منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات احلام المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f457/)
-   -   120- سقط سهوا - ناتالى سبارك ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t116861.html)

safsaf313 16-08-09 06:32 PM

120- سقط سهوا - ناتالى سبارك ( كاملة )
 
الملخص
شئ ما فيعينيه قال لها :حبيبك القديم قدمات...من ترينه أمامك ليس فيه من الحبيب الا الصورة دون الروح..فبعدما ظنت ادن انها اقتربت من حلمها جدت قلبها تحت قدمي هايدن جاكوبس يدوسه بدون رحمة..ولكن هل صاعت سنوات الألم والحنين والشوق هباء..هل يمكن أن يخطئ قلب المرأة العاشقة الى هذا الحد..ولماذا تلاحق ادنا الفتاة الموهوبة الجميلة ملك الكومبيوتر هايدن بهذه اللهفة التي تجعلها تضحي بكبريائها وطموحاتها بل حتى...بعمرها.....منتديات ليلاس

safsaf313 16-08-09 06:36 PM


1 - ضحكة شبح

كان هايدن جاكوبس نافذ الصبر..انه ليس بالرجل الصبور عادة..لكن كان يعتقدأن هذا أكثر بكثير من قدرة أكثر الرجال رصانة على تحمله.. كان قد أمضى اليومين المنصرمين سجينا في منزله اللندني،كحكم بين عدة مرشحين تواقين للحصول على وظيفة كان يعتبرها ازعاجالا ضرورة له..جميعهم جاؤوه بتوصيات رفيعة من شخصيات رفيعة القدر.لكن فكرة لبقاء ملتصقا بأي واحد منهم لأسابيع أو أشهر من التعاون الوثيق،جعلته يلتوي سخطا.
منتديات ليلاس
تمتم ملتفتا الى وكيله المسن الذي كان يجري عنه المقابلات:
_يا لها من مضيعة للوقت..ما عدد الذين مازال علي مقابلتهم؟
رد دويل فرانسيس باختصار:"الأمر عائد لك هايدن"
كان هو كذلك قد أضاع يومين كاملين هدرا،ويكاد أن يصل الى نهاية قدرته على التحمل..وأكمل:
_أي من كتاب النصوص هؤلاء يمكن أن يكون مناسبا..ما الذي تفتش عنه بحق الله؟عن كمبيوتر بشري؟
رد زبونه ساخطا:
_كلما كان أقل انسانية كان ذلك أفضل..لماذا لا ننسى الأمر يادويل؟
تأوه الوكيل المسن:
_فلنتوقف قليلا هايدن..لقد مررنا بهذا مرات ومرات..قد تكون نابغة كمبيوتر ومؤلف قصص ممتازة،لكن لا يمكنك الشروع في كتابة سيناريو فيلم سينمائي دون تدريب أو خبرة سابقة.ويجب أن تتعاون مع أحد..الا اذا تركت أمر تحويل القصة الى كاتب سيناريو محترف..وهذا ما يفعله أي كاتب متعقل..
_أنا لست كاتبا..والله وحده يعرف ما الذيدفعني الى تأليف ذلك الكتاب أصلا..على أية حال لا ريد أن أرى مؤلفي المثير للشفقة كما هو،يسلب محتواه..اما أن أعمل على هذا السيناريو بنفسي أو أن نلغي الفيلم.
_أوه..حسن جدا..ليكن ما تريد هايدن..لست أدري لماذا أزعج نفسي حقا.
كلاهما كان يعرف جيدا السبب،فلقد كان مؤلف"الجزيرة الضائعه"أثمن ممتلكات"وكالة دوبل فرانسيس الأدبية"في السنوات الأخيرة.ولقد تهافت على اختطافهادون الاطلاع عليها عدد من الناشرين على طرفي المحيط،ومنذ ذلك الوقت يحاول منتجو الأفلام الحصول على حقوق التصوير،برفع أسعار عروضهم،وبتقديم النس المئوية المذهلة،التي لم يسب تقديمها لمؤلف وجه عام،منذ سنوات لم يسبق أن م دويل فرانسيس كوكيل أدبي في مثل هذا التسابق خلف مؤلف مبتدئ غير مجرب..مع أن الوكيل وزبونه الساخر، كانا يدركان جيدا أن سبب اثارةهذه العاصفة من الاهتمام،لم تكن جدارة الكتاب الأدبية التي لا مجال للتساؤل عنها،بل كان اسم المؤلف.
لقد كان هايدن جاكوبس نوعا من الأسطورة في عالم الكومبيوتر منذ برز كعبقري لا يقدر بثمن وهو في السابعة عشرة،ليصبح فيما بعد على رأس امبراطورية كومبيوتر عالمية،وهو في الثلاثين..مع كل هذا، وبالنسبة للرأي العام،بقي مجهولا ا وجه له،مثه مثل بناة الامبراطوريات،الى أن تحطمت نفاثته الخاصة في المحيط الهندي،وقيل أنه مات.
هلة الرومانسية والغموض التي اكتنفت الموت المبكر للمليونير الغامر الشاب,راقت للصحافة وسرعان ما تعلق الناس بذكراه..وأصبح المرحوم المزعوم هايدن جاكوبس مشهورا عالميا،وموضوع عدد لا حصر له من المقالات وكتاب عن حياته الشخصية.
ثم وبعد ستة أشهر من تحطم الطائرة،عاد هايدن جاكوبس الى الظهور من أرض الأموات دون أي تفسير ليثير بهجة الجمهور وفضوله برفضه العوده الى ترؤس امبراطورية جاكوبس،مديرا ظهره لنمط حياته القديم والانكفاء للعيش في فردوس سري استوائي..وبالطبع،مخيلة الجمهر الرومانسية انطلقت في تصوراتها أكثر مما سبق،أمام التحول الغريب من الرجل العابث الى الناسك الغامض..ولا عجب اذن،انه حين خرج بأول كتاب له،وهو خيال علمي،تهاتف الناشرون ومنتجو الأفلام متلهفين الى الحصول عليه..
أعلن الكاتب بصراحة لوكيله:
_سأرى مرشحا واحدا بعد..وهذا كل شئ.
_واذا لم يرق المرشح هذا لتوقعاتك الغامضة..فماذا بعد؟
_اذن ستخبر رجلك..ما اسمه؟
_نيل هاردينغ.زومعظم الكتاب يتلهفون على أشهر مخرج سينمائي في البلاد.
لكن هايدن لم يتأثر.
_بامكانك القول له اما أن يقبل بالسيناريو"الفج"الذي كتبته أو ينسى أمر الفيلم.
هز دويل فرانسيس جسده الضخم،وارتدى معطفه الكشميري الأسود:
_استسلم..اذ لا جدوى من النقاش معك..ويجب أن أذهب الان..عليك اجراء المقابلة التالية بنفسك.
_تبا لي ان فعلت..أتتوقع مني طرح كل الأسئلة السخيفة بنفسي؟
_آسف..لكنني مضطر.انني أساعدك من يومين،ولا أستطيع الغياب عن مكتبي أكثر من هذا..فلست الكاتب الوحيد المتعاقد مع وكالتي،وتعرف هذا..اتصل بي فيما بعد لتقول لي كيف كات مقابلتك معها!
_أوه..اذن هي امرأه؟
أجفل دويل فرانسيس وهو يلحظ لهجة الكاتب المزدرية.
_وماذا في هذا؟انها جوهرة مكتملة..والأكثر من هذا،ليس لديها طموح لأن تكون كاتبة سيناريو..في الواقع هي سكرتية انتاج متخصصه في العمل مع كتاب السيناريوهات..لذا،في تعرف كل المداخل والمخارج التقنية،ن تزعجك بطموحها المبدع..أليس هذا ما تريد؟
بقي الوجه القاسي الوسيم دون تأثر:"شابة!".
فتحرك الوكيل بضيق:
_أجل..في الواحدة والعشرين،أو ما يقارب.
متزوجة؟
_لا..لكنني أظن أن لديها شابا ينتظرها في مكان ما..و..هي محترفة تماما..وأستطيع أن أعطيها ثقتي يا هايدن..لن تزعجك أبدا..
قاطعه هايدن:
_انس الأمر دويل..بامكانك الغاء المقابلة..ظننت أنني كنت أوضحت تماما بعد تلك الحادثة مع آخر"طابعة"أرسلتها لي أنني لن أقبل فتاة جميلة هستيرية أخرى ،تستخدم أوراق الطباعة لتتسلل الى حياتي.
بدا الوكيل غاضبا حقا الآن:
_انها ليست من ذلك الصنف يا هايدن! لقد عملت مع العديد من كتابي،والشكوى الوحيدة كانت أنها غير متعاونة أبدا خارج ساعات العمل..ولا أسمح لك أن تتكلم عنها هكذا!
تفرس هايدن جاكوبس بجه وكيله الغاضب،والتوى فمه الجميل بابتسامة خبيثة أبرزت فتنته الطبيعية:
وهل أستشف من هذا تصدعا في قلبك الصخري؟
لم يبادله دويل فرانسيس ابتسامته..بل رد بهدوء:
_أجد تصرفك مقلقا جدا في بعض الأحيان يا هايدن..فليس كل فتاة تلقاها لديها خطط سرية لايقاعك في فخ الزواج،أو في علاقة غرامية..وتعرف هذا.
ابتسامة هايدن ألانت أسارير وجه الرجل المسن:
_ليس كل فتاة..
_على أي حال،فان الوقت متأخر جدا لالغاء هذا اللقاء..فقد تصل في أية لحظة الآن..وأنت مضطر لرؤيتها.
_حسن جدا دويل..سأراها..لكن كما قلت،ستكون المقابلة الأخيرة،وكي أكون متأكدا أنك لن تجبرني على مقابلات أخرى،سأسافر الأسبوع المقبل وأمضي الأشهر القليلة القادمة على يختي..وحدي ودون اتصال!
تنهد الوكيل باستسلام:
_أظنني أضيع وقتي في الطلب منك أن تعطي الفتاة فرصة.حسن جدا..ادنا جايمسون فتاة مرنة جدا.
ارتفع صوت الكاتب مهددا:
_ادنا جايمسون؟ أليست هي من تحاول دسها لي من جئت اليك مع كتابي؟
توقف دويل فرانسيس عند الباب،وأدار جها بريئا متسائلا:
_أكنت أفعل هذا حقا؟ربما..لست أذكر.
لم ينتظر رد فعل الرجل المتفجر،وغادر لغرفة بسرعة صافقا الباب وراءه.
تأخرت ادنا جايمسون عن الوصول،كعادتها..حتى في اليوم الذي ستواجه فيه أهم مقابلة لها في حياتها..فهي لسبب ما،لا تستطيع الوصول في الوقت المحدد..كان دويل فرانسيس يستند الى سيارته الجاكوار السوداء،وقد بدا ساطا نافذ الصبر،ينتظرها:
_يا الهي يا ادنا..أنت أكر اثارة للسخط من هايدن جاكوبس نفسه.أتدرين أنني أنتظرك هنا منذ أكثر من نصف ساعة؟
_آسفة يادويل.لم أستطع فعل شئ..حاولت جاهدة صدقا.
كبح الوكيل ابتسامة..هناك شئ في ادنا بدو طبيعيا ،ساحرا،ومرحا،مما يجعلها جذابة لا تقاوم حتى لمسن مثله..وقال بخشونة:
_لا بأس الآن..دعيني أنظر اليك.
أي شخص يعرفها حين جاءت أول مرة الى لندن منذ ثلاث سنوات،كان سيجد صعوبة في ايجاد علاقة بين تلك المجهولة المتسكعة على شواطئ"جزر سيشل" وبين هذه الصورة المعقولة التي لا عيب فيها اليوم.
وقل دويل بجفاء:
_ستنفعين..قد يخطئ ويظنك سكرترة ادارية..ولكن تذكري أن تتصرفي مثلها..انه يتوقع خبيرة تقنية ذات كفاءة..ومهما فعلت لا تدعيه يعلم بأنك ماتبة سيناريو.
_أجل..أعرف..لقد راجعنا هذا معا عشرات المرات يا دويل..يمكنك الثقة بي.
هز الوكيل رأسه..اذا كان لأحد أن ينفذ خداعا دقيقا فهي ادنا جايمسون..فمخيلتها الغنية دائما على استعداد لأن تخرج بتفاصيل مذهلة،تجعل القصص التي لا تصدق،قريبة من التصديق..وقال لها:
_يجب أن تستخدمي كل شئ لديك للحصول على الوظيفة.
_سأحصل عليها دويل.
_لن أكون واثقا تماما لو كنت مكانك يا حبيبتي..انه رجل صعب.
لكن،لمعرفته بعدم اكتراث الفتاة بالرجال كان متأكدا من أنها ستكون قضية سهلة.
_لست أدري لماذا تريدين القيام بهذا العمل يا ادنا..انها خطوةجبارة لكن الى الخلف بالنسبة لك..وهي قد تعني الغاء عقدك مع التلفزيون وقد تخسرين على الأرجح عدة سيناريوهات أخرى..أتمنى لو أنك تقولين لي لماذا أنت مصممة على العمل مع هايدن جاكوبس.
فتحولت عنه:
_سأفعل يادويل في يوم ما.
وسارت الى البوابة لترن جرس الهات الداخلي قبل أن يتمكن من متابعة النقاش،ونادته،والبوابة تنفتح:
_سأتصل بك يا دويل..وشكرا لترتيبك هذه المقابلة لي.
كانت ادنا دائما تسعد بالحديث عن نفسها،وعن طموحها في العمل..مع ذلك فهي لا تذكر أبدا حياتها قبل استقرارها في انكلترا.كل ما تمكن دويل فرانسيس م معرفته عنها أنها أتت من جزيرة صغيرة نائية من"جزر السيشل"حيث استقرت عائلتها منذ أجيال عديدة..وتتحدث بحب ومرح عن تربيتها الصارمة، وعن عائلتها المتعمرة،والتي تمثل امتدادا بعيدا لأيام الأمبراطورية الواسعة..لكنها ترفض بحزم أن تشرح سبب تركها لما تشير اليه دائما بحنان"جزيرتها".
السبب الوحيد الذي أعطته لدويل حين سألها:
_أردت كتابة السيناريوهات،اضافة الى هذا فان ليون يحتاج الى من يدير له منزله.
ليون هو أخوها الأكبر،طبيب نفسي ناجح،قرر مثلها أن يكون مستقبله العملي في انكلترا..وتشاركه منزله القديم الطراز، الواسع،في دولويتش..وما عداه كانت تبدو وحيدة في انكلترا،ولم كن دويل يستطيع الا أن يشعر أنها كالسمكة خارج المياه وهي بعيدة عن شواطئ جزيرتها الرملية المستحمة بأشعة الشمس..كانت تبدو أشبه بعصفور في قفص.فرط حبها للحياة يكبحه لجام ما،بدت معه وكأنها تعيش على هامش الحياة..تنتظر،أو تفتش عن شئ ما،أو شخص ما.تنهد دويل بصوت منخفض وهو يدخل سيارته:"يبدو أن ما تفتش عنه وجدته في هايدن جاكوبس".
كانت ادنا تسرع الخطى عبر الممر وهي غافلة عما كان يفكر وكيلها به،وقلبها يخفق بألم في صدرها وهي تقترب من المنزل.
كان المنزل غير عادي مثل صاحبه:فيلا بيضاء أنيقه متناسقة،حديثة الطراز.رغم حالة الذعر التي كانت تتملكا لم تستطع ادنا الا ان تعجب لانسجامه الرائع مع المناظر الطبيعية الخضراء حوله.
الباب الأمامي الواسع،كان يؤدي الى ردهة واسعة قليلة الأثاث،حيث استقبلتها فتاة شابة،شعرها الأحمر المتألق يحيط بوجه أنمش.
ابتسمت حمراء الشعر لادنا:"آنسه جايمسون..أليس كذلك؟".
دون انتظار الرد،تابعت اغراق ادنا بسيل من المعلومات الودية،غير المتوقعة أبدا.
_انني أقوم بدور الاستقبال بالنيابة عن هايدن،فليس لديه من يقوم بهذا ماعدا باميلا العجوز،وهي الآن في الخارج لتتسوق،انها مدبرة المنزل،وهي في خدمة العائلة منذ أجيال.
كانت عيناها الزرقاوان تجيلان النظر في أنحاء جسم ادنا بفضول ودي:
_يعجبني ثوبك،انه من تصميم أرماني أليس كذلك؟أيمكنك تحمل ثمنه بمرتب سكرتيرة؟آسفة..أترينني ضايقتك؟
ضحكت ادنا،وأكدت لها ذلك،فضحكت الفتاة:
_أعرف..أنا لا يمكن تشجيعي..اسمي جويس،وأنا من أقارب هايدن..حسنا..لست قريبة حقيقية،كل ما في الأمر هو أن أمي متزوجة من ابن عمه مالكولم..وأنا أدعوه خالي لأزعجه على سبيل المزاح..تعالي..انه ينتظرك،أنت الرقم أربعة اليوم..أتحبين أن تكوني سكرتيرة؟
فأجابت ادناكاذبة ببرودة:
_أعتقد هذا..والا لما قمت بهذا العمل.
شعرت بالارتياح وهي ترى الغرفة التي أدخلتها اليها فارغة،كان هذر جويس مهدئا لادنا مما جعلها تستجمع شجاعتها وتهدئ من أعصابها..وكانت الفتاة مازالت تتابع ذات الموضوع.
_لا يمكني أن أكون سكرتيرة..أظنني كنت سأكره هذا العمل.أعني البقاء محجوزة في مكتب طوال اليوم،أتلقى الأوامر..كنت سأصبح سيئة جدا في مثل هذا العمل،أليس كذلك هايدن؟
استدارت ادنا،بذعر مفاجئ..حسبما رأت لم يكن هناك غيرهما في الغرفة الواسعة..ورفعت جويس صوتها:
_خالي هايدن ! لا تجلس غاضبا هناك..تعال للقائها.انها تبدو مثفة جدا،وأظنها حلوة كذلك..ستعجبك.
حبست ادنا انفاسها مع تصاعد صوت هايدن الجذاب يملأ الغرفة من مكان غير مرئي:
_هذا يكفي جويس ..ارجي الآن من هنا،ولا تعودي الا لاحضار القهوة.
بعد لحظات ارتباك وقعت نظرات ادنا على مكان الصوت الكسول،القادم من باحة مرصوفة خلف الجدار الزجاجي.
كان يرتدي جنزا باهت اللون،وكنزة واسعة،لونها الأسود الداكن يتعارض مع الخطوط القوية القاسية لوجهه،ومع ذلك يزيدها فتنة،وكذلك الشعر الكثيف المحمر الذي لوحته الشمس،والبشرة التي تلاعبت تقلبات الجو بها،لشخص يفضل الحرية والتحدي.
سمعته يقول:
_ستتناولين فنجان قهوة معي أليس كذلك؟
التحية الاعتيادية التي كانت أعدتها جمدت في حلقها..وكل ما استطاعت أن تقابله به،كان ابتسامة متوترة ضعيفة.
قال بعد صمت قصير، كان خلاله يدخل الغرفة بخطوات رشيقة:
_هل أفسر صمتك كدليل كراهية للقهوة؟أ أنك ربما تفضلين الشاي؟
تدخلت جويس لتساعدها:
_هيا الآن هايدن..ألا ترى أنك ترهب الفتاة؟
واستدارت الى ادنا مبتسمة:
_لا تدعيه يرهبك..انه يحاول اخافتك لتهربي..الواقع أنه يفضل أن لا يعمل معه أحد..انك تحبين القهوة آنسة جايمسون أليس كذلك؟
ردت بهدوء:"أحبها..شكرا لك".
استدارت ادنا مرة أخرى الى الرجل تنتظره ليقوم بالمبادرة.لكن هايدن جاكوبس على ما يبدو،كان مثلها يفضل الانتظار..فوقف هناك مسترخيا،عيناه الزرقاوان القاتمتان تجولاندون اكتراث،فوق جسمها.
قالت بشئ من الفظاظة،بعد أن لم تستطع تحمل نظراته الباردة المقيمة:
_هل لي أن أجلس؟
_أوه..أجل..بكل تأكيد..لقد توفر لي الوقت الكافي للاعجاب بثوبك الرائع..أنت لم تظني حقا أنني قد أتعرف عليك في هذا الزي الجديد..أليس ذلك؟
لحسن الحظ كانت قد جلست،والا لانهارت..والتقت عيناها المجفلتان بعينيه وهي تتمتم:
_تت..تتعرف علي؟
قال ساخرا:
_ان نسيت اذكرك أننا كنا تقابلنا من قبل،منذ أسبوعين تقريبا..في مطعم"ماي فير"..ما عدا أنك في تلك المناسبة لم تكوني وكأنك الاعلان المكتمل الأناقة بل كنت كقنفذ شارع مشعث..ألهذا رفضت دعوة دويل فرانسيس للانضمام الينا على الغداء؟
ترنح جسدها المتوتر قليلا بارتباك وخيبة أمل..كانت في الواقع،قد رأته عدة رات في الأشهر الأخيرة،لأنها كانت مصممة على الظهور أينما تتوقع أن يكون..وكانت دائما كما هي الآن تواجه نفس النظرة الجوفاء..انها بالنبة له لا شئ سوى وجه جميل آخر.
قالت بخفة:
_أنا آسفة سيد جاكوبس..ما كنت أظن أنك ستذكرني.ولمعلوماتك فقط،أنا لم أحاوال المجئ الى هنا متنكرة..كت فقط أحاول أن أعطي الانطباع الجيد..
أصغى اليها بوجه جامد وعينين خاليتين من أي تعبير..ورأت يائسة أن عليها أن تكمل:
_ما أعنيه هو أنني فكرت في أن من الأفضل ان أرتدي ما يناسب هذا الدور..فمن المفترض انني أتقدم الى وظيفة سكرتيرة.
_حقا؟
_بالطبع ألم يشرح لك دويل فرانسيس الأمر؟
_أوه.. بلى..بكل تأكيد فعل هذا..وحسب قول العجوز أنه يعهد الي بأثمن ما لديه سكرتيرة انتاج خبيرةبكل أسرار كابة السيناريو،ذكية جداوخبيرة،ألست هكذا؟
_أجل.
_سن جدا.زأنت بكل تأكيد لا تنقصك الثقة بالنفس؟
_هذا لأنني أعرف ما أنا بارعة فيه.
ما ان خرجت الكلمات منها حتى أدركت انه قد يقرأ فيهامعنى مزدوجا..لسانها المتهور دائما يوقعها بأكثر الفخاخ احراجا.لكن،لدهشتها لميرد على تحديها،بل سأل بعفوية:
_اسمك،كما فهمت،ادنا؟
أخذت نفسا عميقا:"ادنا جايمسون".
_اسم غير مألوف،ادنا..لكنني سأرضى به..حسنا جدا،صباح الخير يا ادنا.
وابتسم دون توقع.
خفق قلبها بعنف،وقد غيرت البسمة الوجه المتجهم الجامد،لتنير العينين المراقبتين،وتلطف القسمات الوسيمة،الخشنة.قال:
_انا لا أتقيد بأوقات عمل محددة..سأتوقع منك أن تعمي في أغرب الأوقات،وق يعني هذا التنقل معي،وحتى الابتعاد عن لندن.ويمكن ان تمكثي بعيدة عن الناس لثلاثة أشهر على الاقل..ايمكنك التحمل؟
لم تكد تصدق ما تسمع،فاجابت:
_استطيع التحمل،اذا استطعته انت.اخبرني فقط أين،متى،وماذا.
_وماذا عن"لماذا"؟
_اوه أعرف"لماذا"فلاسباب خاصة،تريد ان تحور قصتك بنفسك.
_وهل هذا أمر غير عادي؟
_حسنا..أجل..معظم المؤلفين يفضلون الانطلاق بكتابة قصة جديدة بدل التلهي بالقديمة.الا اذا كانوا بحاجة الى المال..ومن الوالواضح ان هذا ما لا تحتاجه انت..لذا فأنت غريب نادر..واعجب لماذا؟
_اذن هناك" لماذا "على كل حال.
_حسن جدا..هناك لماذا..لكنني ل أفترض للحظة انك ستثق بي لتقول لي" لماذا"
_كم أنت دقيقة الملاحظة..اذن انت لا تمانعين في الالتزام بي لعدة اشهر،ولكن احذرك..سنبقى نحن الاثنين فقط الى أن ننتهي..أنا أعمل وأعيش في عزلة تامة.
ردت ببرودة:
_طبعا..أين تجد مثل هذه العزلة عادة؟
_هنا..بين أماكن أخرى..حين لا تغزوني عائلتي..وسيكون من ضمن عملك ابعادهم عني
_أوه..لكن..أعني،بالطبع..
_ماذا كنت سنقولين يا ادنا؟
_فكرت..ان دويل فرانسيس قال أنك قد ترغب في العمل على متن يختك.
سألها ساخرا ،وكانه يصفها أنها تتأثربمثل هذا الرمز للثراء:"وهل يعجبك هذا؟".
أبقت صوتها حلوا بريئا:
_أوه..كثيرا..فأنا أحب البحر،وانا أبحر بيختنا منذ أن وعت ذاكرتي هذا،لكن لم تتح لي الفرصة لهذا منذ ثلاث سنوات..لذا من الطبيعي أن تروق الفكرة لي.
ابتسم معترفا لها بطيقتها الجريئه في القول له أنها مثله،معتادة جدا على مثل هذه الفخامة:
_هكذا اذن..اذا كان الأمر هكذا،ألا تظنين أن الأجدر بك ترك هذه الوظيفةالى من يحتاج الى المال أكثر منك؟
ردت متصلبة:"لا..لا أرى هذا".
كان هذا نفس المنطق القديم مع الفتاة الصغيرة الثرية الذي كانت تقابله طوال حياتها..
_أنا لن اتركه الا لمن يستطيع القيام بها أفضل مني..مى تريدني أن أبدأ؟
لم يكمل الموضوع:
_كم يلزمك من الوقت لتحرير نفسك من التزاماتك الأخرى؟
ودون تفكير ،اجابت:
_لقد فعلت هذا..وانا حرة في البدء ساعة تشاء.
صمت لحظة،ينظر اليها مقيما ببرودة:
_اكنت واثقة الى هذا الحدمن أنك ستحصلين على الوظيفة؟
_حسن..كنت محقة،ألس كذلك؟
شئ ما في صوته مسح الابتسامة عن شفتيها:"أكنت حقا محقة؟".
وبخت نفسها بعنف:أيتها الحمقاء..الرجل يتلاعب بها طوال الوقت،يمازحها،يتظاهر بأنه ماخوذ بسحرها.
_اتتعني بانك لا تريدني؟
_اعتقد ان هذا ما اعنيه تماما.
حاولت السيطرة على رجفة تملكتهاللخيبة العميقة التي انتابتها:
_انت لم تزعج نفسك حتى في السؤال عن مؤهلاتي أو خبرتي..
_أوه..لا أشك فيها أبدا..فأنت جيدة..لكن المشكلة هي انني لا اثق بك.
_هل لي ..ان اعرف السبب؟
بكل تاكيد..لأنك متآمرة،ولست بارعة جدا في هذا انك مستعدة أن تتقدمي لي لأية وظفة كانت،حتى ولو لخادمة خاصة،ولست أدري ولا أهتم لما تأملين تحقيقه من وراء هذا.لكنني أعرف شيئا واحدا وهو..أنك لا تسعين وراء الوظيفة ..بل ورائي أنا.
تردد صدى هذه الكلمات احافلة بالازدراء في أرجاء الغرفة.
خرجت ادنا من جمودها المؤقت ،لتجد نفسها وقد هبت واقفة..الاذلال والغضب أخمدا فيها كل مشاعر أخرى..مهما كان قد عنى لها في الماضي،هي الآن لا تشعر سوى بالكراهية لهذا الغريب اامغرور.
قالت بصوت مفعم بالكراهية:
_حتى ولو كنت محقا،يا سيد جاكوبس..فهذه المقابلة غيرت رأيي..آسفة لأخذي الكثير من وقتك..وداعا.
انفتح الباب فجأة،ودخلت جويس تحمل صينية القهوة لتعلن بحبور،وهي لا تدري طبيعة اجو المتوتر في الغرفة:
_أرجو أن لا يكون هنالك بأس في دخولي..لقد استخدمت سخانة القهوة الجديدة لذا جئت بماء ساخن لتخفيفها اذا كانت قوية.
دفعت ادنا بلطف تعيدها الى الأريكة،ودست فنجان قهوة في يدها، تصر على أن تتذوقها.ثم ارتشفت من فنجان خالها لتتأكد من النتيجة بنفسها وجلست بسعادة على الأريكة قرب ادنا،وكان واضحا أنها تنوي الانضمم الى المقابلة.
هاجمت خالها:"حسنا..هل هي مقبولة؟".
استدارت الى ادنا متجاهلة صمتها:
_هل ناقشتما أمر المرتب؟لا يجب أن تكوني متواضعة..ان هايدن كريم بشكل مقزز،ويستحق أن يستغل.لا تقلقي،سيجعلك تجهدين في اكتساب كل قرش من المرتب..صدقيني.
كانت الفتاة اما غير حساسة بشكل لا يصدق،أو أنها مناورة ذكية،لكنها تمكنت على أي حال من اختراق غضب ادنا وحركت احساسها بالمرح وأكملت جويس هذرها:
_ولسوف تدعينني أجرب هذا الثوب الذي ترتدينه،أليس كذلك؟..أظننا من نفس القياس.أمي تستمر في شراء أسخف الملابس المزعجة لي لكنني واثقة من أنني سأكون مذهلة في هذا الثوب.
قاطعها هايدن جاكوبس صائحا:"توقفي عن هذا جويس!".
_ألم تنتهيا بعد؟أنت تزعج الفتاة المسكينة منذ ربع ساعة.
رد بجفاء:
_هذا ليس من شأنك..لا تحاولي أن تتذاكي الآن جويس!
_أوه..دعك من هذا يا خالي هايدن..
_اخرجي من هنا
باعجاب عميق،راقبت ادنا العينين الضاحكتين تبللهما الدموع..والوجه الجميل ينكمش كوجه مهرج،ووقفت حمراء الشعر تتوجه ببطء نحو الباب..كان للفتاة موهبة كوميدية بارعة..ولم تستطع ادنا اخفاء مرحها،مع انها حاولت جاهدة على وجه وقور.وانفجرت ضحكتها الفضية الرنين في الغرفة الساكنة، تجذب أربع عيون نحوها.
استدارت جويس ملتفتة اليها..ووقفت لحظات تحدق مشدوهة الى المرأة الباردة الأنيقة،التي تحولت بهذه الضحكة الرائعة المتهورة الى شخصية شابة مذهلة..ثم شاركتها ضحكتها..واستغرقت الفتاتان حوالي الدقيقة قبل ان تدركا أن لهما ذات الضحكة الساحرة جدا.
توقفتا عن الضحك،ونظرتا الى بعضهما بذهول..ثم وقد تملكهما الذهول لتشابه ضحكتيهما،أفسحتا الطريق الى موجة أخرى من الضحك المنخفض.
نسيتا هايدن..ولم تلاحظ أي منهما التعبير المتجهم الذي أظلم الوجه النحيل فجأة،وكأنما يتحمل عذابا فوف طاقته،أمام الأصوات الفضية..توقف وسار عبر الأبواب الزجاجية الى الباحة الكبيرة في الخارج.

safsaf313 16-08-09 06:37 PM

تلاشى الضحك،وحل على وجه جويس نظرة اضطراب عميق وألم..أطلقت نظرة تحذير الى ادنا،وتسللت من الغرفة.
اتظرت ادنا بضع دقائق ثم صبت فنجان قهوة جديد،وذهبت اليه في الخارج،ووضعته على منضدة صغيرة.
_قهوتك..ستبرد..
بدا وكانه لم يسمعها،كانت الريح الباردة تتلاعب بشعرها القصير وهي تنظر حولها تتفرج على بوادر الربيع المبكرة في المروج،لكي تتجنب النظر الى القلق الذي يعتم الوجه الوسيم..
لكن صوته كان هادئا ومنخفضا حين تكلم:"أتعيشين في لندن".
_أعيش الآن.جئت اليها منذ ثلاث سنوات.
_من أين؟
_من جزر سيشل..سانت باتريك.
_أعرف سيشل جيدا،لكنني لا أظن أنني زرت جزيرتك بالذات.
_انها جزيرة صغيرة جدا،غير مسكونة تقريبا.
لكن عينيه الزرقاوين المرتكزتين على وجهها الشاحب سلبتاها القدرة على الكلام.
نظرا الى بعضهما،كانا متباعدين،ومع ذلك،كانت عيونهما متشابكة.ولأول مرة،م تجد في عينيه البرودة المهذبة،ولا الدفاع الساخر والكراهية..أخيرا تمتم،وكأنما يكلم نفسه:
_ادنا..ادنا جايمسون..أليس كذلك؟
هزت رأسها،تحبس أنفاسها..وللحظات لا نهاية لها بدا لها وكأنه يتصارع مع ذاكرته..يحاول ايجاد صلة ما..لكنه هز رأسه أخرا..وعرفت أنه يغلي باحباط غاضب.
قالت برقة:"أنا..الأفضل أن أذهب الآن".
ارتفع صوته بشئ من الغلظة:
_انتظري..لدي سؤال آخر أطرحه عليك.
توفت ادنا.وفال آمرا:"استديري".
ثم وبصوت منخفض،خفف من حدة لهجته بقوله"أرجوك"وأطاعته،لكنها أبقت نظرها منخفضا.
بقي ساكتا عدة لحظات ثم قال:
_كنا نعرف بعضنا من قبل.
ولم يكن سؤالا..بل كان يقرر أمرا واقعا،وأكمل:
_ولست أعني تلك المناسبات الخاطفه التي كنت تفعلينها،فا تحاولي أن تمزحي معي..أنا واثق من أنني سمعت ضحكتك هذه من قبل.
اختارت كلماتها بحذر،ك لا تكون كاذبة بشكل مفضوح:
_بالطبع سمعتها.انها تشبه ضحكة جويس..وكلانا أذهله التشابه.
_أجل..هذا صحيح..لكنه ليس ما أقصد..فقد تملكني نفس الاحساس حين سمعت ضحكة جويس،لهذالدي نقطة ضعف نحوها..كما أعتقد.
هز رأسه،وكأنما فقد الصبر مع نفسه لهذا الاعتراف غير الحذر:
_قول لي فقط..هل تقابلنا من قبل؟
أخذت ترتجف،لكن صوتها خرج مضطربا غير محدد امعالم:
_أنا ..لا أظن هذا..لا بد أنك تخلط بيني وبين شخص آخر.
تحملت نظرته الطويلة المتأنية دون وجل..ثم تنفست الصعداء مجددا مع ميل فمه القاسي الى ابتسامة.
ـ ا نها غلطتي اذن..والوظيفة لك..اذا كنت مازلت تريدينها.
لم يتملك نفسها أي بهجة لنصر،ولا ارتياح..أدركت بأن متاعبها قد بدأت لتوها.
قالت،حينحين وثقت من أن صوتها لن يخونها:"أريدها..شكرا لك".
تمتم بخشونة:
ـ لا تشكريني أنا فقط مستعد لأن أجرب..لكن لا تفهميني بشكل خاطئ..فأنا ما زلت لا أثق بك.
أحست بأن مشاعرها قد جرحت وأنها ضعيفة،كادت أن تصاب بدوارتحت القسوة المميتة لقوله هذا،ثم ردت بحدة:
ـ أفهم هذا..متى..تريدني أن أبدأ؟
رد باختصار:
ـ صباح الغد..ننطلق في تجربة قبل أن نقرر نهائيا..في هذه الأثناء،أقترح أن تنتقلي للسكن هنا..كما قلت لك،أنا لا ألتزم بأوقات عمل عادية،وأفضل أن لا تعودي الى منزلك في ساعة متأخرة من الليل.
استدار فجأة ونظر اليها ببرود:
ـ باميلا،مدبرة منزلي،تعيش هنا بشكل دائم،في حال تساءلت..أيناسبك هذا؟
مرة أخرى هزت رأسها موافقة:
ـ أتمانع لو جئت معي بطابعتي الاليكترونية؟أنا أكتب..أعني أطبع عليها بسرعة أكثر.
ابتسم آليا:
ـ لا تزعجي نفسك..استخدمي طابعتي..انها في مكتبتي.اطلبي من جويس أو باميلا أن ترياك المنزل..هل هناك شئ آخر ترغبين في معرفته؟
هزت رأسها نافية..وه ترى نفاذ صبره الواضح لانهاء المقابلة..كان يقف قرب الباب السندياني الموصل الى الردهة،يسد عليها طريق الخروج..تمتمت،تتساءل كيف ستتمكن من شر نفسها لتمر من أمامه:
ـ أنا..سأمر بك غدا.
انحنت تلتقط حقيبة كتفها.
ـ ادنا..
توقفت متسمرة في مكانها:"نعم؟".
أكمل بنفس الصوت الدافئ المنخفض:
ـ هناك شئ واحد من الأفضل أن أذكره قبل أن نبدأ..بما أننا سنعيش سويا،أعتقد أنني يجب أن أطلعك على سر..ولا شك في أنك ستسمعين به من جويس أو أي عضو آخر من عائلتي المحبة..لذا،من الأفضل أن تسمعيه مني..ولن أهينك بالطلب منك ابقاءه لنفسك.
كان قلبها يخفق عاليا حتى أنها ظنته سيسمعه.
ـ لقد سمعت عن اختفائي منذ ثلاث سنوات؟
هزت رأسها:"أنا..قرأت عنه".
ـ أجل..فكرت بهذا..حسنا،ألا تودين أن تعرفي ما حدث لي خلال الستة أشهر التي لا أحسب لها حسابا،في حياتي؟
ـ بلى.
ـ الأمر بسيط جدا..الحقيقة ،أنا لا أعرف..أترين..لقد فقدت ذاكرتي.
بدا صوته عفوياوكأنه يتحدث عن صداع خفيف ومع ذلك كانت ادنا تعي عذابا داخليا في أعماقه وكذلك الجهد الذي يبذله ليقول هذه الكلمات بصوت مرتفع.
لم تحاول اختراق الصمت الطويل..وأخيرا رفعت عينيها لتلتق بعينيه مباشرة..فابتسم:
ـ لا تبدو عليك الدهشة،أو الصدمة..ربما لم تفهميني جيدا..هناك ثغرة سوداء في حياتي..ستة أشهر سوداء..ستة أشهر عشت فيها كشخص آخر ،وليس لدي فكرة، ولو ضبابية،أين، كيف أو من كنت،والأكثر من هذا،لا أعرف ما كنت أفعله خلال تلك الأشهر..وكان يمكن أن أقتل،أسلب،أو...
قاطعته تنهي له كلامه:
ـ أو تجول تائها،ضائعا،مشوشا..لكن على الأرجح وأنت عاقل كما أنت الآن.
ولكن مقاطعتا المفروضة علي أجفلته..فابتسمت معتذرة:
ـ أخي عالم نفسي.لذا سمعت بمثل هذه الحالة من قبل،وأذره يقول:"ان الرجل الذي يعاني فقدان ذاكرة مؤقت هو كالمنوم مغناطيسيا،نادرا ما يتصرف عكس طبيعته الأساسية".
فقال ساخرا منها بلطف:
ـ نادرا فقط؟اذن هناك استثناءات للقاعدة..على كل حال.
ـ أظن هذا،لكنني لا أظنك واحدا منها..ولا تصدق هذا يا سيد جاكوبس.
تألق الوجه الوسيم بابتسامة واسعة،ولأول مرة معته يضحك عاليا:
ـ حسن جدا اذن..واسمي هايدن على فكرة.
مد يد لها،في اشارة رسمية ساخرة،فترددت لكنها أخيرا تركته يصافحها بقبضته القوية الدافئة.قال مبتسما لها:
ـ سنقتنع بأني لست قاتلا أو سارقا،لكنك ستجدينني متقلب المزاج لا يمكن التكهن بتصرفاتي..من الأفضل أن لا تسأليني شيئا في مثل تلك الأوقات أو تحاولي ابداء الشفقة.. فقد أفقد أعصابي لو أن شيئا لامس وترا حساسا..كما حدث..
ـ كما حدث حين سمعتني أضحك.
خرجت منها الكلمات دون أن تعي ما تقول.
الصمت الذي تلا أرعبها..استرقت نظرة من تحت أهدابها متوقعة أن تسمع تأنيبا ساخطا لمقاطعتها التي لا داعي لها،لكنه نظر اليها بابتسامة دافئة غريبة لكنها كانت تعرف أنه لا يراها،بل يرى شخص آخر..شخصا لا وجه له أو جسد..انه يرى شبحا.
قال بصوت خفيض ،وكأنما يتحدث الى نفسه:
ـ أجل،كما حدث حين سمعت ضحكتك..فأنا واثق من أنني سمعتها من قبل..ولكن في مكان آخر..مكان دافئ رطب..حيث البحر بطئ كسول،والأفق دائما ضبابي..وحدها الأصوات،الأريج،الصفات المميزة،وتلك الضحكة الرائعة..و..
انخفضت نظرته الضائعه لتتركز على راحتي يده و كأنما يسأل:
ـ ويداي مدفونتان في شعر منسدل طويل تدفأه الشمس...
اتجهت عيناه الى شعرها القصير،ثم الى عينيها الكبيرتين الواسعتين،الملتمعتين بدموع لم تحاول اخفاءها..
ـ أوه..بحق الله!لا تنظر الى هكذا بهاتين العينين الكبيرتين الحزينتين!
لهجته كانت جافة،نافدة الصبر،لكن على الفور تقريبا،عادت فلطفت مرة أخرى:
ـ آسف..انها فقط ذاكرتي الضعيفة تتلاعب بي مجددا..فلا تدعي هذا يكدرك.
هزت رأها بصمت ..فأكمل:
ـ هيا ادنا..أريد سماعك تضحكين ثانية.
ابتلعت ريقها بصعوبة،دون أن تستجيب بابتسامة:"لا أستطيع..أنا آسفة".
نظر اليها للحظات..ثم وكأنه فقد اهتمامه،أو صبره،استدار عنها،وبخطواته الرشيقة،المسترخية،ترك الغرفة.
***
2/جزيرة الأحلام الضائعة
أريد سماعك تضحكين مرة أخرى..
ذات الصوت ..ذات الابتسامة الدافئة..وذات الأوامر الحميمة..وكأنما القوقعة الرخامية الباردة للكاتب انشقت منفتحة،لتفرج عن الرجل الذي فقدته منذ ثلاث سنوات.
ـ أوه مايلز!
رنت الغرفة بصدى اسمه القديم،ونظرت حوله بذعر خشية أن يكون ثمة من سمع آهتها غير الحذرة..لكن،لم يكن هناك أحد،وغاصت في عمق مقعد بذراعين،كان يجلس عليه قبل قليل..
مايلز..
هي التي أعطته ذلك الاسم،حين قال لها وصوته مثقل بالرعب،ان لا اسم له..لم تكن متأكدة،لماذا تمسكت بهذا الاسم باذات لكن قسوة الاسم وقلة ليونته،كانا يعكسان شيئا من الرجل الذي انمحى منه كل ماضيه،بخسارته لذاكرته،وارتمى في جزيرتها،وفي حياتها.
صائد أسماك،من أهل البلاد الأصليين،وجده على الشاطئ،وحمله الى كوخه القريب.بقي في غيبوبة ليومين قبل أن تلاحظ امرأة الصياد،وهي مربية أطفال قديمة لآل جايمسون،الكدمة في مؤخرة رأسه.وقررت أن تخبر ربيبتها،فالرجل كان بحاجة الى عناية طبية،ولحسن الحظ،كان الدكتور ليون شقيق ادنا الأكبر في وطنه،عائدا من بريطانيا في عطلة.
لم يكن ليون متحمسا جدا الى تورطه في هذه القضية بالذات،فالزوجان لم يجدا في جيوب الرجل أي جواز سفر،ل بطاقات،لا شئ في الواقع يمكن أن يعرف عن الرجل فاقد الوعي.وكانت أول فكرة لليون أن يكون مطاردا،مجرما..لطالما كانت جزيرة سانت باتريك تستخدم كملاذ آمن لمثل هؤلاء..فقد كان سكانها قليلين،معظمهم من أهل البلاد الأصليين،وأسرة جايمسون كانت العائلة الأوروبيه الوحيدة ..ولأن الجزيرة لا أهمة سياسية لها،لم يكن فيها شرطة ،ولا ممثل حكومي،ولا تسهيلات سياحية.لهذا كانت توفر مخبأ مؤقتا للمطلوبين والمطاردين.
على كل حال ،ولكونه طبيبا،لم يستطع ليون رفض فحص الرجل المريض،كما أن ادنا،التي لم تستطع يوما مقاومة فضولها الذي لا يشبع،اصرت على المجئ معه.
وهكذا غزا مايلز حياتها.
منتديات ليلاس
كانت يومها في التاسعة عشرة من عمرها،وقد عاد لتوها من ست سنوات طويلةفي مدرسة داخلية في انكلترا..أبواها كانا يشعران بأنها يجب أن تعود الى انكلترا لتحصل على درجة جامعية ،لكنها بقيت تؤخر الموضوع.كانت تحب جزيرتها بشغف،وقد اشتاقت اليها كثيرا وهي في المدرسة.العالم الخارجي كان يمثل لها سباقا مسعورا من التحدي و المنافسة،لم تكن مستعجلة للانضمام اليهما.أما في حياتها الاجتماعية،فقد كانت تجد كل المرح والصحبة التي تحتاجها بين العديد من الأصدقاء في الجزر الأكبر حجما..أما بالنسبة للعمل،فقد كانت قررت منذ زمن ان تكون كاتبة..وكانت قصصها قد كانت تنشر بانتظام في انكلترا،لذا لا حاجة لها لأ تتابع عملها خارج سانت باتريك.أما الحب..فهذا أمر آخر،فهي أرادته،وحلمت به،وكتبت عنه دونما نهاية في قصصها..لكنه لم يعرض لها أبدا الى أن التقت مايلز.
كان مستلقيا على فراش خشن،في كوخ الزوجين،وجهه الشاحب كالأموات لا يكاد يبدو خلف لحية نامية منذ العديد من الأيام،والتي كانت،مثلها مثل شعره الأشقر القاتم،ملبدة،ملتصقة من جراء مياه البحر.وكانت عيناه مغمضتين،كما أن جسده النحيف كان جامدا بشكل ينذر بالخطر.
استدارت ادنا الى أخيها:
ـ انه ميت يا ليون..أليس كذلك؟
ليون،بخبرته لأربعة سنوات في المستشفى،أمرها ببرود أن تخرج اذا كانت ستزعجه.
ـ انه لم يمت..ليس بعد..لكن اصابته شديدة،دون كسور،ولا أثر لنزيف.لا شك في أنه قوي جدا لينجو من مثل هذه الضربة الخطرة على رأسه.
ربما كان السبب هو الأصوات باللغة الانكليزية،أو مجرد صدفة ..لكن الجفنين الثقيلين تحركا،وفجأة انفتحت عيناه،يحدق مباشرة بعيني ادنا.كان يرحب بها ليس كغريبة،بل كصديق أهل للثقة ..وابتسمت له وخفق قلبها حين استجاب.
سأله ليون بحذر:"أتتكلم الانكليزية؟".
لم يستطع الرجل سوى هز رأسه ايجابا بضعف شديد..ووضع ليون يده على كتفه:
ـ ابق هادئا ولا تحاول الكلام..لقد كنت فاقد الوعي لعدة أيام..وبما أنني لا أملك أية وسائل هنا،لا أستطيع الحكم على حالتك..وقد أضطر الى نقلك الى المستشفى الرئيسي في "ماهي".
سارعت ادنا تشرح له:
ـ ليون طبيب،انه أخي،واسمي ادنا.
ـ اصمتي يا ادنا..ليس هناك ما أستطيع فعله لك الآن،سننتظر الى الغد ونرى..على أمل أن يفيدك النوم.سأعود في الصباح.
قاطعته ادنا بتهورها المعتاد:
ـ هاي.. انتظر لحظة يا ليون..أتفكر في أن تتركه هنا؟سننقله ال منزلنا..
قاطعها ليون:
ـ لا..لن نفعل هذا،فعدا عن واقع أن ليس الامكان تحريكه في حالته هذه،لا أظن أن أبي سيسر باستقبال رجل مطلوب.
ـ انه ليس مطلوبا يا ليون..فالذعر لم يظهر عليه أبدا حين كلمته عن نقله الى الجزيرة الكبيرة..ولو كان هاربا لاضطرب.
اللمعان المرح في العينين الزرقاوين القاتمتين كان مكافأتها الوحيدة.
مرت ثلاثة أيام قبل أن يستيقظ تماما ويتكلم..أولى كلماته لم تكن مفهومة،وكأنها الأنين ..ثم ذهلت ادنا فيما بعد وهي التي كانت تلازمه يوميا،لتعليقاته التي كان يطلقها فجأة..كانت تجلس واضعة رجلا على رجل قرب سريره المؤقت،تقش قطعة مانجو ضخمة،وتلطخ وجهها بالعصير المتناثر،حين جعلها صوته تقفز رعبا.
ـ اذن فهم يأكلون..لطالما ظننت أن الأرواح هي أرفع من أن تتناول الطعام.
ردت بعد استعادتها وعيها من الصدمة المؤقتة:
ـ بالطبع يأكلون..وأنا لست روحا.
ـ اذن هي غير مسحورة؟
عرفت على الفور ما يعني،وكأن عقليهما متجاوبان:
ـ جزيرتنا؟ليس حقا.لكن أمي تحب أن تظن أنها جزيرة الأحلام..
ـ أواثقة انت من أنك لست روحا؟
انفجرت ادنا ضاحكة،ورأت عينيه تشعان سعادة دافئة.
ـ لا..لست روحا بالتأكيد..بل أنا بشر مثير للسخط جدا،لو سألت عني ليون أو أبي.
لم يعد بحاجة لأن يسأل شيئا عن الجزيرة أو عنها ،فقد خصصت أوقاتها له..في تلك الأثناء،خطر لها انهم حتى الآن لا يعرفون اسمه..ولأول مرة ،رأت النظرة الحيرى المذعورة،التي ذهبت بلمعان عينيه الزرقاوين..وقال بعد صمت طويل،وكأنه يحدث نفسه:
ـ لا أعرف..ليساعدني الله..أنا لا أعرف.
لم يعد في امكانها نسيان تلك الساعات المخيفةالتي مرت به برعب بعد أن استوعب بالتدريج وضعه..كان لا يتذكر شيئا أبدا..لا منزله،أو أهله،أو عمله،ولا أي دليل واحد عن ماضيه.كل ما عرفوه عنه أنه انكليزي في أوائل الثلاثين،متعلم ،عليه دلائل التخرج من جامعة أوكسفورد على لاأرجح،حكما على لهجته و تصرفاته..وهذا كل شئ..رجل بلا ماضي!
حين أخبرت ليون بحالة الرجل،قال لها أنه على الأرجح مصاب بفقدان ذاكرة مؤقت،وهذا يحدث عادة بسبب الاصابات السيئة في الرأس والتي تتسبب بدورها بارتجاج للمخ،وانه ل تساعده بشئ بتوترها وخوفها ومن الأفضل أن تعطيه اسما.
من لا شئ ،و لا مكان،تنفست قائلة:"مايلز..سأدعوه مايلز".
سألها ليون:"لماذا؟".
ـ لا أعرف..يبدو لي مناسبا،أتمانع؟
واستدارت الى الرجل..شئ ما في روحها المعنوية المرتفعة اخترق صدمة الرعب فيه،وأجاب بابتسامة كسلى:
ـ ولم لا؟وماذا في السم على أي حال؟أعتقد أنني يجب أن أكون شاكرا لك أنك لم تسميني اسما سخيفا.
كان ليون يراقبه مفكرا:
ـ قد يكون هذا اسما من ماضيك..كل صلة مثل هذه لها قيمتها،وكلما تكلمت أكثر ستستعيد ذاكرتك بشكل أسرع..أما الآن فلا شئ تستطيع القيام به..عليك فقط أن تعيش كما أنت.
وابتسم،ليتوقف عن كونه الطبيب،ويعود أخاها المرح الذي تعرفه..وأكمل:
ـ بامكانك أن تشكر حظك الطيب..ليس بالامكان أن تجد نفسك في مكان أفضل من سانت باتريك..فهي المكان الأمثل لحياة هادئة مسالمة.
بعد أسبوع من هذا أصبح مايلز أكثر صحة،ما عدا نوبات صداع متكررة.انتقل للسكن في منزل مزرعتهم الكبير،وكانت هذه فكرة ليون،حيث قدماه الى والديهما كصديق لليون،قدم من انكلترا الى السيشل لاستعادة عافيته بعد مرض طويل،وأخذت ادنا،ومخيلتها تعمل أوقاتا اضافية،تملأ أية فراغات محتملة،بمعلومات مبتكرة عن ماضيه.
كان مايلز،وحسبما افترضته مخيلة ادنا،كاتب سيناريو،أحد أسباب اختياره لسانت باتريك،هو سيناريو فيلم يعمل فيه،وتجري أحداثه في جزيرة معزولة في المحيط الهندي.
التفت اليها مايلز يسألها وهما وحدهما:
ـ ولماذا كاتب سيناريو؟لماذا ليس كاتب قصة؟
ـ لأن والدي مدمن قراءة،وقد يرغب في قراءة أحد كتبك.من ناحية أخرى انه يكره السينما والتلفزيون.وليس في الجزيرة تلفزيون..هكذا ستكون آمنا جدا من هذه الناحية.
تقبل مايلز شرحها:
ـ حسن جدا..لكن لماذا مجال الكتابة أصلا؟
ـ لا أعرف..احسست أنه مناسب لك.
ضحك:
ـ انني في الواقع أجد الفكرة مثيرة.
لم يكن هناك شك بأن مايلز كان يحيا حياة رغد في ماضيه..فعدا عن علمه الواسع جدا،وذوقه الرفيع المحنك،بدا معتادا على جميع أنواع الرياضة المائية.فرغم حالته الصحية الضعيفة،أثبت أنه متزلج مائي عظيم،غطاس،وسابح مسافات طويلة،أفضل بكثير من ليون وادنا..وأخذ يقود يخت العائلة بخبرة ممتازة،أثارت غيرة ليون المرحة.
بعد أسبوعين أصبح من الصعب تذكر الظروف التي جاءت به الى حياتهم.فقد أصبح وليون صديقين حميمين،يعاملانها بحب مثير للسخط،كأخوين أكبر منها..كانوا وكأنهم يقضون عطلة رائعة معا..ولن تلك النوبات من الصداع الحاد وحدها بقيت لتذكرهم بحالة مايلز القديمة التي قاربت الموت.
لكن ومع تصاعد الاحباط عند ادنا،كان مايلز كلما تحسنت صحته،كلما ابتعد عنها..بد وكأنه مفتون بعزلة الجزيرة الصامتة وغاباتها وبالتلال..وبتلك الصحراء الزرقاء الممتدة للمحيط الهندي..حين كانت تلاحقه،كان يوافق على الانضمام اليها في تمضية أوقاتها،ولكن،كان من الواضح لها أنه يفضل الوحدة مع نفسه على مصاحبتها.

safsaf313 16-08-09 06:38 PM

صاح بها ليون مرة،قبل مغادرته الى انكلترا:
ـ دعيه وشأنه يا ادنا..ألا ترين أنه يمر بأوقات عصيبة؟حاولي تصور نفسك تستيقظين يوما،لتجدي أنك غريبة عن نفسك،وأن لا ماضي لك.
كما حدث،كانت مهنة مايلز المزعومة،مجالا للهرب نحو الخيال..كتابته للفيلم كان المبرر لبقائه بعد عودة ليون الى واجباته في المستشفى في لندن..وكتاباته أعطت العذر الجيد لادنا،لقضاء معظم وقتها معه.
دخلت غرفته كالعاصفة تعلن في الصباح التالي لرحيل ليون:
ـ الفطور جاهز..لقد انتهت الاجازة..انه من السرير يا مايلز.
كانت قد اكتشفت أن مايلز لا يكون في أفضل حالاته صباحا..كان مازال يحتاج الى ساعات نوم طويلة.تمتم والنعاس يغلبه:
ـ ابتعدي عني يا ادنا!
ووضع رأسه تحت الوسادة لينجو من نور الصباح.
ـ أوه..لا..لن تفعل هذا..انك ستنهض وتأتي معي الى سقيفتي على الشاطئ..لقد وصلت طابعتك لتوها من"ماهي".
تأوه مايلز:
ـ عم تتكلمين بحق الله؟
ـ عن الكنابة..هذا ما أتكلم عنه..أنت كاتب،ألا تذكر؟لذا من الأفضل أن تقوم ببعض الكتابة..كي تسكت والدي.
ـ أنت مبللة بالماء! هيا أخرجي من غرفتي..قد أكون فقدت ذاكرتي..لكنني ما زت أذكر ما يمكن أن أفعل لامرأة!
احمر وجه ادنا..وأحست بارتباك سخيف،كأنها المراهقة الصغيرة،قالت تدافع عن نفسها:
ـ أنا دائما أبدأ صباحي بالسباحة..فلا تتوقع مني أن أغير عاداتي لأنك تعيش معنا.
جالت عيناه على شعرها الفاتن الذي ما زال يلمع بقطرات الماء المالحة.
ـ لن أحلم بهذا..طاما تبتعدين عني ولا تزعجيني.
حاولت اعادة دوريهما الجديدين الى الدورين المريحين المألوفين،هو الضعيف المريض الذي يستعيد عافيته،وهي المسيطرة:
ـ أوه لا تكن كسولا هكذ يا مايلز هيا انهض.
انقلب ضاحكا من وجهها الساخط ليخرج من السرير برشاقة الحيوان،وليتقدم الى الباب حيث تقف.
ـ من هو الكسول الآن يا ادنا جايمسون؟
لاحقتها ضحكته وهي تركض من الغرفة بذعر.
منزل أسرة جايمسون،الصلب البناء،كان يقع على بعد بضع مئات من الأمتار صعودا في التل،مخفي تقريبا عن الأنظار بستار من أشجار الحور القديمة،وأدغال استوائية..درج صخري ضيق متلو كالأفعى،كان الممر الوحيد نزولا عمن المنحدر الحاد الى الشاطئ الرملي الأبيض،حيث"مكتبتها"المرتجلة،التي كانت في الواقع سقيفة مكشوفة مغطاة بمراوح عملاقة من أشجار النخل،توفر لها منظرا لا يعترضه شئ،للمحيط الأزرق الكسول ،وللخليج الصغير حيث يرسو يخت الأسرة وسيلتهم الوحيدة للوصول الى الجزر الرئيسية.والدها المحب للكتب،كان معجبا باختيارها لمستقبلها المهني،وقد وصل السقيفة البدائية بمولد كهرباء المنزل كي يتسنى لها العمل بعد حول الظلام،وقبل أي شئ آخر،للتمتع بفخامة العمل على طابعة اليكترونية..أما ما تبقى فكان بسيطا،بضعة كراس هزازة ومنضدتان قابلتان للطي.
الى أن انضم اليها مايلز في"مكتبتها"كانت قد عادت الى هدوئها مجددا..وجعلته يجلس في مواجهة الآلة الكاتبة اليدوية الصغيرة التي طلبتها من"فيكتوريا"منذ بضعة ايام،وأمرته أن يبدأ العمل..ثم تركته لتقوم بالمراجعة النهائية لآخر قصة لها،وهي مستقرة على صخرتها المفضلة،قدماها متدليتان فوق مياه المحيط المترقرقة بلطف.
أمام ذهولها تناهى الى سمعها صوت طقطقة الآلة الكاتبة..بطيئة مترددة في البداية، ثم سرعان ما بدأت تزيد من سرعتها،لتصبح في النهاية طقطقة عمل طبيعي.
تركته يعمل وحده ساعة،ثم تقدمت بهدوء لتقف خلفه..لكن وجودها لم يوقف تدفق عمله.
لم تستطع أن تمنع نفسها من التعليق:
ـ هذا ليس سيناريو فيلم! انه يبدو لي وكأنه بداية لقصة.
وافق قائلا بهدوء:
ـ أعتقد هذا ..لا أعرف كيف أكتب سيناريو..ولا أظن أنني رأيت واحدا من قبل..آسف ياسيدتي.
انحنت له بأدب:"هل لي أن أقرأ الصفحات الأولى؟".
رد ساخرا ،وهو مازال يطبع:"بكل تأكيد معلمتي..".
أول ما صدمها ،كان الفته الواضحهبالذكاء الصناعي و علوم الكومبيوتر..وتمتمت:
ـ يبدو انك تعرف الكثير مما يتعلق بالكومبيوتر.
أكمل طباعته متمتما:"ألا يبدو هذا؟".
ـ أليس غريبا أن لا تذكر شيئا من حياتك الخاصة،مع انك تتذكر كل هذه المعلومات التفصيلية،التي من الواضح انك عرفتها عبر دراساتك وقراءاتك؟
لم ير..بدا أن الفكرة خطرت له كذلك.
كان يميل الى كتابة قصة خيال علمي تلقائيا..كانت فترة القصة هي الحاضر ،لكن حبكتها تشمل التقاء عوالم ثلاث،الماضي والحاضر والمستقبل فوق جزيرة صغيرة غير مسكونة في المحيط الهندي..التدفق الفكري العلمي،كان متناسبا جدا مع حبكة غنية مذهلة،بدت لها واضحة منذ الفقرة الأولى.
قالت بمكر:
ـ حسنا ..حسنا..كل ما عليك لتعيد ذاكرتك يا مايلز،أ تبقيني الى جانبك..يبدو انني أصبت الهدف حين جعلت منك كاتب فعلا..أعني كنت كاتبا في حاتك الأخرى.
عادة كان رد فعله التسامح مع تخميناتها المجنونة حول ماضيه..لكنه هذه المرة استدار اليها متجهما،مفكرا:
ـ لا أظن هذا يا ادنا..منذ بدأت أكتب،أحست أن شيئا في داخلي أطلق سراحه،متحررا من سجن نفسي..أحسست كطفل صغير شرير ينغمس سرا في لعبة محرمة،بدلا من القيام بوظائفه المدرسية..وأظن أن هذا يعني أنني طالما أردت أن أكتب،ولكنني لم أكن أشعر بأنني حر في ذلك.
فقدت ادنا الاهتمام بعملها،وتقدمت فوق الرمال البيضاء تجلس عند قدميه الحافيتين،تتلقف الصفحات المنتهية واحدة واحدة،وبسرعة مذهلة.لم يكن يبدو عليه أنه يمانع في تطفلها على عالمه الخاص..بل في الواقع،بدا غافلا عن وجودها..فأحست بالحسد للسهولة التي يجد فيها الكلمات المناسبة دون جهد والبداية الصحيحة لكل جملة..أول نسخة كانت لا تكاد تحتاج الى تصحيح..حتى تهجئته للكلمات كان دون خطأ.
كانت الشمس قد بدأت تهبط رائعة حمرء فوق الأفق الضبابي حين رفعت نظرها اليه وعيناها واسعتان حالمتان تتألقان بادراك استوعبته لتوها.
ـ مايلز!
صوتها الرزين جعله يتوقف ويخفض نظره الى وجهها الذي ظهر عليه الارتباك.
ـ ماذا تعرف عن"العاصفة"؟
ـ انها آخر رواية لشكسبيير،الجزيرة المسحورة..
صمتت في فهم مفاجئ لما يقوله..وقالت له:
ـ أنت تبني قصتك على نمط" العاصفة".
نظرا الى بعضهما بصمت..فجأة انفجرت ادنا ضاحكة.ووجهها المشرق يتألق بالثقة أمام عينيه الزرقاوين.
قال بصوت خفيض،لا يكاد يسمع:
ـ أحب ضحكتك..انها الشئ الوحيد الذي يجعلني اصبر على هذا العذاب الذي أنا فيه..لا..لا تتوقفي.
تابع وهو ينظر الى وجهها الطفولي الصغير:
ـ لا تتوقفي عن الضحك.
ظهرت تقطيبة عميقة على جبهتها العريضة.فقد كان تأثرها بنظراته بقدر صدمتها من ارتباكه،لذلك اعتذرت بصوت أجش:
ـ لا أستطيع يا مايلز..لم أكن أدرك أنك حزين هكذا..
نزل عن كرسيه ليركع على الرمال الناعمة،وهو يحني رأسه يتأمل وجهها عن قرب:
ـ لست حزينا في هذه اللحظات..لقد ملأت أنت الهوة الفارغة في حياتي..فلا تظهري بمظهر الكرب هذا..هيا..ابتسمي لي.
همست،وهي تتخيل الحياة الآمنة التي عاشتها،ولتبدأ بالرعب لفكرة العيش دون ذاكرة:
ـ أوه..مايلز..أتمنى لو أستطيع فعل شئ.
ابتسم لها:
ـ كوني هنا فقط..هذا يكفي ..أوه..بحق الله..لا تبدأي بالبكاء ياحبيبتيهذا لا يساعدني أبدا،وتعرفين هذا.
ـ أنا آسفة..لم أستطع منع نفسي.
أخذ يواسيها وكأنما هي التي تمر بالعذاب ..وليس هو.
أخيرا ضحكت وهي ترتجف:
ـ ها انني لم أعد أبكي.
ورفعت رأسها،لكن ابتسامتها جمدت قبل أن تتكون.كان وجهه على بعد انشات من وجهها،وفتحت عينيها الواسعتين وهي ترى المشاعر في عينيه.
لم تكن لديها القدرة والارادة على التحرك،فقد أسرتها عيناه..
جلس مايلز على ركبتيه ين ليها مبتسما بكسل:
ـ أنت في التاسعة عشرة،ولم تعرفى رجلا من قبل..هذه فعلا جزيرة مسحورة.
انفجر سخط عميق في داخلها ليغطي حرجها العميق.
ـ لا تكن سخيفا مايلز..بالطبع عرفت رجلا قبلك.
ضحك بلطف ساخر:"وهل هذا صحيح؟".
ـ أوه..حسنا جدا..مجرد صداقة.
تابع مبتسما ولكن بدا في عينيه الوقار:
لست واثقا كيف يمكن أن أتعامل مع هذا..جميلتي.
لكلمات العابثة الكسول،كانت متناقضة تماما مع الاهتمام والصوت الخافق القلق،وأراح هذا احساسها الأول بأنها منبوذة..رفعت رأسها الى مستوى عينيه،وكان وجهها يضئ بابتسامة مشرقة..ولم تجد حاجة لاخفاء حبها له.
وقف على قدميه يشدها معه،ولم تكن تظن أنها يمكن أن تكون أكثر سعادة منها الآن.مع ذلك،وبسرعة لا تصدق،كانت الأيام تمر لتصبح أسابيع..وأصبح مايلز عضوا مستديما في عائلة جايمسون الخفية،مع تلميحات جريئة عن ترقبها المتلهف حول اعلان محدد.
مايلز،أصبح في هذا الوقت،مستغرقا بصمت في قصته.كانت تنمو بطء وثبات،تذهل ادنا وتدهشه هو أيضا..أشخاص رواية شكسبيير الخيالية كانت تتحول بين يديه الى شخصيات حديثة،يزداد تشابهها مع الشخصيات الاصلية غموضا ومكرا مما جعل الكتاب مذهلا في الابداع،ممتزجا بكهة مألوفة،وقالت له ان لا مجال للاخفاق،وستكون قصته من أفضل المبيعات.
هكذا،أخذا يعملان معا بشكل متقارب..كانا تقيبا يعيشان في مكتبة الشاطئ المرتجلة..يتوقفان بين حين وآخر،يريحان عضلاتهما المتوترة،بسباحة طويلة أو بالغطس أو بالتزلج المائي..وعند غروب الشمس،دائما يذهبان للركض على الشاطئ الرملي،أو يجوبان بكسل قلب الجزيرة الخضراء..كانا لا يظهران في المنزل الا في وقت العشاء، وهي مناسبة رسمية تحافظ الأسرة عليها.
لكنه لم يخف عنها سرا تردده في أن يتورط أكثر من هذا معها..وشرح لها بصبر مرات لا عداد لها:
ـ لن يجدي هذا يا ادنا..الرد مازال لا..لا أستطيع التحمل.
ـ أوه يا مايلز،أنت غير منطقي أبدا.
ضحك:
ـ وهل هكذا تصفين الأمر؟
واضطرت الى مشاركته الضحك،ثم قالت:
ـ أنت تعرف ما أعني..أحبك،أنا لم أشعر هكذا نحو أي رجل من قبل..أوه..ما الفائدة؟لن تفهمني اطلاقا!
وتأوهت ساخطة.
ـ أوه..لكنني أفهمك..يجب أن تكوني غريبة الأطوار اذا لم تغرمي بهذا الغريب الذي هبط على جزيرتك الصغيرة،وكأنه هدية من البحر،انه نوعية جذابة،ألا تظنين هذا؟
بدأت تضحك مجددا.غضبها كالعادة يزيله المرح الواضح.
ـ أوه..جذابة جدا..
ـ اذن،أنت ترين ياحبي،أننا نعيش في وهم القصة..أنت منجذبة الى جزيرة الأحلام المسحورة..بينما أنا لست كذلك.ألا ترين هذا؟
ارتكبت غلطة بريئة في اسراعها للدخول الى غرفته في وقت متأخر في ليلة ما،وقد خطرت ببالها فكرة جديدة لقصته.
أقفلت الباب ورائها،وتقدمت الى سريره ،كان نائما،وامتدت يدها اليه..لكنه هب واقفا على قدميه في الحال يشرف عليها بوجه غاضب..دون كلمة شدها الى الباب،ورماها الى الخارج.
ـ انتظريني في السقيفة..سأكون هناك ما ان ارتدي ملابسي.اذهبي الآن!
في السقيفة قال لها بغضب هادئ:
ـسأقول هذا مرة واحدة يا ادنا..لا تحاولي مثل هذا أبدا مرة أخرى..سأوضح هذا للمرة الأولى و الأخيرة،أيتها الحمقاء الأنانية.أنا فاقد للذاكرة..ولا أعرف شيئا عن نفسي ولا عن الماضي..د أكون مجرما ،قاتلا ،قوادا..واذا كان دماغك مازال عاجزا عن فهم ما أعني..دعيني أوضح لك الأمر هكذا:اذا استعدت يوما ذاكرتي،فقد تكتشفين انك مرتبطة بسجين هارب،أو مرتزق لا رحمة في قلبه،أو قاتل مهووس...
همست:
ـ أنت لست هكذا..أعرف أنك لست هكذا..وأنت تعرف كذلك!
ـ حسن جدا..لنفترض انك محقة..ما رأيك في أن تكوني"ضرة"في زواج سابق؟
نظرت اليه دون أن تفهم،فصاح:
ـ مازلت لا تفهمينني..تبا..قد أكون متزوجا ولا أعرف عن هذا شيئا!
بالرغم من بساطة هذه الفكرة فانها لم تخطر لها من قبل.ولان وجهه:
ـ هكذا ترين،من أي جهة نظرت الى المسألة،اننا عالقان والحل الوحيد هو الانتظار مع الأمل في أن أستعيد ذاكرتي..ومن ثم نبدأ من الصفر.في هذا الوقت ارحميني،وتوقفي عن دفعي الى الجنون باستفزازاتك..وفي يوم ما..يوم ما.."ستنفجر"سيطرتي على نفسي،لكن لا تعيشي على الأمل بالزواج..لأنني..وليساعدني الله،فان أفلت زمام الأمر من يدي وبت غير قادر على السيطرة على نفسي فسأرحل من هنا.
نظرت اليه بعينين واسعتين،تستوعب تهديده وتقول هامسة:
ـ لن تستطيع! ليس لك مكان تذهب اليه!
ـ هذه مشكلتي..وأنا أعني ما أقول..لو حدث هذا يوما،أنت وهذه الجزيرة لن ترياني مرة أخرى!
ـ أبدا؟
ـ لم يستطع مقاومة النظرة الواسعة الكئيبة:
ـ حسنا..ليس قبل أن أستعيد ذاكرتي،وأحكم على نفسي أنني أستحق حبك الخيالي الخالد.
ـ أنت تحبني...مع ذلك..أصحيح هذا يا مايلز؟أعرف أنك تحبني فلا تنكر.
تنهد وهو يستدير عنها،ليتمشى نحو المنزل المعتم:
ـ اذا كنت قادرة على الوثوق بمشاعررجل لا ماضي له ولا مستقبل،بل مجرد حاضر مؤلف من مشروع قصة من الهراء الخيالي،على جزيرة مسحورة،اذن..نعم،أحبك.والآن،اذهبي الى النوم.
نظرة أخيها كانت أكثر عاطفة من هذه التي رمقها بها قبل أن يدفعها الى غرفة نومها.
لفترة تالية كانت تحاول الابتعاد عنه و التعالي عليه لذلك بالغت في الاعتدال..تعلمت أن تدفن شوقها اليه في الاستغراق المتزايد في العمل،وفي هدوء أعصاب دائم،أصبحت معتادة على ارشاده.لذا لم تكن ملامة للأحداث التي شتتت في النهاية أسعد فترة في حياتها..وكما اعترف مايلز،انها الأقدار هي التي أثارت عاطفتهما الخاصة.
لكن كائنا من كان مسؤوليته فانها خسرته..حبها الخيالي لمايلز الرجل النمعدم الماضي،رحل..وعاد هايدن جاكوبس ملك الكومبيوتر،المفترض أنه ميت،الى البروز مجددا الى أرض الأحياء،ليعاود حياته من حيث تركها منذ ستة أشهر سبقت..وانمحت من ذاكرته تماما سانت باتريك وأي شخص قابله هناك..الذكرى الملموسة الوحيدة التىحملهامعه،كان خيال ضحكة فضية،وبضع مئات من الصفحات المكتوبة لقصة خيالية لم تنته بعد ولا تحمل أي عنوان.
وذكرت ادنا نفسها بخشونة:حسنا جدا..لقد انتهت القصة الآن،وأصبح لها عنوان:"الجزيرة الضائعة".
***
3/البحث عن وهم
الآن ..ماذا؟
لم يكن لأناقة غرفة الجلوس الفسيحة في منزل هايدن جاكوبس أي تأثير عليها وذلك للهوة التي يستحيل طمرها بين الرجل الذي عرفته وأحبته في العالم الرائع لجزيرتها الاستوائية ،وبين ذلك الكاتب المتعجرف، المليونير المشهور.
حسنا جدا.. لقد حققت ما صممت أن تفعله ،لكنها الآن لا تعرف ما يجب أن تفعل بعد ذلك. فهي لم تفكر الى أبعد من نقطة اختراق عزلة هايدن جاكوبس الخاصة ..اذ كان هذا هو الهدف الوحيد الذي أبقاها حية منذ أن اكتشفت أنه مايلز.
انها لم تتخل أبدا بعد أن غادر مايلز الجزيرة، عن أملها في عودته.. و كان ليون بعد عودته في اجازة للجزيرة ،وقد أقلقته حالة أخته العاطفية ، هو الذي أخبرها أخيرا عن هايدن جاكوبس.. لقد كان في لندن حين تفجرت الصحافة الانكليزية بالعناوين الأولى والصور عن المليونير المفقود، وعودته المعجزة الى عالم الأحياء ..ولم يمر وقت طويل حتى عرف فيه الرجل الذي كانوا عرفوه باسم مايلز.
قال لها بقسوة:
ـ مايلز مات.. لكن بالنسبة لك ..كما أنت ميتة بالنسبة له.. لقد وجد ماضيه ياادنا.
كان مصمما على انتزاع أخته من حلمها اليائس.. وأكمل بصوت لطيف:
ـ لكنه خسرك.. اما أنه نسيك أو يحاول أن ينسى كل شئ حدث له منذ رماه الموج على جزيرتنا ..قالت الصحف انه يرفض اعطاء أية معلومات عن الستة أشهر الذي غابها، لكنني أظن أنه أصيب بنوبة فقدان ذاكرة أخرى ،لم تبق شيئا سوى ثقب أسود لأيامه في سانت باتريك.
لكن نظرة ادنا الميتة الجامدة أرعبته ..و سألت:" من هو ..يا ليون ؟".
فقال لها ليون كل ما يعرف ،ولم يخ.ف عنها شيئا ثم أكمل:
ـ هكذا ترين ياحبيبتي.. أنها قضية خاسرة ..انه لا يحتاج اليك الآن ..لقد عاد مرة أخرى ذلك الرجل الشهير الثري الصحيح الجسم ،وقد يرتاب بأي شخص قد يدعي معرفته به خلال فقدانه الذاكرة ،حتى ولو أقنعته أنك كنت مهمة له وقتا ما.. فأنا واثق من أن لا مكان لك في حياته الآن، لذا تقبلي الواقع وحاولي نسيان أنك قابلته يوما !
لكن ادنا لم تفعل هذا .وحين استعد ليون للعودة الى انكلترا ،،تركت سانت باتريك معه مصممة على شق طريقها بقوة الى ذاكرة مايلز ،مهما كان الثمن الذي ستدفعه، ولم تجد صعوبة في جمع المعلومات عنه.. وكما حذرها ليون ،كان شهيرا جدا قبل اختفائه ،وأصبح أسطورة منذ ذلك الوقت، و عرفت أنه متحدر من عائلة قديمة ارستقراطية ..والداه ماتا وهو طفل ورباه اثنان من أعمامه، تمكنا من تبديد ما تبقى من ممتلكات العائلة ..لكن مع عبقريته في الكومبيوتر ،ونزعته التجارية اللامعقولة.. أعاد هايدن اسم عائلة جاكوبس وثروتها الى أكثر مما كانت عليه من مجد سابق وقد بلغ الثلاثين.. اكتشفت أنه لم يتزوج أبدا ..كان هناك بضع شائعات حول خطوبة مبكرة لاحدى قريباته البعيدات ،و تدعى باولا جاكوبس ،لكن الخطبة كما يبدو، فسخت قبل رحلته الغامضة ،كما تميل الصحافة الى أن تصف اختفائه.
فهمت من المقالات العديدة ،أن هايدن جاكوبس كان يوما عابثا مجنونا..هكذا ابتلعت كرامتها، واستخدمت نفوذ عائلها،وعلاقاتها الاجتماعية ،ووكيل أعمالها دويل فرانسيس من بينهم، مصممة على أن تتعرف اليه اجتماعيا، لكنها هنا أيضا اتضح لها أنها في الاتجاه الخاطئ..فواضح أن هايدن جاكوبس، تخلى عن دائرته الاجتماعية..وحسب قول الصحافة كان يقضي أكثر أوقاته على متن يخته. و نادرا ما يزور بريطانيا.
باختصار كان بالرغم من كل شهرته، لا يمكن الوصول اليه.
بعد سنتين من هذا ،قدمت الفرصة نفسها لها..فقد عاد هايدن جاكوبس الى لندن ككاتب. وبمساعدة الحظ الحسن اختار دويل فرانسيس ليكون الوكيل الذي يمثله.
كانت واثقة جدا ..ومتفائلة الى حد السذاجة حين هاجمت ذاكرة هايدن جاكوبس المغلقة أول مرة..و ها هي الآن تجفل،تذكرة الألم الحاد والاذلال اللذين أحست بهما في أول لقاء لها مع عيني الكاتب الزرقاوين الخاليتين من أية مشاعر..ثم، مثله مثل اليوم، صرف النظر عنها دون أي أثر للتذكر.
وحدث هذا قبل بضعة أسابيع، كان دويل فرانسيس وهايدن جاكوبس يتناولان الغداء مع مخرج سينمائي واقترح دويل عليها أن تظهر في المطعم وكأنما بالصدفة، ليتمكن من تقديمها.
على عك اليوم ، فعلت ما بوسعها لتظهر كما كانت أيام سانت باتريك..وتذكرت كم أحست بالسخافة في ثيابها الواسعة الشعثاء وسط رواد المطعم الراقي. لكنها جلست تنتظر دويل فرانسيس ليقدمها له.
عند رؤيتها عينيه الزرقاوين تزدادان سودا كأنما تكدره ذكرى مرتبكة ..ظنت أن اسمها اخترق ذاكرته الميتة..وبسذاجة حمقاء، ابتسمت له كما كانت تفعل في الماضي..لكن لم يتجاوب معها ببسمة مثلها..وبقي وجهه باردا سلبيا الى أن تلاشت ابتسامتها في هزيمة محرجة.
وكان هذا فشلا مذلا..ولم تتمكن الا من اثارة ارتياب هايدن وازدرائه..ومثله مثل المنتج السينمائي اللذين كانا يراقبان محاولتها الخرقاء لفتنته..ظنها هايدن مجرد فتاة مولعة بالنجوم، تحاول أخذ فرصتها معه.
مع ذلك رفضت الاستسلام ..حين سمعت بتعديل نص قصة الجزيرة الضائعة ليصبح سيناريو لفيلم سينمائي، قفزت تتمسك بآخر بصيص أمل.
ـ آنسه جايمسون !
صوت جويس المرتفع الحاد، جاء من ورائها، ليخترق الضباب الذي غطى أفكارها المؤلمة .
ـ هل أنت بخير؟
رفعت ادنا نظرها، وجنتاها مخضبتان باحمرار قاتم ..آخر ما تحتاج اليه أن تفاجأ وهي تحلم أحلام اليقظة في غرفة جلوس الكاتب. لحسن الحظ كانت جويس هي التي فاجأتها وليس هايدن جاكوبس.
نظرت جويس بلهفة الى الفتاة الأكبر سنا:
ـ أكان هايدن فظا معك ؟أنا آسفة ..انه مستبد في بعض الأوقات !
ـ أوه..لا..لا..لاعلاقة لما..للسيد جاكوبس بشئ.
وقفت على قدميها مكملة:
ـ لم أكن متأكدة ما اذا كان علي أن أنتظره..لقد تركني فجأة..أترين؟
تبدد عبوس جويس على الفور :
ـ أوه..لا بأس في هذا اذن..بدوت لي حزينة جدا وأنت جالسة هنا ..ظننتك لم تفهمي أنك حصلت على العمل. لقد قابلته قبل رحيله، وقال انك مقبولة..وبالطبع تعرفين لماذا..أليس كذلك؟
وابتسمت بطريقتها الطفولية تذكر ادنا بنفسها:
ـ انها ضحكتك ..وهذا واضح !
رمقت ادنا الفتاة مفكرة،متعجة من دقة حسها ،وضحكت:
ـ لا أرجو هذا ..لا شك أن لديه أسبابا أفضل..فلو كانت ضحكتي فقط، لكان استخدمك أنت.
ـ أوه..أنت تعرفين ما أعني،فأنا واثقة من أنك سكرتيرة متفوقة..لكنني أراهن على أن ضحكتك هي السبب، واسمك بالطبع، ان رواية "العاصفة "هي أفضل رواية عنده.
فجأة نظرت الى ادنا نظرة غريبة وأكملت:
ـ انه اسم غريب، أليس كذلك؟
بدأت ادنا تتجه الى مدخل الردهة، وهي تزداد قلقا لدقة ملاحظة الفتاة.
ـ يجب أن أذهب الآن..سيكون لدنا وقت كاف للحديث غدا.
تجمدت عينا جويس:
ـ أوه لا..لن يتوفر لنا وقت لهذا..فما ان تبدأي العمل لن يعو لي عذر للمجئ الى هنا..انه لا يحب العائلة كثيرا و..وأنا من العائلة تقريبا.
ـ لكنه بكل تأكيد يحبك.
ـ لأنني فقط أذكره بشخص ما..انه..
صمتت جويس ثم استدارت لتنظر الى ادنا..للحظات بدت وكأنها ستقول سر فقدان هايدن لذاكرته، لكن صوت وقوف سيارة في الخارج أنقذها..وقالت لصديقتها الجديدة:
ـ لا شك أن هذه باميلا.لا يجب أن تبالي كثيرا لو أنك رأيتها غير ودودة في البداية..لقد مر هايد ببعض التاعب مع سكرتيرته الأخيرة، وتميل باميلا لأن تكون شكاكة بكل امرأة تأتي الى هنا..لكنها محبوبة فعلا، وأنا واثقة من أنها ستحبك ما ان تعتاد عليك.
ثم قطبت تصغي الى الصوت المرتفع الرتيب لوقع خطوات بحذاء عالي الكعبين، تسرع فوق الباحة المرصوفة خارج الباب الأمامي.
ـ لا يبدو أن هذه باميلا..عجبا..أوه..انها باولا !
دخلت امرأة بنية الشعر، تخلع عن كتفيها معطف فرو ذهبي اللون،برشاقة عارضة أزياء، كانت احدى أجمل النساء اللواتي رأتهن ادنا في حياتها ، لكن الوجه الرائع الجمال الذي أدارته نحوها، بدا متعاليا كئيبا .
قالت جويس بصوت مغيظ حاد:
ـ أوه..تبا..انها باولا..ماذا تفعلين هنا؟
التفتت عينا المرأة الجميلتان الخضراوان المزينتان الى الفتاة الشابة:
ـ أرجوك..لا تستخدمي هذه اللهجة معي..يافتاة ..أين خالك؟
ردت جويس باختصار:"خرج..وهذه ادناجايمسون..".
واستدارت الى ادنا بتردد ظاهر.
ـ هذه باولا جاكوبس.
تشدقت المرأة في كلامها قائلة:
ـ باولا بارتود..أفضل أن أدعى باسم عائلة زوجي السابق.فهناك أسر كثيرة من عائلة جاكوبس تنتمي لأصولنا.
وبسرعة تذكرت ادنا أن هذه هي "ابنة العم البعيدة"التي قل ان هايدن كان مخطوبا لها في شبابه.
وتابعت ابنتا العم حديثهما،متجاهلتين وجودها..وكانت باولا تقول:
ـ ياللازعاج..قال لي انه سيكون هنا بعد الظهر..جئت أتكلم معه حول حفلة نهاية الأسبوع..هل تمكنت من اقناعه بها؟
هزت جويس رأسها نفيا باستياء، فأكملت المرأة تسأل:
ـ ولماذا بحق الله؟ على أي حال، انها حفلة يوم مولدك ،وليس مولدي.
ـ لا أريدها ،ولا يريدها هايدن كذلك..اضافة الى هذا، يمكنك مناقشة الأمر مع ادنا..انها سكرتيرته الجديدة.
ردت باولا بابتسامة آلية:
ـ أوه ..حقا؟أتمنى أن تكوني أفضل من الأخيرة، فقد كان العمل آخر اهتمام لها..أين تعيشين؟
ردت ادنا باختصار:"في لندن".
لم تكن في حياتها قد خوطبت بمثل هذه الطريقة الفظة المتعالية. وبدا الارتياح على المرأة:
ـ حسنا جدا ..أنت اذن لن تقيي هنا.
تدخلت جويس متحدية:
ـ ستقيم هنا ..ستنتقل في الغد ، وتعمل مع هايدن في تحول قصته الى سيناريو.
نظرت المرأة اليها بقسوة:
ـ أوه..حقا؟حسنا..لن يمنعك هذا من الاهتمام بعلاقات ابن عمي الاجتماعية..وأتوقع منك أن تساعدينا في ترتيبات يوم مولد جويس التاسع عشر..فأنا أفضل أن لا أزعجه في أمور كهذه.
بدت فجأة متوترة بالرغم من تفوقها المتحفظ، وأدركت ادنا أن المرأة تخاف من ابن عمها المهيب. فردت بخشونة وهي تحس بالأسى على الجميلة:
ـ سأكون مسرورة..ربما سنتحدث بهذا في الغد.
لكن باولا لم تنته بد، وكافأت ادنا بابتسامة حلوة:
ـ أتمنى أن تستمتعي بعملك.هايدن رجل ساحر..ألا تظنين هذا؟
وكان هذا تحذيرا، لاسؤالا..ردت عليه ادنا باتسامة مهذبة وهي تتجه الى الباب الأمامي:
ـ لقد تعرفت اليه لتوي..لكنني أعرف أنني سأستمتع بالعمل في كتابه..والآن..أرجو المعذرة..
لاحقتها نظرات باولا القاسية المشككة حتى سيارتها..وتساءلت عما اذا كان هايدن ،وقد عاد من "رحلته"يفكر مجددا بخطوبته المفسوخة..فالقلائل من الرجال يمكنهم مقاومة جمال باولا الواثق من نفسه.
كان شقيقها ليون، في المنزل حين وصلت، ويكاد يموت جوعا..قال لها وهي تدخل:
ـ لقد تأخرت..كنت على وشك البدء بتناول العشاء لوحدي، ماذا حدث لك؟
رمت ادنا حقيبة الكتف الكبيرة، وعدة ملفات على منضد الدهة:
ـ اضطررت لمقابلة شخص ما بخصوص عمل..ولست جائعة.تناول أنت طعامك..سأتناول شيئا بسرعة فيما بعد.
ـ أو..لا..لن تفعلي هذا..دجاجتي المسلوقة تستحق بعض الاحترام..لقد عانيت مشقة كبيرة في اعدادها.
ـ حسن جدا أيها المستبد، سأحضر نفسي في دقيقة.
ناداها وهي تجرجر نفسها متراخية:
ـ هاي..هل هنك مايسوء ؟تبدين غريبة.
استدارت تنظر الى وجهه القلق:
ـ ليس سيئا بالضبط..لكن..سأخبرك ونحن نتناول الطعام.
كانت تحمل مخطوطة كتاب سميكة في يدها حين انضمت اليه في غرفة الطعام الصغيرة حيث يتناولان وجباتهما عادة..وسألها:"ما هذه؟".
وسكب لها كمية طعام كبيرة في طبقها.
ـ قصة لم تنشر بعد:"الجزيرة الضائعة".
ضحك بنعومة:"تبدو لي وكأنها موطننا".
سألته بلهجة حذرة:"هل سمعت بها من قبل؟".
ـ لا أظن هذا ..من مؤلفها؟
منذ تركت منزل هايد جاكوبس، كانت تتسائل عما اذا كانت ستطلع ليون على سرها..وها هي فرصتها..لكن شيئا كان يصدها.حتى الآن، كانت تشاركه كل الخطط المتعلقة بمايلز، وتشركه في آمالها المتصاعدة، وتبكي على كتفه بعد كل فشل يحطم قلبها. ولاتظن أنها قادرة على تحمل توبيخ ليون ..أخيرا قالت:
ـ أه..أنت لن تعرفه..هذه أول قصة له.
ـ وهل كلفت بكتابة السيناريو؟
فاسترخت تعابير وجه ادنا الحذرة:
ـ ليس حقا..أنا مجرد شبح..حتى ولا هذا، سمني موظفة لها اسم سكرتيرة..فقد أعجبني الكتاب.
تابعت تعطيه المعلومات عن الكتاب والعمل قبل أن يسألها، ثم أكملت:
ـ ثم أنا بحاجة الى الخبرة..والوظيفة لم تصبح لي بعد ..سأمر باختبار أولا.
وقفت تجمع الأطباق المتسخة متجنبة العينين الضقتين المفكرتن.
كان احساس ليون القلق يزدادعمقا وهو يراقبها ،بعد قليل جلست على الأريكة قرب المدفأة المشتعلة، منغمسة بقراءتها للمخطوطة، تقلب صفحاتها واحدة واحدة بسرعة مذهلة، تتوف بين فترة وأخرى، تسجل ملاحظاتها على دفتر صغير.
أخيرا سألها وقد احظ الكوة الكبيرة من الصفحات على الأرض:
ـ ألست تقرأينها بسرعة؟ لا أستطيع أن أصدق أنك أنهيت كل هذا في ساعة واحدة.
رفعت رأسها اليه مفكرة لحظة:
ـ أوه ..أنا لا أحتاج سوى لقرءة آخر الفصول..وأنا الآن أراجع أول قسم لأرى اذا كان هناك أي تغيير في النص الأصلي.
ثم عادت الى القصة وهي تبتسم له،فسألها مجددا:
ـ أنت تعرفين الكاتب منذ فترة..أليس كذلك؟
ارتفع رأسها بحدة وذهول:
ـ ماذا؟..ما الذي جعلك تقول هذا؟
كانت عينا ليون تراقبانها بشئ من الريبة:
ـ كيف تفسرين اذن واقع معرفتك بالنص الأصلي للقصة؟
للحظات أحست برغبة لقول الحقيقة..كنها سرعان ما قررت أن تلتزم قرارها الأول..يجب أن تمر بهذا وحدها هذه المرة..وسمعته يسأل بلطف:
ـ أتودين أن تخبريني بالأمر؟
هزت رأسها:
ـ ليس بعد ليون..ليس قبل أن أعرف ين أقف.
اتصل بها دويل فرانسيس،فيما بعد، ذلك المساء. يبدو أنه تكلم مع هايدن جاكوبس، واستطاع أن يعطيها كل التفاصيل العملية التي نسي الكاتب أو رفض ،نقاشها معها. ولم تكن بحاجة الى تأكيد منه بأن فرصتها للاحتفاظ بالعمل ضعيفة جدا.
ـ أنا لن ألغي أي عقد لك الآن يا ادنا..جاكوبس ينوي مغادرة لندن بعد عشرة أيام، سنعرف خلالها اذا كنت ستبقين أم لا .يجب أن تجعلي من نفسك سكرتيرة لا غنى له عنها اذا كنت تريدين الاستمرار.
ـ أعرف..ولا أظنه مسرورا كثيرا بتصوره قضاءه عدة أسابيع وحده معي على متن يخته.
ساد صمت قصير من الناحية الأخرى للخط، ثم:
ـ هل سبب لك وقتا عصيبا؟ لا يجب أن تنزعجي منه يا عزيزتي، انه رجل عظيم وتعرفين هذا..انه ألطف بكثير مما يظهر.
ـ أعرف عن فقدانه للذاكرة يادويل..فقد أخبرني بنفسه.
بدت الدهشة على صوت الوكيل:
ـ أحقا فعل هذا ؟ حسن جدا ..انه على الأقل يثق بك.
ضحكت بمرارة:
ـ أوه..لا..لايثق بي..يظنني أسعى وراءه،أو وراء ماله،ويعلم الله ماذا غير ذلك..
فحاول الصوت الجاف تهدئة غضبها:
ـ لديه أسبابه يا حبيبتي..انه محاصر من الناس، والنساء خاصة، والكل يدعي أنه كان يعرفه خلال أشهر الضياع،ويحاول ابتزازه..ولو كان سيصدقهم، لكان له دزينة زوجات على الأقل..هذا الى عدد من الأولاد..
أجفلت ادنا :
ـ يا الله ! لم أفكر بهذا أبدا ..ظننت أن لا أحد من المفترض أن يعرف..
ـ لم ينشر هذا في الصحف لحسن الحظ..لكن هايدن ارتكب غلطة بارسال شرطة تحري ومحققين خصوصيين لكل جزيرة من جزر المحيط الهندي ،محاولا أن يجد ماحصل له خلال الأشهر التي تلت تحطم طائرته،وهذا آخر شئ يذكره قبل أن يفقد ذاكرته..لا يستطيع الكثير من الناس مقاومة فرصة الحصول على بعض المال..لكنه طر الجميع طبعا..انما لا يمكن لومه لارتيابه وحذره..خاصة مع امرأة مثلك.
ـ ماذا تعني ..امرأة مثلي؟
حسن جدا..أنت شابة جذابة، ولو عذرت عجوزا على قوله، لم تكوني ماكرة جدا في الطريقة التي حاولت فيها جذب اهتمامه..وفوق كل هذا عزيزتي، يعرف أنك قادمة من السيشل..فماذا تتوقعين اذن؟
تأوهت بتعاسة:
ـ ليس أكثر مما حصلت عليه ..أعتقد..بدأت أفهم الآن لماذا نظرت الي عائلته بارتياب أيضا.
ـ ليس جويس الصغيرة ..بالتأكيد؟
ـ أوه لا..ليس هي. لكن احدى بنات عمه..لقد حذرتني تقريبا أن أرفع يدي عنه.
وامتنعت عن تسمية باولا خوفا مما ستسمع.
ـ لا تقلقي من عائلته..كلما كان اعجابهم بك أقل، كان هذا أفضل..انه لا يخفي كراهيته لهم. ولا عجب في هذا..لقد تصرفوا بشكل مخجل خلال فترة فقانه وحين عودته كذلك.
ـ هيا الآن يا دويل..لاشك أن السعادة غمرتهم لعودته؟
ـ لا يمكن أن تكوني مخطئة أكثر من هذا. لقد كانوا مستائين جدا حين أدركوا أنهم سيضطرون الى التخلي عن المال الذي ظنوه أصبح لهم.حتى مالكولم، الذي عامله دائما كأخ له، كان متعلقا بحب مركزه الجديد كرئيس لأمبراطورية جاكوبس وتكدر جدا لتلقيه خبر عودة هايدن من بين الأموات. انها ليست عائلة حقيقية له يا ادنا. مجرد أبناء عم من بعيد يعيشون عالة عليه منذ سنوات ،ويستنزفونه.
ـ أنا ..لم أكن أعرف هذا يادويل..ما أفظع ذلك.
وتنهدت ،ثم تابعت:
ـ أتمنى لو لم أقنعك بأن تتدبر أمر لقائي به.
ـ حسنا، الأمر متأخر جدا الآن يا ادنا .ويجب أن تثابري على عملك..ولأجلي أنا، لا تجعليه يندم على قراره..قد ينتهي بك الأمر الى اكمال السيناريو معه، وهذه هي النقطة الرئيسية بالنسبة لي .هل قرأت الكتاب؟
ـ لا تقلق..سأنهيه ولو أمضيت الليل كله.
ـ فتاة طيبة ،لكن حاولي أن تنامي..ستحتاجين الى قوتك في الغد يا عزيزتي. اذا ظننته قاسيا اليوم، فانتظري لتري ما هو مخبأ لك، ما ان تبدأي العمل له.
***

كانت باميلا، الصغيرة الحجم ،والمتوسطة العمر ،هي التي فتحت لها الباب في الصباح التالي..ولا شك أنها كانت تعلم بأمر الوظيفة الجديدة .وقبل أن تعرف بنفسها ، أوضحت مدبرة المنزل المخلصة، أن ادنا مرحب ببها بن "الموظفين"الا أن من المتوقع منها أن تبتعد عن طريق السيد هايدن .
قالت بلكنة ايرلندية، وهي تقود ادنا الى الغرفة الاضافية الكبيرة:
ـ أنا واثقة من أنك ستجدين هنا كل ما تحتاجينه يا عزيزتي.
كان في الغرفة تلفزيون صغير، كتب، جهاز موسيقى..في الواقع، كانت المرأة قد عملت جاهدة على ألا يكون لديها عذر للتفتيش عن التسلية في مكان آخر من المنزل.
وتابعت مدبرة المنزل مترددة، محاولة التخفيف من وطأة تعليمات رب عملها الوقحة:
ـ يحب السيد هايدن أن يتناول طعامه في القسم المخصص له من المنزل..لذا، أرجو أن لا تمانعي في تناول طعامك وحدك ..ويمكنك دائما أن تنضمي الي في المطبخ اذا شعرت أنك بحاجة الى الصحبة..سيكون لطيفا جدا أن أتحدث مع شخص يهتم بشئ غير الشائعات..مثل جويس الصغرة أعني..
وافقت ادنا تطمئنها:
ـ انها كثيرة الكلام ..أليس كذلك؟ وهذه غرفة جميلة ..انني مسرورة جدا ..وأنا واثقة من أنني سأكون مرتاحة تماما هنا..على أي حال ،انها لبضعة أيام فقط ،أليس كذلك؟
بدا الارتياح على العجوز مع انقضاء الجزء الكريه من مهتها وانطلقت تظهر لادنا مملكتها الصغيرة منتهية بمكتبة ادنا الخاصة.
ـ قال السيد هايدن ،ان بامكانك استخدام هذه الغرفة متى شئت..غرفه الخاصة هي من الجهة الأخرى من الفيلا لذا لا تقلقي حول ازعاجه.
كانت غرفة جمية حسنة التهوية، أصغر و أكثر دفئا، من غرفة الجوس الفخمة.
الامتياز الوحيد لمبادئ العمل فيها كان منضدة المكتب الجلدية السمراء، الأنيقة، و خزائن الملفات المماثلة. واتجهت عينا ادنا مباشرة الى جهاز الكومبيوتر الخاص انتاج شركة جاكوبس، الموضوع على منصة خاصة..كان بالنسبة لجهازها كسيارة رولز رويس.
قالت باميلا، في آخر تقرير للتعليمات الدقيقة:
ـ سيكون السيد هايدن هنا بعد قليل. طلب مني أن أقول لك أن تحاولي الابتدء بالتعرف على جهازه الكومبيوتر، وأن تعلميني اذا كنت تحتاجين لشئ خر.
ـ لا شئ أبدا..الجهاز مكتمل تماما.
تقدمت الى المنضدة، وجلست على المقعد المريح المرتفع الظهر، المتحرك، واستدارت الى الجهاز..ثم تظاهرت بالانغماس في الجهاز غير المألوف لها.
كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بكثير حين دخل رب عملها الجديد الغرفة، مجيبا على تحيتها الصباحية المهذبة بتمتمة خشنة..لم يكن مزاج هايدن جاكوبس حسنا هذا الصباح..هذه الصفة كانت ما تزال القاسم المشترك بينه وبين مايلز . لكنه أجفل لرؤية ذلك الوجه الجميل المفعم بالحيوية، المبتسم بأمل ظاهر.
قال بخشونة:
ـ انسي الأمر..لم أخطط للبدء بالعمل اليوم. تابعي قراءة النسخة.. لا أعتقد أنك حصلت على فرصة للنظر اليها حقا.
قاطعته بحبور:
ـ أوه..لكنني فعلت يا سيد جاكوبس..أنهيتها ليلة..
نظرته الساخطة أوقفت حديثها.
ـ توقفي عن مناداتي السيد جاكوبس..اسمي هايدن..ظننت أننا تجاوزنا هذه النقطة بالأمس.
بدا أن لا وقت لديه، ولا النية للعبث.
ـ بكل تأكيد..أنا آسفة..أنهيت قراءتها ليلة أمس ياهايدن..ليس بامعان، ولكن بما يكفي لفكرة عامة.
أجفل:"هذا انجاز هام، اذا أخذنا بعين الاعتبار كونها مؤلفة من خمسمائة صفحة".
في الواقع لم تكن مضطرة لقراءة سوى المائتي صفحة، التي كتبها أخيرا في السنوات الثلاث الماضية..ومرت بسرعة على الجزء الأول الذي تعرفه عن ظهر قلب تقريبا..أو هكذا ظنت.لكنها سرعان ما ندمت على تفاخرها الطائش..فقد قام بتغييرات أساسية في نسخه القديمة التي كتبها في سانت باتريك، وكادت تكشف نفسها لو أشارت الى أحداث وشخصيات لم تعد موجودة.
قال هايدن بقليل من الحماسة:"من الأفضل أن نبدأ الآن".
ابتسمت ادنا له بابتسامة باردة مهذبة، ولم تقل شيئا. أخيرا اخترق الصمت الذي طال بابتسامة خشنة:
ـ من الأفضل أن تقومي أنت بالخطوة الأولى يا ادنا..أنا لم أشترك في كتابة سيناريو من قبل.
تقبلت اعترافه السهل بالهزيمة:
ـ حسن جدا..اذا أنت تكرمت بالقاء نظرة على ملاحظاتي.
أعطته الأوراق المطبوعة بالكومبيوتر وهي تشرح له قائلة:
ـ لقد أنجزت هذه هذا الصباح.
لو أنه تأثر بانتاجها غير الطبيعي، فهذا لم يبدو عليه. وكل ما كان على استعداد لأن يقوله هو:
ـ أرى أنك لم تجدي صعوبة في العمل على الكومبيوتر..أي نوع تستخدمين؟
ذكرت له الصنف وتمتم موافقا:
ـ بطئ.. لكن يعتمد عليه.. أعذريني الآن.
دون أن يجلس بدأ يراجع الصفحات المطبوعة. حين رفع عينيه أخيرا عن الصفحات، لم يبد عليهما أي تأثر بالأسلوب..وقال بهدوء:
ـ أجل..يعجبني هذا..انها افتتاحية مثيرة للفضول..سنبقي على هذه..لكن تحفظي الوحيد هو معاملتك للفتاة"اليكسيس". أقترح أن نلتزم بنصي.
احتجت مجفلة:"لكنني التزمت به".
ـ بكل تأكيد لا يظهر هذا.."اليكسيس"التي كتبت عنها ساحرة جدا، أعترف بذلك، لكنني أجدها انسانة أكثر من اللازم، ومشوشة الذهن بالنسبة لأنثى محولة بشريا.
قطبت بحيرة:"انسانة محولة الى بشر؟".
نظر اليها طويلا بعينين ضيقتين:
ـ هل أنت واثقة من أنك قرأت القصة؟ أعني قصتي أنا؟ أم أنك تكتبين قصة خاصة بك؟
بذعر ،راجعت أول الفصول في ذهنها، ثم قالت:
ـ آسفة هايدن..لكنني حقا لا أعرف عما تتحدث.
ـ أنا أتكلم عن "اليكسيس"..الروبوت البشري..الأنثى المحولة الى بشر..تبا !
أخيرا انجلت تقطيبة ادنا المحتارة..اليكسيس في الصيغة الأصلية كانت روحا تنزع الى الأذى..ولم يكن هناك اشارة الى روبوت بشري من صنع الانسان..في عجلتها لقراءة الكتاب، تجاوزت التغيير الذي قام به.
قالت ببرود:
ـ أنا آسفة..قلت لك انني راجعت الكتاب بسرعة..ولم يخطر ببالي أن تكون محولة الى بشرية.
ـ عجبا ..كيف يمكن لهذا الواقع أن يفوتك..ظننته واضحا جدا.
الطريقة الوحيدة أمامها للخلاص كانت الهجوم:
ـ حسن جدا، لا يمكن أن تكون مقنعا جدا حول كونها محولة الى بشرية..فقد بدت بشرية جدا بالنسبة لي.
صمت طويل ، ثم سأل مشاكسا:"أصحيح؟".
ـ أجل..ومع أنني قد أخاطر في التدخل فيما لا يعنيني، أقول انه من الخطأ اعتبارها آلة من صنع البشر.
لقد تمادت كثيرا..دويل فرانسيس نبهها الى أن تبقي رأيها نفسها، وأن تكبح مخيلتها المبدعة..فعملها هنا تقني بحت، والعبقري هو هايدن جاكوبس وحده.
لكن ردة فعل كانت بعيدة عن التصور. اذ قال باعتدال:
ـ حسن جدا..سنستبقي هذا الآن، وسأراجع القصة بحذر أكبر فيما بعد.
تمتعت باعتداد نفس كسبته..هذا أول صراع بينهما،وعلى الأقل، خرجت منه منتصرة.

safsaf313 16-08-09 06:40 PM

رمى هايدن الصفحات المطبوعة، استقر بارتياح على أريكة جلدية رائعة، ساقاه الطويلتان ممدودتان على كرسي للقدمين..اذن هكذا سيكون مركزي عملهما..هو يتمدد بكسل قرب الجدار الزجاجي، يتمتع المنظر الأخضر للمروج بينما هي تجلس مستقيمة الظهر خلف المنضدة، تواجه الجهاز.
تابع يلتقط نص كتابه:
ـ حسنا..دعينا نكمل..أيمكن؟ أظنني أعرف من أين نتابع من هنا.
استوت ادنا في جلستها، يداها على مفاتيح الطباعة مستعدة للعمل.
سألته بمكر:
ـ خارجي أم دخلي؟
ـ أرجو عفوك؟
ـ من المفترض أن نصف كل مشهد بالتفاصيل الأساسية..نهار أو ليل..خارجي أو داخلي..الخ..فأي مشهد سنكتبه الآن؟
نظرته الباردة، أخبرتها أنه فهم نيتها في كشف جهله بهذا الخصوص. وقال بهدوء:
ـ سأترك لك كل التفاصيل التقنية..ولسوف أفهم كل شئ بعد بضعة أيام. أما حاليا، دعينا نركز على الحبكة العامة، والعناوين الواسعة للسيناريو كله..ورغم جهلي، أفترض أن هذا ،يكون أول اهتماماتنا.
توهجت وجنتا ادنا وهي تحس الحرج. انه محق، طبعا..فهذه أول مرحلة، وكان يمكن أن تقول هذا لو لم تكن متشوقة بغباء كي تدهشه بذكائها.
تابع، وكأنه يسخر منها..العين بالعين !
ـ لكنك أنت الخبيرة .لذا أنا سعيد جدا بأن ترشديني.
هزت رأسها بذهن متلبد، شاعرة بغباء كامل..هايدن جاكوبس ستكون له دائما اليد العليا ،كما كان مايلز تماما، وأكمل:
ـ هل لنا أن نبدأ اذن؟
كانت بداية بطيئة مترددة..كانت مضطرة لترك منضدتها كل بضع دقائق، لتقطع المسافة بينهما الى حيث كان متمددا لتقارن أوراق نسخته بأوراقها..حتى أن عضلات ظهرها وكتفيها بدأت تتألم..لكنه سرعان ما ضجر، كما دل عليه صوته الساخط.
أخيرا وفي تنقلها العاشر عبر الغرفة..توقفت مسمرة ثم انفجرت ضاحكة.فكل ما يجري سخيف منا للعقل. وانضم هايدن الى ضحكها المقطوع الأنفاس، دون توقع منها، بضحكة منخفضة مألوفة جدا لها.
ـ أوافقك تماما..فهذا لن يوصلنا الى أي شئ..اذن أيتها الذكية..كيف تقترحين أن نقوم بهذا؟
وقف يرمي نسخته من يده على الأرض..
أخيرا توصلا الى نوع من الاتفاق..فهو مايزال يحتفظ بروح مايلز المرحة والقدرة على السخرية من الذات، وكل هذا عاد اليه عن طريق سلاح فعال من ادنا..ضحكتها التي لا تستطيع صدها.
رسمت خطة بسيطة معقولة..واذ حصلت على موافقته ،ارتدت بنطلونها الجينز الواسع وكنزتها الضخمة القطنية التي تصل الى تحت خصرها النحيل.
الآن انطلقا في عمل متناغم..عادا معه الى نظام تعاونهما كما كان على أرض الجزيرة..الجو العدائي في الغرفة، تغير ..وسادت الضحكات، والمزاح السريع المتبادل، الذي طالما كانا يجيدانه..كان واضحا أنهما مازالا يتشاركان التعاطف الفريد من نوعه الذي كان يجعل كل مهما يقرأ أفكار الآخر حتى قبل أن يشكلها في كلمات.
حين دخلت باميلا تحمل صينية من السندويشات وابريق قهوة طازجة، وجدت المكتبة في خراب مكتمل..كل الأثاث مدفوع الى الجدار، ليترك الوسط فارغا..رب عملها مستلق على معدته، بينما مساعدته الجديدة، في بنطلون رث، وكنزة عملاقة،تزحف من حوله، تنظم وتعيد تنظيم الأوراق المبعثرة والصفحات التي كانت تغطي كل السجادة العاجية السميكة..راقبتهما للحظات بذهول. فهي لم تر هايدن أكثر استرخاء منه الآن وذلك منذ عودته من رحلته الجهنمية.
حيا هايدن المرأة المسنة بابتسامة واسعة:
ـ آه..باميلا، كنت على وشك الصراخ لمزيد من القهوة.
وبشئ من الصدمة، استعادت ادنا وعيها، لتدرك أنها مازالت غريبة بالنسبة له.
قالت مدبرة المنزل المسنة بحزم، ناظرة حولها بيأس تبحث عن ممر نظيف الى منضدة القهوة:
ـ تكاد الساعة تصل الى الثانية يا سيد هايدن..وأنا أصر على أن تتوقف وتتناول شيئا تأكله.
ـ دعينا وشأننا يا باميلا..وخذي السندويشات معك..لا أريدها.
نظرت اليه ادنا بانتقاد..لقد تناولت الفطور في الساعة الثامنة وهي الآن تتضور جوعا..قالت المدبرة:
ـ قد لا تكون جائعا يا سيد هايدن، ولكن الفتاة لم تتناول طعاما منذ وصلت الى هنا..سأترك الصينية قرب الأريكة وعليكما أن تجدا طريقكما اليها.
وبنظرة يأس أخيرة، تركت الغرفة.
شقت ادنا طريقها عبر وفوق، الأوراق، لتهاجم السندويشات اللذيذة المنظر، رافضة أن ترهبها قلة اعتبار رئيسها لمشاعر الآخرين.
ضحكة خافتة كسولة، وصلتها عبر الغرفة، لترسل رجفة في جسدها..وبحذر استدارت نحوه. كان جالسا على الأرض، مستندا بظهره الى المنضدة، يراقبها بتلك التسلية الكسول والمحطمة للقلب، والتي تذكرها جيدا.
قال بعفوية:"وأنا من ظننت بأن الأرواح لا تأكل..".
علق الطعام ف حلقها..وأكمل:
ـ ... لكنك لست روحا، أليس كذلك؟أنت بشر بشكل يبعث على السخط.
لا يمكن لهذا أن يحدث...بقيت تقنع نفسها مرات ومرات..لا شك أنها تحلم في يقظتها..بكلمات قليلة عفوية، ممازحة، قفز فوق كل الحواجز، فوق كل السنوت التي تفصلهما..أخذ دما يجري بجنون في عروقها، وأجبرت نفسها على البقاء حيث هي، وجهها يخلو من كل تعبير. بعينين متسعتين، غير مرتجفتين، انتظرت حركته التالية.
ولكن لم يحدث شئ..كان الرجل ينظر اليها بابتسامة لطيفة، لغريب ودود، لا يدري أبدا تأثير الكلمات غير العادية التي نطق بها لتوه.
ـ حسنا..أكملي طامك يا امرأه.
صوته كان مايزال دافئا، وكسولا كصوت مايلز، لكن التعبير الجاف المثير للسخط، كان لهايدن جاكوبس:
ـ وصبي لي فنجان قهوة..أريد اكمال هذه.
كأنها مطعونة بسكين حادة، خرج نفسها الأسير في آهة منخفضة مسموعة. وصدمتها خيبة الأمل.
جلست..فأجفل لما رآه من شحوب وجهها:
ـ هاي..هل أنت بخير؟ أناآسف..من الأفضل أن نتوقف الآن لترتاحي قليلا..سنتابع فيما بعد.
أخيرا تمكنت من ابتلاع لقيمات، لكنها وضعت النصف الباقي من السندويش في الصينية.
ـ لا..دعنا نتابع..أنا بخير، حقا.
فلم يصر عليها.
ـ حسن جدا..اذن..هاتي سندويشاتك الى هنا ..بامكانك أن تأكلي وتعملي في ذات الوقت،ألا تستطيعين؟
مرت اللحظة، كانت قصيرة جدا، حتى أنها بدأت تظن نفسها تخيلت كل شئ..عادت على رؤوس أصبعها الى مكانها، قرب جسده الطويل المسترخي..بجهد انساني متفوق، تمكنت من أن تنفض عنها صدمتها المؤقتة، والعمل بالنسبة لها علاج قديم..كان مايلز يظنها تدفن شوقها له بالعمل المبدع المجنون، الذي يحولها من عاشقة، الى زميل عمل.
كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة حين استوى هايدن أخيرا في جلسته، ومطط ذراعيه، وقوس ظهره العريض بالطريقة المألوفة القديمة التي مزقت ادنا من الداخل، وأعلن أنه بحاجة الى القليل من التمشي..
فقالت ببرود:
ـ شكرا لله..بدأت أظنك لا تتعرض لمثل هذا التعب الانساني.
كانا يجلسان متقاربين، ينظران معا الى النص النهائي للخطة العامة، شاعرين بالسعادة لانجازهما..استدار اليها:
ـ كم أنا فظ لا أراعي شيئا يا حبيبتي.
أجفلت ادنا، دون ارادتها، وأكمل:
ـ في المرة القادمة، من الأفضل أن توقفيني حين تشعرين أنني أدفعك بقسوة. لقد حذرتك بالأمس أنني أميل الى تجاهل الآخرين.
ردت بصوت منخفض وكأنما لنفسها:
ـ لا أعتقد هذا..لا أظن أنك دون احساس وبارد المشاعر،كما تحاول أن تظهر.
ـ هذا جميل جدا منك يا حبيبتي..لكنني هكذا، ومن الأفضل أن تصدقي..ما رأيك الآن بأن نركض معا قليلا؟
لاحظت أنه اعتبر أنها تركض باستمرار كأمر مسلم به، مرة أخرى ،دون أن يدرك، كانت ذاكرته لمدفونة بعمق تتلاعب، وبطريقة مستقلة عن عقله الواعي.
لحقت به الى أبواب الباحة المرصوفة، ثم الى الأبواب الخشبية في نهاية حديقة الفيلا، الي قادتهما الى ممر ضيق عام يتجه الى المرج. لا شئ يمكن أن يكون مختلفا عن الشاطئ الرملي في سانت باتك، أكثر من ليل لندن والعشب المبلل تحت حذاءيهما. مع ذلك انطلقا معا بركض بطئ، جنبا الى جنب، كما كانا يفعلان تماما منذ سنوات، في الجزيرة.
كان ركضا قصير المدى مقارنة بالأميال اتي اعتادا أن يركضاها، لكنها كانت مقطوعة الأنفاس حين وصلا الى الفيلا المظلمة.
قالت تعتذر وهي تلهث، محاولة التقاط أنفاسها:
ـ أحتاج الى التمرين..فأنا لم أحرك عضلة واحدة منذ أتيت الى لندن.
ـ منذ متى كان هذا؟
ـ أوه..منذ ثلاث سنوات ، تقريبا.
ـ جئت من السيشل، أليس كذلك؟ما اسم الجزيرة؟
ـ سانت باتريك.
ـ أوه..أجل.
دفعها أمامه، وأسرع بها الدرجات القليلة الى المنزل الهادئ الساكن، ولكن حين أصبحا في أمان في الداخل، ابتعد عنها، ما بدا لادنا وكأنه اشمئزاز مفاجئ. لكنها لاحظت الألم والارتباك اللذين غشيا وجهه، والطريقة التي نظر فيها اليها.
كانت تسير نحو المطبخ حيث ما زالت باميلا المسكينة منتظرة لتطعمهما، حين لاحظت أنه يسير في الاتجاه الآخر..وقال من فوق كتفه:
ـ قولي لباميلا، انني سأتناول طعاما بسيطا في غرفتي..اذا سمحت ..لا أشعر برغبة في وجبة كاملة.
توقفت مسمرة..مصدومة بفاظته المفاجأة، في وقت لم تتوقع منه هذا..وقالت ببرود:
ـ لقد كانت تحافظ على الطعام ساخنا لك طوال المساء..وتعرف هذا..ألا تظن أنك تدين لها ببعض الاعتبار؟
ـ اذا كنت أدين لها..فهذا بيني وبينها، ولاأرى كيف أن لك شأنا بعاداتي، الا اذا كنت غير قادرة على قضاء ما تبقى من الأمسية وحدك.
ردت بتوتر:
ـ لا تدع هذا يزعجك، لقد أمضيت معظم حياتي على جزيرة ليس فيها سوى أخي وأبواي أمضي أمسياتي معهم. لذا صدقني، أنا معتادة تماما على أن أكون لوحدي..عمت مساء !
أمضت عدة دقائق قبل أن تهدئ من جرح كرامتها..وذكرت نفسها أنه قد يعامل أميرة بنفس الطريقة المرتجلة..مايلز، وهايدن، لا يهتمان بالكياسة،فكلاهما يفعل بالضبط ما يشعر به..لكن الفارق، أن مايلز كان سيرغب برفقتها..بينما هايدن الآن ينكمش الى قوقعته باردا، وحيدا.
كانت العاصفة في الخارج قد انفجرت بقوة حين أنهت ادنا طعامها، وانسحبت الى خلوة نومهاالمريحة، متعبة جدا، مرهقة، لاتستطيع ارتداء قميص نومها، ولا أن تزحف الى تحت الغطاء. أذناها كانتا طنان بأصوات االريح المعولة، والمطر اللاسع خارج النوافذ التي لا ستائر لها.
جلست على السرير الكبير تفكر بهايدن..المقفل بابه عليه والمنغلق على نفسه. وتتسائل عما اذا كانت أحاسيسه أو دوافعه، لا يحكمها عقله الواعي ،وانما تحركها ذكرى ليلة مماثلة وعاصفة أخرى..أكثر ضراوة وشراسة من هذه النسخة الصغيرة.
***
4/خيانة ذاكرة
كان الصمت المخيف الثقيل هو الذي أيقظ إدنا تلك الليلة..بقيت مستلقية جامدة في فراشها، تفسر سبب توترهابالصمت الخانق الذي يسبق عادة هبوب العاصفة. لكن العواصف العاتية الخطيرة لا تثور في مثل هذا الوقت من السنة.. هكذا، مثلها في ذلك مثل أبويها، وكل المحليين الذين يسكنون سانت باتريك، صرفت النظر عن جرس التحذير الذي أطلقت أحاسيسها. وقررت أن الأمر لا يعدو أن يكون عاصفة عادية.. وكانت على وشك العودة الى النوم، حين وصلت إليها أصوات آهات أمها المثيرة للشفقة عبر الجدار الذي يفصل غرفتيهما.
حين وصلت إدنا إلى جانب أمها، كان باتريك جايمسون يتصل عبر الهاتف ليستدعي طائرة هليكوبتر لنقله و زوجته إلى"ماهي"لإجراء جراحة طارئة.. كانت غريس جايمسون تعاني من ألم مبرح، ولا حاجة لطبيب ليشخص لها غثيانها الشديد، والوخزات المؤلمة الحادة في جانبها الأيمن على أنها نوبة التهاب الزائدة الدودية.. فالعيش في جزيرة منعزلة كان يوجب على أسرة جايمسون أن تكن على معرفة وحذر تامين بأي إشارة مرض.
في أقل من عشرين دقيقة، حطت طوافة المستشفى الصغيرة على المهبط البدائي المرصوف في حديقة المنزل وحمل مايلز غريس بين ذراعيه، ونزل بها السلم ، ليمددها برفق على المحفة..وقال باتريك جايمسون لإبنته:
ـ سأتصل بك حالما يكون لدي ما أخبرك به..في هذه الأثناء من الأفضل إغلاق كل مصاريع النوافذ الخشبية المقاومة للعاصفة. يبدو أن عاصفة قوية على وشك الهبوب.
انتظرت إدنا الى أن أقلعت الطوافة، ثم أخذت للإستعداد للعاصفة.
استغنت عن مساعدة الخدم، الذين لكل منهم منزله ليهتم به، ثم أعدت هي ومايلز المنزل لأي شئ يخبئه الجو الذي لايمكن التكهن به.
اتصل والدها بعد ساعة، ليقول لها أنهم وصلوا المستشفى بأمان، وإن أمها الآن تخضع للجراحة.. ولقد وصلا في الوقت المناسب، قبل أن تنفجر الزائدة.
كانت الساعة قد بلغت الثانية، قبل أن تنسحب هي ومايلز كل إلى غرفة نومه..وكانت إدنا مرهقة جدا بما قامت به من جهد في منتصف الليل، ومشغولة الفكر بحالة أمها.
استيقظت بعد ساعتين من النوم المتقطع، كل أحاسيسها متوترة لوقع المطر الشديد على المصاريع الخشبية الواقية من العاصفة، وعلى صوت الريح الشديد المخيف..على الفور، تذكرت مخطوطة قصة مايلز، ومخطوطة السيناريو الذي تعمل على وضعه، والموضوعين ،دون اكتراث،في خزانة خشبية في السقيفة.
وأسرعت إلى الخارج، لتقف لحظة عند باب غرفة مايلز، تفكر في أن توقظه، كي لا تذهب إلى الشاطئ وحدها..لكنها عرفت أنه سيمنعها من الخروج، وهكذا قررت أن تتابع ما بدأته لوحدها.
كانت مضطرة لتتصارع مع باب المطبخ الخلفي الضيق في وجه الريح الشرسة العاتية، وعلى الفور أصيبت بالبلل من جراء المطر البارد، الذي أخذ يلسع وجهها، وكأنه أطراف خناجر مدببة. كانت الريح تهب في اتجاهها، تعوي كحيوان جريح، تقاومها في كل إنش تتقدمه وهي تنزل السلم إلى الشاطئ. كان يجب أن ترتدي أحد المعاطف الواقية من المطر، الموجودة في خزانة في الردهة الرئيسية.. لكنها كانت مبللة حتى العظام، ترتجف بردا بشكل مثير للشفقة.
في منتصف الطريق توقفت، وقد غمرها الرعب من الجو المجنون الذي رمت نفسها فيه.. هذه ليست عاصفة عادية.. ولم يعد لديها أي شك في أن هذه عاصفة هوجاء، ربما تكون مقدمة لإعصار.
فجأة برز جسم ضخم ضبابي من قلب ذلك الجحيم، جعلها تكاد يغمى عليها من الرعب..وفقدت قدماها ثباتهما على الدرجات الحجرية المنزلقة، وبدأت تترنح دون شئ يحول دون إنقلابها رأسا على عقب، إلى الأسفل حيث الرياح العاصفة.
وما لبثت أن شعرت بالأمان وهي تميز في ذلك الجسم مايلز في معطفه الواقي من المطر.
ـ أيتها الحمقاء..ماذا تفعلين هنا؟
صاحت ليسمعها:"المخطوطات ! إنها في السقيفة ! ".
فرد صائحا:"إنها معي !".
دس ربطة كبيرة ملفوفة بعطف واقي من المطر بين ذراعيها، وفجأة كانت قدماها متدليتين في الهواء، وهو يرفعها تحت ذراعه وكأنها دمية متراخية.
كان وصول إدنا قد استغرق أكثر من عشرين دقيقة وهي تنزل مواجهة للعاصفة..إنما الآن، ومايلز يتسلق السلم مع اتجاه الريح، فقد أصبح خارج باب المطبخ في أقل من خمس دقائق، اذ كانت الريح تكادتدفع قدميه عن الأرض دفعا.
ما إن أصبحا أمام المنزل ، حتى أعادها إلى الأرض بعد أن تأكد من أنها أمسكت بحاجز الشرفة الحديدي، ثم جرها معه إلى الداخل مغلقا الباب في وجه العاصفة المجنونة.
أخيرا أصبحت صفحات الكتابين آمنة فوق منضدة المطبخ، رغم بلل طفيف لحق بها.
قال وهو يخلع لمعطف:
ـ في المرة القادمة التي تقررين فيها دفع ضحية مسكينة لعمل إبداعي عبقري، تأكدي من أن يصنع نسخة ثانية من عمله.. أنت مبللة جدا أيتها الحمقاء..وأنا كذلك. أين مفتاح النور؟
تركته وشقت طريقها في الظلام إلى مفتاح النور..لكن لم يحدث شئ، فقالت باستسلام:
ـ انس الأمر، من الصعب أن يعمل المولد في عاصفة كهذه. ستجد مصباح"الكاز"خلفك، عى الرف الأعلى..لا بد أنه ممتلئ. وعلبة الكبريت إلى جواره.
بعد دقائق من الشتائم المتدفقة، أضاء المطبخ نور باهت كليل.
ـ أين المدفأة؟.. لا أذكر أنني رأيت مدفأة في المنزل.
ـ نحن لسنا في انكلترا..إننا لا نحتاج أبدا إلى تدفأة هنا.
كا منشغلة بالموقد القديم الطراز، الذي يحتفظ به لمثل هذه المناسبات، التي يفشل فيها مولد الكهرباء بإعطاء الطاقة للفرن الحديث..حرارة الموقد اللطيفة جعلتها تحس بعدم ارتياح في ملابسها المبللة. وقالت له:
ـ هناك بعض البطانيات في الخزانة التي في الردهة الرئيسية..من الأفضل أن تخلع ملابسك، بينما أحضرها إليك.
أحست أنها أفضل حالا الآن وهي سيدة الموقف، فهي معتادة على العواصف بعكسه هو.
كان قد خلع قميصه ووقف قرب الموقد، يدعك جسده البارد بشدة بمنشفة المطبخ.. كان الضوء الباهت للمصباح يقع على ظهره النحيل القوي. ولم تستطع تحويل عينيها عنه. بدا وكأن له عينين في مؤخرة رأسه..فقد أجفلها بقوله:
ـ توقفي عن التحديق بي يا إدنا.. وبدلي ملابسك !
رمت إليه ببطانية وهي ترتجف، ثم ذهبت إلى غرفة مجاورة وبدلت ثيابها المبللة.
عندما عادت حاولت أن تحمي نفسها من نظراته، وهي تشعر بالذنب، فقالت:
ـ أوه..يا مايلز..أنا آسفة..لم أكن أقصد أن..
ارتفعت عيناه لتنظر في عمق عينيها:
ـ اصمتي، قطتي الصغيرة..نحن الآن بين يدي الأقدار، كما أعتقد..ولا جدوى من محاربتها.
سألته مستغربة:
ـ أنت لست غاضبا.. إذن؟
تجاهل سؤالها ،واستدار عنها:
ـ هيا يا إدنا فلنصعد إلى فوق، فنحن بحاجة للراحة بعد هذا العناء.
دفعها أمامه:
ـ هيا..من الأفضل أن تسيري أمامي، فأنت تعرفين المنزل أكثر مني.
والتقط المصباح.
سارت أمامه مباشرة إلى غرفة نومه، وتملكها شئ من الدهشة وهي ترى أن صوت العاصفة والمطر والريح في الخارج أصبح خفيفا جدا ، إلى درجة همهمة بعيدة مخنوقة، بالمقارنة مع ضربات قلبها العنيفة..ثم قال:
ـ أنت جميلة، أتعرفين هذا؟ أحاسيس تدلني على أنني لا شك رأيت بضع نساء في أيامي، مع أنني، لا أستطيع أن أتذكر واحدة منهن..لكن ماأعرفه أنك تخطفين أنفاسي بجمالك..
أدارت رأسها لتواجهه، فإذا به يركز عينيه على وجهها عينيها اللتين تسمرتا عليه. لم يستطيعا إخفاء المشاعر المكشوفة في نظراتهما، فقد كانت نوعا من المشاعر تملكت الروح والجسد معا. أخيرا أخفضت نظرها، لم تعد تستطيع تحمل المزيد من العذاب لكشفها عما في نفسها..
ثم قال:
ـ أوه..كم أحبك يا إدنا !
وعرفت من شدة وقوة الكلمات أنه أعطاها بذلك عهدا .فابتسمت والدموع تترقرق في عينيها:
ـ و أنا أحبك يا مايلز.
فجأة شعرت بالخوف، والرعب من المجهول، فهي لا تعرف إلى أين يقودها هذا المجهول الغريب الحبيب.
ابتعدت عنه وقلبها يعصف في مسار مغاير
تمتم قائلا:
ـ نامي الآن يا إدنا.. وإن لم تسمعيني قبل الآن:أحبك.
في الصباح نزلت إلى تحت فالتقت به،قالا دفعة واحدة عن العاصفة التي كات تزمجر بالأمس:
ـ لقد انتهت.
وضحكا معا ،وسألها مايلز.
ـ أترغبين في تفقد الأضرار في الخارج؟
واتجهت إدنا فورا إلى الهاتف، لتتصل بالمشفى لتسأل عن أخبار أمها. لكنها رفعت صوتها بحيث يصل إلى المطبخ حيث كان مايلز يحضر الفطور.
ـ الهاتف مقطوع.
رد عليها:
ـ وكذلك المولد..لا كهرباء..
سألها بعفوية، بعد أن رمت ملابسهما المبللة إلى سلة الغسيل:
ـ هل أنت معتادة على الخدم؟
ـ أستطيع العناية بنفسي جيدا دونهم، إذا كان هذا ما تقصد..إذا كنت تظن أن نقص المال قد يبعدني عنك فأنت تضيع وقتك سدى..هذا إلى أنك ستجني الملايين من كتابك.
لكنها ندمت على كلماتها قبل أن تنهي جملتها..فقد خبت ابتسامته، ونظر إليها بمزيج غريب من السخط وشئ يشبه الندم. ثم قال بهدوء:
ـ كلي فطورك يا إدنا..واصمتي.
لكن الضرر حصل..وذكرى ذلك الزجر الغاضب أصبح الآن يغشى أفقها الأزرق.
كانت الشمس تشرق متألقة فوق الفوضى الموحلة التي تركتها العاصفة ورائها.زلكن الضرر، بوجه عام، كان قليلا. وكان أهل الجزر معتادين على تقلب جو المحيط الهندي الذي لا يمكن التنبؤ به.
سقيفة الشاطئ ذهبت..عمدانها كانت مدفونة تحت السقف النخلي..لكن الطابعتين المحميتين بغلافيهما لم تتضررا.. حتى الخزانة الخشبية المتداعية كانت ما تزال هناك، وقد تناثرت حطاما ،بوقوع أحد الأعمدة عليها، ولحسن الحظ كانت فارغة،ليس فيها سوى بعض أدوات الكتابة و ورق الطباعة الفارغ..
تنفست بارتياح لوصولهما إلى الخليج، ووجدا أن"غريس" يخت العائلة، يتأرجح بهدوء فوق المياه الساكنة، وهو ما زال مربوطا بمرساة بأمان..وقالت إدنا متنهدة:
ـ سبق و انجرف اليخت إلى البحر مرتين في الماضي. تعال، لنعد ونتصل بالمستشفى عبر الراديو في المركب.
جاء صوت باتريك جايمسون الرنان بعد قليل، يخفي قلقه خلف توبيخ متوتر:
ـ حان الوقت لتتصلي..كنت أحاول الإتصال بالمنزل منذ السادسة صباحا.
ـ الهاتف مقطوع يا أبي..ولقد تأخرنا في النوم..كيف حال أمي؟
كانت غريس بخير كما أكد لها والدها، لكن كانت فرصة عودتهما إلى المنزل قبل نهاية الأسبوع ضئيلة جدا..فلا وسائل نقل.."ماهي" على عكس سانت باتريك، ضربتها العاصفة بشدة، وقد سادت الفوضى كل شئ..وسألها بحذر:
ـ ما هي الأضرار.. عدا خطوط الهاتف؟
عرفت ما يريد فعلا أن يسمعه:
ـ أنا بخير يا أبي، وكذلك مايلز..المنزل لم يمس،مولد الكهرباء توقف، لكننا سنتدبر أمرنا يا أبي..لا تقلق، بلغ أمي حبي.
ـ سأفعل ..وقولي لمايلز إنني أشكر له مساعدته..أحس بالإرتياح لوجوده هناك ليرعاك..وداعا الآن.
الصمت في قمرة اليخت، لم يكن يقطعه سوى همهمة المحيط..وكان مايلز يقف خلفها، صمته ينطق بأكثر من الكلمات.
استدارت بغضب تواجهه:
ـ لا تنظر إلي هكذا يا مايلز..فهذا أمر سخيف..فقد كنت ترعاني..ليلة أمس، كان يمكن أن تطيح بي العاصفة و أنت..
قاطعها بهدوء: "اصمتي يا إدنا".
و ابتعد عنها متجها إلى سطح المركب.
لحقت به ، فقال:"كدت أفقد سيطرتي على نفسي بالأمس وهذا ما لا أريد أن أتعرض له ثانية فربما لم أستطع في المرة الثانية تمالك زمام نفسي وفقدت السيطرة".
ـ إنك ..إنك لا تفكر بما قلته منذ أيام عن تركك الجزيرة فيما لو فقدت القدرة على ضبط نفسك..أليس كذلك؟
كان يقف قرب سياج المركب، ينظر إلى الجزر البعيدة السابحة في الضباب في الأفق الأزرق.
ـ لا يمكنك يا مايلز..لا يمكن أن تذهب ! ليس الآن !
استدار ليواجهها، فتنفست الصعداء وهي ترى وجهه منفرج الأسارير:
ـ لا تفكري بهذا يا إدنا..والآن، ما هي الإجراءات العادية في الجزيرة بعد العاصفة؟
لم يكن لديها خيار سوى طاعة أوامره حرفيا..وفيما بعد،أبعدت أية فكرة عن المستقبل، وأية لهفة أو كآبة من رأسها.
ذلك الصباح حين عادا إلى المنزل، وجدا سوزي و بلاك منكبين على العمل بنشاط، ينظفان المكان عائدين إلى عملهما المعتاد في منزل أسرة جايمسون. وانتظرا عودة سوزي و بلاك إلى عائلتيهما، ليسبحا،ويغطا، ويجولا في أنحاء الجزيرة، يتجنبان بحذر أية مواجهة قد تؤدي بهما إلى تصاعد مشاعر لا يمكنهما السيطرة عليها.
لكنهما كانا أكثر استرخاء في الأيام التالية..
وكانت هذه أجمل أيام حياتها..وبسببها بالضبط، لم تعد قادرة على التكيف مع أي نوع جديد من الحياة فيما بعد.
كان كريما في حبه،مع ذلك لم يكن جياش العاطفة و لا رومانسي بشكل مطلق..و لم تعد إدنا بالنسبة له روحا خالية،كما لم يعد هو أمير الأحلام..كانا مجرد رجل و امرأة، تربط بيهما علاقة حب.
الليلة التي سبقت عودة ريس وباتريك جايمسون إلى المنزل، لم تعد إدنا تستطيع كبح التوتر. سألت:
ـ مايلز..ماذا غدا؟
ـ تعنين اليوم ..أليس كذلك؟
ـ تعرف ما أعني..ماذا سيحدث حين يعودان؟
ـ ماذا لو عدنا إلى العمل؟
ـ أرجوك يا مايلز ..أجبني..
ـ لست أدري..دعينا نقرر و نحن نواجه الواقع..أيمكن هذا؟
لدهشتها تكيفا فورا مع التغيير الحتمي لحياتهما في وجود والديها..و عادا فعلا إلى العمل، و إلى رياضتهما المتنوعة. و أبقيا حبهما تحت رباط محكم..
لكن الإحساس باقتراب المصير المحتم، أصبح دائما الآن في نفس إدنا..كانت تشعر وهي تراه كل يوم في وقت الفطور بارتياح شديد وكأنما كانت تتوقع أن يختفي أثناء الليل..لم يقل لها أي شئ عن خططه، ولا أظهر لها أي دلائل عن وصوله إلى قرار..لكنها عرفت أن المجهول قادم، وهي عاجزة عن فعل أي شئ يمنع ذلك.
كان الوقت بعد عشرة أيام من عودة أبويها..وكانا يعملان في سقيفة الشاطئ، ظهرا إلى ظهر كالعادة..طابعتاهما تتنافسان معا في طقطقة شرسة.
فجأة صمتت طابعته، وقال دون أن يلتفت:"كيف حالك يا إدنا؟".
ردت بأدب ساخر:"بخير..شكر لك".
استدار إليه مبتسما:
ـ هذا على الأقل جسر تمكنا من إجتيازه.
ـ هل ستخبرني قبل أن ترحل؟
رد برقة:
ـ لا ..أنا آسف يا حبيبتي..لا أظنني قادرا على مواجهتك.
ـ سأقول لك وداعا الآن إذن.
ـ وداعا يا إدنا.
التفت إليه تواجهه..وبقيا ينظران إلى بعضهما للحظات يأس لا زمن لها، وبصمت كمل. ثم جعلها ترفع رأسها لتلتقي عيناها بعينيه الزرقاوين العميقتين، وكأنما يحاول طبع صورتها في ذهنه.
الألم الصرف الذي رأته في عينيه خرق قلبها. فابتسمت تحاول إراحته، ناسية بؤسها للحظات. أخيرا، رد عليها بابتسامة متكسرة، وتركها.
أدارا ظهريهما لبعضهما ليعاودا الطباعة.
في اليوم التالي كانت تسبح باكرا في الصباح كعادتها، و على مسافة بعيدة من الشاطئ، حين شاهدت طائرة صغيرة ذات مقعدين تحط على المدرج الصغير تحت المنزل.. وذابت كل قراراتها المتصلبة ،وهي تسبح بجهد إلى الشاطئ.. حين وصلت أخيرا إلى الشاطئ، كانت الطائرة الصغيرة تتحرك استعدادا للإقلاع..عبر النافذة رأت طيف مايلز وجانب وجهه المتكبر. وما كان عليه سوى أن يدير رأسه ليراها تقف، على عمق الركبتين في الماء، جامدة دون حراك.. لكنه استمر ينظر إلى الأمام بثبات..ثم اختفى.
اكتشفت فيما بعد ذلك النهار، أن مايلز تحدث مع والديها يوم عودتهما بالضبط من المستشفى في"ماهي".. وكان عنيفا في إصراره على أن يكون صريحا معهما.
بالطبع، لم دهشا لسماع حبه لابنتهما.. لكن صدمتهما جاءت حين فهما أخيرا أن لا مجال للزواج.
قالت غريس وصوتها يقطر ألما و إشفاقا:
ـ لم يخف عنا شيئا يا إدنا..أخبرنا حقيقة مجيئه إلى سانت باتريك ،وعن فقدانه لذاكرته.. إنه رجل دون ماض، دون هوية، وليس من حقه أن يربطه معك.
ـ أتعنين ،أنك و أبي شجعتماه على الرحيل؟
تدخل والدها:
ـ لا..لم نفعل..فأنا لم أحتج إلى مراجع لأشكل رأيا حوله..لأنني أعرف الرجل الطيب حين أراه.
قالت غريس بحزم:
ـ اقترح والدك أن يبقى هنا، ويبدأ حياة جديدة..لكنه رفض. قال إنه مضطر أن يعثر على هويته قبل أن يقبل بثقتنا به.. وهو محق يا إدنا، يجب أن تنتظري عودته، معافى تماما..أو..
أكملت إدنا الجملة:
ـ أو أن أتعلم العيش دونه..أعرف هذا، لقد سمعته يقول هذا مرات و مرات..حسنا جدا..لا يمكنني فعل شئ غير هذا، أليس كذلك؟ لم أسأل عن رأيي، و لا استشارني أحد..أنتم، و مايلز، والجميع، تدارستم مستقبلي بعناية وتعقل..لكن ما من واحد منكم أخذ مشاعري بعين الإعتبار..أنا شابة، والحياة كلها أمامي..وسأتجاوز المحنة..أليس كذلك؟
نظر والدها بصمت إلى هذه المرأة القاسية التي جاءا بها إلى الحياة. وأكملت:
ـ حسن جدا ..قد أكون شابة، وحياتي كما تقولون ما زالت أمامي. لكنني ،أبدا، أبدا، لن أتجاوز محنتي أو أنسى مايلز. ولن يكون لي رجل غيره..لذا من الأفضل أن تقولا له هذا في المرة القادمة عندما يتصل بكما.
لكن، لم يكن هناك"مرة قادمة"فبالرغم من وعده أن يعلم الوالدين بمكان وجوده، إلا أنه لم يتصل أو يكتب، أو هكذا قالا، على الأقل ربما لحمايتها.
لحسن حظها، تملكتها غريزة الحفاظ على الذات، للأيام التي تلت، الأسابيع،والأشهر..فهي لم تكن تعرف الألم من قبل..لم تكن قد واجهت من قبل أي عداء حقيقي أو قسوة، لذا لم يكن لها دفاعات، ولا وسائل حماية ضد الألم الثابت المستمر، دون كلل..كانت خسارتها تبدو لها حية في كل زاوية من الجزيرة، كل نشاط يومي،كل صوت ورائحة، في الواقع ، في كل شئ شاركته مع مايلز..وبرح بها الألم، وسلبها حتى الغضب، أو الكراهية، للرجل الذي كان سبب كل هذا.. كانت تعلم أن الشوق إليها يؤلمه هو أيضا، وهذه المعرفة زادتها معاناة.
مرت ستة شهور..وعاد اليوم مجددا، يسجل مرور سنة على إلقاء الأمواج بمايلز على شاطئ الجزيرة، مع ذلك، كان الألم ما يزال حادا، قاسيا ،يدمر روحها كما كان دوما. وفي ذلك اليوم جاء ليون في عطلته السنوية ليخبرها بأمر هايدن جاكوبس.
لم تكن قد لمست سيناريو قصة مايلز منذ رحيله..فما ان عرفت أنه أخذ معه النسخة الوحيدة، غير المنتهية من عمله حتى فقدت الإهتمام بعملها..لكنها قبل تركها لسانت باتريك إلى انكلترا، نزلت إلى السقيفة، وأخرجت الملف السميك، تنوي استخدامه كدليل على علاقتها السابقة..إنه دليلها الوحيد الملموس في الواقع..عند ذلك فقط، وجدت رسالته الوداعية على قمة الأوراق المطبوعة.
"لن أطلب منك مسامحتي يا إدنا، فكلانا يعرف أنك لن تسامحيني..ولكن، تذكري فقط ،كلما فكرت بي، بأن ذاكرتي مهما كانت خائنة في الماضي، فستبقى دائما مخلصة لك. قلبي يقول لي إنني لم أحب يوما مثلك، وكياني كله يصيح عاليا أنني لن أحب سواك..لذا، يا حبي، إلى اللقاء...مايلز "


الساعة الآن 04:38 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية