منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f449/)
-   -   92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t116537.html)

safsaf313 12-08-09 09:15 AM

92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة )
 

الملخص
الفارق بين الوهم والحقيقة لا يكاد يكون واضحا في معظم الأحيان , وخاصة في بداية الحياة حين تختلط المشاعر والأحاسيس بشكل قوي.... أحبت لورا توك الطبيب الهادىء , صديق العائلة منذ الصغر وأنتظرت يوم تتويج الفرحة بثقة على نقيض منه, كان راندال رجلا ثريا متسلطا دخل حياتها كعاصفة هوجاء وقلبها رأسا على عقب, وجدت لورا نفسها في وضع يستحيل معه رفض الزواج من راندال , أتصغي لنداء القلب يشدها نحو توم؟ أم لنداء العقل يجعلها تقبل براندال لتنقذ وظيفة والدها وحياة والدتها ؟ كيف تخرج الفتاة الرقيقة من المأزق الذي هز كيانها وخلخل توازنها؟منتديات ليلاس

للتحميل ككتاب من هنا

safsaf313 12-08-09 09:25 AM


1- الحيّ الشرقي
كانت الرياح تعصف بشدة في تلك الليلة الباردة على ضفاف نهر التايمز الذي يخترق لندن , وكانت الزوارق الراسية تصدر جلبة تختلط مع حفيف أوراق الأشجار المنتشرة على ضفتي النهر, يعلوها أحيانا غطيط بعض الفقراء الذين يفترشون الأرض ويلتحفون الجرائد البالية في الحي الشرقي للمدينة ,
قالت لورا هالام وهي تجيل نظراتها في الشارع:
" لندن مدينة موحشة تماما في الليل ".
فعلقت رفيقتها بات باسيت:
" لم يجبرك أحد على مرافقتي , لقد أنذرتك بأن هذا الجزء من المدينة مفزع بعض الشيء".
" أنا سعيدة جدا لأنني أتيت , فهؤلاء الأطفال بحاجة لمن يعتني بهم بعد موت والدتهم ودخول والدهم السجن".
" مثل هذا يحدث يوميا هنا , ونحن نحاول جهدنا لتخفيف الألم عن هؤلاء البائسين , والأطفال الذين زرناهم الليلة محظوظون بالنسبة الى غيرهم لأن خالتهم ستعتني بهم , في حين أننا نرسل الكثيرين ليعيشوا مع غرباء لا يمتون اليهم بصلة , قلبي مطمئن بالنسبة الى هذه العائلة فالروابط بين أفرادها قوية مما يسهل عليه خوض معركة الحياة".
كان لدى لورا أنطباع بأن بات لا تستسيغ صحبتها تماما ولكنها لم تكن تعرف سبب ذلك , هل لأن بات بحكم عملها كموظفة في الخدمات الأجتماعية , ترى الفارق واضحا بين مستوى معيشة لورا ومعيشة الفقراء المعذبين؟ أم لأنها تعتبر لورا فضولية بعد أن أصرّت على مرافقتها ؟ ولورا لا تريد بالطبع أن توضح لبات أن دوافع هذه الزيارة شخصية من قبل وزارة الصحة للمنطقة التي تعمل فيها تحت أشرافه.
أكملت الفتاتان سيرهما ووقع أقدامهما يتردد في الشارع شبه المهجور , ولم يقطع هذا الصمت سوى هدير دراجة نارية يقودها شاب بسرعة جنونية , بعد ذلك خيّم السكوت من جديد.
صاحت بات في وجهه بغضب:
" أرعبت الفتاة دعها وشأنها".
ضحك الشبان من جديد وصعدوا الى السيارة , أدار راندال المحرك , وما هي الا دقيقة حتى أختفوا مثل حلم مزعج, نظرت بات الى لورا بقلق:
" أنذرتك بأن المجيء الى هنا ليلا محفوف بالمخاطر , فلم تقتنعي, سيلومني توم لأنني أصطحبتك , كيف سأبرر موقفي أمامه غدا؟".
" لا تخافي فأنا لست طفلة, أصبحت في العشرين وأتحمل مسؤولية ما أفعل".
" وجّهي هذا الكلام لتوم غدا, هيّا سأوصلك الى البيت".
أستقلت الفتاتان الباص المتوجه الى الحي الراقي حيث تسكن لورا مع والديها , بعد قليل ترجلتا وسارتا في شارع محاط بالأشجار حتى بلغتا بوابة المنزل".منتديات ليلاس
" ستكونين بخير الآن يا لورا".
" شكرا على كل شيء, كانت تجربة مثيرة فأنا أحب خوض المغامرات لأتعلم منها".
" أرجو أن تكون المغامرة قد أظهرت لك الفارق جليا بين عالمك والعالم القاسي الذي أختاره توم لنفسه".
نظرت لورا الى بات وهي تتساءل عما تبتغيه من محاولتها أظهار حبها لتوم وكأنه فاشل لا محالة.
دخلت لورا الى البيت لتسمع أمها تناديها من غرفة الجلوس:
" هذه أنت يا حبيبتي؟ أين كنت في مثل هذا الوقت المتأخر؟".
" كنت برفقة بات نقوم ببعض الزيارات".
السيدة هالام, والدة لورا, أمرأة نحيلة في الخمسين من عمرها, شعرها الأبيض كان ذهبيا أيام الصبا كشعر أبنتها , صحتها الضعيفة تجبرها على البقاء في البيت وعدم القيام بأي عمل مجهد , فهي قد تعرضت لنوبتين قلبيتين كادتا أن تقضيا على حياتها , لذلك يعاملها كل من زوجها وأبنتها معاملة رقيقة للغاية خوفا من أي نكسة جديدة , وهي تحاول أحيانا رفض الواقع والقيام بأي نشاط يشعرها بلذة الحياة.
لكن أوامر الطبيب في هذا الصدد صارمة, لأن النوبة الثالثة ستودي بها دون أدنى شك.
كرست لورا نفسها لخدمة أمها منذ تركت المدرسة , أختارت هذا الطريق طوعا ورفضت دخول الجامعة , على الرغم من أصرار والدتها , لأنها لن تجد أحدا يقوم بمهمة العناية بالمرأة المريضة نيابة عنها.
شعرت لورا بالأرتياح في هذه الغرفة مع أمها , السيدة هالام صاحبة ذوق رفيع في تزيين المنزل , جعلت الغرفة مريحة وجميلة في آن , ألوان الستائر متناسقة مع لون السجادة ولون المقاعد المريحة والدافئة, في كل زاوية مجموعة من الزهور تضفي على الغرفة جوا مفرحا.
سألت الفتاة أمها:
" أين والدي الليلة؟".
" ذهب ليمضي السهرة مع أصدقائه, تعلمين أنه يمل من هدوء البيت".
السيد هالام رجل أجتماعي يحب الأختلاط بالناس والمشاركة في السهرات والحفلات , منزله هادىء جدا ويثير في نفسه شيئا من الكآبة والأنقباض , لذلك فهو يمضي معظم السهرات خارج البيت , شعرت لورا بالحرج والأضطراب , كان يجدر بها ألا تخرج من البيت وتترك أمها وحدها.
بدأت السيدة هالام بجمع أدوات الحياكة, التي تمارس بها نشاطها الوحيد , لتستعد للنوم.
" سأصعد الى غرفتي الآن يا حبيبتي لورا".
" هل تريدين بعض الحليب يا أماه؟".
" هذا لطف منك , لكنني أخشى أحيانا أن أكون حائلا بينك وبين التمتع بالحياة, بأمكاننا توظيف أمرأة تعتني بي عندما تودين الخروج, فلا يجوز لصبية جميلة مثلك سجن نفسها في البيت".

أرجوك يا أمي , لا تقولي مثل هذا الكلام , أنا أحب الأعتناء بك, ثم أن توم يصطحبني مرة في الأسبوع الى المسرح...".
قاطعتها أمها:
" أذا سمح وقته بذلك, أشغاله تمنعه من أن يصطحبك مرة في الشهر لا في الأسبوع , حياة الطبيب صعبة خصوصا بالنسبة الى زوجته".
" هو لم يطلب مني الزواج بعد! فلماذا تتكلمين عن الحياة الزوجية؟".
كانت أمها تعلم مدى الحب الذي تكنه لتوم منذ صغرها , فلورا لم تكن تخفي عنها شيئا.
" توم شاب ممتاز يا بنيتي , هو طبيب لامع كأبيه وأنسان رقيق , لكن عليك أن تفكري جيدا قبل أتخاذ أي قرار , لا أريد التدخل في ما لا يعنيني , لكنني قلقة على مستقبلك ولا أريد لك الا كل الخير".
عانقتها لورا وقالت:
" أنا أعرف ذلك, لا تقلقي بشأني ... توم لم يأت على ذكر الزواج بعد فهو يعتبرني صغيرة على مثل هذه الأمور , أنه يعاملني وكأنني ما زلت الطفلة التي لاعبها يوم كان طالبا...".
ذكّرتها هذه الكلمات بالحادثة التي تعرضت لها منذ قليل, أحمر وجهها وأضطربت فقلقت أمها الرقيقة.
" ما الأمر يا بنيتي؟".
" لا شيء مهم, تعرّضت وبات لمضايقة بعض الشبان وأنتهى الأمر بسلام".
" أنها طباع جيل اليوم , حتى توم كان طائشا أيام الدراسة!".
وغرقت الأثنتان في ضحكة طويلة.
صعدت السيدة هالام الى غرفتها وتوجهت لورا الى المطبخ لتحضر الحليب.
فجأة أرتسمت في مخيلتها صورة راندال , الرجل الذي طبع قبلة على خدها قبلة ونشل قفازها , أثار هذا الشخص في نفسها حنقا وكرها شديدين , لقد مقتته م أول نظرة , لكن شيئا ما كان يشدها اليه, غرائزها في داخلها جعل جسمها يتجاوب معه.
وضعت رأسها بين يديها كأنها تحاول طرد هذا الشعور الذي تخجل منه نفسها , كيف يمكن لفتاة مثلها أن تستجيب لقبلة رجل وقح... بينما حبها لتوم نيكول لم يثر في نفسها يوما أي أنفعال كهذا , علاقتها به علاقة روحانية بحتة نقيض ما شعرت به أتجاه راندال.
تجاوب جسمها مع رجل غير توم مصيبة , لكن تجاوبه مع رجل أعتبرته مقيتا مصيبة أعظم وجريمة لا تغتتفر .
لم ينتزعها من تأملاتها الا صوت الحليب يغلي , ملأت كوبا وصعدت الى غرفة أمها لتجدها غرقت في سبات عميق... نظرت أليها بحنان , هذه المرأة الرقيقة تشكل هاجسا دائما في حياتها , فهي تخشى موتها في كل يوم لا بل في كل ساعة ودقيقة في عمرها , العزاء الوحيد هو وجود توم المطمئن الى جانب العائلة.
وبينما هي تستعد للتوجه الى غرفتها أذ بوالدها يطل من الباب.
" مساء الخير يا حبيبتي".
" أبي كيف تخرج وتترك أمي وحدها؟".
" كنت أنوي الخروج عشر دقائق فقط, لكنني ألتقيت أحد الأصدقاء ومر الوقت دون أن أشعر".
فجأة أنقلب مزاج السيد هالام المرح الى كآبة وقال:
"أنا أتعب وأشقى لأؤمن لوالدتك جميع أحتياجاتها كما تعلمين , العمل في شركة مارسييه ليس بالأمر السهل, أحتاج للراحة ظلأنني انسان لا آلة تعمل لأنتاج المال كما يعتبرني الحقير مرسييه , هذا الشاب سيودي بالشركة التي بناها أبوه الى الخراب الوشيك".
" نحن نقدّر جهودك يا أبي ونعلم أن عملك في الشركة مرهق ومضن, لكنك تعلم مدى قلقي على أمي".
في أي حال, لم تكن الشركة بخيلة مع محاسبها السيد هالام, فالأجر الذي يتقاضاه محترم بحيث مكنه من شراء منزل فخم وتأمين كل ما يلزم للزوجة المريضة من علاجات خاصة وأدوية مختلفة , عشرون سنة مضت على عمله في اشركة , عاصرها منذ أن كانت مشروعا صغيرا بدأه أيف مارسييه المهاجر من فرنسا الى أن أصبحت أمبراطورية حقيقية , منذ سنوات تقاعد مرسييه الأب ليدير الدفة مرسييه الأبن . شاب حيوي وذكي , في العقد الثالث من عمره.
بدأ السيد هالام بالتذمر من عمله عندما استلم الأبن أعمال أبيه, ربما كان سبب ذلك كره هالام للتغيير الذي أحدثه الشاب الديناميكي في هيكلية الشركة ونظام عملها.
" المهم أن تكون أمك بخير".
" هي بخير يا أبي, لقد صعدت لتوها للنوم".
" لن تدركي يا لورا مدى قوة الصدمة التي سببها مرض أمك لي".
" على العكس , أنا أقدر ظروفك وأعلم تماما صدق حبك لها".
كان زواج هالام ناجحا على الرغم من أختلاف طباعه عن طباع زوجته , هو يحب الحياة , يضج بالنشاط , هي هادئة , رقيقة ناعمة تفضل هدوء البيت على أي شيء آخر , ربما كانت صفات أحدهما تكمل شخصية الآخر وتسد الفراغ في نفسه , مما لم يضعف يوما جذوة الحب بينهما.
" هل تعتقدين يا لورا أن حالتها تسوء؟".
" أنا أراها مرتاحة جدا, ورأي الطبيب موافق لرأيي".
" حسنا , علينا أن نأوي الى الفراش الآن , تصبحين على خير".
" تصبح على خير يا والدي".
نظرت اليه يصعد الى السلم وهي تتساءل عن سبب شروده في المدة الأخيرة , لاحظت عليه قلقه وأضطرابه ,وكأن شيئا ما يجعله حذرا مترقبا... لربما كان مرض والدتها سبب ذلك, لا فائدة من التحدث اليه في هذا الموضوع فهو رجل كتوم يحتفظ بمشاكله لنفسه.
دخلت لورا الى غرفتها , جلست على طرف السرير تحتسي بعض القهوة وهي تحاول عبثا طرد صورة راندال من عينيها , لم تنجح في النوم الا بعد أن قرأت رواية بوليسية أبعدتها عن التفكير به ... مؤقتا.

safsaf313 12-08-09 09:56 AM


2- لقاء في الحديقة

في اليوم التالي حضر توم لزيارة السيدة هالام , كان يقوم بذلك يوميا مع أنه ليس طبيبها الخاص بل تدفعه صداقة قديمة وقوية تربط بين العائلتين , أنه شاب وسيم في الثلاثين من عمره , أشقر الشعر , أزرق العينين , أختار الطب كأبيه لكنه لم يصبح جاحا مثله مفضلا العمل في الحي الشرقي للمدينة خدمة للفقراء مؤمنا بالطب رسالة نبيلة , لم يكن يبحث عن الكسب المادي كغيره من الأطباء , لأنه يعتبر أن في الحياة أشياء وأهدافا أخرى غير الثراء والمادة , كانت لورا تعتبر توم الرجل المثالي الكامل , أحبته منذ الصغر ولم تجرؤ يوما على مصارحته بالحقيقة.منتديات ليلاس
بعد أن أنهى معاينة السيدة هالام نزل توم الى غرفة الجلوس ليشرب القهوة التي أعدتها لورا , أستقبلته الفتاة بشيء من الأضطراب خوفا من أن يكون غاضبا لمرافقتها بات من دون موافقته.
" لماذا فعلت ذلك يا لورا؟".
نظرت اليه بحيرة ,لم يبد غاضبا وأن تكن علامات عدم الرضى واضحة على وجهه الهادىء الباعث على الأطمئنان , هذا الوجه جعل منه الطبيب الأكثر شعبية في شرقي لندن , يتفهم مشاكل الفقراء , يشجعهم , يعطيهم أملا جديدا ونورا في ظلم حياتهم التعيسة , كان بلسم جراحهم , قبسا في نفق عيشتهم المظلمة , أجابت لورا بعد تردد وبصوت منخفض:
" أردت التعرف على أمكنة عملك".
" عديني بأنك لن تعيدي الكرة".
" أغاضب أنت مني؟".
" غاضب؟ وهل من المعقول أن أغضب منك يا ملاكي البريء؟".
لامست يده خدها الناعم الناضج ببراءة الطفولة , فتنفست لورا الصعداء لعلمها أن حبيبها غير غاضب.
" يا لك من طفلة رائعة يا عزيزتي!".
" ما تزال تعتبرني طفلة يا توم وأنا صبية راشدة ناضجة...".
" صبية راشدة وناضجة! وأنا كنت أفكر بأهدائك لعبة في ذكرى ميلادك!".
لم تكن لورا تدري حقيقة شعور توم نحوها , من جهة كانت تحس بأنه يحبها حبا جارفا, ومن جهة أخرى كان يعاملها كأخ لا كحبيب , هذا التجاذب كان يعذبها ويفقدها التوازن العاطفي الذي تحتاجه فتاة في سنها .
حدّق توم فيها طويلا وقال:
" كنت أمزح فحسب يا عزيزتي , أنت بنظري فتاة واعية ولا بد أن تجدي يوما شابا يبادلك الحب الصادق".
" لا أريد أن يقع في حبي شاب سخيف, أريد رجلا حقيقيا ناضجا يفهمني".
أحست لورا بالحب يغلّف نظرات توم وهي تداعب عينيها وقلبها , لماذا لا يصرح لها بذلك؟ لماذا يريد أقناعها بأنه ما يزال يراها طفلة ؟ هل هي مخطئة في تقدير مشاعره ؟ أسئلة تعذبها وتقض مضجعها ليل ونهار بدون أن تجد لها جوابا شافيا...
" الوقت أمامك لتجدي ضالتك المنشودة , فلا سبب للعجلة خاصة أنني سأشعر بالحزن لفقدانك...".
قاطعته بلهجة حازمة:
" لن تفقدني أبدا".
وضع توم يده في يدها وقال:
" أخبرتني بات بما حدث مع هؤلاء الشبان البارحة , هل أخافتك الحادثة؟".
" كنت حانقة لا خائفة, من المؤسف أن نجد في مجتمعنا شبانا بهذا القدر من قلة التهذيب ".
فور ذكر الحادثة غمرها شعور بالخزي والخجل, وشعرت بأنها خانت حبها عندما حملتها قبلة راندال الى عالم من الأحلام الساحرة.
أدرك توم أن الحديث يحرجها فشدّ يده على يدها أكثر.
" هدفي من عدم السماح لك بمرافقة بات هو تجنبك حوادث من هذا النوع لأن مناطق عملنا لا تليق في الحقيقة بك".
" لا تقلق بشأني يا توم فأنا قوية الشخصية لا أميل مع أول نسمة هواء".
أرتسمت على وجه الشاب أبتسامة رضى.
" أنا متأكد من أن شخصيتك صلبة كالصخر يا لورا , لا تزحزحها الرياح العاتية , أنت فتاة من نوع خاص ولا أتحمل أطلاقا تعرّضك لأي مكروه , رقتك اللامتناهية تجعلك مختلفة تماما عن سواك, وتجعلك بعيدة عن المحيط الذي أخترته لنفسي , هو عالم قاس لدرجة أنني أمنعك من الأقتراب منه بعد الآن...".
" ولكن يا توم...".
أسكتها بأشارة من يده وأكمل:
" أريد منك وعدا قاطعا بألا تذهبي الى تلك المنطقة بعد الآن".
" أعدك".
قطع الحوار رنين جرس الباب , وذهبت لورا لترى من القادم في حين صعد توم الى غرفة السيدة هالام ليودعها ويوجه اليها بعضا من نصائحه.
فتحت لورا الباب لتجد أمامها بات , لم تكن تدري سبب الشعور بعدم الأرتياح الذي ينتابها كلما ترى هذه الفتاة.
" أهلا يا بت تفضلي".
" جئت لآخذ توم لأن سيارته معطلة, هلا ناديته فنحن على عجلة من أمرنا , لدينا موعد مهم وقد تأخرنا".
في هذه اللحظة أطلّ توم على الدرج الداخلي للمنزل قائلا:
" بات, تأخرت بعض الشيء".
" لست الملامة لأن الأزدحام كان اليوم رهيبا".
" لا بأس , لنذهب فورا لعلنا نصل في الموعد المحدد".
أسبقني الى السيارة يا توم ريثما أجري مكالمة هاتفية ملحة , هل من مانع يا لورا؟".
" بالطبع لا , أعتبري نفسك في منزلك".
رافقت لورا توم الى السيارة وتركت بات في البيت.
" أهتمي جيدا بوالدتك".
" أهتم أنت بنفسك يا توم , فقلقي عليك يكاد يعادل قلقي على أمي".
" أشعر وكأنني طفل يتلقى النصائح من والدته".
" لا تنس يا توم أن حفل عيد ميلادي أصبح قريبا".
كان هذا الحفل من الفرص النادرة التي تستطيع لورا فيها التمتع برفقة توم.
" ما نوع الهدية التي تفضلين؟".
" أي شيء منك يا عزيزي يعجبني , أختر ما تشاء فأكون ****ة".
" أنت سهلة الأرضاء وقنوعة ".
" هذا ليس رأي بات , أليس كذلك؟".
لم يعلّق توم على ملاحظة لورا مما جعلها تدرك أنها على حق فيما قالت , فنظرة الفتاة اليها عدائية من دون سبب ظاهر.
خرجت بات مسرعة وفي عينيها بريق هازىء , أدارت المحرك وأقلعت بسرعة دون أن تلتفت الى لورا أو تشكرها على المكالمة..
دخلت لورا الى البيت وبدأت تحضير طعام الغداء.
أرتدت السيدة هالام ثيابها ونزلت الى غرفة الجلوس لتمضي خارج السرير الساعات الست التي يسمح بها الطبيب يوميا.
أشتمل الغداء على السمك المشوي وسلطة الخضار وبعض الفواكه.
بعد الغداء حاولت السيدة هالام مساعدة أبنتها في غسل الصحون لكن هذه الأخيرة رفضت ذلك بشكل قاطع تنفيذا لأوامر الطبيب الصريحة, كانت لورا تفعل ذلك مرغمة لأنها تدرك مدى أنزعاج أمها من قلة الحركة.
" أنت ووالدك تعاملانني كطفلة مدللة وهذا ما يضايقني كثيرا".
" أنما نفعل ذلك خوفا على صحتك يا أماه! من واجبنا الحفاظ على كنز ثمين لسنا مستعدين للتفريط به".
" يخيّل أليّ أنني سمعت صوت بات باسيت قبل ذهاب توم".
" أتت لتقله بسيارتها".
" فتاة فظة , لا تخشى أبدا أبداء رأيها بصراحة مهما كان جارحا".
" ولكنها مخلصة في عملها وتوم يقدّر لها ذلك يا أمي".
" أنها لا تفعل سوى ما يمليه عليها الواجب – وأضافت السيدة هالام بثقة- ل تعلمين أنها مغرمة بتوم؟".
تجمّد الدم في عروق لورا وقالت بعد جهد:
" ما الذي يجعلك تعتقدين ذلك؟".
" يا لك من فتاة ساذجة ! ألم تلاحظي ذلك من نظراتها؟ ألم تتساءلي لماذا هي لا تحبك؟".
بدا ذهول كبير على وجه لورا وهي تفكر في الأمر , هذا صحيح, بات تحب توم , والا لماذا كانت تحاول تفشيل علاقة لورا به, لكن توم لا يبادلها شعورها , بل يعتبرها صديقة فحسب, لورا تعرف ذلك من طريقة كلامه وتصرفاته ... توم يحبها هي , ولا يحب بات , الأمر واضح لا شك فيه.
وصلت السيدة نايت , التي تعتني بالسيدة هالام يوميا بعد الظهر , فاستغلت لورا هذه الفرصة لتخج للتنزه في الحديقة العامة المجاورة , أرتدت ثوبا أبيض خفيفا يناسب الطقس الحار المشمس , وهو أمر ليس مألوفا في أنكلترا المغرمة بطقسها البارد على مدار السنة .
فيما كانت لورا على أهبة الأأستعداد للخروج سمعت طرقا خفيف على الباب , كان الطارق صبيا في العاشرة يحمل بيده علبة رمادية :
" نعم, ماذا تريد؟".
" الآنسة لورا هالام؟".
" تماما".
" كلّفني شخص بأن أسلمك هذا".
ناولها العلبة وتوارى قبل أن تستطيع طرح أي سؤال.
خرجت لورا لترى اذا كان مرسل العلبة ما زال هنا.
كان الشارع خاليا , ربما كانت هذه هدية توم , لكن ذكرى ميلادها تصادف بعد أسبوعين , فالوقت ما زال مبكرا على أرسال الهدايا , فتحت العلبة ودهشت لرؤية محتوياتها, كان فيها أثنا عشر زوجا من القفازات الحريرية , المختلفة الألوان والمرتفعة الثمن.
أكتشفت مرسل العلبة , هو الوقح راندال يحاول الأعتذار عما فعله أمس , كيف يجرؤ على فعل ذلك؟ أيعتقد أن أرسال هدية ثمينة يكفي لمحو آثار تلك الحادثة المهينة؟ لا شيء في العالم يمكن أن يخفف من كره لورا لهذا الشخص , أنه كره شديد لدرجة يجعلها تتقزز لمجرد التفكير به

للحظة راودتها فكرة رمي هذه القفازات , لكنها عدلت عن ذلك بعدما تفحصتها جيدا , أنها لم ترتد مثلها في حياتها , وقررت أن تحتفظ بها لأن أتلافها لن يفيدها بشيء, أختارت من العلبة زوجا يناسب ثوبها وخرجت.
وصلت الى الحديقة وأخذت تتنشق الهواء المنعش بنهم, جلست تتأمل أشعة الشمس تنعكس على صفحة مياه البحيرة الصغيرة وتتناثر تيجانا صغيرة فوق رؤوس طيور البط المتنافسة على قطع الخبز التي يرميها الأولاد لها.
وفيما هي غارقة في أحلامها سمعت ضحكة خفيفة وراءها ,
ألتفتت لتجد الشخص الذي تمنت ألا تراه أبدا... راندال.
" أراك ترتدين قفازين جميلين , ذوقك جميل فأنا أعجبت بالزوج نفسه".
أمتقع وجه لورا ولم تدر ما عليها فعله , خلعت القفازين ورمتهما بغضب في البحيرة.
أنفجر راندال ضاحكا لحركتها الصبيانية الأنفعالية :
" الغضب يزيدك جمالا وبراءة".
أدارت لورا ظهرها ومشت مسرعة نحو المخرج وهي تتساءل كيف حصل على أسمها وعنوانها , لحق بها فتوقفت ورمقته بنظرة حادة مليئة بالحقد, كرهت هذا الوجه الهازىء , هذا الجسم الرشيق ذا العضلات البارزة ... لا شك أن الكثيرات يعتبرنه وسيما, لكنها لم ترتح لهذه الوسامة أبدا , نظراته المتغطرسة والمتهكمة جعلتها ترغب في الفرار, لماذا يطاردها وهي طفلة بالنسبة اليه؟ ماذا تهمه فتاة بسيطة مثلها وهو يستطيع بالطبع الحصول على أجمل النساء؟
" أعليّ أن أنادي حارس الحديقة لتكف عن ملاحقتي؟".
" أرجو ألا يكون وجودي يزعجك؟".
" كيف حصلت على أسمي وعنواني؟".
" الأمر سهل للغاية , صديقتك صرحت أنها موظفة في الخدمات الأجتتماعية , وصلت أليها و منها أليك ".
" تعني أنك لحقت بها الى منزلي؟".
" كلا, ذهبت الى شقتها وطلبت منها العنوان , رفضت أعطائي أياه, لكنها عادت وأتصلت بي في مكتبي بعدما غيّرت رأيها لسبب أجهله , في أي حال لا يهمني السبب ما دمت قد وصلت الى النتيجة".
تذكرت لورا عندئذ المكالمة الهاتفية التي أجرتها بات في منزلها , لكنها لم تجد سببا يدفع بات لأعطاء راندال العنوان.
" أرجو الآن أن تدعني أعود الى البيت وحدي".
لم يذعن لطلبها بل ظلّ يلحقها حتى أرغمها على التوقف والتحدث اليه من جديد.
" ماذا تريد مني؟ لا تجبرني على أن أكون فظة وقاسية , دعني وشأني بهدوء".
" ألا تريدين سما أعتذاري عما حدث البارحة؟".
نظرت في عينيه فأذا بدقات قلبها تسرع , مرة أخرى أجتاحتها تلك الأحاسيس الغريبة الغامضة التي غمرتها في الليلة السابقة , فابتسم راندال قائلا:
" عليك أن تتسامحي فيما بدر منا في الأمس, وخصوصا من أبن شقيقتي رودي , فقد كنا مأخوذين بنشوة الحفلة الصاخبة التي أقامتها رابطة الطلاب في الجامعة".
" وأنت كنت طبعا الوحيد المحافظ على توازنه بينهم والمخول قيادة السيارة".
" لا تهزأي مني أرجوك, أجبرت على مرافقتهم لئلا يصيب رودي أيّ أذى وأتحمل كل الملامة_ وأضاف_ لا بد أنك حانقة عليّ لأنني طبعت تلك القبلة على خدك".
كادت لورا تصرخ في وجهه لكنها ضبطت نفسها وأحتفظت بالكلمات في نفسها : يا له من رجل وقح يثير في نفسي الأشمئزاز ! لماذا ينظر اليّ هكذا ؟ أحس وكأنني أسيرة عينيه كأنني طريدة تحاول الأفلات عبثا من مصيدته , لماذا تخذلني قوة الأرادة عندما أواجهه ؟ بعد جهد جهيد تمكنت من القول بنبرة شبه هادئة:
" أظنك كنت تنوي الأعتذار . لكنني لم أسمع شيئا شبيها بالأعتذار ".
" الحق يقال أنني لا أشعر بأسف لتلك القبلة , بل على العكس أنا أتحرق لأعيد الكرة".
ثارت ثائرة الفتاة وأنفجرت:
" لن تتاح لك هذه الفرصة في حياتك".
قالت ذلك وهرولت مبتعدة , لكن راندال أبى الا أن يوقفها من جديد, غريب أمر هذا الرجل المصر الذي لا يخسر المعارك بسهولة.
" كم عمرك؟ بحق السماء أجيبي فأنا أعترف بفشلي في تقديره".
" أجابت لورة مسرورة لفشله:
" سأبلغ العشرين قريبا".
" لا أصدق ذلك, لا تبدين فوق السابعة عشرة".
وقبل أن تحاول الأجابة ضمها بقوة الى صدره وطبع قبلة ناعمة على خدها .
" أنت رائعة الجمال , بشرتك كالحرير , شعرك نسيج من ذهب وفضة , في عينيك ألوان الربيع".
كادت لورا تصاب بالأغماء , لا بد أن هذا الرجل يملك سحرا خاصا يجعلها تذوب بين يديه ويمنعها من صده , فلم تتمكن الا من تمتمة:
" أكرهك ".
حدق فيها وفي عينيه بريق الأنتصار وعلى شفتيه تلك الأبتسامة الهازئة أبدا , ثم عاتبها قائلا:
" لا يصحّ أن تقولي هذا الكلام لمعجب مسكين بجمالك الطاغي".
" لا أريد أعجابك أيها ال...".
" بالطبع لا تريدين وهذا ما يجعلني متشوقا أكثر في ملاحقتك , فأنا لا أحب الفتاة السهلة التي تستسلم للغزل بسهولة".
" لماذا لا تدعني أذهب بسلام فأنت تضيّع وقتك معي!".
" عنادك يدل على أن هناك رجلا آخر في حياتك , هذه المرة الآولى التي أواجه فيها صيدا بهذا العنف".
" ومن أنت حتى أطلعك على أسرار حياتي".
" فهمت, بالطبع هناك رجل آخر, مع ذلك ما رأيك بتناول العشاء معي الليلة ؟ أعرف مطعما هادئا يعجبك".
" هذا أمر مستحيل , أنا لا أخرج مع أشخاص لا أحترمهم ".
" أذن أتفقنا على الغداء".
" لا تعذّب نفسك أيها السيد ولا تركض وراء الأوهام".
" ألا تقدمين لي على الأقل أعذارا مقبولة؟".
" أجابت بلهجة قاسية:
" عذري هو أنني لا أحب مرافقتك أو التحدث اليك".
ضحك طويلا وقال:
" حسنا, سأجد وسيلة أخرى للتقرّب منك".
شعرت بالخوف يسري في عروقها بسبب أصراره على مطاردتها.
" ماذا تريد مني؟".
" لا تتغابي , أنت ذكية وتعلمين ماذا أرد".
هو على حق فلورا تعلم ماذا يريد, لكنها لا تعلم أنه قادر على طرق الموضوع بهذه الوقاحة , ألا يملك هذاالرجل شيئا من الأحترام لمشاعر فتاة بريئة.
كان مستحيلا عليها تقبّل مثل هذا الكلام الجارح في صراحته.
فصرخت في وجهه :
" لا بد أنك مجنون! لا أحد يتفوه بهذه الكلمات الا أذا كان معتوها!".
" وأنت سبب جنوني, يجب أن تعلمي جيدا أنني لم أفشل يوما في الحصول على مبتغاي".
" هذه المرة شتفشل!".
" حسنا يا آنسة لورا هالام , قبلت التحدي والآتي أعظم".

safsaf313 12-08-09 09:57 AM


3-الصدمة القاتلة

في اليوم التالي , عندما جاءت بات لتأخذ توم, بادرتها لورا بالسؤال الذي لم يبرح ذهنها منذ البارحة:
"لماذا أعطيته عنواني؟".
" قال أنه يريد الأعتذار فلم أجد ضيرا في ذلك".
" وهل أنت ساذجة الى هذه الدرجة؟".
في هذه اللحظة نزل توم فغيرت لورا الموضوع , ثم أخذت تنظر الى بات وهي تتحدث الى الطبيب الشاب , لا شك أن ما قالته والدتها صحيح, بات مغرمة بتوم حتى أذنيها , وهو لا يبادلها هذا الشعور على ما يبدو , لكن توم ليس أنفعاليا ولا يظهر مشاعره اتجاه أحد, فهل من المعقول أن يكون مغرما ببات دون أن يظهر ذلك ؟ أذا صح تساؤلها تكون آمالها قد ذهبت أدراج الرياح , العلاقة بين لولاا وتوم غامضة تتأرجح بين الحب والصداقة والأخوة , حبذا لو كان بأمكانها الغوص في نفسه لتعرف الحقيقة.
تلاقت نظراتهما فأضاءت وجهه تلك الأبتسامة الرقيقة التي يحتفظ بها لها وحدها , أطمأن قلبها وغشا كيانها أحساس عارم بالسعادة والأمان.
" لماذا تبدين هكذا يا عزيزتي لورا؟ لا أحب العبوس على وجهك لأنه يفسد نعومة بشرتك الرائعة".
" كيف وجدت أمي اليوم؟".
" أمك أنسانة رقيقة وحساسة , تحتاج الى عناية دائمة".
" أنا أقوم بهذه المهمة وأعتبر أنني أؤدي واجبي أتجاهها ".
" تقومين بالمهمة خير قيام, أنا لا أنتقدك بل ألفت نظرك الى أننا يجب أن نظل متيقظين لئلا يصيبها أي مكروه".
" أنت على حق يا توم, فاليوم مثلا تسللت من غرفتها , وأخذت تعتني بالزهور , لحسن الحظ أكتشفت ذلك بسرعة, وأعدتها الى سريرها".
" حذرتها مرارا من قبل من أن قلبها لا يتحمل أي أجهاد, الخيط الرفيع الذي يربطها بالحياة سينقطع عند أول هزة, حالتها هي مع الأسف من أصعب الحالات التي واجهها الطب".
تجهم وجه لورا من القلق فحاول توم طمأنتها:
" لا تقلقي سنبقيها على قيد الحياة رغم أنفها".
بعد ذهاب توم وبات صعدت لورا الى غرفة أمها لتجدها تأكل قطعة من الحلوى مخالفة الحمية المفروضة عليها.
" أمي, ماذا تفعلين؟".
" قطعة واحدة لن تؤذيني , توم سمح لي بذلك لا بل هو أحضر علبة الحلوى".
ضحكت لورا وقالت:
" يا لك من أمرأة مشاغبة ! أكنت تفعلين ذلك أيام المدرسة؟".
" لا , كنت دائما التلميذة المثالية مثلك يا حبيبتي".
في المساء وصل السيد هالام الى البيت فرحا منشرح الصدر وكأنه فاز بجائزة اليانصيب التي طالما حلم بها .
" زوجتي العزيزة , تلقينا دعوة مهمة!".
" دعوة الى ماذا ؟ ليس من عادتنا تلقي الدعوات".
" الى حفل يقيمه السيد مرسييه مساء غد في منزله على شرف الموظفين الكبار".
" أعتبروك أذن من الموظفين الكبار".
" بالطبع والدعوة موجهة الى العائلة كلها".
قالت الزوجة بكآبة:
" حالتي الصحية ستمنعني مع الأسف من الذهاب الى منزل آل مارسييه".
" ولم لا؟ أستشيري توم فلربما سمح لك , وأردف موجها كلامه الى أبنته , لورا, عليك شراء ثوب جديد للمناسبة , مرسييه يملك قصرا أسطوريا لطالما تمنيت أن أراه , لم أكن أتوقع تلقي مثل هذه الدعوة في حياتي! لا تتصورا مدى سعادتي وغروري".
أبتسمت السيدة هالام وعلا وجهها مسحة من الحزن :
" أذا لم أتمكن من مرافقتكما فستأتي السيدة نايت للأعتناء بي , ثم أنا لا أهتم كثيرا لهذه الحفلات".
" ستأتين يا زوجتي الحبيبة وسترتدين ثوبا جديدا كذلك".
" لا حاجة لشراء ثوب فأنا أملك فستانا أخضر أرتديته في الحفل الراقص الذي حضرناه منذ بضع سنوات , أتذكر؟".
" حتما أذكر , هو ثوب جميل يناسبك تماما يا عزيزتي".
لم يسمح توم للسيدة هالام بالذهاب الى الحفل بعد أستشارته هاتفيا, وعلل رأيه بأن الجو الصاخب لا يناسب قلبها الضعيف , حتى الأجواء المرحة كثيرا لا يمكنها تحملها.
أعتادت والدة لورا على خيبات الأمل وعلى العزلة , في أي حال هي لم تكن تميل الى الأختلاط بالناس كزوجها , ستبقى في غرفتها برفقة أدوات الحياكة والذكريات.
ذهبت لورا في اليوم التالي لشراء ثوب جديد, أختارت فستانا أخضر , ضيقا عند الخصر يبرز مفاتنها ويزيدها نعومة .
وصلت السيدة نايت في الوقت المحدد , قبّل جيمس هالام زوجته وفي قلبه غصة لأنها لن تتمكن من حضور الحفل الرائع .
نظرت السيدة هالام الى أبنتها وقالت:
" تبدين ساحرة يا حبيبتي, لا عجب أذا تدفق العرسان علينا بعد هذا الحفل".
" شكرا على المديح يا أماه".
أتجه جيمس هالام وأبنته بالسيارة الى منطقة مايفير حيث منازل الأثرياء الكبار , بعد قليل وصلا الى قصر آل مارسييه , بدا البناء مختلفا عن المنازل الأخرى بأسلوب تشييده الفرنسي , نظرت لورا الى البناء الفخم المشيد بأجود أنواع الحجارة والمحاط بالحدائق الواسعة , لكنها لم تكن تحسد هؤلاء الأثرياء لأنها لا تؤمن بالمادة مصدرا للسعادة.
قرعا الجرس وأنتظرا , فتح الباب رئيس الخدم بوجه جاد وهدوء أرستقراطي.
" نعم؟".
ناوله جيمس هالام بأعتزاز بطاقة الدعوة فعاينها وسمح لهما بالدخول, سارا في رواق طويل وفخم , أخذ رئيس الخدم معطفيهما وقادهما الى غرفة كبيرة مفروشة بأغلى أنواع الأثاث ومليئة بالتحف النادرة , كانت الغرفة مليئة بالمدعوين يتناولون الشراب والمأكولات المختلفة ويتبادلون الأحاديث عن الأوضاع السياسية والأقتصادية ... أخذ بعضهم يحدق بجيمس هالام بتعجب, فوجوده بين كبار الموظفين لم يكن مألوفا , أنه موظف عادي لا علاقة له بمجلس الأدارة أو بالمراكز التقريرية , شعرت لورا بعدم الأرتياح لوجودها بين كل هؤلاء الناس المنتمين الى مجتمع مخملي لا تؤمن بمبادئه , أخذت تنظر حولها وهي تحاول التعرف الى مضيفها السيد مارسييه , كانت تنتظر رؤية رجل رزين , تليق به مهمة قيادة أمبراطورية ضخمة .
فجأة لمحت وجها مألوفا , فكادت تصرخ لشدة دهشتها , تقدم الشخص منها مبتسما , بدأت لورا بالأرتجاف , يا لها من صدفة مذهلة! هل من الممكن أن يكون زميل والدها في العمل؟ أذا صح ذلك يصبح تهربها من مطارته أمرا صعبا .
قال جيمس هالام بشيء من الأرتباك:
" مساء الخير يا سيد مارسييه , أشكرك على هذه الدعوة اللطيفة".
لم تصدق لورا أذنيها , السيد مرسييه هو نفسه الرجل الذي قبّلها تلك الليلة عندما كانت برفقة بات والذي لاحقها في الحديقة محاولا كسب ودها.
" لورا , أعرفك بالسيد مرسييه مالك الشركة ومديرها العام".
أمسك راندال بيدها وطبع عليها قبلة ناعمة ثم قال:
"أبنتك فاتنة يا سيد هالام ووجودها يضيء السهرة ".
سحبت لورا يدها بسرعة والذهول يسيطر عليها , راندال رئيس أبيها! هذه الحقيقة ستقلب جميع المقاييس وستضعها في موقف حرج للغاية , تخلص راندال من وجود هالام بذكاء:
" والدي متشوق لمقابلتك, فهو لم يرك منذ مدة طويلة , لماذا لا تذهب اليه بينما أحضر شرابا للآنسة لورا ... أرجو أن تسري بصحبتي مع أنني غير محبوب كثيرا".
أرادت لورا الأعتراض على أبتعاد أبيها, لكن صوتها كان مخنوقا فلم تنبس ببنت شفة.
بعدما أصبحا وحيدين قال راندال وفي صوته رنة الأنتصار:
" قلت لك أنني أحصل دائما على ما أريد فلم تصدقي".
" لماذا لم تقل لي أنك رئيس والدي ؟ كنت تعلم ذلك عندما ألتقينا في الحديقة , لا بد أن بات أخبرتك بالأمر".
" لو صرحت لك بالحقيقة لما كنت حضرت الليلة , أليس كذلك؟ على الرجل المعجب بفتاة أستعمال أساليب المناورة والخداع للوصول الى الهدف".
ضحك راندال وهو يقرأ على وجهها الأنفعالات البادية بوضوح:
" وجهك معبر جدا يا حلوتي... بأمكاني معرفة ما تفكرين به بسهولة فائقة – وأضاف وهو يشير الى المائدة العامرة بمختلف أنواع المآكل – ماذا أحضر لك؟".
" لا شيء".
لم يصر راندال بل أمسك بيدها وقادها الى خارج الغرفة تحت أنظار الفضوليين , سمعت لورا بعض التعليقات عن جمالها ولكن جملة واحدة علقت في ذهنها: يبدو أن راندال ضم فراشة جديدة الى مجموعته! هو معروف اذا بمغامراته العاطفية الكثيرة وهي معتبرة الآن محطة جديدة في ألاعيبه , عندما وصلا الى الرواق تمكنت لورا من تحرير يدها وقالت:
" لماذا أحضرتني الى هنا؟ أريد العودة فورا !".
" في رأسي تجول ألف فكرة وفكرة....".
" أيها الوقح الدنيء , كيف تسمح لنفسك بتوجيه هذا الكلام لي؟".
" لا تخافي! أنما أريد أن أعرفك بأمي التي حدثتها عنك كثيرا".
" ولماذا حدثت والدتك عني؟".
" لأنها مثلي تحب جمع التحف النادرة ".
" وأين هي والدتك؟ لماذا ليست مع المدعوين؟".
" يا لك من فتاة لجوجة! لن يصيبك مكروه معي , أمي مصابة بشلل ولذلك آخذك الى غرفتها".
أمسك بيدها وجرها الى السلم الداخلي بدون أن يتيح لها المجال للتراجع , فتح باب غرفة نوم وأدخلها, كانت السيدة مرسييه ممددة في سيرير واسع , أمرأة جميلة , ذات نظرة ثاقبة , أقسى من نظرات أبنها راندال , قالت المرأة بصوت دافىء:
" أقتربي مني يا عزيزتي لأرى سبب شغف أبني بالحديث عنك".
أطاعت لورا الأمر وأقتربت من السرير , تفحصت وجه المرأة الممددة جيدا فرأت علامات قساوة الحياة على الوجه المحتفظ بشيء من جاذبيته وسحره.
" أبني يحسن الأختيار دائما , صبية ساحرة يا راندال , كم عمرك يا عزيزتي؟".
" عشرون عامل".
أبتسمت السيدة مارسييه لخجل لورا وأرتباكها.
" والدك يعمل في شركتنا أليس كذلك؟".
" نعم".
" ووالدتك أليست معكما هنا؟".
" أمي مصابة بمرض في قلبها ولا تغادر البيت الا لماما".
" أنا أدرك معنى ذلك لأنني سجينة هذا السرير منذ خمس سنوات فقد تعرضت لحادث سيارة سبّب لي شللا وحوّلني من أمرأة ديناميكية نشيطة, الى مخلوق يعيش على الهامش".
تدخّل راندال مشجعا:
" أنت لا تعيشين على الهامش يا أمي بل تسيّرين أمور العائلة من سريرك".
" ولكنني لم أتمكن يوما من تسييرك والسيطرة عليك يا راندال- وأضافت السيدة مرسييه- أرجو ألا تكون أكاذيبك تنطلي على هذه الطفلة البريئة".
" لا ضرورة لتحذيرها مني يا أمي , فهي لا تصدق كلمة واحدة مما أقول , شجعيها على التقرب مني ولا تزيدي من نفورها".
وجّهت والدة راندال الحديث الى لورا:
" لا تكوني مثل الأخريات مستسلمة لهذا الرجل, فهذا الأمر قد أفسد أخلاقه وجعله مغرورا متغطرسا".
" تنضمين الى الدو يا أمي! لورا تعتبرني مغرورا متغطرسا وهي ليست بحاجة ألى تشجيع".
" يبدو أن هذه الفتاة يا راندال قوية الشخصية فأنت تحتاج لمن يذكّرك بأنك لست خارقا , النساء الضعيفات أفسدنك بركضهن وراء مالك, أفهميه يا لورا أن الدنيا ليست مالا وجاها".
قال راندال ضاحكا:
" من الأفضل أن أبعد لورا عنك لئلا تشوشي أفكارها أكثر".
" كل ما فعلت هو أنني أبديت رأيي بصراحة".
" رأيك هذا زوّدها بأسلحة جديدة في معركتها معي, وهي تملك أسلحة قاتلة كنظراتها مثلا..".
نظرت السيدة مرسييه الى لورا التي تستمع الى الحديث بشيء من الذهول والدهشة , فقالت المرأة:
" لقد أخفنا لورا بكلامنا , عد بها الى الحفل لتتمتع بوجودها في هذا البيت بدل أن تمضي وقتها مع عجوز مثلي".
تمكنت الفتاة من القول بكل تهذيب:
" على العكس أنا أعتبر وجودي معك مكسبا, الى اللقاء يا سيدتي".
بعد أن خرجا من الغرفة شعرت لورا بالأرتياح لأنها تخلصت من حديث راندال وأمه وملاحظاتهما الجارحة.
" ما رأيك بأمي؟ لا تخفيه , قولي بصراحة".
" سيدة لطيفة وذكية".
" ماكرة ومراوغة كالثعلب , لكنك طفلة فلن تكتشفي ذلك".
" لا تنعتني بهذه الصفة بعد الآن".
" حسنا يا حلوتي, لا تغضبي, أنت أمرأة ناضجة وواعية".
نزلا السلم لكنه أتجه بها الى غرفة منعزلة وأقفل الباب , تراجعت لورا خائفة وقلبها يقرع كالطل , رأت في عينيه نواي مرعبة.
" لا تهدري الوقت, تعالي أليّ فلا فائدة من المقاومة".
" لن أدعك تمسني, أفضل الموت على ذلك".
" أتريدين أن أستعمل معك العنف؟ هيّا أقتربي بدون مجادلة".
نظرت حولها دون أن ترى مجالا للفرار , الباب الوحيد مقفل وراندال يحرسه , تقدم منها بخطوات سريعة وعندما أمتدت يداه الى كتفيها سرت في جسمها رعشة ورمقته بنظرة أسترحام.
" أرجوك , كلا...".
" لست وحشا عنيفا فلا سبب لتصرفاتك هذه!".
" دعني أذهب, والدي سيقلق علي".
" أكون مجنونا أن فعلت , ثم أن والدك لن يمانع أذا أقمت علاقة مع رئيسه".
حاولت لورا الأفلات من قبضته دون جدوى فأغمضت عينيها وأستسلمت لعناقه , خانت نفسها مرة أخرى وسمحت له بأن يضمها الى صدره كما سمحت لجسمها بالأستجابة لعناقه.
قال راندال والهوى الجتمح يكاد يخنقه:
" أنت تسلبينني عقلي!".

فوجئت لورا بهذا الكلام, أيعني أنه وقع في حبائل حبها؟ أيمكن لهذا الرجل اللاهي المتنقل من علاقة الى علاقة أن يغرم بها؟ شعرت بشيء من الثقة بالنفس والسيطرة على الرجل . لورا هالام أبنة الموظف البسيط تسلب المليونير راندال مرسييه عقله ! أنه لأنتصار عظيم ! لكنها في الوقت نفسه لا تريد أستغلال هذا الأنتصار أو أستثماره لأنها ليست من هذا النوع من الفتيات الرخيصات.


" تبدين ****ة عن نفسك وكأنك تظنين أنني مغرم بك! أنا لا أقع في غرام أحد يا حلوتي, كل ما يهمني هو جمالك ونعومتك".


" لم أر في حياتي وقاحة تعادل وقاحتك!".


حاولت لورا الأفلات منه فلم يمنعها لكنه لم يسمح لها بمغادرة الغرفة فتوسلت اليه قائلة:


" أرجوك دعني أخرج".


" ليس الآن , فأنا لم أنجز ما في ذهني بعد".


عندها صرخت في وجهه غير آبهة بالعواقب:


" دعني أذهب وألا بدأت بالصراخ وسببت لك فضيحة أنت بغنى عنها , تصوّر أذا علم الجميع بأن راندال مرسييه يزعج فتاة مسكينة مثلي...".


" أهدأي فكل ما أريده منك هو دعوتك الى العشاء غدا , ما رأيك؟".


" سبق أن أجبتك على هذا السؤال, لا وألف لا".


" ألم تفهمي بعد أنني أنال دائما ما أريد وأنني لن أدع حاجزا يحول بيني وبينك ؟ أستسلمي لأن مقاوتك عديمة النفع".


" عليك أن تدرك هذا الأمر تماما يا سيد راندال, أنا لا أنوي أن أكون حبيبة أحد!".


أفتر ثغره عن أبتسامة هازئة وقال:


" ذلك يدعو الى الأسف لأن الدور يناسبك تماما".


" ماذا تعتقد أن يكون رد فعل والدي أن أخبرته بعروضك الحقيرة؟".


" ولكنك لن تخبريه بالأمر بالطبع لأنك فتاة ذكية تعرفين مصلحته".


رمقته بنظرة ملؤها الحقد والكراهية:


" بالطبع لا , لأنك ستطرده عندها من العمل , ورجل تجاوز الخمسين لن يجد وظيفة أخرى بسهولة, راندال مرسييه , أنك تمارس عليّ أحقر أنواع الأبتزاز . لكنني لن أرضخ!".


قهقه الرجل وعلّق:


" جمالك يزيد روعة عندما تغضبين , عيناك تلمعان كعينيّ هرة جميلة أشتراها لي والدي عندما كنت صغيرا".


" أرجو أن تكون خدشتك".


" أنا لا أتذمر من الخدوش اذا كان مصدرها مخلوقا فاتنا".


ألتقت عيناه عينيها, فأزاحت نظراتها لأنها خاسرة حتما قي هذه المبارزة , في عينيه شيء آسر يدمّر فيها أعلى مقاومة ويزيل أي رغبة في صده.


مد يده ولامس عنقها ثم ضمها اليه بقوة:


" سأدعك تفتلين بشرط أن تسمحي لي بطبع قبلة طويلة على خدك المخملي , أعتقد أن عرضي عادل فلن ترفضيه".


" أنسان لا يطاق!".


لم تجد لورا مفرا من الأذعان لرغبته التي حملتها على أجنحة ذهبية طارت بها الى عالم غامض , شاعري وساحر , لم تدر لورا كيف عادت الى عالم الواقع ووجدت صعوبة في أستعادة كيانها المهزوز.


" أنتهى الدرس الأول وأجتزته بنجاح".


أحست برغبة في قتله, لكن جل ما فعلته هو أنسحابها من الغرفة لتنضم الى بقية المدعوين, شعرت بالأرتياح لوجود والدها بقربها وهي تخشى أن يعود راندال اليها من جديد.


أضطرت أن تنتظر أنتهاء السهرة للعودة الى البيت لأن والدها كان مسرورا جدا لوجوده في منزل يحادث كبار الموظفين ويشارك في وضع المخططات في سبيل تقدم الشركة وأزدهارها , كانت السهرة فرصة نادرة لن تتكرر ليدعم وضعه في العمل ويلفت الأنظار الى ذكائه وخبرته , أخذت لورا تعد الثواني وتستحث عقرب الساعة على الأسراع لتنتهي السهرة وتعود الى سلام بيتها ودفئه , وأخيرا عندما حان وقت الفرج وقرروا الأنسحاب أقترب منهما راندال مودعا:


" أرجو أن تكونا أمضيتما وقتا ممتعا عندنا".


سارع جيمس هالام الى التأكيد:


" بالطبع يا سيد مرسييه أنه لشرف عظيم لنا وجودنا في منزلكم الكريم".


أعتقد أن الآنسة لورا لا تشاطرك الشعور نفسه يا سيد هالام , فأنا لاحظت أنها كانت مستعجلة طوال الوقت للرحيل:


قالت لورا بفتور:


" على العكس كانت سهرة جميلة ومسلية".


" أنا أحب التعرف أكثر الى موظفينا وعائلاتهم".


لم يدع هالام الفرصة الذهبية تفلت من يده فلربما كان في الأمر مشروع ترقية أو زيادة راتب.


" أسمح لي أولا بأن أدعوك الى العشاء في منزلي المتواضع يا سيد مرسييه , أرجو أن تقبل الدعوة على الرغم من مشاكلك الكثيرة".


" أنه لشرف كبير لي أن آتي الى منزلكم , سأراجع مفكرتي لأرى متى أكون حرا في أرتباطاتي الكثيرة- أخرج راندال من جيبه وقلب بعض الصفحات – يبدو أن مساء غد هو فرصتنا الوحيدة".


" خير البر عاجله يا سيد مرسييه , كن على ثقة بأننا نتشوق لرؤيتك عندنا , أليس كذلك يا بنيتي؟".


أجابت لورا وهي لا تكاد تصدق أن هناك أنسانا على وجه الأرض يملك هذا القدر من الخبث:


" بالطبع يا أبي".


أنحنى راندال أحتراما وحياهما ثم أنسحب ليودع بقية المدعوين , في الطريق الى البيت أخذت لورا تفكر في ورطتها , كيف تتخلص من راندال وهو يملك ورقة قوية في يده؟ كانت تعلم بأنه سيذهب الى حد أقالة والدها من عمله أذا لم تستجب له, أنه داهية , محنك , وصولي يعرف ما يريد وكيف ينال ما يريد.


لكن ما يزعج لورا أكثر هو الشعور الذي بدأ ينمو في أعماق نفسها أتجاه الرجل , مزيج من الحقد والأعجاب , صراع عنيف يمزق كيانها , يتقاذفها الكره والحب , الصد والأستسلام , الأحجام والأقدام... ومن خلال هذه المعمعة يبرز حبها لتوم ليزيد في شقائها , هذا الحب الطاهر الروحاني الذي تؤمن به بدأ يتزعزع .


بسبب كل هذا لم يغمض لها جفن تلك الليلة الا عندما بدأت خيوط الفجر تتسلل الى غرفتها.

safsaf313 12-08-09 10:00 AM


4- الأصرار
أفاقت لورا في اليوم التالي لتجد أمها تطالع بأهتمام كتاب فن الطهي , وهذا طبيعي فلا يحظى كل موظفي الشركة بوجود السيد مرسييه بينهم.
" صباح الخير يا أمي , لا بد أن أبي أخبرك بأمر حضور راندال مرسييه الى العشاء الليلة".
" أكاد لا أصدق , مرسييه الثري , المغرور يأتي الى بيتنا! والدك واثق من أنه يريد ترقيته والا لما كان هناك سبب لهذه الزيارة المفاجئة".
لم تجرؤ لورا على البوح بأن الزيارة لا تتعلق بالعمل بل بها هي, لأن أمها لا تتحمل الأنفعالات , عليها دفن السر في قلبها والأعتماد على نفسها للخروج من الورطة.
" أرجو ألا تكون الوجبة التي أخترتها معقدة يا أمي لأنني لست تلك الطاهية الماهرة".
" لا تقللي من شأن مهارتك والا أضطررت للطهي بنفسي".
" الموضوع غير قابل للبحث , لست مستعدة لأن أخالف أوامر الطبيب وأسمح لك بأجهاد نفسك".
" حسنا يا لورا , ما رأيك لو قمت بمراقبة عملك فقط؟ لا أعتقد أن مجرد المراقبة ستتعبني".
فكرت لورا بالأمر وقالت:
" قد لا يسمح توم بذلك فهو كما تعلمين دقيق للغاية".
" لا ضرورة لأن يعلم بالأمر ".
ضحكت الأبنة وهزت رأسها موافقة.
" كادت السيدة هالام تطير من الفرحة , أخيرا ستقوم بنشاط , بعمل, ستشارك بحركة.
" لا تستعجلي الأمور يا أماه, أذا أردت مراقبة عملي في المطبخ فعليك البقاء في السرير الآن".
" سمعا وطاعة , لن أتحرك من هنا ألا بعد أن تسمحي بذلك".
نزلت لورا الى غرفة الجلوس تنتظر توم , وصل الشاب بعد خمس دقائق فأستقبلته بأبتسامة ضمنتها كل ما عندها من عاطفة وحرارة , وجهه الشاحب يدل على مدى الجهد الذي يبذله في عمله, أخذت تقارنه براندال , توم أبى الأنجراف وراء المادة وكرّس حياته لخدمة الآخرين, رفض نصائح الجميع بالعمل في مستشفى خاص حيث المال الوفير وأنضم الى الجهاز الحكومي حيث الراتب يكاد لا يفي بحاجاته العادية , سعادته تكمن في أسعاد البؤساء ومساعدة المحرومين , أما راندال فورث عن أبيه دون عناء أمبراطورية ضخمة لم يجاهد ويكابد ليستلم دفتها , مجرد تقاعد أبيه كان يعني صعوده الى مركز القيادة, صحيح أنه يسير بألأمور بنجاح لكنه أنسان مادي , يحب المال, لا يعبأ بمشاكل الآخرين , لا يهتم الا بمطاردة الفتيات الجميلات...
الفارق بين الأثنين شاسع الى درجة يجعلها تحتقر راندال وتحترم توم, تأكدت أن ما حدث لها مع الأول في الحفل في الليلة السابقة وهم, أما حبها لتوم فحقيقة راسخة.
بادرها توم بصوت تعب:
" كيف حال الوادة اليوم؟".
" مسرورة جدا لما ينتظرها من أثارة".
" وما هو هذا الشيء المثير الداعي الى السرور؟".
" رئيس والدي في العمل سيتناول العشاء عندنا الليلة".
" أهذا كل شيء؟ لا أرى أثارة في الأمر".
" بالنسبة الى والدي الأمر مهم للغاية فالسيد مرسييه يعامل موظفيه بهذه الطريقة عادة, ووالدي يعتقد أنه سيقوم بترقيته".
قالت لورا ذلك وهي تعلم أنها تكذب على توم وربما على نفسها, جبنها منعها من التصريح بحبها للطبيب ويمنعها البوح له بما تتعرض له من ملاحقة راندال ومضايقاته , لكنها لا تعلم أن هذا الجبن سيكلفها غاليا يوما من الأيام , وستندم حيث لا ينفع الندم , لم يهتم توم للموضوع بل شدد على ما يعنيه اذ قال:
" المهم ألا تكون أمك تعد العدة للطهي بنفسها؟ أنتم تعلمون أنني لا أسمح بذلك أطلاقا مع أني آسف لعدم تناول طعامها هي حقا طاهية ماهرة".
" أفهمتها أوامرك يا حضرة الطبيب العزيز فأقتنعت بعد أن قطعت وعدا بالسماح لها بالجلوس في المطبخ للمراقبة".
" حسنا رغم أنني أشك كثيرا ببقائها هادئة وهي موجودة في المطبخ!".
خطرت للورا فكرة مفاجئة أذا تحققت تكون كفيلة بتخفيف الأضطراب الذي يسببه وجود راندال لها.
" لماذا لا تأتي الى العشاء الليلة؟ تتذوق طعامي الشهي من جهة وتراقب أمي من جهة أخرى".
فكر توم قليلا ثم قال:
" لا بأس بالفكرة لكنني لا أرى معنى لوجودي في جلسة بحث لشؤون العمل وشجونه".
" العشاء ليس لبحث أمور العمل بل هو مجرد مجاملة بعد أن دعانا مرسييه الى حفل مساء أمس في بيته, أرجوك يا توم أن تأتي لتخفف عني الملل".
أذعن توم لأصرار لورا وقال:
" كما تشائين يا عزيزتي , قبلت الدعوة , سأصعد الآن لأعاين والدتك, هل رآها الدكتور فرغوسون البارحة؟".
" كلا , فقد أضطر لألغاء الموعد بسبب حالة طارئة , وقال بأنه يعتمد عليك في هذه المهمة , شهادة كبيرة لك أن يثق بك فرغوسون".
" فرغوسون طبيب لامع في أمراض القلب , يكفي أنه لا يعارض مشاركتي في معالجة أمك , فمن حقه أن يطلب أمتناعي عن ذلك".
" هو يعلم بأنك واحد من العائلة".
" حتى لو كنت من أفراد العائلة , فله أن يشدد على الأصول الشكلية, لكن فرغوسون مترفع عن هذه الصغائر".
كالعادة صعد توم الى الغرفة بينما أنصرفت لورا الى تحضير القهوة, بعد دقائق جلسا يحتسيان فنجانيهما في غرفة الجلوس , أنها الفرصة الوحيدة النتاحة له ليرتاح في النهار , المهنة التي أختارها مرهقة وجاحدة في الوقت نفسه , كان بأمكانه سلوك الطريق الأسهل كما فعل والده ويفعل الكثيرون من الأطباء , لكن الله منّ عليه بضمير حي وأرادة واعية فرفض أغراءات المادة وزهد بمباهج الحياة ليؤدي دوره الفعال في بناء المجتمع.منتديات ليلاس
ما أن أنهى قهوته حتى أنتصب واقفا وأستعد للذهاب.
" أمكث قليلا لترتاح يا توم".
" الراحة كما يعرفها الناس كلمة حذفتها من قاموسي , الراحة بالنسبة اليّ هي تخفيف آلام الآخرين".
أقتربت لورا منه لتصلح ربطة عنقه ولا شعوريا وضعت رأسها على صدره , أبعدها توم عنه رافضا عناقها فشعرت بالخجل يغمرها , كيف يستطيع أن يصدها بهذا الشكل؟
" لورا لا تغضبي مني , أنت تعلمين مكانتك في قلبي لكنني لا أريد أستعجال الأمور".
" كما تشاء يا حضرة الطبيب".
أبتسم توم وحاول تطييب خاطرها:
" المرضى يريدون طبيبا بكامل قواه العقلية لا رجلا فقد رشده".
" أنا أريدك فاقدا رشدك".
ضحك الشاب في حين أمتزجت أبتسامة لورا بالدموع تترقرق من عينها , ذهب توم الى عمله تاركا لورا ارقة في الحزن والحيرة , أظهرت له مشاعرها لكنه رفض ذلك وبقي جامدا كالصخر , وأنصرفت الى تحضير العشاء في المطبخ وهي لا تنفك تفكر بتوم حبها الوحيد.
وصل جيمس هالام الى المنزل مبكرا ليساهم في وضع الترتيبات لأستقبال الضيف العزيز, عندما أبلغته لورا بأنها دعت توم أنفجر غاضبا:
" لماذا تقحمينه في كل أمورنا؟".
" لا أرى ضررا في ذلك يا أبي , وجود توم يسعدني ويخفف ثقل ظل راندال مرسييه".
" لا أعرف لماذا تعتبرين مرسييه ثقيل الظل؟ شخص مهذب تنازل مرتين , عندما دعانا الى قصره وعندما قبل دعوتنا".
أستغربت لورا تغير موقف أبيها أتجاه راندال وقالت:
" ألم أسمعك مرارا تنعته بالحقير مرسييه؟".
" يخطىء الأنسان أحيانا في حكمه على الآخرين , والآن وقد تقربت من الرجل لم أعد أجده سيئا".
ليت والد لورا يعلم أهداف هذا التقرب وهذه المعاملة الحسنة من قبل مخدومه , لكنه ربما وافق على هذه الأهداف وساعد في تحقيقها , فكل رجل يتمنى أن تكون أبنته محط أهتمام راندال...
أنشغل السيد هالام بتحضير الطاولة وترتيب الصحون الجديدة التي أشتراها خصيصا للمناسبة.
في تمام السابعة فتحت لورا الباب لأول ضيف على أمل أن يكون توم.
" آه , أهلا ! تفضل سيد مرسييه".
" أراك فوجئت بمجيئي فهل تتوقعين أحدا غيري؟".
" نعم , دعوت صديقا ليشاركنا السهرة".
أضطرب راندال وبدت على وجهه أمارات الغضب, لكنه سرعان ما أستعاد سيطرته على نفسه وعادت الى عينيه نظرات السخرية والتفوق.
أنحنى الشاب وقدّم الى لورا باقة كبير من الزهور الزاهية .
" أحضرت هذه الزهور لمضيفتي".
بهرت لوؤا وقالت:
" ستسر أمي كثيرا بهذه الهدية".
" لم أحضرها لأمك بل لك, الزهور تقدم لزهور".
" شكرا على لطفك وكرمك , تفضل الى غرفة الجلوس ".
تأخر الزوجان هالام قليلا في النزول لأنهما صرفا وقتا طويلا في أختيار ملابسهما , فأمام شخص بهذه الأهمية يجب توافر أكبر قدر من الأناقة.
لم تكن لورا تحتمل وجودها وحيدة مع راندال , عيناه ترهقانها بنظرات قاسية , متفحصة , نهمة , أخذت تعبث بعقد اللؤلؤ الذي يحيط بعنقها لتتجنب النظر اليه , لكنها فشلت في أزاحة وقع وجوده المحرج وسيطرته القاسية , أنها تحس نفسها معه كسجين بين يدي جلاد ينتظر تنفيذ أمر الأعدام بين لحظة وأخرى.
دق جرس الباب فوجدت لورا فرصة للتملص من راندال , هرعت لتفتح الباب لتوم , كان الشاب يرتدي ثيابا أنيقة على غير عادة وتفوح منه رائحة عطر ثمين , يبدو أنه نسي فقراءه هذه الليلة أكراما لها.
" أهذا توم الذي أعرفه ؟ يا للأناقة والوسامة!".
" شكرا على هذا الأطراء مع أنني نقطة في بحر جمالك الخلاّب".
عرّفت لورا الشابين ببعضهما , وأنسحبت لتحضير العصير.
" أنت تعمل في الحي الشرقي للمدينة أذا يا سيد توم؟".
" تماما".
" لا بد أن عملك مرهق".
" بعض الشيء".
كانت لهجة مرسييه جافة وخالية من أي نغمة كأنه شرطي يستجوب لصا, أضاف:
" وهل أخترت هذا المنطقة طوعا أم أن الأدارة وضعتك هناك؟".
" أخترتها طوعا, فالمنطقة فقيرة وبحاجة الى طبيب شاب له القدرة على الأحتمال , والعمل الجاد , لذلك وجدت نفسي صالحا للمهمة".
وصلت لورا حاملة أكواب العصير وتدخلت في الحديث:
" توم يعتبر الطب رسالة سامية لا مصدر ثراء".
" لا تصوريني بطلا أمام الرجل, أنا أقوم بوظيفتي ليس أكثر".
لم تأبه لورا لتعليقه وتابعت:
" أنه الطبيب الأكثر شعبية في شرقي لندن والكل يؤكدون ذلك , لقد أختبرت الأمر بنفسي".
أراد راندال أن يقول:
وأختبرت عناقي , لكنه أحجم عن ذلك حتى لا يفسد السهرة , فهم الآن سبب وجود لورا في ذلك الحي الفقير مع بات , أذ أرادت أن تتعرف الى عمل توم , لا شك في أن شعورها نحو الطبيب مهم الى درجة تجعلها تخاطر بالدخول ليلا الى الحي الشرقي , أراد توم أثبات تواضعه فقال:
" لا تصدقها يا سيد مرسييه فهذا الكلام سمعته لورا من مساعدتي بات باسيت , وبات منحازة الى جانبي بالطبع".
لم تكن لورا بحاجة الى أكثر من سماع اسم بات لتجتاحها الغيرة:
" لست بحاجة الى آراء بات لأتأكد من مهارتك في عملك يا توم".
نظر الطبيب الى راندال مبتسما :
" سأصاب بالغرور أذا أخذت بكلام هذه الفتاة".
في هذه اللحظة دخل الغرفة جيمس هالام وزوجته.
بادر الرجل الى القول:
" عذرا على التأخير يا سيد مرسييه , أهلا وسهلا بك في بيتنا المتواضع".
لم ترضى لورا عن البرود الذي أظهره والدها أتجاه توم , أذ أكتفى لتحيته بأيماءة من رأسه.
في المطبخ كان كل شيء جاهزا بفضل مساعدة السيدة نايت.
أعلنت لورا:
" العشاء جاهز , تفضلوا الى غرفة الطعام".
جلس الجميع حول المائدة وأستطاع راندال بدهائه أن يكون قرب لورا , أنزعجت الفتاة من ذلك ولكنها سلمت بالأمر وجلست تشجعها أبتسامة توم المتفهمة, بدأ جيمس هالام حديثا طويلا ومملا مدح فيه الشركة ومشاريعها وخص مجلس الأدارة , وعلى رأسه مرسييه , بثناء خاص وكلمات طنانة , لم ترتح لورا لكلام أبيها المصطنع ولتزلفه لراندال , لماذا هذا الكذب والخوف من رئيس الشركة ؟ أليس أنسانا عاديا كالآخرين؟ حبذا لو كان جميع الرجال مثل توم , يتمتعون بشهامته وأخلاقه , ويؤمنون بمبادئه.
في هذه الأثناء بدأت السيدة نايت بأحضار الأطباق المتنوعة تباعا: الدجاج, اللحم المشوي , القريدس , السلطة , وأخيرا الفاكهة والقهوة.
خلال العشاء تمكن راندال أن يفلت من الأحاديث الدائرة ليهمس في أذن لورا:
"أ؟تعرفين الدكتور نيكول؟".
" منذ أن أبصرت النور".
" هو بمثابة أخ كبير أذن".
فهمت الى ماذا يلمح راندال فرفضت قبول مثل هذه الفكرة ؟, بشكل جازم".
" لا , ليس أخا".
" أذا لم يكن أخا فهو حبيب – أضاف وكأن علاقته بلورا قديمة لماذا لم تقولي لي أنك مغرمة؟".

ضرب راندال على الوتر الحساس ونجح مرة جديدة في زعزعة توازن لورا وأثارة الأضطراب الشديد في نفسها , لماذا يتدخل في شؤونها الخاصة؟ أيعتبر نفسه شخصا حميما الى هذه الدرجة؟ غريب أمر هذا الرجل الذي دخل حياتها بالقوة وفرض نفسه رقيبا على قلبها.
أخذ قلب لورا يخفق بقوة حتى خيل أليها أن الآخرون يسمعون فقاته , عندما تجرأت ورفعت عينيها الى راندال وجدته يتحدث الى أمها.
مر الوقت ببطء قاتل ووجدت الفتاة صعوبة في الأشتراك بأحاديث والدها وتعليقات أمها , لولا وجود توم لكانت أنسحبت الى غرفتها من دون أي شك, صارت تعد الثواني حتى أنتهى العشاء وأنسحب الجميع الى غرفة الجلوس.
هناك أفتتح راندال الكلام بقوله:
" أسمحوا لي بتهنئة الطاهي لما أتحفنا به من أطايب".
بدا جيمس هالام وكأنه ينتظر هذه الفرصة ليعزز مكانة أبنته:
" أبنتي صبية كاملة يا سيد مرسييه , مثقفة , جميلة , طاهية ممتازة... تجتمع فيها كل صفات ربة المنزل الناجحة".
لم يكن ينقص لورا سوى هذه الكلمات ليطفح كيلها, فهبت من مقعدها وتوجهت الى المطبخ تساعد السيدة نايت في تنظيف الصحون علها تجد هناك ملاذا يقيها عيني راندال ولسانه , لحق بها توم ليسألها عن سبب أنزعاجها وأن كانت بدأت تتكون لديه فكرة عما يدور في الكواليس.
" ما بك يا عزيزتي ؟ أشعر أنك لست على ما يرام".
" لا شيء البتة, هلا ساعدتني بتحضير المزيد من القهوة؟".
" بكل سرور".
فيما كانت لورا تحضر الفناجين وتوم يجلب السكر أصطدما ببعضهما وضحكا طويلا.
" أتصدقين الآن أنك تفقديني رشدي؟".
تحولت ضحكتها الى وجوم وجدية , وتكوّن في نفسها أمل جديد بأن توم سيصارحها أخيرا بما يختلج في قلبه.
" أتعني حقا ما تقول؟".
سرعان ما تبخرت آمالها أذ أجاب:
" لا يجدر بي أن أقول كلاما كهذا بعد الآن , أنسي الموضوع".
لم يعد بوسع لورا ضبط نفسها فأنفجرت والألم يعصر قلبها:
" كيف أنسى وهو جزء من كياني , يرافقني في حياتي . أنام فأحلم به, أفيق لأجده قابعا في ذهني , أراه في كل زاوية من هذا البيت, في كل حركة أقوم بها... توم أتدرك مدى معاناتي؟".
لم يتمكن الطبيب الشاب من الأجابة أذ دخل عليهما فجأة راندال.
أنسحب توم حاملا طبق القهوة وتبعته السيدة نايت التي لم ترغب في أن تسمع أكثر مما سمعت.
لم تخف لورا من راندال هذه المرة بل أرادت أن تجابه وتحطمه:
" لم أكن أعلم أن من عاداتك أستراق السمع والتجسس على الآخرين , في كل مرة أكتشف فيك نواقص جديدة".
" بالنسبة ألي يا أميرتي المبدأ واضح: الغاية تبرر الوسيلة".
قال الرجل ذلك بكل هدوء وأرتياح وكأن تصرفه أمر طبيعي لا عيب فيه.
فهم الآن تماما ما يعذب لورا وعرف كيف يستغل رفض توم لحبها, صار يملك ورقة جديدة في صراعه معها تضاف الى كونه مخدوم والدها ومصدر رزقه.
" يبدو أن الدكتور نيكول لا يكترث لقلبك اللاهب ولعينيك اللامعتين , بل بالأحرى يهتم بذلك أهتمام الأخ الأكبر لا غير, عليك أن تجدي رجلا آخر يقدر جمالك وسحرك , وأنا كما تعلمين جاهز لملء هذه المهمة الممتعة".
لم تسمع لورا في حياتها شخصا يوجه اليها مثل هذا الكلام , لكن راندال المغرور واثق من نفسه ومتأكد من كونه في موقف قوة, لم تجد الفتاة سلاحا للدفاع عن نفسها غير الكلام:
" لا حق لك بتوجيه مثل هذا الكلام لي أيها الحقير!".
"أغضبي , أغضبي, فهذا يزيدك حسنا وروعة , لكن أذكرك بأن فتاة مثلك لا يجب أن تطلق العنان للسانها وتنزلق الى درك الكلام الرخيص".
" أحتفظ بنصائحك لنفسك , لأنك بأمس الحاجة أليها".
بخفة فائقة وضع يده على كتفها وعانقها , لم تجد وسيلة للأفلات من هذا الرجل الخبير بفنون المغازلة , أحست برأسها يدور وبأن العالم تقلص ليصبح ذراعي راندال , ودون وعي وضعت يديها حول خصره , وأخيرا أرتسمت على شفتيه أبتسامة الأنتصار.
لكنه غضب فجأة ودفعها الى الوراء.
" لا أريدك أن تفكري برجل آخر عندما تكونين بين ذراعي".
كان على حق لأنها كانت تعانق راندال وتفكر بتوم , هذا الرجل يقرأ أفكارها وينفذ الى أعماقها كمن يقرأ كتابا مفتوحا.
توجه الأثنان الى غرفة الجلوس فأستقبلتهما نظرات توم الحائرة, ونظرات لوالدة المتعجبة ونظرات الوالد ال****ة..
بعد تبادل كلمات المجاملة التقليدية كان توم أول المنسحبين ثم تبعه راندال.
قبل صعوده الى غرفته سأل جيمس هالام أبنته :
: أعجاب السيد مرسييه بك كان واضحا , أليس كذلك؟".
" خيالك واسع يا أبي فأنا لم ألاحظ ذلك".
" ربما أنت على حق- قال الأب ذلك بسخرية وأضاف- ربما خيالي واسع".
كان الطقس دافئا في اليوم التالي عندما خرجت لورا للتسوق, بعد أنتهائها من شراء الأغراض أتجهت نحو البحيرة للتنزه , أخذت ترمي الخبز للبط ... كم هي صادقة هذه الطيور في تلخيصها مأساة الأنسان الساعي وراء لقمة عيشه, وراء حاجاته المادية , وراء المجد والشهرة ... تنافس البط على كرات الخبز يجسد صراع الأنسان مع الحياة ومع المادة ... وفيما هي غارقة في التأمل سمعت وقع خطى صارت تعرفه جيدا , جاء راندال.
لم تنتظر أن يبدأ هو الكلام فسألت بنفور:
" ماذا تفعل هنا؟".
ليس راندال بحاجة لمن يعلمه فنون الأجابة وطرق الكلام.
" أتأمل براءة وجهك وطهارته".
تجاهلته لورا وأكملت سيرها حول البحيرة وعيناها غارقتان في مراقبة النسيم يحمل ورقة صفراء من تحت شجرتها ويرميها في الماء , هذا هو الأنسان الضعيف , الذي لا جذور له قوية, تجرفه عواصف الحياة وتطرحه على الهامش.
أخذ راندال يلاحقها من دون أن يحاول أيقافها أو التحدث اليها , لكنها أخذت المبادرة وسألت:
" ماذا تريد؟".
" لن أصرح بما أريد لأنني بغنى عن كلماتك الجارحة".
" أتحاول أغاظتي من جديد ؟ ألا يكفيك ما سببته حتى الآن؟".
" في الحقيقة أتيت لأدعوك ألى حضور مسرحية الليلة".
" كلا , شكرا على الدعوة".
تجاهل راندال جوابها وتابع:
" تحدثت في الموضوع مع أبيك ووافق على ذهابك معي".
" كيف تجرؤ على فعل ذلك دون علمي؟".
" سأمر بك في السابعة, كوني جاهزة".
قال راندال هذا وأنصرف.
خوفا على وظيفة أبيها قررت لورا مرافقته الى المسرح, ولكنها أمضت بقية النهار تفكر في هذه الأمسية وكأنها ذاهبة الى السجن لا ألى مكان للهو , عندما أتى راندال في المساء أبى جيمس هالام ألا أن يظهر محبته الزائفة لمخدومه فقال:
" لطف كبير منك يا سيدي أن تدعو لورا لحضور مسرحية, لا تتصور كم فرحت بذلك.
كانت لورا تعتقد بأنه لؤم كبير لا لطف كبير , لكنها نجحت في تأكيد رأي والدها الذي تكلم بأسمها وقبل الدعوة دون أستشارتها.
" بالطبع".
أختار راندال مسرحية كوميدية سرعان ما أنسجمت لورا في جوها , وأخذت تضحك كطفلة صغيرة متناسية وجود الرجل الى جانبها .
خلال الأستراحة توجه الأثنان لتناول عصير البرتقال فأستغل راندال ذلك ليذكر لورا بأنه موجود.
" كل مرة أراك تبدين مختلفة, كنت في الصباح كطفل مشاغب , بالأمس أميرة راقية , اليوم فتاة صغيرة تفكر في فروض المدرسة , يعجبني فيك التغيير الدائم , معك يحس الرجل كل ساعة بأنه مع فتاة جديدة...".
أكملت لورا جملته:
" فلا يعود بحاجة لأن يطارد الفتيات ويكتفي بواحدة".
أختارت لورا قصدا فستانا يظهرها كتلميذة لعل راندال يشعر أنه صغيرة جدا ولا تناسبه , لكن الرجل مصر على الذهاب بهذه العلاقة ألى أقصى الحدود ضاربا عرض الحائط الفارق الكبير بالسن بينهما... وبعد قليل عادا الى مقعديهما لمتابعة الجزء الثاني من المسرحية , هذه المرة لم يدعها راندال تتذوق طرافة المشهد أذ سرعان ما أمتدت يده لتأسر يدها بقوة لا مجال معها للتملص.
سلمت لورا بالأمر عساه يكتفي بذلك لكنها كانت مخطئة فأذا براندال يرفع يدها الناعمة الى شفتيه ويغرقها بالقبلات السريعة النهمة , تجاهلت فعله مهتمة بما يدور أمامها على الخشبة , لكن راندال كان خبيرا الى درجة جعلها تنزعج وتفقد التركيز اللازم لمتابعة الكوميديا.
فما كان منها الا أن داست بكعبها العالي على رجله , فضحك راندال وحرر يدها هامسا:
" سأتركك تتابعين المسرحية لأنه لن تتاح أمامك الفرصة للخروج مع الحبيب توم الى مثل هذه الأماكن".
تظاهرت لورا بعدم سماع ما قاله لأنها لا تريد أفساد الجو المرح الذي وفرته المسرحية والذي ساعدها على نسيان بعض همومها, بعد أقفال الستارة أقترح راندال التوجه لتناول العشاء, فرفضت الفكرة بشكل قاطع مصرة على العودة الى المنزل , أوصلها الى البيت لكنه لم يدعها تفلت منه بالسرعة التي أرادتها...
" راندال...".
أدركت لورا أنها ترغب لا شعوريا في دفن وجهها في صدره الرحب, كانت بحاجة الى ملاذ آمن يقيها صعوبات الحياة , ربما كانت سطوة راندال تجذبها اليه لتعوض عن ضعفها ورقتها.
" رغب في رؤية وجه توم الحبيب عندما يراك تعانقينني بهذه الحرارة".
خرجت لورا من السيارة مذعورة ودخلت الى البيت حيث أرتمت على أحد المقاعد وأخذت تجهش بالبكاء , لقد خانت حبها لتوم وفقدت أحترامها لنفسها , كل المبادىء التي تؤمن بها أنهارت وأصبحت أطلالا.
في داخلها يتصارع عدوان لدودان : الحب والرغبة , الحب يحركه توم والرغبة يوقظها راندال , والفتاة ضائعة بينهما لا تعرف أين الحقيقة , من انا؟ سؤال يمزقها , تحب توم بكل جوارحها , وترغب براندال بكل غرائزها...
المهم أن تخرج سالمة من هذا الصراع العنيف....

safsaf313 12-08-09 10:01 AM


5- المصيدة

مرّ أسبوع دون أن ترى لورا وجها لراندال , وذات مساء أوصل أباها بسيارته , وكانت لورا تعد الطعام في المطبخ عندما سمعت صوته, بعد عشر دقائق دخل فرفعت عينيها نحوه بعدائية , ووضع الورود على الطاولة وتناول قطعة من الخبز ليتذوقها.منتديات ليلاس
سألته دون أن تشكره على الورود:
" هل أنت باق للعشاء؟".
" أعتبر هذا السؤال دعوة؟".
" تعني أن أبي لم يدعك؟".
"لم يفعل , ربما بأنتظار أن تصدر المبادرة منك".
لم ترد لورا, بل تابعت عملها بينما جلس هو يراقبها بصمت , حاولت تجاهل وجوده لكنها لم تستطع, شعرت بعينيه تصبان نارا على كل ذرة في جسمها وبعد قليل نهض من كرسيه وذهب تاركا أياها في حيرة وأرتباك , هل سلم بالأمر الواقع وعدل عن مطاردتها؟ لا ليس من هذا النوع, هو لا يستسلم بسهولة, لا تعلم لماذا شعرت بفراغ لغيابه سبعة أيام... أيمكن أن تشتاق الى رجل تكرهه؟ أم أن الأنسان عندما يعتاد على شيء يفتقده حتى ولو كان لا يحبه... أنفاق مظلمة تدخل فيها لورا ولا تجد منها مخرجا.
زيارات توم لم تنقطع بالطبع, وفي كل مرة تراه لا يمكن لها أن تكتم شعورا بالذنب نحوه, توم لا يعلم بما حدث لها مع راندال , لكن الأمر مكتوب على جبينها بحروف نافرة سوداء, بعد أيام من الحفل الذي أقامته بمناسبة ذكرى ميلادها العشرين بحضور الأقارب والأصدقاء زارهم راندال قبل الظهر ومعه مجموعة من الكتب والمجلات للسيدة هالام , مكث يحدث للوالدة حتى حلّ الظهر أضطرت لورا الى دعوته الى الغداء فرفض بأبتسامته المعتادة , لقد تعمّد البقاء حتى موعد الغداء ليرى الفتاة تتنازل وتدعوه ليبقى , وعندما تحققت رغبته خذلها ومضى.
في المساء أخبرت السيدة هالام زوجها بمجيء راندال , فضحك وقال موجها كلامه الى لورا:
" يبدو أن السيد مرسييه أصبح جزءا من البيت, أتساءل عما يجذبه؟ لربما أواصر الصداقة التي تربط بينه وبين زوجتي!".
ومر الخريف وحلّ فصل الشتاء البارد, شيئا فشيئا عادت حياة آل هالام الى وتيرتها السابقة بأستثناء تطور واحد: زيارات راندال مرسييه المتكررة, تدريجيا أعتادت لورا حضوره فأصبح مألوفا وتناست خطره , ولم يعد راندال يحدثها بأي موضوع غرامي بل صار مجرد صديق للعائلة , لكن لورا كانت تعلم في قرارة نفسها أن راندال يخطط لشيء ما , ولا بد أن يفجر قنبلته يوما, كان أحيانا يتناول العشاء عندهم لكنه كان يمضي معظم الوقت يراقب عملها في المطبخ , يرافقها الى السوق كحارس أمين, أو يجلسان للعب الشطرنج والنرد , ومرة أصطحبها الى المسرح لكنه لم يحاول أن يمسها بل أكتفى بمشاهدة المسرحية, تصرفاته جعلت العداء بينه وبين لورا يتحول الى ألفة , وجعلت الجليد يذوب بينهما شيئا فشيئا.
ذات ليلة وصل جيمس هالام الى البيت شاحبا , متوتر الأعصاب , فقلقت لورا عليه ولكنه رفض الأجابة على أسئلتها الملحة, فأقنعت نفسها أن سبب حالته هو تراكم الأعمال عليه لأن الشركة تضع جردة لحساباتها في مثل هذا الوقت من كل سنة, ولا بد أنه سيعود الى طبيعته المرحة بعد أنقضاء فترة وضع الجردة.
مساء اليوم التالي أزداد جيمس هالام شحوبا وتوترا , على العشاء أبلغها فجأة أن راندال سيحضر بين لحظة وأخرى.
" راندال يريد أن ... أن يسألك شيئا يا لورا...".
أخذت الفتاة تتساءل عن ما هية هذا السؤال وعن سبب أرتباك أبيها وتعلثمه في الكلام.
بعد قليل وصل راندال فأنسحب جيمس هالام وزوجته من الغرفة تاركين لورا تواجهه وحدها.
تسارعت دقات قلبها وسرت رعشة في جسمها , ماذا يريد راندال؟ أخيرا , تكلم الرجل بنبرة هادئة وواثقة لا أثر فيها لأي أنفعال:
" هل تقبلين الزواج مني؟".
أنعقد لسان لورا من الدهشة, أهو جاد في ما يقول ؟ في داخلها تنامى أحساس غريب بالأنتصار لأن راندال المتعجرف يرغب في التنازل والزواج , من المخجل أن ينتابها شعور كهذا , لكنه حقيقة لا تقبل الجدل.
سبق أن حذّرها من أنه ينال دائما ما يريد , وقد برهن ذلك مرارا , كان قاسيا لا يرحم في مطاردته وعندما أدرك أنها لن تصبح عشيقته قرر أن يجعلها زوجته ليصل الى مبتغاه.
عيناه القاسيتان سمرتاها في مكانها ومنعتاها من الكلام .
" أنتظر منك جوابا, أعلم أن العرض مفاجىء...".
قاطعته قائلة:
" أنت تعلم ما هو جوابي وتعلم أنني أحب توم, فلماذا تعذب نفسك؟".
تابع راندال كلامه بهدوء وكأنه لم يسمع ما قالته الفتاة :
" تحدثي الى أبيك وسأعود غدا لآخذ الجواب".
ثارت لورا لكرامتها بعد أن تجاهل رأيها:
" ألم تفهم بعد ؟ أنا لا أحبك ولا أريد الزواج منك!".
أدار راندال ظهره وأتجه الى الباب , لحقت به وأمسكت بذراعه بقوة, نظر أليها بقساوة جليدية لم تعهدها فيه من قبل.
" أنا أعني ما أقول, أفضل الموت على أن أكون زوجة لك!".
" يا عزيزتي الأحداث تلاحقت بسرعة , أنت مرغمة على الزواج مني".
خرج راندال وتركها في حيرة وذهول , ولم تفهم ما عناه بكلماته الأخيرة.
في اللحظة ذاتها أطل والدها والقلق باد على وجهه:
" لماذا ذهب؟ ماذا حدث؟".
قالت لورا في نفسها أنه لا بد مدرك لهدف زيارة راندال فأجابت بفظاظة:
" رفضته".
أمتقع وجه جيمس هالام حتى أصبح أبيض كالثلج وردد:
" رفضته... –سقط على ركبتيه وأضاف- يا ألهي لقد سببت خرابي برفضك!".
كانت لورا تعلم أن والدها يحبذ زواجها من راندال لأن ذلك سيدعم مركزه في الشركة من جهة, وسيؤمن لها حياة رغيدة من جهة أخرى , لكنها لم تكن تتوقع ردة الفعل هذه على رفضها مشروع الزواج.
" أبي ما بك؟ ماذا حدث؟ أرجوك أفهمني".
أنهار الرجل وأعترف بكل شيء:
" راندال مرسييه أكتشف أنني كنت أختلس المال من الشركة منذ عدة سنوات , أتعتقدين أن راتبي وحده كاف لأؤمن لك ولأمك حياة شريفة ؟ مرضها أجبرني على ذلك , أنا أحبها كثيرا وحرصي على بقائها حية دفعني الى أختلاس المال لأسدد تكاليف العلاج الباهظة , كانت التجربة مغرية جدا لكوني أتعامل بمبالغ ضخمة يوميا في حين أن راتبي لا يكفي لشراء بزّة واحدة من بزّات مرسييه".
وتابع حديثه بصوت متهدج تخنقه الدموع:
" رتبت دفاتر الحسابات بشكل لا يمكن معه أكتشاف عملية الأختلاس, كنت مطمئنا حتى أرتكبت غلطة في الحسابات جرى أكتشافها عند وضع الجردة ... وبدأ المحاسبون بالتدقيق فأكتشفوا غيرها وغيرها ألى أن أفتضح أمري, أرجوك يا لورا , لا تلومينني على فعلتي هذه , فأنا لم أكن أحتمل مشاهدة أمك تذوب يوما بعد يوم دون أن أحاول فعل شيء . أرجوك سامحيني...".
أغمضت الفتاة عينيها والحقيقة سكين تعمل في قلبها تمزيقا .
" وماذا كان موقف راندال؟".
وجد والدها صعوبة في الأجابة:
" بعد أن أسمعني كلاما قاسيا فجّ ر قنبلته الموقوته , فبدل أن يسلمني الى الشرطة قال أنه لا يريد فضائح في العائلة ولذلك لن يلاحقني جزائيا ... لم أفهم بادىء الأمر قصده لكنني أدركت بعدئذ أننا وقعنا ضحية الأبتزاز: رأسي مقابل أن تصبحي زوجه له".
نظر والدها أليها بأسترحام:
"أنه يعجبك أليس كذلك؟ شاب وسيم تتمناه كل الفتيات , لماذا لا تكونين مثلهن بحق السماء؟ ستصبحين ثرية وستعيشين مطمئنة , كل ما تطلبينه تحصلين عليه".
أجهشت بالبكاء وتمتمت:
" أنا أحب توم".
" توم نيكول؟ الطبيب العنيد المتمسك بمبادئ بالية , ستبقين فقيرة كل حياتك! لا مجال للمقارنة بين الأثنين , راندال مرسييه سيغرقك بالمال بينما لن يستطيع توم نيكول ألا أن يقدم حياة تعيسة مليئة بالشقاء".
" ما نفع المال والجاه أذا فقد الحب؟".
" لورا فكري بمصري ومصير والدتك".
أخذت تحدق بوالدها:
" أتعتقد أنه سيفضح أمرك للشرطة أذا لم أتزوجه , لا يمكن أن يكون قاسيا الى هذه الدرجة".
" حتى أذا لم يفعل ذلك أكون قد أنتهيت , سيطردني من الشركة من دون تعويض ومن دون أعطائي أفادة عمل مما يجعل حصولي على وظيفة أخرى أمرا مستحيلا".
فهمت لورا الآن المشكلة تماما فأخذت ترتجف من الخوف:
" وما العمل يا والدي؟".
" الأمر بيدك, فكري بوالدتك قبل أن تتخذي أي قرار , لأن الصدمة ستكون قاتلة أذا عرفت بأي شيء".
مسحت دموعها وقالت وهي تتذكر كلمات راندال المتهكمة:
"لا خيار لدي في أتخاذ القرار...".
" أنا واثق يا حبيبتي , من أنك ستعيشين حياة سعيدة معه لأنه يحبك حبا جارفا".
حب جارف, لا ليس الأمر حبا جارفا بل رغبة جامحة , ولكن كيف السبيل لأن يفهم والدها الحقيقة؟ هو لا يعلم طباع راندال ونفسيته الحقيرة الباحثة عن الملذات المادية , العابث بكل القيم والمبادىء السامية.
" ماذا قررت يا أبنتي؟".
" القرار ليس لي , أنا مرغمة على قبول هذا الزواج".
لم تنم لورا تلك الليلة , وفي الصباح شغلت نفسها بالعمل في المطبخ , مشكلة جديدة طرأت , كيف تبلغ توم بالأمر ؟ لا شك أن الصدمة ستكون عنيفة بالنسبة أليه.
عندما رن جرس الباب هرعت لتستقبله بعينين متعبتين ووجه شاحب .
فوجىء توم لحالتها وسألها بقلق بالغ:
" ما الأمر يا لورا؟ أليست والدتك على ما يرام؟".
" أمي بخير يا توم , تعال الى المطبخ , أريد أن أحدثك بأمر هام".
تبعها الشاب وهو يتساءل عما يمكن أن يكون مصدر هذا الشحوب في وجهها , لا بد أن شيئا خطيرا حصل.منتديات ليلاس
نظرت اليه كطفل خائف من ذنب أرتكبه:
" راندال مرسييه طلب يدي".
لمحت أثر كلماتها في عيني توم الذي أدار ظهره وسار نحو النافذة يراقب الحديقة.
" رفضت طلبه بالطبع , لكن والدي أطلعني على أمر جعلني لا أملك الخيار ال بالموافقة".
" ماذا تعنين".
" كل ما يمكنني أن أصارحك به هو أن أبي في وضع مالي حرج جدا يجعل راندال متحكما بمصيرنا جميعا, أذا لم أقبل به زوجا ينهار البيت على من فيه".
أطرق توم يفكر في حل للمشكلة ,في مخرج ينقذ لورا من راندال ويفتش عن كلمة يقولها للفتاة المغرمة به والتي أحبها بصمت , عبثا حاول , أيصرح لها بحبه الآن ؟ كلا, لأن ذلك سيزيد من مرارة الواقع , فلم يجد ما يقوله الا:
" ماذا ستفعلين؟".
" سأنفذ رغبة والدي لأنقذ أمي من موت محتوم فيما لو علمت بالأمر".
" أواثقة أنت من أنه لا توجد طريقة لتفادي المأزق؟".
" لا أستطيع أخبارك بكل الحقيقة , لكن كن على ثقة بأنها الوسيلة الوحيدة...".
هز توم رأسه محاولا تهوين الأمر:
" على الأقل ستعيشين معه مدللة وسيحافظ عليك كقطعة أثرية ثمينة , أنه الرجل القادر على العناية بك..".
خرج توم وأقفل الباب وراءه بهدوء , أرادت لورا أن تصرخ في وجهه , أنت الرجل الذي أحتاج اليه! لكنها كتمت الصرخة في قلبها لئلا تزيد الطين بلة...
وصل راندال بعد الظهر ليأخذ الجواب الأكيد , لم تكن لورا تشعر بشيء أتجاه الرجل , كيف يمكن أن تعيش حياتها مع شخص لا يعني لها شيئا ؟ فقدانها توم جعلها مجردة من أي أحساس!".
" قبلت عرضك يا سيد مرسييه".
لفظت هذه الكلمات دون صعوبة تذكر , لأنها أصبحت بلا معنى بالنسبة اليها , وكان واجبا عليها تنفيذه.
دهش راندال لهدوئها فأمسكها من كتفيها وهزها بعنف.
" تبدين كالمومياء! أنا لا أريد الزواج من موميا بل من صبية زاخرة بالحياة!".
" وماذا تنتظر مني أن أفعل ؟ أن أطير فرحا ربما؟ حسنا. ربحت معركتك وكفى".
" هل أخبرت الطبيب المحبوب بالأمر؟".
" نعم".
" ألم يحاول أقناعك بالعدول عن هذه الخطوة ؟ وزاد بتهكم :
" لا لن يفعل ذلك لأنه لا يحبك , عواطفه محصورة في أصدقائه الفقراء".
" ما الذي يجعلك متأكدا من أن توم لا يحبني؟".
" الأمر سهل يا عزيزتي , أنت تتجاوبين مع عناقي , مما يعني أن توم لا يهتم بك ولا يمنحك الحنان الكافي".
أعترفت لورا بقرارة نفسها بأنه على حق , توم لا يحبها أو لا يعرف كيف يحبها , في حين أن راندال يعوض حاجتها الى الحنان والعاطفة , أذا تمكنت من جمع توم وراندال في شخص واحد لوصلت الى غايتها , لكنه حلو والأنسان يعيش على الأحلام ولكنه لا يعيش منها.
بعد أن وقعت الواقعة أرادت لورا أن تعرف دوافع هذا الرجل وأهدافه الحقيقية , فسألته:
" قل لي بصراحة يا راندال , أنت لا تحبني فلماذا تريد الزواج مني؟".
أخذ راندال يداعب شعرها ويلامس خدها:
" لا يهمني قلبك ولا حبك , كل ما أريده هو أن تصبحي ملكي , أهذا واضح؟".
ضمها اليه بقوة , ولم تقوى على مقاومة أغرائه وغابا في عناق طويل.
" أرجو ألا تكوني تتخيلين نفسك مع المحبوب توم كلما لمستك".
" لا أعلم لماذا تكلف نفسك مشقة الزواج مني , فأنت في موقف يخولك أرغامي على تلبية جميع رغباتك دون زواج".
تعجّب راندال لصراحتها وقال:
" قد آخذ كلامك على محمل الجد وأقبل الدعوة المغرية".
" أنا أعني ما أقول".
مرت لحظات طويلة قبل أن يقرر راندال:
" لا يا عزيزتي , عرضك وأن كان مغريا لا يكفيني, لن ترضيني علاقة مؤقتة بك , أنا أريدك الى الأبد لأتمتع بجمالك على مهل".
لم يكن أقتراح لورا الا لأغاظة راندال لكنه أعتبره جديا . أرعبها تصميمه وخبثه وذهابه الى أبعد الحدود.
" عما قريب سأمتلك جمالك يا عزيزتي لورا , وأصبوا الى اليوم الذي أمتلك فيه عقلك".
" لا أعتقد أن هذا اليوم سيحل أبدا , كما أن كلامك على الأمتلاك يجعلك شبيها بسيد يتحدث الى عبده".
" أنت على حق , نويت أن أكون سيدك منذ اللحظة التي رأيتك فيها , شيء غامض يجذبني اليك يا حلوتي , شيء يجعلني غير عابىء بالعالم الخارجي , شيء سيجعلني أنسى جريمة والدك الفظيعة".
" لا أريد سماع أي شيء عن هذا الموضوع بعد الآن".
" حسنا , ما رأيك بالذهاب لأنتقاء الخاتم؟".
" عن أي خاتم تتكلم؟".
" خاتم الخطبة بالطبع".
صعدت لورا الى غرفة والدتها لتعلمها أنها خارجة مع راندال وتركتها بعهدة السيدة نايت.
أصطحبها الى أكبر محل للمجوهرات في لندن, وعرض التاجر أمامهما مجموعة كبيرة من الخواتم الثمينة , بهرت لورا ولم تدر أيها تختار, لكن حسم راندال الأمر وأختار واحدا عليه شعار الأمتلاك , نسخة عن خواتم الرقيق في العصور الغابرة.
" سنشتري هذا الخاتم , أيعجبك يا حبيبتي؟".
لا ضرورة لأن تجيب على هذا السؤال لأن رأيها غير ذي أهمية.
في الأمور المصيرية لم يؤخذ به فلماذا يعتمد الآن؟ عادا الى المنزل بعد أن سدد راندال ثمن الخاتم الباهظ , وفي غرفة الجلوس تناوله من علبته ووضعه في أصبعها , ثم رفع يدها الى شفتيه وطبع عليها قبلة ناعمة وكالعادة شعرت لورا بالرعشة تغمر جسمها , أرادت أن ترى في عينيه تلك النظرة الشغوف التي تشعلها وتذيبها, تلك النظرة التي كانت بداية شقائها عندما تعرف اليها تحت نور مصباح الشارع في ذلك الحي الفقير .
" حان الوقت لتقابلي العائلة , سأوعز الى أمي بأن تحضر حفلة الخطبة , ألى اللقاء".
" الى اللقاء".

safsaf313 12-08-09 10:03 AM


6- الفوز بالرهان

لم تقتنع السيدة هالام بخطبة لورا الى راندال عندما فاتحتها أبنتها بالأمر, هي تعلم أن أبنتها تحب توم نيكول فلماذا قررت الزواج من رجل آخر؟ واضح أن راندال معجب كثيرا بلورا ولكن يبدو أن الأخيرة لا تحفل كثيرا بهذا الأعجاب , السيدة هالام أمرأة ذكية وخبيرة في شؤون الحياة , لا يوجد فتاة تحب كل هذا الحب وتنقلب بين ليلة وضحاها , لا بد من وجود عامل مهم جعل لورا تنسى حبها لتوم وتقرر الزواج من راندال , أخذت الوالدة تتحين الفرصة لمفاتحة أبنتها بالموضوع , لكن لورا كانت تتهرب دائما وكأنها تخفي شيئا خطيرا في نفسها.منتديات ليلاس
تمكنت أخيرا من حشرها وأستجوابها:
" حبيبتي لورا , أتدركين حقا ما تفعلين؟".
أجابت الفتاة بكل ما تملك من قدرة على الأقناع:
" بالطبع يا أمي".
لكن الوالدة لاحظت أضطرابا وأرتباكا في صوت لورا خصوصا عندما زادت:
" لو لم أكن واثقة من نفسي لما أقدمت على هذه الخطوة".
" قد يكون غرّك المال".
" تعلمين أن المال لا يعني لي شيئا يا والدتي , لم أفكر بهذه الناحية أبدا عندما قررت الزواج من راندال".
تنهدت الأم وقالت:
" آمل أن تكون هذه هي الحقيقة, فأنا لا أريد أن أراك تشقين في حياتك الزوجية , بل أريد أن أراك سعيدة مع عائلتك كما أنا سعيدة مع عائلتي....".
دخل عليهما راندال فجأة , وتكلم بنبرة أرعبت الوالدة:
" لا تقلقي يا سيدتي فأبنتك ستسعد معي".
لم تتمكن لورا من أخفاء القشعريرة التي أحست بها, نظرت اليها أمها خائفة, لماذا ترتعد الفتاة اذا سمعت صوت خطيبها؟ أنحنى راندال ليقبل لورا , راقبت السيدة هالام كيف رفعت أبنتها خدها بطاعة وأنصياع وعندما رأت حرارة قبلته وتجاوبها زالت شكوكها وأقتنعت بأن لورا تحب فعلا هذا الرجل.
" أسمحا لي بأن أنسحب فمشاغلي كثيرة اليوم, أعدت والدتي أجتماعا عائليا صغيرا الأسبوع المقبل, أرجو أن تتمكني من الحضور يا سيدة هالام لأن أمي متشوقة للتعرف اليك".
" كن أكيدا يا سيد راندال أن شعوري مماثل".
شعرت السيدة هالام بالفرح يغمرها لأن راندال سيصبح صهرها بعدما تأكدت من أن لورا تطمع في حبه لا في ماله بل تحبه حبا حقيقيا بعد أن رأت تجاوب أبنتها مع قبلته ونظراته الهائمة , في أي حال نصحتها مرارا بأن الحياة مع توم نيكول صعبة بسبب مهنته الشاقة , ويبدو أن لورا عملت بنصيحتها الثمينة".
وضع راندال كل ما يملك من تهذيب ورقة في سؤال:
" هل تسمحين يا سيدتي بأن أمر بعد حوالي الساعتين لأصطحب لورا في نزهة؟".
" بالطبع يا عزيزي , يجب أن تتمتعا بشبابكما , ستأتي السيدة نايت للأعتناء بي".
حضر راندال في الموعد المحدد وفي السيارة بادر بالسؤال :
" لاحظت أن أمك حزينة وغير مرتاحة لزواجنا".
" أمي تعرف أنني أحب توم وتستغرب تبدلي السريع".
قاد راندال السيارة بصمت واتجه الى أحدى المناطق الريفية خارج لندن, وصلا ألى مكان منعزل تنبسط فيه المراعي الخضراء الخلابة , أوقف السيارة بجانب الطريق وأستعد للنزول.
" أحب المشي في هذه المنطقة".
" لكن البرد اليوم قارس , والأفضل البقاء في السيارة".
" يجب أن تتعلمي عدم مخالفة أوامري".
نزل راندال من السيارة فلم تجد لورا بدا من اللحاق به , وسارا في ممر ضيق يقود الى مرج أخضر واسع يرتفع شيئا فشيئا ليشكل تلة صغيرة.
لم يتوقف راندال الا بعد بلوغه أعلى التلة , وصلت لورا لاهثة من التعب والريح الباردة تتلاعب بشعرها الذهبي.
كان المشهد من هناك رائعا , فعلى أطراف المقلب الثاني من المرج تترامى بيوت قرية صغيرة حالمة.
تحول راندال فجأة الى شاعر ملهم:
" لطالما تمنيت أن أبني قصرا على هذه التلة , لأعيش فيه مع شريكة حياتي".
نظرت اليه لورا بخبث وعلقت:
" أراهن أنك تردد هذا الكلام لكل فتاة تصطحبها الى هنا".
" ربما لم أعد أذكر".
كان يعرف أختيار كلماته لتأتي بدقة وجارحة قدر الأمكان , لكن الغريب في الأمر أن لورا شعرت بما يشبه الغيرة عندما تخيلته مع أمرأة أخرى , لماذا تغار على رجل لا تريده؟ تساؤل جديد يضاف الى قائمة تساؤلات لا تجد لها تفسيرا.
طوقها راندال بذراعه فأحست بالدفء يغمرها :
" أقلقة أنت لأنك ستقابلين العائلة؟".
" قليلا".
" لا سبب للقلق, كلهم لطفاء وستحبينهم, الجميع يلاحقونني منذ سنوات كي أتزوج وأخيرا علقت , أصبحوا الآن متحرقين للتعرف الى من تمكنت مني".
" هم لا يعلمون هدفك من الزواج بالطبع , ولا يعلمون من تمكن من الآخر".
" علينا أن نحافظ على الشكليات أمامهم يا عزيزتي, ونظهر بمظهر الزوجين اللذين يحبان بعضهما كثيرا , وخصوصا أمام والدي الذي لا تفارقه فكرة وجود أحفاد وسيسعد أذا أنجبت له حفيدا".
أحمرت لورا خجلا وأدارت وجهها لتتأمل جمال المشهد الطبيعي, نظرت الى البعيد حيث يضفي الضباب على الأفق جوا من الغموض.
تمنت لو بأمكانها الغوص في هذا البحر السحري لتعيش هناك حورية الى الأبد.
أنتشلتها من أحلامها يد راندال التي أخذت تشد على كتفها.
" أنجاب الأولاد هو سبب زواجك مني أذن".
" هو السبب الثاني , السبب الأول تعرفينه".
تسرعت لورا في محاولة لأقناعه بعدم صلاحها لهذه المهمة.
" وسامتك ومالك يسهلان عليك الحصول على فتاة أجمل مني بكثير ".
" لن أدّعي بأنك أجمل فتاة في العالم , لكن فيك شيئا مميزا يجعلني أعرض عن غيرك".
" وما هو هذا الشيء المميز؟".
" لا أعرف , ربما كان ذلك من قوانين اللعبة , فأذا أكتشفته لم يعد له النكهة ذاتها".
" لم أر في حياتي رجلا يعلق مصير فتاة بلعبة يمارسها".
ضحك راندال لملاحظة لورا وقال:
" الأمر غريب فعلا! لكن هذه اللعبة مهمة جدا بالنسبة الي لدرجة تجعلني لا أتخلى عن خوضها".
بعد أن أقترب منها أكثر تابع:
" هل تظنين أن هذه اللعبة تثيرك أنت أيضا؟".
لم تجب لورا بل حاولت أن تحيد وجهها لئلا يقرأ الجواب عليه, أمسك راندال وجهها بيديه القويتين حتى يجبرها على النظر في عينيه:
" لا حاجة لأن تقولي شيئا, هذه اللعبة تعجبك وعليك أن تكوني شريكتي فيها...وأضاف بعد أن نظر الى ساعته الذهبية:
" علينا أن نعود الآن".
في طريق العودة ظلت لورا صامتة تتأمل ما ينتظرها وتحاول تجميل صورة مستقبلها القاتم , راندال بدوره كان يتخيل ما ينتظره من أثارة ومرح ,ما أبعد تفكير الواحد عن تفكير الآخر...
وأن تكن لمسة واحدة من راندال تزيد البعد...
في اليوم التالي أصطحبها لتشتري فستانا خاصا بحفل الخطبة.
أختار لها واحدا يناسب جسمها الرشيق.
حدق راندال فيها بعينين نهمتين وقال :
" أعتقد أنه يناسبك تماما يا حلوتي , ما رأيك؟".
" كما تشاء".
عندما عادا الى البيت أرتدت لورا الفستان لتراه أمها .
" تبدين مالأميرة يا حبيبتي , أليس كذلك يا سيد مرسييه؟".
" أنت على حق يا سيدة هالام وأ لما أفقدتني صوابي بهذا الشكل".
ثم وجه كلامه الى لورا بلهجة آمرة:
" أستديري".
وبخفة فائقة تناول شيئا من علبة يحملها وطوق بها عنقها الناعم, أنعقد لسان لورا من الدهشة , كان عقدا من الزمرد في أطار من الفضة.
" ما رأيك بهذا العقد يا سيدة هالام , ألا يناسب فستان لورا؟".
" ذوقك رائع يا عزيزي , أليس كذلك يا لورا؟".
أومأت لورا بالأيجاب وهي تحدق بأنبهار الى العقد الثمين .
" أعذراني الآن , علي العودة الى المكتب".
أنسحب راندال بسرعة تاركا الأم وأبنتها تتأملان ما أشتراه وتتحدثان عن كرمه , لكن هذا غير كاف ليجعل لورا تسعد في زواجها وليطمئنها على مستقبلها فلربما كان ينصب لها بكرمه مصيدة , لينتقم منها بعد الزواج.
مر الوقت بسرعة بعد ذلك, خصوصا أن لورا مشغولة بالتحضير لحفل الخطبة, وعندما حان الموعد المنتظر , جاء راندال ليصطحبها مع والديها الى منزله , بدا في بزته السوداء وسيما جدا كأنه خارج لتوه من علب الأفلام السنمائية.
كان بيت آل مرسييه يتلألأ بالأضواء ترحب بالعروس الجميلة.
وأستقبلهم رئيس الخدم بتعاليه المعتاد , عندما أراد أن يأخذ معطف لورا سبقه راندال وكأنه لا يريد أن يمس كنزه الثمين أحد, قادهم راندال الى الغرفة الواسعة حيث أقيم الحفل السابق, والضيوف وأن كانوا كثيرين لم ينشغلوا بالتحدث الى بعضهم فالجميع بأنتظار عروس راندال , شعرت لورا بالعيون تتحول أليها وتتفحصها بدقة محرجة.
تقدم منها مرسييه الأب فاتحا ذراعيه مرحبا , رجل نحيل , أبيض الشعر , تجاوز السبعين منذ زمن , وجدته لورا ضعيفا وكأن عظام يده ستتحطم في يدها.
لم يقل والد راندال سوى:
" جميلة حقا".
وبعد أن أعاد الأب الكنز الى أبنه أضاف:
" أنا مسرور جدا بهذا الزواج يا أبنتي , تعالي لأعرفك ببقية أفراد العائلة".
مرت لورا بالجميع تصافح , تبتسم , تستمع الى عبارات المدح... هي مرتبكة , خجول تسمع الأسماء بصعوبة ... على الرغم من صعوبة المهمة تمكنت أخيرا من أنجازها , لراندال شقيقتان متزوجتان , الكبرى نيكول تشبه أخاها كثيرا, في العقد الرابع من العمر , في عينيها سلطة يتبين منها بوضوح أنه تسير شؤون المنزل وأن زوجها ينفذ الأوامر .... بصحبة نيكول وزوجها ولدهما رودي الذي قابلته لورا عندما أعترضها هي وبات تلك الليلة في شرق لندن.
لم يبد على رودي أنه عرفها , أرتاحت لورا لذلك لأنها لم تكن ترغب بأن يعلم أحد بظروف تعرفها الى راندال , أما شقيقة راندال الأخرى أرليت فتشبه والدها كثيرا , رقيقة , ناعمة , لا تملك سطوة راندال أو نيكول , متزوجة ولها أبنتان نيللي وهي فتاة جميلة في السادسة عشرة من عمرها وبربارة فتاة عادية في الثامنة عشرة , أما صهر راندال الثاني جون غراهام فرجل مرح يحب المزاح , سأل راندال بشيء من الخبث :
" يا الله عليك يا راندال , أين عثرت على هذا الجمال؟".
" والد لورا يعمل في شركتنا".
تدخل رودي في الحديث:
" لا تحتكر خطيبتك يا خالي العزيز فالمجال متح لذلك بعد الزواج , وبالمناسبة , هل حددتما الموعد؟".
أجاب راندال ةالأبتسامة عريضة على ثغره رافعا صوته ليسمع الجميع:
" تباحثت مع والدة لورا بالأمر وأتفقنا على أن يكون موعد الزواج في أوائل آذار المقبل".
نظرت نيكول بتعجب الى أخيها:
" أراك مستعجلا جدا على الزواج بعد صيام طويل".
شعرت لورا وكأنهم يعقدون أنها أوقعت راندال في فخ الزواج طمعا بماله , لكن راندال بتصميمه وثقته بنفسه خفف من وطأة نظرات الضيوف المنصبة عليها, أذ قال:
" أنا مستعد لأن أتزوج في هذه اللحظة أذا وافقت لورا , لكن العروس تريد أن تأخذ وقتها في الأستعداد".
بعد قليل أصطحبها راندال الى غرفة أمه التي لم تشارك في الحفل بسبب مرضها.
" لا تتصوري يا عزيزتي لورا كم أنا سعيدة لأنك ستصبحين زوجة راندال , ولكن أريد منك أن تجيبي على سؤالي بصراحة:
: أمستعدة أنت للزواج؟".
أجابت لورا بتررد:
" نعم يا سيدتي".
" ما أعنيه يا لورا هو أنك ما تزالين صغيرة على الزواج خصوصا أن راندال يكبرك بكثير ".
تدخّل الرجل في الحديث غاضبا:
" تتكلمين وكأنني عجوز هرم يا أماه! ما أزال في السادسة والثلاثين".
" وهي في العشرين".
أنهى راندال الحديث بلهجة حازمة:
" سأتزوجها وكفى, لا تحاولي التدخل بعد الآن يا أمي".
" حسنا, أفعل كما تريد, أنما أردت من سؤالي التأكد من أدراك الفتاة لما تقدم عليه".
بدل أن يعودا الى الضيوف أدخل راندال لورا الى المكتبة.
" أتعتبرين الفارق في السن بيننا مهما؟".
أجابت بالنفي لأنها تعلم أن الكلام لا يفيد شيئا مع عناده.
" تعالي ألي".
أقتربت منه فضمها الى صدره وهمس في أذنها :
"سأجد صعوبة في السيطرة على نفسي شهرين آخرين , ألا ينتابك الشعور عينه؟".
تكلمت لورا وفي صوتها بحة :
" أرجول يا راندال, كل شيء في أوانه جميل".
دفعها راندال بقوة :
" حسنا لك ما تريدين, ستنالين خاتم الزواج قبل أن أنال ما أريد , لكن أعدك بأنني سأذيقك أمر العذاب ردا على ما أعانيه الآن!".

مرت الأيام بعد حفل الخطبة سريعة دون أن ترى فيها لورا راندال كثيرا لأن عمله في الشركة كان يمنعه من نخصيص الوقت الكافي لها , أما والدها فتم نقله الى مركز غير حساس , وأقنع جيمس زوجته بأن نقله من وظيفته عملية ترقية تقديرا لجهوده وتفانيه في العمل , تكلفت لورا بعملية التحضير للزواج , تعاقدت مع متعهد حفلات ليؤمن الطعام لحفل الأستقبال الذي سيقام بعد الزفاف, كما أستأجرت قاعة كبيرة في أحد الفانادق لأقامة هذا الحفل, أبتاعت كذلك فستان العرس وبعض اللوازم الأخرى, وأخيرا أتفقت مع شركة لتأجير السيارات لتأمين نقل الضيوف الى قاعة الفندق لحضور الحفل.
لم يرضى هالام أن يساهم ماديا في مصاريف التحضير للزفاف مع أن المال بالنتيجة هو ماله.
قبل أسبوع من موعد الزواج تدرب راندال ولورا على المراسم الدينية , ومرت الأيام الأخيرة بلمح البصر , كانت لورا تأمل خلالها أن تحدث معجزة تجنبها الزواج , ولك تجرؤ أن تطلب من توم مساعدتها خوفا من أفتضاح أمر أبيها.
في الليلة الأخيرة أصطحبها راندال الى العشاء , كان حديثه مقتضبا وجافا , بعد العشاء أوقف السيارة أمام بيتها , وعندما أرادت الخروج من السيارة منعها محاولا تقبيلها , فرفضت بعنف فصفعها على وجهها وأنفجر غاضبا:
" أياك أن تحاولي معارضة أي شيء يحلو لي القيام به بعد اليوم, أذهبي الآن فالأنتقام أصبح قريبا".
ركضت لورا الى المنزل وهي تجهش بالبكاء , شاهدها والدها فأبتسم وقال:
" العشاق يتشاجرون دائما, لا بد أن أقتراب موعد الزواج جعل أعصابك متوترة , هل هذا ما حدث؟".
لم تنتظر لورا نهاية الحديث , بل صعدت بسرعة الى غرفتها وأرتمت على سريرها وهي تتمتم:
" أكرهه, أمقته , حتى والدي لا يساعدني...".
وحل اليوم المنتظر , كان الجو مشرقا والسماء صافية , أعدت لورا نفسها لحفل الزفاف وأتجهت بسيارة فخمة مع والديها الى مكان الأحتفال.
بعد أنتهاء المراسم الدينية أتجه العروسان وجميع الضيوف الى قاعة الفندق حيث أقيم حفل الأستقبال.
أخذت لورا تبحث عن توم الذي بدا يائسا وحزينا , فأبتسمت له كأنها تطيب خاطره وتبلغه أن الآوان فات ولم يعد بالأمكان أنقاذها.
أحست لورا بيد راندال تمتد الى عنقها لتخطف سلسلة ذهبية تتدلى منها حلية على شكل قلب.
" أنها هدية من أمي".
" أريد أن أرى ما في داخل القلب, لا بد أن فيه صورة لشخص عزيز".
فتح راندال القلب فأذا بصورة توم تطالعه ففتح أحدى نوافذ القاعة ورمى بالسلسلة خارجا .
حاولت لورا الأعتراض:
" قلت لك أنها هدية من أمي".
" لا أريد أن يخيم شبح رجل آخر على حياتنا , أياك بعد اليوم أن تقتني أي شيء يشير الى الطبيب المحبوب!".
بعد أن تناول الجميع الطعام أزيحت الطاولات لأفساح المجال لأقامة حلقة للرقص.
لبست لورا قناع السعادة فرسمت على وجهها أبتسامة مصطنعة لتخفي حقيقة مشاعرها وأخذت ترقص مع راندال , بعد الرقص أتجه العروسان الى زاوية من القاعة حيث وضعت الهدايا, لاحظ راندال أن عيني لورا توقفتا كثيرا عند هدية معينة , حملها بيده فوجد عليها اسم توم نيكول, كانت زهرة من الكريستال مثبتة في أناء فضي فقال:
" يا لها من زهرة رائعة , علينا أن نشكر توم يا لورا".
فجأة أوقعها من يده فتحطمت شر تحطيم , ضجت القاعة بأصوات المتأسفين من الضيوف على ضياع الهدية , فسارع راندال الى القول:
"يا لحماقتي ! لا تهتمي يا حبيبتي سأبتاع لك واحدة مثلها تماما".
أحست لورا أن قلبها تحطم لا لزهرة الكريستال , رأت توم شاحبا يحاول ضبط غضبه , رمته بنظرة حنونة فأبتسم رغما عنه وأخذ يهز رأسه مؤاسيا.
همست السيدة هالام في أذن العروس:
" حان الوقت لتغيري ثيابك".
عندما أصبحت لورا مع والدتها في غرفة جانبية رغبت في البكاء والأرتماء في حضن أمها.
تباطأت كثيرا في تبديل ملابسها لتبعد قدر الأمكان عن راندال.
عانقت أمها طويلا قبل أن تخرج الى القاعة, كان راندال بأنتظارها وقد أرتدى بزة عادية مريحة.
تجمع الضيوف ليبلغوا العروسين تمنياتهم , أمسك راندال بيدها وشق طريقه وسطهم الى السيارة.
أنطلقت السيارة فنظرت لورا من الزجاج الخلفي ورأت توم يقف وحيدا والحزن باد على وجهه.
مرت دقائق دون أن يتكلم أحدهما أل أن بدد السكوت صوت راندال الهادىء:
" سنذهب الى البندقية , المدينة الأيطالية العائمة, البندقية هي مدينتي المفضلة , وأنا واثق أن شهر العسل سيكون ناجحا".
" بالطبع".
قالت لورا ذلك وقلبها يقطر دما على هدية توم المحطمة , لن تتمكن من محو خطيئة راندال هذه من مخيلتها أبدا...
توجها بالطائرة الى البندقية حيث كانت بأنتظارهما في المطار , تنفيذا لأوامر راندال سيارة فخمة , وأنطلقا الى الفندق فوصلاه في موعد العشاء, بالكاد لمست لورا الطعام لأن الجوع حاجة بعيدة جدا عنها في هذا الوقت , بدده تعب السفر مضافا الى حادث هدية توم... الى زواجها من راندال وقد بدأت تعي الآن الحقيقة المرة لأن الأمور تسارعت قبل الزواج بشكل لم يتح لها المجال للتفكير بخطورة هذه الخطوة, بعد العشاء صعدا الى جناحهما الفخم, تفاجأت لورا بكلمات راندال:
" تبدين متعبة وبحاجة الى النوم, سأذهب للتنزه قليلا لعل الصداع الذي أصابني يزول".
تنفست لورا الصعداء بعد ذهابه , أخذت حماما سريعا وأوت الى الفراش , أخذت تصلي كي تنام بسرعة فتتجنب راندال , أخيرا زحف الكرى الى جفنيها فغطت في نوم هادىء مريح...
فجأة أفاقت على صوت الباب يفتح وراندال يدخل الغرفة, تظاهرت لورا بالنوم في حين تقدم منها راندال , ووقف قرب السرير يراقبها فبذلت مجهودا كبيرا لتبقي عينيها مغمضتين.
دخل راندال الى الحمام فسمعت لورا صوت المياه وبعد دقائق أحست به يتمدد قربها على السرير فتجمد الدم في عروقها ولم تعد تقوى على الحراك.
لم يتحرك راندال بادىء الأمر فظنت أنه تعب وسينام , لكنها أحست يده كالسوط على كتفها , تحسس راندال قميص النوم الطويل الذي ترتديه , فقال:
" أرتديت هذا القميص لتطفئي رغبتي , يا لك من واهمة!".
لم تجب لورا فأستشاط غيظا ونهرها بعنف:
" واجهيني أيتها الغبية , أتظنين أن بأمكانك التهرب من أتمام واجباتك كزوجة؟".

safsaf313 12-08-09 10:05 AM


7- عسل البندقية

فتحت لورا عينيها على غرفة مليئة بأشعة الشميس الدافئة , وعلى شعور بالفرح والخفة كأنها تسبح في الهواء فوق بساط الريح, أخذت تتأمل راندال وهو نائم, ما هي حقيقة هذا الرجل؟ أنسان غريب دخل حياتها وقلبها رأسا على عقب , جعلها تكتشف في شخصيتها أشياء جديدة كانت مخبأة خلال علاقتها بتوم , عرفها على مظاهر أخرى عذبة للحب تمنت لو ظلّت بعيدة عنها.منتديات ليلاس
مدّ راندال ذراعه دون أن يفتح عينيه أو ينبس ببنت شفة وجذبها اليه واضعا رأسها على صدره العريض.
" نمت جيدا كطفل تعب من اللعب يا حبيبتي".
" كيف تعلم ذلك؟ أترى وأنت نائم؟".
" أفقت منذ زمن طويل وتمتعت بمراقبتك بحرية تامة".
" ما هو برنامجنا اليوم؟".
أجابها وفي عينيه بريق عابث:
" سنبقى في هذا السرير المريح فأنا لا أرى سببا لمغادرته ".
تجاهلت لورا كلامه وكأن حقيقة الأمس حلم جميل مرّ:
" أريد أن أكتشف البندقية ومعالمها".
" البندقية لن تهرب منا, الوقت أمامنا كاف للتعرف اليها, أما أنت فليلة واحدة لا تكفي لأكتشافك".
شرعت لورا في محاولة جديدة لسحبه من السرير :
" أتضوّر جوعا , ما رأيك بتناول الفطور؟".
أخذ راندال يداعب وجهها وقال ضاحكا:
" الفطور! ما هذه الأهتمامات السخيفة؟ لديّ الآن أمور أكثر خطورة, هذه البشرة الحريرية مثلا".
مرة جديدة أستسلمت لورا ليديه ونسيت أمر الفطور...
لم يخرج العروسان من الغرفة, الا عند الظهر , تناولا بنهم طعام الغداء في مطعم الفندق الفخم.
" يبدو أن الغرام يفتح شهيّتك الى الطعام يا أميرتي".
أ أخفض صوتك لئلا يسمعنا أحد".
" ألا يحق لي أن أتكلم عن الغرام مع زوجتي؟ الأيطاليون يتفهمون العاشقين أكثر منا نحن الأنكليز".
يتكلم راندال عن الغرام والعشق كأنه واثق من أن لورا مغرمة به الى أذنيها.
" هل بأمكاننا الخروج للتفرّج على البندقية الآن؟".
" ولم لا يا عروسي الحلوة؟ سنبدأ بنزهة في الجندول فهو الأطار الرومانسي المناسب لعروسين في شهر العسل".
ألتهمت لورا بعينيها روعة قصور البندقية التي تحيط بجانبي ( الغراند كانال) فيما يشق الجندول المياه الجارفة في وسط المدينة.
قصور لم تفقدها السنون شيئا من جمالها , صورها المنعكسة على صفحة المياه تضفي عليها جوا حالما تخيّلت لورا معه أنها تعيش في القرون الوسطى...
أشار راندال الى أحد هذه القصور وقال:
" لي صديقة تعيش هنا".
" من هي هذه الصديقة؟".
تكلمت لورا بنظرة ملحة فنظر اليها راندال بتعجب:
" أرملة أميركية ثرية , باعت معمل الورق الذي كان يملكه زوجها وأتت لتعيش هنا حياة مشرفة".
لم تتمكن لورا عندما تكلمت من أخفاء شعورها بالغيرة :
" ما أسمها؟".
" أنطوانيت بيل فرنسية الأصل مولودة في الولايات المتحدة".
" وهل هي جميلة؟".
وجهت سؤالها متظاهرة باللامبالاة لكن راندال عرف أن الغيرة تنهشها.
" جمالها يسلب الألباب وقد سنحت لي الفرصة للتمتع به".
كانت لكلماته أثر السكين في قلبها , تمالكت نفسها وأقترحت:
" من واجبك أن تزورها ما دامت صديقة قديمة وعزيزة على قلبك".
فوجئت لورا لقبوله السريع بالفكرة , أذ قال:
" فكرة حسنة , سأخابرها عندما نعود الى الفندق".
ترجل العروسان في ساحة بيازا سان ماركو حيث ترافق طيور الحمام المتنزهين دون خوف من وحشية الأنسان.
" ما أجمل هذه الطيور يا راندال خصوصا أنها لا تخاف من أذى البشر مع أن الأنسان عدو لأخيه الأنسان, فكم بالحريّ يكون موقفه أتجاه الحيوان؟".
" موقف الأنسان يختلف من عدائية الى محبة حسب معاملة الآخرين له , وموقفي منك هو أكبر مثال على ذلك, عاملتني بعدائية فرددت لك الكيل كيلين الى أن رضخت لمشيئتي".
جلسا في مقهى يعج بالسيّاح يتناولان عصير الليمون.
تنهدت لورا وقالت بحسرة:
" لو كنت حمامة لتمتعت بعطف الجميع ورعايتهم!".
" تتمنين ذلك لتفلتي مني وتطيري مني الى حبيبك توم , أليس كذلك؟".
" لا تذك أسم توم على لسانك , أنسان نبيل وأحبه , أنت تسلم بهذه الحقيقة ولكن لا سبب لتفتيق الجروح في كل مناسبة".
" سأنسيك يوما هذا الحب".
" حلم بعيد المنال".
تجولا قليلا في أسواق المدينة حيث أشترى راندال بعض التحف البديعة.
وعادا الى الفندق بعد أن أنهك التعب قدمي لورا الناعمتين.
أنشغل راندال بمخاطبة الأرملة الأميركية أنطوانيت وبعد دقائق خرج الى الشرفة ليوافي لورا وهي تتأمل المدينة تنزلق في ظلام الليل.
" هل كلمتها؟".
" نعم, وقد دعتنا الى حفل تقيمه في قصرها الليلة , أتساءل أذا كان بأمكاننا تناول العشاء باكرا لنذهب بعد ذلك الى الحفل".
" وما مناسبة السهرة؟".
" لا مناسبة خاصة, فأنطوانيت تقيم الحفلات للتسلية فقط".
وأضاف راندال مبررا:
" ظننت أن فكرة زيارة قصر قديم تثير أهتمامك فقبلت الدعوة".
" كما تشاء, لنبدل ثيابنا وننزل الى المطعم أذن".
في المطعم , حيث الرواد قليلون في هذا الوقت المبكر, أمضى العروسان معظم الوقت بالتحدث عن معالم مدينة البندقية وعن مشكلتها المستعصية فالمدينة تغوص سنويا في الماء بعض المليمترات مما سيؤدي الى دمارها خلال بضع مئات من السنوات.
" من الصعب يا لورا أن أتصوّر العالم من دون البندقية , يجب فعل شيء قبل فوات الآوان".
" لا أعتقد أنه من الممكن أيجاد حل لهذه المشكلة , المدينة تسير نحو مصيرها المحتوم".
بعد نصف ساعة خرجا من الفندق للتوجه الى قصر السيدة بيل , كان الجو رائعا والدفء تتخلله نسيمات منعشة , أنه الطقس المثالي للتنزه في الليل , فأستغل كثيرون الفرصة وأنتشرت الجندولات في المياه تجعل أنوارها ليل المدينة براقا متلألئا.
كان قائد الجندول ماهرا يجري به فوق الماء بخفة غريبة.
أوصلهما بسرعة الى الرصيف الخاص بقصر المضيفة , على الدرج المؤدي الى المدخل تعثرت لورا فأحتضنها راندال لئلا تقع في الماء.
مجرد ملامستها جسمه لثانية جعلها ترتعش وترتبك.
كانت تنبعث من القصر ألحان الموسيقى الأيطالية الحالمة , وتتلألأ فيه أضواء فرحة.
أنطوانيت بيل أمرأة في الخامسة والثلاثين, كستنائية الشعر, خضراء العينين , ممشوقة القوام , فيها كل المقومات الكفيلة بأدارة رؤوس الرجال.
لم تجد المرأة حرجا في معانقة الصديق العزيز بحرارة.
" عزيزي راندال , كم أنا مسرورة لرؤيتك! أين كنت في المدة الأخيرة؟".
" تعلمين يا أنطوانيت مشاكل العمل والزواج...".
قاطعته المرأة:
" ولا ننسى الزواج! أخيرا طلّقت العزوبة بعد أن كنت مصرا على عدم الأقدام على هذه الخطوة".
" أعرّفك بزوجتي لورا".
تفحصت الأرملة الأميركية لورا بعينين فضوليتين:
" يا لها من دمية رائعة! أحسنت الأختيار يا عزيزي".
" أخترتها طفلة لأحسن تربيتها".
" مسكينة لورا لو عرفتك على حقيقتك لما تزوجتك".
وأضافت المرأة بعد أن كادت رنة ضحكتها تزعزع أركان القصر القديم:
" تفضلا لأعرفكما ببقية الضيوف".
تبعتهما لورا حانقة بعدما أحست أنها غير ضرورية لراندال بوجود الأرملة الطروب , في الغرفة الأنيقة حيث تبعثر الضيوف, البعض يرقص , البعض يأكل والبعض الآخر يتحدث , أمسكت أنطوانيت بيد لورا وقادتها الى مجموعة من الشبان الأأيطاليين .
توجهت الى أحدهم بالقول:
" أعرفك بلورا التي تحب الرقص".
طريقة ذكية للتخلص من الأشخاص غير المرغوب فيهم.
أستسلمت لورا لقيادة ذراعي الشاب الوسيم الذي لا يكبرها كثيرا , بينما أبتعد زوجها والأرملة الى زاوية أخرى من الغرفة.
" لم تذكر أنطوانيت لي أسمك".
أجاب الشاب وفي صوته رنة مرحة:
" أدعى جيان كارلو , أدرس الهندسة المعمارية , فالبندقية تقدم مواضيع عديدة للدرس في هذا المجال نظرا لكثرة القصور التاريخية فيها".
" أنت على حق , البندقية مدينة رائعة".
" لكنها لا تزيد روعة عنك".
ضحكت لورا ونظرت في عينيه اللامعتين :
" حذار يا جيان كارلو فأنا ما زلت في شهر العسل".
بدت على وجه الشاب أمارات الخيبة والأستغراب:
" أنت متزوجة؟ ولكن أين عريسك؟".
أشارت الى راندال المشغول بأحاديث مضيفته الفاتنة , في هذه اللحظة ألتفت راندال صوبها فهربت من نظراته.
" هذا زوجك ؟ أنا أعرفه...".
فجأة أحمرّ وجه الشاب وقطع حديثه كأنه أفشى سرا خطيرا .
" تعرفه جيدا لأنه صديق قديم لأنطوانيت على ما أعتقد".
" نعم".
أجابته المقتضبة تدلّ على أنه يعرف عن راندال أكثر من ذلك.
يعرف أشياء لا يجب أن تطّلع عليها لورا.
فيما هما يتنقلان راقصين في الحلبة لمحت لورا زوجها وأنطوانيت في موقف عاطفي , أذ كانت المرأة تضع يدها على كتفه ورأسها على صدره , ثم رأت راندال ينحني نحو خدها... لكنها لم تتمكن من مشاهدة الباقي أذ قادها جيان كارلو بخطواته الرشيقة الى حيث لا يمكنها أن ترى المشهد المثير...منتديات ليلاس
لكن ما رأته كاف لتأكيد ظنونها , العلاقة بين راندال وأنطوانيت حميمة جدا, ترى كم علاقة لزوجها من هذا النوع؟ في أي حال لماذا التفكير في هذه الأمور ما دامت لا تحبه ؟ لكنها تضايقت لتصوّرها زوجها في أحضان أمرأة أخرى.
تقدم من لورا وجيان كارلو شاب أيطالي آخر أستأذن زميله وحلّ محله في الرقص, لنصف ساعة تنقلت لورا في الحلبة من ذراعي شاب الى ذراعي آخر, أستمتعت كثيرا بصدهم وتحاشي مغازلتهم, خصوصا أن ذلك زادها ثقة بجمالها , قادها أحد الشبان الى مقعد مريح وأحضر لها بعض الفواكه المنعشة . جلست تدردش مع الشاب الظريف الى أن جاء راندال .
أبتسم للشاب , وأستأذنه :
" أتسمح لي بمراقصة زوجتي؟".
بهت الشاب وأنسحب متحسرا على ضياع جهوده المضنية في مغازلة لورا .
لا أحد يراها ويصدق أنها متزوجة ... وخصوصا من راندال.
رقص الأثنان بصمت ليستمتعا بعذوبة الموسيقى ورقتها , شعرت لورا بالأرتياح لوجودها مع راندال , شعرت بأنها مع رجل حقيقي , يعرف كيف يعامل المرأة , لا كأولئك الشبان غير الواثقين من أنفسهم, الذين يحاولون بشتى الكلمات المعسولة أنتزاع أعجاب فتاة, راندال ليس بحاجة لهذه الطرق فهو يطرق الموضوع مباشرة دون لف ودوران , هذه الوقاحة تجعله مميزا عن غيره من الرجال خصوصا عن توم الخجول , سألته بشيء من الألحاح:
" ألى أي حد عميقة هي علاقتك بأنطوانيت؟".
" لماذا تسألين؟".
" مجرد فضول".
" فضول أو غيرة؟ ربما لم تحسني أختيار الكلمة".
أنتهت الرقصة لحسن حظ لورا دون أن تضطر للأجابة على ملاحظة راندال , تقدما من أنطوانيت وقال راندال:
" أتسمحين لنا بالأنصراف الآن يا عزيزتي ؟ أنا مصاب بصداع قوي وبحاجة الى الراحة".
" الخسارة أن تنصرفا باكرا , لكن أفعل ما تشاء يا عزيزي راندال فالمهم أن تبقى مرتاحا".
ودعتهما المرأة كما أستقبلتهما بحرارة , طابعة قبلة طويلة على خدّ الصديق القديم.
حاولت لورا طوال الطريق أن تخرق صمت راندال لتعرف ماذا يدور في خلده , لكنه كان جامدا كالصخر لا يعبّر وجهه عن شيء.
عندما أصبحا في الغرفة سألته:
" أأحضر لك قرصا مهدئا؟".
" ما الداعي لذلك؟".
" قلت بأنك مصاب بالصداع".
" كانت كذبة لأتهرّب من الحفل, ألم تدركي ذلك يا ذكية؟".
" ولماذا تتهرّب من حفل مثير , كنت تتمتع فيه كثيرا؟".
نظر اليها بمكر مدركا قصدها وقال:
" صحيح أن الصحبة هناك ممتعة لكنها لا تساوي شيئا أمام وجودي معك".
أقترب منها وأخذ يداعبها بيديه فشعرت بالحرارة تغمرها فطال العناق وطاب...
فيما هما مستلقيان سألته:
" هل كانت أنطوانيت حبيبتك في يوم من الأيام؟".
" أيزعجك ذلك؟".
" كلا, فنحن أتفقنا على أن نطرح مشاعر قلبينا جانبا ونقصر علاقتنا على الجانب المادي , فلماذا أنزعج؟".
أخذت لورا تتحرّى أنفعالات وجهه لكنها لم تلحظ تغيرا في ملامحه.
غريبة أطوار هذا الرجل الذي لا ينفعل أبدا.
" أنت لا تأبهين لكون أنطوانيت حبيبة سابقة أذا, ولا تحفلين أذا عانقتها كما أعانقك , كاذبة أنت وفاشلة في أخفاء أهتمامك , شعورك بالغيرة يقرأ على جبينك بوضوح فاضح".
" الغيرة؟ أنت تضحكني حقا يا راندال , كيف أغار على رجل لا أحبه؟".
فاشلة حقا هي لورا في الكذب لأنها تدرك وهي تتكلم أن صوتها يخونها ويظهر حقيقة ما تضمر لا ما تقول.
هذه الحقيقة كشفت لها بمرارة أنها وقعت في شرك غرامه بطريقة تجهلها , القاعدة تقول أن الفتاة تعجب بالرجل ويتطور الأعجاب الى حب.
لكن الأمر مع راندال مختلف , فالكره الشديد أنقلب حبا لا بل هياما.
ما أغرب لعبة العواطف فهي لا تمشي على قاعدة ولا تتبع أصولا!
ثم شرعت في محاولة أقناع ذاتها أنها لا يمكن أن تغرم براندال, أستعرضت في ذهنها كل أفعاله القبيحة , تحرّشه بها في الليلة الأولى , ملاحقتها في الحديقة , وقاحته في بيته عندما أقيم الحفل الأول , أقتحامه حياتها العائلية , أبتزاز والدها بشكل سافر وأخيرا لا آخرا تحطيم هدية توم... مع ذلك فشلت في أيجاد صيغة تكرهه فيها , صحيح أنها كانت تمقته في السابق الى درجة تمنت معها أحيانا موته, لكن السحر أنقلب على الساحر , وصار الكره حبا والبغض هياما.
السؤال يبقى ما هي حقيقة شعور راندال نحوها؟
أمن المعقول أن لا يهتم ألا بقطف ثمار جمالها وصباها؟ هو لم يظهر حتى الآن ما يدل على غير ذلك , ولم يتوان عن صفعها مرة لينال مأربه , لا يعقل أن يكون مجردا من الأحساس وقاسيا الى هذا الحد , قطع حبل تفكيرها صوته:
" بماذا تفكرين؟".
" بشيء قاله جيان كارلو".
" ومن جيان كارلو ؟ الأيطالي الذي كان مهتما بتقديم الفاكهة لحضرتك أم غيره؟".
" لا ,. هو الشاب الوسيم الذي راقصني في أول الحفل".
" لا أحفل بما قاله جيان كارلو , ما يهمني هو ألا تفكري بأي رجل عندما تكونين معي , هل أعيد هذا الكلام من جديد؟".
أمسك برأسها وضمه الى صدرها بقوة حتى كاد يسحقه.
حتام تحتمل رجلا لا يعني له الحب شيئا آخر غيلا الجانب المادي؟ أنه وضع لا يطاق والله وحده يعلم كيف ستخرج منه...
مكث العروسان في البندقية أسبوعين , زارا خلالهما كل المعالم السياحية من قصور ومعابد ومتاحف , أعجبت لورا بأحد القصور بشكل مميز , كان فيه سحر خاص ونكهة غامضة, وقفت تتأمل الحفر في الجدران واللوحات البديعة.
" أين يشرد خيالك يا حبيبتي؟".
" أتصور نفسي أعيش هنا مع فارس أحلامي في القرون الوسطى, في تلك الأيام كانت الحياة بسيطة سهلة".
في كلامها أشارة واضحة الى توم تجاهلها راندال وسأل:
" ما الذي يجعلك تعتقدين ذلك؟".
" لا أدري ربما يصبو الأنسان دائما الى أفضل مما هو فيه".
رأت في نظراته عندها بريقا شريرا أرعبها فعدلت عن متابعة الكلام, أكتفى راندال بهز رأسه مخبئا المفاجآت للوقت المناسب.
في تتابع الأحداث وتطور مسار احياة , صارت لورا تتعلق براندال لا شعوريا , لم تعد تفكر بتوم أو بوالديها , أصبح محور أهتمامها الوحيد زوجها , لكنه لم يبد أتجاهها أدنى عاطفة بل كان يعاملها كشيء ثمين يقتنيه ويحافظ عليه, أكتشفت لورا فيه جوانب كثيرة حسنة : لطيف ودمث الأخلاق خارج العلاقة الزوجية , مثقف ومحدث ناجح, كريم بلا حدود يغدق عليها الهدايا لتكون سعيدة ... كل ذلك بشرط أن تلبي رغباته , في اليوم الأخير تكاسل راندال ولم يرغب في النهوض من السرير.
" علينا أن ننهض لنحضر حاجات السفر".
" أفهم من ذلك أنك مللت مني يا حلوتي؟".
" لم أقل شيئا من هذا النوع ولكنني لا أرغب في أن تفوتنا طائرة لندن".
" لا تقلقي فسأستأجر لك طائرة خاصة أذا أضطرّنا الأمر".
كانت لورا تعلم بأن كلامه جدّي فهو لا يجعل أي عقبة تعترض طريقه.
بعد الظهر ركبا الطائرة وعادا الى لندن لبدء رحلة الحياة الزوجية الحقيقية ولتبدأ لورا رحلتها مع المجهول.

safsaf313 12-08-09 10:06 AM


8- في منزل الزوجية

أنطلق راندال بسيارته السوداء الفخمة بعد أن ترك السائق في المطار يتدبر أمر عودته , متجها الى منزله في حيّ مايفير, أسفت لورا لترك مدينة البندقية المشمسة والفرحة والعودة الى طقس لندن الضبابي الكئيب.منتديات ليلاس
تبدلت صورة راندال منذ أن حطت الطائرة في لندن, عاد ذلك الشخص الغريب المتجاهل وجودها, الشارد في أمور أخرى أكثر أهمية ربما, لورا بالنسبة أليه راحة وارفة الظلال يرتاح فيها من عناء العمل , عندما لا يكون محتاجا اليها يطرحها جانبا ولا يعود يلتفت اليها, تمنّت لو بقيا في البندقية حيث أغدق عليها حنانه وأهتمامه, وحيث لم يكن يرى في العالم غيرها , المرأة تحب أن تكون محور أهتمام الرجل, هذا جزء من طبيعتها المتطلبة.
أرادت لورا أن تكسر الجليد فقالت:
" لماذا تركت السائق المسكين في المطار؟".
" لا تخافي عليه , سيتدبر أمر العودة الى المكتب وسيضيف المصاريف الى راتبه".
" أتعامل مستخدميك كلهم بنفس الطريقة؟".
قطّب جبينه وأجاب:
" الموظفون في جدمتي لا أنا بخدمتهم , ينفذون أوامري دون نقاش والا فليتركوا العمل, ولا تنسي أنني أدفع لهم كي ينفذوا الأوامر".
عندها زلّ لسانها وكشفت أمرا كفيلا بوضع أبيها في أزمة:
" لا عجب في تسمية أبي لك...".
الحقير مرسييه".
" كنت تعلم أنه يدعوك هكذا؟".
" كل ما يحصل في الشركة يصل أليّ يا عزيزتي والا لما تمكنت من السيطرة على الموظفين ولوصلنا الى الخراب".
أكملا طريقهما صامتين وغرقت لورا في تأمل الطبيعة الأنكليزية الحزينة المتناقضة مع عظمة البندقية الزاخرة بذكريات المجد الرنانة .
عندما دخلا قلب المدينة بشوارعها المزدحمة بالسيارات والمارة الراكضين , اللاهثين يفتشون عن لقمة العيش , شعرت لورا بأنقباض كبير , أحست بالمدينة ضيقة تخنقها , وتمنت لو تستطيع العودة فورا الى البندقية , ثم أخذت تتخيل رتابة الأيام الآتية , الحياة المنزلية اليومية تتكرر دون طعم ولا رائحة , حياةلا يلونها الا شعور مجهول يشدها نحو الرجل الجالس بجانبها, حياة يزيدها مرارة حنين الى حبيب مفقود وقلق على أم مريضة .
أتفق راندال مع والديه على أن يسكن ولورا معهما في المنزل نفسه الى أن يتدبر بيتا مناسبا له ولعروسه , ولذلك خصصت السيدة مرسييه الطابق الثاني لهما وجهزته تجهيزا كاملا .
كون لورا أصبحت السيدة الجديدة في المنزل لم يغير شيئا في ملامح وجه رئيس الخدم عندما أستقبلهما ببروده المعتاد , في غرفة الجلوس كان والدا راندال بأنتظارهما.
" كم تبدين جميلة بعد شهر العسل يا عزيزتي لورا !".
" شكرا يا سيدة مرسييه ".
ثم وجهت لورا كلامها الى والد راندال :
" كيف حالك يا عمي؟".
" في غاية الشوق الى العروسين الرائعين".
كانت السيدة مرسييه تتحرّق شوقا لتري لورا هي وراندال جناحهما الخاص في القصر.
" أقترج أن تصعدا الى الطابق الثاني لتتفرجا على عشكما الزوجي".
" أنا واثقة من أنه سيعجبنا ما دام من أبداع ذوقك الرفيع, ألا توافق معي يا راندال؟".
أجاب دون حماس:
" بالطبع, أمي خبيرة بفنون الديكور".
دهشت لورا لجمال غرفة النوم , غرفة واسعة, مفروشة بسجاد أزرق, الجدران بيضاء مخططة بخيوط ذهبية , السرير والمقاعد الثلاثة من الطراز الفرنسي القديم , منضدة التزيين لا تقل بهاء عن باقي الأثاث, جلست لورا على كرسيها المغطى بالحرير وتأملت أدوات التجميل المختلفة الموضوعة عليها.
" أشعر وكأننا في غرفة أحد ملوك القرن السابع عشر".
لم يعلّق راندال بل رمى سترته على السرير ودخل الى الحمام المتصل بالغرفة , سمعت لورا صوت المياه تجري على جسمه القوي وتمنت بقاءه أطول وقت ممكن بعيدا عنها , بعد قليل خرج أكثر أنتعاشا بدليل الأبتسامة المرسومة على شفتيه.
تناول زجاجة عطر فرنسي وقال:
" ضعي قليلا من هذا العطر".
أنصاعت لورا لأمره , فأقترب منها وأستنشق العبير الطيب .
" يا لها من رائحة ناعمة تناسب أميرتي الصغيرة ".
" أتعتقد أنها تناسب أنطوانيت بيل؟".
" ما الذي ذكّرك بها؟".
لم تفصح له بالطبع أن الغيرة ذكرتها بالأرملة الأميركية فأجابت:
" أتخيّل أنطوانيت تضع عطورا أقوى من هذا".
" لا عجب في ذلك لأنها أمرأة معقدة, والأنسان المعقد لا يحب العطور البسيطة الناعمة".
" لماذا تعتبرها معقدة؟".
" لأنني لا أحب المرأة التي تدّعي الوجاهة , والتي تعتقد أن غناها يجعلها أفضل من الآخرين".
أكتشفت لورا فيه صفات تجهلها فقالت له بشيء من الأستغراب:
" أتعني أنك أنسان متواضع؟".
" أنا أنسان واقعي أفخر بحسناتي وأعترف بسيئاتي".
" وما هي سيئاتك؟".
رمقها بنظرة متعالية لا تمت الى التواضع بصلة وقال:
" سيئاتي لا تعتبر شيئا أمام حسناتي , أليس كذلك؟".
وافقت لورا بسخرية :
" بالطبع , ثم أضافت , وما رأيك بي؟".
" أعتبر أنني أحسنت الأختيار- وأردف بعدما نظر الى ثيابه- بدّلي ثيابك بسرعة فوالدي دقيق في المحافظة على موعد العشاء".
أختارت لورا ثوبا بسيطا وأتجهت الى الحمام لأنها تشعر بالحرج اذا بدّلت ملابسها أمامه, أوقفها راندال بغضب:
" ألى أين ذاهبة؟".
" أريد أن أغتسل قبل النزول".
" حجة واهية , لم أر في حياتي أمرأة تخجل من تبديل ملابسها أمام زوجها".
تجاهلت كلماته وفرّت من نظراته القاسية , عندما خرجت وقف راندال يتأملها:
" رائعة حقا!".
أختارت لورا فستانا محتشما يجعلها تبدو صغيرة في السن , وأحاطت عنقها بعقد من اللؤلر يناسب تماما لون الفستان .
" تبدين خارجة لتوك من المدرسة".
" ألا تعجبك ملابسي؟".
أنصرفت لورا الى تصفيف شعرها دون أن تنتظر جوابا لن يأتي , وتعمدت أطالة القوت لتؤخر قدر أستطاعتها النزول الى العشاء . فهي خجولة جدا ووجود راندال ووالدته في آن واحد مؤثر عليها جدا لما يبديانه من ملاحظات دقيقة ويقولانه من كلمات جارحة .
كان شهر العسل فترة بديعة مختلفة , أما الآن وقد عادت الى الحقيقة فقد وجدت أنه من الصعوبة بمكان تحمّل حياتها الزوجية قبل أن ننزل أريد ألقاء نظرة على باقي الجناح".
" حسنا ولكن بسرعة لئلا ينفذ صبر والديّ".



أكثر ما أعجب لورا في الطابق الواسع المطبخ الصغير المجهز بأحدث اللوازم والمطلية جدرانه بألوان فرحة ومبهجة , سرّت كثيرا بهذا المطبخ لأنها ستتمكن فيه من ممارسة هواية الطهي ولا تبقى عاطلة عن العمل كباقي النساء الثريات , يبدو من التجهيز الممتاز لهذه الشقة أن راندال يخطط للبقاء بصورة دائمة في منزل والديه , هذه الفكرة لم ترق للورا كثيرا لأنها تفضل الأستقلال في منزل تكون سيدته ومدبرة شؤونه , فالسيدة مرسييه لن تسمح لأحد غيرها بالقيام بهذه المهمة ما دامت موجودة, هذا لا يعني أن لورا لا تحب والدي راندال , لكن أي عروسين يفضلان أن يتمتعا بمنزل خاص يبنيان فيه حياتهما العائلية.



كان الزوجان مرسيه بأنتظارهما على الطاولة , قال الأب وعيناه على الساعة الكبيرة المعلقة على الحائط:



" نزلتما في الموعد المحدد".



كانت السيدة مرسييه تجلس على كرسي بعجلات تراقب لورا بعينين فاحصتين:



" ما رأي لورا بالشقة؟".



أجابتها العروس بخجل:



" لا أدري كيف أعبر عن أعجابي وأمتناني لك يا سيدة مرسييه, الكلمات لا تكفي لأشكرك".



" لم أفعل سوى الواجب يا أبنتي, ولا تعتقدي أنني جهزت لك مطبخا مستقلا لتنفصلي عنا, على العكس فنحن نريدكما بقربنا دائما , لكن لربما أحببت أن تعدي أكلة معينة أو شعرت بحاجة الى الأنفراد قليلا...".



" لا أعرف كيف أرد لك الجميل يا سيدتي".



تدخّل الأب مؤكدا :



" مجرد كون ولدنا سعيدا الى جانب زوجته يكفينا يا عزيزتي لورا".



أضافت والدة راندال وكأنها تطمئن لورا:



" لا بد أن راندال سيتأخر في كثير من الليالي ليعود الى المنزل , فلا تشعري بأي حرج وتبقي نفسك سجينة الوحدة , بل أنزلي ألينا فنحن نسر كثيرا بصحبتك".



رمق راندال والدته بنظرة حادة وقال:



" لا تبدأي بالكلام وكأنني هجرت زوجتي يا أماه , فنحن لم نكد نرجع من شهر العسل".



" ما أقصده يا أبني هو أن عملك يشغلك كثيرا , كم مرة نسيت أن تأتي لتناول العشاء؟".



لم ترتح لورا لهذا الحديث الجاف بين راندال ووالدته , زوجها يبدو في الحقيقة متوترا جدا الليلة , لكنها لا تعلم سبب هذا التوتر , هل سئم من الزواج؟".



هل كتفى من لورا ليفتش عن غيرها؟ سؤالان لا بد أن تعرف الجواب عليهما قريبا , تناول الأربعة العشاء بصمت , لم تأكل لورا كثيرا لأن فكرها كان شاردا في أمور أخرى , لاحظ راندال ذلك , فسأل:



" ألست جائعة؟".



تولت السيدة مرسييه عملية الأجابة:



" دعها وشأنها يا راندال فهي لا بدّ مرتبكة بعض الشيء لوجودها في محيط جديد , نحن... غرباء بالنسبة اليها, ثم أبتسمت ونظرت الى لورا- لا تهتمي لما يقوله راندال يا عزيزتي , أذا لم تكوني جائعة فلا ترغمي نفسك على الأكل بل أفعلي ما يحلو لك".



بعد قليل جلب رئيس الخدم بعض الحلويات , تلذذت لورا بطعم الكعكة اللذيذة المنعشة.



وكعادته لا يترك راندال مناسبة للتعليق وأبداء الملاحظات تفلت منه.



" أرى لورا تحب أكل المرضى , فهذه الكعكة تصلح لتقدم في مستشفى".



لكن السيدة مرسيه نصبت نفسها حارس لورا الأمين في هذه المواقف, نظرت الى أبنها وقالت بلهجة آمرة:



" تابع تناول طعامك وأصمت".



لم ينتقل السيد مرسيه معهم الى غرفة الجلوس لتناول القهوة بل أنسحب الى غرفته وتطوّعت زوجته بمرافقته , أحست لورا بالأرتياح والدفء في مقعدها الوثير , صب راندال القهوة التي أحضرها رئيس الخدم وقدم فنجانا الى زوجته , بعد أن جلس وفنجانه في يده , سأل لورا:



" ماذا ستفعلين غدا بعد أن أذهب الى العمل؟".



" أنوي زيارة والدتي".



" وسيصدف وجود الطبيب توم بالطبع, تذكري أنك أمرأة متزوجة وعليك أن تحترمي قواعد معينة".



" الأمر نفسه ينطبق على الرجال المتزوجين".



في هذه اللحظة فتح رئيس الخدم الباب يجر السيدة مرسييه في مقعدها فأضطر الزوجان الى قطع المشادة الكلامية .



قدّم راندال القهوة لأمه بعد أن قبّل يدها .



" لماذا هذه القبلة؟".



" تعبيرا عن شكرنا للعناية التي أحطتنا بها".



" أنا مسرورة جدا لأن الجناح أعجبكما , لكن هذا لا يعني أنكما باقيان هنا , يجب أن تبحثا عن منزل خاص , أنا ووالدك نتمنى بقاءكما معنا , لكن هذا لا يجوز , المنزل المستقل ضروري لتبنيا حياتكما العائلية".



قال راندال ضاحكا:



" لا تستعجلي الأمور كثيرا يا أمي!".



" أراهن على أن لورا فهمتني أكثر منك يا راندال , وجودكما هنا ضروري الآن لتعتاد لورا على الحياة الزوجية , لكن بعد ذلك عليكما الأستقلال في حياتكما".



" نحن نفهم ذلك يا أمي".



تابعت السيدة مرسييه حديثها:



" أريد منك يا لورا أن تفعلي ما يطيب لك في البيت , نحن بحاجة الى بعض الحياة لأن الرتابة والهدوء مزعجان".



" أذن أسمحي لي بأن أحضر العشاء بنفسي غدا".



" أتعنين أنك تجيدين الطهي يا عزيزتي؟".



تكفّل راندال بالأجابة:



" لورا طاهية ماهرة يا أمي".



علقت لورا بخجل:



" لا تعظم الأمور يا راندال , مرض أمي أجبرني على تعلم الطهي, لكنني طاهية عادية جدا".



بقي الثلاثة بعض الوقت في غرفة الجلوس يتحدثون عن مدينة البندقية , ويتفرجون على الصور التي ألتقطها راندال هناك , أظهرت السيدة مرسييه الحنين الى تلك المدينة الساحرة التي زارتها مرة في صباها , بعد نصف ساعة نظر راندال الى ساعته وقال:



" عليّ أن آوي الى الفراش باكرا الليلة لأن جبالا من الأوراق تنتظرني غدا في المكتب".



صعد لورا وراندال الى جناحهما , في الغرفة تثاءبت لورا تعبة من عناء السفر.



لم يرق ذلك لراندال الذي قال:



" أتلمحين ألى أنك تريدين النوم مباشرة؟".



لم تجب بل خرجت الى المطبخ لتحضر بعض الماء , عندما عادت وجدت الأنوار مطفأة وراندال ممددا في السرير , تمددت بجانبه وهي تتساءل لماذا غّر رأيه بهذه السرعة ؟ أخذت تتأمله وتحاول أقناع نفسها أن هذا الرجل سيشاركها حياتها الى الأبد , مرت في ذهنها صورة توم وصورة أمها فراحت تتخيل السعادة التي كانت حظيت بها لو تزوجت من توم.



ثم غمرها شعور بالذنب لأنها تركت أمها المريضة , صحيح أن السيدة غرانت مدبرة المنزل الجديدة , وهي صديقة للسيدة نايت , أمرأة يمكن الأتكال عليها , لكن هذا لا يكفي لأخماد قلق لورا.منتديات ليلاس



لم تتمكن من النوم بسبب الأفكار التي تشغل بالها , نظرت الى ساعتها ففوجئت بأن الوقت مرّ بسرعة , الساعة أصبحت الرابعة صباحا دون أن يغمض لها جفن , وبينما هي تتقلب في الفراش لمحت عيني راندال تحدقان فيها.



" آسفة أذا أيقظتك".



" عليك أن تتحملي نتائج عملك...".



أفاقت لورا في العاشرة لتجد أن راندال ليس بقربها , فجأة تذكرت قسوته في الليلة السابقة وخافت أن يظل على هذا المنوال طوال حياتها.



بعد تناولها طعام الفطور وافت لورا السيدة مرسييه في غرفة الجلوس.



" صبح الخير يا سيدة مرسييه , أعتذ لأنني أطلت النوم".



" ولماذا الأعتذار؟ أنت حرّة في بيتك".



" متى ذهب راندال؟".



" كالعادة يكون في مكتبه حوالي الساعة التاسعة".



" أريد أن أعتذر أذ لن أتمكن من تناول طعام الغداء هنا اليوم, سأقوم بزيارة والدتي".



" أرجو أن تجدي والدتك بأتم الصحة , ستأخذين السيارة أليس كذلك يا عزيزتي؟".



" أنا لا أجيد القيادة".



" عليك تعلم القيادة يوما ما, لكن لا عليك سآمر السائق بأيصالك".



أوصلها السائق الى البيت بعد أن أوصته بالمرور لأخذها في الرابعة بعد الظهر.



وجدت لورا أمها فرحة ومرتاحة , قبّلتها بحرارة وقالت:



" يبدو أن السيدة غرانت تعتني بك جيدا لأنني أراك في أحسن حال".



" السيدة غرانت أمرأة ممتازة يا أبنتي لا أشعر معها بأي نقص".



" سأتناول الغداء هنا؟ هل من مانع؟".



ضحكت السيدة هالام وعلّقت:



" أبنتي تطلب الأذن لتأكل في بيتها!".



جلست لورا تخبر أمها عن رحلة شهر العسل وعن مدينة البندقية متحاشية الخوض في تفاصيل علاقتها براندال , مضى الوقت بسرعة الى أن حان وقت الغداء, أعدت السيدة غرانت طعاما شهيا , كما تبيّن للورا أن والدتها المرأة متفاهمتان تماما فخفّ قلقها وأطمأن بالها.



بعدالغداء أنتقلتا الى مكان لورا المفضّل في البيت , غرفة الجلوس, حيث كانت تفوح رائحة الياسمين الذكية .



" من وضع هذه الباقة الجميلة هنا يا أمي".



" السيدة غرانت ذواقة في التزيين يا أبنتي".



" أراحني وجود هذه المرأة الى جانبك فأنت تعلمين مدى قلقي عليك".



" السيدة غرانت والسيدة نايت تفيان بالغرض تماما".



وفجأة غيّرت السيدة هالام الحديث أذ سألت أبنتها:



" هل أنت سعيدة؟".



كانت المرأة تعلم أن أبنتها ما تزال تحب توم ولكنه تزوجت من راندال لأن ذلك أنسب لها ولعائلتها , أليس الزواج المبني على العقل أفضل وأثبت من الزواج المبني على القلب ؟ هذا لا يعني أن أبنتها لا تظهر أيّ شعور نحو زوجها , فهي لم تكف عن ذكر أسمه طوال الحديث عن شهر العسل.



قال راندال , ذهب راندال, أحضر راندال ... السيدة هالام واثقة من أن حياة أبنتها الزوجية تسير في الخط الصحيح على الرغم من علاقتها بتوم... لكن لورا لا تشاطرها رأيها , ففي قرارة نفسها خوف كبير من أن يتحوّل راندال الى وحش نهم كما كان في الليلة السابقة.

safsaf313 12-08-09 10:11 AM


9- الأعتراف المتأخر

أقتربت الساعة من الرابعة , تمنّت لورا لو كان بأستطاعتها البقاء في منزل ذويها حيث تشعر بالأمان الذي لا يستطيع توفيره ترف قصر آل مرسييه.منتديات ليلاس
لورا تنتمي الى هذا المنزل البسيط , لها ذكريات في كل قطعة أثاث فيه , في كل زاوية , خلف كل حجر.
وراندال رجل غريب , أخرجها من أحضان الأمان وألقى بها في دائرة الخطر, رماها في تيار جارف لا تعلم ألى أين سيودي بها . أرتعدت عندما سمعت رنين الجرس , كأن السائق جلاّد يسوقها الى مصير أسود.
فتحت السيدة غرانت الباب لتوم الذي بادر لورا بالقول:
" مرحبا أيتها الغريبة , متى عدت من البندقية؟".
وراء نبرته الهازئة رأت عاصفة من الأنفعالات تتجمع, لكن توم يعرف كيف يحتفظ بمشاعره لنفسه ويبقيها دفينة في قلبه.
لم تدر لورا ماذا تقول فتمتمت:
" أهلا توم , هل رأيت البطاقة التي أرسلتها لأهلي؟".
" رأيتها , لكنني كنت أتوقع بطاقة لي".
بالفعل, أشترت لورا بطاقة لترسلها الى توم , لكن عيني راندال الفضوليتين لم تتركا لها فرصة الكتابة , أبلغها في بادىء الأمر أنه لا يهتم لقلبها بل لجمالها فقط, لكنه بعد ذلك أخذ يتصرف برغبة في أمتلاكها لا بل أحتكارها’ أيشعر بالغيرة عليها؟ لكنه لا يحبها فلماذا يفعل؟ خصوصا بعدما أظهره من قسوة أتجاهها بالأمس.
" وجدت أمك بصحة جيدة , أليس كذلك يا لورا ؟ السيدة غرانت تعتني بها أحسن عناية".
حتى هنا في بيتها لم يعد وجود لورا ضروريا , السيدة غرانت حلت محلها بكل جدارة.
" أنا لا أنسى دورك بالطبع يا توم".
بعد أن عاين السيدة هالام وعاد الى غرفة الجلوس قال الطبيب الشاب:
" أكل شيء يسير على ما يرام؟".
" بالطبع".

" حسنا, عليّ أن أذهب الآن , هلا رافقتني الى الباب- وأضاف بعد أن لاحظ أضطرابها وشرودها – أنا واثق من أنك تخبئين شيئا يضايقك".
كادت لورا تنفجر بالبكاء وتصرّح لتوم بكل شيء لكنها أكتفت بوضع رأسها على كتفه بحنان فضمها بحنان.

" عزيزتي لورا لا تبكي".
مسحت دموعها وهي تتمتم:

" آسفة...".

في هذه اللحظة قرع الجرس فأرتعد الأثنان , توجه توم الى الباب في حين حاولت لورا لملمة نفسها وأخفاء توترها.

فتح الباب فتراجع توم دون أن ينبس ببنت شفة , عندها عرفت لورا من الآتي.

وقف راندال جامدا كالصخر , ألا شفته فقد كانت ترتجف غضبا , أنسحب توم بهدوء وأقفل الباب وراءه.

" أنزلي الى السيارة".

لم تجرؤ لورا على مخالفة الأمر الصارم فأتجهت الى السيارة بخطوات غير واثقة يتبعها راندال صامتا.



أدار المحرك وأنطلق في شوارع المدينة التي بدأت تغرق في الغسق.



لم تعد لورا تحتمل السكوت القاتل فقالت بعدما وضعت كل ما لديها من قوة أرادة في كلماتها :



" عدت من عملك باكرا اليوم".



كأن راندال كان ينتظر أشارة ليصبّ جام غضبه عليها :



" نعم عدت باكرا لأنني أحببت أن نخرج سويا هذا المساء , لم أجدك في البيت فجئت الى هنا كي أصطحبك".



" أبلغتك بأنني سأقوم بزيارة والدتي".



أمتزج الغضب بالسخرية في كلمات راندال:



" بالطبع قمت بزيارة والدتك فصادف وجود الطبيب المحبوب الذي لم يتوان عن معانقتك!".



" لم يعانقني!".



" يا للكذب! رأيتكما من زجاج الباب, يا له من حقير وقح! لا بد أن مجيئي قطع عليكما الأنسجام , أليس كذلك؟".



لم تعد لورا تفهمه , منذ ساعات كان في الفراش أنسانا أنانيا , غير عابيء بمشاعرها , لا يريد الا تحقيق مآربه , أما الآن فصار يشتعل بنار الغيرة , لا شك أنه مصاب بأنفصام في الشخصية.



" أنت ... أنت قلت أنك لا تحفل بحبي لتوم ما دمت تمتلكني".



ضغط راندال على دواسة البنزين فأخذت السيارة تنهب الأرض نهبا وتتخطى كل ما أمامها بسرعة جنونية , أغمضت لورا عينيها وتسمرت في مكانها لا تجرؤ على الكلام , فجأة ضغط على المكابح فقذفت لورا حتى كاد رأسها يصطدم بالزجاج الأمامي , فتحت عينيها لتجد نفسها أمام قصر آل مرسييه , يعلم الله كيف وصلا سالمين...



حدّق راندال فيها والشرر يتطاير من عينيه:



" عليك أن تفهمي أنني أشتريتك كاملة , أشتريت زوجة كاملة, لا أريد أن أغادر الى عملي في الصباح وأتخيّلك بصحبته خلال غيابي- أطبق بيديه القاسيتين على معصمها الناعم وشدّ حتى صرخت من الألم , وأضاف: هل كلامي واضح؟ لن تقابلي هذا الرجل بعد اليوم والى الأبد!".



تمكنت لورا بقوة الأرادة من تمضية السهرة دون أن تنهار , تناولت العشاء مع العائلة , جلست تتحدث الى السيدة مرسييه , لعبت الشطرنج مع مرسييه الأب , وأخيرا شاهدت فيلما على التلفزيون لم ينته قبل منتصف الليل.



على الرغم من تعبها الشديد لم تصعد الى الغرفة لأن وجودها مع راندال , بعد الذي حدث , يسبب لها رعبا وهلعا فظيعين.



جلست وحدها تحدق في الشاشة المنطفئة وكأنها تشاهد صور حياتها تمر رمادية .



ألتفتت لتجد راندال واقفا راقبها كالشبح , أقترب منها وأرغمها على النهوض.



" هيا الى السرير ".



تبعته كالطفل المطيع مطأطأة الرأس, مهيضة الجناح.



بقيت تحت الماء في الحمام أكثر من نصف ساعة ترتجف كلما راودتها فكرة الدخول الى السرير.



" تعالي الى السرير".



أمر جديد وتنفيذ جديد.



تمددت لورا في السرير وعيناه المليئتان بما أعتبرته حقدا تذرع كل ذرّة من جسمها بألحاح.



بدأت بالأرتجاف عندما أطفأ النور أذ مرت في مخيلتها صور الليلة الماضية.



" كفي عن الأرتجاف كالأرنب .... وأخلدي الى النوم".



أحست عندها بجبال من الصخر تنزاح عن صدرها , دفنت وجهها في الوسادة وبكت بصمت وحرارة.



في الصباح أقترحت السيدة مرسييه أن تعد لورا أكلة لزوجها في مطبخا الخاص.



" أعرف يا حبيبتي لورا أنك تريدين أن تجرّبي أدوات المطبخ".



شكرتها لورا وتوجهت الى السوق لشراء الحاجيات اللازمة.



وعند الظهر عادت لتناول الغداء مع العائلة , وأمضت فترة بعد الظهر بتحضير العشاء لراندال , وهكذا مرّ النهار هادئا تمتعت فيه بوحدة لم تنعم بها منذ أسابيع .



في السادسة رن جرس الهاتف في غرفة الجلوس في شقتها , رفعت السماعة لتسمع صوت راندال.



" لن أحضر الليلة الى العشاء لأنني مرتبط بموعد هام , وهذا الأمر يفرحك بالطبع".



لم تجب لورا فأكمل زوجها:



" بلّغي والدتي أنني سأتناول العشا ء مع تاجر أميركي كبير".



" حسنا".



" ماذا فعلت اليوم؟".



" ذهبت للتوق فقط , وكن مطمئنا فأنا لم أر توم".



أقفل الخط من دون أن يزيد كلمة.



عادت لورا الى المطبخ لتضع كل ما أعدته من طعام في الثلاجة , بعد ذلك نزلت لتبلغ السيدة مرسييه عدم حضور راندال الى العشاء.



بدت الخيبة على وجه الوالدة , أذ قالت:



" راندال يجهد نفسه كثيرا في عمله , في أيّ حال ستكونين من نصيبنا الليلة فأرجو ألا تملي كثيرا".



" أني واثقة من تمضية سهرة ممتعة ".



" بالله عليك أخسري أمام أيف بالشطرنج لأنه لا يحتمل أن يتلب عليه أحد, لكن راندال لا يأبه بشعور رجل عجوز فينتصر عليه دائما".



في الحادية عشرة صعدت لورا الى شقتها وراندال لم يعد بعد, تمددت في سريرها تقرأ الى أن وصل زوجها.



بادرها بالقول ساخرا:



" لماذا لم تستغلي فرصة غيابي وتستسلمي للنوم؟".



وضعت الكتاب على الطاولة وشدّت الغطاء لتنام , بعد قليل حذا حذوها , وشعرت لورا بأن جدارا سميكا يفصل بينهما , صار أنسانا غريبا بعيدا, يمقتها.



مرذت الأيام على المنوال ذاته , أعمال منزلية في الصباح , تحضير طعام بعد الظهر , سهرة في غرفة الجلوس , في غرفة النوم لم يعد راندال يحاول أن يلمسها , كانا غريبين يتقاسمان غرفة نوم وسريرا.



بعض الأحيان لم تكن تراه النهار بكامله , يذهب صباحا قبل أن تفيق ويعود مساء بعد أن تنام , الشيء الوحيد الذي يدل على وجوده أثر جسمه في السرير وشعرتان سوداوان تائهتان على وسادته.



قلّلت لورا من زياراتها لوالدتها حريصة في كل مرة على المغادرة قبل وصول توم , لا تعلم ماذا يدفعها لتنفيذ أمر راندال بهذا الصدد , في الأسبوع السادس لوجودها في البيت الزوجي أيقنت أنها حامل , سيزيد الحمل الأمور تعقيدا , ستحمل ولدا من شخص غريب لا يمكن أن يكون أبا صالحا , كيف ستتمكن من بناء عائلة حقيقية دون مساعدة زوجها؟
قررت ألا تخبره بالأمر لأنها لا تريد معرفة ردة فعله , شعرت بحاجة لمن تفضي اليه بهمومها , فكل أنسان يرتاح أذا شاطره مشاكله أحد , هذا الشخص لن يكون أمها بالطبع , ولا السيدة مرسييه التي لن تقف بجانبها ضد والدها , لن يفهمها أحد الا توم , لكنها تخاف أن تقابله ويعلم راندال بالأمر , ربما قتلها أن فعلت ذلك.منتديات ليلاس
في بداية شهر أيار صار الطقس خانقا وأحتبس الهواء .
شعرت لورا في صباح يوم حار أنها مريضة فبقيت في الفراش ولم تكن تعلم أن ذلك من أعراض الحمل الطبيعية.
عليها أن تستشير طبيبا ليطمئنها , حارت بين الذهاب الى طبيبها الخاص أو الى توم , تجاذبتها رغبة جارفة بين مقابلته والتحدث اليه وبين الولاء لزوجها ولأرادته.
بعد الظهر من اليوم نفسه أستقلت سيارة تاكسي وأتجهت الى منزل والديها.
بينما كانت تهم بالذهاب دخل توم ففوجىء لرؤيتها.
" لورا ما هذه الغيبة الطويلة؟".
" أنت على حق فأنا لم أرك منذ أسابيع, مشاغلك جمّة وحياتي الزوجية لها متطلبات كثيرة".
لاحظت على وجهه حزنا عميقا فسألته:
" ما بك حزينا؟".
" ألم تعلمي بوفاة أمي؟".
" ماذا تقول؟".
تدخلت أمها التي دخلت غرفة الجلوس:
" نسيت أن أطلعك على ذلك الأسبوع الماضي يا لورا".
" أنا آسفة حقا يا توم".
" لا بأس فكلنا على هذه الخطى سائرون".
" وكيف حال والدك؟".
" صدم بعض الشيء لذلك ذهب ليرتاح عند عمتي , وهو يفكّر جديا بالتقاعد الآن , يا ليته تقاعد قبل وفاة أمي فهي كانت تطالبه بذلك منذ سنوات , لو فعل لكانا تمتعا بحياتهما بعض الشيء".
" لن أقلق عليك لأنني أعرفك قويا في تخطي الصعاب".
مكثت لورا عشر دقائق أخرى تتحدث الى توم عن حياته العائلية والمهنية , ثم أستعدت للرحيل فسألها:
" هل سيمر زوجك لآخذك؟".
" لا سأعود بالتاكسي".
" ما رأيك أذا وصّلتك الى البيت فأنا حرّ من أيّ أرتباط هذا المساء".
ترددت لورا قبل أن توافق خصوصا أنها لاحظت أن أمها غير مرتاحة للأمر.
في السيارة نظر اليها توم وقال بصوت مرتجف:
" تبدين تعبة يا لورا, قلقي يتزايد عليك يوما بعد يوم , صارحيني بما يشغل بالك".
لم تجب لورا فأكمل:
" متى يجب أن تكوني في البيت الليلة؟".
" لست على عجلة من أمري لأن راندال مدعو الى العشاء مع بعض رجال الأعمال".
" ما رأيك أذن بتناول العشاء في مطعم جميل على ضفة نهر التايمز؟".
أتقدم على هذه الخطوة وهي بأمس الحاجة أليه؟ أم تبقى وفية لأرادة زوجها؟
بعد تردد وتفكير عميق أجابت:
" حسنا , توقف عند أول كشك للهاتف لأتصل بالمنزل".
لم تطل لورا الحديث مع السيدة مرسييه التي أستغربت تناولها العشاء خارجا مع ( صديقتها(.
جلسا في المطعم الصغير الهادىء قرب نافذة تطل على نهر التايمز, على طول الضفة تنتشر أضواء صفراء تختلط أنوارها مع ضباب رقيق , من بعيد بدت أشباح أبنية وسط لندن التجاري تناطح السحاب , وبرزت قبة ساعة بيغ بن الشهيرة منطلق التوقيت في العالم, جوّ شاعري أضفى على لورا وتوم عاطفة الى عاطفة وحنانا الى حنان.
وضع توم يده على يدها وقال بشبه توسل:
" أعرف يا عزيزتي أنك تعانين من مشكلة صعبة , صارحيني بما في قلبك ولا تغفلي ذكر أي شيء".
بدأت لورا بالكلام وشفتاها ترتجفان وعيناها تهربان من الحقيقة الى البعيد.
" أختلطت الأمور عليّ بشكل لا أعلم معه من أين أبدأ...".
" أبدأي من أول القصة يا عزيزتي".
أطلعته لورا على كل شيء , على لقائها الأول براندال , مطاردته لها , فضيحة الأختلاس التي كان بطلها والدها والتي ذهبت هي ضحيتها.
" عملية الزواج كانت أبتزازا أذن".
" نعم".
" يا له من حقير! أكملي يا لورا فالقصة لم تنته بعد".
أخبرته عن أحداث شهر العسل متحاشية الدخول في التفاصيل الحميمة مكتفية بالخطوط العريضة الكفيلة بأفهامه قصدها.
أنهت قصتها قائلة:
" أصبحنا الآن غريبين لا زوجين , بعد أن ملّني وندم لزواجه مني, كان من الأفضل لي أن أكون حبيبة له لا زوجة".
أزداد وجه توم شحوبا وقال بعزم وثقة:
" لا يجب أن تهدري عمرك مع هذا الأنسان الخسيس, أطلبي الطلاق دون تردد , عندما قررت الزواج منه ظننت أنك ستعيشين حياة سعيدة مترفة , لكنك وقعت في شرك مميت , والطريقة الوحيدة الكفيلة بتخليصك هي الطلاق , لا فائدة من محاولة أنقاذ زواج فاشل منذ البداية , حريتك هي الهدف , أعملي على تحقيقه".
" لا أستطيع طلب الطلاق لأنني أنتظر طفلا".
" هل تأكدت من ذلك؟".
أخبرته عن الأعراض التي تعرضت لها حتى الآن بالتفصيل , لكن توم لا يستطيع أن يجزم أنها حاول.
" عليك أن تستشيري طبيبا يا لورا فأنا لا أقدر أن أعطيك جوابا دون أجراء فحص , كما أن حملك لن يكون سهلا نظرا لضعف بنيتك ولحالتك النفسية , فقد يعطيك الطبيب مقويات تساعد على أنجاح الحمل".
أطرقت تفكر ثم قالت:
" توم .... ما رأيك أن تكون طبيبي , فأنا لن أرتاح الى أحد غيرك؟".
أجاب بخشونة غير متوقعة وبعينين حائرتين :
" لا ! غير ممكن".
" لكنني بحاجة أليك! بحاجة الى شخص أثق فيه وأطمئن اليه".
" لا تدمي قلبي يا لورا! أنت تعلمين أنني غير قادر على تلبية طلبك".
" لا حق لراندال بالأعتراض على طبيب أختاره ! لن يرغمني على العلاج عند أحد غيرك".
كاذ الغضب يعمي عينيها فلم تخف من المتابعة:
" ثم أنه لن يشك بالخيانة وأنا حامل!".
" الخيانة؟".
" نعم الخيانة , راندال يظنني حبيبتك ولذلك أرغمني على التعهد بعدم رؤيتك أبدا".
" أشياء كثيرة تحدث لا أفهمها ثم تتوضح تلقائيا , أدرك ألان مثلا لماذا تحاشيتني في المدة الأخيرة".
" آسفة لضعفي يا توم , لكنني سأواجهه هذه المرة وسأصرّ أن تكون طبيبي".
" الأمر ليس واردا بالنسبة أليّ".
سألته متوسلة:
" ولكن لماذا؟".
لم يجب بل أشار اليها بالنهوض وأتجه الى الباب بعد أن سدّد الفاتورة بسرعة , لم يتكلم توم طوال الطريق ولم تجرؤ لورا على أخذ المبادرة لأنها وجدته قلقا لا يحتمل أية كلمة.
عندما أوقف السيارة أمام قصر آل مرسييه نظر توم الى البناء الفخم وقال:
" هذا هو الكوخ الذي تعيشين فيه أذا, يا لسخرية القدر! الناس الذين أعيش معهم يوميا في الحيّ الشرقي يكادون لا يجدون زاوية ينامون فيها...".
لم تكن لورا ترغب في هذه اللحظات بمناقشة الأوضاع الأجتماعية في أنكلترا , فعادت الى الموضوع الحساس:
"" قل لي بصراحة يا توم لماذا ترفض الأعتناء بي وبطفلي".
تنهد توم ونظر اليها كأنه سيعترف بما يجب بقاؤه سرا:
" لأنني لن أكون هنا".
" ماذا تعني؟".
" سأغادر البلاد قريبا لأعمل في الخارج".
أصيبت لورا بذهول كبير ولم تصدق ما سمعته أذناها.
" ماذا تقول ؟ ألى أين ستسافر؟".
" صحيح أن وجودي في الحيّ الشرقي مفيد , لكنه ليس حيويا, فالبديل متوافر بسهولة , أما حيث سلأذهب فالأطباء مطلوبون كالعملة النادرة, الفقراء في الهند بحاجة أليّ".
" الهند ؟ لا شك أنك تهذي".
" لا يا لورا فأنا أحلم منذ زمن بعيد بالذهاب الى تلك البلاد".
تمالكت نفسها وسألت على أمل أن تسمع جوابا يرضيها:
" كم ستبقى هناك؟".
" لا أفكر بالعودة الى أنكلترا , سأنتقل بين دول العالم الثالث حسب ما تطلبه مني منظمة الصحة العالمية التي تعاقدت للعمل معها".
نظرت اليه مذعورة , رافضة تصديق كلامه وصرخت بأعلى صوتها:
" مستحيل!".
أقترب منها توم وقبل يدها ثم همس:
" أحبك يا لورا أحبك, وسأظل وفيا لحبي, لكنني أقتنعت بأنه يجب علينا ألا نتزوج , مهنتي , رسالتي, طموحاتي كلها تتعارض مع طباعك . الحياة القاسية التي أخترتها لنفسي لا تناسب زوجة رقيقة مدللة , لورا , قررت ألا أتزوج مطلقا لئلا أكون السبب في تعاسة أمرأة , تعذبت كثيرا قبل أن أتخذ القرار, أحترت بين حبك ومهنتي , لكن في النهاية وجدت أنك قادرة على العيش بدوني , أما أولئك الفقراء البائسون لن يلتفت اليهم أحد أذا خذلتهم , وهكذا أتخذت قراري الصعب والصحيح".
" لو تدري كم عذبتني يا توم! حاولت أن أدرك حقيقة شعورك نحوي لكنني فشلت , لم أكن أعرف أهو حب أم صداقة...".
" أتظنين أنني كنت أجهل ذلك, همسة من عينيك كانت تكفي لأشتعل حبا , كنت أبذل جهودا جارة لأتمالك نفسي وأصدك".
ضحك توم بمرارة وأضاف:
" عندما تزوجت مرسييه , أعتقدت أن عذابي أنتهى وأنني سلمتك الى يدين أمينتين, دفنت غيرتي لئلا أفسد سعادتك , لست أنانيا لأحرمك من كل ما يستطيع مرسيه تأمينه لك, الثراء, الأمان, الحب...".
لم تقو لورا على تحمّل صدمة أعتراف توم فتأوهت وسقطت على ركبتيها مغميّ عليها.
حملها توم مسرعا وأتجه بها نحو البيت , لم ير نوا في الداخل فوضع لورا على مقعد في الحديقة وأخرج المفتاح من حقيبتها,فتح الباب على عجل وحملها بسهولة الى الطابق الثاني لأن لورا كانت قد وصفت بالتفصيل جناحها في القصر, وضعها على السرير بعد أن نزع معطفها لتتنفس براحة.
فجأة أضيء النور في الغرفة فأستدار توم ليجد راندال يواجهه وعيناه تقدحان شررا.
" أنزع يديك القذرتين عن زوجتي والا حطمت رأسك!".
أفاقت لورا على صوته فحاول توم تهدئتها:
" لا بأس يا عزيزتي , أبقي مستلقية".
عندها هجم راندال على توم ووجه اليه لكمة شديدة على وجهه طرحته أرضا.
أصيبت لورا بهلع شديد أذ رأت توم مطروحا على الأرض والدم يسيل من شفته العليا , فصاحت مذعورة:
" لا يا راندال ! أرجوك!".
تقدم راندال من توم وهو يتوعد:
" أخرج من بيتي أيها الحقير لئلا أجهز عليك".
" عليك أن تفهم تماما يا سيد راندال...".
لم يسمح راندال لتوم بأن يكمل كلامه:
" قلت لك أخرج من بيتي!".
" لن أخرج قبل أن أفهمك...".
عدل توم عن المتابعة أذ رأى راندال جدّيا في تهديده فنهض مرتبكا لا يعرف ماذا يفعل.
" ألم تدرك بعد يا حضرة الطبيب أن لورا أصبحت ملكي الآن , وأنا لست مستعدا لأن أفرط بها , لذلك أقسم بأنني سأقتلك أذا حاولت أن تراها بعد الآن".
صاح توم في وجهه غير آبه بكونه موجودا في منزل أناس غرباء:
" وأنا أقسم بأنني سأقتلك أذا مسستها بسوء".
أمتقع وجه راندال ونظر الى زوجته قائلا:
" هل ذهبت الى حبيبك لتنفسي عن همومك يا زوجتي الوفية المخلصة؟".
توسلت لورا الى توم:
" أرجوك أذهب فهذا أفضل لنا جميعا".
" كيف أرتكك مع زوجك المجنون , فهو قد يقدم على عمل أحمق؟".
أجابه راندال:
" هذا ما سأقوم به أذا لم تذهب فورا".
" أتظن أنني خائف منك, جلّ ما يهمني سلامة لورا".
" لا تخف عليها فلن ألمسها لأنني أشمئز من ذلك".
"حسنا سأذهب اذا كانت هذه أرادتك يا لورا , اذ أحتجت اليّ فأتصلي بي".
بقي راندال صامتا بعد مغادرة توم المنزل , جلس يحدق في لورا عابسا وكأنه يخطط لفعل شيء ما".
أرتاحت المرأة لماّ تخلى عن صمته وقال:
" من الأفضل أن تخلدي الى النوم لأنك تبدين متعبة جدا".
خرج راندال من الغرفة وأغلق الباب وراءه بعنف.
جلست لورا في سريرها ترتجف من الخوف والقلق, ماذا سيفعل بها زوجها؟
وكيف ستواجه مصيرها وتوم بعيد عنها؟ بعد جهد جهيد تمكنت من النهوض لتستعد للنوم.
بينما هي تتقلب في فراشها والدموع تملأ عينيها دخل راندال الى الغرفة, مسحت دموعها فجن جنونه لهذه الحركة الطفولية, أمسك بكتفيها وهزّها بعنف كدمية خفيفة, ثم توقف فجأة وبدا كأنه سلّم بالأمر الواقع.
" ما الفائدة من هذا كله؟ حسنا أنتصرت أيتها السيدة سأمنحك الطلاق ساعة تشائين".

safsaf313 12-08-09 10:13 AM


10- السعادة المنشودة




كانت الصدمة أقوى من أن تعلّق لورا على كلام زوجها , سرت قشعريرة في جسمها , عقدت لسانها وسمّرت عينيها من الدهشة, شيئا فشيئا بدأت تعود الى الواقع وبدأ عقلها يحلل الموقف فقالت:
" تريد أن تمنحني الطلاق...؟".
كالثعلب الماكر أخذ راندال يراقبها ويدرس أنفعالاتها , حرر كتفيها وذهب الى النافذة ينظر الى البعيد , ومن دون أن يلتفت اليها سألها:
" هل تجيبين بصراحة على سؤال واحد؟".
" ما هو؟
" أذا منحتك الطلاق فهل تزوجين توم نيكول؟".
أتى الجواب عكس ما توقعه راندال تماما أذ قالت:
" لا ".
نظر اليها وعيناه الدامكنتان تحاولان فهم موقفها:
" ماذا تعنين؟ أتعنين أنه لا يبادلك الحب؟ يا لك من مسكينة تعلّقين آمالك على شخص مجرد من الشعور!".
جلست لورا على طرف السرير وجسمها النحيل يرتجف كورقة خريفية , مطأطأة الرأس علامة الأنكسار.
" توم يحبني على طريقته...".
" ماذا تقصدين بأنه يحبك على طريقته؟".
أخافها صوت راندال القوي فرفعت عينيها اليه وأجابت بأرتباك:
" لا أعرف... أعتقد أنه لا يحبني كفاية..".
" لم أفهم بعد".
" توم يريد العمل في الدول المتخلفة بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية مما يعني أن مكاني ليس معه في هذه الحياة القاسية, فأنا برأيه رقيقة جدا لا أتحمل شظف العيش".
" أدرك أخيرا أنك رقيقة! ولكنه قرر السفر ليبتعد عنك , أما أذا أصبحت حرة فقد يغيّر مخططاته ويبقى هنا ليتزوجك".
" أتعتقد أن هذا سيسهل الأمر عليك؟".
أقترب راندال من السرير مضطربا , أنفاسه غير منتظمة لأول مرة تلاحظ عليه لورا فقدانه لهدوئه.
" لنطرح عواطفي جانبا الآن لأنني أريد قبل ذلك التأكد من عواطفك . سأعيد عليك السؤال , هل تتزوجين من توم نيكول أذا منحتك الطلاق؟".
" قلت لك لا!".
" هل أفهم من كلامك أنك لا تريدين الطلاق؟".
" هل تريده أنت؟".
أجاب بحزم:
" لا".
نظرت اليه غير مصدقة :
" أواثق أنت من... ظننت أنك...".
سكتت فجأة وأغرورقت عيناها بالدموع:
" ظننت ماذا؟".
" أنك مللت مني".
تلاقت نظراتهما في صراع عنيف خسرته عيناها, علت الحمرة وجنتيها وأمتلأت نفسها برجاء جديد . أقترب راندال ورفع وجهها الى عينيه , لم تستطع لورا النظر اليه مرتعدة من أعماقها.
" أنظري أليّ أريد أن أعرف ما تخبئين في نفسك".
أطاعت الأمر خائفة من أن تفضح عيناها حبها , على الرغم من سراب السعادة الذي تلمحه أمامها لم تجرؤ على مفاتحته بكل شيء خوفا من أن يكون ما يزال يمارس ألاعيبه السابقة.
تفرّس راندال في وجهها جيدا وتوقف طويلا عند عينيها محاولا النفاذ الى أعماقها , بعد أن أنهى تفحصه قرر الكلام.
أختار كلماته بدقة لئلا يظهر أي ضعف:
" عندما تزوجتك كنت آمل أن أسمعك تقولين( أنا أحبك) منذ الليلة الأولى , لكن هذا لم يحصل مع الأسف , ومع الوقت لم أعد أطيق أن ألمسك لأن الشعور بيننا صار مفقودا".
أتصدق لورا ما يقول؟ أيلمّح أنه يحبها؟ لم تعد تفهم شيئا .
" أتعني... أنك تحبني يا راندال؟".
عادت الى وجهه تلك النظرة الساخرة وأجاب:
" أحبك حبا جارفا".
كانت لورا تكره هذه النبرة الهازئة , تكره هذه الألاعيب التي تذلها , أيحاول بحيلة أن ينتزع منها أعترافا بالحب من جانب واحد؟ أعتراف يخوله أمتلاكها روحا وجسما هذه المرة , فيتحقق هدف نزعته الأمتلاكية؟
أطبق راندال على كتفيها فنظرت اليه والكلمات لا تستطيع الخروج من فمها للأعتراض, رأت وجها شاحبا وعينين تخبئان شعورا لم تعهده فيه من قبل.
" ألم تسمعي؟ أنا أحبك".
" لا ... أنا لا أصدقك".
جعلها تستلقي على السرير ووضع عينيه في عينيها .
"ولماذا لا تصدقينني ؟ لماذا تعتقدين أنني عرضت عليك الطلاق؟ أتعلمين ماذا تكلفني فكرة فقدانك ؟لكنني لست قادرا على تحمل تجاهلك وكرهك لي لحظة واحدة , لست قادرا على رؤيتك تتعذبين معي , لذلك قررت التضحية...".
أخذت دقات قلب لورا تتسارع , الأمل الذي لاح بعيدا بدأ يتحقق , شمس السعادة شرعت تطل بحياء من خلف غيوم التعاسة الرمادية , أرتسمت على ثغرها أبتسامة فرحة وهمست:
" كف عن الكلام وضمني الى صدرك".
كان عناقه عنيفا الى درجة أنه كاد يخنقها, حرارة الحب التي غلّفت عناقه أراحتها وأخمدت نار خوفها لتشعل نارا أخرى.
" يا ألهي كم هوكبير حبي لك يا لورا . أنت تفقدينني صوابي".




أحست لورا بأن الغرفة يدور بها في رقصة سعادة وخلاص, ماذا تبغي من الحياة أكثر من زوج يحبها؟ وضعت يديها على وجنتيه ورفعت وجهه:
" راندال.... حبيبي".
" لورا أحببتك من أول نظرة , شرعت بمطاردتك , لأنني ظننت أنني سأموت أن لم أحصل عليك, ولما فعلت ظننت أنك تبادلينني الحب, لكن توم قلب المقاييس في وقت لم يعد بوسعي التراجع فأكملت المشوار على الرغم من وجود رجل آخر في حياتك".
" لماذا لم تصرّح لي بذلك؟ لماذا قلت أن قلبي لا يهمك؟".
" لأنني خشيت من أن تستغلي ضعفي أتجاهك لتزيدي من عذابي... لو صرّحت لك بحبي لما كنت قبلت بالزواج مني بوجود توم. فأضطررت الى أستعمال الأبتزاز للوصول اليك, معتبرا أنني قادر على كسب ودك تدريجيا, أرجو أن تفهم مدى اليأس الذي دفعني الى أستعمال هذه الطريقة الملتوية".
" لكنك خضت مغامرة كبيرة لأن طريقتك هذه كانت كفيلة بجعلي أكرهك الى الأبد".
" أعلم ذلك لكنني لم أجد وسيلة أخرى لأحصل على حبيبتي الغالية, كان أستغلال غلطة والدك أملي الوحيد في الوصول اليك, معتمدا على خبرتي في الأغواء لأجعلك تنسين توم وتقعين في غرامي".
" وهذا ما حصل فعلا".
" ماذا؟ لكنك لم تظهري ما يلمّح الى ذلك, متى بدأت تشعرين نحوي بالحب؟".
هزت كتفيها علامة الجهل:
" لا أدري, ربما أحببتك منذ لقائنا الأول , لكن حبي لتوم كان جزءا من حياتي, كان عادة , والأنسان يصعب عليه التخلي عن عاداته , لكنني أعترف أن عناقك كان يجعل رأسي يدور".
ضحك راندال وقال:
" جسمك يعترف بما ينكره قلبك, متى تأكدت من أنك تحبينني؟".
" في البندقية بعد السهرة عند أنطوانيت بيل".
" لاحظت عليك شيئا من ذلك عندما رقصنا سوية".
" تفهمني أحسن من فهمي لنفسي , في تلك السهرة شعرت بالغيرة عندما رأيتك برقة تلك المرأة المحنكة وعندما تصورت أنكما كنتما حبيبين".
" وأنا شعرت بالشيء نفسه عندما رأيتك الليلة مع توم نيكول, أشكر الله أنني لم أقتله لأنني لم أع ما كنت أفعل".
" لا أخفي عليك أنني خفت على نفسي منك".
مرر راندال يده على عنقها مداعبا:
" كنت في الحقيقة أرغب في قتلك , لكن عينيك الدامعتين غيرّتا رأيي, قررت أن أعطيك حريتك كي لا تتعذبي".
تنهد وأضاف:
" أود أن أسمعك تقولين أن حبك لتوم قد أنطفأ".
" لم أعد أحبه, كان ذلك سرابا , ما أكنه لك مختلف تماما , قبّلته على خده وهمست , أحبك يا راندال...".
" توم نيكول رجل أحمق ! لولا مبادئه لأصبح زوجك ولكنت فقدتك الى الأبد".
" عندما أتخيّل نفسي زوجة توم أدرك الفارق بينك وبينه , توم رجل صالح وطيب لكنه ليس مناسبا لي وليس قادرا على أسعادي".
" كلامك صحيح , هناك هوة سحيقة بين الحياة التي يعيشها توم وما بأستطاعتي تقديمه لك , عليك أن تعوضي عليّ منذ الآن فصاعدا كل العذاب الذي تحملته".
ألتصقت به لورا وقالت:
" آسفة يا حبيبي, لو علمت بالحقيقة قبل الآن لكنا وفرنا على نفسينا هذه المعاناة".
" كان مستحيلا أن أعلمك بما في قلبي فخافة أن أصير عبدا لك تتحكمين برقبتي!".
أنفجر راندال ضاحكا بعد هذه الكلمات وكأنه يفجر في ضحكته كل ما أعتصر قلبه من ألم وأدمى روحه من حزن.
قالت لورا والعاطفة تهدج صوتها:
" لماذا لم تلمّح لي بذلك على الأقل, لم أشك يوما في أنك تحبني خصوصا بعد أن عاملتني بقسوة بالغة في بعض الأحيان".
" لا تستغربي ذلك من رجل يخاطر بجعل أمرة لا تحبه شريكة حياته , الغضب والغيرة والخوف على أفلاتك من يدي عوامل جعلتني أتعمّد أيذاءك لتخضعي لي".
" فهمت الآن لماذا كنت وحشا مفترسا ليلة عودتنا من البندقية".
" كم كنت يائسا عندها لأنني ظننت أنني فقدتك الى الأبد وقد عدنا الى لندن حيث تكونين بقرب حبيبك توم".
" سامحك الله يا راندال , كان عليك أن تصارحني فأنا كنت بأنتظار أشارة لأعترف بحبي".
هزّ راندال برأسه معترفا بصحة كلامها:
" أنت على حق , كنت جبانا لأنني لم أفعل , لم أستطع السيطرة على نفسي , كنت عاعائشا في جحيم مستعر".
خطر للورا سؤال طالما قض مضجعها في الفترة الأخيرة:
" أخبرني عن علاقتك بأنطوانيت".
ضحك راندال وقال:
" لن أخفي عنك أعجابي بأنطوانيت لكن علاقتنا لم تتعد يوما حدود الصداقة البريئة".
تنفست لورا الصعداء وسألته:
" لا تنكر أنك أقمت علاقات مع نساء كثيرات , فكيف يمكن أن أطمئن الى أنك ستبقى وفيا لي".
" تأكدي يا لورا أنني لم أحب واحدة من جميع النساء اللواتي مررن في حياتي, أنت الوحيدة التي عرّفتني الى الحب الحقيقي, معك عرفت مدى الوقت الذي أضعته باللهو والعبث".
وجدت لورا أن الفرصة مؤاتية لتعلمه بحملها فوضعت وجهها على صدره وقالت:
" لدي شيء مهم أقوله لك".
نظر راندال اليها بقلق متوقعا خبرا سيئا يفسد سعادته .
" أنا حامل يا راندال".
لوهلة ظنت لورا أنه لم يسمع ما قالت , ثم أضاء وجهه فرح عارم.
" هل أنت متأكدة؟".
" كل التأكيد".
" يا ألهي! لماذا لم تعلميني بذلك قبل الآن؟".
" لأنني أنتظرت رأي الطبيب ولهذا ذهبت اليوم الى توم".
" أتعنين أنه قام بمعاينتك ؟".
" لا تكن غيورا يا حبيبي , رفض توم أن يكون طبيبي , في أي حال, كان ذلك حماقة مني".
" رفض الأعتناء بك لأنه يحبك أليس كذلك؟".
أومأت بالأيجاب.
" ولكن لماذا أغمي عليك يا لورا عندما صرّح لك توم بحبه , أما زلت تحبينه؟".
" كلا , ولكنني حامل ولا أتحمل الصدمات , صرّح توم بحبه في وقت كنت فيه على حافة الأنهيار بسببك , أحبك وأنت تهملني , غير آبه بي, تعاملني كقطعة أثاث في قصرك الفخم".
" كوني على ثقة أنك أغلى هذه القطع وأعزها الى قلبي- ضحك راندال وتابع- لا عليك يا حبيبتي سأعوّض لك كل ما سببته من آلام".
" وأنا سأفعل الشيء نفسه".
" علك بعد اليوم الأهتمام جيدا بنفسك حفاظا على الجنين".
وضع راندال الغطاء فوقها بكل رفق وأضاف:
" الزكام مضر كثيرا بالحوامل وخاصة بالنحيلات منهن".
" أتصور نفسي كيف سأكون بعد بضعة شهور , بالطبع لن يعجبك شكلي المستدري".
قهقه راندال من الضحك وأخذ يقبل يديها الناعمتين بحنان.
" لا تخافي يا عزيزتي فأنا أحب الأشكال الطريفة!".
داعبت لورا شعره الأسود وأغمضت عينيها لتتمتع بالسعادة التي وجدتها بعد طول بحث وعناء.
عندما أفاقت في اليوم التالي فوجئت لورا لوجود راندال قربها , كانت سعيدة ألى درجة أنها شعرت برغبة في الغناء. طوقها راندال بيده القوية وشدها اليه.
" ألم تتأخر على عملك يا حبيبي؟".
" الموظفون قادرون على تسيير الأمور بدوني , أرغب اليوم في البقاء بقربك".
تذكرت لورا بمرارة الأيام الماضية وتنهدت قائلة:
" كم كنت أحزن عندما كنت أفيق في الصباح وأجدك قد ذهبت دون أن توجه لي كلمة واحدة".
" أعدك يا لورا بأن هذا لن يحدث مطلقا بعد الآن الى درجة أنك ستضطرين الى طردي من السرير لأذهب الى العمل!".
" وما رأيك لو أبقيتك هنا؟".
" أنا مستعد للبقاء طوال النهار في هذا السرير".
" ألن تمل من ذلك؟".
" من يفكر بالملل بوجودك؟".
بعد قليل شعرت لورا بالجوع فتململ راندال عندما حاولت النهوض:
" أنا جائعة يا عزيزي".
" يا لتفكيرك السطحي , ألا تفكرين الا بالأكل؟".
ضحك راندال وسمح لها بالنهوض , وأخذ يراقبها بشغف وهي تتنقل في الغرفة وتستعد للنزول.
" المشهد من هنا رائع يا حبيبتي لورا".
" ألن تنهض من اسرير اليوم؟".
" لا , تعالي الى هنا".
ضحكت لورا وخرجت.منتديات ليلاس
في غرفة الجلوس كان والدا راندال يطالعان الجرائد والمطالعة هي المرحلة الثانية بعد الفطور في برنامج حياة آل مرسييه, قبلتهما لورا وقالت السيدة مرسييه:
" أعلم أن الأمر ليس من شأني".
تدخل زوجها مقاطعا:
" نعم, الأمر ليس من شأنك, دعي راندال ولورا يتدبران شؤونهما بنفسهما".
" لكن لورا ليست على ما يرام , فهي تبدو شاحبةو ...".
لم تدعها لورا تكمل كلامها أذ بادرت الى القول:
" لا عجب في ذلك عندما تكون المرأة حاملا".
ساد الغرفة صمت تام, وضع أيف مرسييه الجريدة على الطاولة أمامه في حين أخذت زوجته تحدق بلورا بأهتمام.
أحمر وجه لورا من الخجل وفسرت:
" أنتابتني أعراض الحمل في المدة الأخيرة ويبدو الآن أن الأمر أكيد".
أنتقل والد راندال ليجلس الى جانبها ووضع يدها في يده.
سألتها السيدة مرسييه:
" هل يعلم راندال بالأمر؟".
في هذه اللحظة دخل راندال الى الغرفة منشرحا , نشيطا ." عن أي شيء تتكلمين يا أماه؟".
دهش والداه لوجوده في البيت فسأله أبوه:
" لماذا لم تذهب الى العمل؟".
" ألا يحق لي منح نفسي يوم أجازة؟".
أجاب الوالد موافقا:
" بالطبع , لكن هذا ليس من عادتك".
تناول راندال طبقا وجلس الى جانب زوجته التي رمقته بنظرة ملؤها الحب والحنان.
" منحت نفسي أجازة لأن اليوم الذي يعلم فيه المرء أنه سيصبح أبا يوم خاص يستحق ذلك".
تنفس العجوزان الصعداء وأطمأن قلباهما الى سعادة راندال وزوجته.
ألتفتت لورا صوب السيدة مرسييه وتساءلت أذا ما كانت المرأة مطلعة على كل ما جرى بينها وبين راندال .
أطل رئيس الخدم بأناقته وهدوئه المعهودين فسأله راندال :
" ما الأمر؟".
" هناك طبيب يدعى توم نيكول يريد مقابلة السيدة لورا ".
وقف رئيس الخدم كالتمثال ينتظر الأوامر ليتصرف.
لاحظت لورا بوضوح بريق الغيرة في عيني زوجها عند لفظ أسم توم.
" هل تريدين مقابلته يا لورا؟".
" نعم يا راندال , سأرى ماذا يريد".
هبّ الرجل من مقعده وقال :
" لا لن تريه وحدك سنفعل ذلك سوية".
" حسنا يا عزيزي , هذا أفضل".
نظر السيد مرسييه الى زوجته التي لم تكن تفهم أكثر منه ما يجري بين العروسين.
" ماذا يحدث يا ترى؟".
" لا شيء مهما يا أيف, أعتقد أنهما يتدبران الأمور جيدا ".
كان توم ينتظر في الرواق قلقا , عابسا , يحمل بيده حقيبته السوداء , دهش لما رأى الزوجين الشابين يسيران ويد الواحد في يد الآخر , وأبتسامة لورا العريضة لا تمت بصلة الى ما حدث بالأمس.
" جئت لأطمئن على لورا ليس الا".
" ما عليك يا سيد توم الا أن تنظر اليها لترى".
نظرت لورا الى توم بقلق لأنها لا تحتمل كونه يتعذب من أجلها.
" أنا بخير يا توم , لا داعي للقلق".
لم يعد توم يدري ما يقول فتمتم:
" كان عليّ التأكد من ذلك لأنني لم أستطع النوم البارحة".
علق راندال متهكما:
" ونحن كذلك لم ننم...".
لم تستسغ لورا أستهزاء راندال الذي بدا آسفا لما قاله .
أتجه توم نحو الباب وقال:
" سأنسحب أذا بما أنك بخير يا لورا".
أستوقفه راندال وأبلغه:
" لا تشغل بالك يا سيد نيكوا سأعمل جهدي لأسعد لورا وأجعلها المرأة الأكثر دلالا في العالم".
وقف توم صاما يفكر في غرابة الموقف , بعد قليل تكلم وبدا مقتنعا:
" شكرا يا سيد راندال , أنا سعيد لأن الأمور سويت بينكما".
أرادت لورا أن تقبل لورا قبلة الوداع لكن غيرة راندال التي لم تخمد بعد جعلتها تعدل عن ذلك , أكتفت بالقول :
" الى اللقاء يا توم, شكرا لك على مجيئك".
خرج توم وكان صوت أغلاق الباب مؤذنا برحيله الطويل .
" آسف لأنني تصرفت بغباء يا حبيبتي , لكنني لم أستطع التغلب على غيرتي بعد".
" سأحب توم دائما".
قبل أن ينفجر راندال غضبا أوضحت لورا :
" سأحبه كأخ , كصديق ,كأب , لا أستطيع بين ليلة وضحاها نسيان السنين التي أمضيناها معا, سأشتاق اليه أينما كان".
" فهمت يا حبيبتي".
" أطمئن يا راندال , توم لن يتدخل في حياتنا بعد اليوم , ألم تدرك أنني أحبك أنت , توم أخي وأنت .... وضعت ذراعيها حول عنقه وجذبته اليها, أنت حبيبي".


تمـ بحمد الله ـت

مجهولة 16-08-09 09:44 PM

اللي يعجبني في روايتك انها دائما حلوة وكاملة

zoubaida 30-08-09 07:04 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله ....

AZAHEER 03-09-09 10:23 PM

WONDERFUL STORY

نونا المجنونه 05-09-09 02:29 PM

حلوه اوي اوي اوووووووي

safsaf313 22-09-09 07:38 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نونا المجنونه (المشاركة 2048147)
حلوه اوي اوي اوووووووي

انتى اللى حلوه اوى اوى اوى

safsaf313 22-09-09 07:40 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مجهولة (المشاركة 2031382)
اللي يعجبني في روايتك انها دائما حلوة وكاملة

ميرسى ليكى يا قمر دا من زووووووئك:flowers2:

safsaf313 22-09-09 07:40 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة zoubaida (المشاركة 2042637)
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله ....

اللهم آمين وانتى كمان يا زبيده:flowers2:

وردة الزيزفون 05-10-09 12:03 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

اسماء88 08-10-09 07:45 PM

يعطييييييييييييييك الف عاااااااااااافية

زهرة الماس 28-11-09 06:45 PM

يسلمووووووووووووووووووووووووو000000تحياتي لكي

قماري طيبة 27-12-09 09:54 PM

وااااااااااااو رواية روعة عزيزتي سلمت يداك عليها

الجبل الاخضر 29-12-09 02:44 AM

تسسسسسسسسسسسسسسسسلمين رائع كل معتاد مايجي منك الا الممتاز ننتظر جديدك

سفيرة الاحزان 28-04-10 02:25 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

nada nadine 21-05-10 02:20 PM

bon courage !merci ,c'est tres touchant

أحاااسيس مجنووونة 08-08-10 10:06 PM

حلووووووووووووووووووووة كتيييييييييييييييير وتسلم اناملك جدا رائعة

:8_4_134::8_4_134::8_4_134:

بنوتهـ عسل 13-08-10 12:11 AM

يعطيك الف عافية حبيبتي ،،

مشكوووووره ،،

:flowers2:

samahss 18-08-10 08:10 AM

تسلمى الروايه رائعه

بحيرة الدموع 02-10-10 03:08 PM

WONDERFUL STORY:55::55::55::55::55:

فجر الكون 04-11-10 12:34 PM

مشكورة يعطيك العافية ,,,,

طيف السما 20-01-11 07:25 AM

حلووووه جدا واحداثها ممتعه ذوقك عالى فى اختيار الروايات:flowers2::55::8_4_134:

ساكنه 02-02-11 06:59 PM

:dancingmonkeyff8::friends::flowers2:مريسسسسسسسسسسسسسسسسسسسس سسسسسسسسسسسسسسسسسسسي خااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااالص نهاية رؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤعة لك كل الود ودمتي لي سكنة

زهرة منسية 05-03-11 02:14 PM

دائمآ رواياتك روووووووووووووووووعه يسلموا ايديكى الرقيقه

ندى ندى 26-11-11 10:08 PM

جميله جدا جدا جدا

سماري كول 08-12-11 10:18 PM

تسلمين ع الروايه الحلوه

نجلاء عبد الوهاب 25-06-12 11:49 PM

حلوه كتيييييييييييييييييييير شكرا كتييييييييييييييييير

الملآك القاسي 27-06-12 12:26 AM

شكــــراا على الرواية النااايس

سماح الطيبة 25-07-12 10:31 PM

رواية رائعة وحلو جدا انك جمعتيها بعدد مشاركات قليلة وده متعني وجعل من السهل الاحتفاظ بها علي جهاز الكمبيوتر خاصتي شكرا لكي كل الشكر

ام الحياة 24-07-15 11:32 AM

رد: 92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة )
 
تسلمي علي مجهودك وبصراحة الرواية ناقصة اول لقاء بين البطلة والبطل المشهد محذوف ليش مش عارفة

بركة لولو 24-07-15 09:12 PM

رد: 92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة )
 
رواية رااااائعه

إيمان العنزي 25-07-15 01:27 AM

رد: 92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة )
 
يا حلاتها من رواايه .،.،. لورا و زواجها من راندال:8_4_134::lol::liilas::liilas:

حلاتي في غلاتي 09-09-15 02:50 AM

رد: 92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة )
 
رواية رائعه قريتها يلهفة وكنت اتمنى انها ماتخلص تسلمي على الاختيار الاكثر من رائع:55:

Jalbar 19-09-15 03:34 PM

رائعته الروايه .. تسلمو

ياسمين مطلق 20-09-15 07:06 AM

راءعه شكررررا عن جد

Maryam anas 26-05-22 09:45 AM

جميلة جدا هذه الروايه لاتمل شكرا لجهودكم بنشرها

نجلاء عبد الوهاب 27-09-23 11:38 PM

رد: 92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة )
 
💖💖💖💖💖💖💖💖💖💖💖💖🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹😘😘😘😘😘😘

Moubel 13-10-23 03:43 PM

رد: 92 - لمن ترف الجفون - شارلوت لامب - عبير القديمة ( كاملة )
 
رواية جميلة جدا استمتعت بقراءتها شكرا


الساعة الآن 02:42 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية