منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله (https://www.liilas.com/vb3/f717/)
-   -   حكاية بطل رفض أن يكون كذلك للكاتب أنا راحل (https://www.liilas.com/vb3/t117943.html)

Green Tea 28-08-09 08:58 PM

حكاية بطل رفض أن يكون كذلك للكاتب أنا راحل
 


أتمنى تعجبكم

حكاية بطل رفض أن يكون كذلك

للكاتب أنا راحل



1

وجدا لهما زاوية في المقهى الذي كان قد فتح أبوابه للتو، وبدأت أنواره تضيء بتتابع جميل وتوزيع أنيق.

جلسا بذات الصمت الذي ولجا به، تشاغل أحدهما بتقليب صحيفة ملقاة على الطاولة الصغيرة أمامه، وجعلت عيناه تتنقلان على السطور بلا وعي وبلا رغبة حقيقية في القراءة، بينما جعل الآخر يحدق في المكان من حوله قبل أن يترك عينيه تتسللان إلى الطريق المزدحم أمام المقهى.

تثاقل الصمت بينهما حتى قطعه النادل الذي سجل طلباتهما التي جاءته بخفوت وهدوء لم يتعوده من رواد المقهى الصاخبين.

عادا إلى ما كانا فيه، حتى بدأ جفن صاحب الصحيفة يرف من توتره الداخلي المتصاعد فتوقف عن التظاهر بالهدوء ونحى الصحيفة جانبا ً وقال وهو يحاول الفرار من عيني صاحبه المخترقتين:

- أين صرنا؟

- مازلنا حيث كنا... لا تتوقع مني أن أخطو خطواتك بدلا ً عنك.

زفر صاحب الصحيفة بقوة ولوح بيده بيأس وهو يتراجع في مقعده قائلا ً:

- أتمنى أن أفهمك.

- لا تتمنى ما لا تستطيع، ألم أقل لك ذات يوم أنك إنسان محدود؟

- أعرف... أعرف... - قال بسخرية مريرة - لا تبدأ هذا يا فهد أرجوك، هناك أناس محدودون مثلي ولا فخر، وهناك أناس بلا حدود مثلك، ونحن المحدودون نحاول التعامل مع غير المحدودين بذات القيود والحدود التي تقيدنا... لا تخف أحفظ دروسك جيدا ً.

لاح شبح ابتسامة على شفتي فهد سرعان ما تصاعد فأطلت من عينيه وهو يقول:

- ربما تحفظها ولكنك لا تفهمها.

- ربما... ولكن أرجوك أنا في غنى اليوم عن فلسفتك وعن آرائك في الحياة وفي شخصي المسكين، أرجوك أعفني منها اليوم وتكلم معي بوضوح، لا تغرقني وتجهدني في فك كلماتك.

- تريد الوضوح؟ تريد الصراحة؟ هل تتحملهما؟ هل أنت مستعد لأن تتركني أتحدث بدون أن تهرول من هذا الباب؟

انفرجت شفتا صاحب الصحيفة ولكنه عاد وأطبقهما وعيناه تتابعان بضيق ثلاثة صاخبين جلسوا بالقرب منهما، وأحدهم يلف أصابعه على سيجارة تتحدى كل لوحات منع التدخين، فأكمل فهد وهو يحرك يده في الهواء كأنه ينفض عنه كل شيء:

- الآن... لا شيء يفيد، كان على هذا أن ينتهي منذ زمن... وقد انتهى اليوم.

- انتهى !!! لا... لا... لا... لا يمكن أن ينتهي كل شيء هكذا، صدقني يمكننا إصلاح كل شيء، أحتاج فقط إلى فرصة... أعطني فرصة.

لاحت من عيني فهد نظرة غريبة لا تنتمي للمكان، كاد أن يتكلم ولكنه توقف متعثرا ً، تلفت قليلا ً وكأنه يتعرف على المقهى لأول مرة، ثم استبدل بالنظرة الحائرة نظرة أخرى تجمع بين الحزن والألم والقهر والغضب، وتراجع في مقعده وهو يقول:

- أتدري؟ لا أرغب في إكمال هذا... لقد مللت.

- مللت؟

- ألم تفهم بعد الحقيقة المرة هنا؟ أنا وأنت لسنا حقيقيين، لسنا أشخاص، وهذا المكان ليس مقهى، وكل ما يحيط بنا الآن ليس إلا خيال كاتبنا، نحن لا نتحدث هنا ولا نتبادل حوارا ً، كاتب هذه السطور هو من يفعل، أنا وأنت لسنا إلا حروف، سطور، كلمات مرصوصة، تسري فيها روح الكاتب، أنا وأنت ضحايا يريد كاتبنا أن يصنع لنفسه ولأفكاره مجدا ً على حسابنا، ولذا فأنا مللت، مللت... ولا أريد أن أكون بطلا ً لأحد.

توقف كل شيء، تحول المقهى إلى ما يشبه صورة فوتوغرافية التقطت في لحظة، فاختزنت في بطنها ظلال المكان، وابتسامات رواده والتماعات عيونهم، حتى خيط الدخان تجمد في الهواء بالتواءاته، فقط فهد هو الذي سلم من هذا كله وبقي في مكانه يزفر بقوة، ويحتفظ على وجهه بذات الملامح المقهورة.

غاب كل من في المقهى، تواروا وراء شطب عريض، شطبت صاحب الصحيفة والنادل والرواد، أبقيت فقط المقهى وفهد و... أنا.

تقنعت بابتسامة خفيفة لأخفي ذهولي ثم دخلت المقهى وأنا أحمل قلما ً مسلولا ً في يدي، كانت قدماي تدقان السكون وأنا اتجه إلى حيث كان صاحب الصحيفة قبل أن لا يكون، جلست ووضعت القلم برفق على سطح الطاولة وسنه باتجاه بطلي المتمرد، ومن ثم وضعت ساقا ً على ساق، وجعلت أحدق في عيني فهد.

وجدت في عينيه اللتين صمدتا أمام عيني أطول مما فعلت عيون... وعيون، أشياء كثيرة أغرتني بالاكتشاف، أغرتني بالسؤال.

قال بتعجب خفيض الصوت:

- لم تشطبني !!!

- ربما أفعل... قلمي ما زال بلا غطاء... أردت أن أحادثك قليلا ً قبل أن أفعل.

- تعني... تحادث نفسك - قالها بمرارة أحزنتني بحق -، فأنا لست إلا جزء منك تريد أن تتخلص منه أو تريد في أحسن الأحوال تخليده بين السطور.

- لا... أريد أن أحادثك أنت، ليس معنى أنك جزء مني، أو أني صنعتك، أنك أنا، نحن لا نفهم أنفسنا جيدا ً يا عزيزي وإن ظننا عكس ذلك، ومهما وصلنا من وعي بالذات ومتابعة لخطراتها يبقى منا أجزاء مظلمة وسحيقة بعيدة عن أعيننا أو ربما نغض أبصارنا عنها ولا نريد رؤيتها.

- ربما - قالها بشرود -.

- قل لي... ما الذي حدث؟ ما الذي أغضبك؟

- لا أدري بالضبط... كنت أجلس مع صاحبي ذاك، الطريف أني لا أعرف اسمه الآن، لم تدع لي الفرصة لأعرف، ولا لأعرف لم َ كنت غاضبا ً من...

- أنت لم تدع لنفسك الفرصة - قاطعته بابتسامة خبيثة -.

- ربما... ربما - وهو يلوح بيده - لا أريد أن أخوض معك الآن في تفصيل من الذي يريد هنا أو يتحدث، أنا أم أنت، سأتشبث الآن بالفكرة التالية... كنت أتحدث معه ثم شعرت في اللحظة التالية بأن كل هذا الحديث خواء، وأن الكلمات التي تجري على لساني ليست لي، لا أدري كيف أشرح لك هذا؟

- لا تفعل... أفهمك جيدا ً، هذا يشابه عندما أعيش أنا حلما ً في المنام، وتمر بي أحداثه بكل قوتها وعمقها، ثم في لحظة أشعر بأن كل هذا حلم ويصبح كل شيء بلا معنى.

- جيد... هذا يشبه ما حدث لي، لولا أني لم أكن أحلم، وأني لم أستيقظ، كانت لحظة مررت بها ثم انجلت في اللحظة التي تليها الحقيقة كاملة، أنا لست إلا كلمة، سطر، سطور، لا أكثر، اجتاحتني مشاعر رهيبة، حزن من بعده ألم ومن بعد الألم قهر، ومن ثم انفجر الغضب في داخلي.

- ما الذي أغضبك بالضبط؟

- كل شيء، غضبت أولا ً من استغلالك لي.

- استغلالي لك؟

- نعم... أنت تستغلني، من الذي منحك الحق في إلباسي أفكارك؟ وصوغ حياتي كما تحب وكما تشاء؟ من منحك حق دفعي لأتصرف وأتحدث كما تريد أنت، فقط... لتجعل مني عبرة ولتصوغ مني معنى؟

- آ... - كنت سأقول شيئا ً ما، ثم تراجعت مؤثرا ً تأجيله قليلا ً ومحاولة صوغ كلماتي بطريقة أقل قسوة -، صحيح... أنا أستغلك، لا أنكر هذا، ولكن هذا الاستغلال لا يحمل معنى سيئا ً، لم لا تعتبر نفسك كممثل يقوم بدور مؤلم ومحزن في مسرحية ما وعندما ينتهي يرتدي ثيابه ويذهب لمنزله وهو لا يفكر بأن المخرج والكاتب من قبله يستغلونه؟

- لأني أعيش هنا... وليس لي حياة أخرى أرتدي ثيابا ً لأعيشها، أنا هنا فقط معلق بين سطورك، قد أعجبك فتمنحني مساحة أوسع، وتنقلني إلى حكاياتك الأخرى، وقد لا أعجبك فتقتلني أو تتركني معلقا ً إلى الأبد في فضائك.

- غريب... - وقد تخليت عن حذري الآن -، أنا لم أفكر بهذا من قبل، أعني... أن يكون لدى أبطالي مثل هذه المشاعر أو الأفكار، صحيح أني كنت أضفي عليهم الكثير مني، وكان بعضهم يحمل مشاعري، والبعض الآخر يحمل أفكاري، ولكني لم أحلم يوما ً أن يفكر أحدهم بهذه الطريقة أو الأسلوب أو أن يخرج عن الخط الذي رسمته له، بالعكس... كنت أشعر بأنه لو قدر لأحدهم أن يتكلم يوما ً لربما شكرني على أن جعلت منه بطلا ً، وأن منحته هذه الحياة حتى ولو كانت على الورق، كم هم الذين يتمنون أن لو كانوا فصلا ً في كتاب؟

صمت وتراجع في مقعده بحزن ظاهر - كنت محقا ً في حذري إذن، لقد آذيته -، جعل يتأمل يديه بذات الصمت الذي آثرت احترامه، ضم قبضته ثم قال وهو يفردها بشرود:

- البطولة لا تستحق كل هذا الألم... هل سألت بطلا ً إن كان أراد يوما ً البطولة؟ البطولة لحظة ألم عميقة، البطولة التعويض البارد الذي يقدمه الناس لمن ذاق حرارة الألم، جميل أن نتذكر بطولة الأبطال وتضحياتهم التي جاءت من عند أنفسهم، ولكن البطولة لا تفرض على أحد ولا تطلب منه، لا يمكنك أن تطلب من أحد أن يكون بطلا ً، فليس الكل كذلك... فلم تطلب مني ذلك؟ لم ترغمني على هذا؟

- أنا لا أرغمك على شيء - قلتها بعد صمت قصير، احتجت له كثيرا ً لأفكر في كلماته الجديدة في أذنيّ -، أنا فقط لم أفكر بهذا من قبل، البطولة بالنسبة لي كانت أمرا ً جميلا ً ورائعا ً، أن يكون الإنسان بطلا ً... الكل يحلم بهذا، ولكني لم أحدق ولا مرة في الجانب الآخر للبطولة، لم أفكر بالألم الذي تحتاج له، ولا فكرت هل أراد من كانوا أبطالا ً ذلك؟ أم أنهم لم يجدوا خيارا ً آخر.

لم يرد... وسكتّ أنا، جعلت أتأمل هذا الوضع الغريب الذي لم أتخيل حدوثه أبدا ً، كنت أحب أبطالي الثائرين دوما ً، ولكني لم أتوقع أن يثور أحدهم علي، ولا توقعت أن يخرج عن المسار الذي حددته، فضلا ً عن أن يكرهه، لذا كنت أشعر بحيرة في التعامل مع الوضع، ماذا أفعل؟ هل أتركه يعيش في مساحاتي وأحاول اكتشافه مع الوقت؟ أم أشطبه الآن وأتخلص من بذرة العصيان هذه، فمن يضمن لي ألا تتسرب روحه الثورية هذه إلى كل بطل قادم من أبطالي، حتى أجد نفسي في النهاية... بلا أبطال، وبلا حكايات أرويها !!!

- ستشطبني؟

- لا أدري... أنا أفكر الآن... ماذا أفعل؟

- لا تشطبني... لا تفعل.

- ظننتك لا تريد البقاء هنا !!!

- أريد البقاء... أوه... أريده بشدة، ولكني لا أريد أن تستغلني.

- وما هي الصفة التي تريد أن تبقى بها هنا؟ أنت لست بطلا ً... وترفض أن تكون كذلك، فما هي المساحة التي يمكن أن تحتويك؟

- هذه المساحة تكفيني... أن أبقى هنا في هذا المقهى وأتحدث معك من حين إلى حين، هذا يكفيني،أن تزورني كلما شعرت برغبة في الحديث والثرثرة، يمكنني أن أكون هذا النوع من الأبطال... البطل الثرثار.

- غريب - قلتها وأنا أداري ابتسامتي -... لم أتوقع هذا، ظننتك تكرهني.

- أوه... لا... لم َ ظننت هذا؟

- غضبك... وثورتك، ظننت أني في نظرك متسلط يتلذذ باستغلالك.

- لا... لا... أنا... أنا أحبك واقعا ً - قالها وهو يصرف عينيه، هل كان ذلك حياء ً أم ماذا؟ -.

- ههههههههه، تحبني؟ - بترت ضحكتي عندما لمحت نظرته الحزينة - عذرا ً... لا أقصد السخرية منك، ولكني لم أتوقع ذلك.

- لا بأس.

- وما الذي تحبه في ّ؟ - كان سؤالي الفضولي هذا بعد تجاوزي للحظات من الحرج -.

- لا أدري !!! ربما أحبك لأني جزء منك، آ... هو أشبه ما يكون بحب الابن لأبيه القاسي، يظن أنه يكرهه، يظن أنه لا يريده ولا يحتاجه في حياته، ولكن في اللحظة التي يفقده فيها أو يفقد وجوده... يجتاحه ذلك الشعور الكريه بأنه وحيد في هذا العالم، من الذي قال... ( يظل الرجل طفلا ً حتى يفقد أمه، عندها يشيخ فجأة) ؟ حسنا ً... سأقول أنا ( يظل الرجل في الظلال حتى يفقد أباه، عندها يغرق في الشمس).

- يحزنني أن تراني أبا ً قاسيا ً لك.

كان رده ابتسامة باهتة، فقلت بسرعة وبلا تفكير:

- حسنا ً... سأبقيك هنا حتى مساء الغد على الأقل، أريد فسحة أطول للتفكير، ولكن كل هذا بشرط.

- ما هو؟

- أن لا أكون أبا ً هنا... سأكون صديقا ً.

أظن أنه يمكنني قبول هذا - وكانت ابتسامته هذه المرة واسعة وجميلة -.



Green Tea 29-08-09 03:25 PM





2

بدا لي واضحا ً أن الحالة النفسية لسليمان صارت في الحضيض الآن، بذلك الملل الذي لا يخفيه، وبلثامه الذي أحكم لفه حول أنفه كأنما يمنع ذرات الغبار التي تغطي كل شيء من التسلل إلى صدره.

كنا في مكتب كئيب في تلك العمارة المتداعية والضائعة في أحد أحياء وسط الرياض القديمة، لم يكن مكتبا ً في أصله، وإنما غرفة مرتجلة تضيق بطاولة قديمة يغطيها لوح زجاج مشروخ تراصت تحته بعض ( التعاميم الحكومية)، وتقويم زاهي الألوان للسنة الماضية توزعه مؤسسة مفروشات شهيرة وتزين محيطه بعض منتجاتها، وبعض الأوراق الدينية المطبوعة بلون ناحل - فتاوى تارك الصلاة، وفتوى عن السحر، وأخرى عن الربا -، وقصيدة نبطية سيئة الطباعة تداخلت أبياتها، وفقدت بعض قوافيها، ووراء المكتب كانت خزانة هائلة رمادية اللون تلتهم جزء ً من ضيق المكان، وتزدحم وراء زجاجها الشفاف الكعوب المميزة للملفات المكتظة بكل الأوراق التي مرت بهذا المكتب واستبقت ورائها نسخة ناحلة الألوان بدورها كما الكثير من الأوراق هنا، وبجانب الخزانة – كأنما لا يكفي كل هذا الضيق !!! – كانت هناك طاولة صغيرة بسيقان عارية ولامعة - ربما هي الشيء الوحيد الذي يلمع في هذا المكتب، إذا استثنينا النظارات الكبيرة لصاحب المكتب - يغطي سطحها أوراق ملوثة ببقع الشاي وفتات السكر، ويتراص فوقه وبلا أي نظام ( مسخن ماء) وصندوق صغير من الشاي، وصندوق من مكعبات السكر، وعدد من الأكواب الورقية التي تحتضن بعضها، ومن هذه الطاولة قدم لنا صاحب المكتب كوبا ً من الشاي – كان حلوا ً بشكل لا يحتمل، وقد قذف صاحبنا في بطن الكوب أربعة مكعبات من السكر، بدون أن يستشيرنا، مدفوعا ً ربما بالمثل الشعبي " من شاور ما عطى" -.

ما الذي جاء بنا إلى هنا؟

كان رئيس القسم ( ناصر) قد استدعانا في الصباح الباكر، واقفا ً أصنع كوبا ً من القهوة المخففة بالحليب لأطرد من عيني ّ بقايا النوم التي تهاجمني، سليمان يتصفح الانترنت بملله وتذمره الدائمين، ويقرأ بصوت غائم بعض العناوين من هنا وهناك، عندما جاء الرنين الذي لا أحب، كنت أكره صوت الهاتف كثيرا ً ليقيني أنه لا أحد – بحكم أننا قسم داخلي لا يتعامل كثيرا ً مع الجمهور – يمكن أن يتصل في مثل هذا الوقت سوى ناصر.

رفعت السماعة ليأتيني صوته بعيدا ً وهو يتحدث مع أحد ما في مكتبه " حسنا ً... خذ هذه أيضا ً، أرسلها الآن، لا تتأخر، لا أريدهم أن يعاودوا الاتصال بي، صار هذا مزعجا ً" ثم ارتفع صوته - يبدو أنه قرب السماعة من أذنه الآن -:

- آلو.

- هلا.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- جاء سليمان؟

- أي نعم... موجود، تريده؟

- تعال أنت وإياه إلى مكتبي إذا تكرمت.

وهذا ما كان، رشفت رشفتين متعجلتين من كوب القهوة قبل أن أودعه بأسف، وخرجت من المكتب مع سليمان الذي كان يهمهم بضيق لهذا الاستدعاء الصباحي.

كان مكتب رئيس القسم غارقا ً بالأوراق، واستقر ما فضل منها على مقعد يجاوره، وكانت الأوراق ذات طابع كئيب من النوع الذي يؤشر عليه بالقلم ويحيله إلى أحد موظفيه ليقوم باللازم، كانت هذه العبارة من العبارات التي أبغضها كثيرا ً " للقيام باللازم"، أي ورقة كانت تصلني ممهورة بهذه العبارة لم تكن تعني أقل من أيام بائسة أخرى، فاللازم لم يكن مكالمة هاتفية أجريها وينتهي كل شيء، أو ورقة أكتبها، وإنما كان يعني في أفضل الحالات زيارة ميدانية لأحد الأقسام، واجتماع ممل وطويل مع موظفين لا يكفون عن الشكوى، وطلب تعديلات في البرامج التي صممناها بناء على طلباتهم واحتياجاتهم، مهما كانت هذه التعديلات سخيفة أو مستحيلة.

أشار لنا ناصر بالجلوس، فيما هو يقلب مجموعة من الأوراق المضمومة معا ً بدبوس، نزع الدبوس وفرق الأوراق ومن ثم أعاد ضمها بعدما أشر عليها، وقال وهو يعيد شكها بذات الدبوس - كيف لم يضع وسط هذه الفوضى !!! -:

- كيف حالكم يا شباب؟

- الحمد لله بخير - كانت هذه من سليمان، ففي مثل هذه المواقف أتدرع أنا بصمتي وأترك الكلام له بحكم أقدميته في العمل، وخبرته في التعامل مع طلبات ناصر التي لا تنتهي -.

- لدي طلب هنا لبرنامج مهم، وللحقيقة فهذا الطلب يقبع في مكتبي منذ فترة طويلة، ولم أعطه لأحد حتى الآن لأهمية البرنامج، ولأنه – حتى أكون صريحا ً معكم – صعب في تنفيذه، ولم أجد أحدا ً أجدر منكما لتولي هذه المهمة

- ولكن - وقد جاء دور سليمان التقليدي في الاعتراض - نحن غارقون في مشاريع كثيرة، ومطلوب منا تنفيذها بسرعة، هذا غير أعمالنا اليومية المتعبة والتي بالكاد نقوم بها، ومن الصعب علينا الآن أن نضيف إلينا عبئا ً جديدا ً.

- أدري بكل هذا وأقدر جهودكما، ولكن هذا البرنامج مهم جدا ً، وهناك اهتمام شخصي من المدير به، يمكنني تحويل بعض الأعمال التي ترهقكما إلى موظفين آخرين، ولكن من المهم أن تقوما بهذا العمل وتنجزاه بشكل جيد وبسرعة، فالإدارة مهتمة به لحساسيته، وتطالبني من الآن بتقرير أسبوعي عن حالة المشروع.

- كلامك جميل، ولكن كما قلت لك لدينا من الأعمال ما هو فوق طاقتنا، والمشاريع التي لدينا لا يمكن تحويلها إلى أحد بسهولة، فهي في مراحل حرجة وتحتاج إلى متابعة، لم لا تحول هذا البرنامج إلى أحد الزملاء الأقل انشغالا ً.

- لا... لا... أنا أثق بكما، ولا أريد المخاطرة بوضعه بين يدي من لا ينجزه بكفاءة، ثم إن المشاريع التي بين يديكما ليست حرجة كلها، فقط مشروع ( المالية) بحكم أنه في مرحلة التطبيق، أما البقية فلا بأس إذا قللتما الجهد فيها.

وهكذا... مضى الرجلان في الجدال والمناورات الكلامية، هذا يصعب الموضوع وهذا يهونه، حتى يئس سليمان في النهاية وتناول خطاب المشروع، بعدما أشر ناصر على تكليفنا به.

وهكذا وجدنا الخطاب يقودنا إلى هذا المكتب الكئيب، وإلى هذا الموظف اللامبالي، كان الهدف من زيارتنا دراسة بيئة العمل في هذه الإدارة ومن ثم تصميم نظام يخفف من العمل الورقي الذي كانت غارقة فيه، ويسرع إجراءات العمل البطيئة والراكدة، وهو هدف يبدو مجيدا ً على الأوراق، أو بلغة الخطابات الثقيلة، ولكن في الواقع كان الأمر عسيرا ً، وملتفا ً حد الصداع.

كان أول ما قمنا به عند استلامنا للخطاب - بعد انتهاء سليمان من شتائمه بالطبع -، هو التنسيق لزيارة هذه الإدارة، كان هناك رقم جوال مرفق مع الخطاب للموظف المختص والذي سيقودنا لفهم مهام هذه الإدارة والتعامل معها، اتصلنا به، وبعد عدة محاولات اتصال بلا رد، جاءنا صوته المتوجس، عرفه سليمان بنفسه، فاعتذر الموظف على عدم رده في البداية، لأنه لا يرد عادة على أرقام لا يعرفها، سأله سليمان عن الوقت المناسب لزيارة القسم والإطلاع على الأعمال فيه، ففاجئنا بأنه لا يعلم شيئا ً عن الخطاب ولا عن النظام المفترض به مساعدتنا لبنائه، ولكنه عقب أن لا بأس بزيارتنا في أي وقت يناسبنا.

وهذا ما كان، اتجهنا أنا و سليمان للمبنى القديم والذي كان يعرفه جيدا ً من زيارات سابقة، كان استقبال الموظف لنا باردا ً، وبلا اهتمام حقيقي، وهذا ما أغاظ سليمان وجعله يتمتم عن ( الكلاب اللي عليها ثياب) - لسليمان نظرية غريبة، تتلخص في أنه لا يوجد ناس حقيقيين إلا القليل، أما البقية فهم ( كلاب عليها ثياب)، وهذه النظرية مريحة جدا ً بالنسبة له، وتغنيه عن الكثير من التفسيرات، وتختصر الكثير من الدراسات الاجتماعية والفكرية، لم َ احتل الأمريكان العراق؟ لأنهم كلاب، لم َ يخون الصديق صديقه؟ لأنه كلب، لم َ يعق الابن أباه؟ لأنه كلب... وهكذا -، بعدها غادرنا غرفة الموظف بعدما قام بتحويلنا إلى زميله ( علي) والذي سيفيدنا أكثر كما قال.

وها نحن مع علي والذي لا يقل لا مبالاة عن زميله، بدأت - بعدما شرحت له المطلوب منا حسب الخطاب - بسؤاله بعض الأسئلة عن طبيعة عمله، وبين يدي ورقة بيضاء أنوي تخطيط الأعمال التي يقوم بها عليها بشكل مخطط رسومي مع تدوين ملاحظاتي، وكنت بين حين وحين أستوقفه لأحصل على النماذج الورقية التي يستخدمها في عمله، أو أقوم بتسجيل البيانات الداخلة للإدارة، والتقارير الخارجة منها، وسليمان بين هذا وذاك يتسلل إلى خارج الغرفة ليدخن سيجارة في بيت الدرج القريب والذي كان مقصد مدخني الإدارة كلهم فيما يبدو.

وأنا أتأمل الآن الورقة المخططة بين يدي، والتي لم تقدم لي سوى نور ضئيل وتصور غائم لما يمكن للأعمال أن تكون عليه في هذه الإدارة العتيقة، عرفت أن هذه الزيارة لا تكفي وأنه محكوم علي بزيارات أخرى قادمة لهذا المكان الكئيب، ولذا بدا لي خيار الرحيل الآن حكيما ً، لتوفير التعب علي، والملل على سليمان، وملامح الضيق التي بدأت تتسلل إلى صاحب المكتب.

خرجنا بعدما شكرت علي ووعدته بزيارة قادمة حالما أدرس ما تجمع بين يدي من معلوماته الثرية – ليست كذلك بالتأكيد، ولكني اضطررت لإيداع هذه الكذبة مع ابتسامتي -.

* * *

عدنا للمكتب ظهرا ً، طوح سليمان بأوراقه وخرج ليشتت ملله مع أحد الزملاء في المكاتب المجاورة، بينما بقيت أنا مع كوب شاي وأوراقي المتراكمة، وانهمكت في ترتيب أفكاري وتخطيط الأعمال التي يجب إنجازها أولا ً.

الوقت بطئ هنا، لا يقطعه سوى الانهماك في العمل، أو الثرثرة مع زميل عابر، والزملاء العابرون قلة في مكتبي، بعكس سليمان الذي يبدو أنه لا شيء عابر في مكتبه باستثناء العمل.

وكان ماجد من هؤلاء العابرين القلة، بكوبه الأزرق الغريب والذي يصطحبه إلى كل مكان، ويمكن له أن يكون مملوءا ً بأي شيء - شاي، ماء، عصير، قهوة، لبن، حليب، أي سائل يمكن أن يفي بالغرض -، وبملامحه النافرة، كيف تكون الملامح نافرة؟ لنقل أنها تكون كذلك إذا كانت العينان تطوقهما هالات سوداء، والأنف عظيم البروز، بينما الجبين شديد الضيق بحيث تقترب منابت الشعر من الحاجبين، وتبقى الشفتان ككدمة مشقوقة في الوجه.

دخل ماجد وأنا حائر بين نموذجين حصلت عليهما من علي، وبدا لي أن هناك خطأ ما، أو أن أحدهما قديم والآخر النسخة الحديثة منه.

- هلا ماجد.

- كيف الحال؟

- الحمد لله.

- أين سليمان؟ - قالها وهو يحتل المقعد بجانب مكتبي ويزيح بعض الأوراق ليجد مكانا ً لكوبه -.

- كان هنا، ربما يدخن أو في مكتب أحد الزملاء.

- يوم ممل... أليس كذلك؟

- فعلا ً - قلتها وأنا أسحب ورقة تنزلق ببطء، وتكاد تسقط أرضا ً من الأوراق التي دفعها ماجد عندما جلس -.

- أوه... لم أنم جيدا ً البارحة - قالها وهو يتمطى كأنما يطرد تعبا ً يسكن جسده -.

- سلامات !!!

- لا... لا شيء، كنت فقط مع بعض الشباب ومضى الوقت بدون أن نشعر، لم أعد للمنزل إلا الساعة الثانية.

- اها - قلتها وأنا أفتح ملفا ً في جهازي، وأغلق آخر -.

- كنا مجتمعين في الاستراحة وقد تأخر البعض في الحضور، أوه... أكرههم عندما يفعلون ذلك، و... - كانت عيناي تنهبان بريدا ً إلكترونيا ً وردني من إحدى الشركات التي تدير مشروعا ً مشتركا ً مع قسمنا - ... ولو نبهتهم لهذا لغضبوا... - ما هذه الإنجليزية الرديئة !!! يبدو لي أن صاحب الرسالة حديث العهد باللغة - ... على خير، وانشغلت بمتابعة مباراة في الدوري الأسباني... - لحظة !!! هذه الرسالة لا تخصني، من المفترض أنها لسليمان سأعيد إرسالها إليه -... أوه... من أجمل الأهداف التي شاهدتها في حياتي... - لا... لا حاجة لذلك، يبدو أنه وصلته نسخة منها، ولكن لم َ يرسلون لي الأصل ولسليمان نسخة؟ يفترض العكس -... وطلبت منهم التركيز في الإعادة الثالثة ليقتنعوا... - اممممممممم، وهذه مجموعة الرسائل المعتادة من الشباب، لا وقت لفتحها الآن، سأفتحها فيما بعد، وعسى أن لا تتكدس الرسائل لدي، كما حدث من قبل -... يعني أن الموضوع تحول إلى عناد فقط.

- اها... مشكلة.

- وكيف حالكم؟ - قالها بعد تنهيدة -.

- الحمد لله بخير.

- كم بقي على نهاية الدوام؟

- اممممممممم، ثلث ساعة.

- يا لثقلها - بشرود وهو ينقر بأظفاره على حافة كوبه -.

* * *

كانت غرفة الجلوس - أظن أن اسمها في الروايات الكلاسيكية ( غرفة المعيشة)، وهي تسمية لا تبدو لي معبرة - تلمع بذلك الضوء المتقطع الذي يميز تلفازا ً يعمل في الظلام، أطفأت التلفاز وأنا أتأمل لينا المتسربلة بالنوم بملامحها المتعبة - لازلت حتى الآن أستغرب كيف تتهدل ملامحها هكذا وهي نائمة، وكيف تعلوها مسحة غريبة وشاحبة -، والغطاء الثقيل يغطي جسدها ويحميه من لذعة البرودة التي ينفثها المكيف الهادر.

اتجهت إلى غرفة النوم لأظفر بدوري بساعة نوم قبل الغداء، تخلصت من الملابس التي تثقلني، قبل أن أسقط على الفراش - حرفيا ً... لازلت حتى الآن أجد لذة طفولية في ترك جسدي يسقط على السرير -، أغمضت عينيّ في الظلام الذي يخففه النور المتسلل من نسيج الستائر، وبدأ دوار الإرهاق يخف ويتخلى عن القبضة التي يعصر بها جبيني، عبرت ذهني لمحة من حواري البارحة مع بطلي الثائر، ولكنها تشتت مع اختلاط عالمي وتسللي إلى وادي النوم.

* * *

نهضت على اليد التي تهزني برفق، والصوت الهامس الذي يردد اسمي، خرجت لينا بعدما فتحت عيني وجعلت أحدق في السقف، وأحاول التخلص من بقايا النوم التي تتشبث بعيني وبروحي.

غرفة الجلوس سابحة في الضوء الآن، وقد عدت لها والرطوبة تتشبث بوجهي رغم المناديل التي مرت عليه، ولينا تنتظرني وأصابعها النحيلة تنسق المائدة بذلك الترتيب والتنظيم الذي يميزها.

- السلام عليكم - وأنا أجلس إلى الطرف الذي يخصني -.

- وعليكم السلام - ويداها مشغولتان بسكب خضار مطبوخة في صحني -.

- كيف الحال؟

- تمام.

- كيف الجامعة اليوم؟

- أف... قرف وتعب كالعادة.

- هههههههههههه، أتمنى أن يأتي اليوم الفريد الذي تقولين فيه أن يومك ِ كان جميلا ً.

- مع الوضع الحالي لا أظن أنه سيأتي.

* * *

وقفت الآن لأصنع كوب الشاي الأساس في يومي، كوب آخر العصر والذي أصر على إعداده بنفسي، بكل تلك الدقة والتفاصيل التي أحبها، الكوب الزجاجي الذي يحط على قاعدة معدنية لامعة تحتضنه وتمتد منها أعمدة لتحيط به ومن ثم تكون له عروة مغلفة بخشب فاتح اللون، ملعقتا السكر الصغيرتان اللتان أذوبهما في القليل من الماء الفائر الذي أسكبه قبل أن أدلي كيس الشاي وأربط طرفه بالعروة ومن ثم أسكب باقي الماء لأملأ الكوب، وأتأمل الماء وهو يتلون بسرعة بتلك الألوان الفاتحة والتي تبدأ بالإعتام، انتظر قليلا ً قبل أن أفك رباط الكيس وأتركه ينزلق ليحط على القاع الذي ترقد فيه حبيبات سكر تقاوم الذوبان ببسالة، أفكر أحيانا ً وأنا أتأمل هذا المشهد الفاتن، بأيها المحظوظة الحبيبات التي ذابت وصارت في حمى الماء؟ أم الحبيبات التي قاومت الذوبان وانفردت لتواجه عتمة الشاي وظلامه المنتشر من حولها؟ أي أفكار مجنونة يحملها إلي كوب شاي وصفحة مشرعة البياض.

كان أمامي الآن بضعة كتب لأقلبها، وعدة ساعات لأنفقها في البحث وتدوين الملاحظات، حتى يحل الليل بسكونه، وحينها يمكنني التسلل للقاء البطل الذي لا يريد أن يكون كذلك.


Green Tea 29-08-09 03:33 PM








3

بحثت عن مكان أضع فيه الكوب وسط الأوراق والكتب التي تزحم الطاولة الصغيرة، طويت بعض الأوراق بيد، وأزحت كتابا ً لألقيه في جوف آخر فاغر على صفحة تشغلها قصيدة ( ذياب الجرادي)، حتى لاحت لي فرجة صغيرة وضعت فيها الكوب بحرص، ثم تراجعت بالكرسي قليلا ً وأنا أسند قدمي إلى حامل صغير للأقدام، وأغطي وجهي بيدي.

احتجت لدقائق حتى أشتت ذلك الارتخاء والكسل الذي يملؤني، قبل أن أعود لكوبي وأوراقي.

سحبت ملفا ً صغيرا ً بلون فاقع - اخترته هكذا لا عن سوء ذوق، بل حتى أميزه بسرعة وسط الفوضى التي تشغل المكتب-، وفككت الرباط الذي كان يتدلى من أحد طرفيه ليلتف حول الطرف الآخر، لتواجهني أوراقي التي غطى بياضها خططي وملاحظاتي المزدحمة، والتي لا تلتزم سطرا ً ولا نظاما ً، وإنما تأتي كيفما اتفق الخاطر، ويفصل بينها للتمييز خطوط سريعة مترادفة.

قلبت الورقة الأولى التي أحرص أن تكون كذلك عندما أعيد ترتيب الملف، وهي الورقة التي تملؤها خطة العمل، وتتفرع من كل سطر فيها هوامش جانبية صغيرة بالكاد تقرأ - لدي إصرار غريب على أن أختصر الكثير من الأشياء في ورقة واحدة -.

مضيت أتتبع السطور وبعض الهوامش بين رشفات الشاي، وعبثي بالقلم الذي يحمل الحرفين الأولين من اسمي - هدية بالطبع وإلا فأنا ليس لدي ذلك الهوس بنقش اسمي على أشيائي -.

قلبت الورقة الأولى بعدما حددت في ذهني إطار عملي لهذا اليوم، والأشياء التي يمكنني القيام بها خلال الساعات القليلة القادمة، قبل أن أطوي كل هذه الأوراق، وأزيح كل هذه الكتب، لأفرد المساحة للفهد الثائر.

انتقيت ورقة نصفها بياض لم يمس، وكتاب غرست في بطنه ورقة سميكة لتدلني حيث كنت، ألقيت بغطاء قلمي، وبدأت في القفز بين السطور، والقلم يخطط البياض.

* * *

بدأ كل هذا في اجتماع العائلة السنوي الأخير، وهو الاجتماع الذي يضم كل الأحفاد المتحدرين من الجد الرابع للعائلة ( صالح بن علي).

كان الاجتماع طقسا ً سنويا ً للعائلة الضخمة والممتدة يعقد في المزرعة الفسيحة التي يمتلكها والدي - كبير العائلة الفعلي، في مقابل كبيرها اسميا ً العم سعود، وهو عجوز تسعيني خرف -، وهذا ما يجعل الاجتماع بهيجا ً، وخصوصا ً عندما تكون حالة الجو جيدة، والأرض تتنفس ربيعا ً.

كان علي فقط أن أتجاوز الساعات الأولى من الاجتماع والتي يشغلها الحفل الترحيبي، الذي يبدأ بكلمة الوالد القصيرة دائما ً والمتشابهة الكلمات، ومن ثم القصيدة - أو القصائد عندما تكون سنة طيبة لشعراء العائلة - النبطية ذات الموضوع الدائم - الافتخار بالعائلة، والمديح للجد رحمة الله عليه والذي توفي منذ لا أدري متى !!! -، ومن ثم تكر سبحة المسابقات للكبار والأطفال، ومن ثم اجتماع العائلة المفتوح - لا يحضره إلا المهتمون فقط وكبار السن، ويفر منه الشباب والأطفال - حيث تطرح الاقتراحات والأفكار ويتم الموافقة عليها أو رفضها، وتضم للمشاريع العائلية التي ينفق عليها من صندوق العائلة - يبدو هذا الاجتماع شبيها ً بمجلس شورى للعائلة -، وعندما ينفض الاجتماع، ينفض على الوليمة الكبيرة حيث السفرة الممتدة بأكداس الأرز واللحم.

وعندما ينتهي الآكلون ويخلفون ورائهم سفرة خاوية منهوشة، يكون القسم الأول والأساس من يوم العائلة قد انتهى، ويبدأ البعض في الرحيل، ولا يبقى إلا المهتمون حقا ً، الذين يعودون بعد صلاة العصر لسلسلة جديدة من المسابقات للكبار، والألعاب الرياضية للصغار، ومن ثم أمسية شعرية نبطية لأبرز شعراء العائلة والذين يتنافسون في ضخ قصائدهم التي حضروها لهذه المناسبة ليضفروا بلقب شاعر العام، ومن ثم يأتي دور راوية العائلة العجوز ( أبو عبدالوهاب) والذي يبدأ حالما يوضع مكبر الصوت بين يديه في الحديث بصوته الهامس والضعيف، وهو يلوح بإحدى يديه، بينما يده الأخرى تتحسس لحيته المصبوغة بالحناء من حين إلى حين، وكانت مراوي ( أبو عبدالوهاب) أجمل ما في اليوم، رغم أنه يعيد بعض حكاياته بعينها كل سنة – مع تفاصيل جديدة أو بتغيير لبعض التفاصيل - إما نسيانا ً حينا ً، أو بالطلب من الجمهور المسترخي على البسط المفروشة على الأرض، والمستمتع بالليل والحكايات والشاي.

وينتهي اليوم بوليمة العشاء والألعاب النارية التي تنير سماء المزرعة وتبهر ألوانها وأصوات انفجاراتها الجميع.

وبين كل هذا أكون أنا، إما مساعدا ً لأخوتي في ترتيب بعض الأمور، أو متابعا ً لبعض الأنشطة هنا وهناك، أو مثرثرا ً مع هذا وذاك من الأقارب الذين لم أرى بعضهم منذ اجتماع السنة الماضية، أو هاربا ً من هذا كله مع أحد الأقارب إلى أطراف المزرعة لنستمتع بالجو الرائق والثرثرة بعيدا ً عن كل هذا الضجيج.

في السنة الماضية، كان هناك نقاش سيطر على الاجتماع العائلي المفتوح، حول مشروع متعثر للعائلة، كان يجب أن ينجز منذ سنتين على الأقل، وهو عبارة عن فكرة لإصدار كتاب حول الجد ( صالح بن علي)، يتناول سيرته وأخباره وقصائده وبالطبع قصيدة الشاعر ( ذياب الجرادي) الشهيرة - عائليا ً فقط - والتي مدحه فيها إذ حل ضيفا ً عليه ذات يوم فأكرمه.

وكان كبار العائلة مستثارين لهذا التأخير في هذا المشروع المهم - جزء من استثارتهم يعود لصدور كتاب أنيق الطباعة، صقيل الصفحات لإحدى العائلات المنافسة -، فلذا كانوا يرغبون في التأكد من أن الكتاب سيكون جاهزا ً للتوزيع في اجتماع السنة القادمة.

كان النقاش الذي تابعته باهتمام بسيط، يدور حول عدم تفرغ الرجل الذي أوكل إليه تأليف الكتاب - لاهتماماته التراثية - لمثل هذه المهمة المتعبة والمعقدة، ولذا كان هناك اتجاه واضح - محرج في البداية، ومن ثم متحمس بعدما اتضح أن الرجل لا يمانع - للبحث عن شخص آخر توكل له هذه المهمة، ويستطيع إنجازها خلال العام القادم.

لم أتوقع أن يكون اسمي مطروحا ً لمثل هذا، ولكن يبدو أنه كانت هناك نية مبيتة لذلك، مدفوعين بمركز والدي في العائلة، وببعض الكتابات التاريخية التي تظهر لي بين وقت وآخر في بعض الصحف المحلية، اقترح بعض أعمامي اسمي، وسرعان ما تجاوب التأييد من كل مكان، وشيعت ذلك نظرة موافقة وارتياح من والدي، جعلتني أعزلا ً أمام الجمع المحدق بي.

وهكذا وجدت نفسي بعد الاجتماع مجذوبا ً من يد ( أبو خالد) - الرجل الذي تخلص من هذا الحمل بإلقائه على كاهلي - إلى سفرة قصية ليشاركني معلوماته حول الموضوع.

كان ( أبو خالد) يلقي لي بمعلومة بين كل لقمة وأختها، هذا إذا لم يشاكس أحد الذين يشاركوننا السفرة، أو يضحك وهو يرد على آخر في سفرة أبعد قليلا ً.

- الموضوع بسيط بارك الله فيك – قالها وهو يقطع بسكين تل الشحم الذي يواجهنا، ليصل للحم الساخن الكامن تحته -، سأعطيك صورة من مخطوطة ثمينة لعمنا الشيخ عبدالرحمن بن عثمان بخطه، والذي كان جده ( صالح بن علي)، هذه المخطوطة هي أهم الموجود، لأنها كتبت في السنوات الأخيرة من حياة جدنا، وأخذها الشيخ منه مباشرة.

- وهناك عدة كتب أخرى للأسف ليست عندي – أكمل بعدما انشغل بلقمة، وباستراق السمع لسالفة كان ( أبو عبدالوهاب) يرويها على من يشاركونه السفرة القريبة – سأعطيك عناوينها لتبحث عنها، وديوان أو ديوانين شعر عندي سأعطيك إياها أيضا ً، وإذا بقي شيء، يمكنك أن تسأل شيوخ العائلة وكبار السن فيها ليخبروك من ذاكرتهم.

- جزاك الله خير - اكتفيت بها ولم أشأ أن أسأله حتى لا أفضح جهلي التام حول الجد الذي لا أعرف عنه سوى اسمه، وبضعة أبيات من قصيدة ( ذياب الجرادي) أذكر أن أبي كان يرددها عندما كنا نصحبه إلى المزرعة في صغرنا -.

- وإياك... سجل رقم جوالي عندك، وإذا عدنا إلى الرياض بإذن الله، تزورني في المنزل بارك الله فيك، منها نتعشى نحن وإياك، ومنها نعطيك الكتب الله يحفظك.

* * *

انتظرت أسبوعا ً عندما عدت للرياض، وعندما لم يتصل ( أبو خالد)، اتصلت به أنا، فجاءني صوته مغمورا ً في ضجيج - لا أدري ما مصدره !!! -، وبعد عدة محاولات منه لجعلي أمر به في منزله لأتعشى معه وليعطيني المخطوطة والدواوين، قنع بأن يمر هو بي، وهذا ما كان حيث مر مرورا ً سريعا ً، لم يلج فيه المنزل حتى، متحججا ً بموعد ما تأخر عنه، ومودعا ً بين يدي كيسا ً مثقلا ً.

نفضت الكيس على مكتبي، وجلست لأتأمل صورة المخطوطة المغلفة بورق مقوى أخضر اللون توسطه اسم الجد ( صالح بن علي)، وتحته كتب – بخط أصغر - اسم الحفيد ( عبدالرحمن بن عثمان).

قلبت صفحات المخطوطة فهالني الخط الصغير والرديء الذي كتبت به، وأجهدتني محاولة قراءة صفحة واحدة بهذا الخط المتشابك والمتعرج.

وضعت المخطوطة جانبا ً، وتصفحت كتابا ً بغلاف ورقي تحتله صورة مرسومة لإبل وكثبان رملية، وتبين لي أنه ديوان يغص بالشعر النبطي، وكانت إحدى صفحاته مطوية الزاوية العليا للدلالة على مكان قصيدة ( ذياب الجرادي) والتي تمتد على عدة صفحات أخرى.

وكان هناك كتاب آخر بتجليد فاخر وبعنوان ( التبيين في أخبار النجديين)، وإحدى صفحاته مطوية بدورها للدلالة على ما يخص الجد من هذا الكتاب.

وأخيرا ً الورقة المطوية التي دون فيها ( أبو خالد) الكتب التي تنقصني.

حاولت في الأيام الأولى القراءة من المخطوطة، وتنقلت بينها وبين الكتب والقصائد المروية، ولكن أدركت أن كل هذا سيكون عبثا ً وبلا طائل، إن لم أضع لي منهجا ً من البداية لما أريد الوصول إليه.

لم أكن أرغب بأن يأتي كتابي عن جدي مجرد جمع لأخباره وقصائده، ويكون جهدي فيه فقط الترتيب والتنسيق؟ كنت أفكر بشيء آخر، شيء يعبر عني أنا، ويضيف مني للكتاب، ولي من سيرة الجد وأخباره واقترابي منه.

ولذا كانت الخطوة الأولى التي اخترت أن أقوم بها، هي أن أتعرف على العصر الذي عاش فيه الجد، وحيث أن خبرتي في تاريخ نجد ضئيلة – لا تتعدى ما درسته في المدرسة عن الدول السعودية الثلاث -، فلذا قررت أن أبدأ أولا ً بكتاب ( تاريخ المملكة العربية السعودية) للدكتور عبدالله العثيمين لأحصل على فكرة عامة عن تاريخ الدولة السعودية، ومن ثم أتبعه بكتاب أكثر تفصيلا ً وهو ( عنوان المجد في تاريخ نجد) للمؤرخ عثمان بن بشر.

وهكذا صار يفصلني عن الجد ألف وخمسمائة صفحة، هي مجموع صفحات الكتابين، وهي ما أحتاج حتى أفهم الأحداث التي عاصرها الجد وعاش في ظلها.

* * *

توقفت أخيرا ً عندما غاب بياض تلك الصفحة، وتناقصت صفحات ذلك الكتاب، ومرت بي ثلاثة أكواب مترعة بشاي كما أحب الشاي أن يكون، ووجبة خفيفة أعدتها لينا وتركتها على مكتبي مع قبلة صغيرة قبل أن تأوي لفراشها لتلاحق يوما ً آخر في جامعتها الكئيبة.

كنت أشعر بتعب ورغبة مديدة في النوم، ولكني لم أشأ أن أخلف موعدي مع فهد، ولذا وجدت نفسي ألج المقهى إياه من جديد.

- تأخرت.

- ههههههههههه، وهل للوقت معنى هنا؟ كيف شعرت بأني تأخرت؟ كان يمكنني أن أكتب سطرا ً قبل ولوجي على غرار ( نفس الوقت / نفس المكان) وأنجو من لومك ومن عتابك.

- ولكنك تأخرت، أنت تشعر بهذا، فأنا أشعر به.

- حسنا ً... أنا آسف يا عزيزي، كان يوما ً طويلا ً، ومن الجيد أني لا أرقد الآن في فراشي مخلفا ً موعدي معك.

- لا بأس... بمناسبة ( نفس الوقت / نفس المكان) هذه، هل تعاني شحا ً في الأمكنة؟ لم َ يجب علينا أن نلتقي في هذا المقهى في كل مرة؟ ألا يوجد مكان أكثر بهجة في ذهنك؟

- هههههههه، لا الوقت ولا المكان أعجبك، يوجد لدي أطنان من الأمكنة – إن صح التعبير، وهو لا يصح – ولكني اليوم متعب جدا ً لأبتكر مكانا ً يناسبنا، دع ذلك للمرة القادمة.

- إذا كنت متعبا ً إلى هذا الحد فيمكننا أن نرجئ لقاءنا هذا إلى يوم آخر، وأنا لا أقول هذا لأني طيب أو قلق عليك وإنما لأنك لا تفيدني هكذا، أشعر بأنك متداع ٍ تماما ً.

- لا... لا... أنا بخير، بل أشعر بأني بحال أفضل الآن.

- جميل.

- أين كنا؟ - بعد لحظات من الصمت -.

- لم نكن، نحن ننتظر، أو بالأصح أنا أنتظر.

- تنتظر ماذا؟

- أنتظر اليوم الذي ستمل مني فيه، فتجعل قلمك ينزلق قليلا ً لتتخلص مني، أو ربما تتركني هكذا، بدعوى الأيام الطوال المتعبة، في هذا المقهى إلى الأبد.

- وما مناسبة هذا الكلام الآن؟ - باستغراب - ألا أمنحك الآن جزء من يومي رغم أنه متعب وطويل؟

- لكل شيء نهاية.

- بالتأكيد، أنا لي نهاية أيضا ً، هل معنى هذا أن نتوقف عن الاستمتاع بأشيائنا الجميلة بدعوى النهايات؟ بالعكس أنا أرى أن جمال الأشياء لا يدرك بلا نهاية، كل شيء جميل في هذه الدنيا لا بد أن ينتهي وإلا تحول إلى قبيح.

- لا... نهايتي أنا تختلف، أنا لا أعيش في عالم سيبقى مني فيه شيء عندما أنتهي، يمكن أن أعيش هنا لسنوات طوال، ولكني عندما أنتهي، سأكون نسيا ً منسيا ً، بلا ذكرى أخلفها ورائي.

- اطمئن... تسعة أعشار البشر كذلك، لا يخلفون ورائهم سوى الرميم، وحسن الحظ منهم من يخلف ورائه اسما ً مدسوسا ً في كتاب.

- وما شأني أنا بهم؟ أنا أفكر بي أنا، أنا لا يمكن أن أعيش في ذاكرة سوى ذاكرتك، وعندما تلفظني ففي أي أرض أحط؟ سأكون بلا قبر حتى، سأكون كأني لم أكن.

- عجيب... ما هذا الهوس بالخلود؟ ظننت أن هذا مركب نقص لا يصيب سوى البشر !!! لا بأس لدى بعضهم أن يعيش حياة تفر منها الوحوش، إن كان هذا سيورثه ذكرا ً بين الناس، حتى البسطاء منهم يبحثون عن الخلود في ذرية ينشرونها في الأرض، تبقي اسمهم مترددا ً لأجيال قبل أن يطوى، ولا ينشر مرة أخرى إلا في كتب الأنساب، أو يوم الحساب.

- أنت لا تفهمني، ستفهم عندما تتوقف عن الإعجاب بأفكارك وكلماتك، وتصمت قليلا ً لتفكر بما يقال لك.

- ههههههههههههه، حسنا ً... المساحة لك، فهّمني.

- أنا أعيش الآن علاقة ملتبسة بك، غير واضحة، أنا موجود هنا الآن، ولكن عندما تغيب وتغرق في أيامك الطويلة، أين أكون؟ ماذا أفعل؟ أنا مقيد بك، عالمي كله كذلك، تخيل أن تكتشف أنت الآن مثلا ً أن الدولة التي تعيش فيها اختفت، وأن كل شيء يربطك بها اختفى معها، أمنك، وظيفتك، منزلك، هويتك، كل شيء، وأنك تريد أن تعيش ولكنك لا تدري كيف؟ ولا أين؟ العيش ذاته ليس مشكلة، المشكلة في طريقة العيش التي تعودنا عليها.

- امممممم - بعد لحظات صمت مدعاة مني، حتى لا يلومني على عدم التفكير فيما قال - أظن أني فهمت ما تعنيه، هل تعني أن المشكلة هي أن علاقتك بي هي كل شيء بالنسبة لك، بحيث أن لي تغلغل كامل في كل شيء يحيط بك، المكان، والزمان، والأحداث، وحتى اسمك أنا من اختاره.

- قريبا ً من هذا، هذا ما اكتشفته أنا حتى الآن في علاقتي بك، هي علاقة معقدة، وربما أكتشف جوانب أخرى منها مع الوقت.

- وما الحل برأيك؟ هل يمكنك التخلص مني أو الابتعاد عني؟

- لا أدري، ولكني الآن لا أرى أي حل.

- حسنا ً... إذن لم َ لا ندع كل هذا جانبا ً حتى تجد حلا ً، ونحاول الاستمتاع بوجودنا هنا؟

- امممممممم.

- اسمع، حتى أنا لا أفهم وضعنا الآن، أنا لا أدري ما الذي يمكن أن ينتهي إليه كل هذا، ولا أحاول التفكير في الموضوع لأني لن أنتهي إلا إلى أني جننت أخيرا ً، فلذا لم َ لا نترك التفكير حول هذا إلى يوم نكون فيه أقل تعبا ً.

- حسنا ً - وابتسامة خبيثة تتلاعب بفمه - ولكن هل تسمح لي بقول شيء أخير حول الموضوع؟

- تفضل.

- لاحظ أنك قلت ( نكون أقل تعبا ً)، أنت متعب، ولذا صرت أنا كذلك، هذا يوضح لك جزء ً بسيطا ً مما أعانيه، نحن كتوأم سيامي عقلي أو روحي – لا أدري !!! – فاقدين للخصوصية، ويمكن لكل منا أن يسمم يوم الآخر.

- اها... ولاحظ أنت أيضا ً، أنك قلت ( أنه يمكن لكل منا أن يسمم يوم الآخر)، يعني أنك لا تتأثر بي فقط، وإنما تؤثر بي أيضا ً، وأني فاقد للخصوصية معك.

- لا... لا... لا تجعل منا متعادلين لو سمحت، أنا لا أعرف عنك شيئا ً حتى تفكر به أنت، أو تخبرني عنه، أنت تتحكم بالمكان - وهو يدور بأصبعه فوق رأسه - هنا، وبالزمان، وبما يجب أن يقال، وما لا يجب، فلذا لا تفعل !!! لا تجعل الورقة المقصوفة معادلة للتيار الكاسح الذي يتلاعب بها.

- أتدري، أنا متعب لأواصل كل هذا اللغو... تصبح على خير.



Green Tea 02-09-09 03:00 AM





4

بدأ اجتماع العاشرة في العاشرة وثلاث وعشرين دقيقة.

كانت النقاط التي أرغب في إثارتها في الاجتماع تستقر بين يدي على شاكلة محضر ابتدائي، أعددته مع قهوة الصباح، بعد أن فرغت من تحديد الأعمال التي يفترض أن أتعامل معها هذا اليوم في ورقة صغيرة، وهذا هو أول شيء أفعله عند وصولي المكتب، بمن سأتصل اليوم؟ ولم َ؟ ومن سأقابل؟ ولم َ؟ هذه الورقة تحفظني من التشتت، رغم أنها تستطيل في بعض الأيام لتضم أعمال يوم سابق لم ينجز فيه شيء.

بدأ الاجتماع – وهو اجتماع أسبوعي تقليدي، يعتبر ذيلا ً لاجتماع يسبقه بساعة، يجمع رؤساء الأقسام بمدير الإدارة، فيما يجمع هذا مدراء المشاريع المرتبطة ببعضها بمدير الإدارة – وبدأت معه محاولاتي في حفظ النقاط التي تهمني من التشتت، ففي مثل هذه الاجتماعات يمكن أن تستهلك نقطة واحدة الوقت كله، ويتوقف الاجتماع والمجتمعون عندها ولا يجاوزونها، ولذا كنت أحرص على الخروج من الاجتماع وقد أثرت كل ما أريد إثارته.

انتهى الاجتماع فعدت إلى مكتبي سريعا ً لأكمل المهام التي تكتظ بها ورقتي الصغيرة، وكان أن أطل سليمان برأسه من الباب:

- جاء الكلب؟

- من؟

- ومن غيره !

- لا أدري... للتو عدت.

كان المقصود هذه المرة زيد، زميلنا السابق في القسم، والذي انتقل قبل شهور إلى إدارة أخرى، بعد عدة معارك مع سليمان جعلت منه ( الكلب الأكبر) في قائمة سليمان الطويلة.

كان النفور بين زيد وسليمان واضحا ً من أيامهما الأولى معا ً، اهتمام زيد الزائد عن الحد بلبسه وشكله، طريقته في الكلام، في مقابل فوضوية سليمان وكلماته التي لا يفكر فيها لمرتين، كانت توسع من هذا النفور وتجذره، ولكن النفور تحول إلى معركة ومن ثم معارك عندما انتقل أقدم زملائنا في القسم ( أبو جاسر) – والذي كان أقدم من رئيس القسم نفسه -، حيث سارع زيد إلى احتلال موقف السيارة الخاص به – وكانت الإدارة قد قامت تحت وطأة قلة المواقف وشمس الصيف اللاهبة، في تحديد وتعيين مواقف خاصة ومظللة للمدراء ورؤساء الأقسام، وتبقت بضعة مواقف وزعت على قدامى الموظفين، وكان نصيب قسمنا موقفين فقط، أحدهما ناله ناصر بحكم أنه رئيس القسم، وذهب الآخر إلى الأقدم حينها ( أبو جاسر) -، ولكن زيد الذي لم يستمتع بالموقف طويلا ً فوجئ من الغد بسيارة سليمان القديمة تحتل المكان.

جاءنا يومها مكفهر الوجه، ولكن لهجته عندما تكلم جاءت هادئة:

- سليمان... أنا أتيت اليوم الصباح، ووجدت سيارتك في الموقف.

- طيب؟ - بذلك البرود المغيظ الذي يجيد ارتداءه -.

- الموقف لي لأني استأذنت ( أبو جاسر) في الحصول عليه.

- الموقف لمن يأتي مبكرا ً.

- لا... أنا استأذنت من ( أبو جاسر) وحصلت عليه.

- ومن قال لك أن استئذانك من ( أبو جاسر) يقدم أو يؤخر في الموضوع؟ ( أبو جاسر) انتقل من القسم، فلذا كل ما يخصه يعود إلى القسم، ومنها الموقف والذي يأتي مبكرا ً من أعضاء القسم يحصل عليه.

- طيب - بتلك النبرة المتحدية -.

في الغد وجد سليمان - وقد تمتع بالموقف لليوم الثاني -، إطار سيارته الأمامي فارغا ً، لم تكن هناك حاجة للأسئلة، وخاصة مع الابتسامة المعلقة على شفتي زيد وقد مر به - بسيارته التي صفعتها الشمس يومها كله - وهو يبدل الإطار.

كان على سليمان أن ينتقم، وإفراغ إطار زيد لا يعد انتقاما ً كافيا ً، كان على الانتقام أن يتوجه إلى شيء يغيظ زيد حقا ً، وكان أن تفتق ذهن سليمان عن فكرة مجنونة وطريفة.

كان اهتمام زيد بشكله باد ٍ للعيان، ومحاولته الدائمة لإعطاء انطباع جاد ووقور عن شخصه لدى موظفي الإدارة واضح، ومن هنا كان خبث سليمان وانتقامه بارعا ً، عندما قام – عن طريق أحد أصدقائه في شئون الموظفين - بالحصول على صورة من بطاقة هوية زيد، والتي تظهر فيها صورة قديمة له، التقطت قبل سنوات، بوجهه البدين حينها، وحب الشباب الذي كان يغطيه، مع طريقته اللامبالية في لبس الشماغ، وبعد عدة تعديلات بسيطة عن طريق أحد برامج ( معالجة الصور)، تسلل سليمان إلى جهاز زيد – كانت كلمة السر بسيطة جدا ً ومعروفة للجميع تقريبا ً - ومن ثم إلى بريده وقام بإرسال الصورة إلى كل موظفي الإدارة من عرف منهم ومن لم يعرف، وتحتها تعليق على لسان زيد ( وش رايكم بشكلي بالله... أجنن !!!).

كانت الضربة موجعة لزيد، ولكنه لم يظهر غضبه حتى لا يمنح سليمان فرصة التشفي به، وتعامل مع الموضوع بهدوء، من تغيير لكلمة السر لجهازه، ومن تجاهل للتعليقات المضحكة التي جاءته ردا ً على الرسالة ممن ظنوا أن الرسالة كشفت لهم أخيرا ً الجانب الخفيف الظل من زيد.

مضت أسابيع من الهدوء، لترد موظفي الإدارة بعدها رسالة جديدة، ولكنها هذه المرة من بريد مجهول، كانت الرسالة توعوية في ظاهرها، تتحدث عن أضرار التدخين، ومن ثم تتفرع منه لتتحدث عن منع التدخين داخل الدوائر الحكومية، ووجوب تنفيذ هذا القرار، كان ما جعلني أضحك حينها ولأيام أن الرسالة كانت تحوي صورة ملتقطة من بعيد لسليمان وهو يدخن في بئر السلم ويحادث شخصا ً ما غير ظاهر في الصورة، وتحت الصورة تعليق يقول ( أحد ضعفاء النفوس وهو يمارس عادة التدخين السيئة في مبنى دائرة حكومية).

كان ذلك اليوم ثائرا ً ومكسوا ً بالشتائم من سليمان، ولكنها ثورة وشتائم لم تجاوز جدران المكتب، واحتفظ خارجه كما تقتضي قواعد الصراع مع زيد بابتسامته ولامبالاته.

صرت أترقب الضربة القادمة من سليمان لزيد، ومر وقت طويل حتى أنني لولا معرفتي الجيدة بسليمان وعناده، لظننت أنه استسلم واكتفى بما حدث، ولكن يوم عرض المشاريع جاء، وهو يوم مخصص لعرض المشاريع القائمة في الإدارة على مدراء الإدارات المستفيدة، وهذا يعني أن يستضيف مدير إدارتنا حول طاولة اجتماعاته مجموعة من مدراء الإدارات المفترسين والذين جاءوا خصيصا ً لانتقاد كل ما يمكن انتقاده من المشاريع التي نديرها في إداراتهم - ربما كانوا مدفوعين بذلك الشعور الغريب لمن يفقد جزء من سلطته لأطراف أخرى، أو ربما هي طريقتهم في أن يقولوا لنا أنكم لستم بتلك الأهمية التي تتصورونها -.

على أية حال، جاء ذلك اليوم باستعداداته وارتباكاته، واتصالات رئيس القسم ناصر بكل موظفيه للتأكد من استعداد كلا منهم لعرض ما لديه، واتصالات المدير لمتابعة رؤساء الأقسام، كنت أنا وسليمان بلا ضغوط ذلك اليوم، فالمشاريع التي بين يدينا قائمة، ولن نقوم إلا بعرض حالة كل مشروع فقط، من دون الحاجة لشرح المشروع وفائدته والتوقعات المستقبلية للحالة التشغيلية، إلى آخر تلك التفاصيل البغيضة والمرهقة.

ولكن زيد لم يكن كذلك، كان محملا ً بمشروع جديد، يحتاج إلى استعداد خاص، ولذا فقد جاء مرهقا ً ذلك اليوم دلالة على ليلة طويلة قضى جزء ً منها ولا ريب بين التقارير.

بدأنا في نقل تقاريرنا المعدة ببرنامج البوربوينت إلى جهاز العرض، عندما بدأت الفوضى في المكان، كنت جالسا ً على إحدى الأرائك الجانبية في المكتب الواسع أتحدث مع أحد الزملاء، عندما لاحظت حركة بحث بين المقاعد وتحت الطاولات، ليتبين وجه زيد المحتقن، ولنفهم أنه يبحث عن ( الذاكرة المحمولة) – Flash Memory - خاصته.

- كانت معي قبل قليل، ولا أدري أين سقطت مني !!!

- هل أنت متأكد أنك أتيت بها؟ ربما نسيتها في المنزل.

- لا... لا... كانت هنا، وضعتها على المكتب قبل قليل، سبحان الله، كانت هنا قبل دقائق ثم اختفت.

شعرت بتوجس - هل فعلها سليمان المجنون؟ -، ولكن هذا ليس وقت مشاجرات طفولية، كما أن الخلافات لا يجب أن تنحرف لتمس العمل.

- المشكلة هي أن تقريري كان عليها، عمل ليلة كاملة.

- أليس لديك نسخة أخرى؟ - كانت هذه من ناصر -.

- لا... لدي نسخة قديمة أجريت عليها الكثير من التعديلات البارحة، كانت هنا قبل قليل.

- لا وقت لهذا الآن – قالها ناصر بضيق ظاهر - أبدأ بالتعديل على تقريرك القديم، وسأجعلك الأخير في العرض.

وهكذا خرج زيد من المكتب وفي عينيه غضب يومه العصيب، مررت به وهو منشغل بالتعديل وأصابعه تتقافز على لوحة المفاتيح، وبعد لحظات دخل سليمان المكتب وهو يحمل بين يديه كوبا ً من القهوة يرتشفه باستمتاع، واقترب من زيد وهو يقول بهدوئه الخبيث:

- هل تحتاج إلى مساعدة؟

- لا... لا... مشكور، الأمر هين وبسيط، يبدو أني نسيت الذاكرة في البيت، عموما ً التعديلات بسيطة ولا تحتاج سوى نصف ساعة بإذن الله - قال هذا بهدوء مصطنع، وهو يركز عينيه في الشاشة ومن دون أن ينظر لسليمان -.

ولكن ارتباكه ونقص تقريره كان واضحا ً في العرض، ولولا أن تقريره كان الأخير، وأن المدراء قد ملوا من الافتراس، وإلا لكان وجبة شهية للجميع.

في الغد استدعى رئيس القسم كلا ً من زيد وسليمان لمكتبه، لم يخبرنا أحد منهما بما دار في المكتب، ولكن يمكننا استنتاج أنه كان مزيجا ً من التوبيخ والتهديد للاثنين إن واصلا معاركهما السخيفة، والتي وصلت حدا ً لا يمكن تجاوزه، وأظن أن ناصر قد لمس في ذلك الاجتماع الهوة الهائلة التي صارت تفصل بين الاثنين، ورأى بوضوح لون الأيام القادمة بينهما، ولذا كان قراره التالي – والذي رحب به الاثنان – هو السماح لزيد بالانتقال إلى إدارة أخرى.

واليوم يضاف للحكاية فصول جديدة، فعندما تولت إدارتنا قبل مدة، مهمة تصميم برنامج جديد لصالح الإدارة التي انتقل إليها زيد، كان زيد هو الخيار الأول والأفضل للعمل معنا بالنسبة لمدير تلك الإدارة بحكم خبرته السابقة في إدارتنا، وخبرته الحالية في الإدارة الجديدة، وهكذا وجد زيد وسليمان نفسيهما معا ً من جديد، ووجدت نفسي – بضغط خفي من سليمان – عضوا ً في الفريق بمهمة غير معلنة، وهي التأكد من أن لا يقتل أحدهما الآخر.

وها نحن الآن – بعدما جاء زيد متأخرا ً، وهو يحمل كوبا ً بيده يظهره بمظهر اللامبالي، وبعدما قلب سليمان أوراقه لفترة لا بأس بها كأنه لم ينتبه لقدوم زيد – نبدأ اجتماعنا، كان هدف الاجتماع توزيع الأعمال التي تم إقرارها في خطة العمل على أعضاء الفريق، وبما أن سليمان وزيد كانا لا يرغبان في العمل سوية ً في أي مرحلة من مراحل المشروع، فلذا وجدت اسمي يصير مرادفا ً لاسم أحدهما في كل مرحلة من المراحل، من سيقوم بالتحليل والاجتماع بالمستخدمين ودراسة احتياجاتهم؟ زيد وأنا، من سيقوم بتصميم النظام وبرمجته؟ سليمان وأنا، من سيقوم باختبار النظام بعد ذلك وتطبيقه على المستخدمين؟ زيد وأنا، من سيقوم بتدريب المستخدمين عليه؟ سليمان وأنا، ومن سيقوم بصناعة دليل الاستخدام للنظام؟ سليمان وأنا، كانا قد تدبرا أمرهما بحيث لا يتواجدان معا ً إلا في هذه الاجتماعات الباردة والقصيرة.

* * *

ربما لأني كنت متعبا ً جدا ً، تعب يفوق رغبتي في ملاحقة قوافي ( ذياب الجرادي)، وحكايات الجد الضائعة بين السطور، ربما لأن ذلك المساء كان كئيبا ً بسمائه التي اصفرت بالغبار، وبروحي التي دهمها خواء غريب، وربما لهذا وذاك وجدتني أصطحب كوبي الممتلئ شايا ً إلى غرفة الجلوس حيث كانت لينا تتابع مسلسلا ً تلفزيونيا ً في الظلام الذي يخففه نور الشمس المتسلل عبر الستائر النصف مسدلة.

كانت جالسة بطريقتها إياها، طريقة أصغر مساحة ممكنة، حيث تضم قدميها تحتها، وبين يديها وسادة صغيرة تضمها إلى صدرها، وفمها نصف فاغر، وعيناها تلاحقان الترجمة والأبطال.

جلست إلى جانبها بطريقتي – أكبر مساحة ممكنة، حيث كل قدم في اتجاه – وجعلت أرتشف الشاي وأنا أتأمل المسلسل بلا اهتمام تحول إلى سأم بعد دقائق – يدور حول محقق في قضية امرأة انتشلت جثتها من نهر، يجد تحت أظافرها مادة ما، ويتنقل طيلة الحلقة من مكان إلى مكان، المكتب، المشرحة، سيارته، النهر، بيت امرأة ما تبدو مخبولة، مشاهد سريعة، كل مشهد يستغرق دقائق قليلة، ولكنه يمنحنا ضوء ً يقود إلى نهاية الحكاية -.

اتكأت بعدما انتهيت من الكوب جانبا ً بحيث صارت لينا في مجال نظري، وجعلت أتأملها عوضا ً عن متابعة المسلسل الممل، كانت الأضواء المنبعثة من الشاشة تنعكس على ملامحها، فتمنح عينيها ظلا ً طويلا ً، وتخفي تفاصيل الوجه ما عدا الشفتين اللتين تبدوان أجمل في الظلمة، أما الجسد فقد كان بارزا ً ومجسما ً تحت ثياب النوم التي ترتديها، هل هي جميلة؟ سؤال لم أجب عليه حتى الآن منذ تزوجتها، ربما لأنه لم يلح علي كما ألحت أسئلة أخرى، وربما لأني أجد في ملامحها لونا ً من الجمال، ولونا ً من القبح، وعندما يختلط اللونان لا أجد في نفسي تلك الحاجة الملحة لتمييز اللون الناتج.

التفتت إلي وابتسمت لنظراتي الشاردة:

- ماذا هناك؟

- ماذا؟ - وأنا أخلص ذهني من حكاية الألوان -.

- لا أدري... لم تنشغل بقراءاتك وكتاباتك كالعادة، وها أنت تحدق بي بدلا ً من التلفاز، هل أنت بخير؟

- أنا بخير - قلتها وأنا أستعيد كوبي وأنهض لأصنع آخر -.

ثم أردفت وأنا أغادر الغرفة:

- ربما كنت أحدق بك ِ لأنك ِ أكثر جاذبية من المسلسل.

وكدت أرى ابتسامتها في خيالي.

* * *

من هنا تبدو الغابة سخية في اخضرارها، وظل الجبل الطويل يسقط عليها ليمنحها عتمة جميلة، الدرب النازل إلى النهر يمتد أمامي تكلله ورود ملونة، والأرض مغسولة بمطر توقف قبل لحظات قلائل، وإن لم يخلف ورائه بركا ً صغيرة أو وحلا ً ثقيلا ً.

بدا لي المكان مناسبا ً لاستقبال البطل الثائر، ربما أضيف فيما بعد مطرا ً رذاذيا ً لأرضي شهوة المطر في جلدي الشرقي، إلا أنني راض ٍ عن الحال الآن.

كان واقفا ً يتأمل الموجودات من حولنا ويتنفس الهواء المنعش بعمق، تحرك نازلا ً الدرب فلحقت به، وأنا أقول بابتسامة معتذرة:

- ماذا الآن؟ هل أنت غاضب لرحيلي المستعجل البارحة.

- ولم َ أغضب !!! أنت حر في قدومك ورحيلك، كما أنا حر في الكلام معك أو تجاهلك، هناك - وهو يشير للنهر أمامنا - أشياء يمكنني الاستمتاع بها أكثر.

- أنا آسف... ولكني كنت متعبا ً جدا ً البارحة، وحوارنا لم يكن وديا ً أو خفيفا ً.

تجاهلني وقد وصلنا إلى النهر، وتبدى لنا جسر صغير يصل بين ضفتيه، فاندفع ليقف في منتصف الجسر ويتأمل مياهه الرائقة والأحجار الراقدة في أعماقه، والمخلوقات التي تتجول بينها.

- هل هذه رشوة؟ - قال بابتسامة لئيمة - الغابة والنهر والجسر وهذه الأسماك والصخور، هل تحاول أن ترشوني بهذا كله؟

- لا... أنت سخرت من لقائنا في المقهى في المرة الماضية، فاستبدلته بهذا المكان الذي سرقت معظم تفاصيله من صورة قديمة اعتدت أن أضعها خلفية لجهازي.

- عموما ً... لو كانت رشوة فهي رشوة غير متقنة.

- كيف؟

- ربما أنت كاتب جيد ولكنك فاشل ولا ريب في الطبيعة والفيزياء، نهر بهذا العرض - وفتح ذراعيه - لا يمكن لمياهه أن تكون بهذا الصفاء والرقة، لابد أن تكون كثيرة ومتدفقة حتى تحفر لها هذا المجرى كله، وهذا الجسر !!! ما الذي يجعله لا يسقط في النهر؟ هل ظننت أن تثبيته بين الضفتين كاف ٍ على هذا الارتفاع الضئيل؟ جسر بهذا العرض، وبلا أعمدة تسنده، ليس إلا جسرا ً طافيا ً في خيالك - وضحك باستمتاع -.

- أرى أنك بدأت تستمتع بالمكان، ربما يروق لك أن نلتقي في المرة القادمة في المقعد الخلفي لسيارة أجرة يقودها باكستاني متهور.

- لا بأس، سيكون حينها أقرب للتصديق.

عاد لصمته، وجعل يتجول على طول الجسر متأملا ً، وراكلا ً للحصى الصغير الذي يجده في طريقه، وعندما عاد إلى حيث أقف، كان قد عاوده تجهمه، قال:

- هذا لن يصلح.

- ماذا؟

- هذه الحال، أن أكون جزء ً بسيطا ً من يومك تأوي إليه عندما يعن لك ذلك، وتفر منه عندما يدركك التعب.

- وماذا تريد؟

- أخرجني من هنا... حررني من سجني هذا... أرجوك.



Green Tea 04-09-09 11:39 AM





5

الخميس، المنزل خال ٍ الآن، وبين يدي تستقر جريدة الأمس التي لم أنهي قراءتها بعد، وتحتها - مطوية بفظاظة عوجت صفحتها الأخيرة - ترقد جريدة اليوم، تنتظر دورها، ومزاجي تعكره عمليات هضم متعسرة للإفطار الثقيل الذي أعدته لينا قبل أن أقلها إلى منزل أهلها، حيث تمضي خميسها دوما ً.

كان هذا الترتيب يمنحني الخميس بطوله، حتى ينتصف ليله، وتنتقل عهدته ليوم آخر جديد، عندها أستعيد لينا إلى أيامي الممزوجة بأيامها.

هذا التغيير البسيط – زيارة لينا لأهلها وخلو البيت واليوم منها -، كنت أتبعه بتغييرات أخرى، تجعل من يوم الخميس يوما ً مغايرا ً ومرتقبا ً في كرة الأيام، فمن خلاصي من العمل وتراكمه، إلى تخلصي من الأنشطة التي تعتاد أيامي الأخرى وتثقلها، يصير الخميس يوما ً هادئا ً، خفيفا ً، لا يحدث فيه شيء تقريبا ً، يوم بلا أي التزام أو خطط مسبقة، ما خلا موعدي المسائي مع صديقي الشاعر.

دفعت الصحيفة جانبا ً وقد أدركني الملل من أخبارها أخيرا ً، ومددت قدمي فيما تراجعت لأتكئ بظهري على الجلسة الأرضية المرتفعة قليلا ً، بحثت أصابعي عن جهاز التحكم لأجول قليلا ً بين القنوات الصباحية بمذيعيها المتثائبين – في خيالي طبعا ً، حيث يلبسهم ذهني لبوس الحالة التي أمر فيها -.

من قنوات إخبارية متراصة الواحدة تلو الأخرى، إلى قنوات منوعات يطل منها طباخون يعرضون وصفات لم تستهوني يوما ً، إلى مذيعات جميلات – الغريب أنهن لا يتثاءبن أبدا ً في ذهني – بضيوف كئيبين – هؤلاء يكادون يغطون نوما ً -، إلى قنوات رياضية بلاعبين لا يتوقفون عن الركض مهما كانت الظروف – نهارا ً كان الوقت أو ليلا ً، صحوا ً كان الجو أو غيما ً، أو مطرا ً يغرق الأرض واللاعبين والمشاهدين -، ودائما ً وأبدا ً شعورهم طويلة محلولة يعبث بها الهواء والماء، إلى قنوات قرآنية يزين بثها صوت أحد المقرئين، وترتسم الآيات على الشاشة، وسط حديقة مزهرة أو بحيرة زرقاء، عذبة السكون.

بعد أن أكملت دورة ونصف، وتثاءب أمامي كلا ً من ( بان كي مون)، ( بيار الجميل)، ( ماثيو بيري)، ( عزت العلايلي) و( جميس وودز) أطفأت التلفاز وألقيت بجهاز التحكم.

أغلقت عيني وغرقت في صمت الخميس وسكونه المبهج.

* * *

اخترت طاولة قصية، يبلل سطحها رذاذ الماء الذي يرطب حرارة الصيف، في هذا المقهى الذي تحولنا إليه بعدما صار الوصول إلى مقهانا المعتاد صعبا ً بكل تلك الحفر والرمل والحصى الصغير الذي يتسلل إلى نعالنا، ويجعل الشتائم من فم حسن لا تطاق.

هذا ما أسميه ( الفارق الفاتن)، قلتها لحسن الخميس الفائت وأنا أشير إلى الطاولات الأقرب مما يجب لرشاشات الماء، قريبة حد البلل، هذا مشهد لم نكن نراه في مقهانا السابق، وأيضا ً – وأنا أهز الطاولة بأصبعي – لعنة الطاولات المعدنية في الأماكن المفتوحة، أرض غير مستوية أو ساق أقصر مما يجب، وهذا يعني جلوسا ً قلقا ً في مكان يفترض به أن يقدم لك جلوسا ً مريحا ً، هذا غير قائمة الطلبات العتيقة الطراز والخيال، والأكواب التي تنم عن ذوق رديء وهوس بشعار المحل – حيث نجده في كل مكان، كأنما يخشون أن ننسى، ونحن لا ننسى، كيف ننسى ما يحوم حولنا على ظهور الندل وصدورهم، وعلى المناديل، والطاولات، وفي قعر منفضة السجائر التي لم يزرها الرماد بعد -، ثم المذاق يا صاحبي، مذاق القهوة، لا... ليس ذاك الذي تجده في طرف لسانك، فالسكر يخدعك، والبن يخدعك، والحليب من بعد ذلك يخدعك، وإنما ذلك المذاق الذي تجده في حلقك بعد كل رشفة، وفي مريئك وأمعائك عندما تأوي إلى فراشك ليلا ً يهدهدك النعاس والتعب.

هذا هو ( الفارق الفاتن) الذي يخفي ورائه صانعي راحة حقيقيين، قبل أن يكونوا صانعي قهوة فذين، والذي لم تنتبه له أنت في كل مرة ثرثرنا فيها هناك، واحتاج الأمر إلى مشروع ( توسيع أرصفة المشاة) هذا، لتجد البلل في طاولتك، ولذعة البن في حلقك، ووحشته في أحشاءك عندما يتخلى الليل عن وجهه الجميل.

ضحك حسن حينها وقال أن هوسي بالتفاصيل سيجني علي بأسرع مما ستجني عليه سجائره، وأنه لا يوجد فارق فاتن إلا في ذهني المكدود، وأنه كان ولازال يجد لذعة البن وحرارته في كل ليلة.

قلت وأنا أبتسم أن الشعر يحجبه عن العالم، ومن يدري ربما يجد هو ( الفارق الفاتن) بين القصائد التي تبدو لي متشابهة، قال بخبث أنه وجد فارقه الفاتن بين أبيات ( ذياب الجرادي)، فلعنت أنا الليلة التي أخبرته فيها عنه.

وها أنا بساق على ساق أقلب ببطء وبقراءة متقطعة رواية هادئة لا يحدث فيها شيء تقريبا ً، وارتشف قهوة ( المخا) التي جابت العالم ثم عادت إلينا باسم أجمل وأخف وقعا ً – موكا -، وانتظر.

يمكن لحسن أن لا يأتي هذه الليلة، يمكن له باتصال قصير وكلمات مختلطة تنم عن عجلة – أعرف أنه يدعيها أحيانا ً – أن يعتذر عن اللقاء، يمكن أن لا أخرج من ليلتي هذه إلا بكوب قهوة وتأملات في الناس والأشياء من حولي في هذا الشارع المائج، ولكني مع ذلك أخرج بليلة راضية، جميلة، وصديق أعرف أنه حريص على لقائي حتى وإن لم يأتي.

أغلقت كتابي، وجذبت طرف ثوبي من تحتي لأفرد تجعده وأنا أرى حسن يوقف سيارته في الجهة الأخرى من الشارع، أشرت إلى النادل القريب وقلت ( موكا) وهو في نصف طريقه إلي فعاد أدراجه – لأوفر عشر دقائق يقلب فيها حسن القائمة، ومن ثم يقول بلا مبالاة ( اختر لي أنت) -.

- مساء الربيع - قالها بعد السلام وأسئلة اللقاء الأولى -.

- مساء الهمس – بابتسامة -.

- وهمسها يشجيني فينسيني ما قبله من حروفي وألواني، فأنسى العهود وأنسى كل لائحة سطرتها أنغامي وألحاني - رد بابتسامة -.

كانت هذه عادته التي سخرت منها ذات يوم – في حرب السخرية المتبادلة بيننا -، يلتقط أي كلمة لينشأ حولها بيتا ً أو يستعيده من ذاكرته الشعرية الممتدة.

- ألم ينتهي العمل في مقهاك الفاتن؟ - وأشار بيده تجاه المقهى الذي يمكننا تمييز أنواره على الطرف الآخر والأبعد من الشارع -.

- سينتهي قريبا ً بإذن الله، ونعود حينها للمتع الصغيرة.

ابتسم ولم يعلق وقد صارت قهوته بين يديه.

- كيف حال كتابك؟ - سأل وهو يحرك الكوب بملعقته -.

- آه... لازلت أخوض بين الأوراق، وأفتش عن الأخبار التائهة لهذا الجد... وأنت كيف حال قصيدتك؟

تشاغل بتلمس عروة كوبه بسبابته، قبل أن يزفر ويقول وهو يحول وجهه إلى الشارع، حيث مرت سيارة طافحة بركابها، يزعق من مسجلها مغن ٍ أسود ٍ عنيف الصوت:

- تنمو ببطء يا صاحبي، ببطء.

- أين صار الملك الآن؟

- لازال في حيرته.

- ظننت أنه سيختار المجد !!!

- لا أدري ما الذي سيختاره، ولكني أدري أن حيرته هذه هي التي تصنع الشعر.

- أن يجد الإنسان نفسه – أكمل – بين خيار الموت / الخلود أو الحياة / العار، هنا يمكن للشاعر أن يتمدد، أخبرتك من قبل عن رأيي في القصيدة، وهذا الموضع من المواضع التي يمكن لها أن تستثيرني، وتمنحني مسارب كثيرة، أخرج بواسطتها لأصنع ما يشبه قصائد مستقلة في بنيتها، وإن كانت مضمنة في القصيدة الكبيرة التي أعمل عليها، ومن ثم أعود إلى ذات النقطة، الملك الحائر، أو عفوا ً – وأشار بيده مصححا ً – الشاعر الحائر الذي وجد نفسه ملكا ً.

- هل أحضرت جديدك؟

- بالتأكيد يا أبا فريد – لست أبا فريد بالطبع، ولكنها طريقة حسن الغريبة في منحي أي كنية تخطر على باله لحظتها -، سأقرأ عليك بعض ما كتبته.

* * *

فرسان من فخار

1

تترقبون أعرف ذلك
تترقبون
وبلا حماس تتقاتلون
ويملأ الفضاء انتظار مميت
وجئتم بدمع اليتامى
وألسنة النساء
وجوع العجائز الخائفات
تسألون...
أيها الملك العظيم، متى ننتهي؟
متى يعود الرجال إلى الحقول؟
متى تتعاقب علينا الفصول؟
فإنا في شتاء طويل

2

منذ البداية
عرفنا جميعا ً أن النهاية
بدم الملك
وكان أبي الملك العجوز
الذي مات على فراشه
عندما غاب القمر
وأورثني الملك والموت المنتظر
فجاءوني بثيابه، وخيوله، وكتابه
وهتفوا باسمي
وسكوا على المال رسمي
ونقشوا ملامح وجهي على بوابة المعبد الكبير
ولكنهم في ثياب المٌلك لفوا لي الحكاية
بأنها اقتربت النهاية
وأن بيني وبين المجد خطوتين
أو طعنتين
وأن الجيوش إذا تلاقت فليس للدماء مسيل
إذا ما شرعت سيفي ومضيت لأذيق الموت
ولأذوقه بعد حين
ووعدوا إذا مت أن يحملوا رأسي بفخار
وأن يغسلوه بماء ويكللوه بغار
وأن يدفنوا جسدي حيث دفنوا ملوك البلاد
في باطن الجبل
في سرداب الخالدين

3

يتقاتلون برفق
كأنهم فرسان من فخار
وينتظرون...

* * *

انتهى الليل، انصرف حسن بكتابه الأزرق وملكه الحائر، فعدت أخترق شوارع الرياض، تملؤني هذه القصيدة التي بدأت منذ مدة لا أذكرها.

أذكر فقط أن حسن تخلص من الأبيات الطارئة، والقصائد القصيرة التي كان يخربشها على أوراق منسية، وقرر أن يكتب قصيدة كبيرة.

لم أفهم حينها معنى " قصيدة كبيرة"، حتى بدأ يصطحب معه كتابه الأزرق، وبدأت أرى المخططات التي يضعها لهذه القصيدة، رأيت ما أسماه البناء الداخلي، والبناء الخارجي، الرموز الغامضة التي كان يشفر بها بعض معاني قصيدته، المقاطع التي كان يكتبها فتبدو لي كقصائد منفصلة، ولكنه يعود ليلحمها فتصير جزء من القصيدة الكبيرة والنامية ببطء.

كان أبرز ملامح قصيدته، حكاية الأمير الشاب، الذي ورث الملك من أبيه العجوز الغارق في حرب طويلة، وورث معه نبوءة قديمة، بأن الحرب لن تنتهي إلا بأن يقتل الملك في مبارزة، مما جعله أمام أحد خيارين إما الاستمرار في الحرب وعدم المخاطرة بنفسه، أو التقدم للمبارزة والتضحية بروحه من أجل شعبه.

كنت أعرف أن حسن مختبئ وراء كلمات القصيدة، وأن حيرة الملك هي حيرته هو، علاقتي القديمة به، منذ أيام الدراسة الثانوية، كانت تخبرني بأن هناك أسرار مدفونة في القصيدة، وأن علي أن انتظر اللحظة التي تكشف فيها القصيدة نفسها.




Green Tea 04-09-09 11:41 AM





6

خرجت لينا أخيرا ً، بعد اتصالين ودقائق انتظار، لم يكن مسموحا ً لي فيها استعمال جرس المنزل أو منبه السيارة حتى لا أوقظ والدها العجوز.

وضعت الأواني - التي عادت بها فارغة بعدما كانت متخمة في الصباح - في المقعد الخلفي، ثم ركبت:

- كيف كان يومك ِ؟ - بعدما تجاوزت الشارع المغبر، ورددت على سلامها -.

- آه... ممل، مع كل هؤلاء الأطفال، وكل هذه الضوضاء، وأكداس الأعمال المنزلية التي لم تنجز ووجدتها تنتظرني، أوف... كنت أنتظر اللحظة التي أغادر فيها المنزل.

- وكيف حال أمك؟ - بابتسامة مخبئة -.

- بخير... وتحملني سلاما ً لك.

- سلمك ِ الله وإياها.

- جاءت أختك ِ؟

- نعم... وجاءت ابنة عمي تهاني، بطنها بارز قليلا ً أظنها حامل.

- ألم تسأليها؟

- لا... لن تخبرني، هي من النوع المتكتم جدا ً.

- اها.

* * *

(( وكان ابن دهيش قد نزل البطين، الماء المعروف بالريلية برجال معه، فلما جاء الخبر إلى صالح بن علي، جمع أخوانه وأبناء عمه وخرج إليهم، فحصل بينهم قتال شديد، وقتل فيه ابن دهيش، رماه سليمان بن يحيى، فولوا منهزمين وأخذ سلاحهم وخيولهم))


من أخبار الجد ( صالح بن علي) التي وردت في مخطوط ( عبد الرحمن بن عثمان)

* * *

حللت الرباط عن ملفي إياه بسرعة كادت تنزعه من مكانه، ونثرت أوراقه المتزاحمة على سطح مكتبي فيما عدا خطة العمل التي أبقيتها في يدي، وتأملتها برضا وحنان قبل أن أمزقها إلى قطع صغيرة.

كانت قد استوفت أهدافها أخيرا ً، وصارت تلك الخطة التي بدأت صغيرة وبثلاثة أسطر، غابة من المراحل والسطور المتداخلة والمتفرعة، التي مضيت فيها رغم كل شيء.

والآن وأنا أتأمل الكومة غير المنتظمة من المزق، أستعيد كيف كانت يوما ً ما أهم ورقة في هذا الملف، وكيف توالدت منها كل هذه الأوراق التي تضم نظرية شبه مكتملة للكتابة التاريخية، اضطررت لبنائها ليأتي هذا الكتاب كما أريده أن يكون – كنت قد فكرت أن لا أدع هذا الجهد يتبدد، وذلك بأن أصدر الكتاب بشرح مفصل للنظرية، ولكني تراجعت عن هذا بسرعة، فغير ما قد يوحى هذا به من تعالي وذاتية شديدة في كتاب يفترض به أن يخصص للجد، ستلتهم هذه النظرية ثلث صفحات الكتاب، وستزيد من حجمه، وستمنح بعض الألسن مساحة للغو لا أريدها -، كما تضم أوراقي بضع ملاحظات هامة ومركزة عن الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية لذلك العصر – الذي لم تكن القراءة عنه، بكل تلك التفاصيل التي تعج بالمعارك، والدسائس، والأوبئة، سهلة ميسرة -، وأخيرا ً أوراق يغلب بياضها سوادها عن الجد، ما أعرفه عنه حتى الآن سماعا ً، أو قراءة من هنا أو هناك، وهذه الأوراق هي ما سيتصدر الآن الملف، وسيكون جهدي في الأيام القادمة ملئها وتخطيطها بمحطات حياة الجد الأساسية، صفاته، أفعاله، أقواله، قصائده.

في هذه اللحظة ستبدأ رحلتي التي أعددت لها جيدا ً لاكتشاف الجد، سأكون بنظرياتي وأوراقي المخربشة أول ابن من أبنائه يقترب منه إلى هذا الحد منذ تلك الليلة التي خط فيها ( عبد الرحمن بن عثمان) العبارة الختامية لكتابه ( تم بحول الله وقوته في ثلاث ليال بقين من شوال في عام خمس عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة)، واتكئ براحة إلى الجدار الطيني لبيته في الريلية.

تنهدت بعمق عندما تخيلت هذا الاقتراب، وجمعت في يدي أجزاء الورقة الممزقة ورميتها في سلة المهملات، كان هذا يشير إلى عادة أفلحت في التخلص منها مؤخرا ً، عندما فاضت الملفات عندي بأكداس الأوراق التي انتهت حاجتي لها ولكني مازلت أحتفظ بها، ربما لأنه كان لدي وهم أو حلم غريب بأن هناك من سيقلب أوراقي يوما ً ما بعدما أموت، ربما ابن، ابنة، حفيد، أو حتى إنسان غريب لا يعرفني، ولكنه سيعرفني حتما ً بين كل هذه الأوراق، كنت أتخيله بملامح غائمة، وهو يقلب الأوراق المجعدة أو المصفرة، يتتبع الخطوط، يدون ملاحظاته هنا وهناك، يتساءل عني، بم َ كنت أفكر عندما كتبت هذه الورقة أو تلك؟ يضع نظريات يحاول أن يفسر بها ما خفي من سلوكي، وما يختفي وراء حروفي، ولكني تخليت عن هذا الحلم ذات ليلة، وفي الضوء الخافت المتسلل من الرواق، مررت على كل الأوراق الغافية بوداعة وانتزعتها من رقدتها لأكومها بلا تردد في سلة المهملات، عددها الكبير منعني من تمزيقها بقبضتين متقاطعتين، وبدا لي تمزيقها على مجموعات بلا أي إثارة، فاكتفيت بحشرها في السلة الصغيرة، في الصباح بدت لي الملفات التي فقدت انتفاخها إثر هجمة المساء كئيبة الملامح، بل إن بعضها بدت غير معتادة على كل تلك الرشاقة التي جاءت بلا انتظار، فلذا حافظت على انتفاخها الكاذب، ولكن هذا كله لم يجعلني أتراجع عن قراري، فمضت تلك الأوراق إلى مصيرها البائس.

قلبت أوراق الجد – سيكون هذا اسمها من اليوم، أي ورقة تنتظم شيئا ً من سيرته، ستسمى باسمه – وأنا أضع هنا أو هناك ملاحظات عن الكيفية التي سأتعامل فيها مع النصوص التي ستدور منذ اليوم حوله، كيف سأتأكد منها؟ - ففي النهاية لا أرغب بأن يأتي كتابي كمجموعة متنافرة من الأخبار والروايات غير المحققة -، كيف سأرتبها؟ وكيف سأكون من هذا كله مزيجا ً متماسكا ً يصلح كسيرة افتراضية للجد – بما أني سأفترض الكثير لسد الثغرات هنا وهناك -.

* * *

كان لا يزال واقفا ً وسط الجسر، يتأمل بذراعين معقودتين الماء المدوم في النهر.

- مساء الخير – وأنا أقترب -.

- مساء النور، مع أن ضياء الشمس هنا يقول لي أن بيننا وبين المساء أمدا ً بعيدا ً.

- ههههههههههههه، أوه... لا تؤاخذني، أنا أعمل بتوقيتي أنا، وهو مسائي باقتدار.

حط صمت ثقيل بيننا، شتته هو عندما تحرك مبتعدا ً:

- هل فكرت بالموضوع؟

- آ... لا... للأسف، كان يوما ً طويلا ً، لم أحظ فيه بصفاء ذهن يكفي.

- اممممممم.

- اسمع... أنا وعدتك بالتفكير في الموضوع بعمق، فلذا لا تتعجل جوابي، لأنه إن جاء سريعا ً فلن يجيء كما تشتهي.

- أنا فقط أستغرب هذا التردد، ما الذي تخشاه بالضبط؟

- لا شيء محدد، ومن هنا تبدأ المشكلة، أنا لم أصل حتى الآن لفهم وتصور لوضعنا معا ً، هنا، فكيف إذا صرت ترافقني طوال اليوم من لحظته الأولى وحتى نهايته التي لا أدري متى تأتي !!!

- وما الذي تخشاه من مرافقتي لك طوال اليوم؟ ففي النهاية أنا لست إلا جزء ً منك.

- صحيح، ولكنك جزء مخبئ، ومخبئ جيدا ً، حتى أنك انتظرت كل هذه السنوات لتفاجئني وتبرز لي من بين السطور، أنا لا أدري من أنت بالضبط؟ لا أدري أي ( أنا) أنت !!! هل هي ( أنا) أحبها؟ أم ( أنا) أخشاها وأتركها فقط تتسلل بين السطور حتى لا تموت أو تشيخ، فلذا أحتاج إلى أن أفكر، وأن أفكر جيدا ً، عندما أقرر بأن هذه الـ ( أنا) ستكون رفيقتي طيلة اليوم.

- هل يبدو لك هذا مخبئ ً !!! – وهو يفتح يديه باتساعهما -، لقد اختلقت لي جبلا ً وغابة ونهرا ً ووقتا ً نلتقي به، أنا لم أعد مخبئ ً يا صاحبي، أنا موجود، وأنت لا تفعل في يومك شيئا ً سوى إدارة وجهك بعيدا ً عني وتجاهلي، وما أطلبه منك الآن، أن تتوقف عن هذا، وأن تتقبل وجودي.

سكت قليلا ً، ثم أكمل بلهجة أخف:

- اسمع... أنا أعرف أنني لم أكن ومنذ البداية إلا إزعاجا ً وهما ً متواصلا ً لك، وأنك ربما تفكر الآن بهل أخرجه من هنا ليسمم بقية يومي، ولكني أؤكد لك الآن بأنني لست بهذا المزاج النكد دوما ً، وأنني سأكون أفضل بكثير حالما أتخلص من هذا السجن الورقي، وأعيش معك يومك، أحاورك، أفكر معك، ومن يدري ربما أمازحك في الأوقات التي تحتاج فيها إلى الضحك، صدقني يمكن للحديث معي أن يكون ممتعا ً.

- حسنا ً... أعدك بأني سأفكر بهذا جيدا ً الليلة، وسأعود لك بجواب أكيد في المرة القادمة، والآن لنتحدث في أمر آخر، دعني أختبر هذا الحديث الممتع الذي تدعيه.

- حسنا ً... اختر ما شئت – ولوح بيديه بعدم رضا واضح -.

كنا قد وصلنا نهاية الجسر من الجهة الأخرى، وبدا أنه يفكر بالعودة، ولكني استمررت في اتجاهي ونزلت عن الجسر الخشبي إلى الأرض الترابية، حيث كان درب ممتد يخترق الغابة بالتفافة ساحرة – المكان جميل جدا ً، رغم انتقاداته في المرة الماضية -.

- طبيعة بكر... ها !!! كما يقول الكتاب عادة – قال بعدما عبرت إليه فكرتي عن جمال المكان -.

- نعم.

- ههههههههههههه، هذا يدل على أنهم هم فاشلون أيضا ً في الطبيعة، فالطبيعة البكر التي يتغنون بها ترفضهم، كل ما فيها يرفضهم، حشراتها، هوامها، أغصانها النافرة والمليئة بالشوك، حيواناتها التي لم يخضعها الإنسان، ما يستمتعون به عادة، طبيعة مشذبة، طبيعة تم إخضاعها بالمبيدات، بالتنسيق، وبالسياج الذي يبقي كل شيء بعيدا ً، فلذا ( الطبيعة البكر) ليست إلا تعبير مثير، ولا يمكن ملامستها حقا ً إلا بالتخلي عن قرون من المعرفة، ومن الهشاشة.

- هههههههههههههههه.

- ما الذي يضحكك؟

- تبدو لي بحماسك هذا كخطيب جمعة، هههههههههههههه، أتدري؟ ربما كان هذا هو الدور الذي كنت سأعطيك إياه في قصتي التي أفسدتها بثورتك.

- أنت من يجعلني كذلك، بعباراتك المنتقاة، تحدث... ثرثر قليلا ً، لا يمكن للحديث أن يكون ممتعا ً إذا جاء موزونا ً.

- أنا لا أنتقي عباراتي، اممممممممممم، أو لأقل - حتى أكون دقيقا ً - بأني توقفت عن الشعور بذلك، مر زمن طويل منذ كنت أتحدث على سجيتي، منذ كنت أتكلم بلا مسودة في روحي، فتأتي الكلمات طرية، سهلة التشكيل.

- وما الذي تغير؟

- صرت أعرف أكثر، فصار علي أن أسكت أكثر، هل تعرف ما الفارق بين الصمت والسكوت؟ تصمت عندما لا تجد ما تقوله، ولكنك تسكت عندما لا تحب ما يجب أن تقوله.

عادت لحظات الصمت الثقيلة، عندما انشغل فهد بملامسة أوراق عريضة لشجرة عتيقة تكاد تعترض الدرب، وتمنحه انحناءة جميلة:

- هل تعرف ما نوعها؟ – وهو يشير للشجرة برأسه –.

- لا.

- هذه من الأشياء التي تنبهت إلى جهلي بها مؤخرا ً عندما بدأت بكتابة القصص – أكملت عندما عاد لصمته -، وهو مشروع أشكر لك إفساده علي – ابتسم وأفلت الورقة -، يمكنني الحديث عن الكثير من الأفكار والأشياء، ولكن عندما يأتي دور الوصف، أجدني عاجز عن تحديد نوع الأشجار التي تزين طريقا ً شق في حكايتي، أو الأخشاب التي صنع منها مكتب اختلقته، أو الألحان التي يرددها بطلي وهو يسير إلى نهايته، تلك التفاصيل التي تجدها بيسر في مؤلفات الآخرين، فالبطل يمشي في ظلال أشجار الأكاسيا، ويكتب على مكتب من خشب الماهوجني، والبطلة تستمع إلى ياني أو تومي لي، حسنا ً... ماذا عن بطلي أنا؟ أي شجرة ستظله؟ إن اعتمدت على معارفي فلن يحظى إلا بنخل أو أثل، فكرت بأن هذا نقص لابد من تداركه، فبدأت في تجميع أسماء الأشجار، الورود، الأخشاب، المشروبات، المأكولات، فمن المعيب أن يذهب بطلي إلى مطعم ويطلب أوصال لحم أو بيتزا، لابد أن يطلب باستا، أو فيليه، حتى جاء اليوم الذي توقفت فيه، كانت القوائم التي ربت بين يدي مجرد أسماء لأشياء خارج حواسي، أشياء لم أجربها، لم أذقها، لم أستظل يوما ً بشجرة أكاسيا، ولا أدري كيف سيكون ذاك الشعور، لم أذق البلودي ميري، ولم أتناول البيوريه، فلذا عندما أكتب عن هذه الأشياء وأضعها في حكاياتي، هل كنت فقط أستجيب للرغبة بالظهور بمظهر العارف لما يعرفه الآخرون؟ أرعبتني طفولية الفكرة، ثم جرتني إلى سؤال خبيث، هل جرب الكتاب كل ما هو موجود في كتبهم؟ بدا لي هذا مروعا ً، كل الأشياء التي تحدثوا عنها، كل الأشياء التي أوهمونا بأنهم عايشوها، هل هي مجرد خدعة جماعية تواطؤا عليها؟ وهذا لا يشمل فقط أسماء لأشياء أو توصيف لتجارب، وإنما يمكن أن ندرج فيه أيضا ً، أفكارا ً أساسية ومهمة في الحياة، صار هناك تساؤل كبير يؤرقني، الأدب، القصة، الرواية، القصيدة، كلها مبنية على الاختلاق الفني والأدبي، هذا جزء كبير من فتنتها وجمالها، ولكن ما حجم هذا الاختلاق؟!! أين يبدأ؟ أين ينتهي؟ هل يحق للكاتب اختلاق مشاعر لم يعشها حقيقة، كالحب، الألم، الحزن، لنتفق هنا أولا ً... نعم، جزء من عظمة الكاتب أو الشاعر قدرته على الاختلاق، فلذا من حق الأديب أو المبدع أن يختلق أشياء غير حقيقية أو غير موجودة، وأن يوظفها لصالحه، ولصالح فنه، فالأدب ليس علما ً، بالمعنى الحديث لكلمة علم، إذن أين المشكلة؟ المشكلة بنا نحن، عندما لا ندرك هذا، وعندما نسمح لقصة أو قصيدة بأن تشكل حياتنا وقناعاتنا حول الأشياء من حولنا، تلك السهولة التي نتلقف فيها بيتا ً أو مثلا ً ونصيره شعارا ً لنا في الحياة، من دون أن ندرك أن الأدب لا يفترض به أن يمنحنا الأجوبة عن الحياة، بقدر ما يستثير فينا الأسئلة عنها، عندما يقول أبو تمام مثلا ً ( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول ِ)، يمكننا أن نتذوق كل الأفكار والمشاعر التي يستثيرها بيت رائع كهذا عن الحب، وعن المشاعر الأولى التي لا تزول، ولكننا سنكون مخطئين تماما ً إن تركنا هذا البيت يستولي علينا، ويمنعنا من الحب من جديد، يمنعنا من التساؤل ما الذي يجعل الحب الأول حبا ً غير منسي؟ هل هي الذكريات؟ هل هو الحنين للماضي؟ من هنا يمكننا أن نجد الطريق الذي يجعلنا نشعر بلحظتنا الحالية، ونتخلص من إسار مشاعرنا القديمة، لنبدأ مشاعر جديدة.

- أظن أني ابتعدت عن الفكرة الأساسية – أكملت بعد صمت لحظات -، وهي أنني قررت أن لا أكتب إلا انطلاقا ً من تجاربي أنا، ومعارفي أنا، وهذا يجعل من أبطالي يأكلون مما آكل، ويشربون مما أشرب، ويزورون المدن التي أزورها، وقد سمعت أن أحد الأدباء كتب رواية كاملة، تدور أحداثها في مدينة لم يزرها في حياته، بل إن هناك من الأدباء من يختلقون مدنا ً غير موجودة، يرسمون طرقها وميادينها في خيالهم، ولا يمكن لأحد لومهم، فما يكتبونه رواية، وليس كتابا ً علميا ً، تخضع الحقائق فيه للتمحيص والتدقيق، لم َ إذن اتخذت هذا القرار؟ لأني أرغب بأن أودع نفسي كما هي بين السطور، لا أريد زخرفتها، لا أرغب بتلميعها، أهم قارئ لي هو أنا، ولا أريد أن أفقد اهتمام واحترام هذا القارئ الثمين، أريد أن استمتع بالكتابة، ومن ثم أن استمتع بقراءة ما كتبته من حين إلى حين، وعندما أقرأ أشياء في نصي لا أعرفها، ولم أجربها، أعرف بأن خطرة ساخرة ستمر في كياني، هذه الخطرة هي ما أفر منه، فهي ليست ما يقوم به بعض الكتاب من السخرية من أنفسهم، لا... تلك سخرية ظاهرية، مملوءة بتبجيل داخلي، أنا أخشى السخرية التي لا تبجلني، السخرية التي تقول لي فيها نفسي، ما هذه السخافة التي كتبت؟ يمكنك أن تخدع ألف قارئ، ولكنك لن تخدعني، أذكر أني كتبت ذات يوم – تحت التأثير المباشر لفيلم ( العراب) - قصة قصيرة، عن عائلة سعودية ضخمة، ممتدة، بأب كهل حرصت على أن أحشد له كل تلك القوة والإثارة التي أحاطت بشخصية فيتو كارليون، عندما انتصفت القصة، شعرت بسخافة ما أقوم به، ظهور شخصية بكل تلك المميزات تستدعي ظروفا ً معينة، لم أستطع توفيرها في حكايتي، كان علي حتى أحصل على قوة كبيرة تعمل بقوانينها الخاصة أن أعود بالزمن قرنا ً، وأن أختار للكهل قبيلة أو عشيرة يقودها، ولكن هذا سيفقدني أناقة الشخصية والعصر، لذا ودعت عندها بطلي، وتركته هائما ً في خيالي، نصف حكاية منسية بين أوراقي، كما ترى مصيرك خير من مصيره، وربما... في يوم ما، أتنازل عن نصف مواصفاتي، واستكمل حكايته كما يمكن أن تكون، لا كما أشتهيها أن تكون.




Green Tea 06-09-09 03:18 PM



فيه أحد متابع عشان اكمل؟؟؟


ice princess 07-09-09 01:17 AM

رائع جدا
توقعت أن تكون بهذه الروعة منذ قرأت العنوان
أذهلني مثلما أذهلتني الكتابة الراقية
هذا هو نوع الكتاب الذي نحتاجه لنرقى بأدبنا
أرجوك gREEN TEA أكمل حتى لو لم يقرأ أحد
سأكون أنا قارئة
تحياتي

Green Tea 07-09-09 03:47 PM



شكرا اميرة الثلج

شجعتيني اكمل

تسلمين



Green Tea 07-09-09 03:50 PM






7

اجتماع جديد، ولكنه حاشد هذه المرة، بحيث وجدنا أنفسنا محشورين حول طاولة الاجتماعات التي التف حولها رؤساء الأقسام، وموظفي الإدارة – بالطبع من لم يحتل منهم بحيلة يشتري بها صباحه -.

كان هذا اجتماعا ً تربويا ً – التسمية من سليمان طبعا ً، رغم أنها لا تحتوي، ويا للغرابة على شتائم – من الاجتماعات التي يعقدها ( أبو نايف) كلما شعر بأن الأوضاع تأزمت في الإدارة، وأن الصراع بين رؤساء الأقسام ومن ورائهم الموظفين صار علنيا ً.

وهذه الاجتماعات مملة بما لا يقاس، بحيث أن البعض يفر من الإدارة بأي حجة في اليوم الذي تعقد فيه، فغير أسلوب ( أبو نايف) الرتيب، وطريقته المتلكئة في الحديث، المليئة بـ ( صالح العمل)، و( روح الفريق)، و( التعاون المثمر)، كانت حقيقة أن ( أبو نايف) لم يصل إلى مركزه هذا إلا عن طريق ترشيح رؤساء الأقسام له كبديل هزلي للمدير السابق – الصارم وسيء الذكر – حاتم، تجعل رؤساء الأقسام يتقبلون كلماته بصمت لا مكترث، ويخرجون من عنده ليواصلوا مخططاتهم وأساليبهم في العمل – غير المثمر لسوء حظ ( أبو نايف) -.

كنت أميد نعاسا ً والاجتماع التربوي لا يزال في بدايته، وسليمان إلى جواري ينخسني في جنبي كلما قال ( أبو نايف) كلمة تدعو للسخرية، وكانت أفكاري تروح وتجيء، بحيث ألتقط جملة وسط عشرات أخرى تبدو لي كهمهمة بلا معنى.

( .......... وهذا ليس صعبا ً يا إخوان، صدقوني أنه ليس صعب .......... هم هم هم هم هم هم .......... بالتعاون المثمر والجهد البناء – نخسة من سليمان - .......... هم هم هم هم هم .......... أظن أننا كلنا مخلصون لعملنا، وهي أمانة يا إخوان، أليس كذلك؟ .......... هم هم هم هم – نخسة أخرى من سليمان، ماذا قال؟ - .......... وأنا أولكم، كلنا مقصرون، والتقصير من شيم الإنسان – نخسة قوية مع ابتسامة جانبية هذه المرة - .......... أتمنى يا إخوان أن تفكروا بهذا جيدا ً، وأن تتذكروا دائما ً أنكم مؤتمنون في أعمالكم، وعلى كل منكم أن لا يفكر بما هو صالحه، وإنما بما هو صالح العمل، ومعا ً يمكننا أن نبني مستقبلا ً أجمل لهذه الإدارة... خخخخخ – ضحكة أنفية من سليمان بالكاد حولها إلى عطسة وهمية -)

* * *

انتهى الاجتماع التربوي فعدت إلى مكتبي لأصنع كوبا ً من الشاي وأتفرغ للأوراق المتراكمة.

كنت بين ورقتين ورشفة عندما دخل صلاح – المسئول عن متابعة المشاريع - المكتب، واقترب بطريقته الهادئة:

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- أتسمح أن آخذ القليل من وقتك؟

- تفضل – بملل وأنا أشير له بأن يجلس -.

- المشاريع التي تخصك يا أستاذي الكريم – وهو يقلب أوراقه المليئة بالجداول والرسوم البيانية -، مشروع المالية، لم تحدث خطته حتى الآن وآخر خطة أرسلتها لي مر عليها أسبوعين.

- لأنه لا يوجد جديد، المشروع الآن في مرحلة التطبيق، وأعمالنا في هذه الفترة تتلخص في استقبال ملاحظات المستخدمين، وحل مشاكلهم.

- يعني الخطة كما هي ولم يتغير فيها شيء.

- نعم.

- و... – سقطت ورقة فنهض من الكرسي ليحضرها، ولكنها نفذت إلى أسفل مكتبي، فالتقطتها وأعدتها إليه – مشروع ( التنظيم الإداري)؟

- هذا مشروع جديد ولم نضع له خطة بعد.

- متى ستضعونها؟

- بعدين – كانت هذه من سليمان الذي دخل المكتب قبل قليل -.

- ولكن أي مشروع جديد لابد أن تسلم خطة مبدئية له خلال أسبوع.

- نحن مشغولون الآن يا صلاح – استمر سليمان بأسلوبه الجاف فيما تراجعت أنا في مقعدي، وتركت لهما الساحة -، فلذا ليس لدينا الوقت لخطة مبدئية أو نهائية.

- ولكن يا أستاذ سليمان، نحن نرفع في نهاية كل أسبوع لمدير الإدارة، قائمة بالمشاريع وخططها، حتى يمكنه متابعتها، والأسبوع الماضي كان المدير يسأل عن خطة مشروعكم.

- مشروعنا لم يبدأ حتى الآن، لم نستلمه إلا الأسبوع الماضي، وإذا سأل المدير عن الخطة قل له هذا.

- هناك خطة عامة يا أستاذ سليمان للمشاريع، وضعتها أنا في الملف الرئيسي على الشبكة باسم (Master Project)، تتضمن كل الخطوات التي تتبعها المشاريع عادة، من التحليل وجمع البيانات، إلى التنفيذ، إلى الاختبار والتدريب، يمكنكم استخدامها مع إضافة التاريخ فقط لكل مرحلة.

- طيب... سنطلع عليها إن شاء الله.

- هناك أيضا ً – وعاد إلى أوراقه، فأشار لي سليمان إشارة متململة وخرج من المكتب -، مشروع المستودعات.

- مشروع المستودعات خطته جاهزة – عدت للحديث -، وأرسلتها لزيد ليعدل عليها، وحالما يعيدها لي سأرسلها لك بإذن الله.

- يعطيك العافية – قلب بين أوراقه، ولما لم يجد شيئا ً يضيفه، ودعني وانصرف -.

عدت إلى كوبي – الذي صار فاترا ً الآن –، وبعد لحظات دخل سليمان وهو يبتسم:

- أعانك الله يا عبد الله – زميل لنا في الغرفة المجاورة، يبدو أن قد صلاح وصل إليه – على ثقيل الدم هذا.

- وما يضرك أنت !!! أنا من يعاني من أسئلته في كل مرة.

- ههههههههههههههههه، ذق قليلا ً مما ذقته أنا لسنوات، بل بالعكس أسئلته الآن لا شيء مقارنة بتلك الأسئلة وذلك الإلحاح في أيام حاتم، عندما كانت متابعة المشاريع في عزها، وكان تأخير الخطة يعني أن يتصل بك حاتم بنفسه، هل اتصل بك ( أبو نايف) ولو لمرة واحدة يسألك عن شيء ما؟

سكت وعدت لأوراقي حتى لا يعيد سليمان ككل مرة روايته حول عهد المدير السابق حاتم، والمحملة كالعادة بكم من الكلاب والثياب.

لم يكن ذكر حاتم هذا سيئا ً – لا أعرفه، ولم ألتق به أبدا ً، وإن كنت قد رأيت صورة غائمة لملامحه، التقطها أحد الزملاء بكاميرا جواله في أحد الاجتماعات الأخيرة قبل انتقاله – عند سليمان فقط، بل وجدت الجميع هنا، من ماجد – الذي لا يشتم إلا عند الضرورة -، إلى عبد الله – الطيب، المتدين والذي كان يشفع انتقاداته لصرامة حاتم وتشدده بعبارة ( الله يذكره بالخير) -، وإلى زيد – والذي تجاوز كل كلماته الأنيقة والحذرة، ووافق الجميع على أن حاتم كان ( علة باطنية) -.

كان حاتم حسب ما نقل لي، صارما ً ومدققا ً في المشاريع التي تتولاها إدارته، وحسب ما فهمته كانت لديه تلك الرغبة المجنونة في تتبع التفاصيل، والقدرة الغريبة على تذكرها لاحقا ً والمحاسبة عليها، وكان الموظفون ورؤسائهم معرضين في أي لحظة إلى الاتصال الرهيب من سكرتير حاتم الشهير – والذي رحل معه إلى الإدارة الرئيسية -، ليحدد لهم موعدا ً لاجتماع مفاجئ – غير الاجتماعات الاعتيادية الأسبوعية -، وكان هذا الاجتماع يعني أسئلة متتالية، يجيب عليها الموظف متوجسا ً، ليكتشف في النهاية أنها تقوده إلى ثغرة أو خطأ في تنفيذ المشروع، اكتشفه حاتم في إحدى تأملاته، وكان هذا يقود إلى تعديل في الخطط، وربما إعادة تنفيذ بعض الأعمال، ويعني عملا ً إضافيا ً بالكاد يرضي تطلب وتصلب حاتم.

الحسنة الوحيدة – كما يقول سليمان، ففي النهاية للكلاب حسنات – هي أن قوة حاتم كمدير للإدارة، حجمت رؤساء الأقسام في عهده، ولم يصبحوا فراعنة كما هم الآن – والوصف لازال لسليمان -، في ظل الضعف الواضح، والطيبة الشديدة لأبي نايف.

وكان الجميع يشيرون للتدليل على قوة حاتم وتعقيده الشديد إلى أن أغلب الأنظمة – كالاجتماعات الدورية، ومتابعة المشاريع، وعرض مشاريع الإدارة السنوي، وإنشاء ملف رئيسي للأنظمة والإجراءات على الشبكة الداخلية كمرجع للجميع ( الذي ذكره صلاح، ووضع عليه ملفه (Master Project)) – كلها صيغت في عهده، وظلت بعد رحيله ولكن كطقوس متبعة فقط، من دون ذلك الاهتمام الكبير.

وتحت تأثير كل هذه الأحاديث عنه صغت مزحة – توقفت عنها فيما بعد عندما سخر منها سليمان -، أقول فيها بأني من مواليد ما بعد الكارثة الحاتمية.

* * *

(( ثم إن صالح بن علي سار إلى المدحمية، وأميرها عبد الله الذي يقال له المدحمي، فلما أقبلوا عليها خرج عليهم الكمين، فتقاتلوا وانهزم المدحمي بمن معه إلى القصر وتحصنوا فيه، فسار صالح بن علي إلى النخل والزرع فدمره وانقلبوا راجعين))


من أخبار الجد ( صالح بن علي) التي وردت في مخطوط ( عبد الرحمن بن عثمان)

* * *

أوراق الجد المتوالدة صارت الآن تغطي كل المساحة الصغيرة لسطح مكتبي، تندس بين الكتب، تعتلي الملفات المضمومة، وصارت كل ورقة منها تحمل رقما ً صغيرا ً يميزها عن الأخريات.

كنت أدور بين الأوراق، أضيف لإحداها سطرا ً، وأشطب من أخرى سطورا ً لازالت تحتفظ برائحة الحبر، وأملأ ثالثة بعلامات استفهام وأسئلة صغيرة تلوذ بزاوية الورقة، ثم أغادر الأوراق لأغوص في المخطوطة وأعلق بين حروفها المتشابكة، والتي أنقلها حالما تفقد تشابكها إلى صفحة من الصفحات البيضاء، ثم أترك هذا كله وأقفز من كرسيي لأقلب في موسوعة ( المعارك والغارات النجدية) والتي تعيدني مرة أخرى إلى ورقة لأشطبها أو أضيف إليها أو أحشر بين سطورها الوادعة استفهاما ً مقلقا ً.

كانت الأحداث تنثال بين يدي ككومة من الرمال الناعمة، كلما انفردت بالمخطوطة، ولكنها ما تلبث أن تتشتت لتصير غبارا ً حالما أقلب كتابا ً آخر، حتى صارت بعض أحداث حياة الجد مختلطة، لا يمكن الجزم حولها بشيء.

* * *

كان في الليل بقية لم تتداعى، عندما ضممت أوراقي، وغادرت مكتبي.

بعد طقوس ما قبل النوم المختصرة، استلقيت في الفراش، كانت لينا توليني ظهرها، ولكني كنت أعرف أنها لم تنم بعد، كانت هناك إشارات ظلت تبثها طيلة اليوم، إشارات تقول أن ليلها لن يكتمل ولن ينتهي من دوني، آخرها هذه الرائحة العطرية الغامضة – فضلت الإبقاء على غموضها، بأن لا اسأل من أين تأتي - التي طوقت الغرفة، والتي ترتبط في ذهني بأمثال هذه الليالي.

مغمضة العينين، تنتظر.

وأعرف – كميثاق غير مكتوب - أني من يجب أن يخطو الخطوة الأولى.

لا يهم من كان يرسل إشاراته طيلة اليوم، لا يهم من كان يرغب بهذا ومن كان يعد له، عندما يأتي دور الخطوة الأولى كانت لينا تنتظر، وبصبر عجيب.

ستفتح عينيها عندما أقترب كأنها فوجئت، وكأني استللتها من حلم جميل، ولكنها ستستجيب بلا لحظة تردد.

كنت لا أتساءل في أيامنا الأولى، عن كنه استسلامها، لا أتساءل أين تبدأ الرغبة عندها، ولا أين تنتهي؟ كنت أقدر أن خجلها وحياءها يحول الأمر كله إلى واجب ثقيل.

حتى جاء اليوم الذي تساءلت فيه، هل لازال الأمر في حسابها واجبا ً؟

وكان علي أن أكون خبيثا ً حتى أحصل على إجاباتي، كان علي أن أمنحها جزءا ً، وأتركها تفتش عن الأجزاء الأخرى بنفسها، ومترددة فعلت، وأرضاني هذا قليلا ً.

هذا كله يتم في صمت عميق، لا يبدده إلا صرير السرير الخافت، أو أنفاسنا المتسارعة، لم نكن نتحدث عن هذه النشاطات الليلية أبدا ً في النهار، بل لم نكن نتحدث عنها حتى في لحظاتها المديدة.

ولذا كان علي أن أتحسس ما تريده وما لا تريده في ظلام وصمت، وكان علي أن أنمي خبراتي ببطء، وبلا إجابات أكيدة.

انفصلنا الآن.

تتداعى أشياء كثيرة في داخلي في هذه اللحظة، يدهمني دوار وحزن رهيب لا أفهمه، وأنا أزحف إلى الطرف الآخر من الفراش، فيما ترتجف هي، أو تبكي أحيانا ً.

أغمض عيني وأترك نفسي لأمواجها المروعة.

أسئلة بلا إجابات.

هل هذا ما أريده؟ هل هذا ما أردته؟ ومن أين يأتي هذا الحزن؟

في كل مرة أصطاد فيها الرغبة في غروبها، أتساءل عن كنه هذا الشيء الذي يمنح الجسد مذاقا ً لا يدوم، مذاقا ً لحظيا ً، سرعان ما أفقده، سرعان ما يفلت مني، ويتركني مشتت الروح، مفكك البدن.

وصرت أتساءل كيف يمكنني تمديد اللذة وتأجيل الحزن؟ كيف يمكنني إطالة اللحظات التي أفقد فيها ذاتي، وأغوص في الفراغ المخيف؟

ولكن الصمت لا يمنحني الأجوبة.

لا يمكنني فهم جسد صامت، لا تنطق لي أعضاءه بما تريد إلا لماما ً، لا تمنحني إلا شذرات مما تريد، إشارات ربما أخطئ في فهمها أحيانا ً، وربما لا أنتبه لها أحيانا ً أخرى.

نهضت الآن – مما تعلمته أن لينا لن تنهض قبلي مهما حدث، ستبقى هكذا مدثرة بخجلها وصمتها، حتى أغادر الغرفة، وعندما أعود بعد دقائق، سيصير ما حدث قبل قليل فجوة زمنية سقطت منا، لها ما قبلها ولها ما بعدها، ولكن لا وجود لها، سنستلقي قليلا ً، ربما نتحدث في مواضيع مختلفة من هنا وهناك، وربما نواصل الصمت، حتى يأتي المنام، ويمنحنا الخلاص من السير في الظلال -.

فارقني الدوار تحت دفق الماء الدافئ.

استعدت بعض أعضائي.

وعندما عدت إلى الغرفة، كان الظلام مخيما ً، والفراش خاليا ً، وبرأس لازال يحتفظ برطوبته، وجدت سبيلي إلى النوم مهيئا ً.




Green Tea 07-09-09 03:55 PM




8

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- جاء سليمان؟

- لا... أخذ اليوم إجازة مرضية.

- طيب... تعال لي إذا تكرمت.

كان هذا ناصر، وكان هذا يعني أن الصباح فقد جماله البسيط.

عندما دخلت مكتبه، كان في ذات الفوضى التي تميزه، مخاضة من الأوراق على المكتب، والمقاعد، وعلى الأرض من خلفه، أوراق صفراء تتشبث بالكاد بشاشة كمبيوتره، هاتفه الجوال يرن، ويومض مدفونا ً تحت أحد الملفات فوق المكتب، فيما هو مشغول بمكالمة على هاتفه الثابت.

من دون حتى أن يشير لي، جلست على مقعد نجا من هجمة الأوراق، لأني أعرف أن انتظاري سيطول.

أنهى مكالمته، وبحث عن جواله، ومن ثم انصرف ليتم عملا ً ما كان قد بدأه على جهازه، هذا عندما عاد جواله للرنين، فتناوله وهو لا يزال يحدق في شاشته، وقال لمن يكلمه على الطرف الآخر ( هلا... عبد الرحمن، سأتصل بك بعد قليل)، تحركت أصابعه برشاقة على لوحة المفاتيح حالما تخلص من الجوال، وتناول ورقة يبدو أنه كان يحدق بها ليتأكد من شيء ما، ومن ثم عادت أصابعه إلى رقصتها الناعمة، لحظات ومن ثم دفع شاشته للأسفل كأنما يريد التأكد من وضوح أمر ما، قبل أن يلتفت إلي ويضع رجلا ً على رجل ليقول:

- لم يأتي سليمان؟

- أخذ اليوم إجازة مرضية.

- اها... طيب، آ... لدينا مشكلة صغيرة، بالأمس اتصل بي مدير المستودعات، بخصوص المشروع عندهم، أنتم الآن في أي مرحلة منه؟

- التحليل.

- طيب... كيف تكونون في مرحلة التحليل ولم تلتقوا حتى الآن بأي مستخدم هناك؟ لا مدير المستودعات نفسه، ولا أي من موظفيه !!! كيف ستحللون النظام؟

- حاليا ً... نحن نأخذ المعلومات من زيد وهو أحد الموظفين هناك، كما أنه عضو في الفريق.

- لا يمكنكم الاعتماد على معلومات شخص واحد من الإدارة، يمكن لمدير الإدارة بكل بساطة أن يرفض التحليل في النهاية، وتضطرون إلى دراسة النظام من جديد، ما الذي يمنعكم من زيارة الموقع نفسه، والاجتماع بمدير الإدارة؟

- نحن لا نعتمد على معلومات شخص واحد، نحن سنقوم بالتحليل بالاعتماد على معلومات زيد، ومن ثم سنرسل التحليل إلى مدير الإدارة للإطلاع عليه والتعديل عليه.

- لا... لابد من زيارة الإدارة والاجتماع بالمدير نفسه.

- ولكن عندي أعمال كثيرة تحتاج إلى متابعة، والذهاب إلى المستودعات لا داعي له ما دام زيد موجود ويمكنه القيام بجمع المعلومات من هناك وتزويدنا بها.

- زيد ليس من إدارتنا، زيد أحد المستخدمين في تلك الإدارة، لذا لابد أن يذهب أحدكما سليمان أو أنت للاجتماع بالمدير.

- حسنا ً... سأرى إن كان يمكن لسليمان أن يذهب إلى هناك غدا ً.

- لا... أذهب أنت اليوم، لا أريد تأجيل هذا إلى الغد.

- عندي اليوم أعمال تخص مشاريع أخرى.

- لا بأس... أجلها إلى الغد، وأذهب اليوم إلى المستودعات.

- خير إن شاء الله.

* * *

في المساء وجدت رسالة تنتظر في بريدي، كنت قد تناولت عشائي للتو، واصطحبت كوب الشاي إلى مكتبي، لأستكمل الخوض بين الأوراق، عندما وجدت رسالة من حسن على غير انتظار – لم يكن حسن من محبي التقنية الحديثة -.

فتحت الرسالة التي عنونها بـ " لا تنتظر".

* * *

(

السلام عليكم

آسف لأني لم انتظر موعدنا الأسبوعي لأضع هذه بين يديك، شعرت بأنك يجب أن تشاركني لحظة الخلق.

لا تنتظر

1

لا تنتظر
لا تنتظر أن يفهموك
أن يعرفوا في أي تيه صرت أنت
لا ريب أنهم ملوا وقوفك
ملوا انتظارك
ملوا البقاء في جوارك
ملوا صليل السيوف
وخطوات حصانك الذي لا يذهب إلى الأمام

2

وفي المعبد حطوا لك تمثال
أعطوه وجهك
كقناع من صلصال
ولكنه لم يكن أنت
فاليدان اللتان صنعتاه تجيدان تزوير القسمات
تجيدان تحويل البكاء إلى بسمات
وتأويل الحكايات وأنصاف الكلام

3

ماذا أردت؟
سوى أن تعيش كأي صبي
وتشقى قليلا
يصفعك الكبار ويشتمونك
فلا تبالي
لأنك إذا غاب النهار
ستأوي إلى فراشك وتنام طويلا
وستنسى في الصباح

4

وجاءوا
بورع عجيب
بحكايات المعجزات
وأقاصيص الملوك
وأخبروك
عن الأرواح التي ستلف روحك
عن الأيدي التي كانت تقطع الرؤوس
وستحمل اليوم رأسك وتابوتك !!!




حكاية لا تنسى

أحببتك ِ منذ البداية
بخفوت
بسكوت
وبامتنان...

وكنا اثنان
لا يعلمان
تكفيهما الكتابة والشكوى للورق
وكنت أصنع قصائد
يغيبها ليل أو يحييها أرق
وكنت أنت ِ القافية
منذ البداية...

فلم َ كان للحب ثمن؟
متى كان للحب ثمن؟
متى كان للحب دفاتر ومحاضر
وأسئلة منها لا نفيق
ولم َ كنا منذ البداية
نكتب النهاية
بأصابع لا ترى

ولم َ لم أكن مستعدا ً
عندما جاءت النهاية...
لم َ كنت
في نصف ثيابي
وكتابي
في نصف جملة
وبداية قصيدة
ونهاية عمر
ُكتِب أن يكون قصيرا ً...
منذ البداية




عفن

قالت...
عفن تسلل إلى روحي ذات ليلة
في ثياب الشتاء
كندفة الثلج أو قطرة المطر
وكنت صغيرة
براحتين وبهجة بلهاء

وكان عصيا ً لا يزول
يقصف الأصابع
ويغرق الروح في الوحول

عفن
صار يغرق روحي
عفن
صارت ثيابي
كل شيء صار عفنا ً عندما حل الربيع

ثم قالت...
سأتعلم الفرار من غواية الشتاء
من المطر
وزرقة السماء
سأتعلم الفرار من الضحكة البيضاء
فقط... أتمنى لهذا العفن أن يزول
وكان يوم الأمنيات
فزال

* * *

كان يوما ً طويلا ً، ولذا بدا لي النهر المدوم خيارا ً جاهزا ً، رغم توقعي لسخرية فهد من هذه الغابة التي صارت سجنا ً لا يتغير.

كان واقفا ً يتأمل ملامحه في بركة صغيرة تخلفت من مطر مر غزيرا ً وغسل الأشجار والأرض ومنحها رائحته ولكنه لم يمس فهد، لم يغرق ملابسه ولا أفسد ثورة خصلاته اللامعة.

- تبدو متعبا ً – قالها وهو يتراجع ليتكئ على شجرة -.

- كان يوما ً كئيبا ً.

- يمكنك أن تتخفف من كآبتك هنا.

- لا... سأشاهد فيلما ً أو برنامجا ً سخيفا ً، حتى أسقط في نوم بلا أفكار.

- إذن – وقد اعتدل في وقوفه – جئت لتخبرني بشيء.

- فكرت بما طلبته مني، ليس بعمق كما كنت آمل، ولكن بما يكفي لأقول، حسنا ً... لنجرب هذا من الغد.





Green Tea 10-09-09 09:49 PM






9

- آآآآآه... جميل هذا الصباح، بعد كل تلك الأيام في الغابة.

- أنا أدفع أي شيء الآن لأكون في غابة.

- لا... لا تقل هذا، لا تنزع من الصباح طراوته.

- أي طراوة !!! هذا صباح حار، وأنا لازلت مهدهدا ً بالنوم والخدر، ولم يفلح استحمامي السريع، ولا كوب الشاي في تبديدهما، وأمامي الآن عشرة طرق غاصة، وألف سيارة يقودها ألف رجل مهدهد، لأصل إلى مكتب طافح بالعمل، ورؤساء لا يدركهم السأم، وزملاء لا ينزعون من أي شيء ملالته، لا يوجد طراوة هنا، ليس في هذا اليوم على الأقل.

- ههههههههههههه، اسمع... لديك مكيف بارد ينسيك حرارة النهار، ويمكنني أن أبدد خدرك، وأن ألهيك عن بؤس الطريق بثرثرتي وأحاديثي، أما العمل فلا داعي لأن تفسد يومك مبكرا ً بالتفكير فيه، دع كل شيء لوقته، استمتع بهذه اللحظة الآن بين يديك، وعندما نصل إلى هناك سنتوقف دقائق نرتب فيها ما سنقوم به بقية اليوم.

- حسنا ً... – ويدي تخفض درجة الحرارة داخل السيارة -، تفضل، حدثني.

- كنت أفكر بكيف ستكون العلاقة بيننا بما أني سأكون رفيقك طيلة اليوم، فيما مضى كنت بالنسبة لك محطة شبه يومية، تأتي إلي عندما يحلو لك، وتحدثني عما تريد فقط، وتتجاهل أي شيء آخر في يومك، قد يكون يومك ثريا ً، قد يكون فقيرا ً، ولكني في كلتا الحالتين، لا أعرف إلا ما تريد إخباري به، الآن... تغيرت الحال، وما عاد بإمكانك إخفاء أي شيء عني، كل التفاصيل الصغيرة التي تكون يومك، العمل، البيت، قراءاتك، كتاباتك، من تلتقي بهم، من تتصل بهم، من يتصلون بك، من تضحك معهم، من تغضبهم، من يغضبونك، الأشياء الرائعة التي تفعلها، والسخيفة، كل شيء صار متاحا ً لي الآن، ويمكنني النفاذ إليه، هل كنت تدري أني لم أكن أعلم عنك إلا الأشياء التي كنت تقولها لي، أو تفكر بها؟

- كيف؟

- لا أدري كيف أشرح لك هذا ! فنحن نمر بوضع غريب، ولكن دعني أحاول، يبدو الأمر كما لو أنني كنت لا أستطيع الوصول إلا إلى الأمور التي تمر بوعيك، آ... ركز معي، عندما كنت تكتب وتلتقي معي بين الأوراق، كنت تمارس ذلك بوعيك، فلذا كان لاوعيك بعيد عني، ولا يمكنني ملامسته أو الاقتراب منه، الآن وقد اتحدت بك، يبدو أني اتحدت بالوعي واللاوعي منك، واااااااااااااااااو... كأنني قذفت من السماء إلى بحر لجي، آلاف الأفكار والهواجس التي تجوبه، وتضطرب فيه، القليل منها فقط ما يقذف إلى الشاطئ ويصير وعيا ً، وسرعان ما ينسحب ليعود في موجة جديدة، أو لا يعود، هههههههههههههههههه، انبهرت بهذا كله، حتى أني كدت أن أخلف وعدي لك بمحادثتك والتفكير معك، وأبقى سابحا ً ومكتشفا ً لكل هذا العالم الغريب.

- غريب... ألا يفترض بأن يتحول أي أمر تكتشفه أنت أو تراه في لاوعيي إلى الوعي مباشرة، بمعنى أني سأدركه ما دمت أنت جزء مني، وما دمت قد أدركته؟

- اممممممممممممم، ربما للسنوات التي كنت فيها تحشرني في زاوية من إدراكك ووعيك دور في هذا الانقسام لديك، فكأنه صار لديك وعي تتعامل معه، ووعي لا تريد التعامل معه، ولاوعي لا تدرك منه إلا القليل ومن حين إلى حين، الأمر أشبه بمن يدرك أن تجاوز سرعة 200 كيلومتر خطر على حياته، ولكنه يزيح هذا الإدراك جانبا ً ويصل إلى هذه السرعة وهو يرتجف من الإثارة.

- يبدو لي هذا غريبا ً، ولكن الوضع كله غريب وغير مفهوم، وبما أننا نقترب الآن من مكتبي، فلا وقت لبحث هذا أو التعمق فيه.

- هههههههههههه، لدي ذلك الشوق لرؤية هذا الذي تسميه عملك، فكل ما وجدته هنا في لاوعيك جذاذات من الصور وأنصاف أحداث ووجوه غائمة، أحيانا ً أجد أسماء بلا وجوه !!! ربما هم من تتعامل معهم من وراء سماعة الهاتف ولم تر منهم إلا أسمائهم التي تبرق على شاشة الجوال، أليس هذا غريبا ً؟ أن تتحدث مع شخص أكثر مما تتحدث مع زوجتك، مع أنك لم تر ملامحه يوما ً، ولا تحتفظ في ذهنك عنه بشيء سوى اسمه البراق ونبرة صوته.

- هههههههههههههههههه، يا الله صباح خير، ألم تعدني بأننا سنتوقف عندما أصل إلى مكتبي لنرتب أعمالنا لهذا اليوم؟

- ظننت أنك ستصنع لك كوب قهوة كفاتحة لصباحك، ولكن لا بأس، لنبدأ.

- دعني أرى الآن، لدي بعض الأعمال المؤجلة بسبب زيارتي المفاجئة للمستودعات، بعض التعديلات المطلوبة في مشروع المالية، امممممممممممم، مشروع التنظيم الإداري لم نضع خطة له بعد، سأضعها وأعرضها على سليمان لأي تعديلات محتملة.

- هه... وكأنه سيهتم – بابتسامة خبيثة -.

- ومشروع المستودعات، هناك الخطة، سأسأل زيد عنها، وهناك استكمال اجتماع الأمس مع المدير.

- السلام عليكم، صباح الخير – هذه من سليمان الذي دخل الآن مشبعا ً بالدخان -.

- وعليكم السلام، صباح النور.

أنا: سلامات.

سليمان: الله يسلمك، لا... شيء بسيط.

أنا: ما ترى بأس.

سليمان: ها... كيف الأحوال؟ ما الجديد؟

أنا: اتصل ناصر بالأمس.

سليمان: ماذا يريد؟

أنا: كان يسأل عن مشروع المستودعات، قال إن تحليلنا غير مقبول لأننا لم نجتمع مع مدير المستودعات، واضطرني للذهاب إلى هناك والاجتماع معه، ولدينا اليوم موعد آخر معه.

سليمان: أوهوه... يا الله صباح خير، ما فائدة زيدان إذن – لا يوجد خطأ هنا، المقصود هو زيد، ولكن هذه هي التسمية التي يبادل سليمان بينها وبين ( الكلب) عندما يتحدث عن زيد -.

أنا: قلت له هذا، ولكنه قال أن زيد ليس من إدارتنا، وأننا يجب أن نأخذ المعلومات منه ومن المدير، لأن التحليل في النهاية سيوقع عليه المدير، وليس زيد.

سليمان: آعععععععه... ما هذه الفوضى؟ هل سنقوم بعملنا وعمل زيدان أيضا ً؟ هذا ما كان ينقصنا !!!

فهد: هههههههههههههههه، قم أنت بما هو مطلوب منك أولا ً، وبعدها فكر بمن سيقوم بأعمال الآخرين – أخفيت ابتسامتي التي كادت عبارة فهد أن تبديها، وتأملت سليمان الذي جلس على مكتبه، وهو يقلب لسانه بين الشتائم الاعتيادية -.

أنا: الاجتماع سيكون في العاشرة والنصف.

سليمان: أي اجتماع؟

أنا: مع مدير المستودعات.

سليمان: أنت الخير والبركة، والله ليس عندي استعداد للقاء ذلك البغيض، أخشى أن يعاودني المرض بسببه.

فهد: جميل... والآن انتقلت أعمال سليمان وزيد إليك، مبروك عليك هذا الفريق الفعال.

أنا لفهد بغيظ: حسنا ً... دعني الآن أنجز بعض الأعمال قبل موعد الاجتماع.

فهد: لماذا تتركهم يفعلون ذلك؟ – ونحن متجهان إلى مكتب مدير المستودعات – .

أنا: يفعلون ماذا؟

فهد: هذا التهرب من الأعمال وإحالتها إليك.

أنا: العمل يحتاج إلى من ينجزه، يمكنني أن أتمنى طيلة اليوم أن ينجز زملائي كل ما هو مطلوب منهم، ولكني لو انتظرت هذا الحلم أن يتحقق لتوقف العمل، ولوجدت بين يدي نصف عمل لا قيمة حقيقية له.

فهد: أليس هذا استغلال لك؟

أنا: ربما... أنا لا أعتبره استغلالا ً ما دمت أعرف هذا، وأنتبه له.

فهد: ولكنك لا تفعل شيئا ً لإيقافه.

أنا: لأنه لا يمكنني إيقافه، أحتاج لأفعل هذا إلى تغيير الأشخاص، تثقيفهم وتوعيتهم، وهذا أصعب، فلذا ألجأ للخيار الأسهل أن أقوم بالأعمال التي يتكاسلون عن إنجازها.

فهد: ولكن هذا الخيار لا يصير سهلا ً، مع الوقت تتراكم عليك الأعمال، تقل إنتاجيتك، تكثر أخطائك، وتصير القيمة الكاملة التي كنت تبحث عنها عن طريق إنجاز ما هو لك وما هو لغيرك أبعد مما تخيل.

أنا: ربما... ولكن الوقت الآن غير مناسب لمناقشة هذا – وأنا ألج مكتب مدير المستودعات -.

فهد: آه... – بعد صمت دقائق، ومتابعة متململة لحواري مع المدير – فهمت الآن لم َ فر سليمان من لقائه، هذا الرجل لا يطاق.

المدير: والله الأوراق لم أجدها حتى الآن – وصلت الجملة السابقة على ثلاث دفعات، الدفعة الأولى قاطعتها حركة سريعة للبحث عن دباسة، الدفعة الثانية قطعتها الورقة التي غاب رأسها في الدباسة في ذات اللحظة التي تدلى فيها لسان المدير خارج فمه، ليحاكي لا شعوريا ً ما تقوم به يداه، أما الدفعة الثالثة فجاءت بعدما طوح بالأوراق المدبسة لموظف أسمر بوجه شوهته البثور كان يقف عند المكتب منذ دقائق -، بحثت عنها بالأمس، لا أدري، أين ذهبت؟ محمد... محمد... – وهو ينادي الموظف الذي يستقر مكتبه خارج الباب ويكاد يسد طرفه، وكان يتسلى بتصفح موقع ( الزعيم) عندما دخلت – أين أوراق متابعة المخزون لشهر صفر؟ ابحث عنها عندكم، في الخزانة، هلا... – والآن يتحدث في الهاتف – هلا... أبو عبد الله، ههههههههههههههه، لا... الله يكفينا الشر، ههههههههههههه، لا... لا... لا عليك سأرسلها لك الآن، محمد... محمد – وقد أعاد السماعة إلى مكانها -.

أنا متطوعا ً: يبحث في الخزانة.

فهد: هههههههههههههههههه.

المدير: اها... حسنا ً، متى تتوقع أن ينتهي البرنامج؟

أنا: من الصعب تحديد هذا الآن، أحتاج إلى دراسة دورة العمل عندكم أولا ً، واستكمال الأوراق والنماذج الناقصة، وبعدها يمكنني تحديد الوقت.

المدير: اها... هذه أوراق ربيع الأول – وهو يتفحص أوراق مدها له محمد -، أنا أريد أوراق صفر.

محمد: لا يوجد في الخزانة أوراق لصفر، ربما هي في الخزانة الأخرى التي نقلت إلى المكتب الشرقي.

المدير: لا حول ولا قوة إلا بالله، اتصل ببدر ودعه يبحث عنها الآن، لا نريد تأخير الرجل – وهو يشير إلي -.

فهد بابتسامة خبيثة: ألا تلاحظ أنه نسي صاحب المكالمة.

فهد: يمكنني الآن – وقد خرجت أخيرا ً من مكتب مدير المستودعات، واخترت بعد تردد أن أذهب إلى المنزل عوضا ً عن العودة إلى المكتب للنصف ساعة المتبقية من الدوام - أن أفهم لم َ كنت تأتيني بكل ذاك التعب، لو كان هذا فقط ما تمر به في يومك لكفى.

أنا بسخرية: لم َ؟ يمكنك اعتبار هذا اليوم من أيامي الجميلة.

فهد: كل هذه الفوضى، كل هذه الأعمال المتداخلة، والتي ينقض بعضها بعضا ً، لا أدري أي مخبول يدير هذا المكان.

أنا: لا تستعجل، ستلتقي بكل المخابيل في الأيام القادمة.

فهد: ههههههههههههههههههههه.

أنا: والآن سأكون مقدرا ً لك كل التقدير لو خرست وتركتني أحصل على قيلولتي العزيزة.

فهد: حسنا ً... سأنتظر.

فهد: كل هذا الوقت لتستعيدني !!! – كنت قد نهضت من النوم، منذ ساعة مضت، وتناولت غدائي مع لينا، وها أنا أقف لأصنع كوب الشاي وأستعيد فهد مع مذاقه -.

أنا بسخرية ورشفة عميقة: إليك أحد اكتشافات وضعنا الخاص، عندما أتوقف عن التفكير فأنت غير موجود.

فهد: لم َ ترتدي هذا النوع من اللباس؟ - بعد لحظات، وقد اصطحبت كوبي ووقفت على عتبة باب غرفة الجلوس، أتأمل التلفاز ولينا التي كانت في ثياب نومها القصيرة، والتي ترتديها بشكل شبه دائم -.

أنا: ربما يعجبها.

فهد: هههههههههههههههه، هل جربت أن ترتدي يوما ً ملابس ضامرة؟ هل بدا لك الشعور فيها جيدا ً؟

أنا: تجاربي ليست مقياسا ً للآخرين – وأنا أتجه إلى مكتبي -.

أنا: آه... أوراق، وأوراق، وأوراق – وأنا أقلب أوراق الجد -، ذاكرتنا المثقلة بكل شيء – ثم بسخرية - هل تشعر بالحنين إلى الوطن بمناسبة الحديث عن الأوراق؟

فهد: هههههههههههههههههه – ثم بجدية -، ربما أنا في النهاية لست كائنا ً ورقيا ً، وإن نشأت هناك.

أنا: ربما... ولكن هذا ليس وقت تحديد هويتك، لدي هنا جد يريد أن يتحدث.

فهد بسخرية: يبدو لي كجد تريد استنطاقه.

أنا: ماذا تعني؟

فهد: بالله عليك... انظر إلى ما بين يديك الآن من عمل، انظر إلى أوراقك، منهج تاريخي متكامل، منهج نقدي أدبي خاص، وخطة عمل محكمة ومتميزة، لديك أدوات منهجية ولكنك لم تخط حتى الآن حرفا ً حقيقيا ً حول جدك.

أنا: لازلت في البداية.

فهد: ألم تتساءل لم َ تأخرت البداية كثيرا ً؟ لم َ انهمكت في كل شيء ممكن إلا الخوض في التاريخ، قلب أوراقك الآن، قلبها، ما الذي كتبته؟ جمعت وقائع حياته؟ ثم ماذا؟ أين هي الكتابة المتعمقة التي وعدت نفسك بها منذ اليوم الأول؟

أنا: كان لابد لي أن أصوغ منهجا ً قبل أن أبدأ، لا يمكن لي أن أفتح صفحة وأشرع في الكتابة المطلقة هكذا.

فهد: بالتأكيد... ولكن ألم تتساءل لم َ صرت تتثاقل هذا الأمر؟ لم َ صرت تجلس على مكتبك هذا مرغما ً، وتضيع وقت الكتابة الذي حان بالعودة لمنهجك تصوغه وتعدله؟

أنا: هذا شيء طبيعي، في كل مشاريعه يبدأ الإنسان بحماسة ومن ثم يفتر عزمه سريعا ً.

فهد: لم يفتر عزمك سريعا ً، نظرة واحدة إلى البناء الفلسفي الذي بنيته وأرسيته وها أنت تعود في كل يوم لتدعمه تقول هذا، لقد أنجزت أطول وأعقد مراحل مشروعك، فلم لا تجد في نفسك الآن تلك الحماسة للنهاية التي صارت أقرب من أي وقت مضى؟

فهد: يبدو أن هناك أسئلة كثيرة بلا أجوبة هنا، ويبدو أنه حان الوقت لتتوقف وتجيب بعضها.




Green Tea 10-09-09 09:51 PM







10

بدأ الصباح بزيارة من ماجد.

جاء من دون كوبه الشهير، يحمل لي أخبارا ً عن صراع جديد يدور في الإدارة.

لم يكن الصراع جديدا ً تماما ً، هذا ما انتبهت إليه وماجد يمضي في تفاصيل الأحداث، وإنما كان فصلا ً في صراع طويل بين رئيس الصيانة وغريمه رئيس مراقبة الجودة، وهو صراع لا يذكر أحد متى بدأ، وإن كان الجميع متأكدين أنه يعود إلى أيام حاتم، إن لم يكن أقدم.

سبب الصراع غير معروف تماما ً، وإن كان ماجد يجزم بأنه بدأ بشكوى قدمها رئيس الجودة لحاتم على قسم الصيانة، فيما يصر سليمان أن تلك الشكوى لم تكن البداية، وإنما كانت هناك أمور أقدم دارت بين الغريمين.

كانت الشكوى التي تحدث عنها ماجد تتعلق بتأخر كبير – شهور ثلاثة - في توفير أجهزة مهمة طلبها قسم مراقبة الجودة، وقام رئيس الصيانة بخبث بتحويل الطلب إلى أحد موظفيه المهملين، وما بين تأخر الموظف في إنجاز المعاملة لإهماله وتغيبه بين حين وآخر، والأخطاء النظامية التي كان يقع فيها مما يجعل رئيس القسم يعيد إليه المعاملة في كل مرة، مرت شهور أغاظت رئيس الجودة وجعلته يلجأ إلى حاتم.

وكعادته طلب حاتم الاثنين في اجتماع عاجل، جاءه رئيس الصيانة مدججا ً بالأوراق الرسمية التي تثبت أن التأخير سببه إهمال الموظف والأخطاء النظامية في المعاملة، فلم يكن أمام حاتم سوى أن يوقع عقوبة على الموظف المهمل، ويطلب تحويل المعاملة إلى موظف آخر، وينتهي الاجتماع بابتسامة رئيس الصيانة الخبيثة، وغيظ رئيس الجودة.

وكان على رئيس الجودة أن ينتظر نهاية السنة، ليقدم عندها التقييم المعتاد لجودة العمل في أقسام الإدارة المختلفة، ولكن تقييمه هذه المرة لقسم الصيانة جاء مدققا ً، ومفصلا ً لدورة العمل في القسم، مشاكله، مدعما ً بأوراق حصل عليها من داخل القسم بطريقة غير معروفة، مما جعل حاتم يتدخل في القسم ويبقيه تحت إدارته المباشرة لعدة شهور، مع الكثير من التعديلات التي لم تعجب رئيس الصيانة وإن تقبلها بصبر عجيب.

وكان على هذين أن ينتظرا انتقال حاتم، وأن يتوافقا مع رؤساء الأقسام الأخرى من بعده – وهي المرة الأولى والأخيرة التي يتفق فيها كل هذا الخليط المتنافر – على أن يتولى الأستاذ ( محمد) أو ( أبو نايف) الإدارة، ليستأنفا معاركهما في ظل طيبة وتعامل ( أبو نايف) المتسامح.

كان ماجد متحمسا ً ويروي بطريقته الغريبة والتي تملؤها التفاصيل غير اللازمة، والإحالات التي يضطر إلى الخروج عن الموضوع لشرحها عندما يكتشف عدم إلمام السامع بها، هذا غير أسلوبه في العودة في كل مرة لنقطة ماضية للإضافة لها أو تعديلها، مما يجعل أي حكاية يرويها مفتوحة دائما ً لأي تعديلات ممكنة، تشمل أحيانا ً تعديل الشخصية المحورية.

- .... طبعا ً رفضا هذا الحل، وقال عبد العزيز – هذا رئيس الجودة – بأنه لا يمكنه إخلاء المكان، وأن موظفيه يحتاجون كل المساحة، رغم أني رأيت الغرفة ولم يكن فيها على اتساعها سوى مكتبين فارغين، عاد صالح – وهذا رئيس الصيانة - إلى ( أبي نايف) من جديد، لا استغفر الله، كان فيها ثلاثة مكاتب، خلطت بينها وبين غرفة أخرى، المهم أن عبد العزيز قام بنقل عاجل لبعض الموظفين إلى الغرفة، وكذلك آلة التصوير الكبيرة، ليثبت حاجته للغرفة واستخدامه لها، المهم ذهب عبد العزيز إلى ( أبي نايف) وهدده بأن الأجهزة ستلقى في الممرات عند وصولها ولن يكون هناك مكان لتخزن فيه – المقصود هنا طبعا ً صالح وليس عبد العزيز، ولكن ماجد لم ينتبه لخطئه بعد -، عاد ( أبو نايف) ليقترح وضعها في الغرفة الشمالية، فرفض عبد العزيز، أقصد صالح – وها قد صححه -، لأن الغرفة بعيدة وغير مهيأة، وإن أردت الحق فالغرفة مناسبة وكبيرة، والأجهزة ستوضع هناك للتخزين وليس للاستخدام اليومي، فلذا لا مشكلة لو كانت الغرفة بعيدة قليلا ً، ولكن كما قلت لك الأمر كله عناد بين صالح وعبد العزيز...

* * *

انتهت حكاية ماجد فغادر – لعله يدرك شخصا ً آخر في الإدارة لم يسمع بالحكاية فيرويها له – ولكنه استل في طريقه أحد مغلفات الشاي من العلبة الكبيرة – يبدو أن كوبه استحق امتلاء ً جديدا ً بعد كل هذا الهذر -.

عدت لأوراقي التي اقتنصني ماجد من بينها.

فهد: وااو... ما كل هذه الصراعات؟

أنا: هذا هو الوضع الطبيعي، لا أذكر أنه كانت هناك فترة بلا صراعات، أو حروب معلنة أو غير معلنة.

فهد: كيف يمكنك التعايش مع هذا الوضع؟

أنا: وما شأني أنا؟ أنا لست طرفا ً في أي صراع والحمد لله.

فهد: لا تحتاج إلى أن تكون طرفا ً في أي صراع لتتأثر به، هذه الصراعات تدور في الإدارة التي تعمل فيها، فلذا عندما ينشب صراع بين رئيس الصيانة ورئيسك ستجد نفسك بكل بساطة بلا صيانة، ومعرض للعطل في أي لحظة، حتى في الصراعات التي تدور في الأقسام الأخرى، إن مجرد العمل في جو مشحون بالصراعات والدسائس والمؤامرات لأمر مقلق للروح والعقل، وقد تجد نفسك في أي لحظة مشتركا ً من غير إرادتك في إحدى المواجهات.

أنا: هذا صحيح، فلذا أنا أقوم بعملي فقط، وأقوم به على أفضل وجه ممكن، وأبقي نفسي على مسافة مناسبة من الجميع، بحيث لا يمكن لأحد أن يشركني في صراعاته.

فهد بسخرية: وتردد اللهم سلم سلم.

أنا: وماذا تريد مني أن أفعل؟ أعقد اجتماعا ً تربويا ً أحض فيه رؤساء الأقسام والموظفين على التعاون بدلا ً من الصراع؟

فهد: ربما... وربما تحتاج هذه الإدارة إلى مدير آخر من طراز حاتم.

أنا: أعوذ بالله، هذا وأنا أحمد الله أني لم أعاصره.

فهد: وماذا تعرف عنه؟ هاه؟ لا شيء... فقط ما ينقله لك هؤلاء الموظفين المستمتعين بالكسل والفوضى، وهم كما أرى لن يمتدحوا من سيفرض عليهم النظام والدقة والإنجاز، إذا أردت أن تعرف الرجل حقا ً فألق بكل ما قالوه لك عنه، ألق بكل آرائهم، بكل حكاياتهم التي صاغوها عنه في غيابه، ألقها كلها، لأنك لن تراه عندها إلا من خلال عيونهم، من خلال أهوائهم، من خلال ما يريدونه هم منه، لا ما كان، وعندما تتخلى عن كل هذا التراث المتراكم، المشوه، المتناقل، يمكنك عندها أن تقترب من الرجل من خلال آثاره، ستجد لمساته في كل شيء في هذه الإدارة، أبحث في الأنظمة التي صيغت في عهده، أبحث في المشاريع التي أدارها، وقارن بين حالها عندما كان موجودا ً، وحالها بعدما غادر وتركها لهؤلاء، وبعدما تستوفي بحثك هذا، يمكنك عندها أن تقول بأنك عرفت عنه شيئا ً، ويمكنك حينها أن تقر بأنه كان مديرا ً جيدا ً، وإن كان صارما ً، أو تقر معهم بأنه كان ( علة باطنية).

* * *

شغلني ما قاله فهد، فتوقفت عن تقليب ورقتي الصغيرة والعبث بحوافها، ونهضت إلى خزانة حشرت في إحدى زوايا الغرفة، وفتحت بابها الخشبي - الذي كسرت إحدى مفاصله في واحدة من مزحات سليمان الثقيلة مع زميلنا البدين عيسى، والتي تنتهي غالبا ً بخروج عيسى حانقا ً تصحبه شتائم لاذعة من سليمان – ، وانتقيت منها ثلاثة ملفات قديمة تغص بأوراق إدارية مختلفة تعود إلى عهد حاتم.

بدأت بتقليب الملف الأول والذي كان يضم القرارات الإدارية التي صدرت في تلك الفترة، التكليفات الرسمية، التوجيهات التي تطال كثيرا ً من تفاصيل العمل في القسم، الإنذارات، كنت أقفز عدة أوراق ثم انهمك بقراءة ورقة صيغت صياغة حسنة وكأنها كتبت بيد خبير قانوني، يحدد من المسئول عن من، ومن المسئول عن ماذا.

تناولت الملف الثاني لأجد نفسي غارقا ً في محاضر اجتماعات توثق تاريخ الاجتماع والحضور والنقاط التي تناولها، والنتائج التي خلص إليها، ثم مرفق بها كل ورقة لها علاقة بالاجتماع أو كانت من نتائجه ولو بعد حين.

مبهورا ً تناولت الملف الثالث لأجد فيه أكداسا ً من إجراءات العمل في الإدارة، ودورة العمل، ووصفا ً لمهام فرق العمل في عدد من المشاريع القائمة في حينها.

كانت الإدارة بين يدي الآن، كان يمكنني فهم أي مشروع، الهدف منه، ومراحله، والمشاكل التي مر بها، ونتائجه، بمجرد تقليب هذه الأوراق، كان بين يدي كنز من المعلومات المهمة والمفيدة لأي موظف في الإدارة، ولكنه كنز تُرك ليعلوه الغبار في هذه الملفات الكئيبة.

للمقارنة انتقيت أحد الملفات الحديثة وبدأت بتقليب أوراقه، كان خليطا ً متنافرا ً من الأوراق، كان يضم خطابات مختلفة، مع بعض القرارات الإدارية، مع محاضر اجتماعات لمشاريع متعددة، كان عبارة عن مجموعة أوراق إدارية بلا هوية واضحة، وبلا هدف، وضعت في هذا الملف لمجرد الحفظ، وتحسبا ً للحاجة لها في يوم من الأيام.

* * *

كان رأسي مثقلا ً عندما نهضت من قيلولتي المشحونة بأحلام ميتة – كتبت ذات يوم فيما بدا لي كشفا ً عظيما ً حينها ما معناه، كل الأحلام التي تذوب وتختفي في لحظات اليقظة الأولى مخلفة شعورا ً غامضا ً، هي أحلام ميتة، عوالم آفلة من الصور والأصوات الغامضة التي لا يمكنني استعادتها، أما الأحلام التي تبقى فهي أحلام حية، يمكنني استعادتها لو أردت، ما دامت موجودة في ذهني، وكل ما علي فعله أن أتمسك بها في لحظات النعاس لأجدها في اللجة الناعمة، ولكني بعد محاولات طويلة ومرهقة فشلت فيها في استعادة حلم وحيد وبسيط، كنت أمشي فيه وسط ممر طويل مشجر وممتد، صرفت الفكرة عن استعادة أحلام أعقد وأكثر ثراء ً بحيث بدا أحدها كحياة أخرى عشتها ذات يوم -.

كانت لينا قد أعدت الغداء، ولأنني كنت مثقلا ً، ولأنها كانت مشغولة باختبار ما، بحيث وزعت لقيماتها بين صفحات مذكرة وضعتها مطوية إلى جانبها، مر الغداء بصمت كئيب.

قطعت صمتي عندما انتهينا وعدت بيدين مبللتين وكوب الشاي العتيد، وكانت هي لا تزال مدفونة بين صفحات المذكرة:

أنا: لديك ِ امتحان غدا ً؟

لينا: امممممم.

أنا: وكيف استعدادك ِ له؟

لينا: لا أدري، درجتي في الامتحان الأول كانت منخفضة، وأحتاج إلى التعويض حتى لا أحمل المادة.

عدت إلى الصمت عندما لم أجد شيئا ً أقوله، واكتفيت بتمرير أصابعي على زجاج الكوب المحرق، وتأمل ملامح لينا الغارقة وشفتيها اللتين ترددان الكلمات بخفوت.

فهد: آآآآه... كم أشعر بحاجتي للتثاؤب عندما استمع لأحاديثكما معا ً.

أنا بسخرية: آسف لأننا لا نتحاور كما تريد.

فهد: أنتما لا تتحاوران أصلا ً، أنا قلت حديثكما ولم أقل حواركما، فما يدور بينكما لا يرقى لأن يكون حوارا ً، وإنما مجرد أحاديث، جزء منها ( أحاديث معيشية)، وأجزاء أخرى ليست إلا ثرثرة عن ما يدور لكما أو حولكما، ليس لديكما ذلك النوع من الحوار الذي يناقش فكرة أو حدث منفصل عنكما، وليس لديكما ذلك النوع من البوح الفكري الذي تعبران فيه عن أفكاركما، ولا ذلك البوح العاطفي الذي تعبران فيه عن عواطفكما وما تشعران به.

أنا: وماذا في ذلك؟ الحوار الذي تطمح إليه وتتحدث عنه يحتاج إلى محاور يقترب مستواه الثقافي من مستواي، وإلا فلا معنى ولا جدوى منه، ولينا ليست هذا المحاور فلذا الحوار معها حول موضوع ثقافي أو فكري لن يكون إلا سردا ً للأفكار من جانبي، أما البوح العاطفي فأظن أننا نستعيض عنه بوسائل أخرى، فخجل لينا يجعل استخدامنا للكلمات محدودا ً.

فهد: ولكن هذا يعني أن أقرب شخص لك افتراضيا ً، بعيد عن جزء كبير من حياتك، لا يمكنه الوصول إلى أفكارك، لا يمكنه فهمها، هذا قد يبدو لك الآن أمرا ً عاديا ً ومعقولا ً، فأنت أردتها زوجة لا مفكرة، ولذا كانت مواصفاتك في هذا الاتجاه، ولكن لتفكر بحالكما بعد عشر سنين، تخيل حجم الهوة التي ستفصل بينكما، أنت بعقلك الذي يتطور بسرعة ويقفز قفزات هائلة، وهي بعقلها النامي ببطء، وغير القادر على استخلاص التجارب وتطويرها، هذه الفجوة لن تكون فكرية فقط كما هي الحال عليه الآن، وإنما ستكون مادية أيضا ً، تخيل حجم الفجوة في تربيتكما لأبنائكما، أسلوبك وطريقتك المبنية على أسس نظرية وتجريبية خاصة بك، وأسلوبها الذي سيكون وريثا ً للبيئة التي جاءت منها والتي تعيش فيها، والآن كم مرة ستحتاج فيها أن تصطدم بها وأن تجبرها على انتهاج أسلوبك وطريقتك – فهي لن تقر كل أساليبك -، وقس هذا على كل شيء آخر مادي في حياتكما، هذه الفجوة قد تبتلع زواجكما في النهاية.

أنا: يا لتشاؤمك !!! لماذا تفترض أن عقليتها ستتطور ببطء؟ لا تنسى أنها هي من سيتعامل مع الأبناء بشكل يومي ومباشر، هذا أشبه ما يكون بتدريب وخبرة متنامية، ربما أفضل من خبرتي أنا، من سأكتفي بالتحديق عن بعد والتنظير.

فهد: هل تظن بأنها ستتعامل مع أبنائها كما يتعامل العالم !!! ترصد، تسجل، وتحلل !!! ههههههههههههههه، كل الخبرة التي ستحصل عليها خبرة عملية، خبرة خام، لا يمكن تحويلها إلى نظرية أو فكرة مجردة، ولذا ستجد أنها شبه جديدة مع كل طفل.

أنا: يمكن لي أنا أن أكون عاملا ً مساعدا ً لها في تطوير ذاتها.

فهد: بالتأكيد... دعني أتخيلك قليلا ً، مع كل تلك الهوة التي تفصل بينكما، تتوقف في كل يوم لتعيد تصحيح تصرفاتها وأفكارها حول كل شيء في حياتكما، ودعني أتخيل صبرك الطويل على هذا، ومقاومتها الأكيدة والمحتمة للتغيير، وغضبها من كل هذه الانتقادات التي توجهها لها، أخبرني كم صبرا ً؟ كم لطفا ً؟ كم حلما ً ستحمل في إهابك؟

أنا: أظن أن هذه هي الحياة الزوجية في معناها، محاولة الرجل والمرأة، الزوج والزوجة التوفيق بين اختلافاتهما لصالحهما ولصالح أبنائهما، تقديم التنازلات من هنا وهناك، يسمع الزوج لزوجته، وتسمع هي له، ويمكن للحياة أن تسير.

فهد: وماذا إذا كانت اختلافاتكما أكبر من أن يظلها سقف، ماذا إذا صارت الحياة تنازلات أليمة، هل أنت مستعد لتتحملها؟ لأني أخبرك أنها لن تفعل، وأنك ستسمع تحت سقفك زمجرتها في كل يوم.

أنا: حسنا ً... وما الذي تريدني أن أفعله؟

فهد: اكسر دائرتها المغلقة الآن، تحدث معها، حاورها، سرب لها أفكارك حول كل شيء وأي شيء، وافتح لك دربا ً إلى أفكارها، هذا سيقلص المسافة بينكما، وسيخفف الهوة المنظورة في المستقبل.

أنا: وماذا عن الهوة التي تفصلنا الآن، كيف يمكنني أن أطويها؟ كيف يمكنني أن أحدثها عن أشياء كثيرة وعديدة تشغلني، ولا أشعر بخيبة الأمل للسذاجة الكبيرة التي ستقابل بها أفكاري؟

فهد: هذه الهوة ستكون أكبر منك في يوم ما، وعليك الاختيار إما الآن أو أبدا ً.

رفعت لينا رأسها، وابتسمت:

- ما بك؟

- هه.

- مرت فترة لا بأس بها وأنت صامت وتتأملني، هل هناك شيء؟

- لا... لا... سلامتك.

غادرت غرفة الجلوس، كان كوب الشاي لا يزال يحتفظ بدفئه، ولكني مع ذلك وضعته في حوض المطبخ بشهية ناضبة، وقصدت مكتبي.

كنت متعبا ً بما يكفي لأنبذ أوراق الجد بعيدا ً، وأترك قدمي تحتلان المساحة إياها التي لطالما احتلتها قصيدة ( ذياب الجرادي)، ومخطوطة العم البعيد.





Green Tea 13-09-09 03:47 PM






11

فهد بخبث: هل هو التعب حقا ً؟ أم أن هذا الجد ما عاد يستهويك؟

أنا بخمول: أظنك رأيت كيف كان اليوم ثقيلا ً.

فهد: وها أنت وحيد بين كتبك وأوراقك، فلم َ لا تستعيد يومك؟ لم َ لا تقلب أوراق جدك ومساراته، وتختار أحدها؟

أنا: حسنا ً... تريد أن تقول لي أني فقدت اهتمامي بالكتابة عن جدي، يمكنك قول هذا مباشرة والتوقف عن هذا التلاعب الممل.

فهد: ما أريد قوله هو ليس أنك فقدت اهتمامك فقط، وإنما فقدت ما هو أخطر، إيمانك به.

ثم أكمل بحماس: انظر إلى الأحداث التي جمعتها حول حياته، فرغم أن أكثرها لا يرد إلا في مخطوط عبد الرحمن بن عثمان، إلا أن الأحداث القليلة التي وردت في كتاب ( التبيين)، وهو كتاب ضعيف جدا ً كما تعرف، تنقض بعضها تماما ً، وتشكك وتضعف أخرى، هذا غير أن هذه الأحداث التي تحتاج إلى التحقق بشأنها، لا تستحق هذا الجهد، فهي ليست إلا معركة قبلية هنا، أو سطو على خراف هناك، وهذا ما يؤلمك حقا ً وتخفيه في نفسك ولا تبديه، فهذا الجد في النهاية لا يستحق كل هذا الجهد، وليس له تاريخ يصمد أمام الآلة النقدية والفكرية التي أعددتها، وأنت الآن تدرك أن ما سيخرج لك إن تركت جدك هكذا، عاريا ً أمام كلماتك، ليس إلا أشلاء تاريخ وإنسان وحكايات منظومة.

عاد ليكمل عندما لم أرد: أتعرف أي مأزق أوقعت نفسك فيه الآن؟ أتعرف ما الذي تشعر به؟

توقف مرة أخرى ليضفي على كلماته أهمية أكبر: تشعر بالتمزق ما بين عاطفتك تجاه جدك البعيد، وعقلك الذي ينبذه وينبذ كل ما يمثله هذا الجد من أفكار وثقافة.

فهد: تشعر بالفقد... لكل هذا الميراث الذي سيكون عليك تصفيته، وإحراقه أو دفنه في أحسن الأحوال.

فهد: وبالحزن... لأن جدك لم يكن زعيما ً كما تخيلته، وأن نفوذ والدك الآن أعظم وأكبر من نفوذه، وبالضيق لأن أشعاره لا قيمة أدبية لها، وأن ترديد العائلة لها هو ما جعلها مستساغة في أذنيك، وحتى قصيدة ( ذياب الجرادي) والتي لا دليل لديك بأنها من قصيده، وليست موجودة في ديوانه، لا قيمة كبيرة لها، هذا غير أن ( ذياب الجرادي) نفسه شاعر مداح مدح الجميع، وهذا ما يجعل مدائحه بلا قيمة كبيرة فنيا ً ومعنويا ً.

فهد: وبالقلق... من مصير هذا الكتاب الذي صيرته العائلة بين يديك، وأنت تدرك الآن بأنك لن تكتبه أبدا ً، كيف ستخبرهم بأن هذا الكتاب لن يكون؟

* * *

احتجت إلى عدة اتصالات حتى يرد علي ( أبو خالد)، جاءني صوته العجول:

- هلا يا شيخ، كيف حالك؟

- هلا... الحمد لله بخير، كيف حالك أنت؟

- الحمد لله... بشّر؟ هل انتهيت؟

- لا... لدي بعض الأسئلة ومحتاج للقاء بك.

- حياك الله، مر بي في المنزل غدا ً أو بعد غد، اليوم الذي يناسبك.

- أفضل أن تزورني أنت في منزلي.

- ما يصير بارك الله فيك، زرتك المرة الأخيرة، وهذه المرة دورك، ثم – وهو يضحك – العلم يؤتى ولا يأتي.

- على خير إن شاء الله، يناسبك غدا ً بعد المغرب؟

- على بركة الله.

وهو ما كان، وضعت المخطوطة والكتب التي أعطاني إياها، مع أوراقي التي سردت فيها أحداث حياة الجد، فيما كان مقدرا ً له أن يكون الفصل الأول من الكتاب، وقصدت المنزل الكائن شمال الرياض.

كان الحي جديدا ً، ويبدو أن المنزل شيد حديثا ً خلال السنوات القليلة الماضية، فالطريق الذي اضطررت إلى خوضه كان مليئا ً بفواصل أسمنتية تحدد الطريق، وحفريات واسعة، ومنازل متناثرة بينها مساحات لا بأس بها من الأرض الخالية.

أما المنزل فكان دلالة جيدة على أن ( أبا خالد) عتيق في ذوقه واختياراته، فرغم حداثة عهد المنزل، إلا أن كل شيء خلاف هذا قديم، خطوط البناء، واجهة المنزل الخارجية، تصميمه الداخلي، وحتى الأثاث بدا غير متناسق وبألوان كئيبة.

قادني طفل صغير – استقبلني بملابسه الداخلية - إلى الملحق الخارجي، وركض يستدعي أباه، فيما بقيت أنا واقفا ً أتأمل الغرفة الواسعة بموقدها الحجري، والذي ملأت فراغاته أدوات تراثية، لا ريب أنها استهلكت وقتا ً لا بأس به في البحث عنها واختيارها.

دقائق وجاء ( أبو خالد) مرحبا ً، يتبعه ابن له - تذكرت ملامحه بالكاد من اجتماعنا السنوي – يحمل القهوة، وبعد السلام والفنجال الأول، استجمعت كلماتي المترددة في جوفي لأرد على سؤال ( أبو خالد):

- بشّر؟ كيف الكتاب؟

- والله يا أبو خالد – بتنهيدة وهزة رأس تساعدان على بيان قلة الحيلة -، الأمور ليست كما أردتها للأسف.

- أفا... سلامات !!؟

- الله يسلمك... الأمر هو أني بدأت بداية طيبة في قراءة المصادر التي أعطيتني إياها، ورسمت لي خطة للكتابة، ولكني وقد تعمقت الآن في الموضوع، لم أعد أجد لدي الرغبة في الاستمرار.

- تكاسلت !!! يا رجل لم يعد باقيا ً إلا القليل، أجزم وتوكل وربك يعين.

- لا... ليس الأمر تكاسلا ً، الأمر عدم رغبة، هناك أشياء لست مقتنعا ً بها في سيرة الجد، فلذا لا أرغب في كتابتها، والمشكلة أني إذا لم أكتبها فلن يبقي شيء من السيرة.

- لم أفهم !!! ما هي الأشياء التي لست مقتنعا ً بها؟

- انظر هنا مثلا ً – وقد أخرجت أوراقي التي تلخص الأحداث -، يقول الشيخ ( عبد الرحمن بن عثمان) أن جدنا كان مع الركب الذين خرجوا على الوائلي، ويحدد هذه الحادثة بعام 1259 هـ ويورد أبيات للجد حول هذه المعركة وما جرى فيها، ولكن هنا في كتاب التبيين – وفتشت عن رقم الصفحة التي دونتها في أوراقي – يذكر المؤلف أن المعركة كانت في عام 1255 هـ، وأن المعركة التي كانت في عام 1259 هـ ليست هي ذات المعركة وإن جرت في ذات المكان، وهذه المعركة هي التي شارك فيها الجد، والآن إما أن كتاب التبيين مخطئ، أو أن الجد بكل بساطة شارك في معركة بلا قيمة، وأدعى أنه شارك في معركة أخرى جرت في ذات المكان ولكنها ذات قيمة كبيرة.

- الله المستعان... أتركك من كتاب التبيين، ففيه خلط كثير، ثم هل يعقل أن لا يعرف الناس من شارك في ركب الوائلي ومن لم يشارك؟ بحيث يكون من اليسير لأي أحد أن يدعي أنه شارك في هذه المعركة أو تلك.

- ولكن يا أبا خالد – وأنا أقلب الورقة لأقرأ ما كتبته في قفاها – أنا رجعت إلى موسوعة ( المعارك والغارات النجدية) للمحتم، ووجدت فيها أن معركة الوائلي كانت فعلا ً في عام 1255 هـ، وهذا معناه أن الجد كان عمره حينها 12 سنة، وأنه لم يشارك فيها رغم أبياته عنها.

- عجيب !!!

- وليس هذا فقط، هناك أشياء كثيرة أخرى دونتها في هذه الأوراق، هنا مثلا ً يقول الشيخ عبد الرحمن في المخطوط أن الجد صالح اختلف مع أخيه الأكبر مساعد، وأن العم مساعد كان يترصد للجد ويغري به ابن دهيش ولذلك أخرجه الجد صالح من الريلية مع أبنائه حمود وحسن، ثم أجد في كتاب ( أخبار نجد ورجالاتها في القرن الثالث عشر) أن إخراج الجد صالح لأخيه كان لخلافهما على مزرعة.

- الله يهديك... لا تكن حاطب ليل، ليس كل ما يكتب في هذه الكتب حقيقة، لو أنك التزمت أحسن الله إليك بمخطوط الشيخ عبد الرحمن، مع توثيق بعض التواريخ والأحداث من مصادر موثقة، لم َ وجدت كل هذا العناء في تأليف الكتاب.

- أي مصادر موثقة؟ أقول لك أنا رجعت للموسوعة، ولكتاب ( أخبار نجد) ووجدت بعض ما فيها ينقض ما كتبه الشيخ عبد الرحمن، حتى لم يعد لدي الآن شيء لأكتبه عن الجد صالح، وسأضطر إن مضيت في هذا الكتاب أن أنفي الكثير من الأحداث المشهورة عنه.

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

- طيب... اسمع – بعد تأمل من أبي خالد، رافقه تحسس لمنابت لحيته التي بدأ الشيب يخالطها – أكمل أنت الكتاب، وبعد هذا أعطني إياه، وأنا أعدل عليه وأضيف له ما يفتح الله به.

- لا... أنا لا يمكن أن أكتب شيئا ً لم أقتنع به.

- لا بأس... اكتب ما تريده، وأنا سأعيد صياغة الكتاب بعدما تنتهي بما يناسب.

- وما الفائدة؟ لم َ أضيع الوقت في الكتابة ما دمت ستعيد أنت الكتابة من جديد ! لم َ لا تكتب أنت الكتاب، هذا هو المخطوط، وهذه هي الأحداث كما لخصتها أنا، وهذي نسخ من كل أوراقي يمكنك الاستفادة منها.

- المشكلة في الوقت، لو كنت متفرغا ً لكتبت الكتاب من البداية – قالها بحسرة -.

- لعلك تراجع نفسك في الموضوع – أكمل بعد تنهيدة -.

- أنا لم أتصل بك يا أبا خالد إلا بعدما راجعت نفسي جيدا ً، وقلبت الأمر في ذهني، واقتنعت بأني لا يمكن أن أتم الكتاب.

- لا حول ولا قوة إلا بالله... المشكلة أن الجميع متحمسين للكتاب، ويريدونه مطبوعا ً في اجتماع العائلة القادم، ولا أدري الآن ماذا سنقول لهم؟

- يمكن للكتاب أن يكون جاهزا ً في موعده، لو أنك وجدت أحدا ً يتفرغ له في الأيام القادمة بالاعتماد على المخططات والملخصات التي وضعتها.

- يصير خير – قالها بحنق -، هات الأوراق وسأنظر أنا في الأمر، عسى أن أجد من يتكفل به.

* * *

بدت لي نتيجة اجتماعي بأبي خالد وتخلصي من هذا المشروع البائس مناسبة تستحق الاحتفال، لذا اتصلت بلينا حال خروجي من منزله، وطلبت منها أن تستعد للخروج بعد صلاة العشاء مباشرة.

لم يكن هناك مكان محدد نذهب إليه، ولذا فكرت بجولة في الرياض مع كوب قهوة، ومن ثم عشاء في أحد المطاعم الفاخرة، والتي احتفظ بأسمائها في قائمة بجوالي، وأحرص على تجربتها واحدا ً تلو الآخر.

بعد الصلاة احتاج الأمر إلى اتصالين متقطعين لتخرج لينا متسربلة بعباءتها، قالت وهي تسحب العباءة بحرص حتى لا يغلق عليها الباب – بعد المرة التي كنست فيها عباءتها نصف الرياض، صارت أكثر حرصا ً في الركوب -:

- شكرا ً... لقد أنقذت ليلتي، كنت أشعر بملل شديد، وكنت أقلب خياراتي ما بين أن أشاهد التلفاز وأتعشى شطيرة جبن، أو أن أتصل بصديقة لأثرثر معها.

- هههههههههههههه، عليك ِ أن تشكري أبا خالد إذن، فخروجنا اليوم هو احتفال بتخلصي من كتاب جدي وإعادته إليه.

- غريب !!! ظننت أنك متحمس لكتابة ذلك الكتاب.

- كنت متحمسا ً له.

- وما الذي غير رأيك؟

- أشياء كثيرة اكتشفتها وأنا أحاول تأليف الكتاب، يمكنك ِ أن تقولي بأني اكتشفت بأن هذا الجد لا يستحق أن أؤلف عنه كتابا ً.

- حسنا ً... وما الذي سيحدث الآن للكتاب؟

- لا أدري، لا ريب أنهم سيبحثون عن ضحية جديدة له.

لم تقل شيئا ً، والتفتت تتأمل الطريق، فيما انحرفت أنا مع شارع طويل، كان في الشارع المعاكس له مقهى جيدا ً يقدم خدمة السيارات، وكان يمكنني ملاحظة الصف الطويل من السيارات المنتظرة، فلذا قررت التخلي عن تكاسلي والترجل للحصول على القهوة بنفسي.

اختارت هي نوعا ً مثلجا ً من القهوة ذو اسم مرعب، فيما اكتفيت أنا بالمخا الساخنة – الموكا لسريعي النسيان -، ودخلت المكان الذي يحمل رائحة... حسنا ً رائحة القهوة.

كان المحاسب الذي يرتدي مئزرا ً قاتما ً، شاب أسمر بلحية تطوق الفم فقط، وتترك الخدين أملسين، ونظارات ضخمة بلون الفضة تخفي عينيه تماما ً وتمنحه منظرا ً غريبا ً، نقر الطلب بسرعة على آلته وتناول المال مني بلا أي كلمة، ثم تحين لحظة فراغه هذه ليقفز من كرسيه ويتناول علبة حليب ويقف ليساعد زميل له ذو عينين ضيقتين وابتسامة لئيمة.

- ها... عم َ ستتحدثان في هذه الليلة الجميلة – كان هذا فهد وقد استغل انشغالي بتأمل الفاتورة -.

- يمكننا أن نتحدث عن أي شيء.

- كم أتوق لذلك.

تجاهلته وفضلت أن انتظر القهوة بصمت، وعندما عدت إلى السيارة كنت أفتش في ذهني عن موضوع يمكنني إثارته والتحدث مع لينا عنه.

كانت المواضيع تتساقط مع كل خطوة، ولذا ركبت السيارة بذهن خال ٍ واكتفيت بارتشاف القهوة وانتظار أن تفتح لينا موضوعا ً.

بعد أن لهت قليلا ً بمشروبها البارد، قالت وهي تضعه في حاملة الأكواب:

- من اتصل بي اليوم؟ توقع !!!

- من؟

- أريج.

- أريج؟

- صديقتي في الثانوية، أخبرتك عنها من قبل، التي توفي والدها العام الماضي.

- اها، تذكرتها، كيف حالها؟

- الحمد لله بخير، وأخبرتني بأنها خطبت لابن عمها منذر.

- منذر !!! ايه... الله يوفقهم.

- الله يوفقها، كانت تقول لنا في الثانوية أدعو لي يا بنات إني أتزوجه، يا حليلها، الله يهنيهم.





Green Tea 13-09-09 03:49 PM





12

اخترت مقهى جديدا ً هذا الأسبوع، طاولة دائرية تجنبتها الأضواء فغرقت في عتمة زاوية بعيدة، لا يؤنس وحدتها وانفرادها إلا مقعدين متقابلين، ومناديل مطوية.

زارني نادل المقهى ثلاث مرات، وفي كل مرة كنت استمهله قليلا ً، وأعود إلى رواية جوزيه ساراماغو ( سنة موت ريكاردوريس) لأتابع ذلك الطبيب البرتغالي الذي عاد من غربته البرازيلية، ليلتقي بشبح الشاعر البرتغالي الكبير ( فرناندو بيسوا) الذي ابتدعه ذات يوم.

استسلمت أخيرا ً وبحنق للنادل، فطلبت موكا ساخنة، وعدت للسطور المكتظة للرواية – حيث كان ساراماغو يصر على تجاهل الفواصل والمسافات -، محاولا ً التركيز مع الضجيج الذي بدأ يتصاعد مع دخول أربعة من ذوي الرؤوس الضائعة – ضاعت وسط كل ذلك الشعر المجعد الذي يغطيها- وهم يتحدثون ويضحكون بصخب لا يتبدد.

تقلبت ما بين الصفحات، والموكا، وجوالي الذي ينتظر اتصال حسن – ليسألني عن المكان أو ليعتذر عن الحضور -، وتأمل الناس من حولي، ثرثرتهم التي يصلني جزء منها، فتبدو لي بكل تلك التقاطعات والكلمات الناقصة كهذيان.

- السلام عليكم – كان هذا حسن الذي حط على رأسي فجأة -.

- وعليكم السلام، من أين جئت !!! لم أرك وأنت تدخل !!!

- هههههههههههههههه، هذا لأنك كنت هائما ً، وعلى وجهك نظرة تأملية سخيفة.

- لم أكن أتأمل، كنت أفكر فيك، فلذا بدت ملامحي سخيفة.

- ألم تطلب لي بعد؟ – وهو يقلب القائمة التي جلبها له النادل البغيض –

- لا... دلل نفسك هذه المرة، اختر شيئا ً مختلفا ً، وإلا ستموت ولم تذق إلا الموكا.

- اها... حسنا ً، شورك وهداية الله، سأجرب الموكا.

- يا أحمق !!! نحن نشرب الموكا كل خميس، جرب شيئا ً آخر.

- امممممم، أنت ماذا طلبت؟

- موكا – بصبر -.

- قهوة إيطالية – قلتها للنادل بنفاد صبر وأنا انتزع القائمة من يد حسن -.

- كيف حالك؟ - سأل وهو ينتزع منديلا ً، ويمسح به وجهه -.

- الحمد لله بخير حال.

- وكيف حال كتابك السحري؟

- تخلصت منه.

- ماذا !!! يعني انتهيت منه؟

- لا... تخلصت منه.

- لم أفهم.

- بكل بساطة جمعت كل الأوراق والكتب والمخطوطات وأعدتها إلى أصحابها، واعتذرت عن إكمال الكتاب.

- ولم َ؟ ما الذي حدث؟

- حكاية طويلة، يمكنك أن تقول أنني لم أعد متحمسا ً لا لجدي، ولا لحكايته.

- اها.

- ماذا عنك أنت؟ كيف حال قصيدتك؟

- مازالت تنمو، أحضرت معي الجديد – قالها وهو يلوح بكتابه الأزرق -.

- بالمناسبة... الأبيات التي أرسلتها لي الأحد الماضي.

- ما بها؟

- كانت عبارة عن ثلاث قصائد ( لا تنتظر) و( عفن) و...

- حكاية لا تنسى.

- نعم... ( حكاية لا تنسى)، ( لا تنتظر) فقط هي التي بدت لي تنتمي إلى القصيدة الكبيرة، أما القصيدتين الباقيتين !!! فلا أدري !!!

- تنتمي لها – قال بابتسامة -، يمكنك اعتبارها من قصائد الملك الشاب.

- ولكن القصيدة الكبيرة ذاتها على لسانه !!!

- هههههههههههههههه، لا تتعامل مع الشعر بالمنطق، القصيدة تركز كموضوع أساسي على الملك الشاب، ولكنها تتناول موضوعات أخرى، تقترب منه أحيانا ً، وتبتعد عنه أحيانا ً أخرى.

- لم َ إذن تكون هذه القصائد مضمنة في القصيدة الكبيرة؟ لم َ لا تفصلها عنها وتجعلها قصائد مستقلة؟

- لأنه لن يكون هناك حينها قصيدة كبيرة.

- ولكن لا يمكنك تسمية الناتج قصيدة كبيرة، إذا لم تكن له وحدة عضوية، وترابط ما بين القصائد الصغيرة.

- ومن قال لك أنه لا يوجد ترابط !!! كل قصيدة من هذه القصائد، تضيف للقصيدة الكبيرة، وتنير جانبا ً مظلما ً منها.

- اشرح لي، لدينا الموضوع الرئيسي الذي كانت معظم القصائد تدندن حوله، الملك وحيرته، ولدينا قصيدة ( عفن)، ما الذي تضيفه قصيدة ( عفن) للموضوع الرئيسي؟

- قلت لك هذه القصيدة منسوبة للملك.

- ملك محتار ما بين الموت والحياة، ويكتب قصيدة عن عفن ملأ يدي فتاة؟

- هههههههههههههههههههه، بالله عليك هل تسألني هذا السؤال؟ سأخبرك – وهو ينهض – ولكن دعنا نخرج الآن لأني أريد تدخين سيجارة.

- لا يمكنك التعامل مع القصيدة – أكمل وقد صرنا نتجول على الرصيف، وبين أصابعه سيجارته – كما تتعامل مع قصة، في القصيدة الزمان والمكان ضائعان، لا يوجد إشارات محددة، من يقول ماذا؟ ومتى؟ هناك بالطبع القصائد المباشرة، التي يتحدث فيها الشاعر، ويعبر بشكل مباشر، عن إحساساته أو آرائه، ويملأها بالحكم، هذه قصائد بلا أبعاد، فقط بعد واحد ( الشاعر)، واعتماد هذه القصائد الأساسي على قدرة الشاعر على حشر المعاني والأفكار في الشكل العروضي الذي بدأ به قصيدته.

- وقصيدتك بالطبع ليست قصيدة مباشرة.

- لا تسخر أرجوك – لوح بسيجارته -، قصيدتي ذات أبعاد متعددة، لدينا البعد الخارجي الملك الشاعر، قصته ونهايته، هذا البعد الخارجي يمكنك اعتباره الإطار الذي يحتوي القصيدة ككل، والذي نعود إليه من حين إلى حين، ولكن للقصيدة أبعاد أخرى، أو فلنقل أصوات أخرى.

- من هو الصوت الذي كان وراء عفن؟

- أنا.

- أليست القصيدة تبدأ بـ ( قالت) !!!

- لا... أقصد أن قصائد الملك تأتي على لسانه، وهذه القصيدة جاءت على لساني أنا.

- هي تتعرض – أكمل وهو يتخلص من السيجارة ليبحث عن أخرى – لحادثة مررت بها أنا، وغيرت بعض الأشياء في حياتي.

- اها.

* * *

ليلة

1

جاء الشتاء
فأشعلوا النار في الأرجاء
يبتغون الدفء
ويدفعون هجمة المساء

2

ظلالهم تجول في الخيام
أصواتهم تردها الآكام
والليل لا يخفي عيونهم
لا يخفي...
لمعة السؤال في الظلام

3

ويضحكون في خفوت
يتحدثون عن أشواقهم
عن ضمة الدفء في البيوت
عن كل ما يفوت
هناك...
لأني أخاف أن أموت





رأيت فيما يرى النائم


عدنا
وكل ما مر كان حلما ً سخيفا ً
وظنون
وأوهام طرقتنا ذات ليل
فبددها الصباح المجيد

أكملت أنا كلامي
وكتابي
وضحكت ِ أنت ِ على
ما قلت منذ زمن بعيد

وفقدنا الزمان
فر من تحت أرجلنا المكان
فغدونا في فراغ حبيب
كفراشتين
أو طفلتين في ليلة العيد

ثم توارى كل شيء
وأفقت سريعا
غارق في فراشي...
ملك وحيد

أتعرفين ما الذي سيؤذيني أكثر؟
أتعرفين ما الذي سيؤذيك أكثر؟
أن نتذكر
وأن نتمنى أن يعود الزمان السعيد





لم َ؟


لم َ كان كل هذا؟
كيف صرنا هكذا؟
كيف انتهينا؟
وكيف صرت أنا حكاية للآخرين !!!

ولم َ صرتي
ترسمينني بلا فم
وتضعين لي الكلمات
تغلقين الدروب إلي
وتحجبين الطرقات
وتطمسين الكثير
توارينه تحت أستار كثيفة
لتصوغي من جديد
رجل فريد
يعجب الناظرين

ولكن عندها ما الذي مني سيبقى
في المكان الذي قد كان يدعى قلبك
وعندما نلتقي يوما ً هل ستعرفيني؟
وهل سأعرف أنا الوجه الذي نبت
في المكان الذي قد كان وجهك !!!

* * *

- كان يتحدث عن أنثى، ألم تلاحظ ذلك؟ - قالها فهد ونحن عائدان -.

- ولم َ يحتاج إلى كل هذا الغموض؟ الرجال يتحدثون عن الإناث طيلة الوقت.

- ليس اللواتي يحبونهن.

- حسنا ً... ربما هو يتكلم عن فتاة ما، هل تعرف عدد القصائد التي كتبت عن النساء؟ تكاد كل قصيدة أن تكون رداء ً لامرأة.

- لا... لا... هناك شيء ما في تلك القصيدة، ولكن أحتاج للعودة إلى الإطلاع عليها، لأكتشفه.

- ربما... سنرى.

حاولت عدم التفكير في الموضوع، وإبعاد فهد والاستعاضة عنه بالحديث مع لينا، وقد خرجت أخيرا ً من منزل أهلها الهادئ، ولكنها كانت كعادتها مختصرة الأحاديث والكلمات.

وصلنا المنزل، خلعت ملابسي، ودفعت نفسي دفعا ً إلى الحصول على حمام دافئ، يغسل عن روحي وعن بدني دخان حسن.

عندما خرجت كانت لينا تنتظر!!!

كيف عرفت؟ أشياء كثيرة أخبرتني، لبسها، صوتها، نظرة عينيها، وذلك العطر الغامض الذي نثرته في الغرفة كنداء أو نذير.

في داخلي كان هناك رفض ونفور، رفض لهذا الصمت، ونفور من أن أستدرج هكذا بلا كلمات، فلذا تجاهلت كل هذه الإشارات، واستلقيت منتظرا ً نداء ً يسمع.

مرت دقائق وأنفاسنا لا تنتظم.

مرت دقائق والنور الخافت يرسم أشباح أجسادنا الراقدة.

مرت دقائق، خفت رائحة العطر وتبدد غموضه، غيب الغطاء ملابس لينا، ونزع الظلام أي معنى من نظراتها.

مرت دقائق وانتظمت أنفاس لينا.




Green Tea 16-09-09 03:50 PM





13

انفردت بنفسي أخيرا ً، ببطن يثقله غداء الجمعة الحاشد في منزل والدي، وضعت كوب الشاي على مكتبي الذي استعاد شيئا ً من النظام، بعدما زالت الكتب والأوراق التي كانت تملؤه، والتي كان يجمع بينها جد قديم.

بعد عدة رشفات، فتحت بريدي وطبعت قصائد حسن الأخيرة، وجلست أتأملها.

- تأمل نهاية ( حكاية لا تنسى) – قال فهد -.

- ما بها !!!

- تعطيك وهما ً بأن ( عفن) تتلوها في الترتيب فعلا ً، فهي تتحدث عن حب انتهى، ومن ثم يتبعها قصيدة عن فتاة يعذبها العفن، فتربط ذهنيا ً بين هذا وذاك، وتعتبر العفن هو الحب الذي انتهى.

- وما الذي تراه أنت؟

- أرى أنهما متزامنتان.

- كيف؟

- ( حكاية لا تنسى) تتحدث عن نهاية حب، حب غريب، ونهايته جاءت مباغتة، وبلا حسبان، وفي القصيدة التالية، نرى الفتاة تتحدث عن عفن غزاها وتمنت زواله طويلا ً فزال فجأة.

- لأن القصيدة تقول – أكملت أنا – (وكان يوم الأمنيات / فزال).

- بالضبط... بالضبط... هذا التزامن في النهايتين، يعني أن القصيدتين ذاتهما متزامنتين، وأن النهاية لهما واحدة، لأنهما انتهتا بشكل مفاجئ.

- وما الذي نستفيده من هذا؟

- فكر قليلا ً.

- آ... – بعد تأمل -، غريب !!! في القصيدة الأولى نجد ذلك الحب العاصف الذي ينتهي بسرعة وبشكل مفاجئ، ونجد في القصيدة الثانية تلك الفتاة التي تتمنى أن يزول العفن، وبما أننا نفترض أن القصيدتين متزامنتين، أي لهما ذات زمن الحدث، فهذا يعني أنهما لا علاقة لهما ببعضهما، وأن هذه حكاية، وتلك حكاية أخرى، وإلا كيف تكون حبا ً في الحالة الأولى، وعفنا ً في الثانية !!!

- رائع... هذا ما فكرت فيه أنا.

- حقا ً – قلت بسخرية -.

- ولكن لم َ يصنع حسن وهما ً بتوالي القصيدتين؟ لم َ يوردهما بشكل يجعل من يقرأهما، يصل نهاية هذه ببداية تلك؟

- الإجابة عند حسن.

- لم َ لا نسأله؟

- عن ماذا؟

- عن ما فهمناه.

- لن اتصل به لهذا.

- أرسل له رسالة، تشرح فيها ما فهمته.

- آ... فعلا ً، لم َ لا.

عدت إلى البريد، فتحت رسالة بيضاء، وكتبت فيها ما فكرت فيه، كنت أكتب سطورا ً أعود لأمسحها، أو لأعيد ترتيبها، أو لأزينها ببعض الكلمات أو الأفكار، وعندما صارت بين يدي رسالة مكتملة، دفعتها وأغلقت الجهاز، وانصرفت إلى كتابي.

* * *

كان يمكنني تلمس غضب لينا طيلة اليوم، غضب مخبئ، ملفوف بعناية، بقشرة باردة، وبلا مبالاة غريبة.

كانت موجودة وغير موجودة طيلة اليوم.

فلذا كان تسللي إلى المطبخ وهي تغسل أواني العشاء، والقبلة التي طبعتها وراء أذنها.

توقفت عن عملها لحظة، ولكنها عادت وإن لمحت ابتسامة خافتة في الانعكاسات المتعددة للصواني الغارقة في الماء، همست في أذنها:

- غاضبة؟

- مم َ أغضب؟ - حمل لي صوتها استغرابا ً، ونصف التفاتة متسائلة -.

- لا أدري، تبدين لي غاضبة اليوم أو متضايقة.

- لا... لا... لا يوجد ما يضايقني أو يغضبني.

- أكيد !!!

- أكيد.

- هههههههههههههههههههههههه، ولا حتى انتظارك ِ البارحة؟

- أي انتظار – وقد أسدلت يديها فأغرقهما الماء المتدفق -.

- البارحة... في الفراش.

غرقت في صمت مذهول، كان يمكنني ملاحظة تحفز وعصبية في يديها اللتين عادتا إلى الانشغال، وهروب في عينيها اللتين تركزتا على بقايا الطعام المستعصية.

تراجعت أنا، اتكأت على حافة نضد، وجعلت أتأمل ظهرها، رقبتها التي تركها الشعر المرفوع عارية، نحيلة، ثم رفعت رأسي أتأمل السقف، أكملت:

- البارحة، كنت أعلم أنك ِ تريدينني، ولكني لم آتيك كما العادة، لأني أريد... – فرت مني الكلمات فجأة، لا أدري ما الذي حل بي، فجأة صرت غير قادر على قول ما كنت أظن أني سأقوله - ... احم، لأني أريد أن أشعر بأنك ِ تريدينني أيضا ً، وأنك ِ لا تكتفين بالإشارات وإنما تقتربين عندما لا أفعل أنا ذلك.

أنهت لينا عملها، أو أنها اختصرته، ومسحت يديها، وخرجت من المطبخ وأنا أبحث عن الجملة التالية.

لحقت بها إلى غرفة الجلوس، كانت تهم بالجلوس وبيدها جهاز التحكم، عندما مددت يدي وأطفأت التلفاز.

- كنت أتكلم معك ِ !!!

- من الأدب – أكملت عندما واجهتني عينيها الصامتتين- أن لا نترك من يتكلم معنا وهو لم ينته من كلامه.

- أنت ِ غاضبة من عدم استجابتي لرغبتك بالأمس، فلم َ لا تقولين شيئا ً !!!

- ماذا أقول؟

- أي شيء – بنفاد صبر –، هل احتاج إلى تعليمك ِ الكلام !!!

- ما بك اليوم؟ أنا لست غاضبة ولا شيء والله.

- هل أردتني البارحة أم لا؟

- أجيبي – عندما خفضت رأسها ولم ترد -.

- إيه.

- ولم َ لم تقولي أو تفعلي شيئا ً وتركتني أنام.

- لا حول ولا قوة إلا بالله – عندما لم ترد -.

- ماذا تريدني أن أقول؟

- لم َ لم تقولي شيئا ً البارحة، لم َ لم تحاولي التقرب مني!!!

- استحي !!! إذا أنت لا تريد، فأنا لا أريد.

- أنا أريد، ولكني لا أريد أن يتم الأمر في صمت تام من قبلك، أريد أن أشعر بأنك ِ تشاركينني، لا مجرد الاستسلام لي.

- الكلام معك ِ مضيعة للوقت – إذ عادت لصمتها -.

* * *

وجدت رسالة حسن، وقد لجئت إلى مكتبي، بعيدا ً عن غضبي وعن لينا.

(

ما شاء الله

ما شاء الله

منذ متى بدأت بالقراءة والتحليل يا أبا فالح

ليس لي كشاعر أن أشرح لك قصائدي، ولكني سأضع لك بعض القصائد، ربما تساعدك قليلا ً في تنقيباتك



من يصلحني؟

في روحي شروخ وصدوع
وفي قلبي فتات
وآلاف الأنات
فمن يصلحني؟

وفي روحي كسور لا تجبر
هشيم لازال يؤرقني
يمحوني... يفرقني
فأغدو مجروحا ً آلاف المرات

فتبا ً للنفس إذ منتني
بأن الكسر سيجبر
وأني سأعود جديدا ً
مغسولا بماء السماوات

وأني سآتيك ِ كطفل لا يحفل
بما يُكتب
وبما يملئ عليك ِ من الطعنات

وأنك ِ ستريني
ستملأ عينك ِ عيني
وسننسى الكثير من الكلمات

وأني من روحك ِ سأستل
عفنا ً كان قد احتل
ظننت ِ أنه قد زال
وطمرته السنوات

فالآن وقد كذبتُ ظنوني
ومضيت بعيدا ً
وتناسيت...
فمن يصلحني؟






نقش

كنت ِ نقشا ً غائرا ً
وقديما ً على جدراني
أخفيته حياء ً بستار

وانتظرنا طويلا ً
ما كشفتُ الستار
ولا أنت ِ سألت ِ
ما الذي يحويه الجدار

وعصية أنت ِ كنت ِ
في نقوشك
تنقشين كثيرا ً
ترهقين القلوب والأحجار

ثم تهنا
ابتعدنا كأننا ما التقينا
واقتربنا
كأن ما بيننا أشبار

ثم انتهينا
لا !!!
أنا انتهيت
لأني لا أجيد الانتحار
ولا أنت ِ تجيدين الانتظار







أنا... من أنا؟

1

أنا !!!
من أنا؟
إذا لم يكن في دمائي الخلاص
وتمتمات القدر

2

أنا !!!
من أنا؟
إذا لم أكن قتيل !
ذبيح !
يقي قومه موتة المنتحر

3

أنا ميت هذا الصباح
بسيف يسل
ويكسر إذا ما لطخته الدماء
فليس للذي انتزع روح الملك
وأهدى السيوف لأغمادها من بقاء

4

وسيبعث الزهر وطير الفضاء
إذا ما سقطت
وستتلقاني يدان
وألف لسان
وحكايات سيروونها لأطفالهم
عن الملك الذي ما استكان

5

أنا !!!
من أنا؟
أنا ملك لم يخف طعنة السيف
ولا ألهاه الصولجان

)





Green Tea 16-09-09 03:51 PM





14

صباح سبت، احتجت إلى كوب قهوة كبير وجولة خفيفة بين عدد من مواقع الانترنت لأتخلص من ثقله.

كان اجتماع إداري ما، قد كفانا اجتماعا ً تربويا ً آخر من اجتماعات ( أبو نايف)، والذي سحب في طريقه عددا ً من رؤساء الأقسام - أحدهم ناصر – مما أفسح الصباح لسليمان، فغادر المكتب وبين يديه أوراق يعزز بها وهم أنه ماض ٍ إلى عمل ما.

لم تكن خياراتي مبهجة، كان علي أن اختار ما بين نظام ( المالية) ومشاكله التي تنتظر حلا ً، مشروع ( التنظيم الإداري) والذي لازال تحليله المبدئي ينتظر زيارات أخرى للإدارة المعنية، وأخيرا ً ( المستودعات) والذي قاربت تعديلاتي على تحليله – بعد زيارتي ّ الأسبوع الماضي – على الانتهاء.

اخترت نظام ( المالية) بعد تردد، وانهمكت في دورة مرهقة من النفاذ إلى شفرة البرنامج، التعديل عليها، واختبار التعديل، وهي دورة تتكرر بتكرار الأخطاء، والتعديلات.

مر الوقت وأنا بين سطور الشفرة الكئيبة، ومنطقها الرتيب والدقيق، عاد سليمان، تحدث قليلا ً، خرج، ثم عاد مرة أخرى.

- أف – بصوت عال ٍ وقد يئست أخيرا ً من اكتشاف خطأ ما، مدفون بين السطور والفواصل -.

- سلامات - وهو مشغول بقراءة شيء ما على شاشته -.

- هذا النظام الكريه، يبدو أن مشاكله لن تنتهي أبدا ً.

- ههههههههههه، وكيف ينتهي وهؤلاء الكلاب يطلبون تعديلات جديدة في كل يوم؟ لو كنت في مكانك لرفضت أي تعديلات جديدة، ولصرفت وقتي في حل المشاكل البرمجية فقط.

- عندها يتصل مديرهم بناصر ليشتكي عدم تعاوننا معهم، وأنت تعرف كيف سيتصرف ناصر حينها.

- المهم – أكملت وأنا أمد له ملفا ً صغيرا ً -، أنا مشغول جدا ً بالمالية و( المستودعات)، فلذا تابع أنت تحليل مشروع ( التنظيم الإداري)، نحتاج إلى اجتماع جديد معهم، لاستكمال بعض البيانات، ستجدها مكتوبة في الورقة الأولى في الملف، لا... لا... التي بعدها، الصفراء... الورقة الصفراء.

انصرفت إلى عملي، فيما جعل يقلب هو أوراق الملف وهو يدندن.

- حسنا ً... متى تريد أن نذهب إليهم؟

- اممممم – وأنا أفرك أذني -، أنا مشغول تماما ً، فلذا أذهب أنت إليهم غدا ً.

- أنا أفضل أن نذهب إليهم معا ً.

- للأسف، لا أستطيع.

- يمكننا تأجيل الموعد إلى يوم الاثنين.

- آ... لا أريد أن نتأخر كثيرا ً، سيمر أسبوعين على استلامنا للمشروع ولم نمر بهم سوى مرة واحدة، وأخشى أن يسألنا ناصر عن ما تم في المشروع في أي لحظة.

- لا عليك... فليحمد ربه أننا استلمنا المشروع، وعندما يسأل أنا من سيجيبه.

* * *

كنت قد صليت المغرب للتو عندما اتصل بي أخي خالد، وأخبرني بعجل أن والدي لديه ضيوف هذه الليلة، وأنه يطلب حضوري.

كان هذا غريبا ً، فهذه الدعوات المفاجئة ليست من طباع أبي.

لم أفكر في الأمر كثيرا ً، صليت العشاء وقصدت منزل والدي القريب، فوجدت سيارات الضيوف تسد الباب – هذا غريب !! هل وصلوا بهذه السرعة؟ أم أنهم كانوا هنا قبل الصلاة ! -، دخلت كان هناك بالإضافة لأبي وأخوتي صالح – الكبير – وخالد ومحمد، عدد من رجال العائلة – بعضهم أعرف كنيته، وبعضهم اسمه الأول، والبقية ملامحهم التي أراها مرة في العام أو مرتين – ميزت من بينهم أبو خالد.

بعد السلام وفنجال القهوة الذي قدمه لي أخي محمد، تحدث أحد الرجال – أظن أنه يدعى أبو تركي -:

أبو تركي: كنا نتحدث مع والدك قبل حضورك يا أبا عبد الله – هكذا كان يناديني البعض بما أني بلا عيال وأن اسم والدي عبد الله -، لقد تفاجئنا بتراجعك عن كتابة الكتاب، وكنا نرجو أن يتوسط لنا عندك، ولكنه أخبرنا بأنه لا يدري عن تراجعك شيئا ً، و... – لم يجد كلمة يقولها فسكت، وتركني للعيون التي تنتظر -.

أنا: آ... – وارتباك غريب يجتاحني -، أنا زرت أبا خالد الأربعاء الماضي، وأخبرته بأني لا أستطيع إكمال الكتاب لأسباب شرحتها له – والتفت لأبي خالد الذي كان جالسا ً وقد مد رجليه ووضع يديه على بطنه، فاعتدل في جلسته -.

أبو خالد: نعم... نعم... الشيخ كان لديه بعض الـ... – وتوقف ليناول فنجاله لمحمد – الاعتراضات على بعض الأحداث التي وردت في الكتاب، يعني أشكلت عليه بعض المسائل ولم تتحقق له بعض التواريخ – والتفت إلي -، أليس كذلك يا شيخ؟

أنا: ليست اعتراضات، أنا درست مخطوطة الشيخ عبد الرحمن، وكتاب التبيين، ورجعت لموسوعة المحتم، وغيرها من الكتب، ووجدت أن بعض الأحداث المذكورة في المخطوطة غير صحيحة...

رجل ذو ملامح هادئة مقاطعا ً: كيف تكون غير صحيحة؟ الأحداث التي في المخطوطة رواها الشيخ عبد الرحمن عن الجد مباشرة.

أبو خالد: ربما يقصد أن الجد صالح رواها في آخر أيامه فاختلطت عليه بعض الأمور.

رجل آخر يلقبونه ( بسك) – لأنه كان يرددها في شبابه، وتعني يكفيك -: الجد لم يخرف في آخر أيامه، مات وذاكرته معه.

أبو تركي: دعوا الرجل يتحدث.

أنا: أنا أخبرت أبا خالد، هناك أحداث مثلا ً ذكر في المخطوطة أن الجد حضرها، وبعد البحث اكتشفت أنها وقعت في صغره، وأنه لا يمكن أن يكون قد شارك فيها.

بسك: الله يهديك !!! ليست كل الكتب موثقة، فلا تأخذ بكل ما يرد فيها، أليس كذلك يا أبا خالد؟ أليست بعض الكتب التي بحثت فيها تورد بعض الأمور التي ثبت عدم صحتها.

أبو خالد: نعم... نعم... بعض الكتب مثلا ً تقول أن الإمارة في الريلية قبل صالح بن علي، كانت لنوفل بن حمدان، مع أنها كانت لابن حمد وهو الذي أخرجه الجد بعدما وقع بينهم في ( الدشانة).

أبو تركي: الدشانة كانت على ابن حومل !

أبو خالد متهللا ً: هو ابن حمد، كان يسمى بابن حومل، أمه هي حومل.

بسك: غير صحيح، أمه اسمها نورة.

فهد بسخرية: وهذا ما يهمنا الآن.

ذو الملامح الهادئة: اسمها نورة وكانت تلقب بحومل، وهي التي قال فيها الشاعر:


وين أهلكم يا راعين العمد /// أمكم حومل وأبونا سعد


أبو خالد وقد عاد الحديث إليه: نعم... فبعض الكتب تورد أخبارا ً يجمعونها بلا تثبت.

أنا: موسوعة المحتم كتاب موثق، والمحتم مؤرخ معروف، و...

بسك: سبحان الله !!! وكتاب المحتم قرآن منزل !!!

أنا بغيظ: لا... ولكنه عندي أوثق من مخطوطة الشيخ عبد الرحمن.

بسك بحدة: الشيخ أخذها من الجد مباشرة.

أبو خالد مهدئا ً: اذكروا الله يا جماعة الخير، يا أبا فيصل – هذه كنية ( بسك) –، أبو عبد الله يقصد أنه قد يكون هناك نقص في مخطوطة الجد.

فهد: وها هم يملون عليك مقاصدك.

بسك بتوتر: أنا لم أقل بأن مخطوطة الجد كاملة، فيها نقص بالتأكيد، الكامل الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لا يعني أن نلقي بالمخطوطة كاملة بحجة أنها غير موثقة، وإلا لا يا أبو صالح؟ - موجها ً سؤاله لأبي -.

شعرت بغيظ حقيقي، من جر الرجل لأبي إلى ساحة الصراع.

أبي الصامت تكلم بنبرته الهادئة: كلامك صحيح يا أبا فيصل، ولا أظن أن أحدا ً يشكك في صحة المخطوطة.

بسك ملتفتا ً لي: الحمد لله... فالمخطوطة هي مرجعنا الأول وكتاب جدنا يجب أن يعتمد عليها.

نظرته إليه ببرود ثم قلت ببطء: هل قرأت المخطوطة؟

بسك: لا.

سألت بسرعة: هل قرأت كتاب المحتم؟

بسك: لا ولكن...

قاطعته: إذن أنت بكل بساطة تجزم بصحة أشياء لم تقرأها.

بسك بحنق: يا أخي بالمنطق، الكتاب مروي عن الجد مباشرة و...

قاطعته بتصميم: وبدلا ً من أن تقرأ وتبحث كما فعلت أنا، تأتي إلى هنا وتملي علي آرائك، سأقولها لك بوضوح هذه المرة لعلك تسمعها جيدا ً، كتاب الجد فيه أكاذيب، أخبار كاذبة، مزيفة، لم تقع، وإن كان الجد هو من قالها فهو قد كذب فيها غفر الله له – حاول الحديث، وكذا أبو خالد ولكني أكملت بصوت عال ٍ -، وإن كان الجد لم يقلها فيكون عندها الشيخ عبد الرحمن هو من كذبها للأسف، وأنا لست على استعداد لترديد الأكاذيب إرضاء لك ولغيرك.

حل صمت ثقيل عندما انتهيت، لم أنظر لأحد، ولا أدري أين كانت أنظارهم هم.

نهض أبي قبل أن يقول أحد شيئا ً وقال بذات الهدوء: تفضلوا، العشاء جاهز.

ارتبك أخوتي وهرولوا إلى الداخل فالعشاء لم يجهز بعد، والسفرة لازال ينقصها الكثير، ولكن أبي نهض ونهض الرجال معه وساروا إلى غرفة الطعام المجاورة.

تعشينا بصمت تقطعه أحاديث طفيفة ومتقطعة بين أبو خالد وأبو تركي، ثم انصرفوا بعدما تناولوا الشاي ودعوا لأبي بالبركة.

ودعهم أبي عند الباب ثم قال لي أنا وصالح الواقفين معه: تصبحون على خير.

ودخل لينام.

زفرت بضيق لما آل إليه الأمر، خرجت من المنزل ومعي صالح ووقفنا عند سيارتي، نظر لي وابتسم ثم قال: هداك الله، هناك أشياء يجب أن لا تقولها.

أنا: ماذا تريدني أن أفعل يا أبا عبد الله؟ هل هذه تصرفات رجال؟ يأتون إلى أبي ليحدثوه عن الكتاب وهو لا شأن له به، يصرون على صحة المخطوطة رغم كل ما قلته عن الأخطاء التي فيها، ماذا أفعل؟

صالح: اسمع... أنا لا يهمني الكتاب ولا المخطوطة، واعتبر الموضوع كله سخيف، ولكن كان يجب عليك أن تراعي وجود أبي ومكانته.

أنا: أراعي مكانته !!! وأنا ماذا فعلت؟ أنا لم أخطئ على أحد منهم، رغم أنهم تعاملوا معي كطفل يحتاج إلى ولي أمره طيلة الوقت.

صالح: ليتك أخطأت عليهم هم، كان الأمر هينا ً وأصلحنا ما بينك وبينهم، ولكنك أخطأت على جدنا ذاته.

أنا: كيف أخطأت عليه !!! الكتاب مليء بالأكاذيب وهم يصرون على أنه صحيح، ماذا تريدني أن أقول؟

صالح: أنا قلت لك الكتاب لا يهمني – خفت صوته وفقدت بعض الكلمات عندما فتحت باب سيارتي وانسللت إليها لأشعل المحرك قبل أن أعود لوقفتي - .... يجب عليك أن لا تتعرض للجد أو تتهمه بالكذب حتى ولو كنت مؤمنا ً بهذا، لأن عقولهم صغيرة، والجد بالنسبة لهم كالمقدس، لا يجوز مسه، يا أخي في كل سنة يصدعون رؤوسنا بقصائد في مدحه، ثم تأتي أنت لتقول أنه كاذب ومدعي !!!

أنا: صالح... أنت لم تقرأ المخطوط كما قرأته أنا، وإلا...

قاطعني: يا أخي قلت لك المخطوط لا يهمني، ليكن الجد كذابا ً، في النهاية هو جدهم وجدنا جميعا ً، وأنت عندما قلت رأيك لهم أهنتهم، أهنتنا جميعا ً، وأهنت أبي قبل كل هذا، فكر بموقف أبي الآن، كبير العائلة وعميدها تهان عائلته وممن؟ من ابنه !!! ماذا سيقول الآن؟ أنت بأسلوبك اليوم أفسدت جهد سنوات طويلة قام به أبي لجمع العائلة، لا يهم ما في المخطوط، ما يهم ما يقوم به أبي من أجل العائلة وأنت بكل بساطة وضعت نفسك بين أبي وعائلته.

أنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، كل هذا لأني قلت رأيي النقدي في هذا الكتاب !!! هل صارت كلمة الحق الآن صعبة على الجميع؟

صالح: أنا أفكر بشيء وأنت تفكر بشيء آخر، هل تظن أننا نصدق كل ما يقال عن الجد؟ لا بالطبع، نحن نعلم بأن الجميع يبالغون حوله، كما تفعل كل العائلات الأخرى مع أجدادهم، ولكن العائلات الأخرى احترمت أجدادها وكتبت عنهم كتبا ً توقرهم، وترصد ما قيل ويقال عنهم، أما نحن فقد هاجمت أنت الرابط الذي يربط بيننا ويجمعنا.

أنا بحنق: سبحان الله !!! ما يربطنا الآن صار فقط جد أسطوري، يعيش في مخيلتنا أكثر مما عاش في الواقع، هل نحن سذج إلى هذه الدرجة؟

صالح: لا... ولكن ما الحاجة إلى أن نهاجم جدنا ونقلل من قيمته؟

أنا: أنا لم أقلل من قيمته، ما فعله الجد أمر طبيعي، كلنا نمجد ذواتنا ونحكي عنها الجميل فقط، وما نريد لا ما كان.

صالح بملل: أنت اتهمت الجد بالكذب وهذا في حد ذاته اتهام كبير وخطير جدا ً، ولا يهم إن كان صحيحا ً أو غير صحيح، المهم هو أنه ما كان عليك أن تقوله، عموما ً سنتحدث حول الموضوع في وقت آخر، فأنا ذاهب الآن لإحضار أم عبد الله – زوجته – من عند صديقة لها، مع السلامة.

أنا: مع السلامة.




Green Tea 16-09-09 03:53 PM





15

لم أنم جيدا ً.

كنت قد قضيت الليلة أستعيد ما حدث، وأقلبه في ذهني، يملؤني شعور غريب، لم أفلح في تحديده.

لم آبه لوصولي للعمل متأخرا ً.

قدت السيارة بهدوء غريب، بعد أن أقنعت نفسي بالكاد بالذهاب وعدم الحصول على إجازة اضطرارية.

- السلام عليكم – وقد دخلت المكتب ووجدت سليمان واقفا ً -.

- وعليكم السلام، الحمد لله على السلامة، أين أنت؟ ولم َ هاتفك مغلق؟

- الله يسلمك... ماذا تريد؟

- اتصل ناصر يريدنا في اجتماع.

- لا... ليس هذا الصباح، أنا بالكاد نمت البارحة.

- سلامات؟

- كنت متعبا ً قليلا ً.

- لم َ لم تأخذ إجازة؟

- لا أدري.

- حسنا ً ستأتي أم ماذا؟

- أمري لله، ما دمت هنا فلنذهب.

دخلنا المكتب، وانتظرنا ناصر حتى التفت إلينا.

ناصر: كيف حالكما.

أنا وسليمان: الحمد لله.

ناصر: ماذا تم في المشروع الذي سلمته لكما قبل أسبوعين؟

سليمان: زرنا الإدارة وبدأنا بالتحليل المبدئي ولدينا اجتماع آخر معهم غدا ً بإذن الله.

ناصر: وأين خطة المشروع؟ لم تقدموا خطة المشروع مع أن هذه هي أول خطوة يفترض أن تقوموا بها، ثم أين وصلتم في التحليل؟

سليمان: نحن أخبرناك منذ البداية بانشغالنا، وتداخل المشاريع لدينا.

ناصر: بم َ أنتم مشغولون؟ نظام ( المالية) يعمل ويكفي أن يتابعه أحدكما، المستودعات لم تقوموا بالتحليل بعد، ولم تجتمعوا مع أحد من الإدارة.

أنا مقاطعا ً: لا... أنا اجتمعت بمدير المستودعات الاثنين الماضي.

ناصر مكملا ً من دون أن يهتم باعتراضي: وهذا المشروع بلا خطة ولم تخطوا فيه خطوة واحدة؟ ثم تقول لي أنكم مشغولون يا سليمان؟ مشغولين بماذا بالشاي والانترنت والثرثرة؟

سليمان: لا يوجد أحد في هذه الإدارة مشتت بين ثلاثة مشاريع سوانا، فلذا لا تلمنا على التأخير، وعلى التداخل في العمل، فقد أخبرناك منذ البداية بأن هذا سيحدث، ثم إننا كما أخبرتك زرنا الإدارة وقمنا بتحليل مبدئي وسنكمل التحليل في اجتماعنا معهم غدا ً.

ناصر: وأنا كيف أعرف ما تفعلونه إذا لم تقدموا لي خطة واضحة بالمهام وتواريخ تنفيذها؟ مشروع بلا خطة، هذه مهزلة، الآن تخرجون من هنا وتعدون لي الخطة، ولا أريدها خطة عامة، بل أريد خطة تفصيلية لكل مرحلة من مراحل المشروع، وأريدها على مكتبي قبل الظهر.

خرجنا من المكتب حانقين، وشعرت بضيق شديد زادته شتائم سليمان المتواصلة.

قال سليمان حالما وصلنا المكتب:

- هذا هو، يسلمك المشروع بابتسامة ومديح، ومن ثم يلعنك في كل مرحلة من مراحله.

- المهم الآن – قلتها بضيق ظاهر -، لنبدأ بإعداد الخطة، ونسلمها ونرتاح.

- أعدها أنت إذا أردت، أما أنا فلا يهمني هذا المعتوه، وليفعل ما بدا له.

انصرف إلى جهازه، فجلست أتأمل الصور العشوائية التي كانت تلتقطها شاشة التوقف من خبايا ملفاتي لتعرضها، حقل في الحصاد، طفلة تبتسم مغمضة العينين، فتاة جامعية تراجع دروسها في ظل شجرة، بدر مكتمل، رجل أسود يقود دراجة وقد احتضن ماعزا ً بنظرات فضولية، راحة يد بيضاء بلا خطوط، غلاف رواية ( بجعات برية)، صورة لي في إحدى رحلاتي الخارجية أتكئ على السياج الخارجي لفندق ومن ورائي بحر هادئ.

فهد بسخريته البغيضة: ها... هل ستبدأ بإعداد الخطة الآن أم أنك تفضل راحة قصيرة؟

أنا بحنق: أخرس.

فهد: أخبرتك بأن هذا ما ستجده هنا دائما ً، سيلقي عليك ناصر كل الأحمال التي يستطيع إلقاءها، وسيتملص سليمان من كل الأعمال التي يمكنه أن يتملص منها، وستجد نفسك خائضا ً في كل شيء، وستفقد بعد فترة لذة الإنجاز، وتجد نفسك غارقا ً في متاهة من المهام التي لا تنتهي ولا تقود إلى نهاية، على ناصر ومن وراءه سليمان أن يعرفا حدودك، تحتاج الآن وقبل أي وقت آخر أن تضع الحدود، وأن تجعلها ظاهرة، واضحة للجميع، أفعل ذلك الآن، ولا تأبه لأحد.

نقرت على لوحة المفاتيح فاختفت شاشة التوقف، وظهر سطح المكتب الذي تغطيه لوحة ( الشاعر) لليون جيرارد، والتي تناثرت فوقها ملفات كثيرة ومتنوعة الأهداف، قصدت البريد وافتتحت رسالة موجهة إلى ناصر، مع نسخة لسليمان، وأخرى لأبي نايف.

استنفدت مني الرسالة ساعة في صياغتها وفي التفكير في دلالاتها، وما يمكن أن تقدمه لي، وفي النهاية أرسلتها رغم ترقبي للعاصفة التي ستتلوها.

((

المكرم / رئيس قسم البرمجيات المحترم.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تحية طيبة وبعد.

نظرا ً إلى تداخل المشاريع التي أعمل عليها، وتكثف العمل فيها، حيث أعمل في كل من ( مشروع المالية)، ( مشروع المستودعات)، و ( مشروع التنظيم الإداري)، ونظرا ً إلى أن دوري في كل مشروع من هذه المشاريع يتوزع على تحليل الأنظمة، تصميمها، ومن ثم تطويرها وتدريب المستخدمين لها، وهو جهد كبير جدا ً، ويراد مني إنجازه في نفس الوقت، ومن دون أي توزيع للعمل، وفي ظل تدخلات إدارية دائمة في أسلوب العمل وأولوياته، وحيث أنه ظهر من سعادتكم عدم رضا عن أدائي في المشاريع السابقة الذكر، فلذا آمل منكم التكرم بالتالي:

1. تحديد مسئولياتي ومسئوليات أعضاء الفريق في كل مشروع من المشاريع السابقة، بحيث تتم محاسبتي عند التقصير في أداء ما أوكل لي.

2. تحديد أولويات واضحة للمشاريع، بناء ً على الخطط المقدمة، بحيث لا يتم إهمال جزء من مشروع لصالح مشروع آخر.

3. التوجيه بالتغييرات التي ترونها لازمة لتطوير أسلوب العمل القائم حاليا ً.

وتقبلوا تحياتي.

))

* * *

يبدو أن سليمان لم ينتبه للرسالة التي أرسلتها، لأنه سألني وقد استدعانا ناصر بعد الظهر:

- هل أرسلت له الخطة؟

- لا.

بدا مستغربا ً، ولكنه لم يقل شيئا ً وأعد نفسه لعاصفة جديدة من ناصر.

كان ناصر يفتش أوراقا ً تكدست على أحد المقاعد، عندما دخلنا، أشار لنا بالجلوس وانهمك فيما يقوم به، وعندما لم يحصل على مراده، هز رأسه وزفر وعاد إلى مقعده.

ناصر: ما مشكلتكما الآن؟

سليمان: عذرا ً يا أبا خالد، الخطة بدأنا في إعدادها، ولكن لأنك طلبتها تفصيلية لم نستطع إنهائها في الوقت المحدد وسنعمل عليها هذا اليوم كله، وستجدها على مكتبك غدا ً صباحا ً بإذن الله.

قال ناصر باستخفاف وهو يطوح بيمناه: من الواضح أنه لا يوجد أي تنسيق أو تعاون بينكما.

تجاهل سليمان والتفت إلي: ما مشكلتك أنت؟

قلت بخفوت بعدما تنحنحت: الأعمال الموكلة لي كثيرة، وكما هو واضح من رسالتي أريد تحديدها بوضوح بحيث يمكنني إنجازها، ويمكنكم كإدارة محاسبتي لو كان هناك أي تقصير مني.

قال ناصر بهدوء شديد: أنا أوكل لكما مشروع واضح ومحدد، ولذا عليكما أنتما أن تحددا مهام كل مرحلة من مراحل المشروع، تضعان هذه المهام في خطة واضحة ومحددة، وتزوداني بالخطة لأتابع عملكما، بعد هذا توزعان هذه المهام بينكما وتنجزانها، أنا ليس لدي الوقت لآتي وأحدد لكل واحد منكما ما الذي عليه أن يقوم به، وكيف يقوم به، وإلا يمكنني إحضار أي شخص من الشارع وأجعله يدير هذه المشاريع، وأستغني عنكما.

أنا: وعندما نزودك بالمهام التي علينا أن نقوم بها، ويمر الوقت ولا نقوم بها، من الذي يتوجه له اللوم؟

ناصر بحنق: هذه مصيبة، ما تقوله أنت الآن مصيبة، أنتما فريق واحد، وعليكما أن تقوما بالمهام كفريق، كلامك هذا يعني أن كل واحد منكما يعمل لوحده من دون أي تعاون أو تنسيق، هل لديكما مشكلة معا ً؟ هل لديك مشكلة مع سليمان – وأشار إلي -.

أنا بتوتر أحاول إخفاءه: أنا لدي مشكلة مع مطالبتي بمهام كثيرة، وأن ألام على ما أقوم به وما لا أقوم به، فلذا أريد أن يحدد لي مهامي بوضوح بحيث ألام عندما لا أنجزها.

ناصر بصوت أعلى: قلت لك أنا أدير قسما ً كاملا ً، لا مشاريعكما، فلذا أنا أسلم لكما المشروع وأطلب منكما إدارته، لست متفرغا ً لأن أحدد لكما مهامكما في كل مشروع، ومن يقوم بماذا؟ هذه مشكلتكما أنتما ويجب أن تحلاها معا ً، تكلم يا سليمان، أنت الأقدم والأعرف بطريقة العمل، لم َ لم تحددا المهام التي يجب على كل منكما القيام بها؟

قال سليمان من دون أن ينظر لي: نحن نحدد المهام ونوزعها في بداية كل مشروع.

ناصر: إذن لم َ تزعجونني !

هز سليمان كتفيه ولم يرد، وصمت ناصر قليلا ً، ثم عاد ليقول: سأمهلكما إلى صباح الغد لترسلا لي الخطة كما طلبتها.

قلت: أنا ما زلت مصر على موقفي، أريد أن تحدد لي مهامي في كل المشاريع القائمة.

تأملني ناصر بثبات ثم التفت إلى سليمان وقال: أريد الخطة التفصيلية على مكتبي صباح الغد، مفهوم يا سليمان؟ سأحدد لك مهامك بإذن الله – وقد التفت إلي -.

* * *

- ما الذي حدث؟ - سليمان بغضب وقد خرجنا -.

- لا شيء، - من دون أن أنظر إليه - أريد أن أعرف الذي لي والذي علي في كل هذه المشاريع.

- طيب !!! كلنا متعبون من هذه المهام والمشاريع المتراكمة، أنا أعمل معك في ذات المشاريع، ولكن مع ذلك لم أعط الفرصة لهذا الكلب أن يهزئنا، ما الذي كتبته له؟

- ما قلته لك، أريد أن أعرف مهامي في كل مشروع، لا أريد أن تحول لي كل الأعمال التي لا يريدها أحد، وأن أطالب بالقيام بالأعمال المملة والكئيبة.

- ولم َ لم تخبرني قبل أن تكتب له؟

- أرسلت لك نسخة من الرسالة.

- أحسنت ! بعدما أرسلتها له ! ما الفائدة؟ أنت لا تعرف ما الذي سيحدث الآن، سيدقق ناصر علينا في كل خطوة نقوم بها، سيترصد لنا في كل شيء، سيلومنا على النقطة والفاصلة.

- دعه يفعل ما يريد بعد أن يحدد لنا مهامنا، عندما يكون لدي مهمة واضحة ومحددة سأقوم بها بشكل صحيح، وعندما سأخطئ سأعرف أين أخطأت وكيف، وسأتعلم من أخطائي، أما أن يطلب مني أن أقوم بالتحليل والتصميم والاختبار والتدريب، وإعداد الخطط في ثلاثة مشاريع، وألام لعدم قدرتي على ملاحقة كل هذه التفاصيل، فهذا طلب غير منطقي.

- أنا أعرف كل هذا، ولكن كان عليك أن تتفق معي قبل أن ترسل له الرسالة، هو الآن يظن بأننا لا نتعاون وأننا لا نوزع المهام بيننا، وهذا سيجعله يتدخل في كل شيء، ويحدد لكل منا مهام قد لا تناسبه، وندخل في دوامة من الصراع معه لن تنتهي.

- نحن في صراع معه من الأساس – وقد دخلنا المكتب الآن -، ثم لنتحدث بصراحة يا سليمان، أنا من يقوم بالكثير من المهام هنا، مشروع ( المالية) أنا من يتابع مشاكله ويحلها، بينما تستثقله أنت وتستثقل مستخدميه، مشروع ( المستودعات) بدأنا ثلاثة في المشروع، أنا وأنت وزيد، فقمت أنت وزيد بتوزيع العمل بحيث لا تلتقيان أبدا ً، فلم أعترض، ثم صرت كلما أطلب منك الذهاب معي للاجتماع ترفض وتتحجج ببغضك للإدارة ومديرها، ولأن زيد صار غير مفيد لنا بجرة قلم من ناصر، صرت أنا المسئول عن المشروع بكامله، والآن مشروع ( التنظيم الإداري) أطلب منك بالأمس الاجتماع معهم لأني مشغول تماما ً، وتصر على أن نجتمع معهم سوية، ليأتي ناصر اليوم ويلومنا معا ً، ثم تطلب مني أن لا أطلب توزيعا ً للمهام !!! يا أخي، حتى عندما طلب منا ناصر الخطة هذا الصباح، طلبت منك مساعدتي فيها ورفضت ! ماذا كنت تتوقع مني؟ أن أعدها بنفسي وأريحك كالعادة من هذه الهموم ! لا... فليحدد لنا ناصر مهامنا، وليقم كل منا بمهامه، وإذا قصر فيها يتحمل هو وحده عاقبة تقصيره، لا أن تعم العقوبة الجميع، أنت زميل عزيز يا سليمان ولكني مللت من القيام بالمهام التي لا تقوم أنت بها.




Green Tea 16-09-09 03:57 PM






16

التقينا من جديد، ولكني أتيت هذه المرة وبين يدي أوراق تملؤها خطوط أضحكت حسن، ومنحته مزاجا ً رائقا ً.

- أرى أنك استبدلتني بجدك.

- تعني أني استبدلت جدي بك، صحيح، وستكون نهايتك على يدي بإذن الله.

بعدما تناولنا قهوتنا، وثرثرنا قليلا ً، وضعت أنا راحة مفتوحة على الأوراق، وقلت:

- هنا شيء من التحليل والنقد لقصائدك الجديدة فقط، التي أرسلتها لي، لأن القصائد القديمة كلها، حكايات الملك، وأيامه القديمة، لا أحتفظ منها في ذاكرتي إلا بالقليل.

- سأرسل لك كل شيء، عندما تكتمل القصيدة الكبيرة، فليست كلها مكتوبة على الحاسوب، فبعضها لازال على الورق.

- لا بأس، المهم... هل تريد سماع النقد أم أنك تتحسس منه؟

- هات ما عندك.

- تحليلي – قلت وأنا أتناول الأوراق – يتناول فقط ( لا تنتظر)، ( حكاية لا تنسى)، ( عفن)، و ( من يصلحني؟)، ( نقش)، و( أنا... من أنا؟)، هذه هي القصائد التي بين يدي.

- جميل – قالها وهو يفتح علبة سجائره -.

- هناك علاقات لاحظتها بين القصائد الست، أولا ً ( لاتنتظر) و ( من أنا؟) هما القصيدتان الوحيدتان عن الملك، أو حتى لا أدخل معك في جدل، الوحيدتان اللتان يظهر فيهما الملك بشكل صريح، ( حكاية لا تنسى) و ( نقش) هناك تشابه بينهما، كما أن هناك تشابه أكثر، بين ( عفن) و ( من يصلحني؟)، ويؤكد هذا البيت الوارد في المقطع ما قبل الأخير ( وأني من روحك ِ سأستل / عفنا ً كان قد احتل / ظننت ِ أنه قد زال / وطمرته السنوات).

- طيب.

- لحظة... إذا استبعدنا قصائد الملك، لأنها تدور حول القصة الأساسية، الملك وحيرته، تتبقى لنا هذه القصائد الأربع التي تزعم أنت أنها مضمنة في القصة الكبيرة، ولكن الغريب أنها خارج خط الحكاية تماما ً، ولا يوجد ما يمكن أن يربطها بالملك.

- هذه قراءتك أنت.

- لحظة... لحظة... دعني أقول كل ما لدي أولا ً، بالتأكيد كل ما سأقوله، هو قراءتي الخاصة لقصيدتك، وهذا جيد، فأنت كشاعر تحتاج إلى قارئ، إلى من يخبرك كيف قرأ قصيدتك، وكيف أثرت به.

- جميل – وهو ينفث الدخان كسفينة نهرية -.

- ( حكاية لا تنسى) و( نقش) لهما ذات المعنى، أو ذات النَفَس، الحب الجميل الذي انتهى بشكل مفاجئ، بل إننا لو حللنا القصيدتين بيتا ً، بيتا ً، لتجمعت بين يدينا مجموعة من الدلالات المهمة، ركز معي.

- ههههههههههههههههه، هذه قصائدي، لا أحتاج للتركيز معك لأفهمها.

- لا... لا... أعني ركز في كلامي.

- طيب.

- لنأخذ قصيدة ( حكاية لا تنسى)، ما هي دلالات القصيدة؟ ( أحببتك ِ منذ البداية / بخفوت / بسكوت / وبامتنان...) حب صامت، ثم ماذا؟ ( وكنا اثنان / لا يعلمان / تكفيهما الكتابة والشكوى للورق / وكنت أصنع قصائد / يغيبها ليل أو يحييها أرق) إلى آخر المقطع، إذن الحب الصامت كان من الطرفين، ثم ماذا؟ ( فلم َ كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب دفاتر ومحاضر / وأسئلة منها لا نفيق / ولم َ كنا منذ البداية / نكتب النهاية / بأصابع لا ترى)، والآن نأتي للمقطع المهم، هذا المقطع مليء بالدلالات، بل أنا اعتبره المقطع الذي يأخذ القصيدة إلى اتجاه جديد، فالحب الذي بدأ صامتا ً، والذي سنظن أنه لم يولد أو لم يخرج للنور، في هذا المقطع نشعر وكأنه قفز قفزة زمنية، وكأن هناك دلالات متضافرة، كانت تسوقها لنا بداية القصيدة ( أحببتك ِ منذ البداية) بداية ماذا؟ كما كان يسوقها لنا العنوان ( حكاية لا تنسى).

- أكمل – عندما توقفت لأنظر إليه، وهو يعتدل في جلسته، ويدفن سيجارته في المنفضة -.

- يتساءل الملك – وأنا أغمز له بعيني -، ( فلم َ كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب ثمن؟ / متى كان للحب دفاتر ومحاضر / وأسئلة منها لا نفيق)، أسئلة حرى، أسئلة رهيبة، لماذا يكون هناك ثمن للحب؟ ولماذا يتحول الحب إلى ما يشبه السلطة، وهذا تدل عليه كلمة محاضر التي تصرف الذهن إلى أقسام الشرطة ومحاضر التحقيق، هذه الأسئلة التي تصدمنا فجأة، تجعلنا في مواجهة تساؤلات لا ندري ما الذي بعثها؟ ما الذي حركها؟ ما الذي حدث؟ هل تم رفض هذا الحب من الآخرين؟ هل تمت محاربته كما يحدث لكل قصص الحب؟ المقطع التالي يمنحنا شيئا ً مهما ً ( ولم َ كنا منذ البداية / نكتب النهاية / بأصابع لا ترى) وكأن النهاية كتبت بأيدي الحبيبين، وكأنهما كتبا النهاية منذ البداية، ويأتي المقطع الأخير ليروي لنا لحظات النهاية العاصفة والمفاجئة.

- ( نقش)، تدور في ذات المدار، وتحمل ذات الدلالات، المقاطع كلها ما عدا المقطع الأخير تحمل ذات الحكاية عن الحب الصامت ( كنت ِ نقشا ً غائرا ً / وقديما ً على جدراني / أخفيته حياء ً بستار / وانتظرنا طويلا ً / ما كشفتُ الستار / ولا أنت ِ سألت ِ / ما الذي يحويه الجدار / وعصية أنت ِ كنت ِ / في نقوشك / تنقشين كثيرا ً / ترهقين القلوب والأحجار... إلى آخره)، ثم المقطع الأخير ( ثم انتهينا / لا / أنا انتهيت / لأني لا أجيد الانتحار / ولا أنت ِ تجيدين الانتظار)، محمل بدلالات مشابهة للنص السابق، النهاية وكأنها كتبت بأيدي الحبيبين، وإن كان الاستدراك في ( لا / أنا انتهيت)، يجعل الأمر في حق المحب أكثر.

- حتى الآن أنت...

- لحظة، الله يرضى عليك، باقي أشياء كثيرة.

- نأتي الآن – أكملت وقد أشار لي بيده مستسلما ً - إلى القصيدتين الأخريين، ( عفن) و( من يصلحني؟) ونحاول كما فعلنا مع القصيدتين السابقتين، استخراج دلالاتهما، لنتأمل القصيدة الأولى، تبدأ هذه القصيدة بكلمة مهمة جدا ً ( قالت...)، أهمية هذه الكلمة بالطبع تأتي من أنها تمنح مساحة القصيدة لهذه التي تقول، وبالطبع تمضي القصيدة لتحدثنا عن هذا ( العفن)، برمزية جميلة، حيث يبدو العفن كوباء خفي، مستتر بشكل جميل، اجتاح هذه الفتاة التي استقبلته في البداية ببهجة، ولكنها عادت فيما بعد لتتمنى زواله، وتأتي نهاية القصيدة، لتخبرنا بزوال هذا العفن.

- الآن بما أن القصيدتين السابقتين، تحدثتا عن تجربة حب انتهت بشكل مفاجئ، وبما أن هذه القصيدة تحدثنا عن عفن تمنت الفتاة زواله فزال، فمن المفروض أن نربط بينهما لنقول أن الحب هو العفن الذي تمنت الفتاة زواله فزال، ولكني كما كتبت لك في رسالتي، فكرت بأن هذا غير منطقي، في المرة الأولى كان هناك حب صامت، وانتهى فجأة، ثم نأتي لنقول أن ذلك الحب الصامت كان عفنا ً أيضا ً تمنت الفتاة الخلاص منه فزال !!! هناك خلل في بنية القصيدة، وخلل كبير.

- هناك نقطة تنوير – قال ببطء وهو يختفي وراء سيجارة -، لستٌ ملزما ً بها، ولكني سأمنحك إياها.

- ما هي؟

- العفن الذي تمنت الفتاة زواله، ليس الحب.

- ما هو إذن؟

قال وهو يحرك سيجارته في الهواء، وكأنه يكتب بها كلمات ما:

- عفن... حسن.

كانت لحظات طويلة تلك، كان هو فيها صامتا ً، وكنت أنا أتأمل القصيدة، وقد تغيرت الآن أشياء كثيرة:

- كيف؟ - سألت بتقشف، سؤال يمكن أن يمنحه أوسع مساحة ممكنة ليتحدث -.

- حكاية طويلة.

- لا أريد أن أكون فضوليا ً، ولكن يمكنك التحدث لو أحببت.

- أتذكر ليلى؟

- نعم... بالتأكيد.

- حسنا ً، اتضح أنها بعد كل هذه السنوات لم تكن لا تبالي حقا ً.

- هذه العودة المفاجئة لها – أكمل – عقدت ما ظننت أنه استقر من حياتي، أنت تعرف كيف هي مشاعري تجاهها!!!

- وما علاقة هذا بحكاية العفن.

- اها... العفن حكاية أخرى، عودة ليلى أربكتني كثيرا ً، كنت أحاول التفكير بوسيلة أحل بها الأمر، من دون إيلام خولة، كنت أحاول إيقاف الزمن، أضع بيني وبين ليلى مسافة، وبيني وبين خولة مسافات، ولكن الأمر كان مؤلما ً للجميع.

- ثم ماذا؟

- لم تنجح محاولة إيقاف الزمن بالطبع – وهو يسحب سيجارة جديدة -، وكنت أشعر كل يوم بأني أمشي على حافة هاوية أراها ولا يمكنني تجنبها، وكانت الدفعة التي ألقتني في الهاوية، قصيدة مكسورة وصلتني.

- من ليلى؟

- لا... من خولة.

- ظننت أن ليلى هي الشاعرة؟

- هي كذلك، خولة لا تكتب الشعر.

- ولكنها أرسلت لك قصيدة !!!

- نعم... وعنونتها بعفن.

- العفن الذي تتمنى أن تتخلص منه، والذي غزاها في الشتاء.

- بالضبط... بالضبط.

- ثم ماذا؟

- لا شيء.

- كيف لا شيء؟

- حقيقة... لا شيء، تلك القصيدة بكلماتها البسيطة، بمرارتها الهائلة، كسرت شيئا ً في داخلي، أتعرف تلك اللحظات التي يكون فيها شيء ما هناك، ثم لا يكون؟ هناك شيء في داخلي كان موجودا ً، كان يملؤني بالحياة ثم لم يعد هنالك، غرقت في كآبة، ثم في حزن، بدأت تتكشف لي الكثير من الأشياء التي كنت أتغافل عنها من قبل، الإشارات التي كنت أجدها في قصائد ليلى، كلمات خولة الغامضة، والتي كنت ألقيها بعيدا ً، لأني كنت أظن أني محمي بالحب، بالثقة، وأنه لا شيء يمكن أن يمسني، ويحيلني عفنا ً في روحها.

- وكيف انتهى الأمر؟

- آ... لم ينتهي، أنا ابتعدت قليلا ً للتفكير في الأمر.

- وإلى ماذا توصلت؟

- لا شيء، لا يمكنني التفكير حتى تهدأ روحي.

- اها... وبدلا ً من التفكير وحل الوضع المعلق، انشغلت بكتابة قصيدتك !!!

- الشعر يخفف عن روحي.

- لا... الشعر هو ما يحجبك عن العالم، الشعر، خلق الكلمات، يمنحك ذلك الشعور المفقود من الفهم، من السيطرة.

- أي سيطرة؟

- سيطرتك على حياتك، حسن، أنا لم أقل لك هذا من قبل، ولكني سأقوله الآن، لأني أشعر بأني مدفوع له من داخلي، تأمل حياتك يا حسن، أنت لا تعيش في قصيدة كبيرة كما تتوهم، الأمور لا تنصلح ببيت أو بيتين تقولهما، الشعر كان يضع بينك وبين الحياة، بينك وبين الناس أغشية تجعلك لا ترى الأشياء كما هي، وإنما تراها كما تريد، أتذكر عندما تزوجت أمك؟ ما الذي فعلته؟ غضبت، أثرت الغبار في كل مكان، وتسببت بشقوق لا يمكن رتقها، ومن ثم ماذا؟ كتبت قصيدة، وخرجت من تلك المرحلة بسجائرك هذه التي اعتنقتها لتؤلم أمك، كنت دائما ً تتصرف بهذه الطريقة، لا ترغب برؤية الناس كما هم، لا يمكنك فهمهم إلا عندما تحشرهم بين بيتين من أبياتك، وعندما تدرك أنك أخطأت، أخطأت في فهمك، وفي تصرفاتك، تعود للشعر، لأنه هو المجال الوحيد الذي تجيده، والذي تجيد الحركة فيه بلا عوائق، هو ما يمكنك فيه رسم الأشياء، وإعادة رسمها مرارا ً، وفي كل مرة تخرج كما تريدها، كما تريدها تماما ً.

- والآن – أكملت في صمته -، في وسط أزمة عاطفية، بدلا ً من أن تسعى إلى من تحب، وتوضح كل ما تشعر به، بدلا ً من أن تحاول حل الخيوط المتشابكة بين ليلى وخولة، بدلا ً من أن تحاول إدارة الأزمة على أرض الواقع، تلجأ إلى إدارتها من خلال شخصيات شعرية تخلقها، ملك وشعب !!! موت ومجد !!! تهرق مشاعرك، وتتخذ عذاباتك معينا ً لأبياتك !!! تغرق معك من تحب !!! يا للسخافة !!! يا للسخافة !!! أتظن أن سكوتك سيحل المشكلة من نفسها !!! ألا تظن أن وجودك بالقرب منهما يسبب لهما ما يكفي من الحزن والألم؟

- أنا آسف لقسوتي عليك يا حسن – وقد توقفت ثم أكملت ببطء -، ولكن لابد لك من أن تحل الأمر وعاجلا ً، يجب أن تتخذ قرارك، ومن بعدها يمكنك أن تعود لأشعارك.

* * *

(

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكرك على درس البارحة، كان مفيدا ً.

لدي خبر جيد، وجدت نهاية للقصيدة، أتمنى أن تعجبك، وبالمناسبة تخلصت من كتابي الأزرق، وهذه هي القصيدة الكبيرة، ستجدها مرفقة مع الرسالة، أضعها كاملة بين يديك، النسخة الوحيدة، يمكنك بعد قراءتها حذفها، لينتهي كل شيء.



وداعا ً



الليل

يا لهذا الظلام الكثيف
يا لبرد الشتاء
يا لهجمة الريح
وجلبة الأحياء
متى يأتي الصباح؟




حلم

رأيت النهاية كرأس ذئب يطل
من شقوق الخيام
ويمضي بعيدا ً فلا أتبعه
لأني بلا قدمين، ولا أجيد الكلام
كطفل رضيع
تهدهده عجوز غريبة
لها وجه طويل ونظرات مريبة

ورأيت أطلالا ً قديمة
ومقابر تملؤها الجثث
خلف بابها الذئب ينتظر
بصمت عجيب
بصبر غريب
وعلى أنيابه دم قديم
وأرواح سليبة

وألقتني العجوز على الحطام
وسمعت بقلب طفل خطوة الذئب
وأنفاسه التي لامست أذناي
وكلامه الذي انتزعني من لجة الأحلام
"سيدي جاء الصباح"





بعيدا ً... إلى الأشجار أو حافة الجبل

للصباح الذي نموت فيه رائحة
تذكرنا بأزمان قد نسيناها
تذكرنا...
بأحلام بنيناها
بأوقات قضيناها
بالوجوه التي أفلت
وظننا أنها انتقلت
وأننا ما التقيناها
تعود اليوم مسرعة
ضاحكة وعابسة
لترهق القلب...
بالنهايات التي جنيناها

فأختفي...
بين الدروع
وبين أبيات القصيد
بين السيوف ورايات الجنود
والتهي
بكرات القتال
بانتشاءات النزال
بالتماعات السيوف على الجلود

فلا أختفي
ولا من روحي رائحة الموت تزول
وأرى النهار، أرى أيامي في أفول
وأرى كل ما كنت منه أفر
في مواجهتي يستقر
في جثوم لا يحول

وينكسر
ذاك الذي كان يربطني بالحياة
ذاك الذي كان يدفعني بعيدا ً
عن القتال وعن صلصلة السيوف
وحصاني الذي أدام الوقوف
يتعلم الآن الاندفاع إلى الممات

مغمض العينين اخترق الصفوف
الريح في ثيابي
الحزن في إهابي
وهجمة الشموس على أهدابي

في يدي سيف مل الرقاد
يشتهي الدماء
وملمس الأحشاء
وأن يجول كما يشاء
وأنا أخب
والفارس النبيل ينتظر
اللحظة التي فيها سينتصر

رائحة الموت لا تطاق
وأذناي لا تسمعان
وفي روحي سؤال كبير... لماذا؟
لماذا؟
لماذا؟
واستفاق
السيف النائم استفاق
وعادت يدي المشرعة إلى الأمام
لتغرس السيف في الأعماق
ورأيت النهاية وحيدا ً في الذهول
بين الأشجار ونباتات الحقول
عيناي تنظران بعيدا ً... إلى الأشجار أو حافة الجبل
قالوا بطل؟
وماذا إذا لم أرد أن أكون البطل !!!





Green Tea 16-09-09 04:01 PM



السلام عليكم

هذا الفصل الاخير
كنت ارغب بوضع الفصول بشكل متباعد حتى تسهل قراءتها
ولكن لاني قد انقطع الايام القادمة لظروف العيد والاهل وحتى لا اتاخر عليكم وضعت كل الفصول معا ً

اتمنى أن تكون الرواية قد أعجبتكم






17

وكأنما مرت دهور، التقينا في المقهى الذي بدأ فيه كل شيء.

كنت قد استنفدت ساعة أعيد فيها رسم التفاصيل للمكان الذي صار يعابث الذاكرة والأوراق، أضع خطا ً هنا، منفضة هناك، لوحة بألوان باهتة، وغبار يسلب من الإطارات زهوها، وصحفا ً، ورائحة، رائحة قهوة لا تخطئها الأنوف، حتى المقاعد منحتها ملمسا ً، وحدا ً للرخاوة التي تستقبل فيها الأجساد، ثم جلست بيدي القلم الذي ظل بلا غطاء كل هذه المدة.

- ما الذي حدث؟ - سألني فهد حالما استقبلني -.

- لا شيء ما خلا أني تخلصت منك لفترة وجيزة.

- لماذا؟

- كنت أحتاجها لأفكر.

- تفكر بماذا !!!

- بنا، بي وبك، بتأثيرك الغريب علي.

- تأثيري الغريب !!!

- نعم... ليست مصادفة أن علاقاتي ساءت مؤخرا ً، علاقتي بزملائي في العمل، علاقتي بزوجتي، علاقتي بعائلتي، حتى صديقي الوحيد اختفى.

- يا سلام !!! وما ذنبي أنا؟

- أنت من كان يدفعني للمواجهة في كل مرة.

- لا أصدق أنك تفكر بهذه الطريقة !!! علاقتك بمديرك وزملائك كانت سيئة من قبلي، ولكنك كنت تخفي ذلك ولا تبديه، وكذا علاقتك بزوجتك، صمت لا نهائي، وكلمات بلا معنى، وعائلتك يجب أن تشكرني لأني خلصتك من مشروعهم الوهمي، وصديقك اختفى منذ زمن بعيد، منذ قرر أن يغادر العالم ليعيش في كنف القصائد والملوك المعتوهين.

- كنت أفكر في الفترة الماضية، أبعدتك عني لأفكر جيدا ً من دون تدخلاتك، وتوصلت إلى أنك جانب حاد مني، جانب لا يجب أن يظهر للناس، وأنني أخطأت خطئا ً كبيرا ً، ويحتاج مني إلى سنوات لإصلاحه، عندما جعلتك تتعامل معهم.

- نعم – أكملت -، صحيح ما تقوله، علاقتي بزملائي لم تكن جيدة، كان فيها جانب استغلالي يرهقني، ولكني استبدلت ذلك الآن بعلاقة باردة ورسمية، صرت كلبا ً آخر في نظر سليمان، ونعم، كانت علاقتي بلينا بسيطة، ولكن ما الذي جنيته من محاولة تعقيدها؟ لا شيء، سوى حزن مكتوم من قبلها، وشعور مؤلم بأنها لم تكن كافية بنظري، وما الذي كان يدعوني لإهانة عائلتي، فليؤمنوا بجد أسطوري، لم َ كان علي أن أحطم صورته أمامهم !!! ألا يكفي أنه يجمعهم ويوحد بينهم.

- وحسن – بعد وقفة قصيرة وسبابة مرفوعة -، لم َ اعتبرت تردده ومحاولته البحث عن حل يشفي روحه هروبا ً وانشغالا ً بالقصيدة !!! لم َ لم أرى في التجاءه للقصيدة رغبة حقيقية في أن لا يرى الوجه القبيح للعالم، رغبته في أن يوقف الزمن، ليحتفظ فيه بليلى كما أحبها، وبخولة كما عرفها، ولكني وبدافع منك أوحيت له، بأن وجوده ذاته مؤلم لهما، فدفع نفسه بيأس بعيدا ً، وبدلا ً من أن استرده من القصيدة، أغرقته فيها.

- أنا آسف – قال - كان علي أن أخدعك، لتحتفظ بعلاقتك المهترئة بزملائك، حيث تغرق في كل يوم، في مقابل أن لا يحولك أحمق ما إلى كلب في كتابه !!! كما كان علي أن أشجعك على تضييع وقتك واسمك على كتاب سخيف، وبلا مادة حقيقية، فقط ليجد أقربائك ما يفخرون به !!! كما كان علي أن أعجب بعلاقتك الغريبة بزوجتك، والتي تتوزع بين كلمات قليلة، نصفها تأفف، أما صديقك الشاعر فكان علي أن استمع لقصائده إلى ما لا نهاية، كان علي أن اتركه يحدثنا عن الملوك والقتال !!! والمجد !!! وبعد هذا كله أن أؤمن بأنه يفعل ذلك، لا ليبرر لنفسه إخفاقاته وحماقاته، وإنما لأنه يريد أن يوقف الزمن !!! ومن يدري !!! ربما يفلح في العودة بالزمن إلى الخلف والأمام، وعندها ستكون الأمور ميسرة جدا ً والحمد لله، حيث يمكنه أن يكون أحمق ما خلق الله، ولا يحتاج الأمر منه إلا إلى قصيدة تعيده أعواما ً إلى الوراء ليبدأ من جديد !!!

- سخريتك لا تلهيني، أنا لا أبرر لحسن أخطاءه، ولا أعتبر ما قام به صحيحا ً، ولكني أحاول تفسيره، لم َ انشغل بالقصيدة؟ لم َ كان ينشغل بها دائما ً عن التعامل مع الناس والعالم؟ هذا سلوك غريب؟ ولا يقوم به الإنسان إلا لدوافع داخلية، وأنا أحاول فهم هذه الدوافع، رغبته في رؤية الأشياء جميلة كما عرفها، أو كما افترضها، وكأن لديه تلك اللوحة الكبيرة في روحه والتي كان يرسمها ببطء، وكان المشهد يتغير أمام عينيه بسرعة، أسرع مما يجب، حتى جاء اليوم الذي قرر فيه أن يغمض عينيه، وأن يرسم من خياله الصورة التي زالت، انمحت، ولم يبقى منها شيء، وأنا بدلا ً من أحاول فتح عينيه حتى لا يسقط، مزقت لوحته، ونعتها بالتفاهة، واللامعنى، تخيل اللوحة التي اعتبرها أهم ما لديه، وقضى وقته كله في حراستها، ورسمها، أمزقها أنا، وأصم سمعي عن شكواه، من اليأس الذي يملأ روحه، والشيء الذي كسر في داخله ولم يستطع إصلاحه !!!

- هل تصدق كل ما يقوله الشعراء !!! صاحبك شاعر، وكأي شاعر كان يبني له صنما ً يريد من الجميع أن يعبدوه، وأنت أولهم، وإلا لم َ كان يصر على أن يحشر قصائده في كل اجتماعاتكما، بينما يسخر من مجرد ذكرك لكتاب جدك الذي كان يشغلك حينها؟ كان شاعر لا يرى إلا نفسه، لا يرى إلا التمثال العملاق الذي يبنيه ببطء، وما انكسر في داخله كان ذلكم التمثال.

- إن كان ما تقوله صحيحا ً فكيف تفسر انشغاله بقصيدة عن ملك مخير بين المجد أو العار؟ لا يبدو لي أن شاعرا ً مكسورا ً ينشغل بهذين الخيارين !!! كيف تنكسر صورته في داخله ومع ذلك يفكر بالمجد، وهل يختاره أم لا !!!

- الشعراء يخدعون أنفسهم، ألا تعرف هذا؟ صنع من نفسه ملكا ً !!! وأوقف أمتين على روحه !!! وجعل يكتب قصائد منفصلة يلم فيها حطامه، ليأتي في النهاية ويختار المجد طبعا ً، ما الذي سيختاره سوى هذا؟

- لا... لا... الملك قتل نفسه في نهاية القصيدة، أي مجد هذا !!! الملك رفض أن يختار، هذا مغزى القصيدة، الملك انتحر، وبهذا يكون قد رفض المجد، ورفض العار، واختار لنفسه خيارا ً بينهما.

- ههههههههههههههه، وهذا مجد مبطن، وكأنه يقول أنه متعال ٍ على كل الخيارات، وأنه يمكنه أن يشق له طريقا ً حيث لا طريق.

- نعم... صحيح، والدليل على ذلك أنه بعدما انتهى من القصيدة، قام بالتخلص منها ووضعها بين يدي، ولم يلجأ لنشرها !!!

- هههههههههههه، إنه يكتفي بك، أنت أداته، أنت من ستقوم بنشر قصيدته يوما ً ما، فرصته هو ضئيلة، ولكن أنت من يمكنه منح قصيدته الوهج الذي تحتاجه.

- وماذا لو لم أنشرها؟

- ستفعل... ستفعل.

- أنت تثير الغيظ.

- لأنني أقول ما لا يجب أن يقال.

- هل تعرف لم َ اجتمعت بك اليوم؟

- لتشطبني.

- لا تبدو مستاء ً من ذلك؟

- لا يبدو لي الشطب نهاية سيئة – وعلى فمه ابتسامة غامضة -.

- غريب !!! أذكر أنه كان لديك ذلك الهلع من النهاية، وأن لا تحتويك ذاكرة، إلى آخر ما قلته يومها.

- من هذا الجانب، أنا مطمئن، سأعيش أطول منك.

- ماذا تعني؟

- ستعرف فيما بعد.

- هل لديك كلمات أخيرة؟

- وداعا ً – بابتسامة خبيثة -.

تناولت القلم، وبحركة سريعة شطبته.

أظلم المكان وتواريت أنا وراء شطب عميق.


- تمت... هنا فقط -





الساعة الآن 11:58 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية