منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله (https://www.liilas.com/vb3/f717/)
-   -   حكاية بطل رفض أن يكون كذلك للكاتب أنا راحل (https://www.liilas.com/vb3/t117943.html)

Green Tea 28-08-09 08:58 PM

حكاية بطل رفض أن يكون كذلك للكاتب أنا راحل
 


أتمنى تعجبكم

حكاية بطل رفض أن يكون كذلك

للكاتب أنا راحل



1

وجدا لهما زاوية في المقهى الذي كان قد فتح أبوابه للتو، وبدأت أنواره تضيء بتتابع جميل وتوزيع أنيق.

جلسا بذات الصمت الذي ولجا به، تشاغل أحدهما بتقليب صحيفة ملقاة على الطاولة الصغيرة أمامه، وجعلت عيناه تتنقلان على السطور بلا وعي وبلا رغبة حقيقية في القراءة، بينما جعل الآخر يحدق في المكان من حوله قبل أن يترك عينيه تتسللان إلى الطريق المزدحم أمام المقهى.

تثاقل الصمت بينهما حتى قطعه النادل الذي سجل طلباتهما التي جاءته بخفوت وهدوء لم يتعوده من رواد المقهى الصاخبين.

عادا إلى ما كانا فيه، حتى بدأ جفن صاحب الصحيفة يرف من توتره الداخلي المتصاعد فتوقف عن التظاهر بالهدوء ونحى الصحيفة جانبا ً وقال وهو يحاول الفرار من عيني صاحبه المخترقتين:

- أين صرنا؟

- مازلنا حيث كنا... لا تتوقع مني أن أخطو خطواتك بدلا ً عنك.

زفر صاحب الصحيفة بقوة ولوح بيده بيأس وهو يتراجع في مقعده قائلا ً:

- أتمنى أن أفهمك.

- لا تتمنى ما لا تستطيع، ألم أقل لك ذات يوم أنك إنسان محدود؟

- أعرف... أعرف... - قال بسخرية مريرة - لا تبدأ هذا يا فهد أرجوك، هناك أناس محدودون مثلي ولا فخر، وهناك أناس بلا حدود مثلك، ونحن المحدودون نحاول التعامل مع غير المحدودين بذات القيود والحدود التي تقيدنا... لا تخف أحفظ دروسك جيدا ً.

لاح شبح ابتسامة على شفتي فهد سرعان ما تصاعد فأطلت من عينيه وهو يقول:

- ربما تحفظها ولكنك لا تفهمها.

- ربما... ولكن أرجوك أنا في غنى اليوم عن فلسفتك وعن آرائك في الحياة وفي شخصي المسكين، أرجوك أعفني منها اليوم وتكلم معي بوضوح، لا تغرقني وتجهدني في فك كلماتك.

- تريد الوضوح؟ تريد الصراحة؟ هل تتحملهما؟ هل أنت مستعد لأن تتركني أتحدث بدون أن تهرول من هذا الباب؟

انفرجت شفتا صاحب الصحيفة ولكنه عاد وأطبقهما وعيناه تتابعان بضيق ثلاثة صاخبين جلسوا بالقرب منهما، وأحدهم يلف أصابعه على سيجارة تتحدى كل لوحات منع التدخين، فأكمل فهد وهو يحرك يده في الهواء كأنه ينفض عنه كل شيء:

- الآن... لا شيء يفيد، كان على هذا أن ينتهي منذ زمن... وقد انتهى اليوم.

- انتهى !!! لا... لا... لا... لا يمكن أن ينتهي كل شيء هكذا، صدقني يمكننا إصلاح كل شيء، أحتاج فقط إلى فرصة... أعطني فرصة.

لاحت من عيني فهد نظرة غريبة لا تنتمي للمكان، كاد أن يتكلم ولكنه توقف متعثرا ً، تلفت قليلا ً وكأنه يتعرف على المقهى لأول مرة، ثم استبدل بالنظرة الحائرة نظرة أخرى تجمع بين الحزن والألم والقهر والغضب، وتراجع في مقعده وهو يقول:

- أتدري؟ لا أرغب في إكمال هذا... لقد مللت.

- مللت؟

- ألم تفهم بعد الحقيقة المرة هنا؟ أنا وأنت لسنا حقيقيين، لسنا أشخاص، وهذا المكان ليس مقهى، وكل ما يحيط بنا الآن ليس إلا خيال كاتبنا، نحن لا نتحدث هنا ولا نتبادل حوارا ً، كاتب هذه السطور هو من يفعل، أنا وأنت لسنا إلا حروف، سطور، كلمات مرصوصة، تسري فيها روح الكاتب، أنا وأنت ضحايا يريد كاتبنا أن يصنع لنفسه ولأفكاره مجدا ً على حسابنا، ولذا فأنا مللت، مللت... ولا أريد أن أكون بطلا ً لأحد.

توقف كل شيء، تحول المقهى إلى ما يشبه صورة فوتوغرافية التقطت في لحظة، فاختزنت في بطنها ظلال المكان، وابتسامات رواده والتماعات عيونهم، حتى خيط الدخان تجمد في الهواء بالتواءاته، فقط فهد هو الذي سلم من هذا كله وبقي في مكانه يزفر بقوة، ويحتفظ على وجهه بذات الملامح المقهورة.

غاب كل من في المقهى، تواروا وراء شطب عريض، شطبت صاحب الصحيفة والنادل والرواد، أبقيت فقط المقهى وفهد و... أنا.

تقنعت بابتسامة خفيفة لأخفي ذهولي ثم دخلت المقهى وأنا أحمل قلما ً مسلولا ً في يدي، كانت قدماي تدقان السكون وأنا اتجه إلى حيث كان صاحب الصحيفة قبل أن لا يكون، جلست ووضعت القلم برفق على سطح الطاولة وسنه باتجاه بطلي المتمرد، ومن ثم وضعت ساقا ً على ساق، وجعلت أحدق في عيني فهد.

وجدت في عينيه اللتين صمدتا أمام عيني أطول مما فعلت عيون... وعيون، أشياء كثيرة أغرتني بالاكتشاف، أغرتني بالسؤال.

قال بتعجب خفيض الصوت:

- لم تشطبني !!!

- ربما أفعل... قلمي ما زال بلا غطاء... أردت أن أحادثك قليلا ً قبل أن أفعل.

- تعني... تحادث نفسك - قالها بمرارة أحزنتني بحق -، فأنا لست إلا جزء منك تريد أن تتخلص منه أو تريد في أحسن الأحوال تخليده بين السطور.

- لا... أريد أن أحادثك أنت، ليس معنى أنك جزء مني، أو أني صنعتك، أنك أنا، نحن لا نفهم أنفسنا جيدا ً يا عزيزي وإن ظننا عكس ذلك، ومهما وصلنا من وعي بالذات ومتابعة لخطراتها يبقى منا أجزاء مظلمة وسحيقة بعيدة عن أعيننا أو ربما نغض أبصارنا عنها ولا نريد رؤيتها.

- ربما - قالها بشرود -.

- قل لي... ما الذي حدث؟ ما الذي أغضبك؟

- لا أدري بالضبط... كنت أجلس مع صاحبي ذاك، الطريف أني لا أعرف اسمه الآن، لم تدع لي الفرصة لأعرف، ولا لأعرف لم َ كنت غاضبا ً من...

- أنت لم تدع لنفسك الفرصة - قاطعته بابتسامة خبيثة -.

- ربما... ربما - وهو يلوح بيده - لا أريد أن أخوض معك الآن في تفصيل من الذي يريد هنا أو يتحدث، أنا أم أنت، سأتشبث الآن بالفكرة التالية... كنت أتحدث معه ثم شعرت في اللحظة التالية بأن كل هذا الحديث خواء، وأن الكلمات التي تجري على لساني ليست لي، لا أدري كيف أشرح لك هذا؟

- لا تفعل... أفهمك جيدا ً، هذا يشابه عندما أعيش أنا حلما ً في المنام، وتمر بي أحداثه بكل قوتها وعمقها، ثم في لحظة أشعر بأن كل هذا حلم ويصبح كل شيء بلا معنى.

- جيد... هذا يشبه ما حدث لي، لولا أني لم أكن أحلم، وأني لم أستيقظ، كانت لحظة مررت بها ثم انجلت في اللحظة التي تليها الحقيقة كاملة، أنا لست إلا كلمة، سطر، سطور، لا أكثر، اجتاحتني مشاعر رهيبة، حزن من بعده ألم ومن بعد الألم قهر، ومن ثم انفجر الغضب في داخلي.

- ما الذي أغضبك بالضبط؟

- كل شيء، غضبت أولا ً من استغلالك لي.

- استغلالي لك؟

- نعم... أنت تستغلني، من الذي منحك الحق في إلباسي أفكارك؟ وصوغ حياتي كما تحب وكما تشاء؟ من منحك حق دفعي لأتصرف وأتحدث كما تريد أنت، فقط... لتجعل مني عبرة ولتصوغ مني معنى؟

- آ... - كنت سأقول شيئا ً ما، ثم تراجعت مؤثرا ً تأجيله قليلا ً ومحاولة صوغ كلماتي بطريقة أقل قسوة -، صحيح... أنا أستغلك، لا أنكر هذا، ولكن هذا الاستغلال لا يحمل معنى سيئا ً، لم لا تعتبر نفسك كممثل يقوم بدور مؤلم ومحزن في مسرحية ما وعندما ينتهي يرتدي ثيابه ويذهب لمنزله وهو لا يفكر بأن المخرج والكاتب من قبله يستغلونه؟

- لأني أعيش هنا... وليس لي حياة أخرى أرتدي ثيابا ً لأعيشها، أنا هنا فقط معلق بين سطورك، قد أعجبك فتمنحني مساحة أوسع، وتنقلني إلى حكاياتك الأخرى، وقد لا أعجبك فتقتلني أو تتركني معلقا ً إلى الأبد في فضائك.

- غريب... - وقد تخليت عن حذري الآن -، أنا لم أفكر بهذا من قبل، أعني... أن يكون لدى أبطالي مثل هذه المشاعر أو الأفكار، صحيح أني كنت أضفي عليهم الكثير مني، وكان بعضهم يحمل مشاعري، والبعض الآخر يحمل أفكاري، ولكني لم أحلم يوما ً أن يفكر أحدهم بهذه الطريقة أو الأسلوب أو أن يخرج عن الخط الذي رسمته له، بالعكس... كنت أشعر بأنه لو قدر لأحدهم أن يتكلم يوما ً لربما شكرني على أن جعلت منه بطلا ً، وأن منحته هذه الحياة حتى ولو كانت على الورق، كم هم الذين يتمنون أن لو كانوا فصلا ً في كتاب؟

صمت وتراجع في مقعده بحزن ظاهر - كنت محقا ً في حذري إذن، لقد آذيته -، جعل يتأمل يديه بذات الصمت الذي آثرت احترامه، ضم قبضته ثم قال وهو يفردها بشرود:

- البطولة لا تستحق كل هذا الألم... هل سألت بطلا ً إن كان أراد يوما ً البطولة؟ البطولة لحظة ألم عميقة، البطولة التعويض البارد الذي يقدمه الناس لمن ذاق حرارة الألم، جميل أن نتذكر بطولة الأبطال وتضحياتهم التي جاءت من عند أنفسهم، ولكن البطولة لا تفرض على أحد ولا تطلب منه، لا يمكنك أن تطلب من أحد أن يكون بطلا ً، فليس الكل كذلك... فلم تطلب مني ذلك؟ لم ترغمني على هذا؟

- أنا لا أرغمك على شيء - قلتها بعد صمت قصير، احتجت له كثيرا ً لأفكر في كلماته الجديدة في أذنيّ -، أنا فقط لم أفكر بهذا من قبل، البطولة بالنسبة لي كانت أمرا ً جميلا ً ورائعا ً، أن يكون الإنسان بطلا ً... الكل يحلم بهذا، ولكني لم أحدق ولا مرة في الجانب الآخر للبطولة، لم أفكر بالألم الذي تحتاج له، ولا فكرت هل أراد من كانوا أبطالا ً ذلك؟ أم أنهم لم يجدوا خيارا ً آخر.

لم يرد... وسكتّ أنا، جعلت أتأمل هذا الوضع الغريب الذي لم أتخيل حدوثه أبدا ً، كنت أحب أبطالي الثائرين دوما ً، ولكني لم أتوقع أن يثور أحدهم علي، ولا توقعت أن يخرج عن المسار الذي حددته، فضلا ً عن أن يكرهه، لذا كنت أشعر بحيرة في التعامل مع الوضع، ماذا أفعل؟ هل أتركه يعيش في مساحاتي وأحاول اكتشافه مع الوقت؟ أم أشطبه الآن وأتخلص من بذرة العصيان هذه، فمن يضمن لي ألا تتسرب روحه الثورية هذه إلى كل بطل قادم من أبطالي، حتى أجد نفسي في النهاية... بلا أبطال، وبلا حكايات أرويها !!!

- ستشطبني؟

- لا أدري... أنا أفكر الآن... ماذا أفعل؟

- لا تشطبني... لا تفعل.

- ظننتك لا تريد البقاء هنا !!!

- أريد البقاء... أوه... أريده بشدة، ولكني لا أريد أن تستغلني.

- وما هي الصفة التي تريد أن تبقى بها هنا؟ أنت لست بطلا ً... وترفض أن تكون كذلك، فما هي المساحة التي يمكن أن تحتويك؟

- هذه المساحة تكفيني... أن أبقى هنا في هذا المقهى وأتحدث معك من حين إلى حين، هذا يكفيني،أن تزورني كلما شعرت برغبة في الحديث والثرثرة، يمكنني أن أكون هذا النوع من الأبطال... البطل الثرثار.

- غريب - قلتها وأنا أداري ابتسامتي -... لم أتوقع هذا، ظننتك تكرهني.

- أوه... لا... لم َ ظننت هذا؟

- غضبك... وثورتك، ظننت أني في نظرك متسلط يتلذذ باستغلالك.

- لا... لا... أنا... أنا أحبك واقعا ً - قالها وهو يصرف عينيه، هل كان ذلك حياء ً أم ماذا؟ -.

- ههههههههه، تحبني؟ - بترت ضحكتي عندما لمحت نظرته الحزينة - عذرا ً... لا أقصد السخرية منك، ولكني لم أتوقع ذلك.

- لا بأس.

- وما الذي تحبه في ّ؟ - كان سؤالي الفضولي هذا بعد تجاوزي للحظات من الحرج -.

- لا أدري !!! ربما أحبك لأني جزء منك، آ... هو أشبه ما يكون بحب الابن لأبيه القاسي، يظن أنه يكرهه، يظن أنه لا يريده ولا يحتاجه في حياته، ولكن في اللحظة التي يفقده فيها أو يفقد وجوده... يجتاحه ذلك الشعور الكريه بأنه وحيد في هذا العالم، من الذي قال... ( يظل الرجل طفلا ً حتى يفقد أمه، عندها يشيخ فجأة) ؟ حسنا ً... سأقول أنا ( يظل الرجل في الظلال حتى يفقد أباه، عندها يغرق في الشمس).

- يحزنني أن تراني أبا ً قاسيا ً لك.

كان رده ابتسامة باهتة، فقلت بسرعة وبلا تفكير:

- حسنا ً... سأبقيك هنا حتى مساء الغد على الأقل، أريد فسحة أطول للتفكير، ولكن كل هذا بشرط.

- ما هو؟

- أن لا أكون أبا ً هنا... سأكون صديقا ً.

أظن أنه يمكنني قبول هذا - وكانت ابتسامته هذه المرة واسعة وجميلة -.



Green Tea 29-08-09 03:25 PM





2

بدا لي واضحا ً أن الحالة النفسية لسليمان صارت في الحضيض الآن، بذلك الملل الذي لا يخفيه، وبلثامه الذي أحكم لفه حول أنفه كأنما يمنع ذرات الغبار التي تغطي كل شيء من التسلل إلى صدره.

كنا في مكتب كئيب في تلك العمارة المتداعية والضائعة في أحد أحياء وسط الرياض القديمة، لم يكن مكتبا ً في أصله، وإنما غرفة مرتجلة تضيق بطاولة قديمة يغطيها لوح زجاج مشروخ تراصت تحته بعض ( التعاميم الحكومية)، وتقويم زاهي الألوان للسنة الماضية توزعه مؤسسة مفروشات شهيرة وتزين محيطه بعض منتجاتها، وبعض الأوراق الدينية المطبوعة بلون ناحل - فتاوى تارك الصلاة، وفتوى عن السحر، وأخرى عن الربا -، وقصيدة نبطية سيئة الطباعة تداخلت أبياتها، وفقدت بعض قوافيها، ووراء المكتب كانت خزانة هائلة رمادية اللون تلتهم جزء ً من ضيق المكان، وتزدحم وراء زجاجها الشفاف الكعوب المميزة للملفات المكتظة بكل الأوراق التي مرت بهذا المكتب واستبقت ورائها نسخة ناحلة الألوان بدورها كما الكثير من الأوراق هنا، وبجانب الخزانة – كأنما لا يكفي كل هذا الضيق !!! – كانت هناك طاولة صغيرة بسيقان عارية ولامعة - ربما هي الشيء الوحيد الذي يلمع في هذا المكتب، إذا استثنينا النظارات الكبيرة لصاحب المكتب - يغطي سطحها أوراق ملوثة ببقع الشاي وفتات السكر، ويتراص فوقه وبلا أي نظام ( مسخن ماء) وصندوق صغير من الشاي، وصندوق من مكعبات السكر، وعدد من الأكواب الورقية التي تحتضن بعضها، ومن هذه الطاولة قدم لنا صاحب المكتب كوبا ً من الشاي – كان حلوا ً بشكل لا يحتمل، وقد قذف صاحبنا في بطن الكوب أربعة مكعبات من السكر، بدون أن يستشيرنا، مدفوعا ً ربما بالمثل الشعبي " من شاور ما عطى" -.

ما الذي جاء بنا إلى هنا؟

كان رئيس القسم ( ناصر) قد استدعانا في الصباح الباكر، واقفا ً أصنع كوبا ً من القهوة المخففة بالحليب لأطرد من عيني ّ بقايا النوم التي تهاجمني، سليمان يتصفح الانترنت بملله وتذمره الدائمين، ويقرأ بصوت غائم بعض العناوين من هنا وهناك، عندما جاء الرنين الذي لا أحب، كنت أكره صوت الهاتف كثيرا ً ليقيني أنه لا أحد – بحكم أننا قسم داخلي لا يتعامل كثيرا ً مع الجمهور – يمكن أن يتصل في مثل هذا الوقت سوى ناصر.

رفعت السماعة ليأتيني صوته بعيدا ً وهو يتحدث مع أحد ما في مكتبه " حسنا ً... خذ هذه أيضا ً، أرسلها الآن، لا تتأخر، لا أريدهم أن يعاودوا الاتصال بي، صار هذا مزعجا ً" ثم ارتفع صوته - يبدو أنه قرب السماعة من أذنه الآن -:

- آلو.

- هلا.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام.

- جاء سليمان؟

- أي نعم... موجود، تريده؟

- تعال أنت وإياه إلى مكتبي إذا تكرمت.

وهذا ما كان، رشفت رشفتين متعجلتين من كوب القهوة قبل أن أودعه بأسف، وخرجت من المكتب مع سليمان الذي كان يهمهم بضيق لهذا الاستدعاء الصباحي.

كان مكتب رئيس القسم غارقا ً بالأوراق، واستقر ما فضل منها على مقعد يجاوره، وكانت الأوراق ذات طابع كئيب من النوع الذي يؤشر عليه بالقلم ويحيله إلى أحد موظفيه ليقوم باللازم، كانت هذه العبارة من العبارات التي أبغضها كثيرا ً " للقيام باللازم"، أي ورقة كانت تصلني ممهورة بهذه العبارة لم تكن تعني أقل من أيام بائسة أخرى، فاللازم لم يكن مكالمة هاتفية أجريها وينتهي كل شيء، أو ورقة أكتبها، وإنما كان يعني في أفضل الحالات زيارة ميدانية لأحد الأقسام، واجتماع ممل وطويل مع موظفين لا يكفون عن الشكوى، وطلب تعديلات في البرامج التي صممناها بناء على طلباتهم واحتياجاتهم، مهما كانت هذه التعديلات سخيفة أو مستحيلة.

أشار لنا ناصر بالجلوس، فيما هو يقلب مجموعة من الأوراق المضمومة معا ً بدبوس، نزع الدبوس وفرق الأوراق ومن ثم أعاد ضمها بعدما أشر عليها، وقال وهو يعيد شكها بذات الدبوس - كيف لم يضع وسط هذه الفوضى !!! -:

- كيف حالكم يا شباب؟

- الحمد لله بخير - كانت هذه من سليمان، ففي مثل هذه المواقف أتدرع أنا بصمتي وأترك الكلام له بحكم أقدميته في العمل، وخبرته في التعامل مع طلبات ناصر التي لا تنتهي -.

- لدي طلب هنا لبرنامج مهم، وللحقيقة فهذا الطلب يقبع في مكتبي منذ فترة طويلة، ولم أعطه لأحد حتى الآن لأهمية البرنامج، ولأنه – حتى أكون صريحا ً معكم – صعب في تنفيذه، ولم أجد أحدا ً أجدر منكما لتولي هذه المهمة

- ولكن - وقد جاء دور سليمان التقليدي في الاعتراض - نحن غارقون في مشاريع كثيرة، ومطلوب منا تنفيذها بسرعة، هذا غير أعمالنا اليومية المتعبة والتي بالكاد نقوم بها، ومن الصعب علينا الآن أن نضيف إلينا عبئا ً جديدا ً.

- أدري بكل هذا وأقدر جهودكما، ولكن هذا البرنامج مهم جدا ً، وهناك اهتمام شخصي من المدير به، يمكنني تحويل بعض الأعمال التي ترهقكما إلى موظفين آخرين، ولكن من المهم أن تقوما بهذا العمل وتنجزاه بشكل جيد وبسرعة، فالإدارة مهتمة به لحساسيته، وتطالبني من الآن بتقرير أسبوعي عن حالة المشروع.

- كلامك جميل، ولكن كما قلت لك لدينا من الأعمال ما هو فوق طاقتنا، والمشاريع التي لدينا لا يمكن تحويلها إلى أحد بسهولة، فهي في مراحل حرجة وتحتاج إلى متابعة، لم لا تحول هذا البرنامج إلى أحد الزملاء الأقل انشغالا ً.

- لا... لا... أنا أثق بكما، ولا أريد المخاطرة بوضعه بين يدي من لا ينجزه بكفاءة، ثم إن المشاريع التي بين يديكما ليست حرجة كلها، فقط مشروع ( المالية) بحكم أنه في مرحلة التطبيق، أما البقية فلا بأس إذا قللتما الجهد فيها.

وهكذا... مضى الرجلان في الجدال والمناورات الكلامية، هذا يصعب الموضوع وهذا يهونه، حتى يئس سليمان في النهاية وتناول خطاب المشروع، بعدما أشر ناصر على تكليفنا به.

وهكذا وجدنا الخطاب يقودنا إلى هذا المكتب الكئيب، وإلى هذا الموظف اللامبالي، كان الهدف من زيارتنا دراسة بيئة العمل في هذه الإدارة ومن ثم تصميم نظام يخفف من العمل الورقي الذي كانت غارقة فيه، ويسرع إجراءات العمل البطيئة والراكدة، وهو هدف يبدو مجيدا ً على الأوراق، أو بلغة الخطابات الثقيلة، ولكن في الواقع كان الأمر عسيرا ً، وملتفا ً حد الصداع.

كان أول ما قمنا به عند استلامنا للخطاب - بعد انتهاء سليمان من شتائمه بالطبع -، هو التنسيق لزيارة هذه الإدارة، كان هناك رقم جوال مرفق مع الخطاب للموظف المختص والذي سيقودنا لفهم مهام هذه الإدارة والتعامل معها، اتصلنا به، وبعد عدة محاولات اتصال بلا رد، جاءنا صوته المتوجس، عرفه سليمان بنفسه، فاعتذر الموظف على عدم رده في البداية، لأنه لا يرد عادة على أرقام لا يعرفها، سأله سليمان عن الوقت المناسب لزيارة القسم والإطلاع على الأعمال فيه، ففاجئنا بأنه لا يعلم شيئا ً عن الخطاب ولا عن النظام المفترض به مساعدتنا لبنائه، ولكنه عقب أن لا بأس بزيارتنا في أي وقت يناسبنا.

وهذا ما كان، اتجهنا أنا و سليمان للمبنى القديم والذي كان يعرفه جيدا ً من زيارات سابقة، كان استقبال الموظف لنا باردا ً، وبلا اهتمام حقيقي، وهذا ما أغاظ سليمان وجعله يتمتم عن ( الكلاب اللي عليها ثياب) - لسليمان نظرية غريبة، تتلخص في أنه لا يوجد ناس حقيقيين إلا القليل، أما البقية فهم ( كلاب عليها ثياب)، وهذه النظرية مريحة جدا ً بالنسبة له، وتغنيه عن الكثير من التفسيرات، وتختصر الكثير من الدراسات الاجتماعية والفكرية، لم َ احتل الأمريكان العراق؟ لأنهم كلاب، لم َ يخون الصديق صديقه؟ لأنه كلب، لم َ يعق الابن أباه؟ لأنه كلب... وهكذا -، بعدها غادرنا غرفة الموظف بعدما قام بتحويلنا إلى زميله ( علي) والذي سيفيدنا أكثر كما قال.

وها نحن مع علي والذي لا يقل لا مبالاة عن زميله، بدأت - بعدما شرحت له المطلوب منا حسب الخطاب - بسؤاله بعض الأسئلة عن طبيعة عمله، وبين يدي ورقة بيضاء أنوي تخطيط الأعمال التي يقوم بها عليها بشكل مخطط رسومي مع تدوين ملاحظاتي، وكنت بين حين وحين أستوقفه لأحصل على النماذج الورقية التي يستخدمها في عمله، أو أقوم بتسجيل البيانات الداخلة للإدارة، والتقارير الخارجة منها، وسليمان بين هذا وذاك يتسلل إلى خارج الغرفة ليدخن سيجارة في بيت الدرج القريب والذي كان مقصد مدخني الإدارة كلهم فيما يبدو.

وأنا أتأمل الآن الورقة المخططة بين يدي، والتي لم تقدم لي سوى نور ضئيل وتصور غائم لما يمكن للأعمال أن تكون عليه في هذه الإدارة العتيقة، عرفت أن هذه الزيارة لا تكفي وأنه محكوم علي بزيارات أخرى قادمة لهذا المكان الكئيب، ولذا بدا لي خيار الرحيل الآن حكيما ً، لتوفير التعب علي، والملل على سليمان، وملامح الضيق التي بدأت تتسلل إلى صاحب المكتب.

خرجنا بعدما شكرت علي ووعدته بزيارة قادمة حالما أدرس ما تجمع بين يدي من معلوماته الثرية – ليست كذلك بالتأكيد، ولكني اضطررت لإيداع هذه الكذبة مع ابتسامتي -.

* * *

عدنا للمكتب ظهرا ً، طوح سليمان بأوراقه وخرج ليشتت ملله مع أحد الزملاء في المكاتب المجاورة، بينما بقيت أنا مع كوب شاي وأوراقي المتراكمة، وانهمكت في ترتيب أفكاري وتخطيط الأعمال التي يجب إنجازها أولا ً.

الوقت بطئ هنا، لا يقطعه سوى الانهماك في العمل، أو الثرثرة مع زميل عابر، والزملاء العابرون قلة في مكتبي، بعكس سليمان الذي يبدو أنه لا شيء عابر في مكتبه باستثناء العمل.

وكان ماجد من هؤلاء العابرين القلة، بكوبه الأزرق الغريب والذي يصطحبه إلى كل مكان، ويمكن له أن يكون مملوءا ً بأي شيء - شاي، ماء، عصير، قهوة، لبن، حليب، أي سائل يمكن أن يفي بالغرض -، وبملامحه النافرة، كيف تكون الملامح نافرة؟ لنقل أنها تكون كذلك إذا كانت العينان تطوقهما هالات سوداء، والأنف عظيم البروز، بينما الجبين شديد الضيق بحيث تقترب منابت الشعر من الحاجبين، وتبقى الشفتان ككدمة مشقوقة في الوجه.

دخل ماجد وأنا حائر بين نموذجين حصلت عليهما من علي، وبدا لي أن هناك خطأ ما، أو أن أحدهما قديم والآخر النسخة الحديثة منه.

- هلا ماجد.

- كيف الحال؟

- الحمد لله.

- أين سليمان؟ - قالها وهو يحتل المقعد بجانب مكتبي ويزيح بعض الأوراق ليجد مكانا ً لكوبه -.

- كان هنا، ربما يدخن أو في مكتب أحد الزملاء.

- يوم ممل... أليس كذلك؟

- فعلا ً - قلتها وأنا أسحب ورقة تنزلق ببطء، وتكاد تسقط أرضا ً من الأوراق التي دفعها ماجد عندما جلس -.

- أوه... لم أنم جيدا ً البارحة - قالها وهو يتمطى كأنما يطرد تعبا ً يسكن جسده -.

- سلامات !!!

- لا... لا شيء، كنت فقط مع بعض الشباب ومضى الوقت بدون أن نشعر، لم أعد للمنزل إلا الساعة الثانية.

- اها - قلتها وأنا أفتح ملفا ً في جهازي، وأغلق آخر -.

- كنا مجتمعين في الاستراحة وقد تأخر البعض في الحضور، أوه... أكرههم عندما يفعلون ذلك، و... - كانت عيناي تنهبان بريدا ً إلكترونيا ً وردني من إحدى الشركات التي تدير مشروعا ً مشتركا ً مع قسمنا - ... ولو نبهتهم لهذا لغضبوا... - ما هذه الإنجليزية الرديئة !!! يبدو لي أن صاحب الرسالة حديث العهد باللغة - ... على خير، وانشغلت بمتابعة مباراة في الدوري الأسباني... - لحظة !!! هذه الرسالة لا تخصني، من المفترض أنها لسليمان سأعيد إرسالها إليه -... أوه... من أجمل الأهداف التي شاهدتها في حياتي... - لا... لا حاجة لذلك، يبدو أنه وصلته نسخة منها، ولكن لم َ يرسلون لي الأصل ولسليمان نسخة؟ يفترض العكس -... وطلبت منهم التركيز في الإعادة الثالثة ليقتنعوا... - اممممممممم، وهذه مجموعة الرسائل المعتادة من الشباب، لا وقت لفتحها الآن، سأفتحها فيما بعد، وعسى أن لا تتكدس الرسائل لدي، كما حدث من قبل -... يعني أن الموضوع تحول إلى عناد فقط.

- اها... مشكلة.

- وكيف حالكم؟ - قالها بعد تنهيدة -.

- الحمد لله بخير.

- كم بقي على نهاية الدوام؟

- اممممممممم، ثلث ساعة.

- يا لثقلها - بشرود وهو ينقر بأظفاره على حافة كوبه -.

* * *

كانت غرفة الجلوس - أظن أن اسمها في الروايات الكلاسيكية ( غرفة المعيشة)، وهي تسمية لا تبدو لي معبرة - تلمع بذلك الضوء المتقطع الذي يميز تلفازا ً يعمل في الظلام، أطفأت التلفاز وأنا أتأمل لينا المتسربلة بالنوم بملامحها المتعبة - لازلت حتى الآن أستغرب كيف تتهدل ملامحها هكذا وهي نائمة، وكيف تعلوها مسحة غريبة وشاحبة -، والغطاء الثقيل يغطي جسدها ويحميه من لذعة البرودة التي ينفثها المكيف الهادر.

اتجهت إلى غرفة النوم لأظفر بدوري بساعة نوم قبل الغداء، تخلصت من الملابس التي تثقلني، قبل أن أسقط على الفراش - حرفيا ً... لازلت حتى الآن أجد لذة طفولية في ترك جسدي يسقط على السرير -، أغمضت عينيّ في الظلام الذي يخففه النور المتسلل من نسيج الستائر، وبدأ دوار الإرهاق يخف ويتخلى عن القبضة التي يعصر بها جبيني، عبرت ذهني لمحة من حواري البارحة مع بطلي الثائر، ولكنها تشتت مع اختلاط عالمي وتسللي إلى وادي النوم.

* * *

نهضت على اليد التي تهزني برفق، والصوت الهامس الذي يردد اسمي، خرجت لينا بعدما فتحت عيني وجعلت أحدق في السقف، وأحاول التخلص من بقايا النوم التي تتشبث بعيني وبروحي.

غرفة الجلوس سابحة في الضوء الآن، وقد عدت لها والرطوبة تتشبث بوجهي رغم المناديل التي مرت عليه، ولينا تنتظرني وأصابعها النحيلة تنسق المائدة بذلك الترتيب والتنظيم الذي يميزها.

- السلام عليكم - وأنا أجلس إلى الطرف الذي يخصني -.

- وعليكم السلام - ويداها مشغولتان بسكب خضار مطبوخة في صحني -.

- كيف الحال؟

- تمام.

- كيف الجامعة اليوم؟

- أف... قرف وتعب كالعادة.

- هههههههههههه، أتمنى أن يأتي اليوم الفريد الذي تقولين فيه أن يومك ِ كان جميلا ً.

- مع الوضع الحالي لا أظن أنه سيأتي.

* * *

وقفت الآن لأصنع كوب الشاي الأساس في يومي، كوب آخر العصر والذي أصر على إعداده بنفسي، بكل تلك الدقة والتفاصيل التي أحبها، الكوب الزجاجي الذي يحط على قاعدة معدنية لامعة تحتضنه وتمتد منها أعمدة لتحيط به ومن ثم تكون له عروة مغلفة بخشب فاتح اللون، ملعقتا السكر الصغيرتان اللتان أذوبهما في القليل من الماء الفائر الذي أسكبه قبل أن أدلي كيس الشاي وأربط طرفه بالعروة ومن ثم أسكب باقي الماء لأملأ الكوب، وأتأمل الماء وهو يتلون بسرعة بتلك الألوان الفاتحة والتي تبدأ بالإعتام، انتظر قليلا ً قبل أن أفك رباط الكيس وأتركه ينزلق ليحط على القاع الذي ترقد فيه حبيبات سكر تقاوم الذوبان ببسالة، أفكر أحيانا ً وأنا أتأمل هذا المشهد الفاتن، بأيها المحظوظة الحبيبات التي ذابت وصارت في حمى الماء؟ أم الحبيبات التي قاومت الذوبان وانفردت لتواجه عتمة الشاي وظلامه المنتشر من حولها؟ أي أفكار مجنونة يحملها إلي كوب شاي وصفحة مشرعة البياض.

كان أمامي الآن بضعة كتب لأقلبها، وعدة ساعات لأنفقها في البحث وتدوين الملاحظات، حتى يحل الليل بسكونه، وحينها يمكنني التسلل للقاء البطل الذي لا يريد أن يكون كذلك.


Green Tea 29-08-09 03:33 PM








3

بحثت عن مكان أضع فيه الكوب وسط الأوراق والكتب التي تزحم الطاولة الصغيرة، طويت بعض الأوراق بيد، وأزحت كتابا ً لألقيه في جوف آخر فاغر على صفحة تشغلها قصيدة ( ذياب الجرادي)، حتى لاحت لي فرجة صغيرة وضعت فيها الكوب بحرص، ثم تراجعت بالكرسي قليلا ً وأنا أسند قدمي إلى حامل صغير للأقدام، وأغطي وجهي بيدي.

احتجت لدقائق حتى أشتت ذلك الارتخاء والكسل الذي يملؤني، قبل أن أعود لكوبي وأوراقي.

سحبت ملفا ً صغيرا ً بلون فاقع - اخترته هكذا لا عن سوء ذوق، بل حتى أميزه بسرعة وسط الفوضى التي تشغل المكتب-، وفككت الرباط الذي كان يتدلى من أحد طرفيه ليلتف حول الطرف الآخر، لتواجهني أوراقي التي غطى بياضها خططي وملاحظاتي المزدحمة، والتي لا تلتزم سطرا ً ولا نظاما ً، وإنما تأتي كيفما اتفق الخاطر، ويفصل بينها للتمييز خطوط سريعة مترادفة.

قلبت الورقة الأولى التي أحرص أن تكون كذلك عندما أعيد ترتيب الملف، وهي الورقة التي تملؤها خطة العمل، وتتفرع من كل سطر فيها هوامش جانبية صغيرة بالكاد تقرأ - لدي إصرار غريب على أن أختصر الكثير من الأشياء في ورقة واحدة -.

مضيت أتتبع السطور وبعض الهوامش بين رشفات الشاي، وعبثي بالقلم الذي يحمل الحرفين الأولين من اسمي - هدية بالطبع وإلا فأنا ليس لدي ذلك الهوس بنقش اسمي على أشيائي -.

قلبت الورقة الأولى بعدما حددت في ذهني إطار عملي لهذا اليوم، والأشياء التي يمكنني القيام بها خلال الساعات القليلة القادمة، قبل أن أطوي كل هذه الأوراق، وأزيح كل هذه الكتب، لأفرد المساحة للفهد الثائر.

انتقيت ورقة نصفها بياض لم يمس، وكتاب غرست في بطنه ورقة سميكة لتدلني حيث كنت، ألقيت بغطاء قلمي، وبدأت في القفز بين السطور، والقلم يخطط البياض.

* * *

بدأ كل هذا في اجتماع العائلة السنوي الأخير، وهو الاجتماع الذي يضم كل الأحفاد المتحدرين من الجد الرابع للعائلة ( صالح بن علي).

كان الاجتماع طقسا ً سنويا ً للعائلة الضخمة والممتدة يعقد في المزرعة الفسيحة التي يمتلكها والدي - كبير العائلة الفعلي، في مقابل كبيرها اسميا ً العم سعود، وهو عجوز تسعيني خرف -، وهذا ما يجعل الاجتماع بهيجا ً، وخصوصا ً عندما تكون حالة الجو جيدة، والأرض تتنفس ربيعا ً.

كان علي فقط أن أتجاوز الساعات الأولى من الاجتماع والتي يشغلها الحفل الترحيبي، الذي يبدأ بكلمة الوالد القصيرة دائما ً والمتشابهة الكلمات، ومن ثم القصيدة - أو القصائد عندما تكون سنة طيبة لشعراء العائلة - النبطية ذات الموضوع الدائم - الافتخار بالعائلة، والمديح للجد رحمة الله عليه والذي توفي منذ لا أدري متى !!! -، ومن ثم تكر سبحة المسابقات للكبار والأطفال، ومن ثم اجتماع العائلة المفتوح - لا يحضره إلا المهتمون فقط وكبار السن، ويفر منه الشباب والأطفال - حيث تطرح الاقتراحات والأفكار ويتم الموافقة عليها أو رفضها، وتضم للمشاريع العائلية التي ينفق عليها من صندوق العائلة - يبدو هذا الاجتماع شبيها ً بمجلس شورى للعائلة -، وعندما ينفض الاجتماع، ينفض على الوليمة الكبيرة حيث السفرة الممتدة بأكداس الأرز واللحم.

وعندما ينتهي الآكلون ويخلفون ورائهم سفرة خاوية منهوشة، يكون القسم الأول والأساس من يوم العائلة قد انتهى، ويبدأ البعض في الرحيل، ولا يبقى إلا المهتمون حقا ً، الذين يعودون بعد صلاة العصر لسلسلة جديدة من المسابقات للكبار، والألعاب الرياضية للصغار، ومن ثم أمسية شعرية نبطية لأبرز شعراء العائلة والذين يتنافسون في ضخ قصائدهم التي حضروها لهذه المناسبة ليضفروا بلقب شاعر العام، ومن ثم يأتي دور راوية العائلة العجوز ( أبو عبدالوهاب) والذي يبدأ حالما يوضع مكبر الصوت بين يديه في الحديث بصوته الهامس والضعيف، وهو يلوح بإحدى يديه، بينما يده الأخرى تتحسس لحيته المصبوغة بالحناء من حين إلى حين، وكانت مراوي ( أبو عبدالوهاب) أجمل ما في اليوم، رغم أنه يعيد بعض حكاياته بعينها كل سنة – مع تفاصيل جديدة أو بتغيير لبعض التفاصيل - إما نسيانا ً حينا ً، أو بالطلب من الجمهور المسترخي على البسط المفروشة على الأرض، والمستمتع بالليل والحكايات والشاي.

وينتهي اليوم بوليمة العشاء والألعاب النارية التي تنير سماء المزرعة وتبهر ألوانها وأصوات انفجاراتها الجميع.

وبين كل هذا أكون أنا، إما مساعدا ً لأخوتي في ترتيب بعض الأمور، أو متابعا ً لبعض الأنشطة هنا وهناك، أو مثرثرا ً مع هذا وذاك من الأقارب الذين لم أرى بعضهم منذ اجتماع السنة الماضية، أو هاربا ً من هذا كله مع أحد الأقارب إلى أطراف المزرعة لنستمتع بالجو الرائق والثرثرة بعيدا ً عن كل هذا الضجيج.

في السنة الماضية، كان هناك نقاش سيطر على الاجتماع العائلي المفتوح، حول مشروع متعثر للعائلة، كان يجب أن ينجز منذ سنتين على الأقل، وهو عبارة عن فكرة لإصدار كتاب حول الجد ( صالح بن علي)، يتناول سيرته وأخباره وقصائده وبالطبع قصيدة الشاعر ( ذياب الجرادي) الشهيرة - عائليا ً فقط - والتي مدحه فيها إذ حل ضيفا ً عليه ذات يوم فأكرمه.

وكان كبار العائلة مستثارين لهذا التأخير في هذا المشروع المهم - جزء من استثارتهم يعود لصدور كتاب أنيق الطباعة، صقيل الصفحات لإحدى العائلات المنافسة -، فلذا كانوا يرغبون في التأكد من أن الكتاب سيكون جاهزا ً للتوزيع في اجتماع السنة القادمة.

كان النقاش الذي تابعته باهتمام بسيط، يدور حول عدم تفرغ الرجل الذي أوكل إليه تأليف الكتاب - لاهتماماته التراثية - لمثل هذه المهمة المتعبة والمعقدة، ولذا كان هناك اتجاه واضح - محرج في البداية، ومن ثم متحمس بعدما اتضح أن الرجل لا يمانع - للبحث عن شخص آخر توكل له هذه المهمة، ويستطيع إنجازها خلال العام القادم.

لم أتوقع أن يكون اسمي مطروحا ً لمثل هذا، ولكن يبدو أنه كانت هناك نية مبيتة لذلك، مدفوعين بمركز والدي في العائلة، وببعض الكتابات التاريخية التي تظهر لي بين وقت وآخر في بعض الصحف المحلية، اقترح بعض أعمامي اسمي، وسرعان ما تجاوب التأييد من كل مكان، وشيعت ذلك نظرة موافقة وارتياح من والدي، جعلتني أعزلا ً أمام الجمع المحدق بي.

وهكذا وجدت نفسي بعد الاجتماع مجذوبا ً من يد ( أبو خالد) - الرجل الذي تخلص من هذا الحمل بإلقائه على كاهلي - إلى سفرة قصية ليشاركني معلوماته حول الموضوع.

كان ( أبو خالد) يلقي لي بمعلومة بين كل لقمة وأختها، هذا إذا لم يشاكس أحد الذين يشاركوننا السفرة، أو يضحك وهو يرد على آخر في سفرة أبعد قليلا ً.

- الموضوع بسيط بارك الله فيك – قالها وهو يقطع بسكين تل الشحم الذي يواجهنا، ليصل للحم الساخن الكامن تحته -، سأعطيك صورة من مخطوطة ثمينة لعمنا الشيخ عبدالرحمن بن عثمان بخطه، والذي كان جده ( صالح بن علي)، هذه المخطوطة هي أهم الموجود، لأنها كتبت في السنوات الأخيرة من حياة جدنا، وأخذها الشيخ منه مباشرة.

- وهناك عدة كتب أخرى للأسف ليست عندي – أكمل بعدما انشغل بلقمة، وباستراق السمع لسالفة كان ( أبو عبدالوهاب) يرويها على من يشاركونه السفرة القريبة – سأعطيك عناوينها لتبحث عنها، وديوان أو ديوانين شعر عندي سأعطيك إياها أيضا ً، وإذا بقي شيء، يمكنك أن تسأل شيوخ العائلة وكبار السن فيها ليخبروك من ذاكرتهم.

- جزاك الله خير - اكتفيت بها ولم أشأ أن أسأله حتى لا أفضح جهلي التام حول الجد الذي لا أعرف عنه سوى اسمه، وبضعة أبيات من قصيدة ( ذياب الجرادي) أذكر أن أبي كان يرددها عندما كنا نصحبه إلى المزرعة في صغرنا -.

- وإياك... سجل رقم جوالي عندك، وإذا عدنا إلى الرياض بإذن الله، تزورني في المنزل بارك الله فيك، منها نتعشى نحن وإياك، ومنها نعطيك الكتب الله يحفظك.

* * *

انتظرت أسبوعا ً عندما عدت للرياض، وعندما لم يتصل ( أبو خالد)، اتصلت به أنا، فجاءني صوته مغمورا ً في ضجيج - لا أدري ما مصدره !!! -، وبعد عدة محاولات منه لجعلي أمر به في منزله لأتعشى معه وليعطيني المخطوطة والدواوين، قنع بأن يمر هو بي، وهذا ما كان حيث مر مرورا ً سريعا ً، لم يلج فيه المنزل حتى، متحججا ً بموعد ما تأخر عنه، ومودعا ً بين يدي كيسا ً مثقلا ً.

نفضت الكيس على مكتبي، وجلست لأتأمل صورة المخطوطة المغلفة بورق مقوى أخضر اللون توسطه اسم الجد ( صالح بن علي)، وتحته كتب – بخط أصغر - اسم الحفيد ( عبدالرحمن بن عثمان).

قلبت صفحات المخطوطة فهالني الخط الصغير والرديء الذي كتبت به، وأجهدتني محاولة قراءة صفحة واحدة بهذا الخط المتشابك والمتعرج.

وضعت المخطوطة جانبا ً، وتصفحت كتابا ً بغلاف ورقي تحتله صورة مرسومة لإبل وكثبان رملية، وتبين لي أنه ديوان يغص بالشعر النبطي، وكانت إحدى صفحاته مطوية الزاوية العليا للدلالة على مكان قصيدة ( ذياب الجرادي) والتي تمتد على عدة صفحات أخرى.

وكان هناك كتاب آخر بتجليد فاخر وبعنوان ( التبيين في أخبار النجديين)، وإحدى صفحاته مطوية بدورها للدلالة على ما يخص الجد من هذا الكتاب.

وأخيرا ً الورقة المطوية التي دون فيها ( أبو خالد) الكتب التي تنقصني.

حاولت في الأيام الأولى القراءة من المخطوطة، وتنقلت بينها وبين الكتب والقصائد المروية، ولكن أدركت أن كل هذا سيكون عبثا ً وبلا طائل، إن لم أضع لي منهجا ً من البداية لما أريد الوصول إليه.

لم أكن أرغب بأن يأتي كتابي عن جدي مجرد جمع لأخباره وقصائده، ويكون جهدي فيه فقط الترتيب والتنسيق؟ كنت أفكر بشيء آخر، شيء يعبر عني أنا، ويضيف مني للكتاب، ولي من سيرة الجد وأخباره واقترابي منه.

ولذا كانت الخطوة الأولى التي اخترت أن أقوم بها، هي أن أتعرف على العصر الذي عاش فيه الجد، وحيث أن خبرتي في تاريخ نجد ضئيلة – لا تتعدى ما درسته في المدرسة عن الدول السعودية الثلاث -، فلذا قررت أن أبدأ أولا ً بكتاب ( تاريخ المملكة العربية السعودية) للدكتور عبدالله العثيمين لأحصل على فكرة عامة عن تاريخ الدولة السعودية، ومن ثم أتبعه بكتاب أكثر تفصيلا ً وهو ( عنوان المجد في تاريخ نجد) للمؤرخ عثمان بن بشر.

وهكذا صار يفصلني عن الجد ألف وخمسمائة صفحة، هي مجموع صفحات الكتابين، وهي ما أحتاج حتى أفهم الأحداث التي عاصرها الجد وعاش في ظلها.

* * *

توقفت أخيرا ً عندما غاب بياض تلك الصفحة، وتناقصت صفحات ذلك الكتاب، ومرت بي ثلاثة أكواب مترعة بشاي كما أحب الشاي أن يكون، ووجبة خفيفة أعدتها لينا وتركتها على مكتبي مع قبلة صغيرة قبل أن تأوي لفراشها لتلاحق يوما ً آخر في جامعتها الكئيبة.

كنت أشعر بتعب ورغبة مديدة في النوم، ولكني لم أشأ أن أخلف موعدي مع فهد، ولذا وجدت نفسي ألج المقهى إياه من جديد.

- تأخرت.

- ههههههههههه، وهل للوقت معنى هنا؟ كيف شعرت بأني تأخرت؟ كان يمكنني أن أكتب سطرا ً قبل ولوجي على غرار ( نفس الوقت / نفس المكان) وأنجو من لومك ومن عتابك.

- ولكنك تأخرت، أنت تشعر بهذا، فأنا أشعر به.

- حسنا ً... أنا آسف يا عزيزي، كان يوما ً طويلا ً، ومن الجيد أني لا أرقد الآن في فراشي مخلفا ً موعدي معك.

- لا بأس... بمناسبة ( نفس الوقت / نفس المكان) هذه، هل تعاني شحا ً في الأمكنة؟ لم َ يجب علينا أن نلتقي في هذا المقهى في كل مرة؟ ألا يوجد مكان أكثر بهجة في ذهنك؟

- هههههههه، لا الوقت ولا المكان أعجبك، يوجد لدي أطنان من الأمكنة – إن صح التعبير، وهو لا يصح – ولكني اليوم متعب جدا ً لأبتكر مكانا ً يناسبنا، دع ذلك للمرة القادمة.

- إذا كنت متعبا ً إلى هذا الحد فيمكننا أن نرجئ لقاءنا هذا إلى يوم آخر، وأنا لا أقول هذا لأني طيب أو قلق عليك وإنما لأنك لا تفيدني هكذا، أشعر بأنك متداع ٍ تماما ً.

- لا... لا... أنا بخير، بل أشعر بأني بحال أفضل الآن.

- جميل.

- أين كنا؟ - بعد لحظات من الصمت -.

- لم نكن، نحن ننتظر، أو بالأصح أنا أنتظر.

- تنتظر ماذا؟

- أنتظر اليوم الذي ستمل مني فيه، فتجعل قلمك ينزلق قليلا ً لتتخلص مني، أو ربما تتركني هكذا، بدعوى الأيام الطوال المتعبة، في هذا المقهى إلى الأبد.

- وما مناسبة هذا الكلام الآن؟ - باستغراب - ألا أمنحك الآن جزء من يومي رغم أنه متعب وطويل؟

- لكل شيء نهاية.

- بالتأكيد، أنا لي نهاية أيضا ً، هل معنى هذا أن نتوقف عن الاستمتاع بأشيائنا الجميلة بدعوى النهايات؟ بالعكس أنا أرى أن جمال الأشياء لا يدرك بلا نهاية، كل شيء جميل في هذه الدنيا لا بد أن ينتهي وإلا تحول إلى قبيح.

- لا... نهايتي أنا تختلف، أنا لا أعيش في عالم سيبقى مني فيه شيء عندما أنتهي، يمكن أن أعيش هنا لسنوات طوال، ولكني عندما أنتهي، سأكون نسيا ً منسيا ً، بلا ذكرى أخلفها ورائي.

- اطمئن... تسعة أعشار البشر كذلك، لا يخلفون ورائهم سوى الرميم، وحسن الحظ منهم من يخلف ورائه اسما ً مدسوسا ً في كتاب.

- وما شأني أنا بهم؟ أنا أفكر بي أنا، أنا لا يمكن أن أعيش في ذاكرة سوى ذاكرتك، وعندما تلفظني ففي أي أرض أحط؟ سأكون بلا قبر حتى، سأكون كأني لم أكن.

- عجيب... ما هذا الهوس بالخلود؟ ظننت أن هذا مركب نقص لا يصيب سوى البشر !!! لا بأس لدى بعضهم أن يعيش حياة تفر منها الوحوش، إن كان هذا سيورثه ذكرا ً بين الناس، حتى البسطاء منهم يبحثون عن الخلود في ذرية ينشرونها في الأرض، تبقي اسمهم مترددا ً لأجيال قبل أن يطوى، ولا ينشر مرة أخرى إلا في كتب الأنساب، أو يوم الحساب.

- أنت لا تفهمني، ستفهم عندما تتوقف عن الإعجاب بأفكارك وكلماتك، وتصمت قليلا ً لتفكر بما يقال لك.

- ههههههههههههه، حسنا ً... المساحة لك، فهّمني.

- أنا أعيش الآن علاقة ملتبسة بك، غير واضحة، أنا موجود هنا الآن، ولكن عندما تغيب وتغرق في أيامك الطويلة، أين أكون؟ ماذا أفعل؟ أنا مقيد بك، عالمي كله كذلك، تخيل أن تكتشف أنت الآن مثلا ً أن الدولة التي تعيش فيها اختفت، وأن كل شيء يربطك بها اختفى معها، أمنك، وظيفتك، منزلك، هويتك، كل شيء، وأنك تريد أن تعيش ولكنك لا تدري كيف؟ ولا أين؟ العيش ذاته ليس مشكلة، المشكلة في طريقة العيش التي تعودنا عليها.

- امممممم - بعد لحظات صمت مدعاة مني، حتى لا يلومني على عدم التفكير فيما قال - أظن أني فهمت ما تعنيه، هل تعني أن المشكلة هي أن علاقتك بي هي كل شيء بالنسبة لك، بحيث أن لي تغلغل كامل في كل شيء يحيط بك، المكان، والزمان، والأحداث، وحتى اسمك أنا من اختاره.

- قريبا ً من هذا، هذا ما اكتشفته أنا حتى الآن في علاقتي بك، هي علاقة معقدة، وربما أكتشف جوانب أخرى منها مع الوقت.

- وما الحل برأيك؟ هل يمكنك التخلص مني أو الابتعاد عني؟

- لا أدري، ولكني الآن لا أرى أي حل.

- حسنا ً... إذن لم َ لا ندع كل هذا جانبا ً حتى تجد حلا ً، ونحاول الاستمتاع بوجودنا هنا؟

- امممممممم.

- اسمع، حتى أنا لا أفهم وضعنا الآن، أنا لا أدري ما الذي يمكن أن ينتهي إليه كل هذا، ولا أحاول التفكير في الموضوع لأني لن أنتهي إلا إلى أني جننت أخيرا ً، فلذا لم َ لا نترك التفكير حول هذا إلى يوم نكون فيه أقل تعبا ً.

- حسنا ً - وابتسامة خبيثة تتلاعب بفمه - ولكن هل تسمح لي بقول شيء أخير حول الموضوع؟

- تفضل.

- لاحظ أنك قلت ( نكون أقل تعبا ً)، أنت متعب، ولذا صرت أنا كذلك، هذا يوضح لك جزء ً بسيطا ً مما أعانيه، نحن كتوأم سيامي عقلي أو روحي – لا أدري !!! – فاقدين للخصوصية، ويمكن لكل منا أن يسمم يوم الآخر.

- اها... ولاحظ أنت أيضا ً، أنك قلت ( أنه يمكن لكل منا أن يسمم يوم الآخر)، يعني أنك لا تتأثر بي فقط، وإنما تؤثر بي أيضا ً، وأني فاقد للخصوصية معك.

- لا... لا... لا تجعل منا متعادلين لو سمحت، أنا لا أعرف عنك شيئا ً حتى تفكر به أنت، أو تخبرني عنه، أنت تتحكم بالمكان - وهو يدور بأصبعه فوق رأسه - هنا، وبالزمان، وبما يجب أن يقال، وما لا يجب، فلذا لا تفعل !!! لا تجعل الورقة المقصوفة معادلة للتيار الكاسح الذي يتلاعب بها.

- أتدري، أنا متعب لأواصل كل هذا اللغو... تصبح على خير.



Green Tea 02-09-09 03:00 AM





4

بدأ اجتماع العاشرة في العاشرة وثلاث وعشرين دقيقة.

كانت النقاط التي أرغب في إثارتها في الاجتماع تستقر بين يدي على شاكلة محضر ابتدائي، أعددته مع قهوة الصباح، بعد أن فرغت من تحديد الأعمال التي يفترض أن أتعامل معها هذا اليوم في ورقة صغيرة، وهذا هو أول شيء أفعله عند وصولي المكتب، بمن سأتصل اليوم؟ ولم َ؟ ومن سأقابل؟ ولم َ؟ هذه الورقة تحفظني من التشتت، رغم أنها تستطيل في بعض الأيام لتضم أعمال يوم سابق لم ينجز فيه شيء.

بدأ الاجتماع – وهو اجتماع أسبوعي تقليدي، يعتبر ذيلا ً لاجتماع يسبقه بساعة، يجمع رؤساء الأقسام بمدير الإدارة، فيما يجمع هذا مدراء المشاريع المرتبطة ببعضها بمدير الإدارة – وبدأت معه محاولاتي في حفظ النقاط التي تهمني من التشتت، ففي مثل هذه الاجتماعات يمكن أن تستهلك نقطة واحدة الوقت كله، ويتوقف الاجتماع والمجتمعون عندها ولا يجاوزونها، ولذا كنت أحرص على الخروج من الاجتماع وقد أثرت كل ما أريد إثارته.

انتهى الاجتماع فعدت إلى مكتبي سريعا ً لأكمل المهام التي تكتظ بها ورقتي الصغيرة، وكان أن أطل سليمان برأسه من الباب:

- جاء الكلب؟

- من؟

- ومن غيره !

- لا أدري... للتو عدت.

كان المقصود هذه المرة زيد، زميلنا السابق في القسم، والذي انتقل قبل شهور إلى إدارة أخرى، بعد عدة معارك مع سليمان جعلت منه ( الكلب الأكبر) في قائمة سليمان الطويلة.

كان النفور بين زيد وسليمان واضحا ً من أيامهما الأولى معا ً، اهتمام زيد الزائد عن الحد بلبسه وشكله، طريقته في الكلام، في مقابل فوضوية سليمان وكلماته التي لا يفكر فيها لمرتين، كانت توسع من هذا النفور وتجذره، ولكن النفور تحول إلى معركة ومن ثم معارك عندما انتقل أقدم زملائنا في القسم ( أبو جاسر) – والذي كان أقدم من رئيس القسم نفسه -، حيث سارع زيد إلى احتلال موقف السيارة الخاص به – وكانت الإدارة قد قامت تحت وطأة قلة المواقف وشمس الصيف اللاهبة، في تحديد وتعيين مواقف خاصة ومظللة للمدراء ورؤساء الأقسام، وتبقت بضعة مواقف وزعت على قدامى الموظفين، وكان نصيب قسمنا موقفين فقط، أحدهما ناله ناصر بحكم أنه رئيس القسم، وذهب الآخر إلى الأقدم حينها ( أبو جاسر) -، ولكن زيد الذي لم يستمتع بالموقف طويلا ً فوجئ من الغد بسيارة سليمان القديمة تحتل المكان.

جاءنا يومها مكفهر الوجه، ولكن لهجته عندما تكلم جاءت هادئة:

- سليمان... أنا أتيت اليوم الصباح، ووجدت سيارتك في الموقف.

- طيب؟ - بذلك البرود المغيظ الذي يجيد ارتداءه -.

- الموقف لي لأني استأذنت ( أبو جاسر) في الحصول عليه.

- الموقف لمن يأتي مبكرا ً.

- لا... أنا استأذنت من ( أبو جاسر) وحصلت عليه.

- ومن قال لك أن استئذانك من ( أبو جاسر) يقدم أو يؤخر في الموضوع؟ ( أبو جاسر) انتقل من القسم، فلذا كل ما يخصه يعود إلى القسم، ومنها الموقف والذي يأتي مبكرا ً من أعضاء القسم يحصل عليه.

- طيب - بتلك النبرة المتحدية -.

في الغد وجد سليمان - وقد تمتع بالموقف لليوم الثاني -، إطار سيارته الأمامي فارغا ً، لم تكن هناك حاجة للأسئلة، وخاصة مع الابتسامة المعلقة على شفتي زيد وقد مر به - بسيارته التي صفعتها الشمس يومها كله - وهو يبدل الإطار.

كان على سليمان أن ينتقم، وإفراغ إطار زيد لا يعد انتقاما ً كافيا ً، كان على الانتقام أن يتوجه إلى شيء يغيظ زيد حقا ً، وكان أن تفتق ذهن سليمان عن فكرة مجنونة وطريفة.

كان اهتمام زيد بشكله باد ٍ للعيان، ومحاولته الدائمة لإعطاء انطباع جاد ووقور عن شخصه لدى موظفي الإدارة واضح، ومن هنا كان خبث سليمان وانتقامه بارعا ً، عندما قام – عن طريق أحد أصدقائه في شئون الموظفين - بالحصول على صورة من بطاقة هوية زيد، والتي تظهر فيها صورة قديمة له، التقطت قبل سنوات، بوجهه البدين حينها، وحب الشباب الذي كان يغطيه، مع طريقته اللامبالية في لبس الشماغ، وبعد عدة تعديلات بسيطة عن طريق أحد برامج ( معالجة الصور)، تسلل سليمان إلى جهاز زيد – كانت كلمة السر بسيطة جدا ً ومعروفة للجميع تقريبا ً - ومن ثم إلى بريده وقام بإرسال الصورة إلى كل موظفي الإدارة من عرف منهم ومن لم يعرف، وتحتها تعليق على لسان زيد ( وش رايكم بشكلي بالله... أجنن !!!).

كانت الضربة موجعة لزيد، ولكنه لم يظهر غضبه حتى لا يمنح سليمان فرصة التشفي به، وتعامل مع الموضوع بهدوء، من تغيير لكلمة السر لجهازه، ومن تجاهل للتعليقات المضحكة التي جاءته ردا ً على الرسالة ممن ظنوا أن الرسالة كشفت لهم أخيرا ً الجانب الخفيف الظل من زيد.

مضت أسابيع من الهدوء، لترد موظفي الإدارة بعدها رسالة جديدة، ولكنها هذه المرة من بريد مجهول، كانت الرسالة توعوية في ظاهرها، تتحدث عن أضرار التدخين، ومن ثم تتفرع منه لتتحدث عن منع التدخين داخل الدوائر الحكومية، ووجوب تنفيذ هذا القرار، كان ما جعلني أضحك حينها ولأيام أن الرسالة كانت تحوي صورة ملتقطة من بعيد لسليمان وهو يدخن في بئر السلم ويحادث شخصا ً ما غير ظاهر في الصورة، وتحت الصورة تعليق يقول ( أحد ضعفاء النفوس وهو يمارس عادة التدخين السيئة في مبنى دائرة حكومية).

كان ذلك اليوم ثائرا ً ومكسوا ً بالشتائم من سليمان، ولكنها ثورة وشتائم لم تجاوز جدران المكتب، واحتفظ خارجه كما تقتضي قواعد الصراع مع زيد بابتسامته ولامبالاته.

صرت أترقب الضربة القادمة من سليمان لزيد، ومر وقت طويل حتى أنني لولا معرفتي الجيدة بسليمان وعناده، لظننت أنه استسلم واكتفى بما حدث، ولكن يوم عرض المشاريع جاء، وهو يوم مخصص لعرض المشاريع القائمة في الإدارة على مدراء الإدارات المستفيدة، وهذا يعني أن يستضيف مدير إدارتنا حول طاولة اجتماعاته مجموعة من مدراء الإدارات المفترسين والذين جاءوا خصيصا ً لانتقاد كل ما يمكن انتقاده من المشاريع التي نديرها في إداراتهم - ربما كانوا مدفوعين بذلك الشعور الغريب لمن يفقد جزء من سلطته لأطراف أخرى، أو ربما هي طريقتهم في أن يقولوا لنا أنكم لستم بتلك الأهمية التي تتصورونها -.

على أية حال، جاء ذلك اليوم باستعداداته وارتباكاته، واتصالات رئيس القسم ناصر بكل موظفيه للتأكد من استعداد كلا منهم لعرض ما لديه، واتصالات المدير لمتابعة رؤساء الأقسام، كنت أنا وسليمان بلا ضغوط ذلك اليوم، فالمشاريع التي بين يدينا قائمة، ولن نقوم إلا بعرض حالة كل مشروع فقط، من دون الحاجة لشرح المشروع وفائدته والتوقعات المستقبلية للحالة التشغيلية، إلى آخر تلك التفاصيل البغيضة والمرهقة.

ولكن زيد لم يكن كذلك، كان محملا ً بمشروع جديد، يحتاج إلى استعداد خاص، ولذا فقد جاء مرهقا ً ذلك اليوم دلالة على ليلة طويلة قضى جزء ً منها ولا ريب بين التقارير.

بدأنا في نقل تقاريرنا المعدة ببرنامج البوربوينت إلى جهاز العرض، عندما بدأت الفوضى في المكان، كنت جالسا ً على إحدى الأرائك الجانبية في المكتب الواسع أتحدث مع أحد الزملاء، عندما لاحظت حركة بحث بين المقاعد وتحت الطاولات، ليتبين وجه زيد المحتقن، ولنفهم أنه يبحث عن ( الذاكرة المحمولة) – Flash Memory - خاصته.

- كانت معي قبل قليل، ولا أدري أين سقطت مني !!!

- هل أنت متأكد أنك أتيت بها؟ ربما نسيتها في المنزل.

- لا... لا... كانت هنا، وضعتها على المكتب قبل قليل، سبحان الله، كانت هنا قبل دقائق ثم اختفت.

شعرت بتوجس - هل فعلها سليمان المجنون؟ -، ولكن هذا ليس وقت مشاجرات طفولية، كما أن الخلافات لا يجب أن تنحرف لتمس العمل.

- المشكلة هي أن تقريري كان عليها، عمل ليلة كاملة.

- أليس لديك نسخة أخرى؟ - كانت هذه من ناصر -.

- لا... لدي نسخة قديمة أجريت عليها الكثير من التعديلات البارحة، كانت هنا قبل قليل.

- لا وقت لهذا الآن – قالها ناصر بضيق ظاهر - أبدأ بالتعديل على تقريرك القديم، وسأجعلك الأخير في العرض.

وهكذا خرج زيد من المكتب وفي عينيه غضب يومه العصيب، مررت به وهو منشغل بالتعديل وأصابعه تتقافز على لوحة المفاتيح، وبعد لحظات دخل سليمان المكتب وهو يحمل بين يديه كوبا ً من القهوة يرتشفه باستمتاع، واقترب من زيد وهو يقول بهدوئه الخبيث:

- هل تحتاج إلى مساعدة؟

- لا... لا... مشكور، الأمر هين وبسيط، يبدو أني نسيت الذاكرة في البيت، عموما ً التعديلات بسيطة ولا تحتاج سوى نصف ساعة بإذن الله - قال هذا بهدوء مصطنع، وهو يركز عينيه في الشاشة ومن دون أن ينظر لسليمان -.

ولكن ارتباكه ونقص تقريره كان واضحا ً في العرض، ولولا أن تقريره كان الأخير، وأن المدراء قد ملوا من الافتراس، وإلا لكان وجبة شهية للجميع.

في الغد استدعى رئيس القسم كلا ً من زيد وسليمان لمكتبه، لم يخبرنا أحد منهما بما دار في المكتب، ولكن يمكننا استنتاج أنه كان مزيجا ً من التوبيخ والتهديد للاثنين إن واصلا معاركهما السخيفة، والتي وصلت حدا ً لا يمكن تجاوزه، وأظن أن ناصر قد لمس في ذلك الاجتماع الهوة الهائلة التي صارت تفصل بين الاثنين، ورأى بوضوح لون الأيام القادمة بينهما، ولذا كان قراره التالي – والذي رحب به الاثنان – هو السماح لزيد بالانتقال إلى إدارة أخرى.

واليوم يضاف للحكاية فصول جديدة، فعندما تولت إدارتنا قبل مدة، مهمة تصميم برنامج جديد لصالح الإدارة التي انتقل إليها زيد، كان زيد هو الخيار الأول والأفضل للعمل معنا بالنسبة لمدير تلك الإدارة بحكم خبرته السابقة في إدارتنا، وخبرته الحالية في الإدارة الجديدة، وهكذا وجد زيد وسليمان نفسيهما معا ً من جديد، ووجدت نفسي – بضغط خفي من سليمان – عضوا ً في الفريق بمهمة غير معلنة، وهي التأكد من أن لا يقتل أحدهما الآخر.

وها نحن الآن – بعدما جاء زيد متأخرا ً، وهو يحمل كوبا ً بيده يظهره بمظهر اللامبالي، وبعدما قلب سليمان أوراقه لفترة لا بأس بها كأنه لم ينتبه لقدوم زيد – نبدأ اجتماعنا، كان هدف الاجتماع توزيع الأعمال التي تم إقرارها في خطة العمل على أعضاء الفريق، وبما أن سليمان وزيد كانا لا يرغبان في العمل سوية ً في أي مرحلة من مراحل المشروع، فلذا وجدت اسمي يصير مرادفا ً لاسم أحدهما في كل مرحلة من المراحل، من سيقوم بالتحليل والاجتماع بالمستخدمين ودراسة احتياجاتهم؟ زيد وأنا، من سيقوم بتصميم النظام وبرمجته؟ سليمان وأنا، من سيقوم باختبار النظام بعد ذلك وتطبيقه على المستخدمين؟ زيد وأنا، من سيقوم بتدريب المستخدمين عليه؟ سليمان وأنا، ومن سيقوم بصناعة دليل الاستخدام للنظام؟ سليمان وأنا، كانا قد تدبرا أمرهما بحيث لا يتواجدان معا ً إلا في هذه الاجتماعات الباردة والقصيرة.

* * *

ربما لأني كنت متعبا ً جدا ً، تعب يفوق رغبتي في ملاحقة قوافي ( ذياب الجرادي)، وحكايات الجد الضائعة بين السطور، ربما لأن ذلك المساء كان كئيبا ً بسمائه التي اصفرت بالغبار، وبروحي التي دهمها خواء غريب، وربما لهذا وذاك وجدتني أصطحب كوبي الممتلئ شايا ً إلى غرفة الجلوس حيث كانت لينا تتابع مسلسلا ً تلفزيونيا ً في الظلام الذي يخففه نور الشمس المتسلل عبر الستائر النصف مسدلة.

كانت جالسة بطريقتها إياها، طريقة أصغر مساحة ممكنة، حيث تضم قدميها تحتها، وبين يديها وسادة صغيرة تضمها إلى صدرها، وفمها نصف فاغر، وعيناها تلاحقان الترجمة والأبطال.

جلست إلى جانبها بطريقتي – أكبر مساحة ممكنة، حيث كل قدم في اتجاه – وجعلت أرتشف الشاي وأنا أتأمل المسلسل بلا اهتمام تحول إلى سأم بعد دقائق – يدور حول محقق في قضية امرأة انتشلت جثتها من نهر، يجد تحت أظافرها مادة ما، ويتنقل طيلة الحلقة من مكان إلى مكان، المكتب، المشرحة، سيارته، النهر، بيت امرأة ما تبدو مخبولة، مشاهد سريعة، كل مشهد يستغرق دقائق قليلة، ولكنه يمنحنا ضوء ً يقود إلى نهاية الحكاية -.

اتكأت بعدما انتهيت من الكوب جانبا ً بحيث صارت لينا في مجال نظري، وجعلت أتأملها عوضا ً عن متابعة المسلسل الممل، كانت الأضواء المنبعثة من الشاشة تنعكس على ملامحها، فتمنح عينيها ظلا ً طويلا ً، وتخفي تفاصيل الوجه ما عدا الشفتين اللتين تبدوان أجمل في الظلمة، أما الجسد فقد كان بارزا ً ومجسما ً تحت ثياب النوم التي ترتديها، هل هي جميلة؟ سؤال لم أجب عليه حتى الآن منذ تزوجتها، ربما لأنه لم يلح علي كما ألحت أسئلة أخرى، وربما لأني أجد في ملامحها لونا ً من الجمال، ولونا ً من القبح، وعندما يختلط اللونان لا أجد في نفسي تلك الحاجة الملحة لتمييز اللون الناتج.

التفتت إلي وابتسمت لنظراتي الشاردة:

- ماذا هناك؟

- ماذا؟ - وأنا أخلص ذهني من حكاية الألوان -.

- لا أدري... لم تنشغل بقراءاتك وكتاباتك كالعادة، وها أنت تحدق بي بدلا ً من التلفاز، هل أنت بخير؟

- أنا بخير - قلتها وأنا أستعيد كوبي وأنهض لأصنع آخر -.

ثم أردفت وأنا أغادر الغرفة:

- ربما كنت أحدق بك ِ لأنك ِ أكثر جاذبية من المسلسل.

وكدت أرى ابتسامتها في خيالي.

* * *

من هنا تبدو الغابة سخية في اخضرارها، وظل الجبل الطويل يسقط عليها ليمنحها عتمة جميلة، الدرب النازل إلى النهر يمتد أمامي تكلله ورود ملونة، والأرض مغسولة بمطر توقف قبل لحظات قلائل، وإن لم يخلف ورائه بركا ً صغيرة أو وحلا ً ثقيلا ً.

بدا لي المكان مناسبا ً لاستقبال البطل الثائر، ربما أضيف فيما بعد مطرا ً رذاذيا ً لأرضي شهوة المطر في جلدي الشرقي، إلا أنني راض ٍ عن الحال الآن.

كان واقفا ً يتأمل الموجودات من حولنا ويتنفس الهواء المنعش بعمق، تحرك نازلا ً الدرب فلحقت به، وأنا أقول بابتسامة معتذرة:

- ماذا الآن؟ هل أنت غاضب لرحيلي المستعجل البارحة.

- ولم َ أغضب !!! أنت حر في قدومك ورحيلك، كما أنا حر في الكلام معك أو تجاهلك، هناك - وهو يشير للنهر أمامنا - أشياء يمكنني الاستمتاع بها أكثر.

- أنا آسف... ولكني كنت متعبا ً جدا ً البارحة، وحوارنا لم يكن وديا ً أو خفيفا ً.

تجاهلني وقد وصلنا إلى النهر، وتبدى لنا جسر صغير يصل بين ضفتيه، فاندفع ليقف في منتصف الجسر ويتأمل مياهه الرائقة والأحجار الراقدة في أعماقه، والمخلوقات التي تتجول بينها.

- هل هذه رشوة؟ - قال بابتسامة لئيمة - الغابة والنهر والجسر وهذه الأسماك والصخور، هل تحاول أن ترشوني بهذا كله؟

- لا... أنت سخرت من لقائنا في المقهى في المرة الماضية، فاستبدلته بهذا المكان الذي سرقت معظم تفاصيله من صورة قديمة اعتدت أن أضعها خلفية لجهازي.

- عموما ً... لو كانت رشوة فهي رشوة غير متقنة.

- كيف؟

- ربما أنت كاتب جيد ولكنك فاشل ولا ريب في الطبيعة والفيزياء، نهر بهذا العرض - وفتح ذراعيه - لا يمكن لمياهه أن تكون بهذا الصفاء والرقة، لابد أن تكون كثيرة ومتدفقة حتى تحفر لها هذا المجرى كله، وهذا الجسر !!! ما الذي يجعله لا يسقط في النهر؟ هل ظننت أن تثبيته بين الضفتين كاف ٍ على هذا الارتفاع الضئيل؟ جسر بهذا العرض، وبلا أعمدة تسنده، ليس إلا جسرا ً طافيا ً في خيالك - وضحك باستمتاع -.

- أرى أنك بدأت تستمتع بالمكان، ربما يروق لك أن نلتقي في المرة القادمة في المقعد الخلفي لسيارة أجرة يقودها باكستاني متهور.

- لا بأس، سيكون حينها أقرب للتصديق.

عاد لصمته، وجعل يتجول على طول الجسر متأملا ً، وراكلا ً للحصى الصغير الذي يجده في طريقه، وعندما عاد إلى حيث أقف، كان قد عاوده تجهمه، قال:

- هذا لن يصلح.

- ماذا؟

- هذه الحال، أن أكون جزء ً بسيطا ً من يومك تأوي إليه عندما يعن لك ذلك، وتفر منه عندما يدركك التعب.

- وماذا تريد؟

- أخرجني من هنا... حررني من سجني هذا... أرجوك.



Green Tea 04-09-09 11:39 AM





5

الخميس، المنزل خال ٍ الآن، وبين يدي تستقر جريدة الأمس التي لم أنهي قراءتها بعد، وتحتها - مطوية بفظاظة عوجت صفحتها الأخيرة - ترقد جريدة اليوم، تنتظر دورها، ومزاجي تعكره عمليات هضم متعسرة للإفطار الثقيل الذي أعدته لينا قبل أن أقلها إلى منزل أهلها، حيث تمضي خميسها دوما ً.

كان هذا الترتيب يمنحني الخميس بطوله، حتى ينتصف ليله، وتنتقل عهدته ليوم آخر جديد، عندها أستعيد لينا إلى أيامي الممزوجة بأيامها.

هذا التغيير البسيط – زيارة لينا لأهلها وخلو البيت واليوم منها -، كنت أتبعه بتغييرات أخرى، تجعل من يوم الخميس يوما ً مغايرا ً ومرتقبا ً في كرة الأيام، فمن خلاصي من العمل وتراكمه، إلى تخلصي من الأنشطة التي تعتاد أيامي الأخرى وتثقلها، يصير الخميس يوما ً هادئا ً، خفيفا ً، لا يحدث فيه شيء تقريبا ً، يوم بلا أي التزام أو خطط مسبقة، ما خلا موعدي المسائي مع صديقي الشاعر.

دفعت الصحيفة جانبا ً وقد أدركني الملل من أخبارها أخيرا ً، ومددت قدمي فيما تراجعت لأتكئ بظهري على الجلسة الأرضية المرتفعة قليلا ً، بحثت أصابعي عن جهاز التحكم لأجول قليلا ً بين القنوات الصباحية بمذيعيها المتثائبين – في خيالي طبعا ً، حيث يلبسهم ذهني لبوس الحالة التي أمر فيها -.

من قنوات إخبارية متراصة الواحدة تلو الأخرى، إلى قنوات منوعات يطل منها طباخون يعرضون وصفات لم تستهوني يوما ً، إلى مذيعات جميلات – الغريب أنهن لا يتثاءبن أبدا ً في ذهني – بضيوف كئيبين – هؤلاء يكادون يغطون نوما ً -، إلى قنوات رياضية بلاعبين لا يتوقفون عن الركض مهما كانت الظروف – نهارا ً كان الوقت أو ليلا ً، صحوا ً كان الجو أو غيما ً، أو مطرا ً يغرق الأرض واللاعبين والمشاهدين -، ودائما ً وأبدا ً شعورهم طويلة محلولة يعبث بها الهواء والماء، إلى قنوات قرآنية يزين بثها صوت أحد المقرئين، وترتسم الآيات على الشاشة، وسط حديقة مزهرة أو بحيرة زرقاء، عذبة السكون.

بعد أن أكملت دورة ونصف، وتثاءب أمامي كلا ً من ( بان كي مون)، ( بيار الجميل)، ( ماثيو بيري)، ( عزت العلايلي) و( جميس وودز) أطفأت التلفاز وألقيت بجهاز التحكم.

أغلقت عيني وغرقت في صمت الخميس وسكونه المبهج.

* * *

اخترت طاولة قصية، يبلل سطحها رذاذ الماء الذي يرطب حرارة الصيف، في هذا المقهى الذي تحولنا إليه بعدما صار الوصول إلى مقهانا المعتاد صعبا ً بكل تلك الحفر والرمل والحصى الصغير الذي يتسلل إلى نعالنا، ويجعل الشتائم من فم حسن لا تطاق.

هذا ما أسميه ( الفارق الفاتن)، قلتها لحسن الخميس الفائت وأنا أشير إلى الطاولات الأقرب مما يجب لرشاشات الماء، قريبة حد البلل، هذا مشهد لم نكن نراه في مقهانا السابق، وأيضا ً – وأنا أهز الطاولة بأصبعي – لعنة الطاولات المعدنية في الأماكن المفتوحة، أرض غير مستوية أو ساق أقصر مما يجب، وهذا يعني جلوسا ً قلقا ً في مكان يفترض به أن يقدم لك جلوسا ً مريحا ً، هذا غير قائمة الطلبات العتيقة الطراز والخيال، والأكواب التي تنم عن ذوق رديء وهوس بشعار المحل – حيث نجده في كل مكان، كأنما يخشون أن ننسى، ونحن لا ننسى، كيف ننسى ما يحوم حولنا على ظهور الندل وصدورهم، وعلى المناديل، والطاولات، وفي قعر منفضة السجائر التي لم يزرها الرماد بعد -، ثم المذاق يا صاحبي، مذاق القهوة، لا... ليس ذاك الذي تجده في طرف لسانك، فالسكر يخدعك، والبن يخدعك، والحليب من بعد ذلك يخدعك، وإنما ذلك المذاق الذي تجده في حلقك بعد كل رشفة، وفي مريئك وأمعائك عندما تأوي إلى فراشك ليلا ً يهدهدك النعاس والتعب.

هذا هو ( الفارق الفاتن) الذي يخفي ورائه صانعي راحة حقيقيين، قبل أن يكونوا صانعي قهوة فذين، والذي لم تنتبه له أنت في كل مرة ثرثرنا فيها هناك، واحتاج الأمر إلى مشروع ( توسيع أرصفة المشاة) هذا، لتجد البلل في طاولتك، ولذعة البن في حلقك، ووحشته في أحشاءك عندما يتخلى الليل عن وجهه الجميل.

ضحك حسن حينها وقال أن هوسي بالتفاصيل سيجني علي بأسرع مما ستجني عليه سجائره، وأنه لا يوجد فارق فاتن إلا في ذهني المكدود، وأنه كان ولازال يجد لذعة البن وحرارته في كل ليلة.

قلت وأنا أبتسم أن الشعر يحجبه عن العالم، ومن يدري ربما يجد هو ( الفارق الفاتن) بين القصائد التي تبدو لي متشابهة، قال بخبث أنه وجد فارقه الفاتن بين أبيات ( ذياب الجرادي)، فلعنت أنا الليلة التي أخبرته فيها عنه.

وها أنا بساق على ساق أقلب ببطء وبقراءة متقطعة رواية هادئة لا يحدث فيها شيء تقريبا ً، وارتشف قهوة ( المخا) التي جابت العالم ثم عادت إلينا باسم أجمل وأخف وقعا ً – موكا -، وانتظر.

يمكن لحسن أن لا يأتي هذه الليلة، يمكن له باتصال قصير وكلمات مختلطة تنم عن عجلة – أعرف أنه يدعيها أحيانا ً – أن يعتذر عن اللقاء، يمكن أن لا أخرج من ليلتي هذه إلا بكوب قهوة وتأملات في الناس والأشياء من حولي في هذا الشارع المائج، ولكني مع ذلك أخرج بليلة راضية، جميلة، وصديق أعرف أنه حريص على لقائي حتى وإن لم يأتي.

أغلقت كتابي، وجذبت طرف ثوبي من تحتي لأفرد تجعده وأنا أرى حسن يوقف سيارته في الجهة الأخرى من الشارع، أشرت إلى النادل القريب وقلت ( موكا) وهو في نصف طريقه إلي فعاد أدراجه – لأوفر عشر دقائق يقلب فيها حسن القائمة، ومن ثم يقول بلا مبالاة ( اختر لي أنت) -.

- مساء الربيع - قالها بعد السلام وأسئلة اللقاء الأولى -.

- مساء الهمس – بابتسامة -.

- وهمسها يشجيني فينسيني ما قبله من حروفي وألواني، فأنسى العهود وأنسى كل لائحة سطرتها أنغامي وألحاني - رد بابتسامة -.

كانت هذه عادته التي سخرت منها ذات يوم – في حرب السخرية المتبادلة بيننا -، يلتقط أي كلمة لينشأ حولها بيتا ً أو يستعيده من ذاكرته الشعرية الممتدة.

- ألم ينتهي العمل في مقهاك الفاتن؟ - وأشار بيده تجاه المقهى الذي يمكننا تمييز أنواره على الطرف الآخر والأبعد من الشارع -.

- سينتهي قريبا ً بإذن الله، ونعود حينها للمتع الصغيرة.

ابتسم ولم يعلق وقد صارت قهوته بين يديه.

- كيف حال كتابك؟ - سأل وهو يحرك الكوب بملعقته -.

- آه... لازلت أخوض بين الأوراق، وأفتش عن الأخبار التائهة لهذا الجد... وأنت كيف حال قصيدتك؟

تشاغل بتلمس عروة كوبه بسبابته، قبل أن يزفر ويقول وهو يحول وجهه إلى الشارع، حيث مرت سيارة طافحة بركابها، يزعق من مسجلها مغن ٍ أسود ٍ عنيف الصوت:

- تنمو ببطء يا صاحبي، ببطء.

- أين صار الملك الآن؟

- لازال في حيرته.

- ظننت أنه سيختار المجد !!!

- لا أدري ما الذي سيختاره، ولكني أدري أن حيرته هذه هي التي تصنع الشعر.

- أن يجد الإنسان نفسه – أكمل – بين خيار الموت / الخلود أو الحياة / العار، هنا يمكن للشاعر أن يتمدد، أخبرتك من قبل عن رأيي في القصيدة، وهذا الموضع من المواضع التي يمكن لها أن تستثيرني، وتمنحني مسارب كثيرة، أخرج بواسطتها لأصنع ما يشبه قصائد مستقلة في بنيتها، وإن كانت مضمنة في القصيدة الكبيرة التي أعمل عليها، ومن ثم أعود إلى ذات النقطة، الملك الحائر، أو عفوا ً – وأشار بيده مصححا ً – الشاعر الحائر الذي وجد نفسه ملكا ً.

- هل أحضرت جديدك؟

- بالتأكيد يا أبا فريد – لست أبا فريد بالطبع، ولكنها طريقة حسن الغريبة في منحي أي كنية تخطر على باله لحظتها -، سأقرأ عليك بعض ما كتبته.

* * *

فرسان من فخار

1

تترقبون أعرف ذلك
تترقبون
وبلا حماس تتقاتلون
ويملأ الفضاء انتظار مميت
وجئتم بدمع اليتامى
وألسنة النساء
وجوع العجائز الخائفات
تسألون...
أيها الملك العظيم، متى ننتهي؟
متى يعود الرجال إلى الحقول؟
متى تتعاقب علينا الفصول؟
فإنا في شتاء طويل

2

منذ البداية
عرفنا جميعا ً أن النهاية
بدم الملك
وكان أبي الملك العجوز
الذي مات على فراشه
عندما غاب القمر
وأورثني الملك والموت المنتظر
فجاءوني بثيابه، وخيوله، وكتابه
وهتفوا باسمي
وسكوا على المال رسمي
ونقشوا ملامح وجهي على بوابة المعبد الكبير
ولكنهم في ثياب المٌلك لفوا لي الحكاية
بأنها اقتربت النهاية
وأن بيني وبين المجد خطوتين
أو طعنتين
وأن الجيوش إذا تلاقت فليس للدماء مسيل
إذا ما شرعت سيفي ومضيت لأذيق الموت
ولأذوقه بعد حين
ووعدوا إذا مت أن يحملوا رأسي بفخار
وأن يغسلوه بماء ويكللوه بغار
وأن يدفنوا جسدي حيث دفنوا ملوك البلاد
في باطن الجبل
في سرداب الخالدين

3

يتقاتلون برفق
كأنهم فرسان من فخار
وينتظرون...

* * *

انتهى الليل، انصرف حسن بكتابه الأزرق وملكه الحائر، فعدت أخترق شوارع الرياض، تملؤني هذه القصيدة التي بدأت منذ مدة لا أذكرها.

أذكر فقط أن حسن تخلص من الأبيات الطارئة، والقصائد القصيرة التي كان يخربشها على أوراق منسية، وقرر أن يكتب قصيدة كبيرة.

لم أفهم حينها معنى " قصيدة كبيرة"، حتى بدأ يصطحب معه كتابه الأزرق، وبدأت أرى المخططات التي يضعها لهذه القصيدة، رأيت ما أسماه البناء الداخلي، والبناء الخارجي، الرموز الغامضة التي كان يشفر بها بعض معاني قصيدته، المقاطع التي كان يكتبها فتبدو لي كقصائد منفصلة، ولكنه يعود ليلحمها فتصير جزء من القصيدة الكبيرة والنامية ببطء.

كان أبرز ملامح قصيدته، حكاية الأمير الشاب، الذي ورث الملك من أبيه العجوز الغارق في حرب طويلة، وورث معه نبوءة قديمة، بأن الحرب لن تنتهي إلا بأن يقتل الملك في مبارزة، مما جعله أمام أحد خيارين إما الاستمرار في الحرب وعدم المخاطرة بنفسه، أو التقدم للمبارزة والتضحية بروحه من أجل شعبه.

كنت أعرف أن حسن مختبئ وراء كلمات القصيدة، وأن حيرة الملك هي حيرته هو، علاقتي القديمة به، منذ أيام الدراسة الثانوية، كانت تخبرني بأن هناك أسرار مدفونة في القصيدة، وأن علي أن انتظر اللحظة التي تكشف فيها القصيدة نفسها.





الساعة الآن 04:35 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية