟!

- هذا يتوقف على الذين سيقابلونك ، وهل سبق ان رأوا مسز بيترتون من قبل ؟ إن مثل هذه المنظمات تعمل عادة اسلوب الخلايا المستقله فكل خليه مكونه من ثلاثة او اربعة اشخاص لا يعرفون الخلية الأخرى، حتى إذا وقعوا في يد الشرطه استحال عليهم ان يشوا بالآخرين ، لأنهم لم يروهم من قبل. ومعنى هذا ان الذين سوف تلتقي بهم مسز بيترتون لا يعرفون عنها إلا انها ذات شعر احمر نحاسي وعينين زرقاوين خضراوين / وطولها خمسة اقدام وسبع بوصات وليست لها علامات مميزة ، هذه هي الأوصاف المدونه في جواز سفرها ومن حسن الحظ أن هذه الأوصاف جميعا تنطبق عليك.

فقالت معترضه :

- ولكني لا اكاد اعرف شيئا عن مسز بيترتون!

- سنزودك بما يكفي من المعلومات وسندبر الأمر على النحو التالي ، ستدخلين المستشفى ، وعندما يحين القضاء وتموت مسز بيترتون ستحلين مكانها وتنتحلين اسمها اما هي فتدفن متخذه اسمك انت ، اي سيقال أن التي ماتت هي انت . اما مسز بيترتون اي انت فسيقال انها اصيبت بارتجاج في المخ في كارثة الطائره ، وهذا يتيح لك فرصة التخلص من المآزق التي قد تقعين فيها بأن تتظاهري بفقدان الذاكره من حين لآخر . ومع ذلك فقد ينكشف سرك وتقتلين ، ولكني لا احسبك تبالين بالموت مادمت لا تقيمين وزنا للحياة وتنشدين الانتحار ، فما رأيك ؟! اتقبلين هذه المهمه؟

ودون تردد اجابت هيلاري كرافن :

- ولم لا ؟ لقد قبلت ان اكون مسز بيترتون.

فقال جيسوب:

- إذن هيا بنا فلا وقت لدينا لنضيعه.
-------------------------
على مقعد حديدي صلب جلست هيلاري كرافن بجانب الفراش الذي ترقد عليه اوليف بيترتون معصوبة الرأس بالضمادات غائبة عن الوعي .وعلى الناحية الأخرى من السرير وقفت إحدى الممرضات والطبيب يتأملان المصابة . اما جيسوب فكان جالسا في ركن من الغرفه .

وتحول الطبيب إلى جيسوب قائلا بالفرنسية :

- لن يطول الأمر ، فإن النبض ضعيف جدا .

- ولكن هل تموت قبل ان تسترد وعيها؟!

- هذا ما لا استطيع ان اقطع به .. ربما استردت وعيها في اللحظات الأخيره .

- الا تستطيع ان تعطيها منبها؟!

هز الطبيب رأسه نفيا .. وغادر الغرفة والممرضه في اعقابه.

قال جيسوب يخاطب هيلاري كرافن :

- لكم كنت اتمنى ان تسترد وعيها ولو لحظات حتى احصل منها على شيء من المعلومات ، اي شيء مجرد كلمة عابره، مجرد إشاره او كلمة السر. حاولي ان تنصتي إليها جيدا ، وإذا تكلمت فحاولي ان تستدرجيها فقد تنطق بشيء حتى في غيبوبتها .

- وهل نصارحها بأنها تحتضر وانها لن تعيش؟!

- لا ادري يجب ان افكر في هذا ...



****

مضت هيلاري تتأمل المرأه الراقده على الفراش .. ترى هل جاءت حقا إلى مراكش لتقابل ذلك الزوج الذي اختفى؟ ام انها كانت موشكه على الانهيار فجاءت تنشد الراحة والاستجمام؟!

ومر الوقت حتى انقضت ساعتان ، ثم فتح الباب وجاء الطبيب يعود مريضته مره اخرى .

جس نبضها ، ثم قال:

- هناك بعض التغير وإن كان كل شيء يوشك ان ينتهي .

وتململت المريضه في فراشها قليلا وفتحت عينيها لتجد نفسها تتطلع مباشرة في عيني هيلاري، ثم عادت واطبقتهما من جديد.

وهمست في صوت لا يكاد يبين:

- اين انا ؟!

وفي رفق اخذ الطبيب بيدها وأجاب :

- إنك في المستشفى ياسيدتي ، لقد وقع حادث للطائرة .

فردت هامسه :

- الطائره ؟!

وسألها الطبيب :

- اتريدين ان تتصلي بأي شخص هنا في كازابلانكا؟ إننا نستطيع ان نبلغه أية رسالة منك.

فرفعت إلى الطبيب عينين باديتي الألم وردت :

- لا .

ثم عادت من جديد إلى هيلاري وتساءلت :

- من انت ؟

فمالت هيلاري فوقها وفي صوت جلي واضح النبرات قالت :

- إني قادمه لتوي من انجلترا على إحدى الطائرات ، فإذا كان في وسعي ان افعل شيئا لأجلك فأخبريني على الفور.

- لا .. لا شيء .. إلا إذا...

وصمتت . فتطلع الطبيب إلى المرأتين ثم مضى يغادر الغرفه وفي اعقابه الممرضه. وخلت المرأتان كل إلى صاحبتها وبدا ان مسز بيترتون تجاهد لكي تنطق بشيء فقالت:

- أخبريني .. اخبريني .. هل؟! هل...؟!

وادركت هيلاري دون عناء ما تسأل عنه مسز بيترتون فأجابت :

- نعم إنك تحتضرين .. أهذا هو ماتريدين ان تسألي عنه؟! والآن سأحاول ان اتصل بزوجك فهل تريدين إبلاغه رسالة منك؟!

- أخبريه .. أخبريه ان يكون على حذر .. بوريس .. بوريس .. بوريس شخص خطر.

وتسارعت انفاسها لاهثه وتنهدت .. ومالت هيلاري فوقها تسألها :

- ايمكنك ان تذكري لي شيئا يساعدني في رحلتي .. اي شيء يمكنني من الاتصال بزوجك ؟!

- الثلج.

استبدت الحيرة بهيلاري وجعلت تردد الكلمة في دهشه :

- الثلج؟! الثلج؟!

ومضت تكررها تباعا دون ان تفقه المقصود منها .

فلاحت على شفتي المحتضره ابتسامه واهنه ثم ضحكت ضحكه مخنوقه لا تكاد تسمع وانفرجت شفتاها عن اغنيه شائعه من اغنيات الطفوله :

" الثلج ، الثلج ، الثلج الجميل .. تدوسين على قطعه منه وتنزلقين .. ثم تذهبين .. تذهبين"

واخذت المحتضره تردد بصوتها الواهن الضعيف :

- تذهبين .. تذهبين .. إذهبي وحدثيه عن بوريس .. إني لا اصدق هذا .. لا استطيع ان اصدق ولكن ربما كان صحيحا .. وإذا كان فيجب ان يكون على حذر..

واختلجت العينان والشفتان .. وماتت اوليف بيترتون ..



*****



كانت الأيام الخمسه التاليه اياما مضنيه مرهقه .. لازمت هيلاري كرافن في المستشفى غرفة خاصه لا تبرحها ، منهمكه في تلقي دروسها ، وفي كل مساء تمتحن فيما تلقنته طوال ساعات النهار ..

على ورقة أمامها سطرت كل المعلومات التي يعرفونها عن اوليف بيترتون ، وكان على هيلاري ان تعيها في ذاكرتها . المنزل الذي كانت تسكنه اوليف ، الخدم الذين عملوا لديها ، اسماء الاقارب والأصدقاء ، واسم كلبها المدلل وطائر الكناريا.. كل التفاصيل الخاصه بحياتها خلال الستة شهور الماضية منذ تزوجت .. حفلة القران وأسماء الوصيفات، مالذي كانت تفضله مسز بيترتون من طعام وشراب ..



وضاقت هيلاري بكثرة ما لقنت .. فسألت جيسوب :

- هل لهذا كله اهميه ؟!

- ربما نعم ، ربما ، ولكن ينبغي ان تكوني متأهبه لكل المفاجآت فقد تباغتين بسؤال ، أي سؤال ، فيجب ان يكون الرد حاضرا ، دون اي تفكير او تردد .

واخذ يلقنها دروسا في الشفره وفي الكتابه السريه وفي وسائل الاتصال الخفيه. واخيرا ابدى جيسوب رضاه وارتياحه قائلا:

- إنك في الحق تلميذه نجيبه، يمكن الركون إليها..إنني احب ان اذكر لك انك لن تكوني منعزله عنا .. فسوف نكون اتبع لك من ظلك معظم الأوقات ..



وتساءلت هيلاري :

- وماذا يكون من امري عندما ابلغ نهاية المطاف .. اي عندما ارى نفسي وجها لوجه امام توماس بيترتون؟!

فهز جيسوب رأسه بجديه وقال:

- هنا موضع الخطر .. إذا سارت الأمور على الصورة التي نتخيلها فإننا سنكون بجانبك ، نحميك ونذود عنك .. ولكن يجب ان اذكرك بما سبق ان قلته لك وهو ان المخاطره هي اساس هذه المهمه .. فمن المحتمل ان ينكشف امرك فيكون القتل مصيرك ..



ثم اردف :

بعد خروجك من المستشفى ستنزلين في الفندق نفسه الذي حجزت فيه مسز بيترتون غرفه لها وسوف ترتدين ملابسها وتنسقين شعرك على الطراز الذي اعتادته . وقد عهدنا إلى طبيب من اطباء التجميل ان يدرس وجهك وأن يلصق عليه بعض رقائق البلاستيك تجعلك ادنى شبها إلى أوليف بيترتون . وحتى إذا فطن أحد إلى التحامها فسوف يعزو هذه الآثار إلى حادث الطائره .



وتأملته هيلاري بنظرة تقدير وإعجاب وقالت :

- الحق انك دقيق في عملك لا تغفل شيئا.

- هذا واجبي لأن اتفه الهنات كفيله بأن تفسد ادق التدبيرات . والآن ارجو ان تقصي علي ماحدث بينك وبين اوليف بيترتون. هل تلفظت بشيء قبل ان تموت ؟!

وروت له ماسمعته من المرأة التي كانت تحتضر وقالت:

- واهم مارددته هو قولها " قولي له ان بوريس شخص خطر"
فقال جيسوب :

- بوريس؟! لا بد إذن انها تقصد الميجور بوريس جلايدر فقد زارني في مكتبي زاعما انه ابن عمة زوجة بيترتون الأولى ، وإن لم اكن متأكدا من حقيقة شخصيته.. وقد امرت بتعقبه عند خروجه من مكتبي فذهب لتوه إلى السفارة الأمريكيه ثم لم يخرج منها ، ويبدو انه تسلل من احد الأبواب الخلفيه ..

فقالت هيلاري :

- هل لك ان تصفه لي؟!

فأدلى إليها بأوصافه ثم اردف :

- صدقت مسز بيترتون فالميجور بوريس جلايدر شخص خطر ..
---------------------------
في قاعة الاستقبال في فندق سان لويس في كازابلانكا جلست ثلاث سيدات كل منهن منهمكة بشأن يخصها . فالأمريكيه مسز كالفين بيكر جالسه إلى مكتب صغير مقبله على تسطير بعض الرسائل . والإنجليزيه مس هيذرنجتون متراخيه في مقعد ضخم وبين يديها إبرة التيركو تطرز جاكته من الصوف من النوع الذي تألف السيدات الانجليزيات ارتداءه. اما الفرنسية مدموازيل جين ماريكو فكانت تجلس بجانب إحدى النوافذ تنظر إلى الخارج وهي تتثاءب من حين لآخر او تدير بصرها إلى المرأتين بضيق وملل ..



وكانت مسز هيذرنجتون ومسز بيكر قد امضيتا بضع ليال تحت سقف فندق سان لويس فتم بينهما التعارف، وذلك ان مسز كالفين بيكر بسجيتها الأمريكية المتآلفه كانت لا تفتأ تتحدث إلى اي انسان بسماحة وانطلاق.


وبرز في مدخل القاعه فرنسي تبدو عليه سمة رجال الأعمال ، ثم ارتد عنها راجعا حين رآها تكاد تبدو خالية وقد ألقى على جين ماريكو نظرة اسف .


فأخذت مس هيذرنجتون تعد الغرز التي طرزتها ، ثم همست تخاطب نفسها :


- والآن ماهو نوع الغرزة التاليه ؟!


ووصلت امرأة اخرى ، طويلة القامة حمراء الشعر فأطلت على الغرفه وبدا عليها التردد قليلا ثم استدارت تسير في الممشى إلى قاعة الطعام .


فانتبهت مسز كالفين ومس هيذرنجتون مما كانتا فيه ودارت مسز بيكر حول المكتب الذي تجلس إليه وهمست في صوت به رنة من الانفعال :


- أرأيت يا مس هيذرنجتون هذه المرأه ذات الشعر الأحمر التي أطلت على الغرفة ثم انصرفت ؟ انهم يقولون انها الوحيدة التي نجت من كارثة الطائره التي سقطت في الاسبوع الماضي .


- لقد شاهدتها تأتي بعد ظهر اليوم إلى الفندق في عربة الإسعاف .


- لقد اخبرني المدير أنها وصلت من المستشفى رأسا. ترى هل من الحكمة ان تخرج من المستشفى بمثل هذه السرعه وهي التي كانت مصابة بارتجاج في المخ؟!


- إن ببعض أجزاء وجهها شريطا لاصقا من أثر إصابتها بالزجاج المهشم فيما اظن . إنها لمحظوظه إن نجت من الحريق.


فقالت مسز كالفين :


- يالها من مسكينه عانت الأهوال. ترى هل كان زوجها معها ؟ وهل لقي حتفه ام نجا من الموت ؟!


- لا أظن فقد ورد في الصحف انه لم ينج من ركاب الطائره الا امرأه واحده دون أن يشيروا إلى أن زوجها كان بصحبتها .


- هذا صحيح ، وقالوا أنها تدعى مسز بيفرلي. كلا كلا ، بل مسز بيترتون.. نعم هذا هو اسمها .


فقالت مس هيذرنجتون وهي تفكر متأمله :


- بيترتون ؟ آه هذا يذكرني بما قرأته عنه في الصحف ، نعم إني متأكده من ان هذا هو اسمه.


وقالت الآنسة ماريكو تخاطب نفسها بالفرنسيه :


- ألا تباً لبيير ! إنه لا يحتمل ولا يطاق ! لكن الصغير جولز لطيف والأب ذو مركز مرموق ، فليكن ! لقد اتخذت قراري.


وفي خطى رشيقه متأنقه غادرت مدموازيل ماريكو قاعة الاستقبال.



*****


بعد ظهيرة ذلك اليوم الذي ماتت فيه مسز بيترتون ، وكانت قد مرت خمسة ايام على كارثة الطائره ، خرجت مسز توماس بيترتون المزعومه من المستشفى مستقله إحدى سيارات الإسعاف إلى فندق سان لويس وهي تبدو شاحبة الوجه عليله ، تبدو على وجهها الضمادات والأربطة والشريط اللاصق.



واتصلت هيلاري باستعلامات الفندق وسألت عما اذا كانت هناك رسائل باسمها فأجيبت بالنفي .


كان عليها وهي تنتحل شخصية اوليف بيترتون ان تتصرف بحرص وحذر وأن لا تقدم على اية خطوه إلا بعد تأن ورويه.


إن من المحتمل ان تكون اوليف بيترتون قد تلقت تعليمات بأن تتصل بتليفون معين او شخص معين في كازابلانكا فأنى لها ان تهتدي إلى ذلك؟!


إن كل مالديها لا يعدو جواز سفر اوليف بيترتون وخطابها الخاص بالاعتماد المالي، ودفتر تذاكر السفر الصادر من شركة كوك السياحية، وإخطارات الحجز بالفنادق ، وهذه عباره عن يومين في كازابلانكا وستة ايام في فزان ، وخمسة ايام في مراكش.


وطبعا انقضت هذه الايام وفات موعدها بسبب حادث الطائره لكن لا بد ان هناك من سيجددها مرة اخرى فعليها ان تنتظر وتترقب . أما خطاب الضمان المالي وجواز السفر ، فقد تولى امرهما مستر جيسوب فذيل الخطاب بتوقيع مزور لأوليف بيترتون ونزعت من الجواز صورة اوليف وحلت محلها صورة هيلاري كرافن .



وهكذا استقر الأمر لهيلاري كرافن وعليها ان تؤدي دورها باطمئنان، وإذا ألفت نفسها موشكه ان تنزلق إلى مأزق فليس اسهل من ان تتشبث بطوق النجاة فتزعم أنها فقدت ذاكرتها أو بعض ذاكرتها نتيجة لإصابتها بارتجاج في المخ.



ولاذت هيلاري بغرفتها اربعة ساعات كامله إذ المفروض لمن كان في مثل حالتها لم يغادر المستشفى إلا منذ لحظات أن يتريح ويستجم . ولكنها خلال هذه الساعات جعلت تستعيد إلى ذهنها كل ما لقنته عن حياة أوليف بيترتون من دقائق وتفصيلات حتى لا تفاجأ بسؤال تعييها الإجابة عليه فتنكشف خدعتها بانتحال شخصية غيرها.



واخيرا تجملت قليلا ونزلت إلى قاعة الطعان لتناول العشاء. وما إن تراءت في مدخل القاعة حتى انتهبتها الأنظار من كل صوب وفطنت إلى همسات خافته ترددت في أرجاء القاعه ،بل قد تبادرت إلى سمعها بعض العبارات ترددها الحاضرات.

واتت إمرأه قصيرة القامه متوسطة العمر تميل إلى البدانه وسحبت مقعدا ادنته منها وأنشأت تكلمها بلهجة امريكيه واضحه:

- معذرة إن طرحت عليك سؤالا . ألست انت السيدة التي نجت بمعجزه من كارثة الطائره؟

نحت هيلاري المجلة التي كانت تتصفحها وقالت :

- نعم .

- ياإلهي ! كانت كارثه رهيبه ! يقال ان ثلاثة فقط هم الذين نجوا من الحادث ، اليس كذلك ؟!

- بل اثنان ، فقد مات أحد الثلاثة في المستشفى.

- رباه .. إني لم اسمع بهذا بعد يا مس .. يا مسز ...

فقالت هيلاري:

- مسز بيترتون .

- لكن ، اين كان مقعدك عند وقوع الحادث ؟! أعني في مقدمة الطائره ام عند ذيلها؟!

وكانت هيلاري قد لقنت الرد على هذا السؤال وهي تتلقى دروس التعليمات التي قد تحتاج إليها في انتحال شخصيتها الجديدة فردت:

- بل في المؤخره .

- إنهم يقولون إن هذا اسلم مكان في الطائره إذا ماوقع لها حادث .. إني دائما اصر على الجلوس في المؤخره.

ونظرت إلى سيدة اخرى متوسطة العمر انجليزية السمات تجلس بالقرب منها ، فقالت تخاطبها :

- أسمعت هذا يا مس هيذرنجتون؟! تماما كما كنت اقول لك بالأمس . يجب ان تصممي على الجلوس في مؤخرة الطائرة مهما حاولت المضيفه ان تغريك بالجلوس في المقدمة.

فردت هيلاري ببساطه :

- ولكن لا بد للبعض ان يجلس في المقدمه .

- على اية حال لن اكون انا من هذا البعض.

ثم اردفت :

- إني ادعى مسز بيكر .. كالفن بيكر .. إني امريكيه الجنسية وقد وصلت لتوي من مونكادور ، أما مس هيذرنجتون فجاءت من طنجه وقد تم التعارف بيننا هنا ... ترى هل تنوين السفر إلى مراكش يا مسز بيترتون؟!



فردت هيلاري :

- هذا فعلا ما كنت انوي ، ولكن الحادث افسد الترتيبات .

- طبعا طبعا .. لكن يجب ألا تفوتك زيارة مراكش .. ألا تقريني على هذا يامس هيذرنجتون؟!

فردت مس هيذرنجتون :

- ولكن مراكش باهضة التكاليف وقيود تحويل النقد تزيد الأمر صعوبه ومشقة.

فأكملت مسز بيكر :

- إن فندق ( المأمون ) من الفنادق الفاخره ، فيمكنك ان تنزلي فيه .

فانبرت مس هيذرنجتون تقول معترضه:

- لكن اسعاره مرتفعه لا تحتمل ولا يمكن ان يخطر لي ان انزل فيه اما انت يا مسز بيكر فالأمر بالنسبة إليك يختلف إذ لا قيود عليكم معشر الأمريكيين في تحويل ما تشاؤون من الدولارات.

فتابعت مسز بيكر متسائله:

- وهل تنوين يا مسز بيترتون زيارة بلاد اخرى؟!

- في نيتي زيارة فزان ، ولكن لا بد طبعا ان اجدد الحجز في الفندق.

- طبعا فزيارة فزان او الرباط ينبغي ان لا تفوتك.

- وهل سبق لك زيارتهما؟!
-----------------------
- ليس بعد ، ولكني ذاهبه إليها قريبا وكذلك مس هيذرنجتون.

وقالت مس هيذرنجتون:

- اعتقد ان الحي القديم لا يزال على حاله لم تفسده المدينه.

واستمر الحديث على هذا النحو برهة من الوقت ، ثم استأذنت هيلاري في الانصراف متذرعة بالتعب ، إذ كان هذا هو اول يوم غادرت فيه المستشفى ، وصعدت إلى مخدعها .

ترى، هل كانت هذه الاسئلة التي وجهتها إليها مسز بيكر مجرد حديث عابر ام استجوابا مقصودا له هدف مبيت؟!

ومهما يكن فقد قررت هيلاري كرافن ان تمضي في اليوم الثاني الى شركة كوك وتجدد الحجز في فزان والرباط ، وذلك مالم يتصل بها اخد العملاء ليلقي إليها بتعليمات اخرى .

وفي اليوم التالي لم تتلق أي خطاب او رسالة تليفونيه وما شارفت الساعه على الحادية عشرة حتى كانت في مكتب السياحه متخذة مكانها في الطابور الطويل المصطف امام الشباك .

واخيرا ، حان دورها وبدأت تحدث كاتب الحجز عما تبغي ، ولكن رئيسه بادر إليها من وراء مكتبه قائلا:

- دعيني اولا اهنئك على نجاتك يا مسز بيترتون . اما عن الحجز فقد نفذت فعلا تعليماتك التليفونيه ، وهاهي التذاكر جاهزه.

تسارعت نبضات قلبها .. إنها لم تتصل بشركة كوك ولم تعهد إلى احد بالاتصال بها . إذن فالترتيبات الخاصة بسفر مسز اوليف بيترتون إنما تنظم بمعرفة شخص آخر مجهول .

وقالت :

- لقد اتيت بنفسي لأني خشيت ان يكونوا قد اغفلوا الاتصال بكم.

وفي صباح اليوم التالي كانت مسز هيلاري كرافن في طريقها إلى فزان

خيبت كازابلانكا احلام هيلاري كرافن، فقد بدت اشبه ببلدة فرنسية الطابع، ليس فيها شيء من نسمات الشرق السحريه التي كانت تهفو إليها .

فأخذت تنظر من نافذة القطار إلى الاراضي المنبسطه امامها وهو منطلق عبر السهول ناحية الشمال.

ولم يكن في المقصوره عداها إلا أربعة اشخاص ، فرنسي يجلس قبالتها وله طابع الوسطاء المتجولين، وراهبة منزويه في احد الأركان واصابعها تجري على مسبحتها ، وامرأتان مراكشيتان تتسامران في مرح وغبطه.

وحين تناولت هيلاري سيجاره من علبتها سارع الفرنسي يشعلها لها ، وكان ذلك بداية وصلت الحديث بينهما.



وقال لها الفرنسي فيما قال:

- ينبغي يا سيدتي ان تزوري الرباط. إنها رائعه ومن الخطأ ان تفوتك مشاهدتها.

فقالت:

- سأحاول وإن لم يكن في الوقت متسع

ثم اردفت وقد لاحت على شفتيها ابتسامه خفيفه:

- وفضلا عن هذا فإن نقودي وشيكه على النفاذ. إنك تعلم انهم لا يسمحون لنا بأن نأخذ معنا إلى الخارج إلا القليل.

فقال:

- ولكن هذا امر سهل ياسيدتي ، يمكنك تدبيره مع اي صديق لك هنا.

- اخشى اني لا اعرف احدا في مراكش.

فقال في سماحه:

- في رحلتك التاليه حسبك ان تبعثي إلي بكلمه صغيره فأدبر لك الأمر، وهاك بطاقتي .. إنني اسافر إلى انجلترا كثيرا فيمكنك ان توفيني هناك ما اعطيه لك ..

- شكرا لك ياسيدي فإني افكر فعلا في ان ازور مراكش مرة اخرى.

- لاشك انك وجدت مراكش مختلفه تماما عن انجلترا فجوها كريه ، شديد البرودة مغلف بالضباب.

ثم استطرد :

- لقد تركت باريس منذ ثلاثة اسابيع وكانت هي الأخرى غارقة في الضباب والأمطار ، اما هنا فالشمس دائما مشرقة رائعه .. وإن كان الجو باردا إلى حد ما .. كيف كانت حالة الجو عندما غادرت انجلترا ؟!

فردت هيلاري:

- ضباب خانق .

- تماما تماما .. فهذا هو موسم الضباب .. وكيف كانت حالة الثلج ؟ الم يسقط عندكم هذا العام؟!

تساءلت هيلاري في نفسها عما إذا كان هذا الفرنسي يتبع الأسلوب الانجليزي التقليدي فيدور حديثه عن الجو ، ام انه يهدف إلى شيء اخر حينما اشار إلى الثلج ؟! وهي الكلمة نفسها التي رددتها اوليف بيترتون قبيل ان تلفظ انفاسها الاخيره ؟! هل الثلج ، وقد رددها مرتين .. مجرد كلمة عارضه .. ام رمز خفي ؟!

وتوقف بهم القطار اخيرا في فزان وقد هبط الليل ، وبادر الفرنسي يحمل عنها حقيبتها ، وسألها :

- اذاهبه انت ياسيدتي إلى فندق ( قصر الجمال ؟!)

- فردت ب: نعم . فاستطرد :

- إنه يبعد عن المدينة ثمانية كيلومترات.

فقالت في دهشه :

- ثمانية كيلو مترات؟ إذن فهو في ضواحي المدينه.

- إنه في الحي القديم ، اما انا فسأنزل في احد فنادق المدينه التجاريه الجديده ولكن على من ينشد الراحة والهدوء والاستجمام ان يهرع إلى قصر الجمال فقد كان هذا القصر مقاما لإحدى الاسرات المراكشيه النبيله ، ثم تحول إلى فندق وهو يتميز بحدائقه الواسعه الرائعه كما انه مجاور للحي القديم ذي الطابع الشرقي الخلاب .

ثم اردف :

- يبدو ان الفندق لم يوفد احد لاستقبالك فاسمحي لي ان استدعي لك تاكسيا .

- شكرا لك يا سيدي .

وتحدث الفرنسي بالعربيه مع احد الحمالين ، وشيعها حتى استقرت في السياره ثم قال لها :

- إن بطاقتي معك يا سيدتي فإن احتجت شيئا فلا تترددي في الاتصال بي ، إني نازل في فندق جراند اوتيل.. ولن اسافر إلا بعد اربعة ايام.

ورفع قبعته يحييها وانطلق بها التاكسي .

وتناولت هيلاري بطاقة الفرنسي لتقرأ اسمه : ( هنري لورييه ) ..

وانطلق بها التاكسي إلى ضواحي المدينه يشق الطرقات الريفيه ، وحاولت هيلاري النظر من النافذه ولكن الظلام كان سائدا يحول دونها وان تتبين معالم الطريق. فيما عدا بعض ابنيه متناثره كان الضوء يشع منها.

وتزاحمت الخواطر في ذهنها وتدفقت واخذت تسائل نفسها:

- ترى امن هنا تبدأ رحلتها إلى المصير المجهول ؟ وهل مسيو هنري لورييه عميل سري من عملاء المنظمه ؟!

وهل يكون هو الذي اغرى توماس بيترتون بأن يتخلى عن عمله ويهجر زوجته ويرحل عن وطنه. ثم إلى اين يمضي بها هذا التاكسي؟!



ولكن التاكسي مالبث ان توقف بها امام فندق قصر الجمال فانتزعها من دوامة خواطرها المتضاربه الصاخبه.

نزلت من السياره ودخلت إلى الفندق تشق طريقها وسط جو شرقي اصيل فالثريات من النحاس المشغول والأرائك والوسائد بدلا من المقاعد متناثرة بألوانها الزاهيه البراقه والموائد في جميع الاركان وفوقها صواني القهوة والأقداح اما غرفتها فكانت مزوده بكل وسائل الراحة العصريه.



ابدلت هيلاري كرافن ثيابها ونزلت إلى قاعة المائده لتناول العشاء وكان الطعام شهيا طيب المذاق.

ودارت ببصرها في انحاء القاعه تستجلي وجوه الحاضرين وتنظر إلى الداخلين والخارجين.

واسترعى نظرها كهل ذو لحية صغيره مدببه إذ كان الجرسونات جميعا يهرعون إليه مهرولين لأضأل إيماءه يبديها من رأسه أو اصبعه او حتى من حاجبه .

فأخذت تسائل نفسها عمن يكون هذا الرجل ذو الشخصيه المرموقه.

وإلى مائده اخرى وسط القاعه كان يجلس رجل الماني، كما كان هناك كهل تجالسه فتاه على غايه من الجمال تراءى لهيلاري انها لا بد ان تكون سويديه او هولنديه.. كما كانت هناك اسره انجليزيه معها طفلان ، وكذلك تناثرت حول الطاولات الاخرى جماعه من الامريكيين وثلاث من الاسرات الفرنسيه.

وما إن فرغت هيلاري من العشاء حتى خرجت إلى الشرفة لتناول القهوه , وكان الجو باردا ، فسرعان مالاذت بمخدعها. وفي الصباح عادت إلى الشرفه والشمس تغمر الارض بالضوء واشعتها تبعث الدفء ، فاتخذت مكانها تحت مظله تقيها الحراره المتوهجه.
------------------------------
وجاءت السويديه الشقراء فجلست إلى إحدى الطاولات واخذت تتثاءي في ضجر وملل وقد زمت مابين حاجبيها ثم اقبل رفيقها الكهل ، وتساءلت هيلاري عما إذا كان زوجها او ابوها.

وحيته الفتاه في وجوم دون ان تبتسم ثم مالت إليه تحدثه في عصبيه ، وانكمش الرجل وبدا كمن يعتذر إليها.

ثم اقبل الرجل ذو اللحيه المدببه واتخذ لنفسه مائده في اقصى الشرفه وهرول إليه الجرسون يكاد يركض ، فتلقى اوامره ثم انصرف مسرعا.

ولمست السويديه الحسناء ذراع رفيقها واتجهت ببصرها ناحية الكهل الملتحي وغمغمت ببعض الكلمات.

طلبت هيلاري كأسا من المارتيني وهمست تسأل الجرسون:

- من يكون هذا الرجل الجالس في اقصى الشرفه؟!

فأجاب الجرسون في زهو وخيلاء :

- إنه مسيو اريستيد.. إنه ثري جدا .. من كبار اصحاب الملايين.

وتطلعت هيلاري إلى الرجل .. هذا العجوز المنكمش على نفسه .. هذا المخلوق المغضن الوجه الذي يبدو اشبه بالمهرجين .. ألِأن خزائنه عامره بالمال يولونه كل هذا الاهتمام؟!

ورفع الرجل رأسه وتلاقت نظراته بنظرات هيلاري برهه ... ثم مالبث ان اشاح عنها.

ونهضت السويدية الحسناء ورفيقها ودخلا إلى المائده.

ثم رجع الجرسون يحمل كأس المارتيني وقال لها وقد وضعه امامها على الطاوله:

- هذا الشخص الذي مضى الآن إلى قاعة الطعام .. إنه قطب من اقطاب الصناعة في العالم ، وهو غني جدا .. والسيدة التي معه نجمه من نجوم السينما .. ويقولون عنها انها جريتا جاربو اخرى .. إنها انيقه جدا وجميله جدا .. ولكنها دائما تتشاحن معه .. لا شيء يعجبها هنا .. فقد كرهت فزان حيث لا توجد محال ، وهي تريد ان يذهب بها غدا إلى مكان اخر يبعث على التسليه.

ثم اردف :

- حتى الاغنياء لا ينعمون بالهدوء وراحة البال.

وعند هذه الكلمات استدار الجرسون واسرع منصرفا ليلبي اشارة لأحد النزلاء.



وجاء إلى الشرفه من البار شاب فرنسي وسيم فرمى هيلاري بنظره طويله ذات مغزى خفي كأنما يقول لها :

- مالذي يدعوك للبقاء هنا؟! لم لا تتمشين قليلا في الحديقه؟!

ثم هبط الدرج إلى الحديقة وهو يتمتم بمقطوعه من إحدى الأوبرات الفرنسيه منشدا:

وكانت زهور اللورييه صفوفا طويله .. منتشيه تحلم احلاما جميله ..



فأيقظت كلماته في نفس هيلاري ذكرى بعيده .. ذلك الفرنسي الذي التقت به في القطار وقدم إليها بطاقته ، اما كان يدعي لورييه ؟! وها هوذا هذا الفرنسي يردد الكلمة نفسها .. زهرة اللورييه..

فهل ثمة ارتباط بين الأمرين ام مجرد مصادفه ؟!

وفتحت حقيبتها وتناولت البطاقه .. نعم .. إنه يدعى هنري لورييه .. وعنوانه رقم 3 شارع كرواسانت ، كازابلانكا ..

وجعلت تقلب البطاقه بين يديها وهي ساهمه شارده . ثم فطنت إلى آثار كتابه متخلفه على ظهر البطاقه بعد ان محيت الكلمات .

ورفعت البطاقه إلى عينيها في ضوء الشمس .. محاوله ان تتبين آثار اخرى مطموسه غير واضحه ..

وأخيرا قرأت كلمة : دانتان ...

ومضت تتساءل عما إذا كانت هذه الكلمات تنطوي على معنى خفي ..؟

ثم هزت كتفيها يائسه ونفضت الفكره من رأسها ودست البطاقه في حقيبتها.



وسقط ظل على وجهها فرفعت رأسها مجفله . كان مستر اريستيد منتصبا على كثب منها وبين الشمس فوقع ظله على وجهها .

بيد انه لم يكن ينظر إليها وإنما كان ينظر إلى التلال البعيده عبر الحديقه .

وسمعتع يتنهد ثم يستدير فجأة متجها إلى قاعة الطعام فإذا بذراعه تصطدم بكأس المارتيني الموضوع على مائدتها فأطاح به إلى الارض وتهشم..

وتحول إبها المليونير اليوناني قائلا بالفرنسيه:

- اه الف معذره يا سيدتي ..

فتبسمت هيلاري في وجهه واكدت له ان الامر ليس بذي اهميه .. وتلبية لفرقعه خفيفه من اصبعيه جاء الجرسون مهرولا فأمره بأن يجلب للسيدة كأسا اخر ، ثم كرر اعتذاره ومضى إلى قاعة الطعام .

وعاد الشاب الفرنسي من الحديقه وهو مايزال يترنم مغنيا وحين مر بجانب هيلاري تريث في مشيته عامدا . وإذ رأها لا تشجعه ولا تلقي إليه بالا هز كتفيه متفلسفا وتابع طريقه.

وحمل إليها الجرسون شرابها فسألته هيلاري:

- هل ينزل مستر اريستيد في الفندق وحده ام معه حاشيته؟

- إن الأثرياء من امثاله لا يسافرون وحدهم ابدا . إن معه وصيفه وسائق سيارته واثنان من السكرتاريه.

وحين ذهبت هيلاري إلى قاعة الطعام رأت اليوناني منفردا إلى إحدى الموائد كما كان شأنه في الليلة السابقه وإلى مائدة قريبه كان يجلس شابان رجح لديها انهما السكرتيران إذ كانا لا يفتآن ينظران إلى المائده التي يجلس إليها مستر اريستيد.



وانقضت الظهيره في سلام وهدوء وطاب لهيلاري ان تمضي معظم الوقت في الحديقه غارقه بأحلامها وخواطرها ، ناعمة بالجو الشذي والنسمات العطره التي تنساب حولها.

واشرفت الشمس على المغيب وهبت نسمات بارده ارتعدت لها هيلاري ، فزايلت الحديقه إلى قاعة الجلوس فإذا بها تلتقي وجها لوجه بمسز كالفين بيكر .



فقالت لها الامريكيه :

- قد وصلت لتوي بالطائره من كازابلانكا ، فإني لا اطيق القطارات باهتزازها وتأرجحها فوق القضبان.

ولم تدع لهيلاري فرصه للحديث وانما استطردت ، على الفور تقول:

- وكيف حالك الآن ؟ لا بد انك زرت المدينه القديمه اليوم ؟!

- الحق انني امضيت نهاري استمتع بالشمس.

- اه .. فقد نسيت انك خارجه لتوك من المستشفى ، فلا بد بعد الارتجاج من الراحه والاستجمام ، وان ترقدي في غرفه معتمه معظم ساعات النهار ، ورويدا رويدا يمكن ان تعتادي على المشي والتجول ، وعندئذ سأدعوك إلى ان تصحبيني في بعض الرحلات ، لأني احب جعل ايامي حافله زاخره بالنشاط رغم مابلغت من العمر.

فهنأتها هيلاري بوفرة حيويتها ونشاطها .

واستطردت مسز بيكر:

- اتذكرين السيده التي عرفتك بها في كازابلانكا ؟ مس هيذرنجتون ؟ إنها قادمه اليوم بالقطار إذ تؤثره على الطائره.

واستمرت تقول مندفعه كالسيل الجارف :

- لقد حجزوا لي غرفه لا تروقني ، ولكنهم وعدوا بتغييرها ، وسأذهب إليهم الآن لأرى ما اتخذوا في هذا الشأن.

وانصرفت على الفور تمشي في نشاط لا يتفق وسنها.

وعندما نزلت هيلاري إلى قاعة الطعام مساء ذلك اليوم كانت مس هيذرنجتون هي اول شخص وقع عليه بصرها.

وبعد العشاء ، شربت السيدات الثلاث القهوة معا وتبادلن ملاحظات عابره عن نزلاء الفندق الذين كانوا متناثرين حول الطاولات يتناولون العشاء.
-----------------------
مضت هيلاري إلى مكتب الاستعلامات بالفندق، تخطرهم بعزمها على زيارة الحي الشرقي فزودوها بدليل يصحبها إليه. ومضى الدليل تصحبه هيلاري يجتازان حديقة الفندق الشاسعة الارجاء ، حتى اذا انتهيا إلى طرفها القصي أخرج الدليل من جيبه مفتاحا كبير الحجم ، وفتح به بابا تكاد تحجبه الأشجار عن النظر ودلف منه تتبعه هيلاري.


وتسمرت هيلاري مكانها في عجب ودهشه ، فقد الفت نفسها في دنيا غير تلك الدنيا التي كانت تعيش فيها منذ لحظات. إذن فهذا هو الحي الشرقي الشهير.


شوارع ضيقه ملتويه لا تكاد تتسع لاثنين يسيران جنبا إلى جنب ، وبيوت منخفضه متلاصة لو ان الاذرع ارتعت لطاولت سقوفها ، واناس يروحون ويغدون في عباءاتهم الوسيعه الفضفاضه ، اما الحوانيت فتكدست فيها السلع والتحف الشرقية الجميله المصنوعه من الجلد المزركش او النحاس المشغول.


وفتنها المشهد وسحرها ، لولا هذا الدليل الذي كان لا ينفك يثرثر في اذنها من لحظة لأخرى:


- انظري لهذا يا سيدتي .. تأملي ذلك .. هل يعجبك هذا ؟!


كأنما ليس لها عينان ترى بهما ..


واخيرا قال لها الدليل بعد ان امتدت بهما الجولة وطالت:


- والآن سأذهب بك ياسيدتي إلى مشرب للشاي حيث تتناولين الشاي المغربي الشهير بمذاقه اللذيذ.


ومضى بها إلى مشرب يقع على سفح احد التلال.


فألفت نفسها داخل مبنى شرقي الطراز تناثرت فيه على ارض القاعه وسائد من الجلد المزكش، وارائك مكسوه بقماش منقوش زاهي اللون . وقدم إليها الشاي المخلوط بالنعناع في كوب زجاجية صغيرة الحجم وكان عليها ان تشرب مثنى وثلاث ورباع.


وقال لها الدليل :


- والآن سآخذك في السيارة إلى الضاحية لتري مشهد الطبيعه في بلادنا وهو مشهد ساحر خلاب.


ثم اردف :


- ولكن هذه الجرسونه ستذهب بك اولا إلى الحمام إذا لا شك انك تريدين ان تغتسلي.


ودخلت الجرسونه في الحديث قائله بابتسامه لطيفه :


- إن لدينا في فزان يا سيدتي حمامات رائعه لا تقل جمالا عما رأيت في لندن او باريس او شيكاغو.


ونهضت هيلاري عن الوساده التي كانت متربعه فوقها ومضت في اعقاب الجرسونه.


كان الحمام فعلا على غاية من الأناقة والنظافه وكان مزودا بالماء الساخن والبارد . وفرغت هيلاري من تجميل نفسها وهمت بالخروج .. ولكنها حين ادارت مقبض الباب استعصى وابى ان ينفتح.


عقدت هيلاري مابين حاجبيها دهشة وغضبا إذ مامعنى ان تحبس في الحمام ؟ ومن يكون ذلك الذي اوصد عليها الباب من الخارج؟


وهمت بأن تقرع الباب لولا أن فطنت إلى باب اخر يقوم في الجدار المقابل فسارت إليه وأدارت مقبضه فانفتح على الفور.


وجدت نفسها في غرفه صغيره شرقية الطراز معتمة الضوء. وحين الفت عيناها الرؤيه وادارت بصرها في انحاء المكان ، إذ بها تراه جالسا هناك على اريكه يدخن سيجارته في هدوء.


ذلك الفرنسي الذي التقت به في القطار .. مسيو هنري لورييه.

لم ينهض الفرنسي ليحييها وإنما لزم مكانه واكتفى بأن يقول لها :


- طاب يومك يا مسز بيترتون.


ولبثت مكانها برهة جامده بلا حراك ، وطغت عليها دهشة لجمت لسانها وشلت تفكيرها .


ثم بدأت تستعيد رباطة جأشها .


إذن فقد بدأت الرحله الحقيقيه ! إذن فهذه هي المغامرة التي كانت تترقبها .. إن عليها ان تتصرف طبقا لما كان مفروضا ان يصدر عنها هي .. عن مسز بيترتون الحقيقيه..


إن عليها ان تحسن اداء دورها وإلا اودت بنفسها إلى التهلكه ..


وقالت بعد ان تمالكت وسيطرت على اعصابها :


- الديك انباء لي ؟ ايمكنك ان تساعدني؟


فأومأ إيجابا ثم اردف بنبرة لوم وعتب :


- ما بالك كنت في القطار متحفظه حذره مع انني ظللت طوال الوقت احدثك عن الجو ؟


الجو ؟ ترى مالذي قاله مسيو لورييه عن الجو؟ نعم فقد تكلم عن البرد .. وعن الضباب .. وعن الثلج .. آه عن الثلج..


( الثلج ) الشيء نفسه الذي تحدثت عنه اوليف بيترتون وهي تحتضر وتلفظ نفسها الاخير ..


وتذكرت على الفور اغنية الطفوله التي رددتها عندئذ وبادرت على الفور تكرر المقطوعة نفسها :


الثلج .. الثلج .. الثلج الجميل .. تدوسين على قطعة منه وتنزلقين .. ثم تذهبين تذهبين ..


وقال لورييه :


- تماما .. إنها كلمة السر المتفق عليها فلماذا لم تستجيبي إذ ذاك وتردديها على الفور كما امرت ؟!


قالت هيلاري :


- اغاب عنك اني كنت مريضه ؟ فقد كنت في الطائره التي سقطت واصبت بارتجاج في المخ اثر على ذاكرتي إلى حد ما .. إني لا ازال اذكر الماضي بدقائقه وتفاصيله ، ولكني في بعض الاحيان اشعر بفراغ وينمحي كل شيء من ذهني ..


- إني استطيع ان ادرك هذا .. ولكن المشكله هي هل انت في حاله يمكنك معها ان تواصلي الرحله ؟


فردت في حماس :


- طبعا سأواصل الرحله .. إن زوجي ..........


فقاطعها :


- إن زوجك على مافهمت بانتظارك في لهفة وشوق ..


فتبسم في وجهها بيد ان ابتسامته كات متسمه في ثناياها بقسوه واضحه .. فسألها :


- اتعتقدين ان السلطات الانجليزيه اتقنعت بإجابتك عندما استجوبتك ؟!


- وأنى لي ان اعلم ؟ ولكن يبدو انهم كانوا راضين. ولكني اعتقد انهم وضعوني تحت المراقبه منذ غادرت البلاد . إني طبعا لم افطن إلى ان هناك من يتعقبني لكن لدي إحساسا داخليا بهذا .


- هذا شيء طبيعي توقعناه وادخلناه في حسابنا .. نحن لسنا بالأطفال البلهاء يا مسز بيترتون. إنك كنت تحت المراقبه منذ اللحظة التي اختفى فيها زوجك ، ومع ذلك استطعنا ان نبلغك رسالتنا ، اليس كذلك ؟


- طبعا طبعا ..


- والآن سأزودك بتعليماتنا الجديده .. بعد غد تسافرين لمراكش طبقا لجدول الحجز السابق.. وفي مراكش ستتلقين برقية من انجلترا تحملك على ان تتخذي على الفور الإجراءات اللازمه للعوده.


قالت باستغراب :


- هل سأعود لإنجلترا ؟!


فرد بجفوه:


- انصتي إلي ولا تقاطعيني .. ستحجزين لك مكانا في الطائره التي ستغادر كازابلانكا في اليوم التالي


- وهب ان المقاعد كلها كانت مشغوله ؟!


- لن تكون كلها مشغوله .. ستجدين مقعدا شاغرا في انتظارك .. فقد اتخذنا العدة لكل شيء .. والآن هل وعيت التعليمات تماما؟!


- وعيتها تماما.


- إذن عودي إلى الدليل فقد طال انتظاره .. وبهذه المناسبه فقد تعرفت إلى سيدتين في قصر الجمال .. إحداهما امريكيه والأخرى انجليزيه .. أليس كذلك ؟!


فردت في نبرة من الوجل :


- نعم .. فهل اخطأت بهذا؟! فقد فرضت الامريكيه نفسها علي ، ثم عرفتني بزميلتها .. إني آسفه ..


- هوني عليك فهذا التعارف يلائم خطتي .. يحسن بك ان تحاولي اقناع إحداهما بمرافقتك في رحلتك لمراكش..


- سأحاول يا سيدتي وإن كنت لا ادري إن كانت ستقبل ام لا ..


- إذن إلى اللقاء .. طاب يومك ..


فرجعت هيلاري إلى الحمام ومن الغريب ان الباب المفضي إلى المشرب استجاب لها حين ادارت مقبضه .


قالت مس هيذرنجتون تخاطب هيلاري كرافن :


- إذن فأنت مسافره غدا إلى مراكش ؟ ولكنك لم تقيمي في فزان سوى فتره وجيزه.


- لقد استمتعت منها بما يكفي .. ولعلي استطيع ان اغري ايكما بمصاحبتي في رحلتي لمراكش فقد سعدت بالتعرف بكما ، وسفر المرء وحيدا يبعث على الضجر


فردت مس هيذرنجتون:


- اجو ان تعفيني من هذه الرحله فقد زرت مراكش من قبل .


اما مسز بيكر فقد علقت قائله :


- لقد كنت في مراكش منذ شهر ولكن لم لا ازورها مرة اخرى ؟! إني ولوعه بالرحلات. والمرء حين يزور بلدا للمرة الثانيه فإنه يستشف منها ما لم يفطن إليه اول مره .. إني ذاهبه من فوري لأحجز تذكرة السفر .


خلت هيلاري كرافن بنفسها وانهالت على ذهنها الخواطر صاخبه متضاربه كأنها دوامه في لجة من الماء .. وانتزعت نفسها من خواطرها حين سممعت بغتة بجانبها صوت يقول :


- اتسمحين لي يا سيدتي ان اجالسك برهه ؟!


وكان المتحدث هو ذلك المليونير اليوناني ذو اللحية المدببه : مسيو اريستيد ، وسحب كرسيا وجلس بجانبها ثم قدم إليها سيجاره واشعل لنفسه اخرى ..


- ترى هل اعجبتك هذه المدينه يا سيدتي؟!


- لا ادري لأني لم اقض فيها إلا برهة وجيزه.


- هل زرت الحي الشرقي ؟


- إنه رائع خلاب.


- صدقت .. إنه رائع حقا .. إنه موطن الماضي .. الماضي بدسائسه وهمساته الخافته وغموضه السحري وعواطفه الجياشه الفاتره.


ثم اردف:


- اتعرفين يا سيدتي ما يطوف بذهني حين اجوس خلال شوارع فزان الضيقه المتعرجه؟ إني عندئذ اذكر شوارع لندن المتسعه المكشوفه. هناك كل شيء واضح صريح ، اما هنا فالغموض هو السائد والستائر تخفي كل ما يجري وراءها .. اتعرفين يا سيدتي إني احسدك على التجربه التي مررت بها بحادث سقوط الطائره ؟ فقد تمنيت لو اني كنت مكانك .. إنها لمغامره رائعه ان يرى المرء الموت ثم إذا به يرتد إلى الحياة .. ذلك شيء ينقي الروح ويطهرها ..


وكما جاء فجأة ، انصرف فجأة .. وهيلاري تتابعه بنظرة تفيض بالدهشة والاستغراب ..
الفصل الثامن :


في قاعة الانتظار بالمطار كانت هيلاري كرافن تترقب قيام الطائره وإلى جانبها مسز بيكر تصب في اذنيها ثرثرتها التي لا تنتهي وتجيب في شرود على الاسئلة التي توجه إليها .


ولكن سيل الحديث المتدفق مالبث ان اتخذ مجرى اخر فقد التفتت مسز بيكر إلى شابين كانا يجلسان عن كثب ، احدهما امريكي يتألق وجهه دائما بابتسامه عريضه مشرقة ، والآخر فيما يبدو هولندي ان نرويجي السحنه ، واكثر جدا ووقارا من صاحبه .


وقالت مسز بيكر تخاطب الامريكي :


- إني احب ان اعرفك بصديقتي مسز بيترتون يا مستر .. يا مستر ..


- اندرو بيترز .. واصدقائي ينادوني باسم آندي ..


فنهض الاخر ووقف وانحنى باحترام ، وقدم نفسه بقوله :


- توركيل ايريكسون .


وقالت مسز بيكر :


- والآن وقد تعارفنا ، هل نحن جميعا ذاهبون لمراكش؟! هي اول زياره لصديقتي لهذه المدينه .


فقال النرويجي ايريكسون:


- وهي اول زياره لي ايضا.


فقال بيترز :


- وهذا ينطبق علي .


وعلا صوت الميكرفون بكلمات متداخله غير واضحه ، فهموا منها ان موعد قيام طائرتهم قد حان.


وبخلاف هؤلاء الأربعه ، ضمت الطائره شخصين اخرين ، رجلا فرنسيا وراهبه صارمة القسمات جامدة الوجه.


واسندت هيلاري رأسها إلى ظهر المقعد ..


فأطبقت عينيها وران عليها النعاس..


ومالبثت ان استغرقت في النوم ..


صحت هيلاري فجأه من النوم ، ولاحظت ان الطائره تنحدر إلى الأرض مخفضه من سرعتها ، ومالت إلى النافذه تطل من ورائها ، بيد انها لم تر أثرا لأي مطار ..


وتثاءب الفرنسي وقال:


- يبدو اننا سنهبط ، ولكن لماذا ؟!


فقالت هيلاري:


- فعلا فقد اخذت الطائره بالهبوط ..


ودارت الطائره حول نفسها عدة دورات وتوقفت محركاتها وسكن الهدير .. ترى ..هل اصابها خلل ما ؟! ام ان الوقود نفد منها..


ارتطمت العجلات بالأرض ، وجرت فوقها وهي تهتز وتتأرجح فوق المطبات غير المستويه . وجاء الطيار من مقصورته يقول لهم :


- ارجوكم جميعا ان تتفضلوا بالنزول .


وغادروا الطائره تباعا ، واحدا تلو الاخر ..

لم يكن مطارا ذلك الذي هبطوا فيه ، وإنما كانت بقعة منعزله في قلب الصحراء الممتدة بلا حدود .



وقالت هيلاري متسائله في صوت تغشاه الحيره:


- ولكن مالذي جرى ؟ لماذا نزلنا هنا ؟!


قال الطيار مجيبا :


- إننا على كل حال لن نبقى إلا دقائق قليله..


ورمى بصره عبر الافق ناحية الجبال المكسوه بالثلوج ثم قال :


- لقد تأخرت قليلا ولكن هاهي ذي قادمه على البعد.


وقال المسافر الفرنسي:


- قد فهمت أنه ستكون في انتظارنا سيارة ميكروباص لكي نكمل الرحلة فيها ..


وعادت هيلاري تتساءل :


- هل اصاب المحرك عطب؟


وابتسم بيترز ابتسامته العريضه المألوفه ، والتي تشيع في كل ثنايا وجهه وقال:


- كلا ان المحرك سليم ، ولكن كان لابد ان يدبروا شيئا من هذا القبيل ..


واخيرا جاءت السياره الميكروباص ، يقودها سائق من البربر، في سرعة خاطفه اضطر معها أن يضغط فراملها بكل قوه حتى توقفت بجوارهم في المكان المناسب ..


ولدهشة هيلاري سمعت مسز بيكر تصدر امرا بقولها:


- هيا اسرعوا فلا نريد ان نتأخر اكثر من هذا ..


ومضى السائق إلى الجزء الخلفي من السيارة وفتح الباب فانكشف عن صندوق ضخم يشغل المؤخره..


وتعاون بيترز وايريكسون مع السائق والطيار على إنزال الصندوق إلى الارض في جهد ومشقه إذ بدا ثقيلا مرهقا ..


فأقبل الفرنسي على الصندوق يفتح ويرفع غطاءه فاقتربت منه هيلاري محاولة النظر لما بداخله ..


فأخذت مسز بيكر بذراعها تنحيها جانبا وهي تقول:


- لو اني مكانك لما خاولت النظر إلى مافي الصندوق .


- ولم لا ؟ مالذي في الصندوق؟


تألقت ابتسامة بيترز العريضه وقال :


- إني اعرف مافيه .. إن فيه مجموعه من الجثث ..


رددت هيلاري في ذهول :


- جثث ؟


- نعم جثث ... جثث اشتريت بطريقه قانونيه سليمه لإجراء بحوث طبيه عليها ، والذي اشتراها هو الدكتور بارون.


واشار إلى الرجل الفرنسي ، ثم استطرد ..


- هنا تنتهي رحلتنا يا مسز بيترتون .. أعني المرحلة الاولى من الرحله ، ستوضع الجثث في الطائره ثم تشعل فيها النيران ، وسوف نراها على البعد ونحن نستقل الميكروباص شعله متأججه .


وغمغمت هيلاري :


- ولكن لماذا؟ لماذا ؟!


وكان الدكتور بارون هو الذي اجاب.. فقال :


- ولكنك تعرفين طبعا ، إلى اي مكان سوف نذهب ، إننا ذاهبون للمصير المجهول .
الفصل التاسع:

- والآن ارجو ان تستقلوا الميكروباص ، وأن تسرعوا فقد تأخرنا على الموعد المحدد ..
وصعدوا إلى الميكروباص والتفتت هيلاري إلى السيدة الامريكيه وقد بدأت تدرك حقيقة الوضع وسألتها :
- إذن فأنت مايسمونه بضابطة الاتصال؟
فأجابتها مسز بيكر :
- تماما .. إنني ضابطة الاتصال التي تتولى العلاقات العامه ، فليس ما يثير الشك رؤية سيده امريكيه تنتقل بين مختلف البلاد وتتحدث إلى هذا وذاك ، فتلك طبيعة الامريكيين..
واستطردت مسز بيكر :
- وسوف يكون خبرا مثيرا ان يقرأ الناس في الصحف ان طائره سقطت بمسز بيترتون للمرة الثانيه ، وإن كانت هذه المرة قد احترقت مع سائر الركاب ، ولم يعثر في الحطام إلا على جثث شوهتها النيران واختفت معالمها المميزه ..
واطلقت مسز بيكر ضحكة مرحه ، فأدركت هيلاري مدى دهاء الخطه المدبره وبراعتها .. فقالت :
- وهؤلاء الاخرون ؟! ما شأنهم ؟!
فردت مسز بيكر :
- الدكتور بارون من اشهر علماء الجراثيم ، ومستر ايريكسون من افذاذ علماء الطبيعه ، اما مستر بيترز فباحث كيماوي شهير. ومس فيدهايم ليست راهبه طبعا ، وإنما هي اخصائيه في الغدد . اما انا فلا انتمي إلى البيئة العلميه وإنما مجرد ضابطة اتصال..
- ومس هيذرنجتون ، ماشأنها ؟!
- شأنها فيما اعتقد هو مراقبتك وتتبع خطواتك مذ حللت بكازابلانكا وكذلك التأكد من ان احدا لا يقتفي اثرك ، وإن كنت في حقيقة الأمر لا اعرف شيئا عنها ، فربما كانت غير منتميه إلينا ..
وهتفت مسز بيكر:
- آه .. انظري .. ها هي ذي تشتعل ..
ومالت هيلاري إلى النافذه تنظر منها فرأت على البعد شعله تتأجج من النيران وسمعت دوي انفجار خافت ..
ورمى بيترز برأسه إلى الوراء وقال وهو يضحك :
- غدا تنشر الصحف بالخط العريض : ستة اشخاص يلقون حتفهم عندما هوت بهم الطائره وهم في طريقهم إلى مراكش ! ولن يخطر لهم ببال أبدا أن هؤلاء السته كانوا من قبل جثثا هامده شبعت موتا ..
همست هيلاري:
- هذا مخيف .. مخيف جدا..
- اتعنين الانطلاق للمصير المجهول؟!
كان بيترز هو الذي تكلم ، وكان الان يبدو جادا ، تبددت من سماته إمارات المرح التي كانت تغشاه..
واستطرد :
- هذا صحيح ولكنه الطريق الوحيد ، إننا الآن نطرح الماضي وراءنا ونخطو إلى المستقبل ..
وأضاء وجهه بإشراقة من الحماس والانفعال وقال:
- الآن نهجر خلفنا الأشرار والمجانين .. الحكومات الفاسده وتجار الحروب .. سنذهب إلى دنيا جديده ، دنيا العلم ، بعيدين عن الحثالة والقاذورات ..
زفرت هيلاري نفسا عميقا وقالت عن عمد :
- قولك هذا شبيه بما كان يردده زوجي دائما ..
فقال:
- زوجك؟! اتعنين توماس بيترتون؟! إنني لم اتعرف عليه ابدا في الولايات المتحده ، وإن كانت بعض المؤتمرات قد ضمتنا اكثر من مره .. إن جهاز تفتيت الذرة الذي وفق إليه من اعظم الاختراعات في العصر الحديث ، وإني لأجله واقدره من اجل هذا ,, إنه كان يعمل مساعدا لبروفسور مانهايم ، اليس كذلك ؟


فأومأت هيلاري إيجابا .. فاستطرد بيترز:
- قد قيل لي انه تزوج ابنة مانهايم ، ولكنك طبعا لست ..
فقاطعته :
- إني زوجته الثانيه فقد ماتت الزا في امريكا ..
- اه .. اه .. إنني اذكر هذا الان .. وبعد وفاتها سافر بيترتون لإنجلترا ليعمل هناك .. ثم اذهل العالم بأن اختفى فجأه ..
وضحك بيترز واستطرد :
- وتلاشى فجأة وهو يحضر احد المؤتمرات في باريس وابتلعه المجهول..
وكان هذا هو الذي يثير الفزع في قلب هيلاري .. إن المنظمه تجيد تدبير الخطط ..
جميع تدابير الامن التي اتخذت لحمايتها .. جميع التدابير التي وضعت لتتبع خطواتها .. كل هذا قد انهار وذهب هباء .. فلا احد الآن يعرف مكانها .. غدا سيقال ان مسز بيترتون لقيت حتفها عندما سقطت بها الطائره للمرة الثانيه ، ولن يخطر ببال احد انها الان في قلب الصحراء منطلقة إلى المصير المجهول حيث سبقها إليه توماس بيترتون من قبل ... فقد اختفت اثارها ولم يعد باقيا إلا طائره محترقه ورماد ست من الجثث ..
ترى هل يستطيع جيسوب ان يعرف انها هي هيلاري كرافن لا تزال على قيد الحياه وأن جثتها ليست بين الجثث المحترقه؟! اغلب الظن انه لن يعرف ابدا فقد دبرت الخدعه بدهاء منقطع النظير ..
إنهم الآن ستة اشخاص في سيارة ميكروباص ... في قلب الصحراء فكيف يمكن ان تختفي آثارها بمثل هذه السهوله!!!

ألا يحتمل ان يرى السيارة اي انسان ؟ هل قضي عليهم بأن تنقطع صلتهم إلى الأبد بعالم البشر؟! إن هذا يبدو مستحيلا .. رغم براعة الخطه ودهائها ..
وهمست هيلاري:
- لكن الى اين نحن ذاهبون ؟!
فردت مسز بيكر :
- مهلا ولا تتعجلي ..سوف تعرفين كل شيء في الوقت المناسب ..

وتابعت السياره طريقها بلا هوادة ، وهيلاري لائذه بالصمت تضرب في متاهات الخيال والوساوس ..
ومال رأسها فوق صدرها .. ومالبثت ان اخذتها غفوه من النوم ..
*****
في رفق لمس بيترز ذراعها وهو يقول :
- استيقظي إذ يبدو اننا بلغنا مكانا ما ..
وهبطوا جميعا من السياره وكان الليل قد ارخى سدوله واشتد الظلام.. وعلى ضوء احد المشاعل ساروا إلى بيت ريفي تحف به الاشجار وعند بابه امرأتان من البربر تتسامران بالضحك ..
واقتيدت السيدات الثلاث ، هيلاري ومسز بيكر والراهبه إلى غرفه فيها ثلاث مراتب وبعض الاغطيه ولا شيء غير ذلك من الأثاث ..
وقالت مسز بيكر :
- وددت لو اني الآن في فندق قصر الجمال انعم بالراحه على فراش وثير فقد حطمت السياره اضلعي ..
فردت عليها الراهبه في صوت جاف به مسحه من الاسترجال:
- الراحه نقمة تخلق الضعف والمذلة والهوان ..
فتطلعت إليها مسز بيكر تتأملها ثم قالت:
- إني استطيع ان اتخيلك مس فيدلهايم جاثيه على الارض فوق الحصى والاحجار تبتهلين وتصلين دون ان يداخلك التعب او الانهاك ..
ثم التفتت إلى مسز بيترتون قائله :
- بعد ان نتعشى سآتيك بقرص من الاسبرين فتستغرقين في النوم بعد مشقة هذه الرحلة المضنيه .
وجيء لهن بالطعام والشاي المعطر بالنعناع وما ان اتين عليه متعجلات حتى هرعن إلى مراقدهن وغرقن في نوم عميق ..
وقالت مسز بيكر لصاحبتيها في الصباح ان الرحلة لن تعاود مسيرتها إلا عند هبوط المساء. وجاءت إليهن خادمتان بثياب وطنيه فقالت مسز بيكر :
- سنردي الزي الوطني المراكشي منذ هذه اللحظه ونخلع الثياب الاوروبيه ..
فأمضت النساء الثلاث نهارهن بين الفراش وبين الجلوس في سطح البيت يشرفن على مشاهدة الطبيعه التي تدور حولهن وعلى قريه ريفيه تظهر لهن من البعيد ..
واخيرا حانت ساعة الرحيل وقد توارت الشمس وراء الافق ... وفي هذه المره لم يستقلوا السياره الميكروباص المقفله وإنما انحشروا في سياره سياحيه مكشوفه وكانت النساء يرتدين الزي الوطني المراكشي وعلى وجوههن نقاب مسدل اما الرجال فلبسوا الجلاليب والعباءات الفضفاضه..
وتتابعت ساعات الليل والسياره تمر بهم عبر الصحراء الممتده وهم صامتون يداعب النوم اجفانهم والمقاعد غير المريحه تقض اجسادهم المرهقه ..
وقال اندي وقد تبدد الليل وبزغت الشمس وتوقفت بهم السياره فنزلوا منها لتناول طعام الفطور :
- كيف حالك يامسز بيترتون؟ فقد كانت ليله مضنيه؟
- طول الليل والأحلام المزعجه تراودني .. أين نحن الان ياترى؟!
- من يدري ؟ فهي مجرد صحراء لا اول لها ولا اخر وهذا ما يلائم الخطه المدبره حتى لا نخلف وراءنا اثرا يهتدى به الينا ..
فأطلق ضحكته المرحه المعهوده واستطرد :
- اولا طائره تنفجر ويحترق ركابها جميعا .. وثانيا سياره ميكروباص عليها لوحه تشير إلى انها تابعه لبعثه هندسيه تمسح الارض.. وفي اليوم التالي سياره سياحيه تستقلها جماعه من البربر وهو شأن شائع في مثل هذه المناطق .. اما المرحله التاليه من الرحله فهي مالا علم لنا به ..
فتساءلت هيلاري:
- لكن ماهي وجهتنا؟!
فهز اندي كتفيه ورد :
- لا جدوى من السؤال فتلك دائما اسئله لا جواب عليها ..
------------------------------------
استمرت الرحلة الغامضه اياما اخرى . كانت هيلاري تعيش معهم وتؤاكلهم ، وتحدثهم وتخاطبهم، ومع ذلك فقد ظلت طوال الوقت تحس انها بعيده عنهم ، لا تشاركهم آراءهم ومعتقداتهم كأنما بينهم وبينها سد هائل.


فهذا هو الدكتور بارون لا يتمنى إلا شيئا واحدا ، هو ان يحصل على النقود فيغرق نفسه في معمله بين اجهزته وانابيب الاختبار. وكان من حين لآخر يحدثها عن قوة التدمير المروعه التي يمكن ان تحتوي عليها انبوبه في حجم قبضة اليد.


وسألته :


- ولكن ايمكنك حقا استعمالها ؟


فنظر إليها بانفعال جنوني وقال:


- ولم لا ؟ مادام الامر ضروريا ..


وسرى الرعب بأوصالها ، وهز اعماقها هزا عنيفا وداخلها شعور بالخوف منه .. ومن الاخرين .


هاهو ذا رجل يتحدث بمنتهى الاستخفاف عن إبادة ملايين البشر دون ان تهتز شعرة في رأسه ..


وكذلك كانت هيلاري تكره تلك السيده المتعجرفه المستعليه هيلدا نيدهايم .. ولكنها كانت تميل إلى اندي بيترز وإن افزعها منه ذلك الوميض المتألق الذي كان يغشى عينيه من حين لآخر ..


قالت له يوما:


- إنك لا تريد خلق دنيا جديدة لأن الذي يسعدك هو تدمير هذه الدنيا التي تعيش فيها.


قال مستنكرا :


- ماذا تقولين يا اوليف؟!


- إن الأمر واضح ولست مخطئه . إني اكاد المس الحقد الذي يتأجج به صدرك. الحقد ، الكراهيه، الرغبه في التدمير ، هذا هو مايجيش به صدرك .


اما نظرة هيلاري لايريكسون كانت مختلفه .. فهو رجل حالم .. رجل مثالي متعلق بالأوهام.


كان دائما يردد:


- نحن معشر العلماء يجب ان نسود العالم .. نحن الذين يجب ان نحكم ونسيطر .. مقاعد الحكم لم تخلق إلا للعباقره.


وهكذا كانوا جماعه واحده، يضمهم مكان واحد ، ولكن معتقداتهم ونوازعهم كانت متنافره متناقضه ، بيد انه كان يجمعهم هدف مشترك/ ذلك انهم كانوا جميعا يتطلعون إلى وهم وسراب.


وفي نهاية اليوم الثالث هبطوا قريه صغيره، ونزلوا في خان وطني متواضع وطلبت إليهم مسز بيكر ان يخلعوا الزي المراكشي وان يعودوا إلى ثيابهم الأوروبيه.


وقالت لهم :


- ارجو ان تسرعوا لأن الطائره تنتظرنا.


فقالت هيلاري باستغراب:


- طائره؟!


- نعم .. فحسبنا هذه السياره التي قضت منا الاضلع.
__________________
واستقلوا الطائره وكان القائد فرنسي الجنسيه بارعا بمهنته. وطاروا بضع ساعات فمرت بهم الطائره بأمان من وسط الجبال الشاهقه.


وبعد ظهر اليوم التالي اخذت الطائره تهبط إلى الأرض حتى استقرت عجلاتها على سهل تحف به الجبار في مطار بدائي يقوم عند طرفه القصي بناء ابيض.


فمشت بهم مسز بيكر إلى البناء وهي تقول آمره:


- عليكم ان تغتسلوا وتتناولوا القهوة قبل ان تستقلوا السيارات .


واغتسلوا ومشطوا شعورهم وجاءهم الخدم العرب بالقهوة والسندويشات وتأهبوا لمواصلة السفر .


فقالت لهم مسز بيكر وفي تنظر في ساعتها:


- لقد ان لي ان اترككم أيها الاصحاب فتلك هي المرحلة الأخيره من الرحله .


فسألتها هيلاري:


- اراجعة انت إلى مراكش؟!


- وكيف ارجع اليها والمفروض اني ميته حرقا في الطائرة التي سقطت؟! إن ورائي مهام اخرى في بلاد ثانيه.


- ولكن هبي ان احدا القتى بك صدفة ممن عرفوك في مراكش؟


- وهل صعب علي ان اتخلص من هذا المأزق؟ سأزعم بأن لي شقيقة تشبهني تمام الشبه وهي التي احترقت في الطائره. وطبعا سيكون لدي جواز سفر باسم اخر وسأغير لون شعري ونبرات صوتي.


فازدادت هيلاري إعجابا بالخطه المدبره . وودعت مسز بيكر باقي رفاق السهر ، فاستقلت الطائره ، ومالبثت ان علت في الجو وتوارت وراء الافق.


*****


جاءهم احد الخدم العرب قائلا:


- السيارات جاهزة ايها الساده.


كانت بانتظارهم سيارتان كاديلاك يقودهما سائقان يرتديان الزي الرسمي فاتخذت هيلاري جلستها في المقعد الامامي بجانب السائق الفرنسي ، وكانت من حين لآخر تحدثه حديثا عابرا عن المشاهد التي تمر بها السياره .


وسألته اخيرا:


- ترى هل تطول الرحله ؟!


- المسافة من المطار للمستشفى تستغرق حوالى ساعتين ياسيدتي .


طنت الكلمات في اذنيها ، ولأول مره فطنت إلى ان هيلدا نيدهايم كانت الآن تلبس زي الممرضات.


وعادت تسأل السائق الفرنسي:


- حدثني قليلا عن المستشفى.


- إنها من اروع المستشفيات في العالم ومزوده بأحدث الأجهزه العلميه وكثير من كبار الأطباء يزورونها من حين لآخر ثم يرحلون وهم يثنون عليها اعظم الثناء. إن الأبحاث التي تجري فيها لخير الإنسانية جمعاء.


فقالت هيلاري تجاريه :


- طبعا .. هذا لاشك فيه.


- فيما مضى كان هؤلاء التعساء يرسلون إلى جزيره مهجوره فيقضون ماتبقى من حياتهم حتى يدركهم الموت . اما الآن فهم يعالجون هنا بالدواء الذي اكتشفه الدكتور كولوني ، وقد ثبت نجاحه في معظم الحالات حتى الحالات المستعصيه المزمنه.


عجبت هيلاري لحديث السائق إذ لم تكن تدري من هؤلاء الذين نعتهم بالتعساء ولا أي داء يعانون .


توقفت بهم السياره امام المستشفى، فاستقبلهم زنجي يرتدي ثيابا بيضاء فتح لهم البوابة ودعاهم للدخول .


ورأت هيلاري نفسها في فناء كبير حجز معظمه بسور من القضبان والأسلاك ووراء السور كان جماعة من الناس يتمشون رائحين غادين.


فاستداروا ينظرون للقادمين الجدد ، وعندها هتفت هيلاري وهي تشهق في رعب :


- يا إلهي .. إنهم مصابون بالجذام !!!!!!!!!!!!!!!!!


ولفرط فزعها طغت على اوصالها رعده كادت معها ان تتهاوى على الارض مغشيا عليها
------------------------------
اغلقت البوابه وراء القادمين الجدد مرسله رنينا حادا ، بدا في هذا السكون الشامل كأنه صادر من مطارق تدق السندان دقا عنيفا ,, وخيل إلى هيلاري ان رنين البوابه كان يحاكي صوتا يقول: انتم يامن تدخلون اطرحوا الامل فأنتم لاتعودون ..


نعم تلك هي النهايه .. النهايه الحقيقيه نهايه بلا رجعه .. إنها الآن وحيده وسط الاعداء ولن تمضي دقائق معدوده حتى تواجه باكتشاف امرها وانفضاح سرها ..


دار بخلدها : الآن انطبقت علي المصيده ، ولم يعد أمامي سبيل إلى الفرار .. سوف لا يقع عليها بصر توماس بيترتون حتى ينطلق صارخا : ولكن هذه ليست زوجتي ..


وتنتهبها العيون من كل جانب .. بنظرات حانقه شزراء .. جاسوسه في وسطهم ؟ وخطر لها ان تعكس الموقف: فبدلا من ان يصرخ بيترتون بأن هذه ليست زوجتي ، ستبادره هي بمجرد ان يقع بصرها عليه : كلا ليس هو زوجي ..


وإذا استطاعت ان تجعل الحماس يدب في صوتها والرعب يطل من عينيها فسوف تنجح في إثارة الشكوك ،، وسوف يرتابون ويتساءلون : ترى هل بيترتون هو حقا بيترتون ام عالم اخر انتحل شخصيته واندس بينهم ؟ هل هو الجاسوس اما هي فالزوجة الحقيقيه؟!


ولكن اليس معنى هذا ان يصبح بيترتون هو الضحيه ؟! وأن يقضى عليه بالهلاك ؟!


إن ضميرها لم يبكتها ولن تندم ابدا فبيترتون خائن انحاز إليهم وجاء اليهم ليبيعهم اسرار بلاده ، فهو اهل لأن يموت دون شفقه او رحمه ..


انتزعها من خواطرها اليائسه رجل عملاق الجسم وسيم الوجه ، اقبل على الجماعه يستقبلهم ويحييهم واحدا تلو الاخر ..


وحين مد يده يصافح هيلاري رسم على شفتيه ابتسامه باهته مصطنعه وقال لها :


- لا شك انك متلهفه إلى لقائه ..


اشتد اضطرابها واخذتها غشيه عابره من الدوار وشردت عيناها بنظره تجردت من التعبير .


بادر اندرو بيترز بلمس ذراعها في رفق ، وسندها وهو يقول للمضيف الذي جاء يرحب بهم :


- لعلك لا تعلم ان الطائره سقطت بالسيده بيترتون وأنها اصيبت بارتجاج في المخ ، وقد زادتها هذه الرحلة المضنيه المتواصله ارهاقا فوق ارهاق . إنها الآن يجب ان تستريح ساعة او ساعتين في غرفه معتمه .


استشفت هيلاري من صوته ومن ذراعه التي تسندها بادرة من الرحمه والإشفاق ولكنها استجمعت شجاعتها ورفعت رأسها وقالت :


- كلا كلا .. يجب ان اقابل توم .. إذهبوا بي إليه في الحال .. اريد ان اراه حالا ..


قال الرجل العملاق الوسيم :


- بالتأكيد يا سيدة بيترتون .. إني استطيع ان ادرك حقيقة مشاعرك ..


أشار إلى امرأه تقف على قيد خطوات وهو يقول :


- دعوني اقدم لك الآنسه جينسون ..


وقدم إليها القادمين الجدد كل واحد بدوره .. ثم قال :


- ستصحبكم الآنسه جينسون إلى مكتب التسجيل وتقدم إليكم شرابا ريثما اصطحب السيدة بيترتون إلى زوجها وسأعود إليكم بعد برهه وجيزه ..


استدار منصرفا وفي اعقابه هيلاري كرافن وحانت منها لفته إلى الوراء ورأت بيترز يتابعها ببصره وخيل إليها انه يهم في تردد ان يلحق بها ثم آثر البقاء ..


وقال لها الرجل وهو يمشي بها في دهاليز طويله ملتويه :


- إنني ادعى بول فان هايديم .


وقالت له هيلاري :


- إنه لأمر فظيع .. مرعب .. اعني هؤلاء المجذومين ..


فقال :


- إنك لن تلبثي ان تألفي رؤيتهم ..


توقف فجأه عند احد الابواب وقرع الباب ، ثم تريث برهه قبل ان يفتحه ..


وقال :


- بيترتون .. هاهي ذي هنا اخيرا .. زوجتك.


وتنحى عن الباب قليلا ليفسح لها مكانا للدخول ..


دخلت هيلاري إلى الغرفه .. الآن لا سبيل إلى التراجع ..


لا سبيل إلى التردد .. تقدمت إلى الداخل .. تقدمت إلى الأمام .. إلى القدر المحتوم ..
الفصل الثاني عشر :


كانت المرأه التي ترأس مكتب التسجيل شبيهه بالسجانات في صرامة وجهها وجمود قسماتها .. ورحبت بالدكتور بيترتون في كلمات وجيزه مقتضبه.. وقالت له :


- إذن .. فقد جاءت السيدة بيترتون اخيرا


كان يبدو من لكنتها انها سويسريه.


اشارت إلى هيلاري تدعوها إلى الجلوس وفتحت درجا تناولت منه عدة استمارات نشرتها فوق المكتب .. ومضت تدون بعض البيانات.


وقال بيترتون :


- إني ذاهب إلى عملي يا اوليف فالحقي بي عندما تفرغين


انصرف بيترتون وأوصد الباب وراءه ، والتفتت رئيسة مكتب التسجيل إلى هيلاري وقالت :


- والآن اسمك بالكامل والسن ومحل الميلاد واسماء الابوين .. والامراض الخطيره ، وهواياتك المختلفه والاعمال التي التحقت بها ومؤهلاتك العلميه والاطعمه التي تفضلينها وهناك اسئله اخرى سوف اوجهها إليك فيما بعد ..


ابتسمت هيلاري في اعياء واخذت تجيب على الاسئله والمرأة ماضيه في تدوينها بالاستمارات التي امامها ..


واخذت الاسئله تتوالى تباعا جتى لكأنها سيل جارف لا ينتهي ..


واخيرا رفعت المرأة رأسها وقالت :


- هذا هو ما يختص به هذا المكتب والآن سأبعث بك إلى الدكتوره شوارتز لتفحصك من الناحية الطبيه.


وتساءلت هيلاري:


- وهل هذا ضروري ؟!


- ضروري جدا يا سيدة بيترتون .. فإننا هنا نؤمن بالكمال ونحب ان نثبت كل شيء في السجلات ..


وقامت الدكتوره شوارتز بفحص هيلاري فحصا دقيقا استغرق فتره قصيره ثم قالت لها :


- والآن عليك الذهاب إلى الدكتور روبيك.


- ومن يكون الكتور روبيك هذا؟


- طبيب نفسي ..


- ولكني لست بحاجه إلى طبيب نفسي ..


- لا داعي للانزعاج سيده بيترتون .. إن ما سيدور بينكما لا يعدو اختبارا للذكاء وتحديد معالم شخصيتك..


كان الدكتور روبيك سويسريا.. في الاربعين من العمر .. ورحب بهيلاري في لطف ودماثه .. وتصفح البطاقه التي بعثت بها إليه الدكتوره شوارتز ثم قال:


- يسعدني ان اعرف ان صحتك جيده ياسيدة بيترتون ..


ثم اردف ..


- لقد بلغني انك تعرضت لحادث سقوط طائره منذ فتره وجيزه إليس كذلك؟!


- بلى وقد امضيت خمسة ايام في مستشفى كازابلانكا..


- ولكن خمسة ايام لا تكفي إطلاقا .. كان يجب ان يستبقوك اكثر من هذا..


- كنت تواقه إلى مغادرة المستشفى لأواصل رحلتي ..


- هذا تصرف غير سليم ، فالإصابه بارتجاج المخ تحتاج إلى فتره طويله من الراحه والاستجمام.. إنك قد تترائين سليمه في البدايه ولكن هناك احتمالا كبيرا لآثار جانبيه خطيره .. إن جهازك العصبي فيما ارى مضطرب إلى حد ما ، وهذا راجع دون شك إلى مشقة الرحله .. وإلى الارتجاج في الوقت ذاته ..
ثم سألها :


- هل تشعرين بصداع ؟


- نعم صداع شديد جدا .. ومن حين لآخر اشعر بالدوار وافقد ذاكرتي ..


- بالتأكيد .. بالتأكيد .. إنني استطيع ان ادرك هذا ، والآن سأجري بعض الاختبارات .. لأتبين مستوى عقليتك ..


ومضى الدكتور روبيك يجري عليها اختباراته ويوجه إليها بعض الأسئله ويدون حصيلة ذلك كله في استماره امامه .. واخيرا قال :


- ارجو الا يسوءك يا سيدتي ان اقول إنه مما يسعدني ان افحص الآن شخصا ليس من العلماء العباقره ..


ضحكت هيلاري وقالت :


- وما الذي يسوؤني من هذا وانا اعلم اني لست بالعبقرية او النابغه؟


فقال الدكتور روبيك :


- وهذا من حسن حظك يا سيدتي .. فإن حياة العباقرة جحيم لا يطاق ..


واستطرد :


- إنني هنا لا اتعامل إلا مع قوم مفرطي الذكاء .. وهؤلاء معرضون دائما للاختلال العصبي تحت وطأة الضغط الذي يعانونه .. فالعالم يا سيدتي ليس باردا هادئا كما يبدو في الظاهر . فإن انهماكه في عمله يجعل اعصابه مرهقه إلى اقصى حد .. ولا فرق في هذا إطلاقا بين الممثله الأولى او بطل التنس او عالم الذره ..


- صدقت .. فقد خبرت هذا بنفسي ..


إذ كان من المفروض انها عاشرت بيترتون فتره طويله باعتبارها زوجته .. وهو دون شك من العلماء العباقره .. وكأنما اراد ان يقتضب الحديث .. فمد إليها يده فجأه يصافحها وهو يقول :


- والآن ستذهبين إلى الانسه لاروش .. لتمضي بك إلى قسم الملبوسات لتختاري ما يروقك من الثياب ..


كانت النساء اللائي التقب بهن هيلاري جميعا حتى تلك اللحظه يعملن كأنهن آلات ميك[محذوف][محذوف][محذوف][محذوف]يه .. ذكرتها بالإنسان الآلي .. روبوت .. اما الآنسه لاروش .. فكانت على العكس .. مرحه .. متدفقه بالحيويه .. ارتاحت هيلاري إلى لقائها ..


قالت لها الفتاه :


- إني سعيده بأن اتعرف إليك يا سيدتي وارجو ان اوفق في تقديم كل مساعده ممكنه ..


ثم استطردت ..


- بما أنك وصلت الآن لتوك .. فلاشك في انك مازلت متعبه ولذلك اشير عليك ان تكتفي الآن بانتقاء بعض الثياب الضروريه وفستان واحد .. وغدا وفي خلال الايام التاليه يمكنك ان تلقي نظره على مالدي من ثياب ومن مستحضرات التجميل ..


فقالت هيلاري :


- كل ما ارجوه الآن .. ان امتلك مشطا وفرشاه ..


ضحكت الانسه لاروش في مرح ومضت تدون مقاس عميلتها في مفكره لديها ثم قالت :


- سأبعث على الفور إلى جناحك بكل ماوقع عليه اختيارك وإنه ليسعدني ان تترددي على المتجر من حين لآخر ، فقد تبينت ان لك ذوقا رفيعا في الاختيار. اما هؤلاء السيدات العالمات .. فقد ضقت بهن ذرعا.. خاصة وانهن لا يبدين اي اهتمام بمستحضرات التجميل ..


ثم استطردت :


- منذ نصف ساعه كانت لدي هنا واحده منهن .. اثارت اعصابي .. إحدى رفيقاتك في السفر ..


فقالت هيلاري :


- لعلك تعنين هيلدا نيدهايم ..


- تماما هذا هو اسمها .. إنها المانيه بالتأكيد .. والألمانيات عادة لا يحفلن بالتجميل ، مع انها يمكن ان تبدو جميله لو انها ابدت بعض الاهتمام بنفسها .. إنها دكتوره فيما فهمت .. ولكن الرجل لا يبحث عن المؤهلات العلميه وإنما عن لمسة من الجمال والأنوثه .


اه وهاهي ذي اخرى لا يتأتى لرجل ان يتطلع إليها بتاتا ..


فقد بدت الآنسه جينسون في مدخل الغرفه ، وفوق عينيها نظارتها الصغيره العتيقة الطراز ..


وقالت الآنسه جينسون:


- اذا كنت قد فرغت يا سيدة بيترتون فسأصحبك لمقابلة نائب المدير الدكتور نيلسون .


قالت هيلاري في نفسها : كل من هنا يحمل لقب دكتور عداي انا ..


ثم رفعت صوتها متسائله :


- وما هو تخصص الدكتور نيلسون؟!


- إنه ليس طبيبا ، فهو حاصل على الدكتوراه في الاداره ومن عادته ان يقابل كل وافد جديد ليتحدق إليه ولكنك لنن تقابليه بعد هذا إلا إذا ثارت مشكله مهمه ..


*****


نهض الدكتور نيلسون من وراء مكتبه يحييها ويشد على يدها في حراره ..


- يسعدني ان اراك بيننا يا سيدة بيترتون دعيني اهنئك بالنجاة من هذا الحادث المؤسف الذي وقع لطائرتك ..


وشكرته هيلاري على لطفه واستطرد يقول :


- إني على استعداد لأن اجيب عن اي سؤال يخطر بذهنك فهل لديك ما تحبين ان تستفسري عنه ؟


فبدت امارات الحيره على وجه هيلاري وقالت :


- الحق اني لا ادري ولكن لعل كل ما يعنيني ان استفسر عنه هو ان اعرف اين انا الآن ..؟!


ابتسم الدكتور نيلسون واجاب:


- إني ادرك ما يجول بذهنك .. إنكم تعتقدون جميعا للوهلة الاولى لفرط ما سمعتم من مفتريات انكم ذاهبون إلى موسكو .. وراء الستار الحديدي .. ولكن لا ياسيدتي .. إنك الآن في افريقيا .. في قلب الصحراء المراكشيه .. ومستعمرة الجذام التي تعيشين فيها الآن هي بمثابة الستار الحديدي لأنها ترد عن علمائنا المتطفلين الذين يحاولون اكتشاف مقرهم ..


قالت هيلاري :


- صدقت .. فقد تصورت في البدايه اننا مسافرون إلى موسكو ..


- إنك ستعيشين هنا في عزله تامه عن العالم ولكن وسائل الترفيه والتسليه متوافره .. إن لزوجك عمله الذي قد يشغله عنك فقد ينكب على العمل ليل نهار ولا يفرغ لك إلا نادرا ، ولكن يمكنك ان تشغلي نفسك بقضاء الوقت مع زوجات العلماء وسوف تجدين انهن لطيفات ذوات ود ..


سألته هيلاري في شيء من الإحجام :


- ولكن هل يسمح لنا بالخروج ؟!


فتطلع إليها وقال مترددا :


- الخروج يا سيدة بيترتون؟! .. سؤال طبيعي لا بد ان يصدر عن كل وافد جديد . لكن المبدأ الاساسي الذي تدين به منظمتنا هو اننا هنا في دنيا قائمه بذاتها فلا شيء يدعونا إلى ان نتجاوز حدودها ونذهب إلى خارجها .. إنها دنيا كامله .. ذات اكتفاء ذاتي شامل ..

قالت هيلاري وقد رجعت إلى جناحها :


- إن الحياة هنا شبيهة بجو المدارس ..


فقال بيترتون:


- هذا هو ما يحسه المرء في البدايه انا نفسي داخلني هذا الشعور حين جئت ..


كان الحديث بينهما يدور في تحفظ وحذر .. خشية ان يكون هناك ميكروفون مدسوس بين الاثاث او في الجدران ..


ثم اردف ..


- وهذا ما يرتد بنا إلى عهد الطفوله السعيده ..


وغمز بعينه فلم يغب عنها النذير المقصود .. وبدا لها الأمر كله عجبيا ..


هاهي ذي في قلب الصحراء تشارك رجلا غريبا مخدعه وتشاطره الفراش ذاته ومع ذلك فإن في التوجس والقلق والخطر المسيطر عليهما ما جعل الرابطة التي بينهما مفككه منفصمه ..


عادت هيلاري إلى الحديث فقالت :


- لقد اجروا علي عدة فحوص طبيه ونفسيه.


- هذا هو ما بفعلونه دائما مع الوافدين الجدد .


- وهل فحصت انت ايضا؟


- هذا امر طبيعي..


- وبعد هذا قابلت الدكتور نيلسون نائب المدير فتبادلنا الحديث برهه قصيره .


- إنه إداري حازم قدير .


- ولكني لم اقابل المدير بعد.


- احسب انك لن تقابليه ابدا وإن كان من حين لآخر يلقي علينا بعض المحاضرات .. وهو رجل ذو شخصيه جذابه ..


قطب بيترتون جبينه وادركت هيلاري انه يريد ان يثنيها عن مواصلة هذا الحديث .. فما كان منها إلا ان لاذت بالصمت ..


قال لها بيترتون ..


- إنهم يتناولون العشاء هنا ابتداء من الثامنه مساءا .. فيحسن بنا يا عزيزتي ان نتأهب للنزول ..


ابدلت هيلاري ثيابها وارتدت الفستان الذي جاءت به من قسم الملابس ..وتحلت بقلاده من اللآلئ المقلده ..


هبطا معا إلى قاعة الطعام وخفت الآنسه جينسون إلى استقبالهما قائله:


- لقد اعددت لكما مائدة كبيره يشارككما فيها بعض رفاق زوجتك في السفر فضلا عن الدكتور مارشيسون وزوجته ..


- ارشدتهما إلى الطاوله المقصوده وكان اندرو بيترز و إيريكسون قد سبقا إليها وانتظما حولها وقدمت هيلاري زوجها إلى الرجلين .. ولم يلبث الدكتور مارشيسون وزوجته أن لحقا بهم وقدمهما بيترتون إلى الآخرين وهو يقول :


- سيمون وانا نشتغل معا في معمل واحد ..


كان سيمون مارشيسون شابا نحيفا في السادسة والعشرين ذا وجه باهت اللون .. اما زوجته بيانكا فكانت ممتلئة الجسم إلى حد ما وفي حديثها لكنه اجنبيه واضحه ..


رحبت بيانكا بهيلاري في لهجة مهذبه ولكن في شيء من التحفظ ثم قالت متسائله:


- إنك لست عالمه فيما اعتقد ؟!

- كلا .. إني لم أتلق تدريبا علميا .. فقد كنت اعمل سكرتيره قبل زواجي ..


وقال الدكتور مارشيسون :


- لقد درست زوجتي الاقتصاد والقانون التجاري وهي تلقي علينا بعض المحاضرات من حين لآخر وإن كانت لا تجد إلا نفرا قليلا يؤم محاضراتها ..


فهزت بيانكا كتفيها في استخفاف وقالت:


- لقد استطعت على أية حال ان التمس هنا ما اشغل به وقتي .. فقد بدأت ادرس احوال مجتمعنا هذا حتى اعمل على تطويره وتحسينه. ومادامت السيدة بيترتون غير قائمه ببحث علمي فإن في وسعها ان تساعدني في مهمتي ..


وسارعت هيلاري ترحب بالاقتراح ..
واضحكهم اندرو بأن قال:


- ارجوا ان يعهدوا إلي بالعمل على الفور .. وإلا انقلبت تلميذا امضي وقتي في لعب البلي ..


قال سيمون مارشيسون في حماس :


- هذا مكان رائع للبحث العلمي فكل الاجهزة متوافره ولا احد يقحم نفسه او يقطع عليك عملك ..


سأله بيترز :


- ما تخصصك يادكتور؟!


اخذ الرجلان يتداولان حديثا علميا بحتا فتحولت هيلاري إلى إيريكسون الذي كان متراخيا في مقعده بعينين شاردتين وسألته:


- وانت .. اتراك ايضا تحس حنينا للوطن؟!


- إني رجل لا اؤمن بمثل هذه الترهات الفارغه ... الوطن .. روابط الاسره والطفل .. مشاعر المحبه والوفاء .. كل هذا هراء .. إن المرء لكي يعمل يجب ان يكون حرا طليقا .. لا يشده اي نوع من القيود ..


- او تشعر بأنك هنا ستكون حرا طليقا؟!


- هذا ما ارجوه .. وإن كنت لا ادري حقيقة حتى الآن ..


مالت بيانكا إلى هيلاري وهي تقول :


- بعد العشاء لدينا الكثير مما نشغل به وقتنا .. غرفة لعبة البريدج مثلا .. والعاب الورق الاخرى .. قاعة السينما تعرض افلاما حديثه .. وقاعة التمثيل تعمل ثلاثة ايام كل اسبوع .. وكذلك سهرات راقصه من حين لآخر ..


قطب ايريكسون جبينه وقال :


- كل هذا لغو لا جدوى من ورائه .. إنه يصرف الباحث عن عمله ويبدد نشاطه ..


قالت بيانكا :


- كل هذا الذي تسميه لغوا ضروري لنا معشر النساء ..


فتطلع إليها بنظره بارده .. كأنما يقول : وحتى انتن معشر النساء لا ضرورة لكن ..


تعمدت هيلاري ان تتثاءب وقالت :


- اما انا فسآوي الليله إلى فراشي مبكره .. إذ ما زلت متعبه مرهقه..


فقالت لها بيانكا :


- إنك على حق ياعزيزتي .. فقد كابدت الاهوال .. فضلا عن هذه الرحلة المضنيه ..


فقال بيترتون وهم يزايلون المائده:


- الجو الليله منعش لطيف.. وقد اعتدنا ان نقضي بعض الوقت في حديقه السطح قبل ان نمضي إلى العمل او النوم .. فلم لا تصحبيننا ياعزيزتي اوليف ؟


كانت حديقة السطح تحفة فنيه رائعه .. كانت بستانا حافلا بأجمل انواع الأزهار واندرها .. تتوسطها نافوره صغيره يتدفق منها الماء رشاشا متناثرا تنعكس عليه اضواء ملونه خلابه ..


قالت هيلاري في افتتان :


- إني لا اصدق ما تراه عيناي. ايقوم هذا في قلب صحراء قاحله مجدبه ؟ لكأني اعيش في قصة من ليالي الف ليله..


فقالت مارشيسون:


- صدقت يا سيدة بيترتون .. ولكن مادام الماء غزيرا والمال متوافرا فلا شيء مستحيل ..


- ولكن .. من اين لكم بهذا الماء الغزير ؟!


- من نبع عميق حفرناه في الجبل بأحدث الاساليب العلميه ..


واخذوا يتمشون في حديقة السطح قليلا .. ويتسامرون بالحديث .. ثم انسحبوا واحدا بعد الآخر .. ولم يبق اخيرا إلا توماس بيترتون وزوجته هيلاري كرافن .. اخذ بيدها واجلسها على إحدى الأرائك المتناثره في ارجاء الحديقه ووقف في مواجهتها وحدجها بنظرة متسائله وقال:


- والآن .. من انت بحق السماء؟!


رفعت وجهها تتطلع إليه برهه دون ان تجيب .. وبدلا من ان ترد على سؤاله قالت تسأله :


- لماذا كذبت فزعمت اني زوجتك؟!


تبادلا نظرات صامته .. واخيرا قال بيترتون .. :


- مجرد نزوه طارئه .. لقد خطر لي انك ربما جئت لكي تخرجيني من هنا .. ياإلهي.. هذا سؤال توجهينه إلي؟! ان الإجابه واضحه معروفه !!!


فعادت تسأله :


- ولكن كيف جئت إلى هنا ؟!


- إذا كنت تقصدين اني اختطفت .. او ان شيئا من هذا القبيل قد حدث .. فانزعي من رأسك مثل هذه الفكره من رأسك .. لقد اتيت إلى هنا من تلقاء نفسي وبمحض إرادتي .. وكنت ممتلئا حماسه ..


- وهل كنت تعرف انك قادم إلى هذا المكان ؟!


- لا .. لم يخطر لي قط أنني آت إلى افريقيا .. ولم احاول قط ان اسأل .. لقد احتواني البريق الخداع واخذتني الكلمات الحماسيه : السلام العالمي .. الحريه المطلقه .. اقتسام الأسرار العلميه بين دول العالم جمعاء .. القضاء على الرأسماليين وتجار الحروب .. نعم .. كل هذه الترهات الخرافيه ..


واردف :


- وصاحبنا بيترز الذي صحبك في رحلتك .. إنه هو ايضا ابتلع الطعم ..


- ومالذي اكتشفته بعد ان وصلت؟!


- سوف ترين بنفسك .. ولكن يكفي ان اقول لك .. إن الحريه التي حلمنا بها .. لا وجود لها هنا ..


وجلس إلى جانبها مقطب الجبين ثم قال :


- ونفس الوضع هو الذي اثارني في انجلترا وجعلني اكره البقاء فيها .. إجراءات الامن الصارمه .. التجسس على حركاتي وسكناتي .. تعقب خطواتي ومحاسبتي على كل كلمه اتفوه بها .. كل هذا حطم اعصابي ..


واستطرد بنفس النبرة اليائسه :


- ثم جئت إلى هنا .. فإذا الفردوس الموعود مجرد سراب .. لقد عانيت نفس الأوضاع .. بل اشد هولا..


وتابع الحديث ..


- احدث الأجهزة العلميه رهن إشارتنا والمال متوافر لإجراء الابحاث التي نجريها ولكني مع هذا لا املك إلا ان اشعر يأني في سجن تحف به الأسوار والقضبان ..


ران عليهما الصمت .. ثم استدار إليها متسائلا:


- والآن لنعد إلى ما كنا فيه .. مالذي جعلك تحضرين إلى هنا وتزعمين انك اوليف ؟!


قالت :


- اوليف ....


ثم امسكت تلتمس الكلمات الملائمه لكي تجيب عن السؤال .


عاد يتساءل :


- ولكن اين اوليف ؟ مالذي جرى لها ؟


ناورت وتحايلت على الكلمات ثم اضطرت اخيرا إلى ان تجيب .


حملق إليها شاردا ثم قال :


- إذن فأوليف ماتت ..


غرق في صمت طويل ثم رفع رأسه اخيرا وقال:


- اوليف ماتت وحللت مكانها .. ولكن لماذا؟!


كان الجواب حاضرا في ذهنها .. لم تكن هيلاري كرافن حتى هذه اللحظه مطمئنه تماما إلى بيترتون .. وكانت تراه مزعزع الأعصاب وقد اوشك ان ينهار.. فمن دواعي الحكمه ان تحجب دونه اسرارها ..


لقد قال لها في بداية الحديث انه يحسبها جاءت لكي تنقذه وتخرجه من هنا ، فلم لا تجاريه فيما اعتقد ؟


إن من الحماقه ان تصارحه بأنها مجرد جاسوسه اوفدها جيسوب لتوافيه بما تقع عليه من معلومات..


قالت تجيب على سؤاله:


- كنت مع زوجتك في المستشفى حين ماتت فتطوعت لأداء هذه المهمه وقررت ان انتحل شخصيتها واسمها خاصه وان قوامي يشبه قوامها وشعري الاحمر في لون شعرها .


فقال:


- حقا فإن لك نفس الشعر الأحمر النحاسي ..


ثم اردف :


- ولكن مالرساله التي ارادت اوليف ان تبلغها إلي؟!


فسألته :


- اتعرف شخصا يدعى بوريس؟!


- نعم .. بوريس جلايدر .. إني لم اقابله مطلقا .. ولكنه إبن عمة زوجتي السابقه ...


- لقد ارادت اوليف ان تكون على حذر منه وقالت إنه خطر..


- خطر؟ ولماذا يكون خطرا علي؟! هذا عجيب.!! اتراه قابل اوليف؟!


فقالت :


- إنها لم تقابله ولكنها تلقت رسالة منه ..


- ومالذي قاله لها؟!


- هذا مالا علم لي به ، ولكنها اضافة عباره اخرى .. قالت : تذهبين تذهبين .. اذهبي وحدثيه عن بوريس .. إني لا اصدق هذا .. لا استطيع ان اصدق .. ولكن ربما كان صحيحا .. وإذا كان .. فعليه ان يكون على حذر ..


وكانت هذه اخر كلمات نطقت بها .. ثم لفظت انفاسها الاخيره .


- بوريس؟ ولكن .. لماذا ؟ لماذا ؟ هذا مالا استطيع ان اتبينه..


لاذ بالصمت برهة ثم عاد يقول :


- يا إلهي .. لقد قضي علي بأن ابقى هنا إلى الأبد وراء القضبان ..


فقالت هيلاري بصوت مليء بالثقه والإيمان :


- بل لا بد ان تخرج من هنا ..


- ولكن كيف ؟ كيف ؟ إن هذا لمستحيل ..


فقالت :


- لا مستحيل في الدنيا .. سوف نجد وسيله ..


لم تكن هيلاري مؤمنه بما تقول .. ولكنها ارادت ان تبث في نفسه الشجاعة والأمل .. حتى لا تنهار اعصابه .


واستطردت :


- لا داعي لليأس .. هناك سجون ومعتقلات حصينه استطاع من فيها ان يهربوا منها بوسيلة ما .. بحفر نفق مثلا .. كل ما هنالك ان الأمر يحتاج إلى التأني وإلى الوقت ..


فردد في يأس :


- ومن أين لي الوقت ؟ ألا تعرفين مايحدث هنا؟ إنهم يريدون من العالم الذي يأتون به هنا أن ينتج شيئا .. يريدون منه ان يبحث وان يخرج عليهم باكتشاف عبقري.. أنا إن عجز .. فهل تدرين مصيره؟!

فقالت :


- يعيدونه إلى بلاده دون شك !!


فأجاب :


- بل يتخلصون منه .. يقتلونه !!


- يقتلونه!! إني لا اصدق هذا ..


- بل تلك هي الحقيقه .. لأنه لم يعد ذا نفع لهم بل اصبح عبئا عليهم .. وقد اصبحت انا هذا العبء المكروه فإن شعوري بأنني سجين هنا شل تفكيري ولم اعد قادرا على موالاة البحث فلم انتج شيئا منذ حضرت .. وقد ظنوا ان ابتعادي عن زوجتي هو الذي جمد عبقريتي ولذلك ارسلوا يستدعونها .. والآن وقد حضرت انت باعتبارك زوجتي .. فإنهم لن يصبروا علي اكثر من هذا .. فإما ان انتج .. وإما ان اقتل ..


اخذت هيلاري بذراعه وهي تقول:


- والآن فلنعد إلى جناحنا .. فقد تأخر بنا الوقت ..


ثم اردفت :


- نم مطمئنا فسوف نجد وسيله للفرار.. نعم .. حتما سوف نهرب ...
-----------------------------
في فندق المأمون في مراكش .. كانت الآنسه هيذرنجتون مجتمعه برجلين .. احدهما جيسوب والآخر فرنسي تشع عيناه ذكاء ..


ولكن هيذرنجتون هذه لم تكن تلك التي رأيناها من قبل تتعرف إلى هيلاري في كازابلانكا وفزان .. وتمضي معها معظم الوقت ..


كان لها حقا نفس القوام ونفس الملامح .. ونفس هيئة الشعر وتنسيقه .. ولكن هيذرنجتون هذه كانت تبدو اصغر سنا واكثر حيويه فقد كانت عند لقائها بهيلاري تخفي سماتها الحقيقيه ..


وقال لها جيسوب مستطردا في الحديث :


- إذن فؤلاء هم الوحيدون الذين اتصلوا بها في فزان؟!


فقالت :


- كان هناك ايضا هذه المرأه المدعوه كالفين بيكر .. التي تعرفت إلي وإلى اوليف بيترتون .. وقد حيرني امرها كثيرا .. فقد بدا لي انها اقحمت نفسها على السيدة بيترتون .. بيد انها امريكية الجنسية .. ومن عادة الامريكيين ان يتوددوا ويتحدثوا إلى كل انسان على غير سابق معرفه..


وعقب جيسوب :


- هذا صحيح..


فقالت جانيت هيذرنجتون :


- ولكن الغريب الذي يسترعي النظر انها استقلت نفس الطائره ..


فتساءل جيسوب:


- اتريدين القول ان سقوط الطائره كان حادثا مدبرا؟!


ثم التفت إلى الرجل الفرنسي وسأله :


- ما رأيك في هذا يا ليبلان؟!

فأجاب الفرنسي:


- هذا محتمل وإن كان من المستحيل ان نقيم الدليل على هذا فقد احترقت واحترق كل من فيها ..


- وما رأيك في الطيار؟!


- الكادي ؟ إنه طيار مغامر مرن الضمير .. ولا يسعى إلا وراء المال ولا يؤمن بشيء من المعتقدات السياسية .. بل لا شأن له بالسياسة على الإطلاق ..


- إذن فلا يمكن ان يكون قد قام بتخريب الطائره لكي ينتحر ويضحي بنفسه ..


فقال ليبلان :


- عثرنا بين حطام الطائره على سبع جثث محترقه متفحمه اختفت معالمها ..


وعادت الآنسه هيذرنجتون إلى متابعة حديثها فقالت :


- وقد تبادلت السيده بيترتون بضع كلمات مع اسره فرنسيه كانت تنزل مع اطفالها في نفس الفندق وكان في الفندق ايضا سويدي من الأثرياء مع إحدى نجوم السينما وكذلك السيد اريستيد المليونير اليوناني صاحب آبار البترول.


فقال ليبلان :


- هذا الرجل عجيب الشأن فعلى الرغم من ملايينه التي لا تحصى فهو عزوف عن النساء ولا يلعب الميسر وليس لديه جياد للسباق وإنما يحبس نفسه في قصره في اسبانيا لا يبرحه إلا نادرا وليس له من هواية إلا جمع التحف الصينيه ..


واستطردت جانيت هيذرنجتون:


- وفيما اعلم لم تتبادل السيده بيترتون حديثا لا مع الثري السويدي ولا مع المليونير اليوناني ..


فسألها جيسوب :


- والخدم والجرسونات ؟


- هذا محتمل دائما .. وقد زارت المدينه القديمه مع احد الأدلاء وبمجرد عودتها قررت ان تسافر إلى مراكش فمن المحتمل ان يكون احد قد اتصل بها في اثناء زيارتها للمدينه القديمه ..


قال جيسوب :


- وكذلك قررت السيده كالفن بيكر فجأه أن تصحبها في رحلتها إلى مراكش .. ألا يبدو هذا امرا غريبا .. وهي التي كانت في مراكش منذ فتره وجيزه .. ؟!


ومضى جيسوب يذرع الغرفه وهو غارق في التفكير ثم قال :


- كلما تمعنت في الأمر ازددت اقتناعا بأن سقوط الطائره كان حادثا مدبرا ..


فقال ليبلان:


- من السهل جدا الهبوط بالطائره إلى الأرض وإحراقها عمدا ثم الادعاء بعد ذلك بأنها سقطت واحترقت .. ولكن كيف نعلل وجود الجثث بين الحطام ؟ هل يمكن ان يرضى ركابها بأن يقبعوا في داخلها ساكنين حتى يحترقوا؟!


قال جيسوب:


- فلنلق نظره اخرى على قائمة الركاب ..


تناول ليبلان ورقه مطويه من جيبه ونشرها امامه وانكب عليها الرجلان يتصفحانها ..


- السيده كالفن بيكر امريكيه .. السيده بيترتون انجليزيه .. توركيل إيريكسون نرويجي في السابعه والعشرين .. وإني اذكر اسمه فقد سبق له ان القى بعض المحاضرات في الجمعيه الملكيه ..
استطرد ليبلان:



- وبعد ذلك راهبه المانيه ثم اندرو بيترز الأمريكي الجنسيه .. والدكتور بارون .. اشهر علماء الجراثيم في العالم ..


فقال جيسوب معقبا:


- محال ان يكونوا قد ضحوا بهؤلاء الأفذاذ عمدا .. لابد ان في الأمر سرا .. ولكن المشكله هي تلك الجثث التي وجدت محترقه بين الحطام ..


رن جرس التليفون وتناول ليبلان السماعه .. وانصت برهة إلى محدثه ثم قال وقد اشرق وجهه وتألقت عيناه :


- حسنا حسنا جدا .. ابعث بهم إلي في الحال..


ثم تحول إلى جبسوب قائلا:


- يبدو ياعزيزي انك على صواب فيما ذهبت إليه .. لقد امرت رجالي بأن ينتشروا في كل مكان يبحثون ويتحرون .. وقد عادوا إلي بمعلومات مهمه جدا ..


فتساءل جيسوب :


- حقا ؟ ومالذي جاءوا به؟!


- مهلا مهلا وسوف ترى ..


فتح الباب بعد لحظات ودخل رجلان يرتدي احدهما الزي الأوروبي .. وكانت ثيابه معفره دلالة على انه قادم لتوه من السفر .. وكان برفقته رجل اخر يرتدي العباءه المراكشيه الفضفاضه ..


قال الأوروبي :


- لقد قمنا بتحريات واسعه ووعدنا من يدلي إلينا بأية معلومات بمكافأة جزيله .. وقد انتشر صاحبنا هذا ( وأشار إلى الرجل العربي ) وافراد اسرته واصدقاؤه في كل مكان يسألون ويستفسرون .. وقد رأيت أن اتي به معي لتسمع منه بنفسك مالديه من معلومات ..


والتفت ليبلان إلى العربي قائلا:


- إن لك فيما ارى ياصاح عيني صقر تستطيع ان تريا كل شيء ولا يمكن ان يفوتهما شيء .. فهيا هات ماعندك ..


اخرج الرجل من طيات عباءته لؤلؤه كبيره يضرب لونها إلى القرمزي وقال :


- إنها شبيهه تماما باللؤلؤة التي عرضتموها علي وعلى رجالي .. لقد عثرنا عليها ..


تناولها منه جيسوب وقارنها بلؤلؤة اخرى اخرجها من جيبه فكانتا متماثلتين تماما .. ثم اخذ عدسه مكبره وفحص اللؤلؤتين بدقه ..


وغمغم يقول :


- نعم .. إن العلامه ظاهره .. إنها فتاه رائعه .. لقد نفذت تعليماتي .. يالها من فتاه ..


وفي خلال ذلك كان ليبلان منهمكا في استجواب الرجل العربي فلما فرغ منه تحول إلى جيسوب وقال :


- هذه اللؤلؤه يازميلي العزيز وجدت على مسافة نصف ميل من حطام الطائره .. وجثتها ليست قطعا إحدى الجثث السبع المتفحمه التي وجدت بين الحطام ..


قال ليبلان وهو يتصفح قائمة الركاب مرة اخرى :


- اوليف بيترتون .. والدكتور بارون .. هذان الاثنان على الاقل ذاهبان حتما إلى حيث يراد لهما ان يذهبا .. اما الامريكيه كالفن بيكر .. فيمكننا ان نخرجها من حسابنا .. وتوركيل ايريكسون له ابحاث عرضت على الجمعيه الملكيه العلميه .. والأمريكي بيترز .. باحث كيماوي طبقا لما ورد في جواز سفره .. والراهبه الألمانهي هيلدا .. يمكن ان تكون عالمه متنكره في هذا الزي .. الواقع أن الجماعخ كلها من الاخصائيين .. فهل جمعوهم معا في طائره واحده لكي يحرقوها ويقضوا عليهم ؟؟... هذا بالتأكيد فرض مستبعد .. أخرجوهم بالتأكيد من الطائره .. ثم احرقوها .. فمن اين جاءوا بالجثث التي وجدت متفحمه بين الحطام ؟!


فقال جيسوب :


- فلنطرح هذا البحث الآن جانبا .. فهو ليس بذي اهميه .. المهم اننا عرفنا ان ركاب الطائره لم يحترقوا معها وإما بدأوا رحلة جديده من حيث عثرنا على الحطام .. فما الخطوه التاليه ؟! هل نزور موقع الحادث ؟!


وبدأت حملة بحث دقيقه على طول الطريق .. اسئلة في كل خان .. واسئلة في كل محطة بنزين .. واسئله في مختلف القرى ..


واخيرا اسفر البحث عن شيء..


قال ليبلان :


- انظر يا صديقي .. لقد فتشوا المراحيض كما امرت .. فعثروا على هذه اللؤلؤة في خان عبدالله .. ملصقه بالجدار بقطعه من اللبان .. وقد استجوبناه وافراد اسرته فأنكروا كل شيء في البدايه ثم اعترفوا .. قالوا ان ستة اشخاص في سيارة رحلات نزلوا بالخان .. وذكروا انهم بعثه المانيه للبحث والتنقيب عن الآثار .. وطلبوا منهم ان يتكتموا لأنهم يقومون بالعمل خفيه دون تصريح من الحكومه .. ونقدوهم من المال قدرا كبيرا .. وفي قرية الكيف .. عثر بعض الغلمان على لؤلؤتين اخريين .. وبذلك عرفنا اتجاه السياره ..


وفي الصباح التالي .. جاء ليبلان باكتشاف جديد .. لقد عثر العرب على ثلاث لآلئ صفت على شكل مثلث .. وملصقة فوق قطعه من اللبان ..


وقال جيسوب :


- اللآلئ المثلثة الشكل معناها ان الطائره هي وسيلة الانتقال في المرحلة القادمه من الرحله ..


فقال ليبلان :


- إنك على صواب ياصديقي .. فقد عثروا على هذه اللآلئ في مطار حربي مهجور كان يستعمل خلال الحرب ..


ثم اردف :


- والآن فتلك هي المشكله بل اعتقد المشاكل: طائره مجهوله تتجه إلى مكان مجول ..


تنهد قائلا :


- وعند هذا تتوقف ابحاثنا ويضيع منا الأثر ...
-------------------------
اقبلت الآنسة جينسون بعينيها الذابلتين تتألقان تحت نظارتها العتيقه الطراز .. ذات الزجاج السميك وقالت تخاطب هيلاري :


- لدينا اجتماع هذا المساء .. سيخطب فيه المدير نفسه ..


فقال بيترز معلنا :


- حسنا .. فقد كنت اتمنى ان القي نظره على هذا المدير الخفي ..


فرمته الانسه جينسون بنظرة لوم وعتاب ثم استدارت منصرفه ..


وقال بيترز :


- يبدو لي انها والهة في حبه كما كانوا يتفانون في حب هتلر ..


فقالت هيلاري :


- وهذا ما يتراءى لي .. إنها فاشستيه متحمسه..


فقال بيترز مستطردا :


- حين غادرت الولايات المتحدة كنت ممتلئا حماسا وشبابا .. اتوق إلى دنيا تسودها الاخوة والسلام .. ولكن لو اني توقعت اني سألقي بنفسي بين براثن هذا الديكتاتور لما بارحت وطني ..


فهتفت هيلاري وقد تضرج وجهها احمرارا..


- لكم يسعدني ان اسمعك تقول هذا .. وكم اسعدني ان التقيت بك هنا .. فأنت رجل ظريف ومرح ..


فقال ضاحكا :


- يبدو لي انك ضقت بمعاشرة العباقره ..


فأجابت :


- هذا صحيح .. ثم انك تغيرت كثيرا في الايام الاخيره .. فقد زايلك شعور الكراهيه والمراره ..


- إنك مخطئه في هذا .. فهنا في اعماقي لايزال الحقد كامنا يتأجج ويتلظى .. نعم يا اوليف .. هناك اشياء يجب ان يكرهها الإنسان ..


بعد العشاء انعقد الاجتماع الذي اشارت إليه الآنسه جينسون في قاعة المحاضرات .. وحضره جميع اعضاء البحث العلمي من علماء ومساعدين وكيميائيين وغيرهم ..


اتخذت هيلاري مجلسها بجانب زوجها المزعوم بيترتون .. وهي اشد ما تكون لهفة إلى مشاهدة الرجل الذي يدير هذا المركز ويفرض عليه قيوده واغلاله ..


لقد سألت عنه زوجها فكانت إجابته متسمه بالغموض .. فقد قال:


- لقد رأيته مرتين فقط .. وهو رجل عظيم .. ذو شخصيه طاغيه جباره .. يستحوذ على عقلك ويخضعك لسلطانه فور ان يتكلم ..


اخيرا ظهر الرجل على منصة الخطابه ووقف الحضور جميعا تحية له .. كان رجلا متوسط العمر متين البنيان .. لابالطويل ولا بالقصير .. يتميز بعينين تشعان ذكاء متألقا وله نظرات نفاذه كأنما يسري فيها تيار كهربي قوي ..


وحين وقف ليتكلم تعلقت به العيون في انتباه شديد .. استهل خطابه بأن قال :


- دعوني اولا ارحب بزملائنا الجدد الذين انضموا إلينا في الأيام الاخيره ..


ثم شرع بعد هذا يتحدث عن اهداف المنظمه وامانيها ..


حاولت هيلاري فيما بعد ان تستعيد إلى ذهنها ماسمعته .. فاستعصى عليها الامر .. وخيل إليها انه لم يتفوه إلا بكلمات عاديه مرسله جوفاء .. وإن كان الإنصات إليه امرا مختلفا جدا .. فحين يتكلم .. تحس بسحره يطغى عليك ويأخذك ويحتويك ولكن إذا ما حللت كلماته فسوف تجدها مجرد لغو لا يقدم ولا يؤخر .. ذكرت هيلاري عند هذا ماحدثها به صديق لها عاش في المانيا اثناء الحرب .. وكيف كان الشعب الالماني يجن ويشتعل حين يستمع إلى هتلر ..


وكان الخطيب هذه الليله ايضا من هذا الطراز العجيب ..


سحر الحاضرين بكلماته فجعلوا يتابعون كلماته مشدوهين .. كأنما يهيمون في السماوات ..

أتمنى إضافة رد ...

إحساس مصرقعه 19-09-09 05:13 AM

مشكوروماقصرت

AZAHEER 22-09-09 06:46 AM

يعطيك الف عافية

Ahmed sharm 16-11-09 12:14 AM

ما نريد قراءتها هكذا
ولكن نريدها pdf

نديم العمر 16-11-09 10:39 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شكراًً جزيلاً لكَ أخي الكريم

رواية جميلة ومشوقة كما هيَ عادةً أعمال كاتبة الأجيال "أجاثا كريستي"

والغريب في الأمر هذا التباين في الاسماء التي يتم وضعها لرواياتها كل دار نشرٍ حسب هواها !

فهذهِ الرواية تارةً تجدها وقد اختير لها اسم "الطائرة المفقودة" وتارة أخرى "الطائرة الضائعة"

ولو بحثنا في تاريخ صدور هذهِ الرواية لوجدنا لها أسماء أخرى

شكراً لكَ وفي انتظار التكملة إن شاء الله


الساعة الآن 12:47 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية