منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله (https://www.liilas.com/vb3/f717/)
-   -   قد يأتي الخريف , ربيـــعا للكاتبة عائدة الخالدي (https://www.liilas.com/vb3/t110066.html)

النهى 30-04-09 01:05 PM

قد يأتي الخريف , ربيـــعا للكاتبة عائدة الخالدي
 




السلام عليكم ورحمة الله ,

مساؤكم / صباحكم شوق ..

أعلم أنني تواريت خلف الستار لفترة ليست بالقصيرة
لكنني هنا الآن ..
أحمل في يدي قلبي , وفي الأخرى مجموعة قصص آمل أن تنال إعجابكم

لصديقاتي .. لكل صديقاتي في منتدى ليلاس أهدي هذه الرواية وقريبا ستلحقها أخريات ..




لكم كل الحب ..

النهى 30-04-09 01:07 PM



لحظة انعتاق

طائرة "أليتاليا" المتجهة إلى ميلانو ما زالت جاثمة على أرض المطار، والركاب ما زالوا يدلفون إليها.. الموسيقى الكلاسيكية الخفيفة تدغدغ مسامعي وأنا أنظر عبر النافذة.. التفتّ تلقائياً إلى الرجل الذي على وشك الجلوس على المقعد بجانبي.. يا إلهي كم يشبهك بشعره الأشيب!.
عاودت النظر عبر النافذة وانهمرت الدموع من عيني رغماً عني غزيرة ساخنة.
الطائرة تتهادى على المدرج والمضيفة ترحب بالركاب وتشرح لهم أمور السلامة مرفقة بحركات زميلتيها زيادة في الإيضاح: "… وسنهبط في ميلانو الساعة…".
لم أسمعها؛ فنحن سنهبط على أي حال في ميلانو في وقت ما، والطائرة الأخرى ستكون حتماً بانتظاري لأتابع السفر إلى ليلى.
لم تعد تحصى المرات التي طرت فيها على متن مختلف الخطوط.
جواز السفر.. بطاقة السفر، والحقيبة..
أنا دائماً أحزم حقيبتي وأسافر.. سياحة.. عمل.. أمور طارئة.. كمرض ابنتي الذي بسببه أسافر هذه المرة.
كم مرة وطئت قدماي أرض مطار جديد، وكم مرة عبرت الحدود، وكم مرة التقيت بحرس الحدود ببزات وسحنات ولغات مختلفة باختلاف البلاد؟!.
ما أسرع أن يمتلأ جواز سفري بالأختام فاضطر لتبديله قبل انتهاء مدته.. لم تعد تحصى فعلاً تلك المرات.
وأنت؟!.. تباً لك.. لا أريد أن أفكر بك الآن.
مسحت دموعي وربطت حزامي الذي نسيته ومددت يدي إلى الحقيبة بحثاً عن الكتاب.
عندما لمحت رواية تلك الكاتبة عند صديقتي سوسن شرعت أقلّب صفحاتها..
أثارت سطور الصفحة الأولى شهيتي للقراءة، فوضعت الرواية على عجل في حقيبتي وأنا أودّع سوسن قبل سفري.
الطائرة تسابق الريح وتنطلق بأقصى سرعتها وترتفع فجأة في الجو.. كم أحب لحظة الانعتاق هذه.
رفعت عيني عن الكتاب، ونظرت إلى السماء..
كانت زرقاء صافية.. وسماء سورية على الأغلب زرقاء صافية في الربيع.. في نيسان.
نيسان ثان، وربيع ثان..
في الربيع بدأت قصتي معك.. منذ سنة.




النهى 30-04-09 01:09 PM



الربيع الأول:
سراب اسمه ضوء القمر







عدت أقرأ في الكتاب..
ما إن وصلت إلى الصفحة الرابعة حتى اكتشفت أن أحلام مستغانمي لا تروي لنا قصة بضمير "أنا-المرأة"؛ وإنما بضمير "أنا-الرجل".
إنها تتحدث بلسان رجل!.
رجل يروي لنا قصته ويفتح لنا نافذة نطلّ منها معه على ذكرياته من خلال حواره مع من كانت يوماً (أو ما زالت) حبيبته.
شعرت بالخيبة؛ فقد كنت أتوق لسماع رواية امرأة تتحدث بلسانها هي وتروي روايتها هي، علّها تتوازى أو تتقاطع في أحداثها مع قصتي أنا معك.. وقبلك وبعدك.
هل أخاطبك بضمير المخاطب أم بضمير الغائب؟.. فأنت دائماً غائب عندما تكون حاضراً، وحاضر عندما تكون غائباً!.
أقرأ في الكتاب كلاماً رائعاً: "لا تبحث كثيراً.. لا يوجد شيء تحت الكلمات. إن امرأة تكتب هي امرأة فوق كل الشبهات.. لأنها شفافة بطبعها. إن الكتابة تطّهر مما يعلق بنا منذ لحظة الولادة.. ابحث عن القذارة حيث لا يوجد الأدب".
ولذا سأكتب…
سأبدأ الرواية من هنا..
سأضيف إليها ما يستجد من أحداث ما زالت في الغيب، وأستذكر تفاصيلها الماضية..
معك..
أروي لك تفاصيلها أحياناً دون رابط زمني..
أرويها لك كما تأتيني عفو الخاطر..
***
في البناء القريب المخصص لسكن الطاقم الطبي أجلس في غرفتي الصغيرة التي استأجرتها فيه أستمع إلى الموسيقى وأكتب..
الجو ربيعي دافئ والطبيعة جميلة هنا في هذه القرية الصغيرة حيث المركز الطبي الكبير، حيث ابنتي ليلى تجلس على كرسيها المتحرك لا تقوى على الوقوف أو المشي..
لا تستطيع الكلام، ويداها المتشنجتين تؤلمانها فتضغط على راحتيها بأصابعها التي لم تعد تستطيع أن تمسك بها ملعقة أو قلماً.
تحتاج لمن يطعمها ويأخذها إلى الحمام.. تحتاج للمساعدة في كل شيء..
أما المدرسة فقد نسينا أمرها منذ أن فتحت أبوابها منذ أشهر.
يؤلمني منظرها كثيراً.. أحس كلما رأيتها برغبة في البكاء لكنني أتمالك نفسي أمامها وأنتظر حتى أغلق باب غرفتي على نفسي ثم أنفجر باكية.
ليلى.. ابنتي الصبية التي كانت تملأ حياتي فرحاً وحبوراً أصبحت معاقة إلى هذه الدرجة.
ليلى.. ابنتي الوحيدة التي أنجبتها بعد سبع سنوات من الزواج، وخمس سنوات من المحاولات حتى نفذ صبر الطبيب الشهير وقال لي ذات مرة متعجباً:
-غريب أمركما.. ربما يعاني زوجك من بعض الضعف؛ لكن المشكلة ليست صحية بحتة؛ بل مشكلة عدم انسجام فيزيولوجي!
زوجي لم يكن يرغب بالإنجاب.. كان يريدني رفيقة سفر لا يمنعها الحمل والولادة من المجازفة والترحال، ولكنني أقنعته أخيراً أن ذلك لن يكون عائقاً أبداً، وأصبحت حاملاً.. أخيراً؛ فأسرعت بكل فرحي أزف البشرى لحماتي عبر الهاتف.
-… ستصبحين جدة.
لأسمعها تجيبني ببرود:
-أوه.. أنت حامل إذن!
كانت ليلى تدهشني بأسئلتها الذكية وهي ما زالت طفلة صغيرة ونحن نطوف معها في أرجاء الدنيا.. كانت ترسم بشغف، وتركب الخيل بمهارة ثم فجأة أصابها هذا المرض العضال فلم تعد ترغب أو تقدر على القيام بشيء.
فرحة هي بوجودي معها، وأنا أقضي كل الوقت معها؛ فأنا جئت إلى هنا من أجلها فقط.. جئت لأعتني بها وأطعمها بدل المشرفات اللواتي كن يرجونني أن آخذ قسطاً من الراحة عندما يلمحن آثار الإرهاق على وجهي. في الليل عندما تنام ليلى كنت أعود إلى غرفتي لأشعر أني وحيدة.. وحيدة وقد جلبت معي أدوات الرسم والكتابة ولكن لا رغبة لي بذلك حتى الآن..
تمنيت لو أنك اتصلت ولو مرة.. ولو من باب المجاملة لتسأل عن حالها.. عندما كنت وحيدة هناك أنتظر. وحيدة أنتظر، والكوابيس تحرمني من النوم.. أبكي في نومي واستيقظ فجأة وأنا أشعر بشيء يطبق على أنفاسي، فأنهض وأمشي في الغرفة.. في العتمة.. وأبكي.
***
زوجي بيتر سافر عائداً إلى سورية؛ فنحن هنا بالتناوب من أجل ابنتنا.
لم نعد نلتقي إلا لأيام معدودة..
بيتر؟!
كيف أصبحت منذ البداية رفيقته؛ ولم أصبح أبداً حبيبته؟!..
أين هو هذا الشيء المفقود بيننا.. هذا الشيء الذي اسمه الشغف؟!
الشغف!
كيف أدعوه مفقوداً، وهو شيئاً لم يكن منذ البداية موجوداً؟!!
ذاك الحاجز اللعين غير المرئي الذي يفصل بيننا!.. أصبح مرئياً!!
كيف السبيل إلى تحطيمه؟.. وهل من أمل في ذلك بعد حوالي عشرين سنة؟!
كيف يمكننا أن نخلق عاطفة لم نعرفها أبداً؟!
إرادتنا الطيبة وحدها لا قدرة لها على خلق عواطف جديدة من العدم..
إنها قادرة فقط على خلق حياة مشتركة منسجمة بما يتيسر لها من العواطف.. من العواطف الأخرى.. ود وإلفة وعطف وحنان.
أنا وبيتر بنينا حياتنا المشتركة المنسجمة بالتفاهم والصراحة.. فلماذا أستشعر الآن، وأكثر من أي وقت مضى هذا الخلل الذي لم أكن أعيره تلك الأهمية من قبل؛ لكنه يبدو لي الآن على هذا القدر الكبير من الأهمية؟!
إرادتنا الطيبة لا تخلق عواطف جديدة من العدم..
والعواطف لا تأتي حسب الطلب..
تأتي تلقائياً..
تأتي رغماً عنا، ورغماً عن إرادتنا.
تتحدى المنطق وتفاجئنا، وقد خلقت فجأة في وقت ما، قد لا يراه العقل مناسباً؛ لكن القلب يباركه..
يخلق الحب فجأة.. من تفاعل كيميائي في لحظة خاطفة من عمر الزمن.
ألم يكن هذا هو تفسيرك، وأنت تمسك بيدي في السيارة وتضغط عليها برفق وكأنك تريد أن تؤكد لي بذلك مصداقية كلامك..
مصداقية كلامك؟!!!
***
عندما اكتشفت تلك "العقد" استفسرت عن جراح ماهر؛ فدلوني عليك، وليتهم لم يفعلوا.. ليتني اكتشفتها قبل رحيلي من هنا، وأجريت العملية هنا، ولم أتعرف عليك قط!.
كانت غرفة الانتظار تعج بالمرضى، ومعظمهم قرويون.. بسيطين.. فقراء.
كان نديم يسجل أسمائهم ويتلقى المكالمات الهاتفية التي لا تنتهي.
كنت أنت في مكتبك، وكنت أنا أنتظر دوري كالباقين..
جاءت سيدة أنيقة سرعان ما أدخلها نديم إلى الغرفة الصغيرة التي تتوسط ما بين مكتبك وغرفة الانتظار، ثم ما لبثت أن دخلت المكتب!.
استفسرت من نديم:
-هل المرضى عندكم طبقات؟!
ولم يدر المسكين بما يجيبني؛ فقال بسرعة:
-إنها دكتورة!
-يا سلام.. وأنا صحفية.. وماذا عن كل هؤلاء المساكين الذين ينتظرون دورهم؟.. كم من الوقت عليهم إذن أن ينتظروا؟!
كنت أنت في الداخل تسمع ما أقول..
لم أنتظر طويلاً جداً..
دلفت غرفة المكتب فاستقبلتني بابتسامة عريضة، ليس من وراء مكتبك؛ بل وأنت واقف قبالتي تمد لي يدك بالتحية وتدعوني باليد الأخرى للجلوس مشيراً إلى مقعدين متجاورين قرب النافذة..
قلت:
-عذراً.. فأنا لا أستطيع إدخال كل هؤلاء البائسين دفعة واحدة..
إن الاستماع إلى مشاكلهم يحتاج إلى صبر وطاقة كبيرة.. أحتاج لفترات راحة أستقبل فيها أناس آخرين!
عرفت أنك سمعت ما قلته لنديم، وعجبت كيف تحدثني بهذه العفوية وأنت تراني لأول مرة، ولست بالتأكيد بحاجة لتبرير أفعالك تجاهي.
ابتسمت وأنا أتأملك:
رجلاً أسمراً متوسط الطول.. شعرك فضي كثيف، وطويل نوعاً ما.. بحاجة إلى مقص الحلاق!.
قميصك مفتوح الصدر بلا ربطة عنق وبنطالك من الجينز الأزرق..
كنت تدخن سيجاراً أيها الطبيب!!
كان كل ما فيك غريباً جذّاباً، وكانت ابتسامتك وعفويتك أجمل ما فيك.
أحسست وكأني أعرفك منذ زمن بعيد؛ ولكني كنت مضطربة مع أني لم أكن كذلك قبل أن أدخل إليك.. كان شيئاً غريباً يتحرك في داخلي..
شيئاً لم أدرك كنهه في البداية؛ لكنه كان الحب!
كان الحب من النظرة الأولى!!
قلت لك:
-أنا آسفة.. ليس من حقي طبعاً أن أبدي ملاحظاتي لنديم.. أنا صحفية، والصحفية طويلة اللسان رغماً عنها!
وضحكنا معاً، ثم أخبرتك عن سبب الزيارة، وأريتك الصور، وتناقشنا في أمر العملية.. وشرعنا نتحدث عن أمور أخرى.
****
كنت مستلقية في السرير في غرفتي بالمستشفى عندما جئت في المساء تنظف لي الجرح وأنت تدندن..
شعرت بالفرح يدغدغني وأنا أسمعك، ثم باغتني سؤالك:
-من أين أتيت بهذا الرجل الوسيم؟!
(كنت تقصد زوجي الذي خرج لتوه لأمر ما..)
هذا السؤال..
كم سمعته يتردد على ألسنة الكثيرين؛ ولكن لماذا لم يرقني أن أسمعه منك أنت بالذات؟!
أجل.. رجل وسيم هذا الذي تزوجته.. وسيم، ويبدو أنه يصغرني بسنوات.. كبرت أنا ولم يكبر هو).
-… قولي لي يا كارمن.. عما تكتبين في المجلات؟
-إني أجري استطلاعات صحفية، وتحقيقات من بلاد العالم المختلفة التي أزورها، وأكتب عن انطباعاتي عنها، كما أني أكتب نقداً اجتماعياً وخواطر.
-هل لي بعدد من مجلة تكتبين فيها؟
فرحت جداً لطلبك، ورجوت باندفاع طفولي من زوجي أن يجلب لي أعداداً من البيت كي تختار واحداً منها.
(اخترت مجلة؛ ولكنك أضعتها فيما بعد بدل أن تقرأها.. قرأها نديم بدلاً منك!!.
قال لي نديم ذلك بحماس، وهو يذكر لي ما ورد في تحقيقي عن تلك البلاد البعيدة من معلومات وأخبار.
أما أنت، فقد اعتذرت بحجة أن نديم لديه متسع من الوقت أكثر!..
حقاً؟!!.. وهل كان يهمني أن يقرأ كتاباتي نديم أم أنت؟).
جئت إليك بعد أيام في العيادة لتفحص الجرح؛ فأخبرتني أنك مسافر إلى أمريكا الجنوبية، ثم فاجأتني مرة أخرى بسؤال خرج من بين شفتيك عفوياً للغاية:
-هل ترغبين بالسفر معي؟!
-ولمَ لا؟!… أود أن أكتب عن هؤلاء المغتربين هناك.
-وأنا يمكنني مساعدتك.. إن لي صلاتي الوثيقة هناك!
كانت فكرة مجنونة؛ ولكني تمنيت لو حدث هذا الجنون.. لو اتصلت بي ودعوتني حقاً لمرافقتك.. لم يكن لدي مانع، ولم يكن بيتر ليمانع.. بالتأكيد!!
كنت أجد دائماً سبباً ما يجعلني أزورك في العيادة، وكنت تفرح برؤيتي.. تقبّلني على الوجنتين مرحبّاً كصديق قديم وترجوني كلما نهضت مستأذنة بالانصراف أن أجلس قليلاً:
-إنك تنسيني الوقت؛ فاجلسي بعد ودعينا نتناول القهوة معاً.
عندما مرضت ليلى والتبس علي مرضها جئت إليك أستفسر عن طبيب أعصاب مختص فدللتني عليه، ورجوتني أن أوافيك إلى العيادة لأطمئنك، ولكني لم أفعل..
أردت أن أكبح جماح رغبتي برؤيتك..
أن أشغل نفسي عن التفكير بك.
****

النهى 30-04-09 01:10 PM



لم يكتشف طبيب الأعصاب ما بها وهو يمعن النظر في الصور التي طلبها، وطلب مني أن أزور طبيباً نفسياً؛ فجئت ثانية إليك، وأنا أوهم نفسي أني أزورك لمجرد الاستشارة..
كتبت لي اسم الطبيب وعنوانه في دمشق على ورقة وطلبت مني أن أزوره في ذاك اليوم بالذات.. رجوتني أن آتي إليك بعد ذلك إلى العيادة، واقترحت علي أن توصلنا إلى البيت؛ فأنت مسافر إلى اللاذقية- كالعادة- مساء اليوم.
لم أستطع أن أقاوم هذه المرة رغبتي برؤيتك، وبرفقتك على الطريق؛ فدخلت العيادة..
كانت الساعة تشير إلى السادسة مساءً، وكانت قريبتك سناء تجلس في مكتبك..
تعرّفت عليها، واحتضنت ليلى باسمة وهي تقول:
-كم أحب هذا الاسم.
كان عدم الارتياح بادياً على وجهك عندما انصرفت سناء، وبادرتني قائلاً:
-في الحقيقة.. إنها ليست ابنة خالي؛ بل ابنة ابن خالي.
لم يكن الأمر يعنيني من قريب أو بعيد؛ فلم أجب.

-أتعرفين؟!.. لقد كنت في غاية الترقب أتساءل إن كنت ستحضرين أم لا.
-لقد وعدتك بالحضور، وليس من عادتي أن أخلف بوعودي.
كنت ترتب أوراقك استعداداً للذهاب، وتشاغلت أنا بتقليب الصحيفة ريثما تنتهي، وريثما تعود ليلى من المرحاض.. وجاءني سؤالك دون مقدمات:
-لاحظت أنه لا يوجد affection بينك وبين بيتر!!
فاجأني سؤالك الجريء جداً؛ فأجبتك بسؤال مغلّف بالسخرية محاولة إخفاء اضطرابي:
-هه.. هل علينا إذن أن نتعانق ونتبادل القبل علناً لنبرهن عكس ذلك؟!
(كنت أغالط نفسي، وأعرف ذلك.. ولكني أحاول أن لا أفضح نفسي أمامك).
-طبعاً لا.. ولكني أشعر أن لا شيء بينكما من هذا القبيل!!.
-…
(لم أحر جواباً.. أنا أعرف في قرارة نفسي أنك على حق.
أنا لم أشعر أبداً تجاه بيتر بالشغف.. بل بالمودة.. مجرد مودة؛ ولكن لا داعي لأن تعرف أنت بالذات ذلك).
عادت ليلى من المرحاض.. ضممتها إليك وقبلتها وأنت تريها صورتك في جواز السفر، ثم تضعه في حقيبة يدك الصغيرة قائلاً:
-هيا بنا.
لكن الهاتف ما لبث أن زعق، فسرت باتجاهه متذمراً:
-كثرت المكالمات اليوم، لأني قررت الذهاب باكراً.
أنهيت المكالمة بسرعة؛ فناولتك ونحن نهم بالخروج علبة كبيرة، وقلت لك:
-هذا الكاتو صنعته لك.. شكراً لك لاصطحابك لنا بسيارتك.
-سأحمله إلى أمي وآكله معها!
ما إن انطلقت السيارة حتى شعرت براحة يدك تلامس خدي برفق وأنت تقول:
-تبدين حزينة.
-لا شيء.. أنا شاردة الذهن قليلاً.
-لا.. هناك غلالة من الحزن على وجهك.. عيناك حزينتان.. وأنا أعرف لماذا!!
نظرت إليك بدهشة وبقيت صامتة..
(أيها الماكر.. إنك تنفذ إلى أعماقي وتقرأ ما بداخلي..
تعرّيني وتواجهني بالحقيقة.. هكذا.. بكل جرأة.. بجرأة تصل ربما حد الوقاحة، وأنا إن تفوهت فإني أخدع نفسي فقط!)
-حقاً؟!.. أتعرف لماذا أنا حزينة؟
كانت ليلى قد استلقت على المقعد الخلفي لتغفو قليلاً؛ فاستدرت إليها، وجذبت سترتك أغطيها بها..
وعدت تكرر:
There is no affection
أين هو؟!
وبسرعة، أمسكت يدي تشد عليها، وأنت تقول:
-… إنه هنا… بيني وبينك.. إنه هذه الكيمياء العجيبة التي لا يمكن تفسيرها أبداً.. هذا التفاعل الذي يحدث بين اثنين.. يحدث فجأة وبعفوية دون أن نعرف كيف ولماذا!.
-…
ارتحت للمساتك، ولم أمانع، بل تركت يدي ترتاح في يدك.
تأكدت عندئذ أن شيئاً خطيراً قد حدث لي.
شعرت بالحرارة، ثم بالعرق يتصبب مني.. يتصبب من مسامات جسدي كلها!
تمنيت لو أن الطريق يمتد إلى ما لا نهاية.. تمنيت أن لا تترك يدي تفلت أبداً من يدك..
كانت فيروز تشدو.. تذوب رومانسية، وتذيبني معها..
ونسيت من أنا، ومن أنت.. نسيت ابنتي..
نسيت كل شيء، ولم يعد يهمني إلا أني بقربك في هذه اللحظات بالذات.
-أنت لست جميلة يا كارمن!…
(يا للإطراء…) بقيت صامتة انتظر أن تكمل جملتك:
-… لكن فيك شيء غريب.. في وجهك شيء آسر يجذبني إليك.. طبعاً، لا بد أنك سمعت ذلك من غيري.
-بالفعل..
وتذكرته..
مازن.. ذلك الطيار الشاب الذي كان يلاحقني بالسيارة على طريق الجامعة..
تقدم مني مرة بجرأة وعفوية، وعرّفني على نفسه، ثم دعاني لتناول فنجاناً من القهوة، وعندما رفضت بلطف وأنا أبتسم لخفة دمه تبعني إلى مكتبة الجامعة، وظل جالساً بقربي وأنا أرجوه أن ينصرف كي لا يزعج الآخرين، ولكي أتمكن من المطالعة؛ لكنه أصر على البقاء حتى أذعنت لرغبته وتناولنا القهوة معاً في مقصف الجامعة..
تعرّفت على أهله، وتعرّف على أهلي.. كنت أجلب له من البلدان المختلفة هدايا صغيرة لطيفة، وكنا نلتقي بعفوية عندما يشعر أحدنا بالسأم فنشرب شيئاً ما ونحن نضحك ونتحدث، ثم نفترق دون وعود..
قال لي مرة أنه لم يتعرّف أبداً على فتاة مرحة وصادقة وعفوية مثلي، معترفاً أنه تعرّف على فتيات كثيرات، وكن بالطبع أجمل مني؛ لكنهن كن يفتقدن إلى جاذبيتي.. إلى هذا الشيء "الآسر" في وجهي!
عندما عدت من زيارة بيتر، وقد اتفقت معه على الزواج، كان مازن ينتظرني في المطار..
نظر إلي بحزن، وقال:
-ستتزوجينه إذن.
-أجل
-أتمنى لك التوفيق، وأرجو أن لا تبخلي علينا برؤيتك.
تمنيت في تلك اللحظة لو أنه قال لي شيئاً آخر..
لو أنه صرخ في وجهي وفاجأني بقوله:
-كارمن.. أنا أحبك!
لكنه لم يفعل، ولم أعرف لماذا تمنيت أنا ذلك؛ فليس بيننا وعود.. مجرد صداقة.
أيقظتني من خواطري وأنت تقول:
-أنت لم تمريّ عليّ مرور الكرام.. أقسم لك يا كارمن..
حدثيني عن نفسك.. انفتحي لي!.. ماذا تفعلين في الأمسيات مثلاً؟
-أقرأ وأكتب وأصنع أشياء جميلة داخل البيت، وأرسم في بعض الأحيان؛ فالرسم يتطلب وقتاً ومكاناً لا يمكن توفرهما غالباً إلا في الصيف عندما تكون ليلى في إجازتها المدرسية، ولا حاجة لتدريسها… عندئذ يمكنني أيضاً أن أسافر وأكتب تحقيقاتي الصحفية.. أما التلفاز؛ فأنا لا أشاهده إلا نادراً.
-وأنا أيضاً.
وتبسطت في الحديث معك، وأخبرتك أشياء وأشياء، وأخبرتني مثلها..
جذبت يدي فجأة إلى صدرك.. إلى قلبك وأنت تقول:

-أنا أحبك يا كارمن.. أحبك، فهل تحبينني؟!
-ربما أحبك.. ربما!
لم أدر كيف قبَّلتك بسرعة وأنا أقول:
-أنت شيطان!
-أنا؟!.. أنا إنسان مسكين..
انظري إلى هذه الأشجار تتراقص ظلالها في العتمة، وإلى هذا البدر الرائع يتلألئ في السماء، وينير لنا الطريق.. يا لها من أمسية ربيعية رائعة.. تعالي نجن معاً؛ فنحن لا نؤذي أحداً!.
-لا.. بل نؤذي أحداً بالتأكيد.. أرجوك كن عاقلاً ولا تفقدني صوابي!
لاحت مشارف المدينة من بعيد، وأتاني صوت ليلى وقد استيقظت للتو تسأل:
-هل وصلنا؟
أوصلتنا للبيت، ودعوتك من باب المجاملة للدخول وتناول القهوة، وأنا أتمنى ألا تفعل..
ولم تفعل؛ بل صافحتني مودّعاً.
فتح لي بيتر الباب وسألني عنك؛ فقد كان يتوقع أن أدعوك- حسب الأصول- لتناول القهوة.
قلت لـه أنك اعتذرت لأنك متعب، وتشاغلت بمساعدة ليلى للذهاب إلى الفراش كي تهدأ نفسي قليلاً، ولا يلاحظ بيتر مدى اضطرابي..
جلست في الغرفة أمام التلفاز مرهقة ساهمة.. أستعيد في بالي تفاصيل مشوارنا.. سألني بيتر:
-هل ترغبين بشرب الشاي؟
-نعم.. شكراً لك.

وذهب بيتر إلى المطبخ ليعد الشاي، وتركني لشرودي ومشاعري المضطربة..
****
كان شخير بيتر يرتفع فأربت على ساعده برفق كي يستدير إلى الجانب الآخر..
لقد استسلم للنوم بعد أن مسّدت له رأسه كالعادة، أما أنا.. فكيف أجد للنوم سبيلاً؟
عيناي تحدق في الظلمة.. أفكر بك وأتساءل:
أينبغي للمرء أن يكون متطلباً هكذا؟..
أنانياً هكذا؟..
أليست الحياة أولويات؟
شعرت بالرغبة أن أوقظك أيها الشرقي العابث من أحلامك الوردية وأحرمك من النوم الذي حرمتني منه؛ ولكني أشفقت عليك، وانتظرت ساعات حتى أتصل.
كنت بحاجة للتحدث إليك.. بحاجة لأن أضع النقاط على الحروف، وأبرر حماقة لم أرتكبها من قبل..
جاءني صوتك عبر الهاتف يغالبه النعاس.
(ماذا كنت أتوقع بحق السماء؟.. أن تساهر النجوم من أجلي؟!..
أقسمت لي أن لقائك بي لم يكن لقاءاً عابراً، وأنا أخشى أن يكون ضوء القمر مجرد سراب تلألئ في عينيك ذات مساء ثم.. اختفى!)
***
اتصلت بك ذات مساء:
-مساء الخير.. كيف حالك؟
-آ.. أهلاً بك كارمن.. كيف حالك؟
-بخير..
-ذاك المساء كان كالحلم.
-دعه يظل كذلك.
-ليتك ترافقيني كل مرة في ترحالي ما بين دمشق واللاذقية.
-غير ممكن، فإن لي التزاماتي.. أريد أن أتحدث إليك في أمر هام.
أدركت بسرعة ما الذي أود التحدث إليك بشأنه؛ فأجبتني:
-أراك إذن في العيادة بعد أيام.
-إلى اللقاء إذن.
-إلى اللقاء يا حبيبتي.
***
اتفقنا أن أزورك في العيادة الساعة الثانية عشر والنصف ظهراً.
كنت أشعر بالذنب…
أردت أن أوضح لك الأمور، وأقول إن ما حدث لم يكن سوى نزوة عابرة.
كنت أسرع الخطى قاصدة عيادتك عندما بدأ المطر ينهمر بغزارة؛ فأسرعت إلى أحد المتاجر لأشتري مظلة.. أردت أن أتصل بك لتعلم أني في طريقي إليك، ولكني نسيت رقم الهاتف وأعطتني عاملة الاستعلامات رقماً لم يكن رقمك!.
عندما وصلت العيادة كان الباب مغلقاً، وعدت إلى المنزل حانقة.
في المساء حزم بيتر حقيبة السفر وودعنا وسافر كالعادة..
سافر إلى بلاده لمتابعة عمله هناك.
ذهبت في اليوم التالي لأشتري بطاقة سفر إلى دمشق لأزور أمي بمناسبة عيد الأم.
ألقيت نظرة إلى الساعة في معصمي لأراها تشير إلى الحادية عشر.
إنه موعد قدومك إلى العيادة..
فكرت أن أزورك سريعاً وأعاتبك بشأن البارحة.
وفجأة.. التقيتك في الشارع، عند مدخل المبنى، وقد ترجلت لتوك من السيارة..
وقفنا نتحدث تحت المطر:
-لقد انتظرتك ولم تحضري… I miss you
-ولكني حضرت، وكانت العيادة مغلقة مع أني لم أتأخر سوى خمس دقائق عن الثانية عشر والنصف.. ألم يكن بوسعك انتظاري بضع دقائق إضافية؟
-كنت في هذا الوقت أجري عملية جراحية.. لقد انتظرتك حتى الساعة الثانية عشر إلا ربعاً.. ظننت أن موعدنا كان الساعة الحادية عشر والنصف!.
-لا بأس.. لقد أردت لقاءك لأقول لك أن علينا أن ننسى ما حدث.. إنها مجرد غلطة لا ينبغي أن تتكرر.
- كيف تقولين ذلك؟.. نحن لسنا أطفالاً.. إلى أين أنت ذاهبة الآن؟
-ذاهبة لأشتري بطاقة سفر؛ فغداً عيد الأم وعلي أن أزور أمي.
-لماذا لا ترافقينني على الطريق؟.. أنا ذاهب غداً الساعة الثالثة بعد الظهر، وليس في الصباح الباكر كعادتي.
-حسناً.. علي أن أتدبر أولاً أمر ليلى، ثم أتصل بك هاتفياً.
-ولم لا تتركيها عند والدها؟
-لقد سافر البارحة.
-انتظر مكالمتك غداً.. سأكون عند والدتي.. ها هو رقم الهاتف..
لقد أكلت الكاتو مع أمي ودعونا لك.. كان لذيذاً.. ليتك تأتين إلى القرية غداً!.
-لا أستطيع.. سأتصل بك لنتفق على مكان اللقاء.
-أتعلمين؟!.. من حسن الحظ أني لم ألقاك البارحة في العيادة.. سأحظى برفقتك غداً، وهذا أفضل.. إلى اللقاء إذن.
-إلى اللقاء.


النهى 30-04-09 01:13 PM



اليوم يوم عطلة..
تركت ليلى في رعاية أم فادي؛ فهي لم تبد على أي حال حماساً للسفر معي، وهرعت إلى سيارة الأجرة.. ما إن ترجلت منها في المكان المتفق عليه حتى سمعت السائق يناديني؛ فقد نسيت من لهفتي بلقائك الحقيبة في السيارة!.
وقفت أنتظرك، وأنا أتخوف من أن تنسى الموعد وتنساني..
كان الجو ما زال مشبعاً بالرطوبة، والنسمة باردة..
الأرض مبتلة، والسماء ما زالت ملبّدة بالغيوم تبشّر بالمزيد من الأمطار.
لم يطل انتظاري؛ فقد لمحت سيارتك قادمة من بعيد..
كان يجلس بجوارك رجل سرعان ما ترجل من السيارة وجلس في المقعد الخلفي ليترك لي مكانه..
ابتسمت لي محيياً، وفتحت باب السيارة الخلفي لتضع حقيبتي فيها..
عند أحد المنعطفات ترجّل الرجل وودعك شاكراً.
(الحمد لله.. كنت أخشى أن يرافقنا طوال الطريق!).
وانطلقت السيارة بنا..
أنا وأنت.. لوحدنا.
شعرت بيدك تداعب وجنتي وأنت تسألني:
-كيف حالك؟
-بخير..
(وصمتّ.. لم أعد أرغب أن أطلب منك نسيان شيء لا أرغب أنا بنسيانه!).
-لا أعرف إلى أين أهرب بك يا كارمن.. كل العيون ترصدنا؛ فأين يهرب المرء بحبيبته في هذا البلد اللعين؟!
بقيت صامتة أبتسم لك.. فرحة بملامساتك الرقيقة.
ثم قلت لك:
-أتعرف؟.. لقد أوحيت لي بخاطرة كتبتها وجلبتها لك لتقرأها.
-اقرئيها لي.
-سأنفعل وأنا أقرأها.. اقرأها أنت.
-لا.. اقرئيها لي، فأنا أحتاج لنظارات من أجل ذلك.
-ها هي النظارات.. ضعها على عينيك واقرأ.
-يا لك من عنيدة.. هيا اقرئيها لي!
-نعم أنا عنيدة؛ ولكن لا بأس.. سأقرأها لك إن كنت مصراً على ذلك.
وقرأتها وأنا في غاية الانفعال.. صوتي مضطرب، والعرق يتصبب مني.. من جديد!
كنت تسمع وتبتسم وتلامسني بلطف.
غريب ولذيذ هذا الشعور بالأمان الذي يمنحني إياه الجلوس بقربك.. شعور لم أختبره من قبل، ولا أريد أن أفتقده.
كانت الشمس تغمر الأشجار على جانبي الطريق بأشعة الذهب، وقلبي تغمره مشاعر شتى.
كان يخفق بشدة، وكأنه يريد أن يخرج من صدري!.
مراهقة عدت أنا من جديد..
مراهقة كانت تجلس تحت شجيرة الياسمين لترسم وتكتب شعراً وتحلم..
كان يوم الغسيل هو أسعد أيامي!.
كنت أهرع إلى أمي أعرض عليها مساعدتي، وكانت أمي تتجاهل الأمر، وكأنها لا تعرف.
تتركني أصعد إلى السطح لأنشر الغسيل وأرى جاري الممشوق القامة يبتسم لي ويرشقني بزهرة فل ثّبتها بملقط الغسيل كي تصل السطح بسلام وترتمي عند قدمي؛ فالتقطها فرحة واحتفظ بها بين صفحات كتابي.
كان قلبي يخفق بشدة كلما رأيته، وكأنه سيخرج من صدري، وكنت يومها في السابعة عشر..
فما بالي اليوم تنتابني نفس المشاعر وقد بلغت الأربعين؟!!.
غربت الشمس وراء الأفق، واصطبغت السماء بلون أرجواني، ولاحت من بعيد سلسلة الجبال، وقد كستها طبقة رقيقة من الثلج، تلمع بلون فضي يعكسه بعض من ضوء النهار المتبقي قبل أن يحل الظلام.
كان الجو بارداً في الخارج، وقد دخلنا مدينة النبك.
قلت لي أننا سنتوقف هنا لنزور سريعاً أحد معارفك.
استقبلنا الرجل وابنته الجامعية بالترحاب، ودخلنا غرفة الضيوف وأنا أرتجف من البرد –وربما من الانفعال- في سترتي الصوفية الرقيقة، فخلعت سترتك ووضعتها على كتفي..
شعرت بالدفء وغمرتني السكينة، وأنا أجلس بقربك..
سترتك تلفني فأشتم منها بعضاً من رائحتك، وأتلذذ بالاستماع إليك وأنت تحاور صديقك.
كان الظلام قد أرخى سدوله، ونحن نتابع طريقنا.. قلت لي:
-خسارة.. لقد أوشكنا على الوصول وأنا لم أقبّلك بعد!
-لا بأس.. نؤجلها للمرة القادمة.. لقد تأخر الوقت ومنزل أمي ما زال بعيداً.
-وهل أنا حافلة نقل عام؟!

(فاجأتني عبارتك.. بل صدمتني.. ماذا كنت تقصد بقولك هذا؟!).
نظرت إليك باستغراب:
-طبعاً لا.. أنا آسفة.
والتزمت أنا بالصمت، وأنت تقود سيارتك حتى العيادة.
ترجلنا من السيارة وأنت تسرع في مشيتك.. تسبقني في السير..
تصعد الدرج وتفتح الباب، وأنا أتبعك صامتة وحقيبتي في يدي، وأنا أشعر أني لست أنا..
أحاور نفسي وأضع اللوم عليها.. كل اللوم:
"ماذا كنت تظنين إذن يا مجنونة؟!.. أنت وافقت على اللعبة، وعليك إتمامها".
أغلقت الباب دوننا، ثم احتضنتني بسرعة.
كنت مستعجلاً..
احتويتني بذراعيك القويتين، وغمرتني بقبلات محمومة.
عندما استعدت وعيي كنت تحضر لي فنجاناً من القهوة.. تساءلت:
-لمَ القهوة؟.. أنا لست من محبيها.
-كي تصحي!
-أنا صاحية من دون قهوة.. و..
قطع رنين الهاتف كلامي؛ فأردفت ساخرة:
-ألا تريد أن ترد على الهاتف؟.. هناك من يطلبك، وأنت مستعجل على أي حال.
كنت مدعواً للعشاء في إحدى السفارات، وتركتني أرتشف القهوة المرة وحدي، ودخلت إلى تلك الغرفة الداخلية ترتدي على عجل ثياباً أخرى تليق بالحفل!.

فتحت لي الباب بعد أن تأكدت من خلو الدرج من الجيران، وودعتني عنده:
Call me tomorrow!
-ربما.
وأسرعت أهبط الدرج.
طلبت سيارة أجرة لتقلني إلى حيث تقطن أمي، وتركت لدموعي أن تنساب في عتمة الطريق على خدّي دون حرج.
****
كان أخوتي مجتمعين هناك يتبادلون الأحاديث.. سألوني عن أحوالي؛ فأجبتهم باقتضاب، ولذت بالصمت، سألتني أمي:
-ما بك يا ابنتي؟
-متعبة.. متعبة يا أمي، لقد سافر بيتر، وليلى تتعبني، خاصة عندما يسافر والدها، ومعالجة الطبيب النفساني لم تعط نتيجة حتى الآن.
(كان هناك سبب آخر.. سبب مباشر لا أجرؤ على البوح به).
-إنها فترة ما قبل المراهقة، وعليك أن تتحلي بالصبر.
-أعرف يا أماه.. أعرف؛ ولكن طاقتي تنفذ أحياناً.
عاد أخوتي إلى بيوتهم..
فتحت أمي خزانتها لتريني ما أشترته من جديد الثياب، ثم سألتني بحذر:
-كارمن.. لماذا لا تتجمّلين من أجل بيتر؟.. أنت لا تهتمي بأدوات التجميل والعطور‍!
-إن بيتر لا يحبها.. إنه يسخر مني إن وضعت أحمراً للشفاه قد يراه فاقعاً.
-تجمّلي إذن من أجلك.. كما أفعل أنا.
-…
-.. كما أن ثيابك دائماً "سبور".
-أنا أحبها هكذا.
-ولكن يا ابنتي على المرأة أن تتجمّل من أجل رجلها.. إنه يحب أن يراها في ثياب جميلة.. في ثياب مثيرة!.
-عن أي رجل تتحدثين يا أمي؟!
بوغتت أمي المسكينة بردة فعلي المفاجئة، وبوغتّ أنا..
لقد أخرجتني ملاحظتها عن طوري، وقد عدت من عندك متعبة النفس..
قلت لها بصوت متهدج:
-إن بيتر لم يأبه أبداً لملابسي.. أتظنيني بلهاء ولم أحاول أبداً أن أثيره بملابس مثيرة؟!
كنت أرتدي الثياب وأقف أمامه أسأله رأيه.. وأنت تعلمين يا أمي أن قوامي كان وما زال جميلاً متناسقاً..
-نعم.. وماذا كان يفعل؟!
-كان يكتفي بأن يقول لي: جميل جداً، ثم يعود لينشغل بما كان به مشغولاً!
لقد حاولت كثيراً حتى مللت ورضيت بالأمر الواقع.. أنا لا أثيره أبداً.. آه يا أمي دعينا من هذا الحديث.
لكن أمي لم تدعني وشأني حتى عرفت كل شيء، وبدأت تعاتبني أني لم أخبرها بذلك منذ البداية…
منذ تسعة عشر عاماً، وقد كانت من قبل أمينة سري.
(هل كانت معرفتها بالأمر ستغيّر منه شيئاً؟!..
ربما كانت شجّعتني، وقد كان مفتاح التغيير في يدي وحدي؛ ولكني شغلت نفسي في مجالات كثيرة وجدتها أمامي: الدراسة والعمل والسفر، وكل تلك النشاطات والهوايات.. ربما لأني خفت..
خفت مما سيقوله الناس عني، أنا المعتدّة بنفسي، إن عدت لأهلي صبية مطلّقة).
أمضيت الليلة عند أمي أحاول أن أستسلم بصعوبة للنوم.
استيقظت متعبة، والهاتف بجانب السرير يذكّرني بك: Call me tomorrow
لا.. لن أفعل.
***
عدت إلى المنزل..
حاولت أن أشغل نفسي عن التفكير بك.. فلم أستطع.
حاولت أن أنسى كلامك.. فلم أستطع.
ماذا تظنني بحق السماء؟!.. لقد أزعجتني كلماتك واستعجالك.
لماذا لم تدرك أنني لو لم أحبك لما…
"أرأيت حب المرأة؟!.. إنها تحب بقلبها، والرجل يحب بشهوته؛ فحبها باق وحبه متحول"*
أردت أن أراك في العيادة..
كانت غرفة الانتظار تفيض بالناس ينتظرون حضورك، وقد وقف بعضهم خارجاً لضيق المكان.
طال انتظاري وأحسست بالاختناق؛ فخرجت إلى الشارع.
كانت ليلى برفقتي، تحدثني فلا أسمعها..
أنظر إلى واجهات المحلات فلا أراها.
وفجأة تناهى إلى سمعي صوت ينادي: ليلى.. ليلى.
التفتّ لأراها مقبلة نحونا تبتسم..
قريبتك سناء!
تحدّثنا، وأعطتني رقم الهاتف، وقالت إنها ستسعد بزيارتي لها في القرية.
(يا لها من فرصة سانحة..
سأزورها في القرية لأراك؛ فزيارتها ليست سوى حجة كي أزورك دون أن ينتبه أهلك أني جئت فقط لأراك.. ألم تكن تلحّ علي دائماً أن أزورك، وأرى عريشة الياسمين في حديقتك؟).
***
جاء العيد، وجاءت معه "الفرصة الذهبية".
كان بيتر مسافراً، وذهبت مع ليلى إلى القرية.
سألتني سناء:
-هل زرت الدكتور؟
-لا.. ليس بعد.
-بإمكاننا الاتصال به وزيارته.
-لا بأس.
كانت الساعة تشير إلى السادسة إلا ربعاً عندما اتصلت بك سناء:
-آلو.. مدام كارمن في زيارتنا وتود أن تزورك.
اقترحت علي سناء أن نزور سريعاً ابنة أختك لتعرّفها علي؛ فلم أمانع أن أتعرّف على ريما "الطويلة العريضة.. مرافقتك في رحلاتك ما بين دمشق واللاذقية.
كان لا بد من رفقة ريما وسناء حتى لا يبدأ الغمز واللمز لو جئت أزورك وحدي.. وكم كنت أتمنى ذلك!
حانت الساعة السادسة مساء..
كانت ليلى تلهو مع الأولاد في الحديقة فرفضت مرافقتنا عندما ناديتها، وكنت أحاول إخفاء اضطرابي ونحن نمشي بضعة أمتار تفصل ما بين بيت أختك وبيتك ونلج حديقتك الواسعة المهملة.
استقبلتنا في غرفة صغيرة لها شرفة تطل على البحر، ولحظت في عينيك أنك لم تستيقظ من النوم إلا منذ قليل…
ربما أيقظك من أحلامك هاتف سناء.
كنت ترتدي بيجامة رياضة وخفين، وتحمل بيدك فنجاناً كبيراً ترتشف منه ماءاً ساخناً!
تساءلت ضاحكة متعجبة؛ فقلت:
-لقد مللت من شراب الزهورات، والشاي والقهوة محظورة بسبب ضغط الدم، ولذا أشرب ماءاً ساخناً للتغيير!!
ابتسمت.. غمرني نحوك شعور من العطف والحنان.
جلت بنظري في أنحاء الغرفة الصغيرة أتأمل كتبك المصفوفة، وبعض القطع التذكارية، وصورة لبافاروتي.
-تفضّلي.
-مددت يدك بعلبة الحلوى.. لم أكن راغبة فيها؛ لكنك أصررت أن أتذوق حلوى العيد.
(لم أكن أرغب في الحلوى، ولا في القهوة.. كنت أرغب فقط أن تمر الدقائق ببطء شديد).
-كيف حال زوجك يا كارمن؟
-إنه مسافر.
-أيسافر، ويتركك في العيد وحدك؟
-…
(لم أكن وقتها وحيدة تماماً.. كانت ليلى ما تزال هنا).
كانت سناء تمسك بناصية الحديث معظم الوقت.. تثرثر وأنت تجيبها باقتضاب، وأنا صامتة، وكذلك ريما.
قلت لها فجأة:
-أريد ترميم المنزل قليلاً.. ربما بواجهة خشبية جميلة كما فعلت كارمن بمنزلها.. هل رأيته؟
-..ولكن ما جدوى ترميم منزلك؟.. إنه سيبقى بارداً لا حياة فيه طالما لا توجد فيه أنفاس امرأة تدفئه!
-…
بقيت صامتاً؛ فقد فاجأك كلامها.
أما أنا فقد شعرت بالحرج.. وشعرت بالحزن من أجلك.
لقد كان جوابها مباشراً وقاسياً جداً..
إنها على حق؛ ولكن صراحتها لم تكن أبداً في محلها، خاصة وأني أطأ عتبة منزلك للمرة الأولى.
(لم تخبرني عن تلك التي كانت زوجتك؛ ولكنني عرفت عنها وعنك وعن طلاقكما دون أن أتساءل، ودون أن أسأل..
كانت الصدفة فقط تجمعني بأناس يتحدثون عنك تلقائياً أمامي عندما يعرفون أني أسكن بالقرب منك..
اكتشفت أن معظم الناس الذين أعرفهم يعرفونك مباشرة..
ممرضة العمليات التي تعمل معك بنفس المشفى، والدكتور الذي يدرّس في الجامعة..
حتى معلمتي أيام البكالوريا حدثتني عنك عندما ذهبت أزورها بعد عشرين سنة.. تصوّر!)
قطعت دقائق الصمت بقولك:
-تعالوا نخرج إلى الشرفة.
كان الجو دافئاً وعابقاً بأريج أزهار الليمون، وشجرة غار نضرة باسقة تمتد فروعها إلى ما فوق الشرفة.. كانت آلة التصوير في حوزتي، ورأيت ليلى تعدو نحو بيتك فناديتها..
جلست سناء على حافة الشرفة إلى يسار ريما، وأمعنت النظر عبر العدسة إلى وجهك الحبيب، وأنت تقف ما بين ريما إلى يسارك وليلى إلى يمينك.. كنت تحيط ليلى بذراعك وتبتسم لي وتقول:
-كارمن فنانة.
انتهى وقت الزيارة بسرعة؛ فقد حسم الأمر وصول رجلين يريدان زيارة الدكتور..
قلت لك وأنا أهم بالخروج وأمد يدي بمغلّف أخرجته من حقيبتي:
-أرجو أن تقرأ هذا "التقرير الطبي" وتعطيني رأيك به!
لم يكن ذاك التقرير المزعوم –أمام سناء وريما- سوى رسالة..
رسالة كانت أولى رسائلي إليك.
فرحت كثيراً بزيارتك، ورغم ذلك كنت مصرّة على تسليمك تلك الرسالة..
ثمة أمور ينبغي إيضاحها.
****

النهى 30-04-09 01:20 PM



في الصباح التالي، والساعة لم تتجاوز الخامسة صباحاً رن جرس الهاتف..
كان يوم السبت، وقد ولّى العيد..
كنت مستيقظة أنا وليلى، فاليوم يوم امتحان وما زال ينبغي على ليلى قراءة بعض الدروس قبل ذهابها إلى المدرسة.
هرعت ليلى إلى الهاتف ورفعت السماعة:
آلو.. آلو؟!
لم تسمع ليلى جواباً، فأعادت السماعة إلى مكانها.
-من المتكلم؟
-لا أدري يا ماما.. لقد أغلق الخط!.
عرفت أنه أنت.. تضايقت لأني تركت ليلى تسبقني إلى الهاتف، وانتظرت دون جدوى أن تعاود الاتصال.
حلّ المساء، وتبعه مساء آخر، ولم أعد قادرة على الانتظار..
في المساء الثالث اتصلت بك..
كنت مرهقة ومريضة.. لقد أمرضني التفكير بك!.
-آلو؟
-مساء الخير.. أنا كارمن.
-مساء الخير.. كيف حالك؟
أنا متعبة.. بل مريضة.. مريضة بسببك.. هل قرأت الرسالة؟.. لقد كتبتها لأني غاضبة منك.
-آه.. لقد قرأتها، وأؤكد لك أنك مخطئة مائة بالمائة.
-ليت ذلك يكون صحيحاً.
تهدّج صوتي.. كنت على وشك البكاء.
-أنت فعلاً متعبة وغاضبة جداً، ومن أجل ذلك لا بد أن نلتقي ونتحدث.
-أرجو ذلك.. إلى اللقاء.
-إلى اللقاء يا حبيبتي!
***
اليوم المشمس أغراني بالخروج إلى الحديقة لاقتلاع بعض الأعشاب وتقليم بعض الأغصان، وإذ بالهاتف يرن.. أسرعت أرفع السماعة؛ فجاءني صوتك:
-.. كيف حالك؟.. سأزورك بعد قليل.. أنا عند جيرانك!
وقفت لحظات لا أدري ما أفعل..
كنت مذهولة من الفرح أحادث نفسي: سيأتي.. سيأتي لزيارتي.
جمعت بسرعة أدوات الحديقة المبعثرة وغسلت يدي، وقد بدأت قطرات من المطر تنهمر..
رائحة الأرض منعشة، والمطر الربيعي ينهمر خفيفاً من السماء..
ينهمر في قلبي تفاؤلاً..
تجاوزت الساعة الرابعة عصراً ولم تحضر كما وعدتني..
بدأ القلق يساورني؛ لكن الهاتف ما لبث أن عاود الرنين:
-أين أنت؟
-لقد نسيت حقاً أين تسكنين، وعندما سألت بعض الصبايا عن منزلك لمحت في عيونهن الكثير من الفضول، وهن يشرن إلى الزقاق: هنا بيتها؛ لكن زوجها مسافر!.
ولذا لم أجرؤ على الحضور خوفاً من أن تلوكك الألسنة، وتابعت طريقي.
-أين أنت الآن؟
-في منزلي.. في القرية.
-يا إلهي.. تعود إلى منزلك وتتركني أنتظرك دون جدوى.. كان بإمكانك أن تتصل بي هاتفياً من المطعم القريب وتسألني أنا عن المنزل لأدلك عليه.
-آسف.. سأحاول الحضور غداً.
آوت ليلى إلى فراشها..
استلقيت على الأريكة أستمع إلى الموسيقى، وعيناي ترقبان باستمرار حركات عقارب الساعة..
الساعة الثامنة والنصف.. التاسعة إلا ربعاً..
"سيتصل بي في التاسعة".. كنت أخاطب نفسي، وصدق حدسي..
حوالي التاسعة مساء رن الهاتف:
-إني مدعو للعشاء.. سآتي فور انتهاء الزيارة.. حوالي العاشرة.
-حسناً.. سأنتظرك عند مفترق الطريق، كي لا تتوه مرة أخرى!.
ليلى تنام في فراشي، كالعادة عندما يسافر أبوها..
دخلت لأطمئن عليها.. كانت مستسلمة لأحلامها الطفولية.
ارتديت سترتي اتقاء لرطوبة حملها المساء معه، وخرجت انتظرك عند المفترق.
لمحت ضوء سيارتك القوي من بعيد.. كان قلبي يقفز بين ضلوعي كمراهقة في موعد حبها الأول. وما لبثت أن لمحتني.. بالأفارول الأبيض، ينعكس بياضه ويدلّ علي رغم العتمة.
-هنا العنوان أيها التائه!
قلت لك، وأنت تشير لي أن أسبقك كي لا ينتبه أحد.
أوقفت السيارة عند ناصية الطريق وتبعتني عبر الزقاق.
أمسكت بيدي وقبلتها وأنت تقول: أحبك، ثم مددت لي يدك الأخرى بقرنفلة حمراء داكنة قطفتها لي على عجل من حديقة منزلك.
-تفضل.. أهلاً وسهلاً بك.
-لقد وصلت البارحة إلى هنا.. إلى مدخل الزقاق، ولكن لم يخطر ببالي أن بيتك الجميل مختف في نهايته.
-إنه فعلاً مختف، ولا يمكن رؤيته من الشارع العام حيث أوصلتني في تلك الأمسية.. قل لي: ما هي الموسيقى التي تود الاستماع إليها؟
-كما تشائين.. اختاري لنا على ذوقك.
-فلنستمع إذن إلى موسيقى كلاسيكية.. نستمع إلى شهرزاد.
التفتّ إليك.. كنت ما تزال واقفاً:
-تفضل بالجلوس.. أريد أن أتحدث إليك..
ولكنك جذبتني إليك.. أحسست بحرارة وجنتيك وأنت تعانقني.. وبحرارة أنفاسك تمتزج بأنفاسي وأنت تقبلني، وتقول:
-نتحدث فيما بعد!
جذبتك من ذراعك لتجلس على الأريكة بجانبي، لكنك لم تقتنع بجدوى الكلام!.
وأنا لم أعد قادرة على الكلام..
أحسست أني أطير..
تبخّرت كل كلمات العتاب التي هيأتها لك ولم يعد يهمني سوى أن تضمني ولن أبالي إن مت بعدها..
أجل!!.
في ذاك المساء عندما جئت لتغمر بالفرح وجودي وتهديني قرنفلة كانت عندي أغلى من كل الورود، تمنيت لو أن الزمن يتوقف فلا تقل لي أنك تأخرت وعليك الذهاب.. ثم تتركني وحدي أضم بين ذراعي تلك الوسادة الحريرية الزرقاء وأنا جالسة في نفس المكان الذي جلست فيه أتلمس بأناملي مواضع أناملك على جسدي.
قلت لي:
-أحب رائحتك.. أنت سيدة نظيفة يا كارمن!.
-أعرف!!
(أي نظافة كنت تعنيها؟.. نظافة الروح أم نظافة الجسد؟!.. أنا امرأة نظيفة قلباً وقالباً، وأنت تعرف).
قلت أني متوترة.. وكم تمنيت لو لم أكن كذلك، وكم تمنيت لو تشاء الظروف فنلتقي ثانية في مكان وزمان آخر، وأمنحك ما تشاء دون توتر ودون ترقب لما لا تحمد عقباه..
(لكن الظروف لم تشأ؛ لأنك لم تشأ، وكنت تنساني في أحضان امرأة أخرى لا تتوتر ولا تترقب..
امرأة "محترفة" تعرف كيف ترضيك أكثر!)
-سأطمئن سريعاً على ليلى وأعود إليك.
-أرجوك اجلبي كوباً من الماء.. أشعر بالظمأ!.
جئتك بكوب الماء وفتحت لك النافذة.. كنت تشعر بالحر أيضاً!!.
جلست بقربك سعيدة جداً، ومددت ذراعك تضمني إليك وتعاتبني:
-كيف تكتبين لي هذه الرسالة الغاضبة؟!
-لقد أزعجتني حقاً.. ماذا تظنني إذن.. وماذا تظن نفسك حقاً يا صاحب المرسيدس؟!
-لعن الله المرسيدس!.
-وأصحابها أيضاً!.
-وأصحابها أيضاً!!.. أتعرفين؟.. لقد اتصلت بك صباح السبت..
-في الساعة الخامسة.. أعرف.
-لكن ليلى رفعت السماعة، فأغلقت الخط.
-وما الضير في ذلك؟.. كان يمكنك أن تطلب منها أن تناديني.
-لم أجرؤ.
-أحبك.
-وأنا أيضاً أحبك.
ودعتني عند الباب بقبلة، ونظرت إلى عينيك..
أدركت أنك لن تطرق بابي ثانية.. كان حدسي يقول لي ذلك، وحدسي لا يخطئ أبداً.
***
جئت أزورك في العيادة..
مددت لك يدي بوردة قانية عطرة من حديقتي..
وبصورتي التي أردت الاحتفاظ بها عندما كنا في النبك، وقلت لي أني أبدو فيها "مثيرة"..
وبقصاصة الورق.. ضحكت:
-إن الأدباء حقاً مجانين!.
-نعم.. أنا مجنونة!
ابتسمت وأنت تقرأ:
"جئت كانهمار المطر، وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.. لم يعد للكلام المخبوء في صدري أي معنى؛ فقد كان حضورك هو كل الكلام".
مددت لي يدك بوردة من كأس على طاولتك، وأردفت:
-وأنا أيضاً أهديك وردة.
-لكن وردتي أذكى عطراً.
-بل رائحتك هي الأذكى!!.
-شكراً.
-لقد سعدت كثيراً بزيارتك ذاك المساء.
-كاذب!!
-كيف تقولين لي ذلك، وأنا أكبر منك سناً؟!.
(قلت لك عفوياً أنك كاذب.. كأني كنت أعرف أنك ستنكر يوماً تلك الزيارة!).
-إن ذلك لا يغيّر من الحقيقة شيئاً!.. فأنت لم تتصل بي أبداً طوال الأسابيع الفائتة.
-اعذريني يا كارمن؛ فأنا مشغول دائماً.
وقفت أريد الانصراف، فاقترحت أن توصلني للبيت، ولم أشأ إزعاجك؛ لكنك أصررت.
خرجنا إلى الشارع حيث تقف السيارة، ومعنا نديم الذي سيترجل على الطريق عند بيته.
كان وجهك يبدو متعباً جداً وأنت تقود السيارة وتتثاءب باستمرار..
قلت لك:
-تبدو متعباً للغاية.
-فعلاً.. لقد وصلت البارحة في ساعة متأخرة جداً، ولم أنم إلا بضع ساعات.
وصلنا إلى مفترق الطريق؛ فأوقفت السيارة فجأة، وقلت لي:
-أنا آسف.. لا أستطيع المتابعة!.
-ماذا تقول؟.. ألن توصلني للبيت؟!
-لم أعد قادراً أن أفتح عينيّ.. أرجوك.. سيوقف لك نديم سيارة.
نظرت إليك غاضبة:
-ألم أقل لك يوماً أني لا أحب المجاملة.. لا أحب المجاملة، واقتراحك لم يكن ضرورياً.
-لكنني كسبت رفقتك على الطريق قليلاً!.
خرجت أصفق باب السيارة ورائي دون أن ألتفت إليك؛ لكنني لمحتك تتحدث إلى نديم الذي ترجّل من السيارة، ثم تنطلق بها إلى بيتك.
"يا له من مجنون.. مجنون"!.
كنت أفكر، بينما نديم مقبل نحوي.. يحاول أن يمتص غضبي بتبرير موقفك، والاعتذار مني نيابة عنك، وهو يمد ذراعه مشيراً لسائق السيارة أن يتوقف.
ناول نديم السائق أجرته دون أن يترك لي فرصة للاحتجاج، وهو يقول:
-هكذا أوصاني الدكتور.
أيها المجنون الذي لا يعرف كيف يكون لبقاً.
لا أريدك أن تجاملني ثم تضعني في موقف مزعج كهذا أمام نديم.
نظرت إلى وردتك في يدي وفكرت: "كان ينبغي أن أرميها لك وأنا أترجل من سيارتك".
الوردة منك.. لن أرميها.. لأني أحبك!
****
تأملت وردتك في المزهرية، وأنا أفكر بك أيها المتعب..
أريد أن أتصل بك هذا المساء..
رفعت السماعة أهاتفك إلى دمشق:
-مساء الخير.. كيف حالك؟
وصلني صوتك مرحاً (أنت إذن غير غاضب مني).
-أهلاً.. مساء الخير.. لقد تعطلت السيارة.. لعن الله هذا المعتوه.. لقد فعل.. إنه.. و.. و..!!!
-هذا جزاؤك من الله لأنك أغضبتني، ووضعتني في موقف محرج أمام هذا الذي يعمل عندك.. نديم.. الله يلعنك!.
ضحكت وأنت تقول:
-طظ في نديم!.
وضحكنا معاً وتحدثنا، ثم ودعتني بأحلى كلمة وأنت تقول:
-مع السلامة يا حبيبتي.
(كم أحببت سماعها منك مرة أخرى).
****
جاءت سوسن تزورني..
أشعلت كل واحدة منا لفافة، وملأت الكأسين على المنضدة الواطئة أمامنا، وجلسنا نتحدث.. سوسن لم تتزوج، ولم تعرف الحب حقاً!
بادرتني بالحديث بعبارة أقرب إلى التساؤل واللهفة لمعرفة إن كانت على صواب:
-إني لن أتزوج إلا إذا وقعت في الحب، وأصابني جنونه.
-أجل.. لا تتزوجي إلا إذا وقعت فعلاً في الحب وأصابك جنونه.
صمتّ في محاولة لمغالبة أحاسيسي، ثم أردفت:
لا تتزوجي إلا استجابة لنداء قلبك، ولا تتزوجي أبداً استجابة لنداء عقلك.. مثلي؛ لأن ثمة ثغرة ستبقى أبداً في حياتك لا يمليها إلا الحب!.. إني أصارحك بالحقيقة لأول مرة؛ لأنك صديقتي.
لا يهم أبداً إن لم يكن من اختاره قلبك "كامل الأوصاف" في نظر الآخرين؛ فلا المركز ولا المال ولا الوسامة تهم عندما يختار القلب، والسعادة لا تكون إلا فيما اختاره القلب.. إنها في هذا الجنون الذي يجعل منك إنسان يولد من جديد!!.
بعد أيام التقيت بسناء.. قالت لي:
-لقد تعبت من الحب.. أتوق للاستقرار، وقد تجاوزت الخامسة والثلاثين.. إلى الارتباط برجل يريحني!
يتعب الإنسان عندما تنفذ طاقته..
يتعب الإنسان حتى من الحب، لأن طاقته تنفذ إن لم يكن حباً متبادلاً.
ويبقى السؤال..
لماذا نتزوج؟!..
هل من أجل الحب وجنونه، أم العقل ومنطقه؟!.. (ألا يمكن أن تجتمع هذه الصفات في رجل واحد، وفي امرأة واحدة تلقاه؟!!).
هل نتزوج من أجل الاستقرار وراحة البال، أم من أجل غريزة حب البقاء؟!!!
****
ألحّت جارتي عليّ أن أشرب عندها فنجان قهوة؛ فدخلت أجاملها دون رغبة حقيقية بزيارتها..
كانت النسوة مجتمعات يثرثرن.. تساءلت أم جورج لماذا لم يتزوج فلان مع أن "حالته المادية جيدة"!
وتحدثت منيرة عن فلانة وحظها العاثر، وعن هم أهلها الذين ينتظرون عودتها..
فقد خطبت الفتاة لابن عمها، وسافرت مع أسرته إلى حيث الإقامة في بلاد المهجر.. وبعد مرور سنوات وهي في كنف عمها، قررت العودة بعدما تبين لها أخيراً أن زوج المستقبل كان يخضع منذ زمن لعلاج لم يجد نفعاً!
تأوهت النسوة حزناً وهن يضربن كفاً بكف!
لا يصارحها.. عسى أن يشفى، أو يضعها يوماً ما أمام الأمر الواقع، وهي تنتظر لتكتشف تلك الحقيقة بعد سنوات.
ربما كانت أحبته أكثر لو أنه صارحها منذ البداية.. إذا كانت فعلاً تحبه!
إذا كانت فعلاً تحبه؛ فإن عودتها ستكون فقط مبرراً لخداعه لها، وإن لم يكن للحب دخل؛ فما عساها تفعل هناك؟!..
ستعود.. والمهم، كما أردفت الراوية، أن لديها شهادة مصدقة من الطبيب تثبت أنها ما تزال عذراء!
هنيئاً لها حصولها على الشهادة: "شهادة حسن سلوك"!
القصة تفتقد إلى المنطق وفتيات هذه القرية يتزوجن على الأغلب من أجل المال، وليس من أجل عيون الحب.. ماذا كانت تفعل هناك طوال تلك السنوات؟!.

****************

النهى 01-05-09 02:22 PM



الصيف الأول:
الاعتراف بالحب.. فضيلة!








كان علي الذهاب إلى دمشق لأمر ما..
تعمّدت أن يكون ذلك قبل اليوم الذي تسافر فيه عادة إلى اللاذقية..
أعددت قالباً من الكاتو، واتصلت بك لأخبرك أني سأزورك مساء الغد؛ فرحبت بزيارتي.
كنت أتمنى رفقتك، وقد صنعت الكاتو من أجلك..
أعطيه لك عندما توصلني للبيت وأدعوك سريعاً لشرب فنجان من الزهورات!
كانت العيادة مزدحمة، وكانت حجتي كي أراك أني جلبت لك تلك الصورة التي التقطتها في شرفتك يوم العيد.
تأملت الصورة، وقلت لي:
-يا الله.. انظري كم كبرت!
-أنت ما زلت شاباً وسيماً.. هل أنت مسافر غداً إلى اللاذقية؟
-آ.. في الحقيقة أنا ذاهب إلى بيروت!
كنت تكذب.. لم تعد ترغب برفقتي.
كان صوتك المتردد يشي بك!
في الصباح الباكر أغراني الهاتف قرب الفراش بمنزل أمي أن أتصل بك..
كنت مغتاظة منك، وأردت إغاظتك، وكانت الساعة السابعة صباحاً عندما سمعت صوتك الناعس:
-آلو؟!
-"تضرب بهالكسم" أنت ومن يأتي لزيارتك!!..
لكنني أشفقت عليك لأني أيقظتك؛ فأردفت بسرعة:
-آسفة.. أرجوك عد للنوم.
-كم الساعة الآن؟
-السابعة.. مع السلامة.
-مع السلامة.
عدت إلى المنزل وحيدة، وكان القالب بانتظاري!
بيتر مسافر، وأنا لا أرغب بأكله..
لقد صنعته لك.. ولأمك!
.. سأجلبه لك غداً.
اتصلت بالعيادة..
كنت أتوقع سماع صوت نديم:
-آلو .. هل الدكتور موجود؟
-لا.. ليس هنا!
كان الصوت الضاحك هو صوتك!
-آ.. إنه أنت سآتي إليك لدقائق معدودة.. فقالب الكاتو ينتظرك.
***
قلت لك:
-صنعته من أجلك؛ إذ ظننت أني سأرافقك إلى اللاذقية.
-رائحته لذيذة.. أود أن آكل منه قطعة!.. أنا آسف.. لقد بحثت عنك بعد خروجك، ولم أجدك!
-آ.. هل غيّرت رأيك، ولم تذهب إلى بيروت؟.. أين بحثت عني يا ترى في ذلك المكان الصغير جداً الذي يسمونه دمشق؟!
هذه أيضاً رسالة لك.. لم أكن أنوي أن أراك اليوم.. كنت أريد ترك الكاتو ورسالتي الثانية لك عند نديم؛ ولكنك أجبت على الهاتف، ولم يعد من اللائق أن لا أراك.
-سأقرأها الآن.
استرسلت في القراءة وأنت تبتسم وتقول:
-كلام جميل يا كارمن.. شكراً لك.
(كنت أرجوك أن تتصل بي كما أتصل بك.. إن كنت حقاً أعني لك شيئاً).
اقتربت منك، وأنت جالس خلف طاولة المكتب، لألمس شعرك الفضي وأشدّه برفق، وأنا أهمس:
-لماذا ابتلاني الله بك؟!
ابتسمت، ووضعت الرسالة في محفظتك وسألتني:
-متى يعود زوجك؟
-الأسبوع القادم.
-تبدين غير متحمسة لعودته.
-…
-إنه إنسان لطيف.
-أجل، إنه إنسان لطيف وطيب القلب.. علي الذهاب الآن؛ فقد تأخر الوقت.
-انتظري.. سنخرج معاً.
خرجنا معاً إلى الشارع.. شددت على ذراعي برفق، وودعتني بمودة وأنت تعتذر أنك لا تستطيع أن تقلني بالسيارة إلى المنزل، لأن ثمة أموراً عليك إنجازها.
كنت أعرف تلك الأمور التي كان عليك إنجازها مراعاة للتقاليد، وأعرف أنك لم تكن تكذب هذه المرة!.
***
عاد بيتر من السفر، ورن الهاتف في نفس اليوم..
كنت أنت على الطرف الآخر:
-مرحباً.. كيف حالك.. هل جاء بيتر؟
-أهلاً بهذا الصوت الجميل!!.. أنا بخير لقد جاء.
-حمداً لله على السلامة.. بلّغيه تحياتي.
-"الله يسلمك".
-لقد عدت تواً من بيروت، وفكرت أن أتصل بك.. يمكنك مشاهدتي على شاشة التلفاز في نشرة الأخبار.
-حقاً؟!.. سأجلس فوراً أمامها.. تفضل لزيارتنا، واشرب عندنا فنجان قهوة.. أقصد فنجان ماء ساخن!
ضحكت أنت للدعابة، وضحكت أنا.. ضحكت من قلبي، ثم تسمّرت أمام الشاشة أتابع بترقب كل نشرات الأخبار في المحطات اللبنانية والسورية.. لم أشاهدك؛ ولكنني كنت فرحة جداً في ذلك اليوم.. فرحة بهاتفك، وبسماع صوتك.
فرحت أنك تفكر بي.. أنك تتصل في نفس اليوم لتجعلني أدرك أني أعني لك شيئاً.
***
عاد بيتر من السفر في حزيران..
عاد، كما يعود كل مرة ليحدثني عن متاعبه مع أهله:
-آه.. أنا سعيد أننا جئنا للعيش هنا.
كان يجلس على السجادة.. يمسك الكأس بيده، ويحتسي منها جرعات صغيرة ويتكلم:
-أمي.. إنها ليست سوى أفعى تنفث السم…
كنت أهز رأسي أوافقه على كلامه دون رغبة مني بالمشاركة..
لقد مللت..
مللت من الشكوى.. أسمعها منذ عشرين سنة، وحتى أتخلص منها وافقته على العودة إلى بلادي منذ ست سنوات (فالوقت مناسب وقد بلغت ليلى السادسة من عمرها، ويمكن تسجيلها مباشرة في المدرسة)..
جئنا لنعيش هنا؛ لكن الشكوى لم تنته.
كنت شاردة الفكر.. وقد عاد بيتر.
عاد بيتر ليكتفي كالعادة بقبلة يطبعها على وجنتي، ولا شيء سواها.. لا شيء.
لم يحاول مرة أن يفاجأني بقبلة شوق.. بعناق حار.
أن يحتويني بين ذراعيه ويمارس الحب معي في وقت أو مكان لا أتوقعه..
على السجادة مثلاً!
فجأة.. توقف بيتر عن الكلام؛ فقد لاحظ أني لا أعير كلامه كل اهتمامي:
-ما بك؟.. لماذا أنت شاردة الذهن؟
-لا.. لاشيء.. إنني فقط أفكر بما تقوله، وبليلى.. إنها تتعبني كثيراً، خاصة عندما تسافر.
-أعرف.. ولذا من الضروري أن تفكري بنفسك؛ فأنا هنا الآن، وقد جاءت العطلة المدرسية، ويمكنني المكوث وحدي مع ليلى.. سافري إلى المغرب كما اتفقنا.
"طبعاً سأسافر.. فالأمر عندك سيان، لأنك لا تفتقدني كما يفتقد رجلاً امرأة"..
(لم أقل له ذلك؛ بل فكرت به فقط).
***
قبلة واحدة..
قبلة "تصبح على خير"، ويدير كلا منا ظهره للآخر.
بيتر يغط سريعاً بالنوم في هذا الفراش المشترك لأول ليلة بعد عودته..
لماذا أردناه سريراً مزدوجاً؟!!
مددت يدي إليه أمسّد ظهره برفق، وأداعب شعره بأناملي علني أوقظ فيه شيئاً ما!
استجاب للمستي.. استدار ليطلب المزيد.
المزيد من تمسيد الشعر!!
ارتفع غطيطه.. نام.
نام، وأنا لا يغمض لي جفن.. تتنازعني مشاعر شتى وأشواق غامضة..
لا.. إنها ليست أشواقاً غامضة:
أتذكر تلك الذراعين القويتين، وأشتاق إليهما رغماً عني.. أشتاق إليك.
أشتاق لصدرك تضمني إليه بقوة..
لأول مرة أشعر بقوة رجل.. أتلذذ بعناق يكسر ضلوعي!
أشتاق إليك.. لرائحتك..
رائحة رجل تشتهيه امرأة، وأنا امرأة..
امرأة ملعونة!
يؤنبني ضميري وأخاطب نفسي:
ما بالك أيتها المجنونة؟.. هذه مجرد أمور تافهة.. أنت تريدين رجلاً يحترم عقلك ويعاملك كإنسان وليس مجرد أنثى.
هو هكذا.. ليس كازانوفا؛ ولكنه يحترمك ولا يكبّلك.. يمكنك أن تروّضي جسدك؛ ولكن لا يمكنك أن تلغي عقلك!
لا.. هذا هراء.
أنا لا أريد أن أروّض جسدي، ولا أريد أن ألغي عقلي.. إنهما أنا ولا يمكنني فصل أحدهما عن الآخر!
إنها الليلة الأولى.. بعد غياب أشهر.
يغيب ويعود، وتكون كل ليلة أولى بعد عودته كمثيلاتها!
ولكن؟!!
ترى هل كنت سأستجيب لو أن المبادرة كانت في هذه الليلة مبادرته؟!.. لا أظن!
أية مبادرة أتحدث عنها؟!
عندما أتذكر مبادراته أشعر نحوه بالشفقة أحياناً، وبالاشمئزاز أحياناً أخرى..
أجل.. بالاشمئزاز.
أشعر بالاشمئزاز من نشوة لا يمكنه بلوغها معي.
كان ذلك يجرح أنوثتي، وأتمنى في أعماقي لو أصفعه!
لكنني كنت أسيطر كل مرة على انفعالاتي وأكز على أسناني..
أدير ظهري وأغمض عيناي أو أحدق في الفراغ..
قد تنحدر من عيني دموع لا يشعر بها إلا إذا فقدت السيطرة على انفعالاتي، وسمع نشيجي المكتوم؛ فيلمس عندئذ ظهري بيده معتذراً بلا كلمات.
استيقظ بيتر؛ فتذكرت أنني أبكي..
لم يسألني؛ فهو يعرف السبب.
السبب؟
إنه لم يعد سبباً واحداً؛ بل سببين..
السبب الأول الذي يعرفه بيتر كما أعرفه أنا سبق وتناقشنا فيه كثيراً.. أما السبب الآخر؛ فهو أنت!
سيحين وقت الاعتراف، والاعتراف بالذنب فضيلة.
ولكن.. هل حبك ذنب؟!
***
جلسنا، بعد أن غفت ليلى، نحتسي الشاي ونتحدث في شرفة الشقة التي استأجرناها بدمشق..
استأجرناها كي تذهب ليلى إلى مدرسة خاصة لعل نفسيتها تتحسن؛ فقد أتعبتنا كثيراً.
تأملني بيتر طويلاً وأنا شاردة الذهن ثم سألني:
-كارمن.. بماذا تفكرين؟
-إني أفكر.. بوضع ابنتنا طبعاً.
-طبعاً، ولكن ثمة أمر آخر يقلقك.
-لا شيء.
عاد يتأملني، وأنا أتجنب النظر في عينيه مباشرة مخافة أن ينفذ إلى أعماقي ويعرف أني بك أفكر؛ فعيناي مرآتان تعكسان له فوراً ما بداخلي.. خشيت أن يراك فيهما؛ لكنه كان قد رآك منذ زمن!
-كارمن.. أرجوك أن تنظري إليّ في عيني مباشرة.
ونظرت في عينيه مباشرة وانهمرت دموعي:
-أنا آسفة.. آسفة جداً.. لم أشأ أبداً الإساءة إليك.. لكن الأمر رغم إرادتي.
-آه يا كارمن.. أعرف أن الأمر رغم إرادتك.. وأنا أدركته منذ البداية.. من وجهك الذي يشع فرحاً، وابتسامتك التي تحاولين بها إخفاء ارتباكك كلما تحدثت عنه.. وكثيرة هي المرات التي حدثتني فيها عنه.. لا بأس عليك؛ فأنت على الأقل لا تجيدين الكذب، وهذه فضيلة!
(أنا فعلاً لا أجيد الكذب، ولم أجد أبداً سبباً واحداً يدعوني للكذب طوال تسعة عشر سنة زواج.. كان الصدق هو دائماً الطريق الأسلم).
-تعرف؟!.. وتتجاهل، وكأن الأمر لا يعنيك أبداً.
-بل يعنيني.. ولكن ماذا علي أن أفعل؟!.. هل تتوقعين مني أن أفقد صوابي وأشتم وأصفعك؟.. لقد أحببته رغماً عنك؛ فنحن بشر لا يمكننا التحكم بعواطفنا!.
أنا أجده لطيفاً ومحبوباً ومحترماً!.. ومن الأفضل أن تذهبي إليه وتتأكدي من عواطفه، وعندئذ سيكون شرطي الوحيد أن نبقى أصدقاء.. هذا هو شرطي الوحيد!!
حملقت فيه غير مصدقة، ولم أحر جواباً.. لقد صدمني هدوئه وهو يتحدث عنك، وعني، وكأنه يتحدث عن امرأة أخرى ليست زوجه.
حيّرني موقفه.. هل أفرح لأنه أوجد لي مبرراً يحررني من الشعور بالذنب؟.. أم أنقم عليه لأن أمراً خطيراً كهذا لا يخرجه عن طوره؛ فيغضب ويغار ويحاول أن يدافع عن حقه.. فيّ!!
إنه يتنازل عني بكل سهولة!
هل هو بمنتهى النبل، أم بمنتهى النذالة؟!..
ذكّرني موقفه برواية ألبرتو مورافيا "الاحتقار".. فهل أحتقره؟!
لا.. أنا أشفق عليه.
أنا لم أكتشف شيئاً جديداً، فهو لم يكن أبداً زوجاً.. بل صديق.
مجرد صديق.
بقيت ساهمة أفكر..
هل أجرؤ حقاً أن آتي إليك وأخبرك عن هذا كله؟!
*****


النهى 01-05-09 02:26 PM



اتصلت بك هاتفياً..
كان تجاهلك لي منذ تلك الزيارة اليتيمة يغيظني.
أخبرتك على الهاتف أني اعترفت بذنبي؛ لكنك اكتفيت بضحكة مرتبكة قصيرة تناهت إلى سمعي..
خمنت أن زواراً كانوا لديك عندما اتصلت؛ فجئت أزورك في العيادة..
استقبلتني بقبلة على الوجنتين، وسألتني عن أحوالي..
أخبرتك أني مسافرة إلى المغرب.. فسألتني بلهفة:
-هل انفصلتما؟
-بالطبع لا!..
حاولت بجوابي أن أبدو لا مبالية.
كنت عصبي المزاج.. تذرع الغرفة جيئة وذهاباً:
هل.. هل اعترفت له حقاً.. هل قلت له أننا…؟
خفت عليك من ضغط الدم.. فكذبت رغم أني أكره الكذب:
-أجل؛ ولكنني لم أقل له أنه أنت.. اطمئن!
-كيف تصارحيه بأمر كهذا؟!.. It is too hard
-أنا لا يمكنني أن أكون كاذبة، وكل إنسان مسؤول عن تصرفاته، وعليه أن يتحمل العواقب.
-وماذا قال لك؟
شعرت بالخجل وأنا أجيبك:
-لا ما نع لديه شرط أن نبقى أصدقاء.
-هكذا هم هؤلاء الأجانب!
حاولت أن أخفي اضطرابي، وأنا أستفسر منك بحذر:
-هل تظنني أجاملك عندما أدعوك لزيارتنا؟
-طبعاً، لا!
-لماذا لا تزورني إذن؟
-الحق عليك.. ما كان ينبغي أن تصادقي هذه الثرثارة.. سناء!
-أصادقها؟!.. هل تظن حقاً أني أقضي طوال الوقت أثرثر معها؟!

ألا تدرك أنني أشعر بالوحدة.. أنا بحاجة لأحد أتكلم معه، ولو ببعض السخافات.
أحسست برغبة في الخروج من هذه القرية المنعزلة التي أقطن فيها، والتي لا يحب أهلها الغرباء، وكأنهم هم أنفسهم غرباء عن عاداتنا، ولذا زرت سناء مرة أو مرتين فقط لا غير..
-أصبحت سناء تعرف أني زرتك.
-وما الضير في ذلك؟.. كثيرون هم الذين يزوروننا.
-ولكني لست كباقي الناس، وزوجك ذكي بما فيه الكفاية ليعرف!
(طبعاً يا عزيزي.. إنه ذكي بما فيه الكفاية.. ذكي ليعرف أنه أنت ولا أحد سواك!!).
-ولكنني مشتاقة إليك، فماذا أفعل؟!
-يا كارمن.. you are not free
-…
وقفت أصافحك مودعة في غرفة الانتظار، عندما دخل اثنان كانا على موعد معك.
قلت لي مستدركاً:
-أقسم لك يا كارمن أن لا وقت لدي.. لا أعرف متى يكون لدي وقت.. اتصلي بي الساعة السادسة من مساء الغد.
(لا وقت لديك؛ لكنك ببساطة لا تريد أن يكون لديك وقت.. ورغم ذلك، سأتصل بك غداً).
عندما اتصلت بك بادرتني تقول:
-آه منك يا كارمن.. أنت دائماً عاتبة.. سافري وعودي بالسلامة وسوف أستقبلك بالأحضان؛ فهذه ليست نهاية العالم.

شعرت أني مجرد طفلة صغيرة، وأنك تلاطفني فقط.. مجرد ملاطفة كي لا أنفجر بالبكاء.
***
سافرت إلى المغرب أحمل معي صورتك..
أضعها قرب السرير وأناجيك..
ثلاثة أسابيع لم تغب عن بالي يوماً واحداً.
أصبحت مجنونة بك، وتمنيت لو أن الجنون أصابك أيضاً؛ فتركت المرضى ينتظرون وجئت إلى المطار في اللحظة الأخيرة لترافقني قبل أن تقلع الطائرة.. كما في الأفلام!!
أتذكّر كلماتك: You are not free
كيف تكتشف فجأة أني لست حرة، وتقولها لي بكل بساطة.. بعد فوات الأوان؟!
تمسك يدي وتشرح لي عن ال affection والتفاعلات الكيميائية، ثم تقول لي You are not Free
أرسلت إليك من المغرب.. بطاقة عتاب وبطاقة شوق، وعدت من السفر، ليسافر بيتر من جديد!
عدت أنتظر أن تتصل بي؛ فأنت تعرف حتماً موعد قدومي.
هل تعرف حتماً موعد قدومي؟
هل أنا مهمة جداً بالنسبة إليك حتى تتذكر ذلك؟!.. وكم من الأمور الهامة تنساها بشهادة أقربائك؟!!
.. كان انتظاري دون جدوى.
فجئت إلى العيادة أحمل هدية صغيرة من المغرب تركتها لك عند نديم.
وبقي الهاتف رغم ذلك أخرساً..
في التاسعة صباحاً حدّثني حدسي أنك ما زلت في القرية رغم أنك في مثل هذا اليوم، وفي مثل هذه الساعة تكون عادة في دمشق.
اتصلت بك، وجاءني صوتك جافاً جداً.. كنت تغلي غضباً!!
أغضبتك كلمات العتاب.. ألا يحق لي أن أعاتبك؟!
هل كانت كلماتي قاسية إلى هذا الحد؟.. لا أظن.
قررت أن ألقاك..
كان لدي بعض الأعمال في دمشق، لكنني أنهيتها بسرعة، وكان بإمكاني العودة ظهراً إلى اللاذقية، إلا أني أجّلت موعد السفر خصيصاً من أجل أن أراك مساء في العيادة.
جئت مبكرة جداً، ومتوترة جداً.
جاءني سكرتيرك "المؤقت" علي بفنجان قهوة، فسألته:
-متى سيحضر الدكتور؟
-إنه عادة يتصل في الخامسة والنصف، ويسأل إن كان ثمة من ينتظره.. وإلا فإنه يأتي في الساعة السادسة.
-اتصل به إذن، وأخبره أن ثمة مريضة تنتظره بحالة مستعجلة!
جلت بصري في المكتب؛ فوجدت بطاقتي المرسلة من المغرب موضوعة على الطاولة.
لم تكن البطاقة الأولى "العاتبة"؛ بل البطاقة الثانية.
فاجأتك رؤيتي في العيادة.. نظرت إلي غاضباً، فأسرعت نحوك أقبّلك على الوجنتين.. أعتذر وأعدك ألا أكتب مرة أخرى.
لم أستطع أن أفهم كل هذا الغضب بسبب بضع كلمات عتاب.
-شكراً أنك تحتفظ ببطاقتي.
-لكنني مزقت الأولى إرباً!!
-ولكنني أريد أن أعرف.. من حقي أن أعرف.. هل تحبني؟
-لو لم أحبك لما زرتك!
دنوت منك، وضممت رأسك إلى صدري.. أقول لك: أحبك.
وعدت أجلس على الكرسي حيث كنت، مخافة أن يدخل علي فجأة:
-هل وصلتك الهدية، أم أنك كسرتها في ثورة غضبك؟!
-أية هدية؟!
-هديتي لك من المغرب.. لقد تركتها لك في العيادة عند نديم.
-نديم مجنون.. وهذا أيضاً!!
وأشرت إلى علي الذي دخل للتو حاملاً إليك كوباً من الماء.
نظر إلي علي وكأنه يقول: "أترين؟.. إنه يتحامل علي أيضاً"!
انتظرت الفتى حتى خرج ثم بادرتك بسؤال مباشر وصريح:
-قل لي بحق السماء.. هل تريدني حقاً كما أريدك؟!
لا بأس.. لن أغضب منك إن صارحتني وقلت لي "أنا آسف.. كنت أتسلى معك"!
عندئذ سأخرج من هذا الباب كما دخلت منه، ولن تراني بعد ذلك أبداً.
وجاءني جوابك.. جواباً فورياً؛ لكنه ليس حاسماً كما كنت أتمنى:
-نبقى أحباباً؛ ولكن انتظري الوقت والمكان المناسب.
لم أسألك متى يحين ذلك؛ فقد كان دخول إحدى المريضات إيذاناً بانتهاء الزيارة.
كنت أعزي نفسي وأنا أحث الخطى نحو الحافلة:
"انتظري، واعذريه –ربما- فأنت في مجتمع شرقي يحصي عليكما كل شاردة وواردة".
كان بائع اليانصيب يجلس القرفصاء عند الحافلة ويمد يده بالبطاقات.. قلّبت الأوراق بحثاً عن رقم أتفاءل به، ووجدته.. رقماً فيه سنتي ميلادنا متجاورتين؛ فاشتريت البطاقة، ولم تربح!
مزقتها ورميتها، ثم ابتسمت إذ تذكرت المثل القائل: "خاسر في اللعب، رابح في الحب"!!
***
أنا في الحب –كما في اللعب- خاسرة معك..
انتظر الوقت والمكان المناسب.. أنتظرك.
وأنت تعللني بالآمال على أمل أن أدرك يوماً كذبها، وأرحل عنك..
لكنني أعرف منذ زيارتك اليتيمة أنك لم تعد ترغب بي؛ فقد اعترفت لك بحبي.
وهل من شيء يخيفك أكثر من ذلك؟!
لم أعد أثيرك؛ فقد حصلت علي، وانتهت اللعبة.. لعبة المطاردة!
الرجل يطارد المرأة، وعليها التظاهر باللا مبالاة.. "بالتقل".
عليها أن تخادعه ولا تخطئ!!
فإن أخطأت وباحت، وربما أباحت انقلبت الموازين، وخسرت اللعبة!
لعبة شرقية سخيفة لم أستطع أن أفهمها، ولا أريد أن ألعبها.
طالما تساءلت عن جدوى إخفاء الوجوه وراء الأقنعة..
الأقنعة تمنع الهواء النقي وتفسد الوجوه.
أو ليس من الأفضل أن نواجه أنفسنا بمشاعرنا ونعترف بنقاط ضعفنا؟
لماذا لا يركض المرء باتجاه الآخر بدلاً من الركض ورائه، ثم معاودة الركض في الاتجاه المعاكس؟!
أما أنت..
فهل أتقنت اللعبة حتى الثمالة، ولم تعد تر في المرأة سوى شفتيها ونهديها ومؤخرتها وساقيها؟
ألا يعنيك رأسها وقلبها البتة؟!
كان القدر يخبئك لي بعد عودتي من الغربة؛ فأحببتك رغم كل ما سمعته عنك، ومنحت قلبي المتمرد فرصته الأخيرة، رغم تحذيرات عقلي، ولم أستطع أن "أتقل"!.. لكنني لم أكن أبداً مبتذلة معك؛ لأن الابتذال يحوّل الحب إلى شيء آخر لا أريده أبداً.
الحسناوات السخيفات المبتذلات حولك هنا، وفي بيروت، وأنت.. ربما لا ترغب أبداً بوجود صنف آخر من النساء.
ذاك الصنف المتعب!
هل كنت واهمة إذ ظننت أنك أنت المتعلم المثقف المسافر مثلي ستبادلني حباً بحب واحتراماً باحترام، وأنك ستهتم لعقلي وجسدي وقلبي معاً؟
وهل أنت رغم أسفارك وشهاداتك ونشاطاتك لست سوى شرقياً يهوى المطاردة؟!
***

النهى 01-05-09 02:27 PM



جلسنا، بيتر وأنا، نحتسي الشاي ونتحدث في أمورنا..
ونتحدث عنك أيضاً..
قلت لبيتر:
-… لقد فكرت بالذهاب إليه.. أريد أن أراه ليس من أجلي؛ بل من أجل ليلى.. من أجل عمل فحوصات شاملة لكل عضو من أعضائها في المشفى الذي يعمل فيه.. عساه يساعدني، ويسهّل علي الأمر؛ فقد أصبحت أشك في أن يكون مرضها مجرد مرض نفسي، إذ أني لا أرى أبداً أية بوادر تحسن؛ بل على العكس من ذلك تماماً.
-أوافقك الرأي.. لا بوادر تحسن، وهو إنسان نبيل لن يخذلك، أو يبخل عليك بالمساعدة.
(عجباً.. كل منكما يمتدح الآخر أمامي، وأنا حائرة بين من عشت معه عشرين سنة؛ فكان صديقي الذي يفهم جنوني، وبين من زلزل كياني، وأيقظت رجولته أنوثتي الغافية!.. بين من فشل أن يكون زوجاً، ومن خاف أن يصبح حبيباً!!).
لم أذهب إليك؛ فقد كنت مسافراً، وقرر بيتر أن يسافر مع ليلى إلى بلاده ويجري لها الفحوصات الشاملة هناك.. وخيراً فعل بقراره هذا.
****************

النهى 02-05-09 05:03 PM


الخريف الأول:
أضاع الياسمين شذاه








بعد سفر ليلى وبيتر لم يكن لدي الوقت أو الرغبة للتفكير بذاتي..
ليلى ومرضها وشفاؤها ومستقبلها هي همومي التي طغت على ما سواها..
كنت في حالة ترقب وانتظار..
أنتظر هاتف بيتر..
أنتظر موعد السفر..
خطر ببالي أن أزورك.. ألم يقل بيتر أنك إنسان نبيل، ولن تخذلني أو تبخل علي بالمساعدة؟!!
مضى ثلاثة أشهر لم أرك فيها..
ثلاثة أشهر منذ زيارتي لك بعد عودتي من المغرب في أوائل آب..
فكرت أن أزورك هذه المرة من أجل ليلى فقط..
****
هل تذكر عندما جئت إليك من أجلها في صباح خريفي مشمس من صباحات تشرين الثاني، وقد عدت لتوك من السفر؟
كنت قد حضرت في اليوم السابق وبقيت أنتظرك في حديقة منزلك حتى الحادية عشرة وأنت ما تزال تغط في نومك بعد عودتك من تلك الرحلة الطويلة، فتركت لك رسالة وذهبت على أمل لقياك في اليوم التالي قبل أن تذهب إلى العيادة.
الرسائل كانت وسيلتي الوحيدة للتحدث إليك بكل صراحة، والبوح بما لا أستطيع أبداً البوح به عندما نلتقي لقاءاتنا القصيرة جداً..
وجدت أني أكتشف فيها نفسي من جديد.. أنزع عنها كل تلك الأقنعة التي اختبأت وراءها طويلاً.. لم يكن دافعي لكتابتها أنت.. فمنك لم تصدر أبداً أية بوادر تشجيع لي لأبوح؛ بل بوادر إحباط..
رسالتي الأولى حملتك إلى بيتي لتعتذر مني بطريقتك الخاصة، ورسالتي الثانية ذكّرتك برقم هاتفي.. لكن ردة فعلك السلبية بعد كل رسالة بعدهما كانت تصيبني بالإحباط؛ فأبكي وألملم من جديد أجزاء نفسي المبعثرة.. أعيد حساباتي لأجد أني ما زلت أحبك.. أحبك!
كان حبك.. بل الحب، بحد ذاته، هو دائي ودوائي ودافعي للكتابة؛ فلو لم أحب لما اكتشفت نفسي من جديد..
جئت إليك وتركتني عمداً أنتظرك طويلاً في غرفة الاستقبال..
كنت غاضباً من رسالتي، وكان صوت المذياع يتناهى إلى سمعي من الطابق الثاني وأنت تستمع إلى نشرة الأخبار من محطة إذاعية ما، وقد خرجت لتوك من الحمام!.
كنت مستندة على الباب المؤدي إلى الحديقة أتأملها وأشفق عليها من الإهمال..
كنت متوترة بعد ليلة لم أغفو فيها إلا قليلاً.. ليلة أمضيتها قريباً جداً منك.. في منزل سناء.
فكيف لا أتوتر؟!
كانت سناء قد دعتني للاحتفال مع أصدقائها بعيد ميلادها، وامتدت السهرة حتى الثالثة صباحاً، وعندما خلا المنزل من المدعوين خرجت إلى المسجد الصغير حيث ضريح والدك؛ فوضعت على نافذته زهرة قرنفل وشكوتك له.
صحوت باكراً جداً فخرجت من المنزل بهدوء والجميع نيام ومررت بجوار منزل أمك فنادتني المرأة التي تقوم على خدمتها، وقد عرفتني غريبة لتسألني بفضول من أكون.
ومررت قرب بيتك وأنت تغط في النوم ثم مشيت حتى غاب عن أنظاري فجلست على صخرة أتأمل هذا البحر المتوسطي الممتد حتى الأفق وأنتظر أن تحين الساعة التاسعة.
جلب لي جهاد، هذا الشاب البليد الذي يعمل عندك، فنجان القهوة وتركني أنتظر ربع ساعة إضافية قبل أن يخطر بباله أن يخبرك عن قدومي!
ثم سمعت خطواتك وأنت تهبط الدرج لتمد يدك مصافحاً فقط، وتبخل علي بقبلة على الوجنتين اعتدت عليها منك.
شممت رائحتك.. شممت عطرك الذي وضعته بعد الحلاقة ووددت رغم كل شيء أن أدنو من وجنتيك وأطبع عليهما قبلتين!
لكنني تمالكت نفسي، ككل مرة، وبادرتك بالتحية:
-صباح الخير والحمد لله على السلامة.
-الله يسلمك.. كيف حالك؟
-زفت!.. وأنت تعلم.
-نظرت إلي مستغرباً وكأنك لا تعرف.
-ألم تقرأ الرسالة؟
-لا.. لم أقرأها.
-بل قرأتها!
-ما هو المطلوب إذن؟!
-أنت تعرف من الرسالة.. تعرف أن ليلى تخاف من الأطباء وتخاف منك أنت بالذات، أولاً لأنك طبيب، وثانياً لأنها لم تكن غافية تماماً بالسيارة ذاك المساء.. لقد أخبرتني أنها رأتنا… أنت تفهم ما أعنيه.
-لا!!
-بل تفهم.. أريدك أن تكتب لها أنك تحبها.. بضع كلمات فقط تهدئ من روعها وتشجعها.. أرجوك.
لقد أوهمتها أنها كانت نائمة وكانت تحلم.. إنها ابنتي، ولا أريدها أن تكرهني.
كانت ليلى قد سافرت مع والدها إلى بلدها الثاني ولم يمض شهر على دخولها المدرسة الجديدة.
كم بكيت ليلة سفرها.. عرفت أن ليالي طويلة مريرة ستكون بانتظاري.. وانتظرت.. انتظرت أياماً طويلة وأنا أتحدث مع بيتر بالهاتف، وليلى ما تزال تنتظر دورها لدخول المشفى والمكوث فيه لإجراء كل الفحوصات اللازمة.. كنت أنتظر فقط يوم دخولها المستشفى لأطير فوراً إليها.
كان خوف ليلى من الأطباء والمشفى والحقنة يصل إلى حد الرعب، ولذا جئت إليك، لأنك طبيب و.. "صديق"؛ فقد تشجعها بعض كلمات رقيقة منك أنت بالذات أضيفها إلى كل بطاقات ورسائل الحب التي جمعتها من الأهل والأصحاب لأرسلها لها.
لم تشأ أن تكتب لها؛ فأنت غاضب من رسالتي، وأنا لم أعد قادرة إلا على كتابة الرسائل.. لم أعد قادرة أن أستجديك من جديد وأسحب منك اعترافاً كاذباً بأنك تحبني.
كنت غاضباً جداً وأنت تقول لي:
-ولا كلمة!
-ولا كلمة؟!.. ماذا أريد أنا منك حقاً؟.. لا شيء البتة.
-أصبحت التراكمات كثيرة يا كارمن.. ما كان يجدر بك أن تصادقي سناء، ولا أن تتعرفي على أسرة أختي حتى لا تلوكك الألسنة.. هذا لصالحك.. أم أنا؛ فلا يهمني!
كنت عصبي المزاج للغاية وأنت ترافقني حتى الباب وتشتكي:
-يا إلهي.. أنا لم أشأ سوى صداقة.. صداقة فقط.. إن النساء العربيات فعلاً معقّدات!!.
(هذه السناء… قريبتك..
لاحظت امتعاضك لوجودها بالصدفة هناك عندما جئت إليك كما تواعدنا لأرافقك إلى اللاذقية ذاك المساء.. لماذا؟‍!
لماذا لم تقل لي مذ زرتها لأول مرة أنك لا تحبذ ذلك؟ كنت تجنّبتها من أجلك، ولم أزرها بعد ذلك…
كيف كنت تريدني إذن أن أكون كي لا أكون "معقّدة".. ألست أنت حقاً من هو في منتهى التعقيد؟!!).
لم أعد أدري ما أقول، ومددت يدي بأزهار ياسمين قطفتها من شجيرتك عندما كنت أنتظرك…وضعتها على الطاولة:
ـ إن ياسمينك لا رائحة له!
نظرت إلي ببرودة نفذت إلى قلبي، وبقيت صامتاً..
أردفت وكأني أحاول الوصول إلى طوق ما للنجاة أخشى أن يفلت مني:
ـ ماذا.. ماذا أعني أنا لك حقاً؟!
ـ لاشيء… لاشيء البتة‍ .. إن صداقتنا ليست سوى صفر.. صفر‍
اختنقت الكلمات في حلقي.. ماذا أقول بعد؟… لاشيء، فقد انتهى الكلام.
عند الباب.. وأنا على وشك الذهاب إلى منزل أختك، وأنت على وشك الذهاب إلى بيت أمك قلت لي فجأة:
ألست ذاهبة إلى دمشق؟
ـ أجل..
ـ اتصلي بي إذن من هناك!
ـ متى؟!
قلتها بلهفة وبلا وعي ثم استدركت:
ـ لا… لن أتصل بك.. فما جدوى ذلك؟!..
بقيت صامتاً.. وتابعت سيرك، وتابعت سيري، والدموع التي انحبست في حضورك بدأت تترقرق في عيني.
(يا إلهي ما أشد قسوتك.. كيف تكون فظاً هكذا وتردد على مسامعي: "صفر.. صفر"، دون أن يرف لك جفن ودون أن تسمع قلبي وهو يتفتت؟.. كيف تجرؤ أن تكون بارداً هكذا فلا تعطيني على الأقل قبلة الوداع؟!.. ثم تطلب مني فجأة أن أتصل بك في دمشق؟!… آه منك، ربما لا تعرف حقاً ما تريد.. بل من المؤكد أنك لا تعرف)…
ما إن وصلت إلى منزل أختك حتى كانت الدموع تنساب على خدي دون حرج.. أما هم: أختك وزوجها وابنتها، فقد شعروا بالحرج عوضاً عني..
قالت لي أختك:
ـ إنه طيب القلب ولن يلبث أن يصالحك..
ـ لا.. إنه لن يفعل.. لن يصالحني أبداً..
****
مكثت شهراً في دمشق.. شهراً في تلك الشقة التي استأجرتها.. شهراً، أنتظر أن تتصل بي، ورقم الهاتف كتبته لك على مظروف تلك الرسالة التي وضعتها في صندوق بريدك…
كان لابد من الكتابة؛ ففي حضورك أنسى دائماً ما أود قوله، ثم تتدفق في رأسي عند غيابك كل الكلمات التي كان يبنغي أن أقولها لك.
أتساءل إذا كنت قد قرأتها… تلك الرسالة المجنونة (بل تلك الرسالتين؛ فرسالة واحدة لم تكن كافية).
رن جرس الهاتف المشترك بيني وبين المؤجّر الذي يقطن في الطابق العلوي.. خفق قلبي بشدة؛ فاليوم هو اليوم الذي تسافر فيه مساء إلى منزلك الآخر في اللاذقية.. وقد تكون أنت تريد أن تكلمني وتصالحني وتطلب مني أن أرافقك..
كنت أسمع أبو ناجي العجوز بصوته المرتفع يخاطب المتكلم:
".. نعم…نعم.. رقم الهاتف صحيح، ولكن مع من تريد أن تتكلم؟".
ازداد خفقان قلبي.. لابد أنه هو: أرجوك.. قل له أنك تريد التحدث إلي!
لكن المتكلم على الطرف الآخر أغلق الخط..
يا إلهي..كيف غاب عن بالي أن أكتب لك أن الهاتف مشترك؟.. لابد أنك تفاجأت من هذا الصوت الذكوري وظننت أني أقطن ربما مع أهلي فلم تجرؤ أن تطلبني.. كما لم تجرؤ مرة أن تطلبني عندما اتصلت بي فجراً وأجابت ليلى على الهاتف بدلاً مني.. هل تذكر؟
عدت وحيدة إلى اللاذقية في نفس اليوم، واتصلت بي سناء لتخبرني أن يوم خطبتها سيكون في الأسبوع القادم ودعتني للحضور وأكّدت لي أنها لم تدعك؛ فهي أيضاً غاضبة منك.
في يوم الخطبة اتصلت بي سناء صباحاً لتسألني عن آلة تصوير للفيديو وتخبرني أنك ستحضر!…
تظاهرت بعدم الاكتراث؛ لكنني كنت مشتاقة لرؤياك.
قالت لي في حفل عيد ميلادها أنك أيضاً من نفس البرج.. برجها؛ فتذكرت فجأة ذاك الكتيب عن الأبراج الذي اشتريته منذ زمن بعيد على سبيل التسلية هناك ولم أقرأه..
بحثت عنه طويلاً وقلّبت صفحاته لأقرا فيه أن برجينا منسجمان جداً ويجمعهما "الحب من أول نظرة"‍‍!!
الحب من أول نظرة؟!
هل أصدق كلام الأبراج؟!!..
ضحكت، وأعدت الكتيب إلى مكانه..
****
في الساعة الثامنة تماماً كنت عند سناء كما اتفقنا.
كانت صديقاتها الكثيرات يجلسن في غرفة الاستقبال الواسعة التي تم تغيير ترتيبها لتتسع أكثر، وقد وزعت في زواياها طاقات الأزهار.
وما لبثت ريما ـ ابنة أختك ـ أن دخلت مع والديها، فأقبلت علي فرحة.. قالت لي وهي تهم بتقبيلي على الوجنتين:
ـ "تبدين جميلة وأنيقة يا ملعونة"!..
(ليتك كنت أنت من يقول لي ذلك)..
قبّلتني أختك وسألتني عن أحوالي، وسلّم علي أخوك بلطفه المعهود كلما رآني، ثم انصرف إلى "زاوية الرجال" كما انصرفت أختك إلى "زاوية النساء"؛ وجلست أنا قبالتها بعد أن جذبتني ريما من ذراعي لنجلس هناك في زاوية "البين بين"!..
كنت أجلس مترقّبة وعيناي تنظران تلقائياً إلى الباب بين فينة وأخرى.. أتوقع دخولك في كل لحظة. في الساعة التاسعة جئت.. أحسست بحضورك قبل أن أراك، فالتفتَ لألمحَ سترتك الجلدية وشعرك الفضي. التقت نظرتنا بسرعة، فأومأت لي بالتحية ثم جلست.. جلست في الزاوية في الصف المقابل؛ لكنك حوّلت أنظارك عن الجهة التي أجلس فيها وانغمست مباشرة في الحديث مع أحد المرشحين في الانتخابات التي اقترب موعدها كنت ألمح من الزاوية التي اخترت الجلوس فيها جانباً من وجهك فقط، والسيجار بين أصابعك، وكأس الشراب الموضوع أمامك ترشفه على مهل..
خشيت أن تحين منك التفاتة مفاجئة لتراني أتأملك، ولذا آثرت تغيير المكان في نفس اللحظة التي كانت فيها أختك تدعوني للجلوس بقربها بعد أن أصبح المكان شاغراً؛ فلبيت طلبها ممتنة وجاءت ربما لتجلس إلى جانبي الآخر.
جلست مابين أختك وابنتها مخفية عن أنظارك لا يظهر لك مني سوى جزءاً من ساقي الموضوعة على الساق الأخرى!
همست ريما في أذني:
ـ أريد تدخين سيجارة..
ـ فلتدخني إذن.
ـ لا أجرؤ على ذلك أمام أهلي.. أرجوك تعالي معي إلى المطبخ…

ونهضت معها لتلبية رغبتها في التدخين، ورغبتي في الحركة وتغيير المكان.
قريباً من باب المطبخ كنت واقفاً تتحدث مع شقيقة سناء وأنا لم أنتبه أنك تركت زاويتك.. فاجأني وجودك فلم أدر للحظات إن كان علي التراجع إلى مكاني أم دخول المطبخ.
لعنت ريما في سري.. لقد وضعتني في موقف حرج، فربما تظن أني جئت كي أتحرش بك.
لكن عودتي إلى مكاني لم تكن مناسبة أيضاً وقد رأيتني، ولذا خطوت باتجاهك ومددت لك يدي مصافحة. جلست على الكرسي في المطبخ أسترق النظر بطرف عيني عبر الباب إليك وأنت منهمك بالحديث غير مهتم بأمري.
سحبت سيجارة أدخنها وأنفث معها بعضاً من همومي، وألتفت مرة أخرى إليك فلم أجدك.. لقد اختفيت من المكان وعدت من حيث أتيت لتكمل حديث السياسية.. أما ريما؛ فقدعادت إلى مكانها مذ رأتك وتركتني أدخن عوضاً عنها!…
عدت إلى مكاني وأنا ما أزال أصب لعناتي على ريما وعليك أيضاً.. قد مددت لك يدي بالتحية، فلم لم تنتهز الفرصة لتتحدث إلي؟
حوالي الحادية عشر مساءً أومأ لي يوسف ـ صديق سناء وخطيبها ـ ودعاني للجلوس حيث يجلس بجانب الخطيبين.. مدّ لي يده بالشراب وقد اكتسى وجهه بابتسامته الطفولية.
لم أكن بحاجة للشراب؛ ففي رأسي من الدوار مايكفي خاصة عندما رأيتك تقترب نحو الخطيبين.. ونحوي!…
مددت يدك إليهما مصافحاً ومهنئاً ومقبِّلاً ثم.. كان لابد من أن تتلامس يدينا مرة أخرى في مصافحة سريعة للمجاملة وأنت تستأذن بالانصراف، أنت وأختك وزوجها دفعة واحدة.
لم أعد أرغب بالبقاء وقد ذهبت أنت، ولاحظت ريما وجومي فاقترحت علي أن نذهب إلى منزلها لشرب المتة وتغيير الجو. وافقت.. ليس لأني من محبي المتة؛ فأنا لا أشربها إلا مجاملة؛ بل آملة أن أراك.. توقعت أن تكون قد ذهبت لمتابعة السهرة في منزل أختك.
لكنك لم تكن هناك..
كانت أختك وزوجها يجلسان أمام التلفاز عندما دخلنا حجرة الجلوس؛ لكنهما سرعان ما استأذنا وذهبا للنوم، أحضرت ريما الإبريق وكأسي المتة وجلسنا نتحدث..
بدأت ريما تتحدث عنك..
كم أحب الحديث عنك!..
*****


النهى 02-05-09 05:05 PM



اتصل بي بيتر ليطمئنني ويخبرني أن حالة ليلى النفسية قد تحسنت، وعندما استفسرت منه عن فحوصاتها الطبية قال إن الطبيب المختص بالأمراض العصبية قد اكتشف من خلال الصورة وجود خلل في جهازها العصبي وحدّده. سألته إن كان الطبيب قد طلب صورة أخرى فقال لي أنه اكتشف الخطأ على نفس الصورة التي رآها الطبيب في دمشق منذ أكثر من سنة!..
صدمني كلامه؛ فالخلل واضع على الصورة منذ ذاك الحين لم يكتشفه الطبيب؛ بل شخّص حالتها على أنها مرض نفسي وحوّلها إلى طبيب نفساني سرعان ما اكتشف هو الآخر لها مرضاً مناسباً ووصف لها الدواء أيضاً!!
ونحن صدّقنا؛ فلقد كانت لليلى تصرفات تجعلنا نعتقد أن مرضها نفسي فعلاً، وعندما أعيتنا الحيلة معها، رغم المعالجة النفسية، انتقلنا للعيش في دمشق خصيصاً من أجلها، وسجلناها مع بداية العام الدراسي الجديد في مدرسة خاصة هناك اعتقاداً منا أن تغيير البيئة المحيطة بها تغييراً جذرياً قد ينفع؛ فتحصيلها المدرسي كان في تراجع مستمر، وعلاقاتها مع أصدقائها في تدهور أيضاً.
والأيام تمر، ومع مرورها تزداد حالة الابنة سوءاً، لأن مرضها عضوي منذ البداية ونحن لا نعلم..
لم نكن نعلم أن تصرفاتها حيالنا ليست سوى عوارض تقليدية لهذا المرض اللعين الذي يؤثر على الحالة النفسية للمريض أيضاً.
لم تداوم في المدرسة إلا أسبوعين تيقّنا بعدها أنه لابد لها من السفر.
لا أعرف كيف خرجت من المدرسة وأنا أمسك بيدي إضبارة ليلى التي استعدتها من الإدارة، وكلام المديرة مازال يرن في إذني:
ـ لقد عملنا مافي وسعنا لتفهّم وضعها.. آسفة؛ ولكن ابنتك حقاً معاقة.
.. معاقة.. معاقة.. ابنتي الوحيدة معاقة.. يا إلهي ماذا بوسعنا أن نفعل من أجلها؟
كنت فقط أريد أن أطلب لها إجازة طبية لإجراء فحوصات شاملة لها في المشفى؛ لكن المديرة صدمتني بكلامها. لا أعرف كيف اتصلت بأمي بالهاتف، وكيف أخبرتها عن ذلك كله وأنا أبكي.. وهي تبكي.
كرهت مكوثي وحدي في الشقة الخالية منهما في دمشق؛ فسافرت إلى اللاذقية…
ذهبت إلى سوسن وأمها..
سوسن التي آلمها كثيراً التشخيص الخاطئ لمرض ليلى؛ لم تستطع أن تغلق فمها عندما التقت بالصدقة تلك السيدة تمتدح ذاك الطبيب الشهير وكأنه معصوم عن الخطأ.
أنا لست ناقمة عليه أنه أخطأ؛ فللَّه وحده الكمال؛ ولكنني توقعت أن يرى على الأقل الخلل الواضح على الصورة، ويريني إياه، وينصحني بإحالتها إلى طبيب مختص هناك.. في بلدها الثاني.. بلدها الأوروبي الغربي المتقدم عنا تقنياً في الطب، وغير الطب؛ فليس في اعترافه بعجزه عن التشخيص أي انتقاص من قدره كطبيب بارع؛ بل بالعكس..
فكل إنسان مهما بلغ من العلم لابد أن ثمة إنسان آخر أكثر منه علماً.. كنت عندئذ سأحترمه لتواضعه أكثر.. فليرحمه الله.
قالت لي والدة سوسن أنها قلقة جداً، وتود الذهاب إلى صيدنايا وإيقاد الشموع من أجل ليلى وأسعدتني كثيراً مبادرتها الوجدانية..
ذهبنا إلى صيدنايا في يوم مشمس دافئ؛ لكن دفأه لا يذيب صقيعاً من الهم تراكم في القلب حتى أوجعه… أشعلت شموعاً وجثوت على ركبتي في دير العذراء أذرف الدموع من أجل ابنتي وأطلب من الله أن يرفق بها. ثم عادت سوسن وأمها إلى اللاذقية.. أما أنا؛ فبقيت وحدي في دمشق أنتظر، وأنتظر الأيام تمر بي بطيئة مملة. قال لي بيتر: "فحص ليلى سيكون يوم 3/12 وماعليك سوى التحلي بالصبر والانتظار".
أجل.. مزيداً من الصبر والانتظار.
****
ذهبت أزور أختك في منزلها في دمشق، وأقسمت ريما أن أبيت الليلة عندها أسوة بسناء، وإلا فإنها ستغضب مني.. أذعنت للأمر مجاملة لها ورغبة مني في سماع خبر تخبرني به عنك.
قالت لي ريما أنها سألتك إن كنت غاضباً مني؛ فقد لاحظت أننا لم نتبادل سوى التحية، وأنك استغربت سؤالها وأخبرتها أنك لا تغضب أبداً مني وأنك تحبني.. حتى أنك أخبرتها أنك زرتني في بيتي.
(هل أنت تحبني حقاً وتكابر؟).
كم فرحت للخبر..
فرحت.. واكتفيت بابتسامة دون تعليق كي لا تلحظ ريما فرحتي، ونمت سعيدة.
في اليوم التالي.. وأنا منهمكة بإدخال المفتاح في باب الشقة التي استأجرتها في دمشق، تناهى إلى مسمعي صوت جارتي أم ناجي تناديني من الطابق العلوي:
ـ كارمن.. كارمن؟
ـ ما الأمر يا أم ناجي؟‍!…
ـ لقد اتصل زوجك هاتفياً بك وأنت غائبة.
ـ حسناً.. سأتصل به فوراً.. شكراً لك.
وهرعت فوراً إلى الكشك القريب لأتصل به؛ فأخبرني أن علي الحضور بأسرع وقت لأن ليلى ستدخل المشفى الاثنين القادم، ووجودي ضروري بقربها.
أسرعت بعد ذلك فوراً إلى مكتب الطيران لأحجز بطاقة السفر ليوم السبت.. فاليوم هو الخميس وعلي العودة إلى اللاذقية لأحزم حقيبتي وأخبر أحمد ابن الأرملة الفقيرة أم فادي أني سأسافر.
أم فادي أرملة طيبة القلب جداً..
جاء زوجها الشرطي بحكم عمله إلى هذه القرية منذ أكثر من عشرين سنة، وجلبها معه..
امرأة ريفية طيّبة وأميّة…
كان يحب الأولاد ويريدها أن تنجب وتنجب.. لكنه توفي في حادث، وترك لها نصف دزينة منهم.
تركها لتعتني بهم وتعمل من أجلهم عاملة تنظيف في البلدية…
أحمد طالب البكالوريا.. يقطن في غرفتين حقيرتين مع أمه وأخوته الخمس، ويجعله ضيق المكان وانعدام الهدوء غير قادر على الدراسة والتركيز، ولذا فقد اقترحت على والدته عندما سافر زوجي وابنتي أن ينتقل للعيش في منزلي..
شعرت أم فادي بادئ الأمر بالحرج والارتباك من هذا العرض الذي كانت هي وابنها في أشد الحاجة إليه.فشجعتها وأنا ألمح في عينيها السوداوين علائم الفرح والامتنان.
ـ الغرفة جاهزة، وبالمجان أيضاً..
قلت لها مازحة..
ـ جزاك الله خيراً يا أم ليلى.. لقد فكرت حقاً في استئجار غرفة صغيرة له كي لا تضيع عليه السنة رغم ضيق ذات اليد.. أنت أدرى بأحوالنا يا أختي..
خصصت له غرفة مستقلة ليدرس وينام فيها؛ حيث الهدوء المخيّم على المنزل سيعينه على الدرس، وبذات الوقت يروي الحديقة ويطعم العصافير، ولا يبقى المنزل مهجوراً خاصة وأني معظم الوقت في دمشق.
****************


النهى 09-05-09 06:37 PM




الشتاء الأول
شوق آخر وانتظار







أقلعت بي الطائرة في ذاك اليوم الشتائي، , وأطلقت مع انطلاقها من مدرج المطار لدموعي العنان.. تسيل على وجنتي بلا حرج.
أسافر إلى هناك مرغمة؛ فابنتي بحاجة إلى وجودي بقربها أكثر من أي وقت مضى، وأنا بحاجة لأن أضمها إلى صدري وأبكي ألماً من أجلها.
كان بيتر ينتظرني في المطار، وأحسست بالبرد ينفذ حتى عظامي وأنا أدخل السيارة في مرآب المطار الكبير. أمطرت بيتر طوال الطريق بوابل من الأسئلة عن ليلى…
لقد استدعى جليسة أطفال لترعى ليلى أثناء غيابه ليجلبني من المطار؛ فوالديه يقضيان أياماً في اجازة.
استقبلتني جليسة الأطفال العجوز بلطف وأخبرتنا أن ليلى أوت إلى الفراش، ثم استأذنت بالانصراف، وذهب بيتر معها ليوصلها إلى بيتها بالسيارة .
لم تكن قد غفت بعد، وما إن سمعت أصواتنا حتى هرعت إلينا، وارتمت بين ذراعيّ تعانقني وتحاول أن تتكلم؛ ولكن الكلمات لاتخرج أبداً بوضوح من بين شفتيها..
يداها متشنجتان وأصابعها مضمومة، وجهها متوتر وذراعاها تتحركان بطريقة عشوائية كلما حاولت أن تشرح لي أمراً ما استعصى علي فهمه من المرة الأولى.
جلست وحدي مع ليلى أتأمل وجهها الشاحب وجسمها النحيل.. كنت أحاول قدر الإمكان أن أخفي انفعالي وأبدو طبيعية ولا أجعلها تشعر كم تؤلمني رؤيتها هكذا.
عاد بيتر ونحن مازلنا نتحدث، ثم كان لابد من النوم..
ذهب بيتر إلى الغرفة الأخرى، وضممت ليلى إلى صدري ونمنا..
اليوم الاثنين..
المسافة مابين المنزل والمشفى، حيث ستجري فحوصات ليلى، لا تتعدى الربع ساعة بالسيارة، لكنني شعرت أنها تمتد ساعات..
أصبح الرعب يتملك ليلى كلما اضطرت لركوب السيارة فتبدأ بالصراخ الهستيري وتهتاج.
قال لي بيتر، وقد قرأ المعاناة في وجهي:
ـ أرجوك لا تنفعلي.. حاولي أن تتجاهلي تصرفاتها.
ووصلنا المشفى وأعصابي علىوشك الانهيار؛ فأنا لم أرها من قبل في حال كهذه.. أما بيتر فلم يعد ذاك المشهد بجديد عليه..
ما إن توقفت السيارة حتى هدأت المسكينة، وقد تبلّل وجهها الأحمر وشعرها بالعرق الغزير من شدة الانفعال. في المشفى أخذوا خزعة من نخاعها الشوكي، وجسّوا أعضاءها عضواً عضواً بأجهزتهم المتطورة، وأجروا لها صوراً شعاعية وغير شعاعية…
لم تمر الفحوصات بسلام؛ فقد كان لابد لليلى من الاعتراضات المصحوبة بالصراخ.
اليوم الأربعاء..
كان لابد في الصباح من أخذ خزعة أخرى من النخاع الشوكي، من منطقة الحوض هذه المرة، وفي المساء استقبلنا الدكتور شميد الطويل القامة جداً في مكتبه بالمشفى…
شرع الدكتور شميد، بعد الاستئذان منا، بتصوير ليلى بالفيديو معللاً ذلك بأن حالة ليلى حالة خاصة لم يسبق له أن عرفها من قبل، وأن عليه تصويرها ليسهل عليه دراسة حالتها بشكل أفضل.
كان يركز التصوير على حركات يديها وأصابعها المتشنجة.
جلسنا معه بعد ذلك بدون ليلى حول المنضدة الصغيرة المستديرة، وبدأ يشخص لنا مبدئياً، ولحين الحصول على النتائج النهائية للتحاليل، حالة ليلى المرضية:
ـ أشك بنسبة 95% أن يكون مرضها عصبياً نادر الوجود، وهذا المرض ـ في حال ثبوت إصابتها به ـ مرض ينتهي بها إلى….
ـ أينتهي بها إلى الموت؟!..
سألته بعد أن استجمعت شجاعتي.
قال لي وهو يناولني بطريقة روتينية جداً علبة المناديل الورقية:
ـ أجل.. للأسف.. تسوء حالتها تدريجياً ثم…
أجهشت بالبكاء وارتفع نحيبي، وبيتر ينحني فوقي ويضغط على يدي.
عدنا إلى البيت وأنا أسيطر على أعصابي.. أحاول كبت مشاعري فلا يبدو منها ماقد يحرّك الشك في نفس ليلى. إنها ذكية وتدرك فوراً من تعبير وجهي أن ثمة أمراً ما..
لكني في المساء، وأنا أحتضنها في الفراش، وأحكي لها حكاية قبل أن تنام ترقرقت الدموع في عينيّ.. حدّقت ليلى فجأة في وجهي وسألتني:
ـ ماما.. ما الأمر؟!
ـ لاشيء يا حبيبتي.. يبدو أنني أصبت بالزكام؛ ولذا تدمع عيناي قليلاً.. تصبحين على خير.
ـ تصبحين على خير.
قبّلتها على الوجنتين وخرجت مسرعة من الغرفة وأنا أحس بالاختناق.
أسرعت إلى الشرفة لأبكي بصوت عالي حيث لا يسمعني أحد؛ فالظلمة أطبقت على الدنيا من حولي؛والوقت شتاء، والجميع ينعم بالدفء، وراء الأبواب المغلقة..
بكائي أشعرني ببعض من راحة؛ فمسحت دموعي ودخلت..
كان بيتر يحتسي القهوة مع والديه ويحدثهما عن تشخيص الطبيب المبدئي لمرض ليلى.
قال والده ببرودة وهو ينفث دخان سيجاره:
ـ إن كان الأمر كذلك؛فمن الضروري فك التقويم الموضوع عن أسنانها كي لا يضايقها حتى النهاية!
نظرت إليه بقرف وكأنني على وشك أن أتقيأ وقلت له:
ـ يا لأهمية هذا الأمر الذي تلفت انتباهنا إليه الآن!.. فعلاً لم يتبق لدينا سوى مسألة التقويم لنفكر فيها!… لقد سلّمت حقاً بنهايتها المحتومة مع أن تشخيص الطبيب مازال مبدئياً؛ ومازال لدينا نسبة 5% من الأمل على الأقل.
تمنيت من شدة الانفعال لو أصفعه.. لكنني عوضاً عن ذلك أجهشت مجدداً بالبكاء.
لم يعرف عمي النبيه بما يجيب؛ فقد أخرسه كلامي وأدرك أنه تفوّه بما لم يكن ينبغي له أن يتفوّه به؛ فالتزم الصمت كزوجته وابنه.
في تلك الليلة أصابني الأرق وأنا أفكر بابنتي الغارقة في النوم بجانبي.. أتأملها وأمسح برفق وجهها الشاحب كي لا أوقظها، وأقبّل يدها الصغيرة التي لا تسترخي إلا أثناء النوم فقط.
أفكر في كلام الطبيب وأتساءل:
ماذا لو كان تشخيصه صحيحاً؟
هل أصبحت أيامها حقاً معدودة، وسأفقدها بعدئذ إلى الأبد؟!
يا إلهي.. لا تجعل تلك إرادتك.. أرجوك..
قبل بزوغ الفجر بقليل، استسلمت للنوم وحلمت بليلى تذهب إلى المدرسة، ثم لا تلبث أن تعود منها لأنها مريضة.
****
أتأمل من النافذة الثلج يتساقط خفيفاً في هذا اليوم الرابع من كانون الأول، ويغطي تدريجياً أسطح البيوت القرميدية وأغصان الأشجار الصنوبرية الباسقة، وقد استحال لون البحيرة رمادياً كالسماء
الملبّدة بالغيوم.
ليلى مازالت على حالها لا تعرف كيف تستلقي ولا كيف تستريح ولا كيف تأكل..
أصابعها مازالت مضمومة ويداها مازالتا متشنجتين والدكتور شميد لم يتصل بعد؛ إذ يبدو أن نتيجة الفحص الأخير لم تظهر بعد.
بعد يومين اتصلت بي ريما من اللاذقية لتسأل عن ليلى وعني وتستفسر عن موعد عودتي إلى سورية.
لا أدري متى سأعود ولا أدري أيضاً ماذا يمكنني أن أفعل هنا، والانتظار مقيت.
أتذكرك رغم الهموم الكثيرة التي تقض مضجعي و… أشتاق إليك.
وبيتر؟!.. لطيف وحنون! لكني يئست حقاً من إذابة جليده.
أغيب عنه ويغيب عني ولا يكون للقائنا أبداً، ومهما طال الفراق تلك الحرارة التي أفتقدها.
لقد اقتصر تواصلنا الجسدي بعد غياب على مجرد قبلة عابرة استقبلني بها في المطار!
وقبل هذا الغياب؟!
منذ متى لم تجمعنا لحظات حميمة؟!.. ربما منذ سنة، أو أكثر؟!.. لا أدري حقاً!..
"لحظات"؟!.. بل دقائق.. دقائق!!.. (فالدقائق أطول من اللحظات، والكذب حرام!)..
نتلامس لدقائق قبل أن يأتي الملل وينتهي الأمر، فنبقى صامتين، أو نتحدث.. ربما في السياسة!!
نتلامس، فلا تسري في جسدينا تلك الكهرباء التي ينبغي أن تسري فيهما..
نوهم أنفسنا أننا نمارس الحب؛ لكننا لا نعرق أبداً!!..

"العرق دموع الجسد، ونحن في ممارسة الحب كما في ممارسة الرسم، لا نبكي جسدنا من أجل أية امرأة، ولا من أجل أية لوحة.. الجسد يختار لمن يعرق".
هكذا خاطب العاشق حبيبته في الكتاب؛ وأنا لم أكن بحاجة لممارسة الحب معك كي أعرق!..
كانت تكفي يدك تمسك بيدي في تلك الأمسية لتصيبني الحمّى، وأعرق.
تلك الأمسية أصبحت بعيدة.. بعيدة جداً.. كالحلم.
الآن .. ربما أكثر من أي وقت مضى أردت أن أضمه ويضمني..
أردت أن ألتمس من جسده ويلتمس من جسدي دفئا…
أردت أن أمنحه ويمنحني من تعانقنا قوة…
قوة تجعلنا على الأقل قادرين على مواجهة محنتنا..
قوة تجعلني أطرد من رأسي أفكاراً مجنونة محورها أنت.
أردت أن أجرّب للمرة الـ…؟
ولكن.. عبثاً.
فلا اللمسات ولا المداعبات ولا حتى التلميحات تؤثر فيه….
في ذاك المساء، وليلى نائمة، ووالديه مازالا مسافرين، قلت له وهو مستغرق بمشاهدة برنامج ما على التلفاز:
"أنا ذاهبة لآخذ حمّاماً سريعاً، ثم أذهب إلى الفراش، فهل توافيني… إلى هناك.. بعد ربع ساعة؟!"..
أجابني بلا مبالاة ودون أن يرفع عينيه عن التلفاز: "نعم.. نعم"..
لم تكن ردة فعله أو جوابه مشجعاً؛ لكنني رغم ذلك اندسست في الفراش، في الغرفة الأخرى أنتظره… وانقضت ربع ساعة، ونصف ساعة، ثم ساعة كاملة، ورغبتي فيه تتلاشى ويحل بدلها غيظاً بدأ يغلي في داخلي.. كما في كل مرة، وصوت التلفاز مازال يلعلع من الطابق السفلي!
بدأ النوم يداعب أجفاني عندما شعرت بيده تلامس كتفي، وهو يهمس:
ـ كارمن… هل نمتِ؟!
ـ أجل!
ـ تصبحين على خير إذن..
كان هذا كل شيء… لم يعترض على جوابي؛ بل بدا لي أن جوابي أراحه!..
لم يحاول أي شيء؛ بل ذهب تلقائياً إلى الغرفة الأخرى، حيث تنام ليلى، لينام!
وأنا لا أريد أن أفتعل معه شجاراً؛ فظروفنا الحالية تجعلني أخجل أن أكون أنانية وأطالب بحقي كزوجة.. كامرأة..
أريده أن يدرك ذلك بنفسه بطريقة غير مباشرة.. ولكن هيهات!
كانت هذه أول محاولة طوال فترة تواجدي هناك، وآخر محاولة إلى أجل غير مسمى!!
******

النهى 09-05-09 06:40 PM



سافرت في كانون الأول، لأنتظر من جديد.
أنتظر نتائج الفحوصات…
أنتظر وأفكر..
أفكر بأمر لم أفكر أبداً به من قبل بجدية مطلقة.
كنت في الواقع أهرب من التفكير فيه وأشغل نفسي دائماً عنه بأمور أخرى محاولة بطريقة ما إقناع نفسي إنه ليس "كل مايتمنى المرء يدركه"..
يشركني بيتر في كل أمور حياته صغيرة كانت أم كبيرة..
لم يكن له رفيق، فكنت رفيقته..
معه سافرت إلى أصقاع الدنيا، ومعه غامرت وبنيت حياة مشتركة مغايرة.. ولكن ثمة حاجز غير مرئي كان يفصل دائماً، ومنذ البداية، بيننا.
حاجز غير مرئي، حاولت دائماً تجاهل وجوده والقفز من فوقه؛ لكنه موجود رغماً عني ويفرض وجوده علي في الفترة الأخيرة بكل قسوة..
كان بيتر ـ ومازال ـ طيباً، وربما مغفلاً..
لم يقرأ أبداً مابين السطور في كل تلك المواقف الحرجة التي كنت أحياناً أجد نفسي فيها طوال سني حياتنا المشتركة..
لم يقرأ مغزى أحد "الأصدقاء" وهو يقترح علي أمامه الترفيه عني، عندما يمارس هو..(أي زوجي) رياضة التزلج.. ولا قصد ذلك السفير العربي الذي يريدني سكرتيرة "خاصة"..
لم ير النظرات الجائعة لنادل الفندق، يدعه يدخل ليضع صينية الشاي على الطاولة في الغرفة، وقد خرجت تواً من الحمام بقميص النوم الشفاف لأتفاجأ به يقف هناك يتأملني؛ فأصرخ به أن ينصرف فوراً ثم أصب جام غضبي على زوجي الذي أدرك أخيراً سخافة الموقف الذي وضعنا فيه!!..
إن غيرة الرجل الشرقي قد تعميه أحياناً، وتلغي عقله، وتدفعه لارتكاب الحماقات، وأنا لم أرغب قط في رجل يفقد بسرعة أعصابه، وبلا مبرر… لكنني كنت أرغب دائماً في أعماقي ببعض غيرة أشعر بها منه تجاهي.. غيرة لا تسيطر على تصرفاته معي وتحاصرني وتحد من حريتي بلا مبرر؛ ولكنها غيرة لذيذة غير مباشرة تشعرني أني من حقه، وأنه لن يتنازل عني أبداً لرجل آخر.
الرجولة موقف…
وكثيرة هي المواقف التي بحثت فيها عن رجولة بيتر؛ فلم أجدها.. ليس في السرير وحسب؛ فهذه يمكن تعويضها بقبلة أو ضمّة.
(ولكن أين قبلته من قبلتك، وذراعيه من ذراعيك القويتين؟!).
الرجولة موقف..
إنها تلك اللحظات التي تشعر فيها المرأة بحاجتها إلى رجل قوي يحميها..
رجل يغار عليها..
ذاك الشعور اللذيذ بضعفها يحتويه رجل بقوته..
أما المساواة؛ فهي موضوع آخر!
***
كنت أتمنى أحياناً لو كنت قاسية القلب، فأحزم حقائبي وأتركه وأرحل..
ولكنني لستُ كذلك.. لذا كان إحباطي يتحول غضباً يفجّر الكلمات في حلقي، وتمتد يدي لتكسر صحناً أو كوباً، علّ حنقي يتكسّر معه!..
أما هو.. بيتر.. فكان يقف أمامي جامداً كالتمثال لا ينبس بكلمة؛ أو يتوارى عن أنظاري ينتظر أن تهدأ ثورتي، وعندئذٍ فقط يقبل نحوي..
يناولني كأس شراب، أو يمد لي يده بلفافة ويشعلها لي..
يجلس قبالتي وينظر في عيني،ويعاتبني..
أنظر إلى عينيه وهو يتكلم بهدوء؛ فألمح فيهما عجزاً وضياعاً؛ فأحزن من أجله، وأشفق عليه..
أخجل من ثورتي، وأبكي بصمت.. ثم.. أعتذر..
***
اتصل بنا الدكتور شميد ليخبرنا عن نتائج الفحص الأخير:
"لقد اكتشفنا وجود نقص في إفراز مادتين في السائل الموجود في المخيخ هما…. و….
ومن الأرجح أنهما المسؤولتين عن التشنجات في يدي ليلى، وربما يوجد بعض الأمل بإجراء معالجة ذات شقين: فيزيائية ودوائية.. هذه تكهنات أولية، سأتصل بكم بعد يومين أو ثلاثة لنرى ماينبغي عمله؛ فمازلت أنتظر نتائج تحليل آخر"..
كنت أحاول التركيز على كلامه؛ لكن آلاف المطارق كانت تطرق في رأسي…
تكهنات.. وانتظار.. مازلنا حتى الآن في طور التكهنات؛ وفي مرحلة الانتظار لنرى ماينبغي عمله.
اتصلت بأمي لأخبرها عن آخر التفاصيل، وكانت متوترة وبكت….
***
أشرقت الشمس أخيراً.. أشعتها تغمرني دون دفء.. وأنا تعيسة..
الجو بارد تلسع نسماته وجهي، وقد خرجت مع بيتر.. أردته أن يرافقني لأشتري هدية لليلى بمناسبة عيد ميلادها..
كنا نسير في الشارع جنباً إلى جنب صامتين، متباعدين، وقد وضع كل منهما يديه في جيوب سترته واستغرق في أفكاره..
عندما عدنا، انضم هو إلى والده ليشاهد برنامج الرياضة في التلفاز.. أما والدته فكانت منهمكة في ترتيب المنزل، وليلى مستلقية في السرير لا تريد الاستحمام..
فالحمام أصبح هو الآخر مصدر رعب لها.. تخاف من الدخول إليه، ومن الماء يبلل جسمها النحيل.
علينا في كل مرة أن نحملها إليه حملاً، ونجبرها على الاستحمام وهي تبكي وتصيح.. وقد كانت تهوى الماء وتجيد السباحة.
تركتها في السرير بعد أن عجزت عن إقناعها بدخول الحمام؛ فلم تكن لدي رغبة في سماع صراخها؛ فأعصابي منهارة وأرغب في تدخين سيجارة.
***
اليوم الأربعاء….
عيد ميلاد ليلى..
أحضرت لها كعكة البرتقال، وأوقدت لها اثنتي عشرة شمعة، لكنها أبت أن نفرح بها؛ وبدأت تبكي وترجونا أن نؤجل الحفل إلى الغد..
جدها وجدتها أصرّا على الاحتفال رغم احتجاج ليلى واقتطع كل منهما من الكعكة قطعة التهمها بعد إطفاء الشموع.
كان عيد ميلادها هو أتعس عيد ميلاد..
أما أنا؛ فكنت عاجزة حتى عن البكاء..
***
في الصباح الباكر أتت ليلى إلي.. كنت وحدي في البيت شاردة الذهن أنظر عبر النافذة، ولا أرى شيئاً.جاءت إلي لتعتذر عما بدر منها البارحة..عيناها حزينتان ترمقاني بنظراتهما وتستعطفاني:
ـ آسفة يا ماما.. كنت متعبة جداً البارحة وأرغب بالنوم؛ وكنت أود أن نؤجل أكل الكعكة حتى اليوم.. لكن جدتي وجدي رفضا ذلك"..
ـ لا بأس يا حبيبتي.. أنا لم آكل من الكعكة إكراماً لك.. تعالي نحتفل سوياً لوحدنا بعيد ميلادك"..
ـ أخرجت باقي الكعكة من الثلاجة، وأعدت وضع الشموع عليها.. ومالبث بيتر أن عاد؛ فأشعلنا الشموع ونفخنا عليها معاً وضحكنا.. ضحكنا كثيراً ونحن نأكل باقي الكعكة ونلتقط الصور..
****
ـ آلو.. مرحباً فيرونيكا.. كيف حالك؟
ـ أهلاً.. أهلاً كارمن.. ياللمفاجأة.. أنت هنا؟‍
ـ أجل.. أنت تعلمين أن ليلى مريضة، وقد جئت من دمشق خصيصاً من أجلها؛ فقد جاء دورها أخيراً لإجراء الفحوصات.
اتفقنا أنا وفيرونيكا أن أزورها اليوم بعد الظهيرة.. فيرونيكا، هي صديقتي الإيطالية التي أعرفها منذ خمسة عشر سنة.
فيرونيكا ترعرعت هنا؛ لكن طبيعتها "المتوسطية" طغت على تربيتها الأوروبية الغربية؛ والإيطاليون (خاصة الجنوبيين منهم)، كم يشبهوننا بطبعهم الناري ومآكلهم وكرمهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
فيرونيكا كانت جارتي، وكانت شقتها مقابلة لشقتي في الطابق الثالث.
وكان من عادتنا نحن سكان البناية رقم (2) أن نجتمع على اتفاق عفوي بيننا في الصيف فنتقاسم إعداد المأكولات لعشاء مشترك نشوي فيه اللحم في الهواء الطلق في حديقتنا المشتركة.. نستمتع منها بمنظر الشمس تغرب متأخرة على البحيرة، والظلام يحل متكاسلاً، ولا يغمر المكان تماماً إلا بعد العاشرة مساءً في عز الصيف…
أما في الشتاء؛ فكنا نلتقي في بيت أحدنا، أوفي قبو البناية؛ فنجلب إليه المناضد والكراسي؛ ونأكل فيه مرة طعاماً إيطالياً أعدته فيرونيكا، أو طعاماً سورياً أعددته أنا؛ أو أي طعام آخر من باقي النسوة، أو الرجال من الجيران الذين يجيدون الطهي أيضاً‍!..
نزّين القبو في عيد الميلاد ونستقبل فيه "بابا نويل" ليوزع هداياه على الأطفال.. أما في الأيام العادية؛ فننشر فيه الغسيل… في الأيام المطيرة.
كان لي مع فيرونيكا ذكريات جميلة كثيرة..
جاءتني مرة وهي حامل لتخبرني عن موعد ولادتها المرتقب؛ فرجوتها أن تتريث وتضع مولودتها في يوم ميلادي؛ لكنها لم تستطع الوفاء بوعدها، وولدت قبل ذلك بيوم واحد!
ذهبت إليها أهنئها وأعاتبها مازحة على عدم وفائها، وأنا أذكرها بوعدي الذي وفيت لها به قبل سنتين!!
كانت فيرونيكا قد دعتنا ـ نحن وباقي الجيران ـ لتناول "اللزانيا" في القبو، وأنا حامل في اليوم قبل الأخير.
قالت لي فيرونيكا وهي تتأمل بطني:
ـ أرجو أن تتمكني من الحضور غداً للعشاء؛ ولا تخيبي أملي وتذهبي إلى المشفى.
ـ طبعاً.. يا عزيزتي.. سوف أؤجل الولادة يوماً واحداً من أجلك فقط!!
وهذا ماحصل فعلاً.. التقيت مع بيتر بالجيران في القبو وشاركناهم بالتهام صحون اللزانيا، وضحكت فيرونيكا وأنا أغمزها قائلة:
ـ .. أرأيت؟.. إني أفي دائماً بوعدي!
****

النهى 09-05-09 06:41 PM



في اليوم التالي أحست بحركة غريبة في بطني؛ فأسرعت فوراً إلى الطبيب الذي فحصني سريعاً وطلب مني أن أذهب فوراً إلى المشفى.
قلت فجأة لبيتر وهو يقود السيارة بعصبية إلى المنزل أولاً لجلب حقيبتي التي أعددتها لآخذها معي إلى المشفى:
ـ يا إلهي يابيتر.. علي أن أعد بطاقة لجارتنا ماريانا.. لقد نسيتها.
حدّق بي بيتر:
ـ ماذا؟!… عليك فقط جلب الحقيبة؛ ثم التوجه فوراً إلى المشفى.
ـ لا عليك.. لماذا أنت متوتر هكذا؟! .. أستطيع بسرعة أن أنجز البطاقة!
كانت العادة المتعارف عليها في هذا البلد أن ترسل الأسرة التي تتوقع مولوداً بطاقات لطيفة للأهل والأصدقاء تعلن عن ولادته، ويدوّن عليها اسمه وساعة ولادته، وغير ذلك..
وقد أحببت هذه العادة؛ فصممت البطاقات وصنعتها بنفسي.
***
جلست بهدوء أرسم على القماش وأقص وألصق، ثم وضعت البطاقة في المغلف وكتبت اسم ماريانا عليه وقلت لبيتر الذي كان يذرع الغرفة جيئة وذهاباً:
ـ هاهي البطاقات جاهزة.. وماعليك سوى كتابة الاسم وساعة الولادة وإرسالها فوراً بالبريد..
ـ حسناً… حسناً.. أسرعي أرجوك.. يالبرودة أعصابك… وكأنك لست على وشك الولادة!..
ضحكت وقبّلته على وجنته وأنا أقول له:
ـ أنت متوتر أكثر مني.. لا تقلق؛ ستسير الأمور كما يرام.
وسارت الأمور كما يرام، واحتضنت طفلتي بعد مخاض ثلاث ساعات فقط؛ لكنها كانت ساعات ألم متواصل دون توقف.
ألم سرعان مانسيته، وأنا أتأمل وجه صغيرتي المنتفخ وأضحك من الفرح والدهشة.
رأت ابنتي النور يوم الثلاثاء في الساعة السادسة إلا ربعاً من ذاك المساء الشتائي…
وقفت الممرضة أمام سريري وبيدها ورقة وقلما تنقل نظراتها بين بيتر وبيني وتنتظر حتى نقرر أخيراً ماذا نسميها كي تسجل الاسم..
لم يكن السبب في حيرتنا أننا لم نتوقع ولادة أنثى؛ فقد كان بيتر يتمنى ابنة، وكنت أنا أشعر بغريزتي أني أحمل في أحشائي طفلة.
ولكننا احترنا فقط، وحتى اللحظة الأخيرة، في الاختيار بين اسمين كان اسم ليلى أحدهما.
استعدت في ذاكرتي تلك الأيام البعيدة وبيتر يقود السيارة، وأنا جالسة في المقعد الخلفي مع ليلى التي وضعت رأسها على ركبتي ومدت لي يديها لاحتضنهما.. أخفف من تشنجاتهما وتوترها.
لفيرونيكا ابنتان رائعتان اندفعتا فوراً إلى ليلى بعفوية، ولم يبدو عليهما البتة أي استغراب لحالها رغم أنه تغير كثيراً في عيونهما عما عهدتاه.
جلستا بقربها على الأريكة تحدثانها وترويان لها الحكايات من كتاب مزين بالصور، بينما انغمس بيتر في الحديث مع روجيه، زوج فيرونيكا.
دخلت أنا وفيرونيكا المطبخ نحمل ما تبقى من صحون بعد العشاء، وأخبرها بصوت هامس متهدج عن ليلى ونسبة الـ 95% المخيفة لاحتمال إصابتها بذاك المرض القاتل، وفجأة وجدنا نفسينا تحتضن كلاً منا الأخرى وتجهش بالبكاء.. بكيت كما لم أبك من زمن…
أخرجت كل ما تراكم في صدري من هموم كبتها طويلاً… لأني انتظرت طويلاً لحظة عفوية كهذه أبكي فيها تلقائياً مع شخص كفيرونيكا يحبني حقاً، ويشعر بما أشعر به..
***
عادت ليلى إلى المشفى لإجراء المزيد من الفحوصات..
أعطتنا النتائج المبدئية الجديدة بعض الأمل أن يزول شبح مرض الأعصاب ذاك عنها.
تم أخذ خزعة من كبد ليلى دون حدوث مضاعفات، كما أجري لها فحص للقلب، وبقيت في المشفى أربعة أيام تناوبنا خلالها أنا ووالدها النوم عندها.
بعد أسبوع اتصل بنا الدكتور شميد ليخبرنا أن مرض ليلى قد تم تشخيصه أخيراً، وهو بالتأكيد ليس مرض الأعصاب القاتل، ثم حدد لنا موعداً في مكتبه بالمشفى لنتناقش معه حول كيفية العلاج.
تنفسنا أنا وبيتر الصعداء، وحمدنا الله أن ثمة أمل في شفائها كنا على وشك أن نفقده..
***
عيد الميلاد..
سافر الجدان لقضاء العطلة مع أصدقاء لهما…
الشمس مشرقة على ثلج تساقط البارحة… أمسكت بيد ليلى وخرجنا إلى الحديقة.. احتضنتها ونظرنا باسمتين إلى بيتر ليلتقط لنا صورة.
عاد إلى نفسي بعض من السكينة.. إن مرض ليلى مرض عضال وعلاجه طويل الأمد… علاج لمدى العمر؛ لكنها ستبقى على قيد الحياة ولن يخطفها الموت مني، وهذا هو المهم..
مضت الأيام بطيئة هادئة ونحن الثلاثة لوحدنا في البيت الكبير..
كنا نمضي الأمسيات أنا وبيتر، وبعد أن تأوي ليلى إلى فراشها، نفكر بحذر في المستقبل… لم يعد بإمكاننا التفكير بذلك على المدى البعيد؛ بل خطوة خطوة.. فمرض ابنتنا مرض نادر، وخاصة في عمرها، ونحن قلقين مما تخبئه لها الأيام.
علينا أن ننسى أمر المدرسة.. فلا أهمية لها الآن.. كل مايهم هو أن تتماثل ليلى للشفاء.
وأنا؟!
وأنا سأعود إلى سورية بعد أيام..
لقد تم تشخيص مرض ليلى، وبيتر هنا من أجلها، ومن أجل عمله.. وبقائي هنا لا جدوى منه حالياً؛ فأنا لا أشعر براحة نفسية لوجودي في منزل ليس منزلي… في منزل رجل وامرأة لا يريا فيّ سوى امرأة غريبة؛ وليس زوجة لابنهما البكر، شاركته الحياة تسعة عشرة سنة بحلوها ومرها.
كنت قبل الزواج أعيش مع أسرتي مرفهة وسعيدة، وأنعم بقدر كبير من الحرية والاستقلالية في جو عائلي يسوده التفاهم والصراحة.. كان عملي عملاً ممتعاً كله سفر وتجديد تحسدني عليه الكثير من الفتيات..
تركت هذا كله وتزوجت بيتر، واشتغلت في البداية في معامل بلاده لتأمين مصروف الدراسة والحياة الزوجية.. ساعدته بمدخراتي، ورفضت منذ البداية مساعدة والديه المادية لتبديد مخاوفهما تجاهي.. تلك المخاوف السخيفة التي لم يتحررا منها طوال تسعة عشر سنة كاملة… تسعة عشر سنة من حرب باردة مستمرة رغم كل نواياي الطيبة.. رغم كل الود والمساعدة التي لم أبخل بها عليهما حتى وأنا حامل في الشهر الأخير… كنت لا أجد ضيراً في الصعود على السلالم وبطني أمامي لأدق المسامير في السقف الخشبي لمنزلهما الصيفي الذي كان بحاجة لترميم..
ولا أجد ضيراً في أن نضحي بيوم عطلة نهاية الأسبوع المشمس الذي خططنا له مسبقاً؛ فأبقى عن طيب خاطر وحدي في البيت كي يساعد والديه في نقل بعض قطع الأثاث.
كنت أنا من يقنع بيتر كل مرة بتلبية الطلب والمساعدة عندما أراه متأففاً، رغم أني أعلم علم اليقين أن أعذار أخويه المتقاعسين دائماً واهية، وأنهما ـ رغم ذلك ـ أول من يأتي كل مرة ليطالب بحصته من الكعكة! وكنت أنا مَنْ أقنع بيتر بالعمل مع والديه، رغم عدم ارتياحه للفكرة، وتخليت من أجل ذلك عن عمل كنت أحبه، وكانت كل الفرص الذهبية فيه متاحة أمامي.
من المضحك المبكي أن والدي بيتر يعرفان ذلك ويعترفان به… لكنهما غير قادرين على الحب.. ياللمسكينين!.. أخبرني بيتر أن حماتي ذرفت مرة دموعاً أمامه فاستغرب ذلك جداً منها وسألها بسخرية:
ـ أماه.. أنا لا أصدق… أنت تذكرين كارمن فتذرفين الدموع؟!
ـ أجل… لقد عرفت قيمتها بعد أن سافرتما للاستقرار في سورية.
ـ عرفت قيمتها بعد أن سافرت؟!…
ـ أجل.. وبعد أن تزوج أخواك، وأدركت الفرق بين تصرفات زوجتيهما معنا وتصرفات كارمن
- أدركت ذلك عندما أصبح لديك كنتان من هنا، فهل كانتا منك قريبتان أكثر؟! ليتك أدركت أصالة كارمن منذ زمن، وليس الآن… بعد فوات الأوان..
أجل فات الأوان… ودموعها التي سالت مرة سرعان ما جفت ونسيتها..
ألم أقل لك أنها مسكينة… مسكينة لأنها غير قادرة على الحب؟!
سأعود إلى سورية بعد أيام، وأفكر جدياً بعمل دائم في دمشق أو ربما في بيروت..
أخاف من الفراغ الذي ينتظرني في البيت، وأخاف من الوحدة التي تنتظرني معه.
ليلى.. الله وحده يعلم كم سيطول غيابها، ومدرستها أغلقت أبوابها دونها..
لم يعد بوسعي تحضير الدروس معها، أو الانشغال بالرسم والأشغال اليدوية نزّين بها سوية غرفتها.
لم يعد بوسعي أن أصنع لها بنفسي قالباً من الكاتو في عيد ميلادها ليكون في كل مرة مبتكراً لذيذاً يدهش صديقاتها؛ فترجوني ليلى أن ألتقط له صورة قبل أن تقطعه السكين.
لم يعد بوسعي حتى أن أقبّلها قبلة المساء، وأحكي لها حكاية قبل أن تنام في كل تلك الأيام القاسية من البعاد التي مازالت بانتظارنا.
أشهر ثلاثة انقضت بالكثير من الدموع والأرق والقلق.
عدت ثانية إلى الوطن.. حائرة لا أدري ماذا أفعل..
أحاول أن أشغل نفسي؛ لكن الهواجس أكبر من كل ماأحاول إلهاء نفسي به.
لقد جعلني مرض ليلى تعيسة، ولا مبالاة بيتر محبطة..أما أنت؛ فقد جعلني جفاءك حزينة..
***********


النهى 09-05-09 06:43 PM



الربيع الثاني
يوم دست على البنفسج






كم انتظرتك أن ترفع سماعة الهاتف، وتتصل بي دون جدوى؛ وكم مضت أيام كثيرة كنت فيها قريباً جداً مني… بضع كيلو مترات فقط..
بضع كيلومترات فقط تبعد عيادتك عن بيتي، وكيلو مترات أقل منها يبعد بيتك عن بيتي..
علمت أنت من أختك أن ليلى مريضة فعلاً، وتيقنت أني لم آت إليك في بيتك بحجة كاذبة… وعلمت أنا من أختك أنك تفاجأت بمرض ليلى وحزنت من أجلها، ولكن الهاتف بقي أخرساً لايرن..
ورغم الجفاء لم أشعر أبداً أني ناقمة عليك… بل مجرد حزينة.. حزينة من أجلي، ومن أجلك.. أريد أن أراك؛ وأريدك أن تصالحني.
أريد أن أعرف إن كنت تكن لي بعضاً من الود.. بعضاً من مشاعر.
كيف قرأت رسالتي؟
هل احتفظت بها، أم جن جنونك ومزقتها.؟!..
هل كنت أنت حقاً من اتصل بي في دمشق… في بيت أبو ناجي؟
هل تعرف أنك آلمتني حقاً وتريد أن تصالحني ولكن غرورك يمنعك؟.. أم أن أمري لديك سيان؟… ليتني أعرف!..
وسواء كان أمري سيان لديك أم لم يكن؛ فإن أمرك يهمني… لماذا؟‍
أيها الفوضوي المغرور..
كان شوقي إليك أكبر من أي اعتبار آخر..
أردت أن أزورك…
****
أبرقت السماء، وأرعدت، ثم فتحت أبوابها بأمطار غزيرة..
كانت قطرات المطر المتسارعة تمتد خيوطاً تصل السماء بالأرض.
كم أحب زمجرة السماء هذه‍!…
البرق والرعد والمطر، ورائحة الأرض بعد انقطاعه كانت تأسرني مذ كنت طفلة، وتوّلد فيَّ توتراً لذيذاً وشعوراً بالنشوة حتى الآن.
كنت أجلس وراء النافذة؛ عندما تكفهر السماء وتتلبد بالغيوم.. أتأملها بلهفة، وأعد ومضات البرق وقرقعات الرعد.
كانت سماء دمشق تبرق وترعد وتنهمر أمطارها غزيرة عندما كنت صغيرة..
فلماذا تغيّرت ياسماء دمشق واختفت بروقك ورعودك، وأصبح مطرك رذاذاً خفيفاً خجولاً جداً؟!
اندسست في الفراش وأصوات السماء تهدهدني..
غفوت وأنا أفكر بك..
أفكر في يوم السفر غداً إلى دمشق.. إليك..
عند الثالثة صباحاً أيقظني حدسي لأتفقد نوافذ حجرة المعيشة خوفاً من المطر، الذي لم يتعب من الهطول؛ أن يتسرب عبر الواجهة الخشبية..
وطئت الغرفة في العتمة، وأصابعي تتحسس زر الضوء الكهربائي على الحائط؛ لكن قدمي كانت أسرع في تحسس السجادة!..
كانت السجادة غارقة في الماء الذي تناثر فور ملامسة قدمي لها.
أضاء النور الغرفة واتسعت حدقتا عيني وأنا أحملق في كل تلك المفروشات المبللة بالماء.. ياللكارثة!
لا يمكنني التخلص من كل هذا الماء بالمماسح.. لابد من كسر العتبة لتسرب المياه عبر الدرج، ومنه إلى الحديقة..
وأسرعت أحضر المطرقة في سباق مع الوقت أهوي بها على العتبة حتى كسرتها وطارت منها شظية صغيرة لتترك علامة زرقاء صغيرة قرب عيني.
أسرعت أخرج المفروشات قطعة قطعة، وألفّ السجادة التي جعلها الماء ثقيلة جداً، ثم أسحبها بجهد عظيم حتى الدرج، وأضعها عليه مائلة كي تتسرب منها المياه، وأنا أشتم وألعن كل هذه المصائب التي تحل علي عندما أكون وحيدة.
تذكرت عندما أصيبت ليلى فجأة بانحلال الدم قبل سنتين، ولم أستطع إعطاءها من دمي؛ لأن دمها من زمرة دم أبيها، وأبوها مسافر، ولا أحد ممن أعرفهم يمكنه التبرع لها، ولا يوجد نفس الدم في بنك اللاذقية ولا في بنك طرطوس ورغم أنه ليس نادراً "O إيجابي "!!
أسرعت بسيارة الأجرة إلى حمص بعدّ أن أخبروني على الهاتف أن لديهم كيسين؛ ولكنني لم أجد إلا واحداً عندما وصلت أحمله إلى ليلى وهي في الرمق الأخير..
كنت على وشك أن أفقدها… وعرفت فيما بعد أن انحلال الدم لم يكن إلا عارضاً من عوارض مرضها اللعين.
كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحاً عندما عدت إلى الفراش..
كنت منهكة أرتجف من البرد، وقد تجمدت قدماي لا يجد الدفء إليهما سبيلاً رغم الجوارب السميكة..
***
لم تأخذ السماء قسطاً من الراحة في الصباح، فالمطر مازال منهمراً، وأنا مازلت عازمة على السفر رغم الجو المطير.
رفعت سماعة الهاتف لأتصل بسوسن التي كانت تنوي السفر معي.. كان الهاتف معطلاً!..
طبعاً.. إن تعطل الهاتف عندنا مرادف لهطول المطر!!
ارتديت قميصاً حريرياً بنفسجي اللون، وذهبت إلى مصففة الشعر.. أردت أن أبدو جميلة.
انقطع المطر، ومالبثت الغيوم أن انقشعت..
أشرقت الشمس، والحافلة تتحرك استعداداً للانطلاق إلى دمشق في هذا اليوم من أيام شهر شباط… أما سوسن؛ فقد رافقتني إلى الموقف فقط، وأجلت سفرها إلى يوم آخر لأنها ليست مجنونة مثلي!…
***
دخلت غرفة مكتبك وقد ارتسمت على وجهي ابتسامة تلقائية لم أنجح في السيطرة عليها… كنت قد انتهيت للتو من قراءة البطاقة التي جعلتها مقدمة لدخولي عليك ودفعت بها إلى علي ليناولها إليك…كتبت لك:
"… أليس بإمكاننا أن نبقى أصدقاء، إن لم يكن بإمكاننا أن نصبح أحباباً؟!"..
كنت مشغولاً بفرز أوراقك القديمة.. تحتفظ بهذه وترمي تلك، وتستمع إلى إذاعة لندن.. كان صوت المذياع عالياً.
تشاغلت بأوراقك فور انتهائك من قراءة البطاقة متجنباً النظر في عيني.. كعادتك.
لا أظنك كنت أقل اضطراباً مني وأنت تحاول إظهار عدم المبالاة… كعادتك.
وأنا لم أعد أعرف أن أقول لك كل ما كنت أود قوله لك.. كعادتي!..
حقاً… لم آمل كثيراً من زيارتي لك، وكان يكفيني ألا تكون غاضباً مني رغم أنك أنت من أغضبني.
مددت لي يدك مصافحاً وبادرتني بالسؤال:
ـ كيف حالك إذن؟
ـ لابأس.. وأنت؟
ـ لا بأس.. لا بأس..
(ليتك تخفض صوت المذياع).. فكرت، ثم قلت لك مازحة:
ـ يا إلهي.. ما أكثر أوراقك، لو أنك تتاجر برزم الأوراق القديمة لأصبحت بذلك غنياً… لم لا تكون لديك سكرتيرة تساعدك؟..
ـ السكرتيرة لا تنفع معي!..
ـ فليكن سكرتيراً إذن.
ـ لا ينفع؛ لأنه أبلد منها!… أخبريني .. كيف حال ابنتك؟
زفرت زفرة عميقة، وقلت:
ـ الحمد لله.. إنها أحسن حالاً الآن.. لاأدري حقاً ما أفعل.. إن قدومنا للعيش هنا كان نحساً، وربما علي أن أعود إلى هناك من غير رجعة.
ـ هذه مشيئة الله؛ فليكن إيماننا قوياً..
ارتحت لجوابك، رغم فتوره؛ وبقيت صامتة ثم عاتبتك بحذر:
وأنت… لم تسأل أبداً عني… ربما انتحرت!!..
نظرت إلي نظرة تأنيب على كلامي المجنون:
ـ لو أنك انتحرت لما حزنت من أجلك..
ـ أعرف… أعرف أنك قاسي القلب.
نظرت إلي تتأملني:
ـ ماهذه البقعة الزرقاء الصغيرة على وجهك؟..
ضحكت:
ـ أكلت "قتلة"‍!..
أخبرتك عن طوفان نوح في بيتي، ثم دخل علي يحمل إليك كوباً من الماء..
(لم تسألني إن كنتُ أريد أن أشرب شيئاً).
سألتك:
ـ هل أنت مدعو هذا المساء؟
ـ أجل… وأنت.. ماذا ستفعلين؟
ـ .. سأذهب إلى شقتي وأقرأ شيئاً ما.
ـ…
ـ استأذن إذن.. علي الذهاب..
ـ سنلتقي Soon..
(هذه هي عادتك في الحديث.. تطعّم كلامك العربي ببعضاً من لغة أجنبية)..
ـ أما زلت تحتفظ برقم الهاتف؟
ـ طبعاً..
وفجأة خرجت من وراء طاولة المكتب.. وقفت قبالتي وقلت لي:
ـ نحن لسنا مجرد أصدقاء… نحن أحباباً!..
ـ …
كلامك .. لم أكن أتوقعه؛ فبقيت صامتة.
مددت يدك إلى ياقة قميصي تصلح من شأنها وأنت تقول:
ـ تبدين شاحبة..
ـ وماذا تظنني إذن؟.. أجل شاحبة ومتعبة ومهمومة.. وأنت أيضاً همي.
ـ…
قبّلتني بسرعة على شفتي:
ـ إلى اللقاء..
ـ إلى اللقاء..
غريب أمرك.. تستقبلني وتحدثني بادئ الأمر بفتور ثم تختم اللقاء بقبلة، وأنت تؤكد لي أننا سنلتقي قريباً، وأننا أحباباً!…
خرجت من عندك فرحة جداً، ولم أرغب في الذهاب فوراً إلى البيت… فكرت بريما وقررت أن أزورها رغم أن لاشيء… هاماً أستطيع أن أتحدث فيه معها؛ بل مجرد ثرثرة.. كالعادة..
هي مملة؛ لكنها لطيفة؛ وأنا أزورها فقط لأنها… قريبتك!
فتحت لي ريما الباب، وكانت لوحدها.. قالت لي:
ـ تبدين فرحة، ووجهك مشرق… ما الأمر؟!
ـ لاشيء… لقد مشيت طويلاً؛ فتحرك الدم في عروقي، ولذا أبدو مشرقة الوجه.
"من يبحث عن الحب يطرق الباب؛ أما المحب فعلاً فيجد الباب مفتوحاً".**
***
حقاً.. إن الحب ليس شيئاً نبحث عنه، بل شيئاً يباغتنا بحضوره المفاجئ… يغرينا لندخل من الباب دون أن نطرقه.. دون أن نستأذن المنطق أو الإرادة.
أنا وجدت الباب دائماً مفتوحاً إليك، وأنت أردت دائماً إغلاقه.
هذه الـsoon التي قلتها ما زلت أسمع صداها منذ شهر تلح علي كل يوم، ويزيد إلحاحها كلما عرفت أنك موجود بالقرب مني… على بعد كيلو مترات قليلة فقط.
أهرع إلى الهاتف كلما سمعت رنينه وأرفع السماعة ليكون على الطرف الآخر أحد آخر غيرك.
ماذا إذن؟!
هل كان كلامك مجرد عبث بعواطفي؟
هل أنت مشغول لدرجة أنك لاتستطيع أن تهاتفني لدقائق معدودات تسأل فيها عن أحوالي؟.. وهل أطمع بأكثر من ذلك؟
هل أنا غبية حقاً لأتعلق حتى الآن بوهم كاذب هو أنت؛ وأصدق مزاعمك أننا أحباباً؟!
إن كنا حقاً أحباباً، فلم لا تشتاق إلي وقد مضى شهر على لقائنا؟
رفعت السماعة.. كان لابد لي من حجة أتذرع بها لأتصل بك، وقد وجدتها…
كان بيتر قد اتصل بي ليطلب مني الاستفسار عن مدرسة للمعاقين في دمشق من أجل ليلى إن كانت حالتها تسمح مستقبلاً بمتابعة معالجتها في سورية.
جاءني صوتك حنوناً (نوعاً ما):
ـ أهلاً.. كيف حالك؟
ـ أنا بخير، وأنت؟
ـ بخير.. طمئنيني عن ليلى.
ـ إنها أفضل من قبل.. أريد أن أستفسر إن كان يوجد في دمشق مدرسة للمعاقين من أجل ليلى مستقبلاً.
ـ لا… لا يوجد..
(كان جوابك محبطاً)..
ـ .. لا أدري حقاً ماذا أفعل.. ماذا عن مدرستها… مستقبلها؟!
ـ…
ازداد شعوري بالإحباط، وقد بقيت صامتاً لا تجيب على مخاوفي البادية في تساؤلاتي.
(أحباب؟!… يالنا من أحباب.. إن ذلك واضح تماماً في ردة فعلك التي فترت بسرعة!!).
فكرت بسرعة ، ثم استجمعت شجاعتي بسرعة لأسألك:
ـ على فكرة.. متى ستأتي هذه الـSOON؟
ـ ماذا؟.. لم أفهم قصدك!
ـ ألم تقل لي أننا سنلتقي "قريباً".. قل بربك كم هي المدة الزمنية التي يستغرقها ذلك حتى أعرف.. فقط!
(حاولت أن أقول ذلك بنبرة مازحة كي لا أستفزك؛ ولكني فشلت!).. أتعرف؟!.. لقد جئت إليك بدون آمال كبيرة… ووددت على الأقل أن نفترق بطريقة ودية..
ـ كما تشائين!
قلتها بصوت جاف جداً… تجاهلت قصدك وتابعت كلامي:
ـ … أو أن أكون متفائلة قليلاً فأطمع بصداقتك؛ لكنك أكدت لي أننا أحباباً؛ والحب إلتزام.. أليس كذلك؟… على الأقل مكالمة هاتفية واحدة تسأل فيها عني.. متى أراك؟
ـ تعالي إلى العيادة.
وانتهت المكالمة.
رفعت السماعة من جديد.. أردت أن أطلبك ثانية وأتشاجر معك، لكنني أعدتها إلى مكانها أفكر:
هذا المغرور.. الـ… الـ… "تعالي إلى العيادة"… ألا يخطر بباله أن يدعوني ولو إلى فنجان قهوة "خارج العيادة"؟
لو أنه قال لي تعالي إلى العيادة هناك في دمشق؛ لكان بإمكاني أن أحلم بإمكانية أن نلتقي خارجها لنتحدث..
كم أود أن نتحدث.. نتحدث في أي موضوع قد يخطر بالبال.
ولكنه يريدني أن آتيه مرة أخرى إلى عيادته هنا.. عيادته المزدحمة دائماً..
يريد أن يستقبلني لدقائق كأي مريض يزوره، ويحدثني حديثاً لا يتجاوز السؤال عن الحال و الإجابة عليه!..
.. لن أذهب إليه في العيادة؛ بل سأكتب له رسالة… كالعادة!…
في اليوم التالي تجمّلت من أجلك ولبست فستاناً؛ فقد ألمحك بالصدفة على الدرج أو عند مدخل البناية؛ فتعاتبني وتدعوني بعفوية للدخول، و…
عدت أحلم من جديد.
أحلام يقظة كأحلام المراهقات أصبحت تلازمني وأنا أعمل في الحديقة؛ وأنا أركب السيارة أو أذهب للتسوق.. أو للنوم.
أصبحت مدمنة على التفكير بك!
اليوم هو 3/ 11، وقبل سنة بالتحديد كان ذلك المشوار معك..
قلت لي وأنت تمسك بيدي فجأة وتقربها إلى صدرك؛ فأحس بنبض قلبك على ظاهر يدي:
ـ أحبك ياكارمن؛ فهل تحبينني كما أحبك؟
ـ يجوز.. ولكنك خطير… أنت شيطان!
ـ أنا؟!.. أنا مسكين و"حبّاب" وطيّب القلب!..
مازلت أذكر كل كلمة قلناها بهمس، والسيارة تنطلق بنا في العتمة، وأنت مازلت ممسكاً بيدي تضغط عليها برفق:
ـ أحب يدك ياكارمن.. أنها يد Lady … وأحب صوتك!…
(كم من النساء حدَّثتهن بهذه الطريقة، وكم من ساذجة منهن مثلي صدّقت كلامك؟!)..
ليست مارلين مونرو من صنف النساء الحكيمات؛ لكنها صدقت إذ قالت: "الرجل يحب عن طريق عينيه، والمرأة تحب عن طريق أذنيها"!)..
فكرت بذلك وأنا أصعد الدرج إلى عيادتك… أحمل بيد باقتي بنفسج قطفتهما لك من حديقتي، وأمد يدي الأخرى إلى الحقيبة لأخرج منها الرسالة.. رسالة عتاب حاولت قدر الإمكان أن أجعلها رقيقة حتى لا تغضب من جديد:
"باقة بنفسج لك عربون محبة؛ وباقةأخرى لأن اليوم هو 3/11…
سأشرب في المساء نخب هذه المناسبة، وعلى الأرجح وحدي..
لن آتيك إلى العيادة كي لا أشعر أني ثقيلة الدم غير مرغوب حقاً بوجودي، ولأني لا أريد أن أسحب الكلام منك سحباً بين دخول المريض وخروج آخر من عندك..
اشتقت للتحدث إليك براحة وعفوية في أي مكان.. لا يهم.. ولكن ليس في العيادة!..
أتمنى لو يأتيني صوتك هذا المساء حنوناً ضاحكاً كما كان في بداية تعارفنا، وليس جافاً فيجفف الدماء في عروقي!!.."..
كانت العيادة مكتظة بالناس، وأنت في مكتبك وبابك مغلق.
أعطيت البنفسج والرسالة عند الباب لنديم ليسلمها لك وعدت إلى البيت أنتظر الهاتف ليرن.. (ياللسذاجة!)..
جاء المساء وتبعه الليل وأنا جالسة أنتظر.. غير راغبة بشيء آخر سوى الانتظار… انتظار أن يرن الهاتف اللعين.. لكن الهاتف اللعين لم يرن؛ لأنك سخرت مني ورميت رسالتي ودست بنفسجي ونسيت بالتأكيد تلك المناسبة التي لم أنسها.
بلغ توتري ذروته مساء اليوم التالي.. اتصلت بك، وليتني لم أفعل:
ـ آلو.. مساء الخير، أريد أن أزعجك لدقائق معدودة… ممكن؟!..
ـ آه.. يمكنك التحدث إلي صباح الغد.
(غداً… عند الفجر ستكون في طريقك عائداً إلى دمشق) فكرت وأجبتك بحدة:
ـ لا.. بل الآن!
لكنك لم تشأ أن تتحدث إلي..
(يالك من جبان)، فكرت وأنا أغلي من الغيظ، ثم تذكرت أن غداً هو يوم عطلة.. من أجل ذلك إذن طلبت مني أن أتصل بك غداً لأنك ستكون حتماً هنا.. في المنزل.
ربما كان لديك ضيوف وشعرت بالإحراج.. وإن يكن، أما كان بالإمكان أن تعتذر مني بلباقة لأنك لا تستطيع التحدث إلي الآن؟
كنت سأدرك ذلك وأنتظر حتى الغد..
لا… من المؤكد أنك تعمدت إهانتي… تريد التخلص مني، ولذا ترفض التحدث إلي.. هكذا بكل بساطة. بقيت ساهرة.. واجمة أفكر حتى الساعة الثانية عشر، وما إن اندسست في الفراش حتى رن جرس الهاتف.. هرعت إليه، ورفعت السماعة، بلهفة أتوقع سماع صوتك:
لكن الذي كان على الطرف الآخر بقي صامتاً يستمع إلي وأنا أردد كلمة "آلو"، ثم .. أغلق الخط!
كانت ليلة سيئة جداً لم أنم فيها سوى سويعات، واستيقظت وصدري مازال منقبضاً..
بكيت في الصباح، وأنا أحتسي الشاي وحيدة.. ثم رفعت سماعة الهاتف واتصلت بك.. سمعت صوتك يردد:
ـ آلو.. آلو..!!
ـ خسارة أن تكون هكذا..
ـ آه ياكارمن.. أرجوك لا تتصلي بي إلى هنا لا في الليل ولا في النهار.. أرجو لك التوفيق!..
ـ تتمنى لي التوفيق؟!… ماذا تظنني إذن؟!..
لقد عاملتك بكل حب واحترام، وأنا لست سافلة وحقيرة إن أحببتك… لك مني هذه النصيحة: في المرة القادمة إن أعجبتك إحداهن، وأردت مضاجعتها فقط، ومن المؤكد أنها ستكون أكثر مني شباباً وجمالاً؛ فلا تقل لها أبداً أنك تحبها؛ لأنك بذلك تشوه شيئاً جميلاً اسمه الحب.. هل تفهمني؟!!…
شعرت بالقذارة.. بالغثيان، وأنا أعيد السماعة إلى مكانها دون أن أنتظر منك جواباً
دست على البنفسج..
دست على قلبي مرة أخرى…
كانت الدموع تنهمر في داخلي، والغصة تنفجر في حلقي..
ثم بدأ العرق البارد يتصبب من جبيني ومن جسدي كله..
ارتعدت، ولعنت نفسي ولعنتك…
لعنت تلك الساعة التي تعرفت فيها عليك وأحببتك..
والساعة التي ضعفت فيها أمامك، والساعة التي اشتقت فيها، وجئت إليك..
(كم مرة ألعن فيها تلك الساعات؟!)…
جاء نيسان؛ وموعد العيد يقترب..
تذكرت ذاك اليوم عندما جئت أزورك في العيد الماضي..
كان يحز في نفسي أني لا أستطيع أن أزورك، وأنك لن تتصل بي لتتمنى لي عيداً سعيداً..
أمسكت بالورقة والقلم لأعاود الكتابة..
الكتابة إليك أصبحت كالتفكير فيك.. إدمان!
كان يهمني في هذه الرسائل صدى وقعها عليك وأنت تقرأها بقدر ماكان يهمني أني أجد فيها متنفساً لما في صدري…
كتبت رسالتي على بطاقة معايدة:
"كل عام وأنت بخير..
ترى هل كنت ستغلق الخط في وجهي لو قلتها لك عبر الهاتف؟!
… … … وداعاً".
لكنني لم أستطع أن أقول لك حقاً وداعاً..
****

النهى 09-05-09 06:46 PM



بعد أيام اتصل بي بيتر ليطمأنني عن صحة ليلى… أخبرني أنها في تحسن مستمر، وأنها أصبحت تأكل لوحدها بعد أن كانت عاجزة عن ذلك من قبل.
قال لي:
ـ أتعلمين؟!!.. لقد حجزت لها مكاناً في ذلك المركز الطبي الخاص الذي شاهدته على التلفاز عندما كنت هنا..
ـ حقاً؟!
ـ أجل.. لقد اقترح علي الدكتور شميد ذلك؛ فأخبرته أني أعرف المركز، وأعرف اسم الطبيب المسؤول عنه، وأنك أنت من زوّدني باسم المركز وعنوانه.
ـ من حسن الحظ أني شاهدته على الشاشة وأخذت عنه فكرة تجعلني متفائلة من أجل ليلى.
ـ بإمكانك استئجار غرفة في بيت المشرفات بالقرب منه.. لقد حجزتها لك..
ـ هذا رائع.
كان بيتر في إحدى الأمسيات خارج البيت مع أخيه، وكان والداه مسافرين.
جلست وحدي؛ وقد نامت ليلى، أمام الشاشة أشاهد ما تعرضه قناة التلفاز المحلي الأولى.. كان برنامجاً وثائقياً عن مركز طبي كبير متخصص بأمراض الأطفال المعاقين…
كنا مانزال ننتظر نتائج التحاليل والفحوصات، ولكني أسرعت أحضر ورقة وقلماً لأدون اسم المركز وعنوانه، وعندما عاد بيتر إلى البيت ناولته الورقة وطلبت منه الاحتفاظ بها).
أخبرني بيتر أيضاً أن الطبيبة النفسانية المتواجدة في المركز لاحظت عصبيته المفرطة وقلقه الدائم؛ فطلبت منه أن يوافيها إلى العيادة للتحدث إليه.. جلست تحادثه لتكتشف أزمته وأسبابها.. أخبرها بيتر عن معاناته مع والديه.. هذه المعاناة التي بدأت منذ سن المراهقة، عندما كانت أفكاره وهوايته، واهتماماته بالسفر والجغرافيا والتاريخ والشرق تتعارض مع تربيتهما الصارمة وعقليهما المنغلقين وقلبيهما المتحجرين، واستفحلت أزمته بعد زواجنا؛ فقد كان عقوقاً أن يتزوج من غريبة عنهما في الدين والعرق والمنبت.. عقوقاً لم يستطيعا أبداً أن يغفراه له!
أخبر بيتر الطبيبة عن كل شيء.. أخبرها أيضاً عن علاقتنا معاً… علاقتنا الزوجية التي تأثرت أيضاً وتأذت من علاقته تلك مع والديه.
قالت له الطبيبة أن والديه هما نموذجاً مثالياً للوالدين المتسلطين الذين يحاولون فرض سلطتهم الأبوية على أولادهم، ويحاولون بذلك استبزازهم كلما سنحت الفرصة.. إنهم لا يدركون أبداً أن أولادهم قد كبروا وبلغوا سن الرشد منذ زمن بعيد.
وأردفت الطبيبة تقول لبيتر بصراحة أنه هو أيضاً نموذجاً مثالياً للابن الواقع تحت تأثير هذه السلطة الأبوية التي تشل حركته وتنغص عليه حياته، وتقتل فيه روح الإبداع والاستقلالية.
لم يكن ما أخبرني به بيتر بجديد علي.. كنت أعرف هذا التحليل النفسي منذ زمن.. منذ سني زواجنا الأولى. علاقته مع والديه أثرت على زواجنا وانعكست سلباً على علاقتنا العاطفية.
كنت أنا له البديل عن الأم منذ جمعنا سقف واحد..
كان يأتي إلي عندما يكون متعباً فيضع رأسه على ركبتي، ويرجوني أن أمسد له رأسه فأشعر نحوه بالحنان، ولا أرى فيه عندئذٍ إلا طفلاً صغيراً يبغي بعضاً من الراحة والطمأنينة في حضن أمه!!
أجل أمه.. أصبحت تلقائياً أمه ودون أن أدري!
أما هذا الشيء الذي يوجد عادة بين المرأة والرجل ويجمعهما معاً في لحظات حميمة؛ فلم يوجد بيننا أبداً!..
لم أدرك ذلك في الأيام الأولى..
اعتقدت أنه يتصرف معي بنبل لأنني مازلت عذراء ويخشى أن يؤلمني!!
ازداد تقديري لـه، وهنأت نفسي أني تزوجت "أجنبياً".. يراعي مشاعر فتاة عذراء، ولا يريد فض بكارتها ليثبت عذريتها ورجولته في أسرع وقت.. كأغلب الشرقيين!!
كم كنت واهمة!!
كنت بعد سبع سنوات من الزواج لا أزال نصف عذراء!..
ذهبت مرة وأنا حامل من أجل فحص روتيني..
نظرت إلي الطبيبة بتعجب وقالت:
ـ أتعلمين؟!.. إن غشاء البكارة لديك لم يفض بالكامل، ولذا سيتم ذلك أثناء الولادة!!..
ـ…
لم أشأ أن أريح الطبيبة من تساؤلها غير المباشر الذي لمحته في نظرتها، وأخبرها أني حامل بفضل مهارة الطبيب فقط، وحساباته الدقيقة ليجعلني حاملاً في مختبره وليس على فراش الزوجية رغم أني لا أشكو من العقم!!…
****
عندما تعرفت عليه في لندن منذ أكثر من عشرين سنة، تبادلنا العناوين ـ كما يفعل الشباب في هذا السن ـ واتفقنا على المراسلة.
واستمرت صداقتنا عبر الرسائل لسنة.. كنا نحكي فيها عن كل تفاصيل حياتنا اليومية ونتبادل الأفكار.. كان حواراً مستمراً عبر الكلمات، وقد أحببت ذلك.. أحببت أن أجد فيه صديقاً من عمري يحاورني وأحاوره. ثم دعاني بيتر لزيارة بلاده والتعرف على أهله، وسافرت إلى هناك في أواخر الربيع..
تعرّفت على والديه وأخويه، وأعجبتهم الهدايا الشرقية التي حملتها لهم.. قالوا له عني أني ذكية وجذّابة وحلوة المعشر وطلبوا مني أن أنزل ضيفة عليهم في منزلهم بدل الفندق الذي حجزت فيه لإقامتي.
كان بيتر مايزال طالباً في الجامعة؛ لكنه في الوقت نفسه كان، رغم غنى والديه، يعمل في قسم الأرشيف في مطبعة أكبر الصحف المحلية معتمداً على نفسه بدل أن يمد يده لوالديه من أجل المصروف.
أعجبني ذلك؛ فهو مثلي يدرس في الجامعة ويعمل.
كان مهذباً جداً وخجولاً (ربما متردداً)، وكان وجهه الملائكي يشعرني بالطمأنينة ويمنحني ثقة تجعلني أخرج معه في المساء وحدي.
كنت فرحة بصداقته البريئة، وأشعر معه أني عدت طفلة صغيرة شقية.
(هل كنت حقاً بحاجة لمن يشعرني بالطفولة ويعيدني إليها.. أم من يشعرني بأنوثتي ويوقظها فيّ؟!…).
وكان هو فرحاً بقدومي إليه من ذلك الشرق البعيد الذي طالما حلم به.
كان يأخذني لنتجول في شوارع مدينته ونتسكع في أزقة حيها القديم وأتعرف معه على معالمها..
أو نمضي يوماً كاملاً نصعد جبلاً مغطى بثلج أبدي لنكافئ أنفسنا بعد ذلك بتناول المثلجات اللذيذة في مطعم معلّق بين الأرض والسماء.. لم يحاول مرة أن يمسك يدي بعفوية، أو يهمس بأذني بضع كلمات رقيقة ونحن عائدين مساء بعد تجوالنا إلى منزل والديه..
لم يحاول أبداً أن يشدني إليه ليحضنني، أو يفاجأني بقبلة خاطفة ونحن نتنزه لوحدنا على ضفة البحيرة وقد غابت الشمس ونسيت بعضاً من ألوانها الساحرة لتصطبغ به السماء..
لم يكن هذا المنظر الرائع يغريه ليرتكب حماقة صغيرة ربما لم أكن لأمانع لو أنه ارتكبها!
وأنا؟.. ماذا عني؟!
هل كنت سأكتشف شيئاً جديداً في داخلي لو أنه فعلها؟!!
لو كان ثمة شيء في داخلي ليوقظه فعلاً تجاهه؛ لكان مجرد وجوده بقربي يكفي لذلك.
كان ومازال وسيماً… وسيماً جداً؛ لكن نظراته لم تكن تغريني… لم تكن تزيد من خفقان قلبي؛ أو تجعل ساقاي غير قادرتين على حملي.
كان عقلي، وأنا معه يفرض علي احترامه..
كان عقلي يقنعني أنه شاب مثالي.. شاب لا يرى في الفتاة الجالسة أمامه مجرد جسد يرضي غريزته؛ بل عقلاً يحاوره ونداً يحترمه.
كان هذا ما يشدني إليه؛ فلم أشغل ذهني بالتفكير بتلك الأمور الأخرى.. بالحب كمشاعر مجنونة تجتاحنا، ولقاء جسدي محموم يجمع بين رجل وامرأة..
كانت غريزتي الأنثوية، وأنا معه، تبقى كامنة، وكان هذا بمثابة ضوء أحمر صغير.
جهاز إنذار في داخلي، يحذرني ويدعوني لأن أختبر مشاعري تجاهه..
لكنني تجاهلته.. تجاهلت الإنذار، ولم أختبر أبداً حقيقة مشاعري تجاهه..
كان حرياً بنا أن نبقى مجرد أصدقاء ولا نجازف عندما جاءت تلك اللحظة الحاسمة التي كان علينا فيها أن نتخذ قرارنا المصيري..

****
قبل ليلة من سفري، جلسنا أنا وهو في حديقة المنزل نتسامر..
كان عقلي مشوشاً، وعواطفي غير مستقرة، ورغم ذلك خرجت كلمة "نعم" تلقائياً من فمي..
لم أشعر بحماس وفرح وأنا أنطقها؛ لكنني في الوقت نفسه لم أكن أرغب في أن أقول "لا"!!
لا أدري كيف اتفقنا أن نتزوج، ونحن لم نتعرف على بعضنا نظرياً إلا لسنة من المراسلة، وعملياً إلا لأسابيع!..
ربما أني لم أكن حقاً أعني ما أقوله، وأن الأمر لم يكن يتعدى كونه مجرد فقاعات كلام.
كلام لا يؤخذ على محمل الجد.. مجرد اقتراح لمشروع زواج..
لم نكن نملك من مقومات الزواج، مايكفي، فنحن في أوائل العشرينات ومازلنا طالبين في الجامعة..
صحيح أن كلاً منا يعمل، لكن هذا لا يكفي.
وماذا عن الحب؟
هل نحن نحب بعضنا حقاً… أم أننا مجرد أصدقاء؟!

من الغريب حقاً أننا لم نشغل نفسينا بالتساؤل؛ بل حسمنا الأمر بسرعة وقررنا أن نتزوج بعد ثلاثة أشهر.. أي في أواخر الصيف!..
وودعت بيتر على أمل اللقاء بعد ثلاثة أشهر، وعدت إلى سورية.
***
تعودت في البيت على الصدق، وعلى مكاشفة أمي بأسراري.. كانت تعرف قصة حبي الأول بتفاصيلها أيام الدراسة الثانوية، وتعرف كل ماكنت أتعرض له من أمور أو مضايقات في العمل، وكان أبي يعرف كل ذلك منها..
كان يحلو لي أن أجلس إلى أبي وأتناقش معه في كثير من الأمور، وقد نختلف أحياناً في أمر ما، ويفشل كلاً منا في إقناع الآخر؛ فيتحول نقاشنا إلى قطيعة تستمر يوماً أو يومين ثم نتصالح..
كان يبادر هو إلى مصالحتي فيطلب مني أن أعد شاياً نشربه… أو أبادر أنا إلى مصالحته؛ فأسأله إن كان يريد مني أن أعد شاياً نشربه.
في اليوم التالي لعودتي، دخلت على أبي وهو قابع بين أوراقه وكتبه وقلت له دون مقدمات:
ـ بابا… سأتزوج بعد ثلاثة أشهر!..
لم يتمالك أبي نفسه من الضحك بصوت مرتفع؛ ثم سألني وعلامات الدهشة مازالت مرتسمة على وجهه:
ـ ماذا؟!… ستتزوجين بعد ثلاثة أشهر.. ومن هو سعيد الحظ هذا؟! … لابد أنه صديق المراسلة الذي عدت تواً من زيارته… أليس كذلك؟
ـ نعم.. لقد اتفقنا على الزواج بعد ثلاثة أشهر.
ـ يبدو أنك حسمت الموضوع بنفسك…
ووافق أبي على زواجي دون معارضة، وبعد مداولة قصيرة مع أمي.. ربما لأنه لم يأخذ الأمر على مأخذ الجد، وظن مثلي أن الأمر ليس سوى فقاعات كلام.. وأن العريس لن يأت أبداً…
طوال الأشهر الثلاثة التالية كانت أفكاراً مضطربة متناقضة تضج في رأسي..
أشعر أحياناً أني على صواب، وأشعر أحياناً أني أقدمت على خطأ بتسرعي وقبولي بفكرة الزواج..
وعندما كانت هذه الأفكار تلح علي كنت أطمئن نفسي وأقول لها أنه لن يحضر، وأنه لابد أن يفكر بالأمر ويغيّر رأيه..
ورغم ذلك، ذهبت إلى الصائغ واشتريت لنفسي خاتماً ذهبياً وضعته في إصبعي باليد اليمنى!!
ثابرنا أنا وبيتر على كتابة الرسائل، ووصلني مرة منه طرداً كبيراً؛ فأسرع أبي إلى البريد ليجلبه… قال لي وأنا أهم بفتحه:
ـ لابد أنه فستان الزفاف.. أرسله خصيصاً من هناك..
عندما فتحت الرزمة وجدت فيها غزالة "بامبي" مصنوعة من القش… كنت قد رأيتها هناك في أحد المتاجر وأعجبتني…
كانت تلك هي هدية العرس من بيتر!..
نظر إلي أبي بشيء من الامتعاض وهو يقول:
ـ ظننته أرسل لك فستان الزفاف؛ لكنه أرسل بدلاً منه لعبة!
فقلت له ضاحكة:
ـ هذه الغزالة أجمل من فستان الزفاف.
أصبحت الغزالة فيما بعد من نصيب ليلى.. أما الفستان؛ فقد اشتريته بنفسي!!..
***
جاء شهر آب، ووصلتني برقية من بيتر يحدد فيها موعد قدومه..
هرعت إلى أبي ألوّح له بالبرقية:
ـ أرأيت؟… إنه قادم.
فوجئ أبي، وأدرك أن الأمر أصبح جدياً الآن.
بدأنا نستعد لاستقبال العريس القادم من الغرب ليطلب يدي رسمياً من أبي بعد خطوبة بالمراسلة.
استنفرت أسرتي في اليوم المحدد لقدومه، وانطلقت بي الحافلة إلى المطار وأنا أشعر أني أحلم حلماً غريباً وأنتظر أن يقرصني أحد ما حتى أصحو منه.
رأيته قادماً نحوي يبتسم.. بدا لي غريباً وقد حلق شاربيه..
صغير جداً.. مجرد فتى ناعم لا يمكن أن يتزوج بعد أيام!
لم أكن ممن يحبذن الرجل ذو الشاربين؛ لكن ذلك كان يناسبه هو بالذات ويغطي ملامحه الناعمة ويمنحه بعضاً من خشونة… بعضاً من رجولة في المظهر أراها ضرورية..
سألته عن شاربيه؛ فضحك وقال لي أنه سيتركه لينبت من جديد إن كان يعجبني.
كان يرتدي سترة صيفية وبنطال جينز أسود؛ ويحمل بيده حقيبة سامسونايت، ولاشيء سواها.
أمسكت بيده اليمنى أبحث عن شيء… ووجدته.. خاتماً فضياً اشتراه هناك.
رحب أفراد أسرتي الصغيرة بالضيف العريس؛ لكن أخي الصغير، الذي كان في العاشرة من عمره، لم يتمالك نفسه؛ فخرج بسرعة من الغرفة قبل أن ينفجر من الضحك وهو يسمع أبي لأول مرة يحاور أجنبياً باللغة الفرنسية، لم يأتِ بيتر بفستان زفاف لي، ولم يأتِ ببزّة زفاف له.. ورافقته إلى السوق لنشتري له بزّة وقميصاً وحذاء أيضاً!!
جاء الشيخ إلى المنزل، وقرأت الفاتحة وعقد القران، وفي اليوم التالي كانت حفلة الوداع..
تزوجنا دون أفراح عرس تقليدية، وبعد أسبوعين كانت الطائرة تتجه بنا إلى أوروبا الغربية.. إلى بلاده…
***
كان زواجي من بيتر مجرد هروب… هروب…
مات الحب الأول… حب الرعشات والحمى وضوء القمر وأريج الياسمين.
أحرقت لأنساه دفاتر الذكريات والأشعار، فقد جف حبر القلم بين أصابعي.
هجرت الرسم وأحلام الفن بعد أن يبست فرشاة الألوان في يدي وهربت.
هربت بعد أن مللت صناعة الكلام الأجوف في بلادي..
هربت علّي أجد حبي الضائع في بلاد الغربة بين الوجوه الغريبة… فلم أجده.
****

النهى 09-05-09 06:49 PM






والتقيته.. غربي؛ لكنه غريب عن عالم المادة والجنس والمخدرات.. غربي مأسور بروح الشرق الذي درسه وأحبه.
جذبني إليه بصدقه وجديته، ولم أجذبه إلي بجمالي (فأنا عادية بمقاييس الجمال)؛ ولكن بروحي الشرقية ونمط تفكيري وجرأتي التي أخافت غيره!..
جبنا أصقاع الدنيا في رحلات تطول أو تقصر، ووجد كلاً منا في الآخر رفيقاً، وكانت ليلى تشاركنا في كل مرة متعة الاستشكاف..
كبرت الابنة، وبدأت المخاوف تشغل تفكير بيتر قبل أن تشغل تفكيري عن مستقبلها في بلاد الغرب
كانت الفكرة فكرته، واستطاع إقناعي أخيراً بالرحيل صوب بلادي… صوب الشرق.
كانت أفكاره تتعارض مع أفكار والديه، فأدار ظهره لشركة العائلة وترك لأخويه مهمة إدارتها؛ فهو لا يريد فيللا فاخرة ولا سيارة فارهة يدفع ثمنهما حياة مملة يمضيها وراء مكتب الشركة يدير أعمالها لاهثاً حتى يصبح عجوزاً.
استقرينا هنا في منزل يربض على تل يطل على البحر، وقلبنا المنزل رأساً على عقب، وأضفينا عليه من روحينا طابعاً خاصاً به، وزّينا حديقته بالخضرة والزهر.
لم نأبه لكلام الناس وهم يرون صورة الحياة الزوجية تختلف عما ألفوه، ونمط للحياة يختلف عما عهدوه.. لكن الناس المحكومين بالمظاهر والعائشين والمائتين بها.. لم يكونوا سوى بداية المتاعب، إذ سرعان ما اكتشف بيتر أن زواجه لا يمنحه حق الاستقرار في هذا البلد الذي أحبه…
لا يحق لزوجي الاستقرار هنا، ولا يحق لابنتي أن تكتسب تلقائياً جنسية أمها… جنسيتي!
لقد اكتشفت أني هنا أصبح شيئاً ما إن تزوجت سورياً، ولا شيء إطلاقاً إن تزوجت أجنبياً!!…
ذهبت يوماً إلى صندوق توفير البريد لأفتح حساباً لابنتي، وطالما أنها قاصر، فلابد لها من ولي أمر.
كنت أعتقد أن كوني أمها التي أنجبتها، بعد أن حملتها في بطني تسعة أشهر، يمنحني هذا الحق "بديهياً"!..
لكنني كنت واهمة.. فقد سألني الموظف إن كنت أحمل توكيلاً من أبيها.
ـ توكيل؟!.. لماذا؟.. أنا أمها!!
ـ آسف سيدتي.. هذا لا يكفي، ولابد من توكيل من زوجك!..
خرجت أضحك من شر البلية الذي يضحك!
لايكفي أن أكون أمها… ياللسخرية..
كيف نحتفل بعيد الأم، ونجعله عطلة رسمية، ثم تزول قداسة الأمومة في المعاملات الرسمية، لأنها لا تكفي! … أين هي هذه "الجنة تحت أقدام الأمهات إذن؟!..
"النساء شقيقات الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم"… هكذا قال رسولنا الكريم.
واليوم…. بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة أحتاج إلى توكيل…
توكيل من الأب يمنحني هو فقط الحق في تولي أمر ابنتي!! فهل من إهانة أكبر من هذه؟!…
أرادت أم فادي مرة الحصول على بطاقة هوية لابنها المراهق؛ فطلب منها الموظف "ولي أمر"!..
هذه الأرملة.. الأم التي تعيل فلذات أكبادها لوحدها.. ليست بحال من الأحوال "ولية الأمر"..
علاقة الأم الحميمية بأولادها، وكل عواطفها وتضحياتها من أجلهم لا تجعل منها "ولية أمر"؛ فهي امرأة، والأمر إذن بيد العم البعيد، أو الجد… وقد كان متوفياً أيضاً!..
ثم كان لابد من ذلك الحدث السخيف المخيف عندما ذهبت إلى مخفر الشرطة للشهادة من أجل أمر روتيني جداً، وقد غاب عن بالي وبال الرجلين اللذين كانا برفقتي أمراً ذكّرنا به الشرطي:
ـ آسف… إني أرى امرأة واحدة، وليس امرأتين"!!…
قال لي ذلك، رغم أن المرأة في بلادنا محامية و… قاضية!!!
بيتر لم يكترث؛ فقد توقع شيئاً من هذا القبيل؛ ولم يفقد الأمل في التغيير..
أما أنا..؟!!
مازال قلبي لا يعرف السكينة، وما زالت روحي متمردة، وسواء في الغرب أم في الشرق، ثمة أموراً كثيرة تقلقني.
لقد هربت من الشرق إلى الغرب، ثم من الغرب إلى الشرق، ولم أجد ماكنت عنه أبحث..
***
لم أستطع أن أشغل بالي كثيراً بالتفكير بما قاله بيتر بعد أن سمع اعترافي، ونحن نحتسي الشاي في الصيف ذات مساء..
أجلّت ذلك لوقت آخر؛ فقد كان بالي مشغولاً بأمور أخرى أكثر إلحاحاً… لكنني وجدتُ نفسي أفكر تلقائياً بهذا الأمر وأنا هنا… في بلاده؛ وفي منزل والديه، أراه وأرى ابنتنا بعد غياب..
أفكر بالأمر في كانون الثاني، في زيارتي الأولى.
وأفكر بالأمر في نيسان، في زيارتي الثانية…
أفكر، وأستعرض بسرعة شريط حياتنا المشتركة طوال عشرين سنة..
أفكر تلقائياً به ولا أتهرب منه كما كنت أفعل.. أواجه نفسي به وأطرح على نفسي لأول مرة أسئلة في منتهى الخطورة…
أجل… في منتهى الخطورة…
مكثت مع بيتر أياماً في منزل والديه، ثم سافر هو إلى سورية، وانتقلت أنا إلى الغرفة المحجوزة لي في بيت المشرفات قرب المركز.
المركز الطبي التخصصي بناء ضخم مؤلف من ستة طوابق مبني على تل في أحضان الطبيعة الهادئة، ويستقبل الأطفال المراهقين الذين خلقوا بإعاقة جسدية أو عقلية أو كليهما معاً، أو أصبحوا معاقين فيما بعد جراء تعرضهم لحادث ما، أو إصابتهم بمرض عضال… كمرض ليلى…
الطابق الأول مخصص لمكاتب الاستقبال والإدارة والسكرتاريا وغير ذلك، والطابق الثاني للمدرسة والمسبح وغرف المعالجات المختلفة، والمطعم الذي يتم فيه إعداد الوجبات الخاصة لكل مرض حسب حالته الصحية، ويتناول فيه الزوار والعاملين في المركز طعامهم أيضاً..
الطابق السادس مخصص لمكاتب الأطباء وقاعة الاجتماعات والمعالجة النفسية.
أما الطابق الثالث والرابع والخامس؛ فمقسّم إلى غرف مؤثّثة بأثاث خشبي جميل لتبدو كغرف المنازل، وليست كغرف المشافي، وقد وضع فيها 54 سريراً.
في كل طابق من هذه الطوابق غرفة معيشة مشتركة فيها مكتبة وتلفاز وفيديو وموسيقى متنوعة وأدوات للرسم والأشغال اليدوية، ومطبخ مستقل تحفظ فيه الأطعمة التي ترد من المطبخ الرئيسي لتقدم ساخنة في موعدها، وتعد فيه مساء كل خميس وجبات يعدها بسرور وفرح أحد الأولاد المرضى بمساعدة المشرفات كل بدوره.
المرضى موزعون في الغرف فرادى ومثنى وثلاثاً حسب أعمارهم ونوعية إعاقتهم حرصاً على راحتهم ولخلق الانسجام بينهم في عيشهم المشترك وتعاملهم مع بعضهم البعض.
كانت كل حالات هؤلاء المرضى الصغار مشمولة بالضمان الصحي، وتكاليف بعض الحالات مغطاة من قبل الحكومة.. كحالة ابنتنا الخاصة جداً…
ليلى على الكرسي المتحرك…
لم تعد قادرة على المشي، ولم تعد قادرة على الكلام.
لقد أعدّوا لها لوحة بالأحرف الأبجدية لتشكل منها كلمات تخاطب الآخرين بها، ودفتراً لصور مختلفة تعبر بواسطتها عن رغباتها، وكانت أحياناً تثور وتحتج بصمت عندما تعيد محاولتها لتخبرني بشيء ما؛ وأفشل أنا، رغم ما أبذله من جهد، في فهم مقصدها.. كنت أشعر عندئذٍ بالعجز، وأنا أراها هكذا تتعذب في صمت وتعذبني.
ورغم أنها أصبحت مقعدة؛ إلا أنها تحسنت من الناحية الصحية والنفسية عما كانت عليه عندما رأيتها في المرة السابقة، لم يكن مرضها قدتم تشخيصه بعد..
لقد زاد وزنها، واكتسى وجهها الشاحب حمرة خفيفة في الوجنتين؛ إذ أنهم أعدوا لها في المركز برنامجاً يومياً يشمل علاجات مختلفة.
إنها فرحة بقدومي إليها تريد قضاء كل أوقات فراغها معي.. كانت تتصل بي هاتفياً فور استيقاظها تستعجلني للقدوم إليها؛ لكن المشرفة مارلين طلبت مني أن أخفف من أوقات لقائي معها حتى تتمكن من المشاركة ببعض النشاطات لاحقاً.!..
هززت رأسي متظاهرة بالموافقة، ثم خرجت للتنزه قليلاً في الغابة المشبعة بالرطوبة، بعد أمطار هطلت الليلة الفائتة.. إنه آخر يوم من نيسان.
كانت النسائم النقية الباردة تنعشني، ومنظر زهرات البنفسج النامية عند جذوع الأشجار يعيد إلي فرحاً طفولياً افتقدته منذ زمن.. البنفسج هو أول تباشير الربيع في بلادي، وكان منظره يفرحني كثيراً وأريجه يسكرني عندما كنت صغيرة.. كنت أخرج من المدرسة لأرى بائعه واقفاً في الزاوية فأسرع إليه لأشتري منه بقروشي باقة أحملها إلى البيت فرحة وأهديها لأمي.
بنفسج بلادي افتقدته هنا.. في سنوات الغربة.
افتقدت أريجه..
البنفسج هنا جميل؛ ولكن لا أريج له!!
زهرة البنفسج الجميلة هي المادة.. هي الجسد؛ أما أريجها فهو الروح..
هي القيمة التي افتقدناها هنا.
بنفسج الغابة ذكّرني بمارلين:
هراء… هذه الموضوعية التي تلجم عواطف الناس هنا.. وأنا ماجئت إلى هنا إلا من أجل ليلى.. من أجل أن أراها وأحتضنها وأحادثها وأعوض نوعاً ما أياماً طويلة من البعاد.
من الغريب أن تظن المشرفة أن قربي منها سيؤثر سلباً على نشاطاتها؛ فعندما تبدأ النشاطات التي حدثتني عنها؛ فإن ليلى ستنشغل تلقائياً بها عني؛ ولن تتشبث بي باكية؛ لأنها بطبعها اجتماعية ولا تعاني من عقدة الخجل أو الانعزالية، وأنا لم أحبسها في الغرفة وأمنع عنها الهواء والناس!…
لقد أضحت ليلى "دليلي السياحي" في المركز.. تتجول معي في أرجائه، وهي مفعمة بالحيوية، وتعرفني على كل من له علاقة به بدءاً من الطبيب المسؤول عنه، ومروراً بنزلائه من الأطفال المرضى، وذويهم، وانتهاءً بالبستاني.
لم أكن بحاجة لأن أخبر مارلين بوجهة نظري، بل تركتها ترى وتدرك صحتها بنفسها، وهذا ماكان.
لقد أدركت ذلك، ولمست بنفسها التحسن الجديد الذي طرأ على ليلى منذ قدومي إليها، وقلبت نظريتها السابقة مئة وثمانون درجة!
كل شيء هنا مرتب ونظيف، وموضوع في المكان الذي يجب أن يكون فيه.. لا شيء ناقص، ولا شيء زائد، كل شخص هنا مؤهل ويعرف تماماً ماهية العمل الذي ينبغي عليه القيام به.. لا أحد زائد ولاأحد ناقص…
لكن ثمة أمر ماليس على مايرام.. أمر ناقص!!
هذا مركز كامل.. كامل في مادياته؛ ولكنه ناقص في روحه.
ثمة برودة.. برودة عواطف.
برودة تكبح العواطف؛ فلا عفوية أو انفلات انفعالات..
وبرودة تحكم السلوك؛ فلا تلقائية أو ارتكاب هفوات!
عواطف باردة؛ لكنها مغلّفة بورق لامع من اللطف الزائد والمجاملة المفرطة التي كانت تثير أعصابي لا شعورياً كل مرة ألتقي فيها أحد أفراد طاقم العمل أو أطلب منه خدمة صغيرة!..
قصدت مكتب الدكتورة موللر في المركز..
ليلى مازالت تعاني من التشنجات التي لا تخف وطأتها إلا بتناول الدواء، والدواء يجعلها تشعر بالنعاس والتعب.. إنها ما زالت غير قادرة على الكلام؛ فالدواء مسؤول أيضاً عن ثقل لسانها؛ ومازال الأطباء في طور المعالجة التجريبية معها نظراً لندرة المرض، ولندرة إصابة الأطفال به..
ـ متى تنتهي تجاربكم هذه؟
سألت الطبيبة وقد نفذ صبري فطلبت مني التحلي بالمزيد من الصبر.. والانتظار.
الصبر والانتظار.. كم بت أكرههما!!..
*****

النهى 09-05-09 06:50 PM



عدت إلى غرفتي.. محبطة ناقمة وحزينة.
جلست قرب النافذة أحدق في الفراغ..
آه يا ابنتي….
هل بالإمكان أن تعودي يوماً كما كنتِ؟
أسمع صوتك وأنت على السطح تنادي صديقتك ابنة الجيران وتضحكين؟
تأتي لأبيك بطبق البيض المقلي، وأنت فخورة أنك أعددت له العشاء الذي يحب بنفسك؟!..
آه يا ابنتي.. هذا "العمو" الذي احتضنك مرة في عيادته، ومرة في بيته.. ليته يهتم
مددت يدي إلى درج منضدة المكتب أمامي..
أخرجت منه صورتك التي التقطّتها وسافرت معي مرة أخرى.
صورتك هي الشيء الوحيد الذي أمتلكه منك..
تأملتك وأنت تحتضن ليلى وتنظر إلي تلك النظرة الغامضة التي لا أدرك مغزاها..
تأملت صورتك طويلاً، ثم اجتاحتني رغبة بتمزيقها علّي بذلك أتحرر منك!..
فصلتك بالمقص عن ليلى، ومزقت صورتك..
مزقتها إرباً وفكرت أن أرميها في .. المرحاض!..
في المرحاض؟!.. حرام!..
أشعلت عود ثقاب وأحرقتها في المغسلة.. لم تحترق صورتك بسهولة.. لم تحترق إلا بعد أن أشعلت فيها عدة أعواد من الثقاب، وبعد أن أحرقت أصابعي معها!
لماذا لم تحترق صورتك بسهولة؟.. هل كان قلبي يطفئ النار خوفاً عليها دون أن أدري؟!!…
****
سرعان ما أصبح الجميع يعرفني، في الطابق الخامس من المركز، أدعوهم ويدعونني بالأسماء المجردة، دليلاً على رفع الكلفة بيننا، ففي هذا البلد المحافظ يحتاج المرء وقتاً طويلاً كي يلغي الحواجز ويرفع الكلفة، وأنا ضقت ذرعاً بمناداة هذه بالسيدة مركيزي، وذاك بالسيد كامينيش، بدلاً من أليدا وفيناند.. كنت دائماً أكره اللقب وأجد صعوبة في حفظ الكنية؛ أما الاسم الأول.. الاسم الشخصي، فكنت أحفظه بسرعة ولا أنساه.
اقترحت على كل واحد من طاقم العمل منذ البداية أن يناديني وأناديه هكذا؛ فنحن نرى بعضنا يومياً، ولا داعي أن نبقى رسميين وننادي بعضنا كل يوم بالألقاب السخيفة!!
كانت ردود الأفعال على اقتراحي إيجابية؛ ولكن التردد والدهشة من عفويتي في التعامل كانت بادية في العيون.. كان البعض بادئ الأمر ينسى، بحكم العادة، ويناديني باللقب والكنية، ثم يعتذر ضاحكاً.
أصبحت أنا والأطباء زملاء،وأنا والمشرفات، وأنا وعاملات النظافة، وأنا والأطفال المرضى، الذين يجب عليهم أن يكونوا مهذبين وينادوا الكبار باللقب والكنية!!
وخلق ذلك بيني وبينهم جواً من الألفة والمودة رغم أن العواطف بقيت مغلفة بذلك الورق اللامع!!
كان الطبيب المشرف على المركز هو الدكتور سوتر..رجل في العقد السادس من عمره، وقد غزا الشيب والصلع رأسه.
الابتسامة لا تفارق وجهه الأبيض المشرب بالحمرة، وعيناه الزرقاوان تشعان بهجة كعيون الأطفال.
لقد جعله تواضعه وبشاشته واهتمامه بكل صغيرة وكبيرة في المركز محبوباً من كل العاملين معه ومحبوباً من الأطفال المرضى وأهاليهم.
كثيراً ماكان يلقاني في الردهات؛ فيقبل نحوي محيياً ليحدثني في أي موضوع قد يخطر بباله.
وكثيراً ماكنت أراه في حديقة المركز وبيده آلة تصوير يسجل بها آخر الأعمال أو النشاطات.. أو منكباً على أوراق يدرس محتواها في مكتبه في ساعة متأخرة من المساء.
لقد أتعستني رؤية كل هذا الشقاء المختبئ وراء جدران المركز.. أتعستني رؤية كل هؤلاء المرضى، وخاصة أولئك الميؤوس من تحسن أحوالهم، وجعلني ذلك أشعر بفيض من الحنان تجاههم، وأحمد الله أنه كان رحيماً بليلى، وأن همي لا يعادل هموم ذويهم.
لم أستطع أن أكون أنانية لأفكر بنفسي فقط؛ فأسعدت الأطفال بلوحات جميلة رسمتها لهم في غرفهم، وعندما رأت المشرفات ذلك فرحن واقترحن علي أن أساعدهن في تزيين الردهات؛ فوافقت….
وبسرعة جلبن الأوراق الملونة وأدوات الرسم والمقص والصمغ، وغير ذلك، واقترحت إحداهن أن يكون موضوع الزينة هذه المرة البحر.. وجلست معهم أرسم وأقص وألصق أسماكاً وحيوانات بحرية مختلفة الأشكال والألوان، ثم وقفت ليلى… (أجل وقفت؛ فقد أصبحت قادرة على ترك كرسيها من حين لآخر)…
وقفت ليلى فرحة تملي علينا الأوامر لنعلق الأشكال في الأماكن التي تختارها.. نزين بها الردهات ونشيع فيها جواً من البهجة والفرح.
بعد أيام فاجأت المشرفات بلوحة جميلة.. باقة من الورود الحمراء رسمتها وذيّلتها مع التوقيع بكلمة "شكراً"، كتبتها تعبيراً مني عن تقديري لكل العاملين في المركز.. وعلّقت اللوحة في مكان بارز، وجاء الكل يشكرني عليها ويفرحني بثنائه.
***
كان يومي يبدأ مع ليلى وينتهي معها..
كنت أستيقظ باكراً؛ فأتناول فطوري بسرعة، ثم أصعد درج بيت المشرفات الصغير، وأعبر طرف الحديقة الذي يفصله عن المركز..
أذهب إلى ليلى، فأجدها جالسة مع المشرفة وباقي الأولاد عند المائدة في غرفة المعيشة في الطابق الخامس تنتظرني لأطعمها فطورها؛ ثم آخذها في نزهة وهي في كرسيها المتحرك، أو أحكي لها حكاية أقرأها من أحد الكتب الكثيرة الموجودة في المكتبة.
أطعمها طعام الغذاء وأساعدها في تنظيف أسنانها وخلع ملابسها والدخول إلى الحمام، ثم وضعها في السرير لتنام القيلولة… ثم أعود إليها لأمكث معها حتى المساء فأطعمها. و…. و…. هكذا دواليك…
كانت ليلى تصاب أحياناً بتشنجات أثناء جلوسها إلى المائدة لتناول الطعام، فتحتاج إلى الراحة والاستلقاء وتناول حبة من الدواء لتخفف من آلامها، ثم تعاود بعد ذلك تناول ماتبقى من الطعام بعد أن يكون الآخرون قد انتهوا منه وغادروا.
كانت المشرفات يرجونني أن آخذ قسطاً من الراحة أحياناً، وأن أذهب للترويح عن نفسي.. ولكن كيف أرفه عن نفسي؟‍
إن كل وسائل الترفيه، وما أكثرها هنا، ستفشل في الترويح عني…..
إني هنا من أجل ليلى ولست بحاجة للترفيه، وهي في أمس الحاجة إليَّ الآن، وفي كل وقت، لترتفع معنوياتها وتساعد نفسها على الشفاء.
كنت أرفع معنوياتها بالضحك؛ فأختلق من أجلها الكلام، والأفعال والمواقف المضحكة، وهي بطبعها مرحة لا تحتاج إلى الكثير حتى تنفجر ضاحكة.
عندما يحين موعد نوم ليلى كنت أضعها في سريرها وأساعدها لتمد يدها اليسرى المتشنجة على الوسادة وتضع رأسها عليها لتستريح، ثم أمد لها اليد اليمنى لتمسك بها الجرس الذي تنادي بواسطته المشرفة المناوبة ليلاً عند الضرورة.
أمسد لها رأسها وأمازحها وأحكي لها حكاية، ثم أقبلها وأتمنى لها ليلة سعيدة، ثم أعود إلى غرفتي.
أعود إلى غرفتي في كل مساء مرهقة وحزينة.. أدخن لفافة، وأبكي…
****
صورتك مزقتها وأحرقتها؛ فجاء طيفك يزورني في الحلم..
استيقظت من حلم كنت أنت وأختك فيه..
كانت تحدثني عن شجار لها معك، وكأنها تلتمس لك عذراً عندي، وهي تقول أنك تتشاجر مع من تحبهم فقط!..
استيقظت من الحلم في هذا النهار شبه الرمادي من شهر أيار، والشمس ماتزال تصارع السحب لترسل لنا من خلالها بعضاً من أشعتها.
وضعت شريط الكاسيت في جهاز التسجيل… كانت فيروز تغني: "عندي ثقة فيك"…
جلست قرب النافذة أدخن سيجارة "الحمراء" وأتأمل القرية المنبطسة أمامي على أطراف الغابة…
المطر ينهمر من جديد، وليلى مستقلية في سريري..
أستمع إلى الأغنية:
عندي ثقة فيك.. أما زال بإمكاني ذلك؟!… ماذا تفعل الآن ياترى؟
صورتك مزقتها وأحرقتها؛ فما بال فيروز أيضاً تذكرني بك من جديد؟!!
***
مطر.. مطر.. مطر..
مامن إمكانية للخروج والتمتع بأشعة الشمس والهواء الطلق؛ لكن زيارات الأصدقاء تبعد السأم عني، وتزيل كآبتي في الأيام المطيرة؛ وتدخل البهجة إلى قلب ليلى.
اليوم فوجئت بزيارة غير متوقعة.. كنت أجلس في غرفة المعيشة في الطابق الخامس ألعب الورق مع ليلى عندما دخل علي رجل إفريقي وامرأة هندية الملامح.. كان معهما ابن يافع وابنة أصغر من ليلى…..
ظننت في البداية أنهما يقصدان غيرنا؛ لكنهما تقدما نحونا يمدّان أيديهما بالتحية..
قالت المشرفة وهي تقدمهما لي: عائلة أميتامي حضرت لزيارتكما.
بادرني السيد أميتامي بالكلام، وهو يبتسم، ويناولني الهدايا الملفوفة بأوراق جميلة:
ـ هذه من أجل ليلى..
أظن أنك نسيتنا أنا وزوجتي..لقد زرناكما منذ زمن بعيد في بيتكم وكانت ليلى لا تزال رضيعاً، وهذا (وأشار إلى ابنه).. لقد كان شقياً وعبث بأشيائكما.
وفجأة تذكرتهما:
ـ يا إلهي!…
أنا آسفة حقاً إذ نسيتكما.. لقد كان ذلك منذ زمن بعيد أهلاً بكم.. أنا سعيدة جداً برؤياكم وشكراً على الهدايا.. كيف حالكم؟
السيد أميتامي رجل لطيف مهذب من غانا، وكيميائي حاصل على شهادته من هنا؛ لكنه وجد صعوبة بالغة في الحصول على عمل لائق في هذا البلد الذي حصل على شهادته منه، ولم يتوانَ زوجي عن مساعدته في الحصول على عمل جيد يتناسب مع دراسته وإمكاناته.. وجد له عملاً في إحدى شركات الصناعات الدوائية الكبرى..
ولم ينسَ السيد أميتامي ذلك، وزارنا مع زوجه في بيتنا ليعبرا لنا عن شكرهما؛ وبقي يتتبع أخبارنا بعد سفرنا إلى سورية..
قال لي السيد أميتامي:
ـ أنا لن أنسى أبداً فضل زوجك علي.. لقد حصلت بمساعدته على عمل محترم دائم.. إنه إنسان نبيل.
لقد علمت من صديقتنا انجي أن ليلى مريضة؛ وأنها هنا في المركز.. لقد صدمت في الواقع عندما أخبرتني عن معاناتكم وأحببت أنا وزوجتي أن نزوركم ونطمئن عليها.. نحن آسفون جداً من أجلها..
ـ أجل.. نحن نشارككم مشاعركم؛ فأنتم لا تستحقون إلا الخير.
أردفت زوجته السيرلانكية، وهي ترمق ليلى باسمة.
.. أما ليلى؛ فكانت ترمق الزوار الأربع بتوجس وحذر..
قلت لها:
ـ أنت يا ليلى لا تذكرين بالطبع هذه الأسرة الطيبة؛ فقد كنت لا تزالين طفلة صغيرة ترضع عندما أتوا لزيارتنا؛ وكان هذا الشاب طفلاً صغيراً؛ وأخته الصبية الصغيرة لم تخلق بعد…
وضحكت السيدة أميتامي، وأردفت:
ـ لقد كان شقياً، وشعرنا بالحرج منكما لتصرفاته أثناء تلك الزيارة..
أسعدتني تلك الزيارة؛ فالدنيا ما زالت بخير طالما مازال يوجد فيها أمثال هؤلاء الناس الطيبين، والمعروف لا يضيع ولو رميته بالبحر.. كما يقول المثل.
***
اليوم الأحد…
الإيطالية آناريتا حضرت مع زوجها أنطونيو وابنهما سيمون لزيارة الابنة المريضة ايرين….
لقد جلبوا معهم طعاماً للغداء أعدته آناريتا في مطبخ الطابق الخامس ودعتني لتناول الطعام..
جلسنا نتناول المعكرونة ونتحدث في أمورنا وهمومنا المشتركة..
فتح أنطونيو زجاجة النبيذ الفرنسي؛ فقلت له مازحة:
ـ أنت إيطالي تأكل طعاماً إيطالياً؛ فأين نبيذ "كيانتي"؟!
ضحك أنطونيو:
-أنا إيطالي أحب الطعام الإيطالي؛ ولكني أحبذ النبيذ الفرنسي.. أحب النبيذ الفرنسي؛ ولكني أحبذ نمط الحياة هنا.
-يالك من رجل عالمي!
لقد تعرفت على عائلة بيزانيللو هنا في المركز.. رأيتهما أول مرة في غرفة ليلى التي كانت ايرين تشاركها فيها.
ايرين تبلغ الخامسة عشر من العمر وهي مصابة أيضاً بمرض نادر يجعل جهاز المناعة في جسمها يعمل ضده ويعيق نموها، ولذا لا تتجاوز في الحجم حجم طفلة في الخامسة من العمر!
المرض يعيق نموها الجسدي فقط ولا يؤثر على قواها العقلية؛ ولذا فقد تمكنت ايرين من الحياة بصورة طبيعية نوعاً ما، والذهاب إلى المدرسة كباقي أقرانها.
واظبت على الذهاب إلى المدرسة حتى جاء اليوم المشؤوم الذي قرر فيه والديها بناء على نصيحة الأطباء معالجة التشوه في عمودها الفقري..
كان الطبيب يؤكد لهما أن لا خوف من نتائج العملية، وكانت مخاوف الوالدين تتعلق برئتيها الضعيفتين اللتين قد لا تتحملان المتاعب أثناء العمل الجراحي، ولم يخطر ببالهما قط أن النتيجة ستكون أسوأ من ذلك بكثير..
لقد صمدت الرئتان؛ ولكن العملية الجراحية فشلت.
كان على الطبيب أن يثقب الفقرات ويصلها ببعضها ويثبتها ببراغي معدنية؛ لكن الثقب اخترق النخاع الشوكي، وأصاب الأعصاب بعطب، وأصيبت ايرين بالشلل..
أصاب الشلل النصف الأسفل من جسمها، وأصبح لزاماً عليها أن تبقى طوال الوقت مستلقية على ظهرها على فراش هوائي..
أعطاهما الطبيب بعض الأمل في أن الشلل قد يكون مجرد أمر طارئ، وقد يزول بعد أشهر ثلاثة.. ربما!
أخبرتني آناريتا بذلك كله ونحن جالستين بمفردنا في عصر أحد الأيام نحتسي القهوة في غرفة المعيشة، وأخبرتها بدوري عن ليلى ومرض ليلى..
أصبحنا نجلس سوية كلما التقينا، وأصبحت أحاديثنا أطول.. وكان أنطونيو في البداية يخرج إلى الحديقة ليدخن، ثم يجلس متروياً صامتاً تاركاً المجال كله لزوجته تتكلم بسرعة وبصوت مرتفع على الطريقة الإيطالية.. على الطريقة المتوسطية!!
لكن أنطونيو مالبث أن أصبح ينضم إلينا ليشاركنا الحديث.. لقد جعلنا طبق المعكرونة أصدقاء!
خرجت مرة إلى الحديقة لأستمتع بأشعة الشمس وأدخن سيجارة..
كنت أمشي على مهل عندما سمعت صوتاً يناديني.. كان أنطونيو:
-مرحباً كارمن.. هل خرجت أيضاً لتدخين سيجارة؟
-أجل، وللاستمتاع بالشمس.. ياله من يوم جميل.
-تفضلي إذن بالجلوس.
وجلست بجانبه على المقعد الخشبي، ثم مددت له يدي بسيجارة "الحمراء":
-أتريد أن تجرب سيجارة سورية؟
-ولم لا؟.. شكراً لك.
سحب أنطونيو نفساً منها، وأردف:
-إنها جيدة..
تحدثنا في أمور شتى..
في الدين والسياسة.. عن الشرق والغرب، والبحر المتوسط، وعن ابنتينا..
قطع الحديث صوت آناريتا:
-آ.. أنتما هنا!
-وأين ظننت أننا يمكن أن نكون؟!
أجابها أنطونيو، فضحكت آناريتا وأردفت:
-في الحقيقة، لا مانع عندي أينما تكونان؛ ولكن ايرين تسأل عنك.
-هذه مجرد حجة واهية..
أجاب أنطونيو مازحاً هو الآخر، وأردت أن أجاريهما في المزاح كي لا يبدو لهما استغرابي من تلميحاتهما التي لا مبرر لها.
-اطمئني يا آناريتا.. فالظرف والمكان غير مناسبين أبداً.
-لا مانع عندي حقاً!
لم أجد جواباً أفضل من الصمت كي لا يطول حديث لا طائل منه، وعدنا نحن الثلاثة أدراجنا..
****
أصبحت ايرين في الغرفة لمفردها، وانتقلت ليلى إلى غرفة أخرى بمفردها؛ فقد تم تخريج بعض المرضى الصغار، وعادوا للعيش في كنف والديهم..
قرعت مادلين على باب غرفة ليلى تستأذن بالدخول، وأنا أهم بالانصراف عائدة إلى غرفتي بعد أن حل المساء:
-كارمن.. هل تمانعين أن ترسمي لنا شيئاً لطيفاً على الباب الزجاجي الثاني؟
-بكل سرور.
-شكراً جزيلاً. سأعد لك إذن الأدوات والألوان.
التفت إلى ليلى أسألها:
-ماذا تريدينني أن أرسم يا ليلى؟
فأجابتني بعفوية:
-ارسمي لنا بيتنا في سورية.
-لقد حان وقت النوم الآن.. أتمنى لك ليلة سعيدة.. وستفاجئين صباحاً، أنت وأصدقائك بلوحة جميلة.
عندما انتهيت من الرسم كانت المناوبة المسائية للمشرفات قد انتهت، وما من مناوبة ليلية في يوم العطلة في الطابق الخامس؛ فلا حالات طارئة فيه، وأجراس الأولاد موصولة بجهاز مراقبة مركزي، وستأتي إحداهن من أحد الطوابق السفلى من حين لآخر للمراقبة والتأكد من سير الأمور على ما يرام.
الجميع نيام، ماعدا الفتى البرتغالي هوجو ابن الخامسة عشر..
كان يجلس على كرسيه المتحرك بجانبي يتأمل الرسم من وراء نظارته السميكة ويؤنسني بحديثه.. كان يكلمني بلغة ركيكة لم يتقنها بعد، ويحدثني عن طفولته، وعن والديه، وعن معاناته مع المرض.
عندما انتهيت من الرسم وقفت أتأمله..
لا ينقصه شيء من التفاصيل؛ فالببغاء "مانجو" رسمته واقفاً في مكانه المفضل على مظلة السطح، وليلى تقف تحت المظلة تلوّح فرحة بيدها.. حتى القط الأبيض "ميتسو" أعدته للحياة ورسمته جالساً على الافريز بجانب ليلى..
شجرة السرو واليوسفي والموز، والدالية تتسلق الجدار حتى السطح، وشجيرة "المجنونة" تتدلى فروعها خارج السور..
ستفرح ليلى حتماً، وتشير بإصبعها إلى الرسم وتقول للجميع هذا هو بيتنا الجميل.. وهاهي شمس الشرق الساطعة تغمره بأشعتها.
-ليلة سعيدة ياهوجو.
-ليلة سعيدة.. هل ستذهبين إلى النوم؟
-طبعاً؛ فأنا متعبة.. إلى اللقاء غداً.
-إلى اللقاء.
****
في الليل زارني طيفك في الحلم..
حلمت أني أنا وليلى في غرفة نومك، وأنك متزوج ولك أولاد.. لكنك زوج سيء وأب مهمل!
ثم حلمت أني أجلس فجأة مع زوجك وأولادك نتابع بالتلفاز فيلماً وثائقياً عن حياتك!!
زوجتك؟!
كيف كانت؟..
كيف كانت ملامحها؟.. هل رأيتها في الحلم بملامح مطابقة؟!
وأولادك؟!.. إنهم لم يولدوا أبداً.
لقد تزوجت لسنوات، ولم ترزق أولاداً؛ لأن زوجتك لم تكن ترغب بالأولاد.. كانت مهووسة بعملها، ولم تكن تعرف كيف تكون زوجة.. فكيف تصبح أماً؟!
وأنت؟!.. هل كنت زوجاً مثالياً؟.. ألم تزرع أنت أيضاً الفوضى في عشكما الزوجي؟!!
كيف كانت علاقتكما الزوجية تلك؟!
أمور تخصك وحدك وليس من حقي سؤالك عنها إن لم تشأ أن تفتح لي قلبك، كما فتحت أنا لك قلبي، وتخبرني عن أمورك كما أخبرتك عن أموري.
أمورك التي سمعت عنها من الآخرين بمحض الصدفة، والناس في بلادنا يحبون الثرثرة.. يحبون الثرثرة كثيراً.
****
انصرم شهر أيار بسرعة واقترب موعد السفر..
موعد العودة إلى سورية..
لقد أوقفوا إعطاء ليلى أحد الأدوية بعد أن تبين أن له مضاعفات تؤثر على تركيب الدم عندها، وينتظرون الحصول على بديل. أثار هذا الأمر الطارئ عصبيتي، وجعلني أفقد صبري؛ فقد طال الانتظار، ومازالوا حتى الآن في طور التجريب مع ابنتي؛ لكنني عدت لأتماسك من جديد وأعزي نفسي أن حالة ليلى النفسية على الأقل قد تحسنت كثيراً منذ قدومي لدرجة أدهشت الجميع.
فلأحمد الله إذن..
في الليلة الأخيرة لتواجدي في المركز طلبت أن أبيت الليلة مع ليلى في غرفتها؛ فجلبوا لي فراشاً وضعوه في غرفتها. جلست في الغرفة أحادثها؛ فبكت فجأة وأنا أحتضنها.. كان بكاءها مرتفعاً؛ فلم أتمالك نفسي وبكيت معها، ثم مسحت دموعي ودموعها ورجوتها ألا تبكي.. رجوتها أن تبقى متفائلة، وتؤمن بشفائها كي يشفيها الله.
خرجت ليلى برفقة المشرفة ميشيل تودعني عند باب المركز.. كنت أتصنع الابتسام بصعوبة، وكان قلبي يبكي. بقيت أقاوم رغبتي بالبكاء، وأنا أسير مبتعدة والتفت إلى الخلف لألوّح لها مرة أخرى حتى توارت عن أنظاري، وعندئذ انسابت من عيني الدموع.
بقيت أبكي بصمت طوال المسافة التي تجاوزت الساعة، والقطار ينطلق بي إلى حيث تقيم صديقتي أجنس التي سأقضي عندها الليلة الأخيرة قبل سفري.
أعرف أجنس منذ ثلاث عشرة سنة، وكانت أيضاً جارتي مثل فيرونيكا..
جاءت لتسكن في البناية الجديدة رقم 6 التي انتقلنا للعيش في إحدى شققها قبل أشهر من قدومها هي وزوجها؛ فدعوتها بعفوية لتناول القهوة.
فرحت كثيراً أني دعوتها بسرعة لنتعارف ولبّت الدعوة شاكرة..
دخلت إلى المطبخ، وأنا أعد القهوة. كانت حاملاً في الشهر الأخير، وبدأت تفتح لي قلبها وتخبرني عن خوفها من الولادة، وأنا أطمئنها أن الأمور ستسير على مايرام.
وتوطدت صداقتنا، خاصة بعد أن اكتشفنا هوايات مشتركة بيننا، ثم انتقلت مع زوجها وابنتها للعيش في منطقة أخرى؛ فحافظنا على الود وتبادل الزيارات.. وعندما وضعت توأمها جعلت مني عرّابة أحدهما.
جلست مع أجنس في الحديقة، وقد أرخى الليل سدوله، وبدأت تحدثني عن متاعبها مع زوجها ألبرت.
-أتعلمين يا كارمن؟.. أن المرأة بعد الأربعين تبدأ بمراجعة حساباتها وتواجه عواطفها بجرأة أكثر، وتضع علاقتها مع شريك حياتها على المحك.. لست وحدي من يعيش هذه المرحلة؛ فكثيرات ممن أعرفهن يشعرن نفس الشعور ويعانين من نفس المتاعب.
(لقد قالت لي فيرونيكا قبل أسبوع نفس الكلام!!).
نظرت أجنس إلي بدهشة غير مصدّقة ما أقوله:
-وأنا كذلك يا أجنس!
-ماذا؟!.. لقد ظننت أنك وبيتر في وئام.
-أجل.. أجل، نحن في وئام، لكننا نعاني من مشكلة… مشكلة مختلفة عن مشكلتكما أنت وألبرت.
-لم أفهم.
-إن مشكلتنا معكوستين تماماً؛ فأنت وألبرت لا تعانيان مما نعاني منه؛ ولكنكما تعانيان مما لا نعاني نحن منه!.. وشرعت أخبرها وهي تنصت بصمت واهتمام، ثم قلت لها:
لقد انقطع الحوار فيما بينكما؛ فعجزتما عن التفاهم، وأصبح من السهل عليكما أن تفترقا ويذهب كلاً منكما في طريقه.
أما نحن؛ فقد تعوّدنا دائماً على الصراحة، رغم كل شيء؛ فبقي الحوار بيننا متصلاً، والتفاهم قائماً؛ ولذا يصعب علينا أن نفترق كما ستفترقا!
-لكن عليك أن تتحلى بالشجاعة وتتخذي قرارك.
-أنا لست جبانة يا أجنس.. أنا أنتظر كلمة واحدة فقط لأتخذ قراري.. القرار ليس في يدي، وأنا لن أجازف إن لم أكن متأكدة من النتائج!
****

ودعتني أجنس في المحطة، وانطلق بي القطار إلى المطار..
كانت طائرة "أليتاليا" متأخرة كالعادة؛ فتم تحويلي إلى السويسرية المتجهة إلى ميلانو؛ لكنها تأخرت هي الأخرى!
بدأت الطائرة تتحرك أخيراً على المدرج، وبدأت الخواطر تتحرك في رأسي.. استرجعت في بالي عبارة سوسن:
-من يدري يا كارمن؟!.. حفلة الزفاف ستكون فرصتك.. هيا.. كوني متفائلة!
قبل أن أسافر إلى ليلى ذهبت إلى الخياطة ومعي قطعة القماش التي جلبتها من الهند.. مددت لها ورقة عليها تصميم الفستان الذي أريد:
-أرجو أن تخيطي لي هذا الفستان بسرعة.. إني مدعوة لحفل زفاف بعد أسبوع.
كذبت عليها؛ فبعد أسبوع سأسافر؛ لكنني أردتها أن تخيط الفستان قبل سفري ليكون جاهزاً عند عودتي إن فاجأني اقتراب موعد زفاف سناء فلا يتيح لي ضيق الوقت فرصة تحويل هذا القماش الجميل إلى فستان رائع ألبسه بهذه المناسبة..
ألبسه خصيصاً من أجلك!
اشتريت الاكسسوارات المناسبة، والحذاء المناسب والحقيبة المناسبة، وحملت كل هذا مع الفستان إلى بيت سوسن، وارتديته أمامها لأتأكد أني أبدو فيه أنيقة:
-أجل.. أجل. تبدين في منتهى الأناقة.. والرشاقة.
-طبعاً.. القالب غالب!
-يا ملعونة.
-آه يا سوسن.. ليت أحلامي تتحقق!
-من يدري يا كارمن؟!.. حفلة الزفاف ستكون فرصتك.. هيا.. كوني متفائلة!

-آمل ذلك، رغم أني لا أتوقع شيئاً البتة.
وضحكنا طويلاً.. ضحكنا وحلمنا بأشياء لم تتحقق أبداً.
**********

النهى 11-05-09 12:22 PM




الصيف الثاني:
ثلاثية الحزن والقلق والوحدة







هبطت الطائرة أخيراً في مطار دمشق، وقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحاً.
كان بيتر في انتظاري.. أخبرته عن آخر تطورات حالة ليلى الصحية والنفسية، وعن دوائها الذي أوقفوه لأن له مضاعفات سلبية، وعن بطئهم في البحث عن بديل لدرجة أفقدتني صوابي…
إنهم مميّزون من حيث الرعاية والتأهيل؛ لكن خبرتهم بهذا المرض بالذات قليلة لندرة الإصابات بها في بلادهم، خاصة في هذا السن المبكر.
وأخبرت بيتر عن سوزانا وأوليفييه..
سوزانا.. الطبيبة الإسبانية من برشلونة التي تعرفت عليها منذ سنوات، وتصر دائماً على أنها قشتالية وليست إسبانية..
بفضلها عرفت أن تلك الكلمة التي نتداولها كثيراً، كلمة قشتالية الأصل، وليست كلمة عربية عندما سمعتها تقولها لأختها: "طاولة"!
أما زوجها اوليفييه؛ فمهندس طيران تجري في عروقه بعض من دماء عربية جزائرية!.
أمضينا أوقاتاً طويلة وراء شاشة الانترنيت نبحث عن مواقع يمكننا النفاذ إليها للبحث عن دواء بديل، وحان وقت سفري ولم يحالفنا الحظ..
أخبرت بيتر عن أجنس وألبرت؛ فسألني مباشرة إن كنت قد أخبرتها عنا، وقبل أن أجيبه أردف إن لا مانع لديه أن كنت فعلت.
أخبرني بيتر عما فعله أثناء غيابي، وأخبرني عنك!
أخبرني أنه رآك في مطعم "طل القمر"..
كانت سناء وخطيبها وأصدقاء لهما هناك، وزوج أختك مع أناس آخرين؛ فنهض زوج أختك وجاء يسلّم عليه. ثم جئت أنت مع امرأة حمراء الشعر، ولمحته من زاويتك..
كنت تتأمله، وكان يلحظ ذلك بطرف عينه؛ فاستدار إليك ليحييك؛ لكنك سرعان ما أشحت بوجهك عنه!! (أنت معذور طبعاً.. قال لي أنه يعذرك، وأنا عذرتك؛ فعذرك عندي أكبر من عذرك عنده!!
..لكن تلك المرأة التي كانت بصحبتك.. تلك المرأة ذات الشعر الأحمر القصير.. من تراها تكون؟!.. هل هي صديقتك الجديدة"؟.)
سألت بيتر:
-.. هل كانت جميلة؟
-من؟
-تلك المرأة التي كانت برفقته.
-لم أنتبه إليها.. ربما كانت جميلة.. هل تشعرين بالغيرة؟!
(يسألني، وكأني لست زوجته.. زوجته التي تستفسر منه عن رجل تحبه، وهو يعلم!!).
-نعم، أغار.. أغار، والأسوأ من ذلك أني، لا أقول لـه؛ بل لك أنت!!.. ألا يبعث هذا كله على الجنون؟!!
حملق بي في ذهول، وقد ارتفع صوتي:
-.. وأنا مجنونة.. أنا امرأة مجنونة!!
الغيرة هي نوع من الأنانية.
والحب.. أليس أيضاً نوعاً من الأنانية؟
إنه يبدو كذلك للوهلة الأولى..
نحن نحب لأننا نريد أن نمتلك.
ونغار لأننا نخاف أن نفقد ما نظن أننا نمتلكه.
لكننا في الحقيقة لا نمتلك أحداً.. لا نمتلك مشاعرنا.
الحب لا يمنحنا أبداً القدرة على الامتلاك؛ بل يسلبنا إياها ويجعلنا نحن ومشاعرنا ملكاً لغيرنا..
لكنه يمنحنا بالمقابل سعادة لا تساويها كنوز الأرض، ويعيد خلقنا من جديد.
والغيرة؟
الحب والغيرة.. كالوردة وعبيرها.
لا يمكن الفصل بينهما، ومن يحب يغار.. يا بيتر.. يا صديقي.
لا تقل لي بعد اليوم أنك تحبني.
لا تذكّرني بأفلاطون..
أنا لا أحب أفلاطون، وأكره حبه!
دعتنا ريما لزيارتها أنا وبيتر. إنها هنا في منزل والديها بالقرية تستمتع بإجازة لمدة يومين.
تناولنا المرطبات مع والديها، ثم ذهبنا إلى المطعم.. إلى مطعم "طل القمر"..
المطعم الذي رآك بيتر ورأيته فيه..
كانت نظراتي تتجه إلى تلك الزاوية حيث كنت تجلس.. أتخيلك جالس هناك، وأتمنى لو تأتي وأراك!
في اليوم التالي، كنت منهمكة في العمل في الحديقة عندما رن الهاتف.. كانت ريما على الطرف الآخر تدعوني لمرافقتها إلى الشاليه لنتمتع بيوم على شاطئ البحر:
-آه يا ريما.. لا أستطيع.. سيكون بيتر لوحده طوال اليوم.
-وما الضير في ذلك؟.. سيشبع منك غداً عندما أعود إلى دمشق.. أرجوك تعالي معنا.
-حسناً.. سأخبره وآتي إن لم يكن ذلك يزعجه.. سأعاود الاتصال بك بعد دقائق.
لم تكن لدي رغبة حقيقة بالذهاب إلى البحر، ولا الرغبة بحديث ليس سوى ثرثرة.. كنت أفضل البقاء معه لو أنه طلب مني ذلك؛ لكنه لم يمانع، ولم يزعجه غيابي، بل شجعني قائلاً:
-اذهبي واستمتعي بالبحر، ولا تشغلي بالك بالنسبة لي؛ فأنا لا يضيرني البقاء وحدي اليوم.
جلست مع ريما على الشاطئ الرملي ندخن سيجارة ونتحدث..
أخبرتني أنك مسافر إلى واشنطن، ولن تعود قبل الرابع من الشهر.. شهر تموز..
لقد سافرت أنت في نفس اليوم الذي عدت أنا فيه.. ستغيب أسبوعين آخرين إذن.
(مسافر أنت وبعيد، ولقد سافرت أنا وبعدت؛ لكنك بقيت مني قريب جداً.. أنا مشتاقة إليك رغم كل شيء أيها المغرور..
ألم يخطر ببالك أن تسأل ولو مرة ريما عني؟!
هي تخبرك عمداً أني سافرت؛ فتتساءل مستغرباً: هل حدث شيء؟!
هل كان سؤالك العفوي دليلاً على أن أمري يهمك فعلاً؟..
أظننت لوهلة أني عنيت ما قلته لك ذاك اليوم في العيادة، وأني عدت من حيث أتيت، وإلى غير رجعة، فتحرك في داخلك شيء أود من كل قلبي أن يتحرك؟!).
سألت ريما:
-هل ترك خالك لكم عنوانه في واشنطن؟
-لا.. لماذا؟
-أود أن أرسل له فاكساً إلى هناك.. لقد أوقفوا إعطاء ليلى أحد الأدوية؛ لأن له تأثيرات جانبية، والدواء مستورد خصيصاً من أجلها من الولايات المتحدة.. من البلد التي يتواجد فيها خالك الآن.
إنهم يبحثون لها عن دواء بديل، وقد فكرت أنه ربما كان باستطاعة خالك مساعدتي.. ربما يستطيع مساعدتي بطريقة ما، خاصة أنه هناك، ومرضها نوعاً ما من اختصاصه أيضاً.
-إنه بالطبع لن يبخل عليك بالمساعدة إن طلبت منه ذلك.
في طريق العودة سألني زوج أختك بلا مقدمات إن كان لبيتر صديقة؛ فهذا أمر طبيعي في أوروبا!!
استغربت؛ بل استهجنت سؤاله.. ليس لأني أعرف أنه أمر طبيعي في أوروبا، (وطبيعي هنا؛ لكننا نتكتم عليه.. وهذا هو الفرق بيننا وبينهم!).
وليس لأني أعرف أن لا صديقة لبيتر هناك؛ ولكن لأني أعجب من الرجل.. يراه أمراً طبيعياً؛ كونه رجلاً أن يكون له صديقة.. ولأن زوج أختك أولاً وأخيراً يتجرأ أن يسألني عن أمر شخصي كهذا!
فقلت له:
ليست الخيانة أن يكون للرجل صديقة.. إن الخيانة هي الكذب!.. أن يكذب الرجل على شريكة حياته ويشاركها فراشها وهو يوهمها أنه يحبها بينما تكون لـه صديقة، وربما صديقات في الخفاء… نحن أحياناً لا نستطيع التحكم بعواطفنا التي قد تكون أكبر منا، والإنسان قادر أكثر على المسامحة بوجود الصراحة والصدق، وعاجز عنها أكثر بوجود الكذب.. أنا أعلم علم اليقين أن ليس لبيتر صديقة، وإن حدث ذلك، فسأكون بالتأكيد أول من يعلم!
وعاد يسألني.. يسألني هذه المرة إن كان لي صديق!
وأحببت أن يكون جوابي هذه المرة صاعقاً، وعلى مبدأ المساواة بن المرأة والرجل؛ فقلت له:
-كان من الممكن أن يكون لي صديق، ولكنه لم يكن!!
****
حلمت أحلاماً غريبة متتالية:
حلمت أني أرتدي الثوب الذي خيّطته لعرس سحر (أمل يتحقق)، وأنك تأتي لتزورني في بيتي وبيدك مسدس تضعه جانباً وتجلس قبالتي تحدثني (علي ألا أثير غضبك)، وأنني أقف أمام لوحة إعلانية (مفاجآت جديدة)…
اتصلت بي سناء لتخبرني أنها ستتزوج في اليوم الأول من شهر تموز، وستكون مجرد حفلة بسيطة.. شعرت بالخيبة؛ فأنت لن تكون موجوداً فيها..
ليت سناء تؤجل الموعد؛ فأنا لم أخيط الفستان إلا لكي تراني أنت فيه.. أردت أن أبدو جميلة (ربما) في عينيك. ذهبت بعد أيام إلى سناء أزورها، وما إن توارت في المطبخ لتعد القهوة، حتى اقتربت أمها مني تهمس لي مخافة أن تسمعها سناء:
-آه يا ابنتي.. لقد ارتحت أخيراً.. ارتحت أن سناء خطبت، وأنها ستتزوج قريباً.
لقد عذبتني كثيراً.. بسببه!
-بسبب من؟!
-بسبب الدكتور "…"، أرجوك لا تقولي لها أني أخبرتك.. سوف يغضبها ذلك!
-….!!
-لقد كان يحبها وينوي خطبتها؛ لكن أهله جن جنونهم عندما عرفوا، وخاصة أخته وابنتها.. لقد شعروا بالغيرة من سناء.. إنه كريم لا يبخل عليهم بالمال والهدايا؛ ولذلك لا يريدونه أن يتزوج!
-..!!!
كانت زيارتي لسناء قصيرة..
كنت مضطربة فغادرت بسرعة أحث الخطى على درب القرية.. أفكر بسناء وأخاطبها في سري:
لا داعي للكلام يا سناء..
لقد أدركت بحدسي القاسم المشترك بيننا نحن الاثنتين، ولذا أحبك الآن أكثر!
أخيراً عرفت اللغز.. ذاك اللغز الذي طالما عرفت بوجوده.
ذاك اللغز الذي يربطك وسناء.
جاءت أمها لتكشفه لي دون أن أسألها عنه.
(عرفت لمن تشكي همك يا أم جميل!).
أنت إذن قاسمنا المشترك!!!
لم تكن سناء تذكرك أمامي إلا بالخير.
أما أنت؛ فقد أزعجك جداً أن أتعرف عليها.. كنت حذراً جداً؛ فلم تجب على تساؤلاتي، وتركتني فقط أستغرب من ردة فعلك، ثم اتخذت من معرفتي بسناء حجة كي تبتعد عني.
(هل كنت حقاً تحبها، وتنوي خطبتها؟!..
هل كان حبكما عاصفاً كالرعد والبرق وانهمار المطر؟!!
أم أنها وحدها كانت تحبك؟.. هل كانت تحبك بتعقل؛ أم بجنون يشبه جنوني؟!).
****
فكرت، وقد عجزت عن الحصول على عنوان إقامتك في واشنطن، أن أرسل لك فاكساً إلى العيادة في دمشق؛ فعساك تستطيع مساعدتي عن طريق الانترنيت.
فكرت أن طيبة قلبك هي أكبر من غضبك، وأنك ستتناسى ماحدث بيننا، وتتذكر أنك أولاً وأخيراً طبيب؛ فلا تتوانى عن المساعدة.. مساعدة إنسانية أطلبها منك؛ ولذا أرسلت لك الفاكس.
لقد سافر بيتر بعد ثلاثة أسابيع من عودتي، واتصل بي في نفس اليوم ليطمئنني عن وصوله بالسلامة، وعن صحة ابنتنا.. أخبرني أنهم لم يجدوا لها الدواء البديل بعد، وأخبرته أني أرسلت لك فاكساً؛ فاستحسن الأمر. في اليوم التالي وجدت نفسي أفكر فيك، ولم يبق على عودتك سوى أربعة أيام.. وجدت يدي تمتد رغم ذلك تلقائياً إلى سماعة الهاتف لأطلب رقمك في دمشق.. إنه الحدس!
فوجئت بصوت ذاك الذي يعمل عندك يرفع السماعة:
-آلو؟!
-مساء الخير.. هل عاد الدكتور من السفر؟
-أجل؛ ولكنه لم يصل إلى العيادة بعد!
خفق قلبي بشدة، وعجبت كيف عرف هذا الخافق اللعين أنك عدت قبل الموعد المحدد؟!!
مرت أيام على عودتك، ولم تصدر منك أية بادرة إيجابية.. إنك تتجاهلني كالعادة.
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساء:
ستسافر بعد قليل برفقة ريما إلى اللاذقية، ولابد أن أتصل بها غداً لأستفسر منها عن ردة فعلك بعدما قرأت الفاكس..
في الصباح التالي اتصلت بالعيادة في اللاذقية؛ فقد اشتقت لسماع صوتك.. وعندما تناهى إلى مسمعي أغلقت الخط بسرعة وأنا أفكر:
"يا إلهي.. يبدو أنه لوحده في العيادة.. ليتني أستطيع أن أراه.. عليّ أولاً أن أنتظر حتى تستيقظ ريما التي لا تشبع نوماً"!!
اتصلت بريما بعد الحادية عشر، وجاءني صوتها كالعادة كسولاً يغالبه النعاس:
-آلو؟!.. آه.. أهلاً كارمن.. كيف حالك؟
-بخير.. وأنت؟.. هل أيقظتك؟!
-لا بأس..
-هل سألت خالك عن الفاكس؟!
-لقد قرأه!
-وماذا بعد؟
-حزن كثيراً من أجل ليلى.
-هل يمكنني أن أراه؟!
-لا أعرف!!
-كيف لا تعرفين؟!.. ألم تلاحظي كيف كانت ردة فعله على الفاكس؟!
-يا كارمن.. اتصلي مساء؛ فأخبرك عندما أصحو!!!
يالها من بليدة.. لم آخذ منها لاحق ولا باطل..
ألهمني يارب الصبر حتى المساء!
في المساء.. كانت ريما قد شبعت نوماً:
-أجل.. لقد حزن من أجل ليلى.. قلت له: "يا خالو.. أنا حزنت من أجلها عندما رأيت صورها التي التقطتها لها كارمن في المركز".
-هل تظنين أن بإمكاني أن أزوره وأستشيره؟
-نعم.. لكن اتصلي به أولاً كي لا يتفاجأ بحضورك.. أرجوك كوني صبورة معه!
-حسناً.. سأفعل.. إلى اللقاء.
ذهبت صباح اليوم التالي إلى المدينة؛ فزرت سوسن، ثم اتصلت بالعيادة لأتأكد من وصولك.. كان نديم على الطرف الآخر:
-لا.. لم يحضر بعد.
-سأتصل بعد نصف ساعة إذن.
ولم تحضر بعد نصف ساعة، ولا بعد ساعة.. ونفذ صبري كالعادة، وهذا أحد عيوبي.
ذهبت إلى العيادة أنتظرك هناك، والعيادة مكتظة كالعادة.
ناولت نديم بطاقة مني يعطيها لك كي لا تتفاجأ بدخولي إليك، ومضى الوقت ولم تحضر.
طلب مني نديم الدخول إلى المكتب وانتظارك هناك.. نسيت أمر البطاقة التي أعطيتها له ودخلت، وكان ذلك خطأ شنيعاً.
في المكتب جلس زوجان ينتظرانك..
بادر نديم إلى تعريفهما بي؛ فابتسما لي، وعرفني الرجل بنفسه وبزوجته، وأردف:
-… لقد كنت أستاذ الدكتور عندما كان طالباً في الجامعة.. لقد زرنا بلد زوجك كثيراً، ولنا فيه أصدقاء.. وشرع يحدثني هو وزوجته عن تلك الأماكن التي أعرفها.
وفجأة دلفت من الباب..
وقعت عيناك عليّ، وعرفت من نظراتهما أنك تفاجأت جداً بوجودي، وغاص قلبي بين ضلوعي..
مددت يدك تصافح الأستاذ وزوجته وتقبّلهما على الوجنات، ثم مددت يدك لي:
-أهلاً "سيدة كارمن".
(سيدة كارمن؟!.. هذه أول مرة تناديني بها هكذا!.. تريد أن تشعرني أن علاقتنا أصبحت رسمية جداً).
-أهلاً دكتور، والحمد لله على السلامة.
وجلست ثانية، وبقيت أنت، واقفاً تتحدث إلى الأستاذ وزوجته اللذين كانا يستشيرانك في أمر ما..
كانت هذه فرصتي لأتأملك، وأشبع شوقي بالنظر إليك فقط: "كم اشتقت إليك أيها المجنون.. اشتقت إليك". (كنت متوتراً، والانزعاج واضح على وجهك.. هل كان سببه وجودي في مكتبك؛ أم سبب آخر.. أم الاثنين معاً؟!).
خرج الأستاذ وزوجته..
كنت على وشك أن أفرح بذلك؛ لكن سرعان من دخل بدلاً منهما رجلان جعلا الفرحة تموت قبل أن تولد.
خرجت لهنيهة بعد أن صافحتهما، ثم ناديتني:
-سيدة كارمن؟!
(ما أثقل هذه العبارة، وهي تخرج من بين شفتيك!).
كنت متوتراً جداً وعابساً جداً، وأنت واقف وأنا واقفة في غرفة الفحص الصغيرة الفاصلة بين مكتبك وغرفة الانتظار:
-ألم تخبرك ريما؟
-…
تجاهلت سؤالك الذي أدركت منه أنك لا ترغب برؤيتي..
(يا لحماقة ابنة أختك هذه.. إنها لم تخبرني شيئاً؛ بل شجعتني على المجيء إليك).
-هل تنوين إجراء عملية لليلى؟
-ربما أن هذا هو الحل؛ ولكن متى يمكن إجراء عملية كهذه بالنسبة لها؟
-في الحقيقة.. طالما أن العطب قد وصل إلى الجهاز العصبي؛ فإن الأمل في الشفاء أصبح مستحيلاً!.. فحتى لو تمت عملية الزرع بنجاح؛ فإن هناك مضاعفات ستظهر بعد فترة، والنتيجة ستكون واحدة!
-ماذا؟!.. ماذا تقول؟!!.. لا أمل؟!!!
-لا أمل..
جمدت في مكاني.. صعقني كلامك.. أخرستني من جديد.
وتكرر المشهد..
ها أنت تقف مرة أخرى أمامي جامداً كالصخر؛ لكنك بدل أن تكرر: صفر، صفر.. تفوهت هذه المرة بما هو أخطر:
لا أمل.. لا أمل.
هممت بالانصراف؛ ولكن فاجأتني في اللحظة الأخيرة.. كالعادة:
-اتصلي بي بعد الظهر.
-أين؟.. في منزلك، أو عند أمك؟
وزعق الهاتف في مكتبك؛ فدخلت قبل أن أسمع جوابك.
البطاقة على مكتبك..
لم تجد كتابتها نفعاً؛ لأنك لم تقرأها في الوقت المناسب..
ياله من لقاء!..
همت في الطريق لا أرى شيئاً.. في عيني غشاوة وكلامك مازال يتردد في أذني.
جئت إليك آمل أن تمنحني دقائق تحدثني فيها بهدوء.. تحترم فيها مشاعري كأم، إن لم تحترم من قبل مشاعري كامرأة.
جئت إليك؛ لأن صحة ليلى تتحسن، وتبعث الأمل في قلبي من جديد.. جئت إليك لتعزز الآمال وليس لتحطمها.
جئت إليك؛ لأني أحبك، وأثق بك رغم ماحصل. فأنا لا يمكنني أن أكرهك، إن لم يكن بإمكاني الحصول عليك!!
أردتك أنت أيها "الجراح" أن تجري العملية الجراحية، إن كان لابد من عملية؛ فكان لقاءنا بهذا الشكل المريع..
لم أكن أعلم أن اختصاصك بالجراحة يصل حتى المشاعر!
يالك من همجي قاسي!!
وعدت إلى نفسي ألومها.. أنا ألومها دائماً؛ وكأني أبحث لك في كل مرة دون وعي عن مبرر لتصرفاتك معي:
يالي من حمقاء متسرعة.. لو أني انتظرت حتى يقرأ البطاقة، ودخلت عندما يدعوني للدخول.. لقد أزعجه حتماً وجودي داخل المكتب بعد تلك المكالمة الهاتفية والقطيعة.. لابد أن تصرفي كان وقحاً؛ ولكني كنت متوترة يا إلهي، وكيف كان علي أن أبرر لنديم رفضي للدخول والانتظار في المكتب عندما دعاني؟!
اتصلت بك في منزل أمك في الرابعة؛ فأخبرتني أنك نائم.. بقيت نائماً حتى السادسة.. كنت ما أزال شديدة التوتر عندما أتاني صوتك، ولم أعرف كيف خرجت الكلمات من فمي:
- مساء الخير.. هل من شيء تضيفه لما قلته لي ظهر البارحة ؟
لابد أن توتري جعل نبرتي فظة، وأردت إغاظتي بإجابتك:
- لا.. لا شيء!!
-لا شيء؟!.. مع احترامي لرأيك.. كيف توصلت إلى تحليلك السريع وحكمت مسبقاً على ابنتي بالموت، وأنت لم تسألني عن وضعها الصحي، ولم تعرف بتاتاً كيف أصبحت؟!!
- بيب.. بيب!
- انقطع الخط؛ فعاودت الاتصال:
- آسفة… لقد انقطع الخط.
- أنا مستعجل.. علي الذهاب إلى اللاذقية إلى بيت صهري!
- كيف توهمت أن بإمكاني طلب المساعدة منك؟.. لا أمل يرجى منك.. إني أنا من يتمنى لك التوفيق حقاً!!
أغلقت الخط، وجمدت في مكاني.. أحسست بالعرق البارد يتصبب من جسمي كله، وأصابتني القشعريرة، ثم انفجرت باكية.
اتصلت بي ريما، وأنا ما أزال أبكي:
- كارمن.. ما الأمر؟!
- خالك. استقبلني أسوأ استقبال، وأخبرني أن ليلى مائتة لا محالة!
- يا إلهي.. لقد بالغت، وأخبرته أن ليلى بأسوأ حال كي يشفق عليها ويساعدك؛ لكن النتيجة كانت عكسية تماماً!
- أيتها الحمقاء.. ألم تخبريه إذن أن ليلى تتحسن؟!!
على أي حال؛ فهو لا يراعي مشاعر أحد، وسواء أكانت تتحسن أم على وشك الموت –كما ظن هو- فما كان عليه أبداً أن يستقبلني بهذه الطريقة الفظة، وقد جئت خصيصاً إليه أطلب منه العون.
لم أتمالك نفسي؛ فعاودت البكاء.
اضطربت ريما وسألتني بحذر:
-بالله عليك يا كارمن.. هل حصل بينكما أمراً ما لا أعرفه؟!
أدركت بسرعة أن علي أن أنتبه لانفعالاتي:
-طبعاً لا.. لقد خاب أملي فيه فقط؛ لأني أحترمه، وكنت أعتبره صديقاً عزيزاً.
شعرت بالدوار بعد المكالمة مع ريما؛ فاستلقيت على الأريكة..
بقيت ساعات مستلقية أغفو وأصحو.. أتذكر كلامك فينقبض صدري وأشعر أني مريضة.
بقيت في اليوم التالي متعبة جداً.. وفي المساء اتصلت ريما:
-لقد عاتبت خالي، وقلت له أن ليلى تتحسن، وأنه ما كان يجدر به أن يقول لك ما قاله؛ فأجابني أنه لم يقصد أن يجرحك، وأنه هكذا.. لا يعرف المجاملة!
-هكذا إذن.. لا يعرف المجاملة!!
-أرجوك.. لا تغضبي كثيراً منه؛ فجدي مريض جداً وحالته لا تطمئن، وقد تأخر خالي عن العيادة لهذا السبب، وعندما دخلها كانت مزدحمة، وكنت هناك.. كانت الضغوطات كثيرة.. وكل منكما كان مسدوداً بقشة!
-لم أكن أعلم أن جدك متعب للغاية.. لماذا لم يخبرني؟.. لو أنه فعل لعذرته حتماً وأجّلت الحديث إليه لوقت آخر؛ لكنه بدلاً عن ذلك، زاد الطين بلّة.. كنت متوترة، وكان متوتراً؛ فتكهرب الجو بيننا!
-قال لي أنه يستغرب أن تأتي إليه، وهو ليس بالطبيب الذي يمكن مقارنته بالأطباء "الفطاحل" هناك.
-…
(كم أنت متواضع!.. فكرت، ولم أجب).
-… وأنه لم يشأ أن "يحرق لك قلبك" ويبكيك.
-أخبرته إذن أني بكيت؟!
-أجل.. قال لي أنه حزن من أجلك عندما لاحظ وقع كلامه عليك؛ فطلب منك أن تتصلي به في المنزل؛ لكنك تفوهت بكلام غريب لا يدري ماهو؛ فأغلق الخط!
(أنت إذن من أغلق الخط، وقد ظننت أنا أن العطل من الهاتف!.. أتغلق الخط لأني تفوهت حقاً بكلام غريب تعذّر عليك فهمه؟!!).
قلت لريما في محاولة مني لتغيير الموضوع:
-حسناً.. أخبريني ياريما.. كيف حالك، وكيف حال خطيبك؟
****



النهى 11-05-09 12:26 PM



الرسائل تشفي غليلي منك.. وسيلتي الوحيدة لمخاطبتك.
جلست أفكر قبل أن أكتب:
ملعونة أنا وملعونة هذه الرسائل؛ ولكن ماذا عساي أن أفعل سوى ذلك؟
أكتب إليك وأنا أعرف مسبقاً أنك تسخر من رسائلي ولا تجيب عليها أبداً..
فلماذا أكتب إليك؟!
أكتب إليك، لأني أكره أن تعاملني هكذا.
أكره أن تتجاهلني، وأنت من أغويتني فأحببتك.
أكره أن تتهرب مني، وأنا لا أطالبك بمنحي عواطفاً لا تملكها.
أكتب إليك؛ لأني أكره نفسي من أجلك!
أكره نفسي لأنها ضعيفة لا تستطيع أن تكرهك!!!
فهل عرفت الآن لماذا أكتب إليك؟!
كتبت إليك عن حالة ليلى بالتفصيل.. عن قلقي ومخاوفي.. عاتبتك برقة، وتمنيت لو أنك تفهم هذا كله، واتصلت بك بعد أيام:
-هل وصلتك الرسالة؟
-نعم.. وصلت ولم أقرأها!
-هذا يعني أنه لا يمكننا أن نتحدث.
-لا!!
-باي باي إذاً!
-أهلاً.. مع السلامة!!!
(طبعاً قرأتها، ولو من باب الفضول.. فكرت ملياً، ثم عاودت الاتصال:
-آلو؟!
-لقد قرأتها.. أيها الجبان!
-آلو؟!!
(تظاهرت أنك لا تسمعني).
-لقد قرأتها، وأنا أعرف!
وأغلقت الخط..
****
ذهبت في اليوم التالي إلى المدينة.. طلبت من السائق أن يتوقف قرب مبنى البريد، وما إن ترجلت من السيارة حتى لمحت ورقة نعي ملصقة على مدخل المبنى.. لقد توفي الجد!
توفي الجد؛ فتزوجت سناء بلا ضجة وبلا حفل زفاف، وبقي فستاني معلقاً في الخزانة.. لم ألبسه، ولم ترني أنت فيه!
ومرت الأيام سريعاً، وذهبت يوماً أزور أختك في القرية..
فرحت أختك كثيراً بأخبار ليلى؛ فهي تمشي، ولم تعد بحاجة إلى كرسيها المتحرك.. إنها تتكلم، وأصبحت قادرة على الرسم من جديد..
قال لي بيتر:
-لن تصدقي يا كارمن.. إنها معجزة.. لقد مشيت مع ليلى كيلومتراً كاملاً اليوم.. لقد طلبت مني ورقة فظننت أنها تريد أن تكتب؛ لكنها رسمت حصاناً كما كانت ترسم من قبل.. سأعطيها السماعة لتحديثها وتسمعيها بأذنك!
جلست مع أختك في الشرفة، وقد قاربت الساعة السادسة مساء.. كانت النسائم اللطيفة تداعب أشجار الحديقة وتحمل عبق الأزهار.
أعطيت أختك نقوداً لتوزعها على الفقراء شكراً لله من أجل ليلى، وأخبرتها أن ليلى ستأتي الأسبوع القادم مع والدها لتقضي هنا إجازة أسبوعين.
قالت لي أختك:
-توقّعنا قدومك ظهراً؛ فقد دعوت أخي لتناول طعام الغداء معنا، وطبخت أرز بالبازلاء و…
وشردت أفكر:
"يا للحظ العاثر.. ليتني جئت ظهراً ورأيته"..
نسيت من جديد موقفك السلبي؛ لأن شوقي إليك أقوى دائماً من جفائك.
دخلت أختك المطبخ لتحضر القهوة، ووقفت أنظر عبر حديقتها إلى حديقتك المهملة وبيتك، وأفكر:
"حظي دائماً عاثر معك، والظروف تعاكسني.. ليتك تحضر الآن وأراك".
لم أجرؤ على إطالة النظر.. خفت أن ينتبه أحد أني أمعن النظر إلى وجهة واحدة هي وجهتك؛ فقد انضم زوج أختك إلى مجلسنا وتبعته ريما بعد أن استيقظت من قيلولتها.
ولم يمض بعض الوقت حتى دخل نديم بسرعة ليخبرهم أن الخال العزيز قادم بعد دقائق ومعه ضيوف!!
خفق قلبي بشدة: "هل استجبت يا ربي بسرعة لرغبتي؟!".
ونظرت إلى وجه ريما، الذي كان منتفخاً من آثار النوم؛ فرأيت علائم كالرعب ترتسم عليه!
-مابك!
-سيحضر خالي وأنت هنا، ولا أدري كيف ستكون ردة فعله إن رآك!!
-يامجنونة.. أنا في بيتكم ولست في بيته.. هل علي إذن أن أنصرف حتى لا يرى وجهي؟!
-لا أدري!!
-إنك حقاً مجنونة.. سأدخل إلى الغرفة؛ فليس من اللائق أن يأتي والضيوف وأنا جالسة هنا وحدي بعد أن دخل والداك لتبديل ملابسهما.. لكن من المؤكد أني سأبقى هنا.
ما إن دخلت الغرفة حتى سمعت صوتك الحبيب يأتيني من الشرفة.
لمحتك من طرف الباب وأنت تجلس وتبتسم، ومالبثت ريما أن دخلت وقد هدأ روعها.
خرجت، ولم أستطع أن أخفي ابتسامة عريضة ارتسمت تلقائياً على شفتي.
كنت تبتسم لي وأنا أمد لك يدي مصافحة:
-مرحباً يا دكتور.
-أهلاً وسهلاً.
مددت يدي أصافح المرأة وزوجها وجلست..
جلست إلى جانبك الأيسر، وجلست ريما إلى جانبي تتأملنا بدهشة وصمت.
نظرت إلي وأنت مازلت تبتسم وتسألني عن حالي وحال ليلى، وأنا أجيبك محاولة إخفاء اضطرابي وراء ابتسامتي، وقد ارتفع وجيب قلبي حتى خيّل لي أنك تسمعه!!
كانت عيناي تنظران إليك غير مصدقة ماتسمعه أذناني.. وابتسامتك..
ابتسامتك الساحرة.. كم أحبها!
أنا أنسى الدنيا عندما تبتسم لي!!
نسيت الدنيا، ولم أعد أرى فيها غيرك؛ لكنك أعدتني إليها وأنت تبادر وتعرّف الضيفين عليّ!..
تحدثهما عني، وعن عائلتي مبتسماً، وأنا بقربك فرحة.. فرحة جداً.
قلت لك:
-حماتك تحبك!.. فقد أحضرت لك كاتو.
فضحكت، ولم تجب.. وفجأة استأذنت بالذهاب؛ لأن ثمة ضيوفاً آخرين ينتظروك في منزلك.
قطعت قالب الكاتو نصفين تركت نصفه في بيت أختك، وأرسلت إليك النصف الآخر مع أحدهم..
كان الكاتو كله لسوسن وصديقاتها، وكنت سأنام الليلة عندها ونذهب غداً في نزهة إلى صلنفة. ولكن حضورك جعلني أستغني عن الكاتو، وعن النزهة من أجلك!
(أنا آسفة ياسوسن؛ فالكاتو لن يكون من نصيبك هذه المرة؛ ولكنك صديقتي التي تفهمني وتعذرني).
****
قلت لريما أنك لا تفهمني البتة؛ فمرة أصالحك ومرة أخاصمك، وأني مجنونة!
وجاءت إلي تخبرني بما قلت.
وشعرت بالخزي..
كيف تتكلم عني هكذا أمام ريما التي تصغرني بعشر سنوات، ولا تعرف ربع ما أعرف؟
بدأت تشكو مني.. تثرثر عني لريما، ولم تكن تفعل ذلك من قبل.. هذا خطير.
هل ستخبرها في المرة القادمة بتفاصيل زيارتك لي؟!!
هل أنت حقاً لا تفهمني؟.. ولماذا لا تفهمني، وأنا واضحة وصريحة وصادقة معك و.. معه؟!
ألأنك لم تتعود على الوضوح والصراحة والصدق؟!!
لم تتعود –أيها الشرقي- على امرأة مثلي تعتبر الكذب أكبر الخطايا، وسبب كل الخطايا، وتجرؤ أن تفتح لك صفحاتها لتقرأها كلها دون حرج.. لأنها أحبتك!
عندما رأيتك في منزل أختك نسيت غضبي كله وظننت أنك فهمتني أخيراً، وأن لطفك معي لم يكن مجرد مجاملة لي أمام الناس.
اشتهيت لك الكاتو، ربما لتدرك ولو للمرة المئة أني لا أحقد عليك.. فلماذا تفضحني أمام أهلك؟!
ربما أنا مجنونة.. معك حق؛ ولكني لم أكن كذلك قبل أن أعرفك أيها العاقل جداً!!
كيف تفسر إذن تصرفاتك معي؟!
طبعاً أنت رجل، ولتصرفاتك في مجتمعنا تفسير آخر غير الجنون؛ لكنه يبقى جنوناً وإن اختلف عن جنوني!
آسفة أني لم أفهم قصدك عندما قلت لي: "تعالي نجن معاً؛ فنحن لا نؤذي أحداً"!..
تمنيت لو نجن معاً؛ لكن جنونك لم يوافق جنوني!
وتمنيت لو نبقى مجرد أصدقاء؛ فأفرح برؤيتك من حين لآخر.
وتمنيت لو تقدر على الأقل مشاعري، إن لم يكن بإمكانك أن تبادلني إياها؛ فقلت للآخرين عني أني مجنونة.
****

اتصل بي بيتر قبل أسبوع من الموعد المرتقب لقدوم ليلى إلى سورية من أجل إجازة قصيرة، ليخبرني أنها لن تأتي..
لقد أصيبت بالتهاب طارئ بالدماغ يحتاج إلى صور وفحوصات وتحاليل!
أخبرني أنها بخير؛ لكن كلامها أصبح غير مفهوم كثيراً بسبب الدواء الذي ينبغي عليها تناوله.
تهدج صوتي وأنا أكلمه وطفرت الدموع من عيني..
لقد فرحت كثيراً وانتظرت طويلاً قدوم ليلى؛ فقد طال غيابها عن المنزل.
وما عساها تفعل الآن، وقد علمت أنها لن تسافر؟!
كنت قلقة من أجلها، وخائفة أن يؤثر عدم تمكنها من السفر على نفسيتها، ولكن بيتر طمأنني أنها بخير.
وكنت قد اتفقت مع سوسن أن تذهب وأفراد أسرتها كلهم إلى دمشق لاستقبال ليلى في المطار، وشرعت أعد في ذهني كل الترتيبات..
كنت سأسبقهم بيوم؛ لأني مدعوة للعشاء في السفارة ثم يوافونني في اليوم التالي.
قلت لبيتر، وأنا أتأمل بحزن الكلب القماشي الصغير الذي اشتريته من أجل ليلى، وكنت سأحمله إليها لاستقبلها به في المطار:
-لن أذهب إذن الأسبوع القادم إلى دمشق.
-بل اذهبي أرجوك.. يجب أن تلبي الدعوة هذه المرة.. هذا مهم؛ فقد انقطعنا مدة عن الذهاب، كما أني أتمنى أن تذهبي لتروّحي عن نفسك قليلاً.
-حسناً.. سأذهب.
****
توزع المدعوون في أرجاء الحديقة في مقر السفير يحملون كؤوس الشراب ويتناولون المقبلات ويتبادلون الأحاديث..
وجئت وحدي.. مرة أخرى.
السفير وقرينته عند الباب كالعادة يرحبون بالضيوف ويتبادلون معهم المجاملات.
معظم الوجوه مألوفة لدي.. أتأملهم يتضاحكون.
السكرتيرة سامية تقبل علي باسمة وتقبلني:
-مرحباً يا كارمن.. كيف حالك؟.. وكيف حال المسيو بيتر؟..
كيف حال ليلى؟.. طمأنيني عنها.
وجاء الباقون يلقون علي التحية ويسألونني نفس الأسئلة..
كانت سيسيليا الغانّية الأصل تعبث بالقلادة الذهبية السميكة في عنقها البني، وهي تتذكر مع زوجها الأبيض اللون الأزرق العينيين، وتذكّر الأصدقاء الذين كانوا معها، وتخبر الذين لم يكونوا.. بذاك اليوم الذي تجمّعوا فيه بعفوية ودون موعد مسبق وجاؤوا يزوروننا في بيتنا في القرية الجبلية باللاذقية.
قالت سيسيليا وهي تضحك؛ فتبدو أسنانها اللؤلؤية:
-لقد كان يوماً رائعاً في بيت كارمن وبيتر الجميل .. لقد… و…
وشردت أتذكر معها ذاك اليوم..
لم يجدوا صعوبة في العثور على البيت؛ فللبيت علامة فارقة، ونحن معروفون في القرية، وأناسها الفضوليون لا يستثنوننا من ثرثراتهم في الأمسيات!
وقفت السيارات في الزقاق تثير بلوحاتها المميّزة فضول الجيران، وترجّل منها الضيوف المزدوجي الجنسية.. كان اجتماعاً مصغراً للأمم المتحدة في بيتنا.. جنسيات تونسية وسويسرية وألمانية ولبنانية وفرنسية وغانيّة وسورية!
وكنا نتحدث كيفما اتفق: بالعربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية.
كنا ننوي دعوة أربعة أشخاص؛ فأصبحوا عشرة، وفرحت بزيارتهم، ولم أجد حرجاً في ذلك؛ بل بالعكس.. إن "مكان الضيق يتسع لألف صديق".. ولقد كان حقاً يوماً رائعاً تعيد سيسيليا ذكراه كلما التقينا.
كنا أسرة منسجمة، وكانت دفاتر حساباتي العاطفية مع بيتر مغلقة لا أنوي مراجعتها..
كان لنا بيت جميل يجمعنا، وهوايات وأشغال تمنع الملل من التسلل إلى نفسينا، وتنسينا ذاك الحاجز اللامرئي القائم بيننا.
كانت ليلى يومها تبدو كأقرانها.. مفعمة بالحيوية والصحة؛ فأين اليوم من البارحة؟!!
****
البارحة كان حفل السفارة، وأنا سأعود صباح الغد لللاذقية.. لدي إذن الوقت كله مساء اليوم.
قادتني قدماي إليك.. صعدت الدرج وبيدي ورقة صغيرة:
"أتعرف؟.. لو حكم علي بالإعدام، وسألوني عن أمنيتي الأخيرة، لما طلبت سيجارة؛ وإنما أن تجلس قبالتي وتنظر مباشرة في عيني وتقول لي لماذا يمكنني أن أتكلم وأتصالح حتى مع العفاريت الزرق، ولا أستطيع ذلك معك؟!".
كان حمزة واقفاً عند الباب؛ فسألته إن كنت موجوداً؛ فأومأ لي بالإيجاب..
كنت أنت في غرفة الانتظار جالساً وراء طاولة المكتب بدلاً منه، وكانت العيادة تعج بالزوار، وكنت أنا آخرهم..
تبادلنا التحية "العادية" ودلفت أنت إلى مكتبك، وجلست أنا في غرفة الانتظار.. أنتظر والورقة الصغيرة مازالت في يدي.
جاء دوري، وكانت عقارب الساعة تشير إلى الثامنة مساء، عندما دخلت..
أخذت القصاصة ووضعتها في جيب قميصك دون أن تقرأها..
قلت لك:
-كتبتها لأستأذن بها بالدخول عليك.. لم أتوقع وجودك في غرفة الانتظار.. ألا تريد أن تقرأها؟
قلت لي، وأنت تجلس تلقائياً قبالتي.. كما أتمنى:
-سأقرأها فيما بعد.. ما الأمر؟
كان وجهك جافاً جداً.. وقرأت لك الورقة عن ظهر قلب.
-أنا حر.. أنا دائماً هكذا!!
-حر؟!.. لا.. أنت لست حراً "هكذا"؛ فللحرية أيضاً حدودها، و..
لم أستطع أن أكمل الجملة؛ فقد دخل للتو رجلان!
(ياإلهي.. لقد جاوزت العقارب الثامنة؛ فلم يأتيان الآن؟!).
نظرت إليهما.. أود أن أصفعهما، بينما أنت ترحب بهما وتدعوهما للجلوس!
وخرجت معي إلى الباب الخارجي.. وقفنا عند الدرج نتابع حديثنا القصير جداً.. كنت أعددت في ذهنك إجابة سريعة توهمت أنت أنها مقنعة:
-أنت تخيفينني!!.. أسلوبك.. رسائلك.. أنت تخيفين من يحبك!!
-أنا لا أخيف.. أنت من تهرّب مني دون سبب.
-أنا حر.. أنا هكذا!!
-ماذا يعني ذلك؟.. هل أنت مجنون إذن؟!!
-نعم.. أنا مجنون!!
(لم تعد تجد عذراً مقنعاً أكثر.. أيها المجنون).
اقتربت منك بصمت أعانقك وأطبع على خدك قبلة، ثم أمسكت يدك برفق وقلت لك وأنا أنظر في عينيك مباشرة:
-أحبك أيها المجنون.. وإن حدث وتقابلنا مرة أخرى؛ فأرجو أن تكون لطيفاً معي.
تنازعتني مشاعر متضاربة وأنا أهبط الدرج..
شعرت بحزن عميق.. حزن أعمق من الغضب والنقمة.. حزن أقرب إلى الشفقة عليك!
خرجت زائغة النظرات إلى الشارع المزدحم بالضجيج، والمضاء بالنيونات.. مازال طيف وجهك الكالح في عيني، وكلماتك المؤلمة في أذني، وعدت إلى نفسي أحاسبها كالعادة لأجد لك مبرراً.. كالعادة:
هل أنا مخيفة حقاً؟..
هل أصبحت شرسة ومشاكسة لدرجة تجعلك تنفر معي؟
أتخاف مني وأنت "المثقف" المسافر في أرجاء الدنيا؟
أتخاف أنت بالذات من جرأتي وصراحتي، وأنت من يحسب الناس له ألف حساب؟!
أتريدني أن أتملقك وأجاملك فقط، وأن أكذب عليك وعلى غيرك كي أرضي غرورك كرجل؟!!
أنت لست مثقفاً إذن.. أنت رجل متعلم.. فقط!
أنا لم أكتب رسائلي هكذا.. بلا سبب.
جفاؤك جعلني أغضب، وجعلني أكتب لأعاتب..
أعاتبك لأعرف السبب، وأنت تهرب وتتهرب.. ثم تضع اللوم كله على رسائلي وتقلب النتيجة سبباً؛ وكأنك تتعامل مع ساذجة!
ظننت أنك ستتخلص مني بأسلوبك هذا؛ لكنك كنت واهماً يا عزيزي!
إن أسلوبك هذا يستـفزني ويجعلني أشعر برغبة مميتة أن أحاصرك حتى النهاية.. حتى أنتزع منك جواباً مقنعاً!
أنا لم أعتد أبداً أن يتجاهلني أحد مهما يكن، ومهما تكن الأسباب..
أتجد صعوبة أن تقول لي أني لم أكن بالنسبة لك سوى نزوة عابرة؟
إن ذلك لا يتطلب منك سوى بعضاً من الصدق في التعامل مع نفسك ومعي، وبعضاً من الرقة والدبلوماسية كي أتقبل الأمر بأقل قدر من الصدمة، وأدعك وشأنك!
إن ذلك لا يتطلب منك شجاعة أكثر من الشجاعة التي يتطلبها اعتراف امرأة لزوجها أنها تحب غيره!!
سأراك ثانية إذن!!
****

النهى 11-05-09 12:27 PM



التقيت أحد المعارف.. كانت قد مضت مدة لم أره فيها، وعلمت أنه خطب إحدى الفتيات:
-مبروك يا الياس.. سعيدة أنا من أجلك.
-شكراً.. إنها تصغرني بخمسة عشر عاماً، وهي فتاة جامعية ذات تربية دينية متزمتة، ولقد تعرفت عليها في الكنيسة في حفلة عرس..
-جميل جداً.
في الحقيقة لم أتعرف عليها مباشرة.. لقد أعجبتني واستفسرت عنها واستأذنت وذهبت أخطبها.
-خطبة تقليدية إذن.
-أجل.. لكنها خجولة جداً، ولا تعرف شيئاً سوى البيت والكلية والطريق بينهما!!
-فتاة جامعية ومنغلقة على نفسها إلى هذه الدرجة؟!.. لن يضيرها أن تكون منفتحة قليلاً.. إن ذلك لن يتعارض مع تربيتها.
-إنها تتعبني، ولقد أعطيتها مهلة لتتغلب على خجلها.. قليلاً فقط؛ فالشرقية شرقية والشرقي شرقي، وفي الحقيقة لا ضير عندي أن تكون "خام"!!
-خام؟!.. هذا رأيك وأنت حر به، وأنا أحترمه؛ ولن أبدي لك رأيي بصراحة.
واستدرك فقال:
-أنت امرأة شرقية فريدة من نوعها؛ فهدفك في الحياة ليس أن تتزوجي وحسب وتصبحي مجرد زوجة فلان؛ بل أن تكوني وتبقي أنت.. أنت!
-طبعاً.
-أنا أهنئ زوجك بك وأهنئك به!
(أجل يا الياس.. لقد كان اعترافك خطيراً!.. إذ لم يلغ أحد منا شخصية الآخر بالزواج.. ولكن؟!).
****
اتصل بي الدكتور طارق يدعونا للغداء.. هذا الصديق الذي يحلو معه الحوار والنقاش بصراحة وعفوية لا تخلو من دعابة.
قال لي:
-لقد دعوت أيضاً الدكتور إبراهيم الذي تعرفينه، وزوجته.. أنها أيضاً حلوة المعشر.
-سيسعدني التعرف عليها.
كان الحوار ممتعاً حقاً لم يترك لا سياسة ولا دين ولا فن ولا أي موضوع آخر يعتب عليه!
قلت له:
-غريب أمر الرجل الشرقي.. إنه معظم الأحيان، حتى وإن كان مثقفاً، يخاف من المرأة المثقفة التي تحاوره وتناقشه.. يحترمها لكنه لا يريدها لأنها تسبب لـه (أو يتوهم أنها ستسبب له) صداعاً، ولذا يفضل عليها أية امرأة أخرى.. امرأة لعوب تجامله وتخدّره ولو كانت تسخر منه.. أو يريدها امرأة "خام" يشكّلها كيفما يشاء.
ضحكت زوجة الطبيب، وقالت مخاطبة طارق وهي تشير إلي بسبابتها:
-أنت تحترمها وتستمتع بالحديث معها؛ ولكن ألا يخيفك أن تتزوج واحدة مثلها؟!
-طبعاً لا؛ ولذا لم أتزوج حتى الآن!
****
اتصل بي بيتر يعلمني أنه غيّر رأيه، ولن يبقى هناك ينتظر ليلى ليصطحبها معه.. فلا عمل لديه حالياً هناك بعد أن أنهى ارتباطاته في العمل بالمؤسسة العائلية التي يملكها والديه.
سيعود ليبدأ أخيراً العمل الذي يأمل منه خيراً.. هنا، ومع شركاء سوريين.
قلت له:
-سأستقبلك في المطار إذن.
قبل أن أذهب إلى المطار.. ذهبت إليك!
جئت إليك في محاولة أخرى لمعرفة السبب.. أريد معرفته قبل أن أسافر.
كنت تتوقع قدومي بعد تلك الرسالة التي كتبتها لك في لحظات من الانفعال، ثم ندمت:
"ياحبيبي المجنون..
حزينة أنا.. إن سافرت وليس وداعنا أكثر من قبلة اختطفتها منك!
حزينة.. لأنك لا تعرف ماتريد وتعاكس الظروف دائماً.
وحزينة.. لأني أعرف ما أريد وتعاكسني الظروف دائماً!!
يا حبيبي المجنون..
أنت لست مطلق الحرية كما تدّعي.. أنت مجرد هارب من نفسك، ومن عواطفك، ومني.
تهرب مني كل مرة بحجة واهية جديدة؛ لكنك في قرارة نفسك تحبني كما أحبك!……"
أردتك على الأقل أن تستقبلني بطريقة حضارية وتدعوني ربما لنشرب شيئاً ونتحدث.
استقبلتني عند الباب ودعوتني للجلوس:
-تفضلي.. كيف تحبين الشاي؟
-وسط.. لو سمحت.
ودخل حمزة يحمل صينية الشاي..
كان شاياً أصفراً غير مختمر.. مجرد ماء ساخن أصفر ومحلّى بالسكر!
مكثت صامتة؛ فبادرتني تقول:
-يا كارمن.. هذه الرسائل..
(أردت هذه المرة أن تتغدى بي قبل أن أتعشى بك.. كما يقول المثل؛ فلقد منحتك فرصة مابين قراءتك الرسالة وحضوري إليك لتكون في موقع القوي، وتضع اللوم علي، ويكون "السبب" جاهزاً لديك.. بعد أن كنت أنا الأقوى عندما فاجئتك بالزيارة السابقة وأنت غير مستعد!!
كنت تدرك نقطة ضعفي، وتعرف أني بحضورك أنسى الكلمات التي أعددتها لأقولها لك.. تهرب مني وتضيع بمجرد أن أراك!).
وعاودت هجومك..
عدت تجادلني على مبدأ: "من كان أولاً.. البيضة، أم الدجاجة؟!"
وأنا؟.
أنا لم أنس الكلمات وحسب؛ بل نسيت أني لست مذنبة على الإطلاق!
بدأت أستميحك عذراً، وأنا أبتسم محاولة بذلك تلطيف الجو:
-آسفة.. آسفة على كل الرسائل التي كتبتها!
-كم عمرك لتكتبي لي هذه الرسائل؟
-وهل للجنون عمر يادكتور؟!
-إن لله في خلقه شؤون!
-وهذا ينطبق عليك أيضاً!
(أخيراً.. أسعفتني القريحة بجواب أكبح به هجومك!).
-هذه الرسائل يا كارمن.. إنها قاسية جداً. وأنا delicate
-وأنا أيضاً delicate
بقيت أنت صامتاً.. فتابعت:
-.. والرسائل كانت "فشة خلق" لابد منها؛ لأنك تتجاهلني باستمرار.
وعدت من جديد تنظر إلي النظرة المؤنبة:
-… على أي حال نحن دراويش ونفهم على بعضنا!
-ماذا تعني بذلك؟
-أقصد أننا أخوة وجيران!
-ألا شيء غير ذلك؟!
-أخوة وجيران ولا شيء غير ذلك!
بدأت تذرع الغرفة جيئة وذهاباً وبيدك فوطة صغيرة تمسح بها الغبار عن الأثاث وعشرات.. بل مئات الأشياء الصغيرة والكتب المتبعثرة على مكتبك، هنا وهناك..
-إن كان لديك فوطة أخرى.. أعطني إياها كي أساعدك!
-…
-لماذا جئت يوماً تزورني؟!.. ألأننا أخوة وجيران؟!!
-ومتى زرتك؟!!
(كنت تريد أن تنتقم مني لأني سخرت من ثرثرتك عني مع ريما).
-لا.. طبعاً، أنت لم تزرني أبداً!
عدت تجلس وراء منضدة مكتبك؛ فسألتك:
-هل لديك صديقة "جديدة"؟!
فاجأك سؤالي.. قرأت ذاك في عينيك وسمعته في إجابتك المبهمة:
-… لو أن جميع "صديقاتي" مثلك!.. ليس بمقدورك يا كارمن أن تقيمي علاقة ما!
عدت تكيل لي الاتهامات، وبقيت أنا صامتة.. لم أعد أعرف بما أجيبك؛ بل تركتك تتابع كلامك:
-.. يا كارمن. أرجو من الله أن يشفي لك ابنتك.. بلّغي تحياتي لزوجك، وأتمنى لك Happy flight

أخرجت من حقيبتي شريط الكاسيت وناولتك إياه:
-هذا لك.
-آه.. Italiano. شكراً.
- وموسيقى كلاسيكية سجلتها لك.
(كان الكاسيت مناسباً جداً للموقف الدرامي.. إنه الحدس مرة أخرى!)
أردفت، وأنا أحاول السيطرة على انفعالاتي:
-أتساءل إن كنت ستذكر صوتي إن فكرت يوماً أن أتصل بك.
-…
-هل أنت مسافر الليلة إلى القرية؟
-لا.. ليس إلى القرية.. أنا مسافر إلى فيينا لأربعة أو خمسة أيام.
-.. لن تكون إذن بعيداً عن المكان الذي سأسافر إليه؛ ولكني لن أسافر إلا بعد أسبوعين أو ثلاثة.
ومددت لك يدي مصافحة:
-أستودعك الله.
-مع السلامة.
(استمع وأنت تقود السيارة إلى المطار، إلى أندريا بوتشيللي يشدو con te partiro ؛ فقد تحرك أغنيته الشجية بعضاً من مشاعر قد تكون موجودة عندك!).
عدت إلى الشقة، وقلبي أشعر به ثقيلاً بين ضلوعي..
في الساعة الحادية عشر ليلاً سيصل بيتر، ومازال لدي متسع من الوقت.
خلعت ملابسي واستلقيت في السرير أفكر في قسوتك وكلامك:
"أخوان وجيران".. حتى هذه تقولها مجرد "رفع عتب".
كانت عيني مبتلّة من آثار الدموع، وقد فوجئت بالوصول المبكّر لأخي، جاء مع أمي يصطحبني إلى المطار..
لم ينتبه وائل أنني كنت أبكي؛ لكن أمي كشفتني وبقيت شفتاها صامتتين، بينما عيناها تتساءل رغم أنها تعرف..
تعرف نصف الحكاية فقط.
النصف الآخر الذي لا علاقة لك به!
****
لم أشأ، ولم أفكر يوماً أن أخبرها بذاك النصف الآخر من الحكاية.. بذاك الحاجز اللا مرئي الذي يفصل بين بيتر وبيني منذ ليلة الزفاف!
كنت أتقن إخفاء همومي عنها عندما ترانا أنا وبيتر معاً.. ولم يخطر ببالها قط أن هناك خللاً ما في حياتنا العاطفية والجنسية..
لم تكن فضولية لتستفسر وتسألني.. ربما لأنها تعرف أني أتمتع بالاستقلالية في شخصيتي، وليس من عادتي.. بل ليس باستطاعتي أيضاً أن أبحث عندها عن حلول لمشاكلي، وقد تزوجت وسافرت، وأصبحت المسافات الجغرافية تفصل بيننا.
لم تسألني قط في رسائلها، ولا في زياراتي المتكررة للوطن عن الإنجاب والأطفال..
لم تسألني قط عن تأخر حملي سبع سنوات بعد الزواج..
لم أعرف أبداً أنها كانت قلقة علي بهذا الشأن إلا عندما حملت فعلاً وزففت إليها الخبر، وعندئذ فقط أخبرتني عن ذاك القلق الذي كان يشاركها فيه أبي طوال تلك السنين!!
أصبحت أمي جدة، وكانت ليلى أولى الحفيدات والأحفاد.. أما أبي؛ فلم يصبح جداً؛ إلا بعد وفاته، رحمه الله.
لم تعرف أمي كيف حملت بليلى، وبقي الأمر سراً احتفظت به كرمى لبيتر حتى كانت تلك الأمسية..
عندما سافرت برفقتك إلى دمشق في عيد الأم، ثم ذهبت أزورها وأحمل لها هدية..
تلك الأمسية التي كنت فيها مستعجلاً جداً، ومدعواً للعشاء في سفارة ما!
****
كانت ظلال الأشجار تتراقص على جانبي الطريق، وتذكّرني بأشجار أخرى كانت تتراقص أمام ناظري في أمسية ربيعية ساحرة.
(تصوّر.. أفكر بك رغماً عني وأنا ذاهبة لاستقباله.. لاستقبال زوجي!
فما السبيل إلى نسيانك؟!
هل استمتعت ياعزيزي بزيارة فيينا الرائعة رغم الجو الماطر؟..
هل زرت دار الأوبرا فيها، واستمعت إلى إحدى معزوفات فالس شتراوس؟.. وتذوقت في مقاهيها الجميلة قهوتها اللذيذة المعروفة باسمها؟!.. أم أنك تذوقت هناك أشياء أخرى؟!!
لا لوم ولا عتاب بعد اليوم.. لقد تعبت ومللت ولم يعد يهمني أن أعرف السبب؛ ولكن يهمني أن تعرف أنك لم تقنعني!
أنت تحبني، ثم تؤاخيني!..
فهل أحببتني حقاً، وهل بإمكانك أن تصبح بعد ذلك أخاً؟!
الحب والأخوّة..
كلمات.. ما أسهل النطق بها؛ لكنها ليست مجرد كلمات نلوكها كيفما نشاء ثم نبصقها عندما نتعب منها!).
****
-أريد أن أعمل في دمشق.
قلت لبيتر، وقد عدنا إلى الشقة، واستلقى كلاً منا في سريره.
-طبعاً.. ألم نفكر بذلك من قبل؟
-أريد ذلك بعد عودتي من السفر.
-لا بأس.. أنت متوترة جداً، ما الذي حدث؟
-… لقد أصبحنا أخوة، وهو يبعث إليك بتحياته!
-وماذا بعد؟
-لا شيء البتة.. تصبح على خير.
-تصبحين على خير.
واستدار بيتر لينام، وسرعان ما زاره النوم وعلا شخيره.. أما أنا؛ فقد هرب النوم مني وزارني عوضاً عنه الأرق عندما استغرقت في التفكير أناجي نفسي:
-يالك من تعيسة يا كارمن..
كيف سمحت لهذا الرجل أن يستولي على مشاعرك دون أن يمنحك شيئاً؟!..
تنازلت من أجله عن كبريائك، ومنحته قلبك بلا مقابل..
وجعلت تصرفاتك كلها رهن قلبك الأرعن.. فأين أضعت عقلك يا مجنونة؟!
يا مجنونة.. يا مجنونة!!
استفقت من أفكاري على صوت بيتر.. لقد أيقظه صوت بكائي المكتوم دون أن أدري:
-أنت تبكين؟!.. تبكين يا كارمن من أجله؟!!
هل يستحق حقاً دموعك؟!!!
وخجلت.. خجلت من نفسي، ومن دموعي.. خجلت من بيتر.
لم أستطع أن أقول له من جديد: "آسفة".. لقد أصبحت الكلمة ممجوجة ومللت من تكرارها.. إنها على أي حال لا تكفي؛ فالتزمت بالصمت، ونمت..
****
عدنا إلى منزلنا في القرية، وهرول بيتر فور وصوله إلى الحديقة يتفقد نباتاتها، كعادته كلما عاد من سفر:
-آه.. انظري، هناك ثلاث شجيرات موز مثمرة!
-أعرف..
-علي أن أقص أغصان العريشة و"المزّيكا".. إنها تمنع ضوء الشمس عن باقي النباتات.
-…
-هل نشاهد فيلم فيديو هذا المساء؟
-نشاهد..
جلس على السجادة الممدودة صيفاً شتاء –كما يحب- يتابع أحداث الفيلم، وأنا أشعر بالملل، ولا رغبة لي بمشاهدة أفلام.
نظرت إليه… مستغرق بالمتابعة بكل حواسه، وقد نسيني..
نسيني، وقد عاد البارحة فقط من السفر!!
اندسست جالسة بين ساقيه الطويلتين الممدودتين.. تحرشت به.
داعبت بأناملي ذراعه؛ فلم تقف ولا شعرة واحدة!.. وبقي منسجماً مع الأحداث.. أحداث الفيلم طبعاً!
سألني وعيناه مازالتا تحدقان في الشاشة اللعينة:
-مابك؟!
-لا شيء.. أتحرش بك فقط.
-…
-هل.. الفيلم ممتع جداً؟
-أجل!
-ألا.. يمكننا أن نلهو قليلاً؟
-نلهو؟!.. أنت تعرفين يا كارمن.
-أعرف.. لا داعي أن نلهو حتى النهاية.. نلهو ولو قليلاً!
-…
تركته وذهبت إلى الفراش.. بقيت مستلقية حتى أتعبني التفكير الذي لا يجدي على أي حال.. ثم نمت.
زرتني أنت في الحلم!
حلمت أني أكتب لك رسالة، وما إن أوشكت على الانتهاء حتى جاءتني سناء.. قلت لها: "أكتب رسالة للرجل الذي نحبه أنا وأنت!!".
****
بعد يومين ستأتي الذكرى العشرون لزواجنا.. لكن بيتر أراد العودة بعد يومين إلى دمشق من أجل بعض اللقاءات والاستعدادات لعمله الجديد.
سألته:
-هل عليك حقاً أن تسافر غداً إلى دمشق؟
-أجل يا كارمن.. لقد اتفقت مع نبيل والدكتور شاهين على اللقاء غداً.. علينا أن ننهي الأمور بسرعة..
أريد أن نبدأ مشروعنا أخيراً..
آه صحيح.. سيكون غداً عيد زواجنا!!
-حمداً لله أنك تذكرت!..
لا بأس.. نحتفل بالمناسبة عندما تعود.
-حسناً.. نذهب ونتعشى في مطعم "طل القمر".
(بيتر يحب هذا المطعم، وأنت تتواجد فيه غالباً عندما تكون في القرية، وتدعو ضيوفك للغداء.. فهل سأراك هناك؟!).
وسافر بيتر إلى دمشق، ثم اتصل بي هاتفياً من هناك، وكنت قد نسيت أنا أيضاً المناسبة:
-أطيب الأمنيات لك!
-لماذا؟!
-عيد زواجنا العشرين!
-يا إلهي.. لقد نسيت!
(من المؤسف؛ بل من المؤلم أن ننسى.. لقد أصبحت مناسبة كهذه تفوتنا لأول مرة!!).
ذهبت مساء إلى سوسن أزورها.. تجولنا معاً في أرجاء المدينة الساهرة في مهرجانها السياحي؛ ثم بت الليلة عندها.
****
اتصلت بي ريما:
-يا خائنة.. لماذا لم تتصلي بي، وأنت تعرفين أن خطيبي قد عاد من السفر؟
-الحمد لله على السلامة.. أعرف أنه عاد لتوه؛ ولكنك مشغولة به حتماً الآن، وأنا مشغولة.. فقد عاد بيتر أيضاً، كما تعلمين.
-أود أن يتعرف يونس على بيتر؛ فهل يمكننا أن نلتقي؟!.. أنا في القرية.
-سنذهب هذا المساء إلى مطعم "طل القمر"؛ فما رأيك أن نلتقي هناك؟
-حسناً.. اتصلي بي فور وصولك إلى هناك.
-لا داعي لذلك؛ فنحن سنأتي إلى القرية لنزور سريعاً أسرة سناء.. هل أنت في المنزل مساء؟
-أجل..
-أراك إذن هناك ونذهب سوياً إلى المطعم.
دلفت مع بيتر إلى الشرفة، حيث تجلس أختك مع زوجها وضيفيهما..
لم تكن ريما هناك!!
ولم تكن أختك تعرف بما اتفقنا عليه صباح اليوم، وقالت أنك جئت فجأة وطلبت من ريما ومن خطيبها أن يرافقاك إلى المدينة.. جئت فجأة مسرعاً لدرجة أن ريما لم تجرؤ على الدخول إلى الغرفة لجلب حقيبتها؛ بل أرسلته.. أرسلت خطيبها يونس ليجلبها لها!!
(يالك من استبدادي، ويا لها من…!
إنها لا تجرؤ أن تجلب حقيبتها بنفسها؛ فكيف تجرؤ أن تخبرك أننا كنا على موعد مساء اليوم؟!!).
أزعجنا تصرف ريما.. لقد تصرفت معنا بمنتهى الفجاجة وعدم اللباقة.
في الحقيقة.. أنا لم أعرف ريما، وأمها أيضاً، إلا كذلك؛ وأعذرهما –رغم انزعاجي- لأني أعرف تماماً أن المرء يبقى ابن بيئته التي ترعرع فيها، ولكن التأقلم ضروري عندما يعيش الإنسان في بيئة مغايرة، ويحتك بأناسها..
ضروري ليكتسب منهم عادات اجتماعية تسمى أصولاً.. أليس كذلك؟!
إن درجة التأقلم تختلف باختلاف الشخص وخلفيته الثقافية.. وهنا تكمن مشكلة أسرة أختك!).
أذكر أول مرة دعتني فيها أختك لتناول الطعام عندها.. كان ذاك في العام الفائت، وقد حل بيننا شهر رمضان.. جئت إليها قبل الإفطار بحوالي الساعة، وكانت بادئ الأمر لوحدها في البيت، ولم يكن في المطبخ مايدل على أنها منهمكة في إعداد طعام الإفطار.
قالت لي:
-لقد قال لي أبو ياسر أنه سيجلب طعاماً جاهزاً معه.
وجاءت ريما، ثم جاء أبوها؛ لكنه كان خالي اليدين!
بادرته أم ياسر بالسؤال:
-ألم تقل لي أنك ستحضر طعاماً جاهزاً من السوق؟!
-أنا؟!.. لا لم أقل لك ذلك!!
-لأسرع إذن إلى المطبخ وأعد شيئاً من طعام البارحة!!!
وتم إعداد ماتبقى من طعام البارحة:
نصف رأس خروف مسلوق فوق جاط من البرغل، مع حساء عدس وشيء آخر يسبح فيه، وصحناً من سلطة خضراء لم أعد أذكر محتوياتها.. إضافة إلى خبز بائت منذ أيام يتكسر بمجرد اللمس!!
أنا لا أحب التعقيدات والرسميات، وأحب أن يشعرني من أزوره أني "من أهل البيت"؛ لكنها كانت أول دعوة من أختك، وكانت تعرف أني قادمة في ذاك اليوم بالتحديد؛ فأنا لم أزرها فجأة حتى تجود بالموجود!
ذهبت أنا وبيتر إلى "طل القمر" لوحدنا..
كان روّاد المطعم كثيرين، والموسيقى تصدح والمساء لطيف؛ لكننا كنا نشعر بالملل، ونحاول عبثاً أن نبعده، ونحن نتسلى بتناول المقبلات..
قلت لبيتر، وقد شارفت الساعة على الحادية عشر إلا ربعاً:
-سأطلب سيارة.
وبينما نحن جالسين ننتظر السائق حانت مني التفاتة إلى القسم العلوي من المطعم لأراك تدخل مع أربعة رجال آخرين!
-انظر يا بيتر من جاء إلى المطعم الآن!
-أتظنين حقاً أنه هو؟!
-طبعاً.. شعره الأشعث وحركات يديه العصبية!
-لكنه رجل هادئ!
-رجل هادئ؟!.. أنت لا تعرفه حقاً.. إنه هو.
-لا.. ليس هو؛ بل رجل يشبهه.
(إن الله يخلق من الشبه أربعين؛ ولكن لا أظن أنه خلق مجنوناً يشبهك!).
نظرت مرة أخرى حيث تجلس؛ فرأيتك تنظر إلي.
نهضنا خارجين، وبيتر يطلب مني، ونحن نعبر بين الطاولات، أن أمعن النظر لأتأكد من صحة كلامي، أو كلامه!!
(تصوّر هذا الطلب!..).
..لكنني لم أجرؤ، وخرجت مسرعة إلى السيارة.
****
ذهبت ليوم واحد إلى دمشق لتجديد عقد استئجار الشقة، وبقي بيتر في اللاذقية يقلّم أشجار الحديقة..
وفي المساء زرت مايا..
مايا مطلّقة تعمل مديرة مكتب، مستقلة وسعيدة بعملها ومعارفها كثر..
اقترحت علي أن تتصل بصديقها زهير وتعرّفني عليه ونذهب سوية للعشاء؛ فوافقت..
قالت لي تحذّرني، ونحن نخرج من مكتبها للقائه:
-..إنه يقسم لي أنه يحبني، ورغم ذلك لا يقصّر إن سنحت له فرصة!
-لا تقلقي.. لن تسنح له معي أية فرصة.
-أعرف.. ولكن تحسباً من إمكانية أن يطرق بابك يوماً، أو يتصل بك هاتفياً بحجة أنك صديقتي ويريد أن يقول لك مرحباً؛ فمن الأفضل أن تقولي له أنك تقطنين حالياً مع أختك أو أخيك!!
استغربت اقتراحها، ولكنني طبعاً وافقت أن أكذب هذه الكذبة من أجلها.
تناولنا العشاء في شرفة أحد المطاعم بالهواء الطلق، ثم أوصلني زهير إلى بيتي، فدعوتهما لتناول الشاي عندي.
سألني زهير، ونحن على وشك أن نترجّل من السيارة، إن كنت أقطن وحدي..
نسيت وصية مايا؛ فأجبت بنعم ولم أستدرك إلا عندما رمقتني مايا بنظرة عتب ودهشة وتحذير؛ فأردفت بسرعة:
-.. أقطن وحدي؛ ولكن في شقة أخي التي فصلها مؤقتاً بواسطة باب داخلي إلى قسمين.. إنه يقطن هنا.
وأشرت بيدي إلى باب مجاور كان في الواقع باباً لشقة أخرى لا أعرف أصحابها!!
****
آخر مساء لي هنا قبل سفري إلى ليلى..
جلسنا كعادتنا على كرسيين متقابلين نرقب من سطح منزلنا شمساً حمراء تغرق ذائبة في حضن البحر.
أشعل لي السيجارة التي نسيتها بين أصابعي وأنا غارقة بأفكاري، ودارت الأسطوانة الليزرية في الجهاز:
con te partiro.. كان أندريا يشدو..
ونجحت في كتم مشاعري، بادئ الأمر؛ لكن سرعان ماتملكني الشجن عندما بدأ يغني أغنية أخرى حزينة جداً؛ ففقدت السيطرة على انفعالاتي..
كان بيتر يعانقني، وأنا أبكي..
لا أدري متى بدأ البكاء، ولا متى ضمّني بيتر إليه..
كنت أبكي من جنوني، ومن يأسي، و.. منك!
أبكي من أجله، ومن أجلي، ومن أجل ليلى..
وهدأت نفسي؛ فابتعد عني بهدوء، وجلس يرقبني بصمت ويدخن.
****
التوصيات الأخيرة قبل أن أسافر إلى دمشق وحدي عصر ذاك اليوم من أواخر شهر آب:
-… أرجوك أن تأكل جيداً.. لقد أعددت لك كالمرة السابقة ما يكفي من طعام مطبوخ؛ فلا تهمل نفسك وتأكل فقط جبناً وزيتوناً وزعتراً، وتترك نصف الأكل ينتظرني عندما أعود.
-نعم.. نعم.
-لقد كتبت لك كالعادة المحتويات على غطاء كل علبة، وماعليك سوى تسخينها.. أخرج مساء كل يوم من الجمّادة علبة من أجل غداء اليوم التالي.
-…
يوجد أيضاً برغل وأرز حسب ماترغب مع الوجبة، وطعام مطبوخ بالزيت يلائم الجو الحار!
-حسناً "يا أمي.. لا تقلقي بشأني.. لن أهمل معدتي هذه المرة لا تغضبي!!
وتبادلنا القبل على الوجنتين:
-إلى اللقاء إذن..
-إلى اللقاء.. اتصلي بي فور وصولك.
****
انطلقت بي الحافلة إلى دمشق، وفي المساء زرت مايا.. أخبرتها عن رغبتي بالحصول على عمل كي لا أقضي أيامي كمداً وخمولاً.. ولأهرب من التفكير بك.
لأقتل في دمشق الوحدة التي تقتلني في القرية..
فحياة الناس اليومية لم تعد توحي لي بالكثير من الخواطر أكتبها للمجلة، وعهد التحقيقات الصحفية انتهى، إذ لم تعد للسفر سوى وجهة واحدة.
وعدتني مايا خيراً؛ فلابد أن تعلم بوجود شاغر ما بحكم عملها واتصالاتها وصداقاتها، وأنا رغم أني ابنة دمشق فأنا لا أعرف فيها سوى الأهل؛ بحكم أسفاري وغربتي الطويلة وسكني بعيداً عنها بعد رجوعي.
المؤهلات لا تنقصني، وأنا واثقة أن بإمكاني التأقلم بسرعة.. أنا لا أخشى البدايات.
سهرت عند مايا حتى العاشرة؛ فطائرتي ستقلع الساعة السادسة والنصف من صباح الغد، وسيارة الأجرة ستكون بانتظاري في الساعة الرابعة والنصف لتقلني إلى المطار.
جاء السائق في الوقت المحدد، وانطلقت السيارة، والعتمة مازالت تلفّ المدينة الخاوية كوشاح أسود..
أغادر دمشق، وأنت ستنهض بعد قليل لتسافر عائداً إليها من اللاذقية..
أتساءل إن كنت أنت من اتصل بي مرتين بعد عودتك من السفر، ولم تتكلم!
لم أغلق السماعة بسرعة؛ بل انتظرت كل مرة وطلبت من الذي على الخط الآخر أن يتكلم؛ لكنه كان كل مرة ينتظر ثم يغلق الخط بعد أن أنهي جملتي!
لا.. لا يمكن أن تكون أنت.. كفاني أوهاماً..
أنت تهرب مني؛ لأن الشيء الوحيد الذي لم يكن في حسبانك هو أن أحبك!
أنت تخشى الحب.. تخشى أن تحبك امرأة؛ فكيف إن كانت امرأة متزوجة؟!!
تريد أن تكون حراً، والحب بالنسبة إليك قيد، لأنه التزام..
لكنه التزام جميل.. التزام لا يمليه الواجب؛ بل الشعور.
لا بأس.. نحن أخوة..
لقد جعلتني أختك؛ ولكن يصعب علي أن أجعلك أخي!
وما حاجتي أنا لأخ جديد، وأخوتي ممن لم تلدهم أمي كثيرون؟!!
********

النهى 11-05-09 12:29 PM



الخريف الثاني:
سافرت البحار.. لم تأخذ السفينة







اليوم السبت..
اليوم الأول من عطلة نهاية الأسبوع.
وطئت قدماي أرض المطار الكبير المزدحم دائماً..
وطئت قدماي أرضه للمرة الثالثة منذ سفر ليلى..
كانون الأول.. نيسان.. ثم آب.
مددت يدي بجواز السفر لضابط الأمن القابع وراء الحاجز الزجاجي؛ لكنه ما إن لمح لونه وشارته المميزة حتى قال لي شكراً، وأعدته إلى مكانه دون أن يفتحه؛ فأنا مواطنة منذ عشرين سنة في هذا البلد الذي يحترم مواطنيه..
هبطت السلم الكهربائي إلى حيث تسليم الحقائب.. نظرت مرات عبر الجدار الزجاجي وأنا أنتظر مرور حقيبتي على الشريط الدائري المتحرك فلم ألمحهما.. حماتي وحماي!
حملت حقيبتي الخفيفة (فباقي حاجياتي مازالت هنا منذ زيارتي السابقة)، وجلت بعينيّ مرة أخرى بين الجموع فلم أجدهما!
ثم.. سمعت فجأة صوت بيتر الأب يناديني، فأقبلت نحوه أحاول رسم ابتسامة على وجهي:
-مرحباً بيتر!
-مرحباً كارمن
هكذا تكون المناداة في هذا البلد الأوروبي.. لا عمي ولا امرأة عمي؛ بل الأسماء المجرّدة فقط، وكذا الأمر بالنسبة للأعمام والأخوال والعمات والخالات حتى وإن كان المنادي طفلاً صغيراً، ويستثنى من القاعدة الجدّين فقط!..

اسم والد زوجي هو أيضاً بيتر، وكذا اسم جده..
فحمداً لله أني لم أرزق صبياً.. ربما توجّب علينا أن ندعوه بهذا الاسم، خاصة وأنه أول الأحفاد، ليصبح بيتر "الرابع"!
.. عندما ولدت ليلى وأردنا أنا وبيتر تسميتها بهذا الاسم احتج الوالد بأن الاسم هو اسم لسلالة كلاب!!
هرعت إلى ليلى فاحتضنتها، وقبّلت جديّها على الوجنات، وتبادلنا عبارات المجاملة، ثم قاد المليونير بيتر سيارته الجاكوار إلى البيت..
إنه مصطنع في كل شيء حتى في مزاحه.
اصطنعت ضحكة لأوهمه أنه خفيف الدم فعلاً، ثم التفت إلى ليلى.. تأملتها وابتسمت:
-ياحبيبتي.. فرحة أنا بلقائك.. فرحة جداً أنك أصبحت تمشين من جديد وتتكلمين.. لقد ازداد وزنك وازددت جمالاً.
ضحكت ليلى ومدت لي يدها بهدية:
-هذه هدية لك ياماما.. صنعتها لك في المعسكر الصيفي.
-شكراً ياحبيبتي.
فتحت الرزمة الخضراء.. كانت الهدية قناعاً من الجص لوجه ليلى وضعته على وجهها بمساعدة المشرفة حتى جف واكتسب ملامحها، ثم لونته بلون فضي ورسمت الشفاه باللون الأحمر:
-كم هو جميل!.. سأحتفظ به في غرفة النوم كي أراه عندما أستيقظ وقبل أن أنام، وأفكر بك كلما رأيته.
****
صباح يوم الأحد أوصلتنا ماريا (حماتي) إلى "مركز التأهيل" حيث تقيم ابنتي وتخضع للعلاج منذ حوالي السنة، وتزور المدرسة أيضاً.. مدرسة خاصة في المركز.
أما أنا فسأمضي أيامي التالية في نفس الغرفة التي كنت فيها المرة الفائتة.
عندما آوت ليلى إلى فراشها وقبّلتها قبلة المساء، عدت إلى غرفتي وأشعلت لفافة تبغ.
جلست أدخن وأحتسي كوباً من الشاي..
".. سافرت البحار، لم تأخذ السفينة
وأنت كالنهار، تشرق في المدينة
الريح تبكي، تبكي في الساحة الحزينة.."
وأنا أبكي..
أندريا وفيروز والبحار والسفن و.. أنت!
أفكر بك أيها البعيد..
أرسلت لك بطاقة جميلة، ودونت عليها رقم الفاكس هنا.. في المركز.
أبعث في نفسي أملاً جديداً كاذباً.. فعساك ولعلك تتصل بأختك المزعومة!
تمددت في السرير ورفعت الغطاء حتى كتفي وأغمضت عيني..
فكرت بك، وبكل جراحاتك.. تدحرجت من جديد دمعات ساخنة على خدي، ووجدت نفسي أبكي هذه المرة بصوت مسموع:
-ارحمني يا الله!..
أريد أن أعرف طعم الراحة.. لماذا لا أشعر أبداً بالرضى؟.. بالرضى عن نفسي؟!
فتحت عيناي ومسحت دموعي وأنا أنظر عبر زجاج النافذة..
لاح لي في ظلمة السماء نجم يتلألأ.. أمعنت النظر إليه؛ فهدأت نفسي ونمت.
ماعدا الاستقبال الحار في المطار؛ فإن ليلى اعتادت على وجودي رغم أني حضرت بالأمس فقط.. بل إنها لم تعد تشعر بوجودي!
برنامجها في المركز مكثّف ما بين معالجة فيزيائية ونفسية ولغوية وسباحة وركوب خيل ومدرسة.. وأنا آتي إليها في فرصة ما بعد الغداء لأقضي هذه الساعة معها، أو في الفترة مابين العشاء ووقت الذهاب إلى النوم، لكني سرعان ما أجد نفسي وحدي أنتظر في غرفة ليلى مجيئها، وقد ذهبت هي في أثر المشرفة فلانة أو علانة ونسيتني.
تقبّلت الأمر في البدء وفرحت أن ليلى ليست انطوائية، وأنها منسجمة مع الآخرين ومشغولة؛ لكني وجدت نفسي في بحث دائم عنها هنا وهناك، وأنا ما أتيت إلى هنا إلا من أجلها ولوقت معلوم ولسويعات محددة في اليوم، وهي تعرف ذلك حق المعرفة.
جئت إليها؛ فلم تكن متحمسة لحضوري..
اقترحت عليها أن نتمشى في الحديقة؛ لكنها أصرت على انتظار المشرفة بربارة حتى تخرج من المكتب لتعطيها حبتي توت قطفتهما لها، وأذعنت لمشيئتها وانتظرت معها، وطال انتظاري، وبربارة مازالت في الغرفة تسجّل تقريرها اليومي، وليلى مازالت مصرّة على انتظارها وقد عبس وجهها.
بدأت أشعر بالحنق؛ فقلت لليلى محاولة قدر الإمكان أن أخفي انفعالي:
-أنا آتي من أجلك حتى نخرج في نزهة، وأنت تنتظرين بربارة لتعطيها حبتي توت قبل انصرافها إلى البيت، وكأنك لن تريها بعد اليوم، مع أنها ستكون هنا في الصباح من جديد، وأنا أنتظر معك طوال هذا الوقت.
-…
-سأذهب إلى غرفتي إذن.. إذ يبدو أن بربارة أهم مني.
-…
أردت أن أجس نبضها؛ فوقفت أنوي الانصراف؛ لكنها بقيت صامتة وكأن الأمر لا يعنيها البتة!
لم تركض ورائي وأنا أتجه إلى المصعد لتخرج معي إلى النزهة، أو لتطلب مني أن أنتظر قليلاً، أو لتعتذر مني على الأقل.
عدت إلى غرفتي وجلست فيها طويلاً أنتظر ليلى أن تأتي أو أن تتصل بي هاتفياً؛ فلم تفعل!
"جميل جداً يا كارمن.. لماذا جئت إذن إلى هنا؟!.." شرعت أخاطب نفسي:
".. هاهي ابنتك لا تحس بوجودك، بل وتتصرف معك ببرود، وبقلة أدب أيضاً.. إذ كثيراً مايعلو صوتها وتخاطبك بحدة، أو تقاطعك قبل أن تنهي جملتك!…
يا إلهي!.. ربما ستكبر باردة العواطف كجدّيها.. وأبيها أيضاً.. إنها تشبههما في الملامح، وستكون مصيبة إن كان للتشابه وجه آخر!
لعنهم الله جميعاً.. وليلعنه هو أيضاً أكبر لعنة"!
(كان المقصود باللعنة أنت طبعاً)!!
أطفأت لفافة التبغ ونهضت ألوم نفسي:
"حسناً.. سأذهب إليها.. إنها ابنتي، وأنا أمها
وعلي أن أستوعبها، وهي مريضة وأنا هنا من أجل
ماذا إذن؟!!".
****
اليوم ستتزوج ريما..
دعتني ريما لحضور زفافها؛ لكن الموعد تأجل وحان موعد سفري قبله..
لن يقام حفل زفاف على أي حال، ولن أرتدي للمرة الثانية ذاك الفستان الذي أخطته من أجل زفاف سناء من قبل..
لن أراك هذه المرة أيضاً..
ربما هذا أفضل.. فقد وصلت الأمور بيننا إلى أسوأ ماكنت أتمنى؛ ولكن من حسن الحظ أنها لم تكن أسوأ مما كنت أتوقع!
وماذا كنت أتوقع أسوأ من ذلك؟!
أن يحتقن وجهك غضباً وتحملق فيّ، ثم يعلو صوتك و..؟!!
أنت تضع اللوم كله علي بكل برود، وتحتفظ بهدوء أعصابك أمامي كي لا تعطيني الفرصة لأرد لك الصاع صاعين!
تمنيت لو أنك أعطيتني تلك الفرصة لأفجّر غضبي الكامن.. أفجّره فيك، وأرمي بوجهك بعضاً من أشيائك المبعثرة على طاولة المكتب أمامك..
أتمنى لو أني أصفعك، ثم أخرج من عيادتك إلى الأبد وقد صفقت الباب ورائي بعنف!
كنت أجلس قرب النافذة أمعن النظر إلى القرية المنبسطة أمامي يميناً، والغابة الممتدة يساراً.. أفكر بك وأنا أستمع إلى الموسيقى.
كلاسيكية حزينة كنفسي الحزينة..
أنت في الذاكرة لا تبرحها أبداً.. كيف استطعت أن تحتلني هكذا؟!
أحاول نسيانك فلا أقدر.. أحاول أن أكرهك فلا أقدر..
أشعر تجاهك بالمرارة.. (فالرجولة هي موقف لم أجده عندك أبداً وبحثت عنه عندك، ولم أجده بعد!).
لقد حاصرتك كثيراً، وكتبت لك كثيراً، وتمنيت لو نجلس معاً ونتحدث.. كثيراً.
وكنت تجيد دائماً التهرب مني، وتنزلق كالزئبق من بين أصابعي بإجاباتك المبهمة..
تشد الحبل ثم ترخيه وتؤكد لي كل مرة أننا أحباباً.. وكم وددت لو كنا كذلك حقاً..
تبعث كل مرة فيّ الأمل من جديد، وأجلس أنا في وحدتي أنتظر منك دون جدوى مبادرة صغيرة..
أصبح رنين الهاتف يوتّرني، فيقفز قلبي بين ضلوعي ويسبق قدماي إلى الجهاز الذي يحمل كل الأصوات إلا صوتك!
..أردتك واحة فرح، ولو صغيرة؛ لكن الحب لم يكن طوال سنة ونصف إلا من طرف واحد.
رنين الهاتف جعل خواطري تتلاشى:
-مرحباً يا كارمن.. أنا آناريتا.. سأحضر إليك لتناول الغداء.
-حسناً.
فتحت الباب ودخلت آناريتا.. امرأة قصيرة ممتلئة:
-تشاو كارمن
-تشاو آناريتا.. كيف حالك؟
-بخير.. تبدين مثيرة يا كارمن بهذه الثياب.. لو رآك أنطونيو لما قصّر بمغازلتك.
ضحكت، وقلت لها:
-مثيرة؟!.. دعك من هذا الهراء.
(لقد أحببت اليوم، والجو دافئ مشمس، أن أرتدي هذه البلوزة والتنّورة الضيقتين.. صحيح أنني رشيقة القوام، ولكن لم يخطر ببالي حقاً أني قد أبدو بهما مثيرة).
-ليس هراء.. أنت امرأة جذّابة، وأنطونيو…
-ما به أنطوينو؟!
-إنه رجل وسيم وأنيق، وأنا امرأة ممتلئة!.. أتعرفين أني كنت أكثر سمنة، وأن أنطونيو كان يطلب مني دائماً أن أنتبه إلى قوامي، ويشجعني لأذهب واشتري ثياباً جميلة؟
-…
-كنت أتأمل قطع الثياب المثيرة، وأفكر، مرتين ثم..
-لا تشتريها..
-أجل.. لقد اعترف لي أنطونيو أنه خانني مع امرأة أعرفها، وأنا لم أستطع إلا أن أسامحه.. لقد أقسم لي أن المبادرة كانت منها، وأنها لحقته حتى المنزل!
-ياله من رجل بريء!
كانت آناريتا تحضّر في المطبخ الصغير طعام غدائها الذي جلبته معها، وجلست أنا على الكرسي قبالتها..
ضحكت آناريتا، ثم قالت:
-تصوري.. إنه يخونني، ويغار علي.. يغار كثيراً.
-لا أستغرب ذلك.
-وأنت يا كارمن.. كيف حالك مع بيتر؟!
تجاهلت قصدها وتظاهرت أنني لم أفهم.
-ماذا تقصدين؟
-أقصد أن بيتر هادئ جداً.. هؤلاء الرجال الأوربيون الشماليون.. إنهم مختلفون.
-أجل.. إنهم حقاً مختلفون، وهدوئهم يبعث على الجنون أحياناً!
ضحكت آناريتا مرة أخرى وسألتني:
-ألن تتغدي؟
-لا.. لقد أصابني الأرق، وبقيت مسهدة حتى الرابعة صباحاً، ثم استيقظت تلقائياً الساعة التاسعة والنصف..
أنا لست جائعة الآن.
-لا يستطيع المرء النوم جيداً هنا.
-نعم.. إن المكان ضيق نوعاً ما.. يشعرني بانقباض نفسي.
لم يكن هذا هو السبب الوحيد، أو الأساسي.. فلقد بكيت الليلة الفائتة بما فيه الكفاية..
أريد أن أستريح من عناء التفكير.. أريد أن أعيش أيامي يوماً بيوم؛ ولكني لا أستطيع ذلك..
آناريتا تستطيع:
-أتعرفين يا كارمن.. لقد تعوّدت أن أعيش حياتي يوماً بيوم؛ فظروف مرض ايرين تحتم علي ذلك.. أنت على الأقل استمتعت بأوقات جميلة قبل أن تكتشفي مرض ابنتك؛ ولكن ابنتي مريضة منذ زمن بعيد، وقد تعايشت مع مرضها وقبلت بالأمر الواقع.. فلا جدوى من التفكير في الأحزان.
-معك حق.. الحمد لله أنها لم تعد طريحة الفراش، وأنها لم تعد بحاجة إلى كرسي متحرك.
-أجل.. أجل يا كارمن، لقد أصبحت ليلى في وضع نفسي أفضل.. إنها تتقبل مرضها الآن ولديها قوة الإرادة.. لقد منحتها أنت ذلك عندما جئت إليها في المرة السابقة.
-أجل، لقد أعطيتها مني طاقة كبيرة.. طاقة أتعبتني كثيراً، ولكن النتيجة كانت مثمرة والحمد لله.
-إنها تشعر نوعاً ما أنها في بيتها هنا.. لقد تأقلمت مع الجو وانسجمت مع المشرفات وأقامت علاقات صداقة مع باقي الأولاد.. إنها فتاة ذكية.
التقيت بعد الظهر بالطبيبة لأناقش معها إمكانية سفر ليلى إلى سورية من أجل إجازة قصيرة؛ فأخبرتني أنه من الأفضل الانتظار وتأجيل ذلك لوقت آخر بسبب كذا وكذا وكذا..
وعاد الأرق يزورني في الليل..
نهضت من الفراش حوالي الساعة الثانية، وجلست على المكتب أكتب حتى سمعت صوت الديك ينبهني إلى انبلاج الفجر..
اندسست في الفراش؛ لكن النوم استعصى علي مجدداً، وما إن تسلل أخيراً إلى أجفاني حتى أيقظني منه رنين الهاتف.. كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف، وأنا لم أنم إلا ساعتين، وكانت ليلى على الطرف الآخر؛ فاليوم هو السبت..
اصطحبت ليلى في نزهة طويلة، وعدنا والجو مازال لطيفاً مشمساً منذ أسبوع.. منذ مجيئي إلى هنا..
أما صباح الأحد؛ فقد جلسنا –ليلى وأنا- في غرفة المعيشة بالمركز نشاهد معاً شريط الفيديو الذي سجلته المشرفات.. كان مسجلاً عليه برنامجاً للتلفاز المحلي الرسمي عن المركز ونشاطاته، وكانت ليلى بحق هي البطلة؛ فقد كانت اللقطات، وهي تمتطي الحصان تحتل أكبر مساحة من التصوير..
وأمضينا اليوم كله لوحدنا تقريباً؛ فمعظم الأولاد عند ذويهم في عطلة نهاية الأسبوع.
لم تتغير تصرفات اللامبالاة التي تبديها ليلى تجاه تواجدي معها؛ لكن إحدى المشرفات المعنيات بأمرها مباشرة لاحظت ذلك، وأرادت أن تتحدث إلي في نفس الوقت الذي كنت أنا أنوي فيه لقاءها ومناقشتها عن ذات الموضوع.
إن كل مشرفة في المركز هي بمثابة "أمينة سر" لعدد من الأولاد يلجؤون إليها عندما تعترضهم مشكلة ما، أو يشعرون بحاجة لشخص يمكن الوثوق به والبحث عن حل لهمومهم الصغيرة عنده.
كانت بربارة هي "أمينة سر" ليلى..
جلسنا معا في حديقة المقهى نشرب المرطبات ونتحدث..
أدركت بربارة حجم المشكلة، وتفهمت الإحباط الذي أشعر به كأم، في ذات الوقت الذي أفرح فيه لانشغال ليلى بمختلف النشاطات؛ فاقترحت علي أن تتناول ليلى العشاء معي، وليس مع الأولاد الآخرين –كما جرت العادة- وتبقى الفترة مابين العشاء ووقت النوم مخصصة لنا لوحدنا.
عندما حان وقت العشاء امتعضت ليلى عندما أخبرتها بربارة باقتراحها، ولم تبد حماسة كبيرة بادئ الأمر للذهاب إلي وتناول الطعام معي.. حيث أقيم.
كانت تتذرع كل مرة بسبب ما كي نبقى مع باقي الأولاد، وكنت أطلب منها في كل مرة أن تسأل بربارة إن كانت تسمح بذلك؛ لكن بربارة كانت صارمة في كل مرة.. وأذعنت ليلى للأمر مرغمة!
كنت أحاول قدر الإمكان أن يكون الوقت الذي نمضيه معاً ممتعاً؛ لكنني كنت ألحظ أنها معي، لأنها مجبرة وليس لأنها ترغب حقاً بذلك..
كنت أحياناً أذهب معها لنتمشى في الغابة، ثم نجلس على أحد المقاعد، وأقرأ لها قصة أخذتها معي من المكتبة؛ لكنها لم تكن حقاً تستمتع بذلك، وكثيراً ماكنت أراها شاردة الذهن لا تستمع حقاً لما أقرأه لها.
كان ذلك يحز في نفسي؛ فقد تغيّرت علاقتها بي كثيراً عن المرة السابقة..
كانت لا تطيق فراقي.. تريد أن تراني طوال الوقت.. وكانت مقعدة وبحاجة ماسة لمساعدتي ودعمي المعنوي وتشجيعي..
أما الآن، وبعد التحسن الكبير الذي حصل لها؛ فقد أصبحت لا مبالية، وأصبحت نظراتها باردة.. باردة جداً. يبدو أنها تأقلمت أكثر من اللزوم، وليس باستطاعتي تجنب ذلك طالما أن إقامتها هنا مازالت إلى أجل غير مسمّى، كما أنه ليس بإمكاني البقاء دائماً هنا.
****

النهى 11-05-09 12:31 PM



بعد أسبوع كان لي اجتماع مع الفريق الطبي، والمشرفات، والطبيبة النفسانية والأخصائية الاجتماعية.
ابتسمت، وبادرتهم بالمزاح، وأنا أراهم يشيرون إلي للجلوس على ذاك الكرسي في صدر المجلس، وقد توزعوا على اليمين واليسار، ينتظرون دخولي لأترأس أنا الاجتماع..
إن سمة التواضع فيهم تفرض على المرء احترامهم..
تناقشنا في وضع ليلى الحالي من كافة النواحي وتبين لي أنها مازالت لا تستطيع التركيز رغم كل الجهود والتمارين الخاصة، وأن تصرفاتها مازالت طفولية لا تناسب عمرها، ثم ذهبت في اليوم التالي للقاء المستشارة الغذائية في مكتبها الذي يقع في تلك المدينة الكبيرة، ويبعد مسافة ساعة بالسيارة عن المركز.
ومضت الأيام المتبقية من إقامتي مابين انشغال بليلى واجتماعات بالمعنيين بأمرها وزيارات الأصدقاء.
وحان من جديد موعد السفر..
اليوم الاثنين..
اليوم العشرون من شهر أيلول..
جاءت مارية في الصباح لتقلني إلى المطار..
استأذنت المشرفات لاصطحاب ليلى معي، وجلسنا ننتظر وصولها، والجو ماطر..
لقد استقبلني المطر عند وصولي، فأصابني الاكتئاب.. لكن الشمس ما لبثت أن أشرقت في اليوم التالي، وبقيت مشرقة حتى يوم سفري..
لم يكن وداع ليلى درامياً كالمرة السابقة، فقد قبلتني بسرعة، ثم لوّحت لي بيدها وهي تضحك وأنا أعبر الباب الزجاجي متجهة إلى البوابة..
في الخريف تبادلنا الأدوار من جديد أنا وبيتر.. أعود أنا ليسافر هو..
قبل سفره اتصلت بي مايا لتخبرني عن عمل لي في دمشق..
كانت فرحة بيتر أكبر من فرحتي، فقد أدرك مدى معاناتي وشعوري بالوحدة.. ربما تمنى أيضاً أن يكون في انشغالي بالعمل شفائي منك!
(هل كان لرغبتي في العمل بدمشق سبب آخر؟.. هل كنت أرغب شعورياً بالهرب منك، ولا شعورياً أن أكون قريبة منك!؟).
ذهبت مع مايا للقاء رب العمل.
دخلنا مكتبه الفخم.. الفخم جداً.
نادى على أحدهم بجهاز التحكم عن بعد ليجلب لنا شيئاً نشربه، ثم استرسل بالحديث مع مايا يسألها وتسأله بالتفاصيل عن أمور عائلية جعلتني أشعر بالسأم، وأنا أنتظر أن يسألني أخيراً عن شهاداتي ومؤهلاتي.. عن خبرتي وعملي!
باشرت العمل في اليوم التالي في بناء تمَّ ترميمه حديثاً، وتأثيثه بأثاث خشبي أنيق لا عهد للدوائر الرسمية به!
صحيح أن المركز الذي أعمل به تابع للدولة، ولكن وضعه خاص جداً.
ارتحت جداً للأثاث المريح، والنظافة والنظام، ولإدارة الإعلام حيث سأعمل..
كانت إدارة الإعلام مؤلفة من أربع موظفين فقط:
الأستاذ غسان وعماد والسكرتيرة فريال وأنا.
جو عمل مثالي..
أشعة الشمس التي تسللت عبر النوافذ الواسعة وغمرت المكتب نوراً غمرت قلبي فرحاً بالعمل الذي ينتظرني لأنجزه..
عدت إلى دمشق..
مدينتي التي ولدت فيها وكبرت وعشت أول عشرين سنة من عمري.. عدت إليها وقد تغيرت ملامحها كثيراً. نمت المدينة في عقود قليلة من الزمن نمواً لم تعهده مثيلاتها في قرن كامل!
جفّ نهرها الذي طالما تغنّى به الشعراء، وأصبح مستنقعاً، فاستعاض سكانها عن خريره بنقيق جوقة الضفادع التي تقطن جوفه.
لم تعد النسائم تحمل منه عبق أزاهير تنمو على ضفتيه، بل رائحة كريهة لجثة نهر تتفسخ.. وحدها الأشجار التي نمت على جانبيه ما زالت صامدة حتى تنضب آخر قطرة ماء تمتصها من أعماق تربته التي تجف رويداً رويداً كما جف سطحها.
مات النهر الذي كان منذ زمن ليس بالبعيد يزور أهل المدينة في بيوتهم، جارياً في قنوات تصل بينها..
كانت النسوة يرسلن الفاكهة لبعضهن البعض عبر القنوات، وهن يتنادين من وراء الجدران، والرجال يتوضؤون من مائها، والأطفال يتراشقون بالرذاذ.

كان بردى هبة دمشق..
ومات بردى فلم يبك عليه أحد، ولم يرث لحاله أحد، ولم يحاول إعادة الروح إليه أحد، وكأن موته أمر محتّم وطبيعي.
حرام أن تكبر المدينة وتتغيّر معالمها إلى حد التشوّه.. هذه المدينة التي ولد التاريخ من رحمها.. حرام!
قلت لي، والسيارة تنطلق بنا في تلك الأمسية:
-أنا أكره هذه المدينة.. أشعر دائماً بالانشراح عندما انطلق منها باتجاه القرية، ثم بالانقباض عندما أعود باتجاه دمشق!
نظرت إليك أعاتبك على كرهك العلني لمدينتي:
-لكن دمشق لم تكن كذلك.
-نعم، لم تكن كذلك.. إنهم التجار الذين شوّهوها!
(التجار؟! لقد ازدهرت دمشق منذ أقدم العصور على أيدي تجارها!)
لذت بالصمت.. لأني لم أشأ أن أفسد جو الأمسية الجميل بنقاش قد يطرق أبواباً أخرى!!
لقد سحرت دمشق الروائي هاني الراهب عندما جاء إليها من اللاذقية لأول مرة..
قال في لقاء معه أنها سحرته ببناتها وياسمينها ونظافة شوارعها، واعترف أن دمشق قبل أربعين عاماً هي غير دمشق التي نعرفها اليوم..
وأن سكانها كانوا من أكثر الناس دماثة.. لا يجعلونك واحداً منهم، ولكنهم يرحبون بك، ويحترمون خصوصيتك.. فكيف تكرهها بدل أن تشفق عليها؟
****
القلق هو رفيقي الدائم..
هناك في الغربة، كان القلق يعبث بي في الليالي عندما آوي إلى فراشي… أفكر في السنوات القادمات وأتساءل إن كنت سأمضي عمري الباقي كله في الغربة.
الغربة يحملها المرء معه فور رحيله لتكون زوّادته منذ اللحظة التي تطأ فيها قدمه الأرض الغريبة، وأنا حملت زوادتي معي منذ اللحظة التي وطئت فيها قدمي أرض ذلك المطار الكبير متأبطة ذراع زوجي الأجنبي..

أحببت في بلاد الغربة نظامها ونظافتها، والتزام أهلها بالعمل والمواعيد، وسهر الدولة على راحة مواطنيها.. طبيعتها جميلة.. يهتم الناس بالمحافظة عليها، فلا يشوهوا جمالها بأبنية قبيحة، ولا يرموا فيها قمامتهم.. طبيعة جميلة نظيفة منسقة، لكنها تفتقد إلى الرومانسية.
تلك الرومانسية التي أجدها في طبيعة بلادي رغم الأبنية القبيحة والقمامة واستهتار الناس!
كنت أفتقد الرومانسية في الطبيعة، والدفء في قلوب الناس..
كرهت في بلاد الغربة برودة عواطف أهلها، وتعجرفهم، وضيق أفقهم أحياناً..
مللت من أسئلتهم التقليدية: المرأة والحجاب، المرأة والرجل، الإسلام ومحرماته.. إسرائيل" المسكينة" والعرب المتربصون بها!
أسئلة تتكرر دون أن يتكبدوا عناء البحث عن أجوبتها بأنفسهم، ثم مناقشتي فيها كما أناقشهم أنا في قضاياهم.

أغرب سؤال سمعته كان عندما دعونا مرة لزيارتنا زوجين أتوا حديثاً للسكن بجوارنا.
تبادلنا الأحاديث عن الطقس والأولاد والجيران وأحوال البلدة وغير ذلك من الأحاديث التافهة التي لا مفر منها أحياناً حرصاً على اللباقة، ولعدم إحراج الطرف الآخر إن كانت اهتماماته لا تتعدى هذا المجال المحدود.
ثم.. ومن حيث لا أدري تغيّر فجأة مجرى الحديث، وأصبح "العالم الغريب" الذي جئت منه موضع اهتمام غابي وزوجها مارسيل الذي بادرني بسؤال لا يخطر ربما على بال طفل أن يسأله.. فما بالك برجل تجاوز وقتها الثلاثين من عمره!
سألني مارسيل ببداهة وبلاهة:
-هل تعرفون، وتستعملون فراشي الأسنان؟!
من حسن حظ مارسيل في تلك الأمسية أنني لجأت إلى طريقة العد إلى عشرة المحمودة، ولم أفتح فمي جيداً لأبرهن له على سلامة أسناني، ومعرفتي بفرشاة الأسنان، وبالمسواك أيضاً.. فرشاة أسنان أجدادنا أيام كان أجداد مارسيل لم يكتشفوا الفرشاة بعد، وكان القمل يسرح ويمرح في رؤوسهم!

منذ تلك الأمسية أصبح غابي ومارسيل حذرين في طرح الأسئلة.. ربما لأنهم اكتشفوا بأنفسهم أننا لا نمسح مؤخرتنا بأوراق الشجر!!
(هكذا هم معظم الناس، وليس كلهم.. فأصابع اليد ليست واحدة، ولي من مواطني تلك البلاد أصدقاء متسامحين ومحبين يحلو الحديث معهم)
الشعور بالقلق ملازم دائماً للشعور بالغربة..
كنت أقلق من شيء مجهول يحمله لي المستقبل.. شيء لا أدري كنهه، وكنت في نفس الوقت أخاف… أخاف أن أموت في الغربة، وأدفن في أرض غريبة باردة..
لم يكن الموت بحد ذاته يخيفني أبداً..
أنا لا أخاف الموت، ولا أخاف المجازفة.. لا أخاف السفر ولا أخاف الفأرة التي تخافها النساء!!
(يا لها من مسكينة تلك المخلوقة الضعيفة.. الفأرة!)
عدت إلى الوطن.. إلى أحضانه، لكنني لم أجد فيه الدفء الذي كنت أبحث عنه، وعاد القلق من جديد ليصبح رفيقي.
الشيء المجهول الذي كنت أتوجس أن يحمله لي المستقبل، لم يعد مجهولاً، فقد تجسّم لي القلق ثلاثي الأبعاد..
مرض ابنتي هو عمق القلق.. أهم أبعاده..
أما بيتر وأنت، فطول القلق وعرضه!
كان بيتر يتركني دائماً ويسافر إلى بلده.. حيث عمله.
كنت أتحمل غيابه، فعلاقتنا هي على أي حال من نوع آخر، فأنا أفتقد فيه عقل الصديق، ولا أفتقد جسد الزوج، أو أشواق الحبيب، وكانت ليلى تملأ وقتي وتشغلني بمسؤوليتي تجاهها، وتؤنسني بوجودها.
أما الآن.. فأنا وحيدة حقاً.
وأنت؟..
كيف أحببتك كل هذا الحب؟!
لا أنتظر جواباً منطقياً.. متى كان الحب منطقياً؟!
لقد تسلّقت جبالاً مكللة بالثلوج في سويسرا.
عبرت بالسيارة الغرب الأمريكي حتى المكسيك وأنا في مقتبل العمر وحدي مع جدة تجاوزت الثمانين من العمر!
طرت بالحوّامة فوق بركان ثائر في هاواي دون خوف، وسمعت زمجرة النمر في أدغال ماليزيا، وليس معي سوى سكين لن يمنع النمر من التهامي!
جرّبت قدرتي على تحمل الغثيان في قارب سريع ترفعه الأمواج العاتية ثمانية أمتار، ثم تهوي به في ثوان وسط محيط هائج عند سواحل جزر تاهيتي.
حاول سائق سيارة أجرة في تايوان ابتزازي، ووقف أمامي متحفزاً بطريقة الكونغ فو وهو يصرخ بالصينية لإخافتي، فما كان مني إلاّ أن قلدته الحركة والصراخ فلاذ بالفرار وهو لا يعلم أني لا أفقه من الكاراتيه شيئاً!
وحاول بعض رجال الشرطة تجاوز سيارتي في الأردن بسيارتهم بالقوة، ودون وجه حق، فترجلت من السيارة وتقدمت نحو السائق، وقد انحشرت سيارته في الزحام، لأجذبه من ياقة قميصه، وأنا أهدده ببطاقة سحبتها بسرعة من جيبي، وكأنها بطاقة حصانة دبلوماسية، ثم أعدتها بنفس السرعة كي لا ينتبه، وأنا أقسم أن أخرب بيته، فبدأ يعتذر ويتوسل وهو لا يعلم أن البطاقة كانت مجرد بطاقة اعتماد من البنك!
أول صفعة تلقاها رجل مني كانت منذ أكثر من عشرين عاماً، وكان هو يكبرني بعشرين عاماً..
تجاهلته سنة كاملة رغم أن ظروف العمل كانت تجمعني به معظم الأحيان، ولم أصفح عنه إلا عندما وقف أمامي يبكي كالطفل لأنه لم يعد يحتمل!
(عديدة هي المرات التي تمنيت فيها لو.. ولم أجرؤ لأنك لم تعط انفعالاتي فرصة، ولأنك ذو سطوة ومهابة، ولأني أحبك.. كنت ألمح آثار أصابعي الخمس حمراء على.. خدك.. في مخيلتي فقط!!)
أجل يا عزيزي.. هذه أنا.
لا أروي لك أحداثاً من نسج خيالي، بل أروي لك أحداثاً صحيحة مئة بالمئة، ليست سوى غيض من فيض، والله على ما أقول شهيد، وكذلك بيتر!!
كنت جريئة وشجاعة وخالية البال..
أستعرض أحياناً شريط الماضي في بالي، وكأني أستعرض أحداث فيلم من أفلام المغامرات بطلته ليست أنا.. فأضحك في سري وأنا أفكر أنه لولا الذكريات والصور والوثائق لما صدقت أنني أنا البطلة!
كانت رباطة جأشي، و"آية الكرسي" تكفيني لأنجو من المأزق مهما تكن..

لكن مأزقي معك مختلف.. وقد طال أمده سنة وسنتان..
سنتان لم تنفع فيها "آية الكرسي"، ولا الصلاة، ولا الصوم!


***

النهى 21-05-09 10:26 AM




الشتاء الثاني:
.. ويمطر الشتاء قرنفلاً أحمرا








لا أدري كيف خطرت ببالي فجأة أختك أم ياسر.. قبل أن أرفع السماعة كنت أسأل نفسي: هل أزورها اليوم، أم غداً؟
لكن الصوت في داخلي أجاب: بل اليوم، فقد تسمعين عنه خبرا!
ما إن سلّمت على أم ياسر وجلست حتى رن جرس الهاتف!
لم أعرف من المتحدثة، لكنني عرفت فوراً أنهما يتحدثان عنك.. هي وأم ياسر..
سألتها بلهفة:
-هل هو متوعك..؟
لمحت في عينيها تعجباً أني عرفت فورا.
قالت:
-أجل.. إنها زميلته.. لقد شعر بالدوار، وهو في مدرج الجامعة.
-سأزوره في العيادة لأطمئن عليه.
-أرجوك.. لا تخبريه أننا نعرف.. هو لا يحب أن نعرف كي لا نقلق عليه!
لقد كان بالأمس عاتباً علينا وشكانا لأمه لأننا نهمله، ولكن بالله عليك.. كيف أذهب إلى بيته لأرتبه له؟.. ماذا سيقول عني الجيران أن رأوني؟.. أنهم لا يعرفون أنني أخته!!
عجبت من منطقها الغريب.. ماذا سيقول عنها الجيران حقاً؟!.. يا للسخف.. مجرد حجة واهية كي تتهرّب وأنت.. ما أطيب قلبك!
فحتى ريما التي تدللها، وتجلب لها الهدايا وتأخذها إلى الحفلات استغنت عنك فور زواجها، ولم تعد تزعج نفسها بمرافقتك إلى اللاذقية عندما تنتهي زيارتها لأهلها في دمشق.
تطلب منها أن ترافقك، لكنها تتركك تسافر وحيداً رغم أن وجهتكما واحدة!
عقارب الساعة تتحرك ببطء، وأنا أنتظر أن تحين الساعة السادسة مساء..
أسرعت فرحة .. أحمل إليك قرنفلة حمراء..
قلبي تدحرج إلى قدمي، لكن نبضه يصل حتى رأسي!
سألني حمزة، وأنا أناوله القرنفلة ليسلّمها لك:
-ما الاسم لو سمحت لأقول له؟
-لا عليك.. سيعرف لوحده!
وناديتني..
فأجبت: بعفوية: نعم..
كتلميذة مطيعة جاءت لتزور أستاذها!
ودلفت من الباب، وابتسامتي تسبقني إليك.
وجهك يشع بابتسامة عريضة وأنت تشدني إليك وتقبلني على الوجنتين، فأضغط بلهفة على يدك القوية الدافئة وقد اغرورقت عيناي بالدموع.
أجلس قبالتك مضطربة جداً كعادتي كلما تصالحنا.. صامتة.. فالكلام كله مقروء في عينيّ.
وأنت مضطرب مثلي.. تسألني مرة وثانية وثالثة كيف حالك.
(كيف حالي؟.. مشتاقة إليك.. لم أرك منذ آب.. وقد شارف تشرين الأول على نهايته)
جئت إليك لأتكلم، ولكنني معقودة اللسان دائماً بقربك.. لا أريد إلا أن أتأمل وجهك، ولو بقيت لساعات.. صامتة!
أريد أن أخبرك عن كل متاعبي، ولا أريد..
أريدك أن تستشف ذلك بنفسك، وتسألني وأجيبك على قدر السؤال.. كي لا أتعبك.
وأنت.. أدركت هذه المرة أن عليك أن تسألني..
تسألني، ولكن بحذر كي لا يزل لسانك أيها اللعين!!
****
جاءت سوسن إلي في المكتب عند نهاية الدوام، ففي فندق الميريديان معرضاً لأجهزة الحاسب ومستلزماتها، وقد اتفقنا على زيارته معاً مساء اليوم.
كان من الصعب إخفاء الفرح الذي خلقه لقائي بك البارحة.
كان الفرح يتألق في عينيّ، فبادرتني سوسن ضاحكة:
-الله.. الله.. تبدين فرحة للغاية.
-أجل.. أنا فرحة.. وبهذه المناسبة أدعوك لتناول الغداء في مطعم فاخر تختارينه بنفسك!
كانت الشمس المشرقة دافئة، والطعام لذيذ، والحديث ممتع.. كل شيء كان رائعاً..
جاء النادل بورقة الحساب، فناولته آخر النقود التي كانت في المحفظة!
ثم ذهبت بعد سفر سوسن إلى أمي أستدين منها مبلغاً من المال حتى يوم القبض.. فقد طار باقي الراتب، والحوالة لم تصل من بيتر بعد!!
****
كيف أكره قوتي أمامه، وأحب ضعفي أمامك؟
كيف تذيبني بابتسامة وتحرقني بقبلة ولو على الوجنتين؟!
لتذهب إلى الجحيم كل المشاعر الأخوية.. فليس بإمكاني إنكار القرنفلة!
وأنت.. لم تسألني إن كنت ذاهبة غداً إلى اللاذقية عندما زرتك.
لماذا؟.. لا خوف من رفقتي، فلست مطالباً بمبادلتي نفس المشاعر.
أو لم تقل لي عندما جئتك بالقرنفلة: "زوريني دائماً، فنحن أصحاب وجيران"؟!
جئت إليك يا جاري لأعرف إن كنت تريدني رفيقة سفر.
كان الباب مفتوحاً قليلاً، وصوت المذياع يصل إلى مسامعي، وحمزة ليس في غرفة الانتظار..
قرعت الباب قرعاً خفيفاً ثلاث مرات قبل أن تسمعني وتأذن لي بالدخول..
تسربت إلى أنفي، وأنا أدخل رائحة دخان.. رائحة نارجيلة!
أنت تدخن النارجيلة في العيادة!!
بادرتني مرحباً:
-أهلا.. أهلاً تفضّلي بالجلوس.
أضحك وأسألك عن تدخين النارجيلة، فتضحك..
أنت تجلس في العيادة وحيداً..
تدخن لتنفث مع الدخان همومك التي لا ترغب أن أشاركك فيها..
أنت متحفظ جداً معي في الحديث عن نفسك، وأنا فتحت لك كتابي لتقرأه صفحة.. صفحة.
وتسقط الجمرات.. واحدة، ثم أخرى على الأرض..
تنحني لتبحث عنها، وتلتقطها وتعيدها إلى مكانها شاكياً:
-هذه الجمرات.. لا تتقد جيداً.
-هل أضعها لك على النار في المطبخ؟
-لا تزعجي نفسك.. سيفعل حمزة ذلك.
(هو هنا إذن)
دخل حمزة ثم خرج يحمل معه الجمرات ليشعلها.
تعاود التدخين.. وأنا أتلذذ بصمتي وأتأملك.
وتعاود السؤال عن أحوالي، بحذر هذه المرة أيضاً فأجيبك عن تفاصيل أخرى لا تعرفها.. كعملي مثلاً.
ثم أسألك أنا أيضاً بحذر:
-هل.. أرافقك إلى اللاذقية.. أم أشتري بطاقة السفر؟
-اشتريها، لأني ذاهب إلى بيروت.. مؤتمر طبي!
(قرأت الكذب مرة أخرى في عينيك)..
-يا للمصادفة!!
نظرت إلي نظرة معاتبة لأني أشك بمصداقية كلامك..
يا لبيروت هذه، ومؤتمراتها الطيبة التي لا أسمع عنها في نشرات الأخبار!
مرة أخرى تتخذ من بيروت ذريعة واهية!
كنت على وشك أن أذكرك بتلك المرة الأولى، لكنني آثرت الصمت..
لست بحاجة لتبرر لي شيئاً.. أنت حر.
اذهب إلى "مؤتمرك الطبي" وعد منه، وقد عاد إليك نشاطك..
عد من بيروت رائق المزاج، واطلب ممن يجرون معك العمليات الجراحية في اللاذقية ألا يعكرّوه!!
****
موجات القشعريرة تجتاح جسمي في المكتب..
أشعر بالتعب، ولا رغبة لي بالعمل..
جلست قرب النافذة حيث الشمس، ألتمس منها دفئاً دون جدوى..
انطلقت الحافلة بي إلى اللاذقية بعد انتهاء الدوام، وحالتي الصحية تزداد سوءاً.
توجهت فوراً إلى منزل سوسن القريب وأنا في غاية الإعياء أرتجف من الانفلونزا.
نوبات السعال منعتني من النوم، ومنعت صديقتي المسكينة منه.
أعرف أنك لست ذاهباً هذه المرة أيضاً إلى بيروت.
أعرف أنك ذاهب لوحدك إلى اللاذقية
ندمت جداً أني تسرعت مرة أخرى معك..
ليتني لم أسألك..
المرض يصيبني كل مرة أصاب فيها بخيبة أمل منك.. صغيرة كانت أم كبيرة.
سيحين قريباً شهر رمضان.
سأصوم وأصلي وأطلب من كل قلبي من الله أن يشفيني منك!
(آه.. كم أود ذلك!)
فإن جئت أزورك في العيد، فاعلم أن الله لم يقبل توبتي!
****
سافرت مرة أخرى إلى اللاذقية..
أسافر كل أسبوعين مرة..
اليوم هو اليوم الأول من شهر رمضان، وأنا صائمة..
والبارحة كان عيد ميلاد ليلى.. أول مرة تأتي هذه المناسبة دون أن أشاركها فيها..
اتصلت بليلى اهنئها بعيد ميلادها..
لقد أصبح حديثها أكثر اتزاناً..
أخبرتني بالتفاصيل عن الحفلة التي أقاموها في المركز احتفالاً بعيد ميلادها، وعن صديقتها ايفي، وعن كعكة العيد بكريم البرتقال.
لقد أصبحت تفتقدني، وتتصل بي من حين لآخر من المركز بالبطاقة الالكترونية التي بحوذتها لتخبرني بتفاصيل حياتها اليومية..
اختفت تلك اللامبالاة التي كانت تثير أعصابي وتحزنني.. لقد تغيّرت ليلى حقاً.
تغيّرت نحو الأفضل من الناحية الجسدية، ومن الناحية النفسية أيضاً.
كنت قد اتصلت بسوسن البارحة أدعوها لترافقني إلى القرية، إذ لم أشأ أن أبيت الليلة وحدي.
كانت سوسن بانتظاري عند موقف الحافلة، وعندما لاحظت شحوبي اقترحت علي المبيت عندها فوافقت دون تردد، فقد كنت في غاية التعب.
****
عدت إلى دمشق..
ليست لدي الرغبة في زيارات يومية لأمي، أو أحد أخوتي..
لقد تعودوا على غيابي الدائم، فلم تنشأ بيننا تلك العلاقات الحميمة جداً ..
وكانت لي أفكاري المغايرة لأفكارهم..
فقد جعلني السفر والترحال، منذ أن كنت في الثامنة عشر، أنظر إلى الأمور من منظار مختلف.
وسّع احتكاكي المباشر مع أناس مختلفين من مشارق الأرض ومغاربها آفاقي، وأعطاني دروساً في المحبة والتسامح واحترام إنسانية الآخرين واختلافهم.
جعلني ذلك أيضاً أكثر حساسية في اختيار الأصدقاء.
لم تسنح الفرصة بعد لتكوين صداقات جديدة، هنا في دمشق.. فالأمر يحتاج إلى وقت، وأنا لا أعرف في دمشق أناس أرتاح للجلوس معهم والحديث إليهم سوى نائب السفير هانس وزوجته روزماري، وسكرتيرة السفارة سامية.
أما الآخرون الذين جاؤوا يزوروننا في اللاذقية فقد سافروا جميعاً.
عادوا إلى أوطانهم، أو انتقلوا للعمل في بلاد أخرى بعد أن انتهت مهامهم الدبلوماسية، أو عقود عملهم هنا.

ذهبت وحيدة إلى حفل توديع السفير الذي أنهى هو الآخر مهمته هنا..
جلست بعد انتهاء "مراسم تبادل التحيات" في ركن قصي أرقب الناس في حفلة الكوكتيل الباذخة يأكلون ويشربون ويتحدثون.
لم تكن لدي الرغبة في الأكل ولا في الحديث، فانصرفت بسرعة.
في اللاذقية تعرّفت على سوسن منذ سنوات.
عاش أهلها فترة في ألمانيا، وأمضت هي في سويسرا وقتاً تعلمت فيه الفرنسية في دير للراهبات هناك.
سوسن المتحفظة في عواطفها، وفي تعاملها مع الناس لا تلبث أن تصبح موضعاً للثقة إن نجحت في النفاذ إلى قلبها.. أتبادل معها الكتب نقرأها، والأفكار نناقشها..
أفتح لها قلبي وأبكي أمامها دون حرج، وأعرف أنها ستفهم السبب وتفهمني.
تأتي لتنام عندي عندما أكون وحيدة فيخطر ببالها فجأة، وقد تأخر الوقت، أن تصنع قالباً من الكاتو ننسى ونحن غارقتين في الحديث أننا زدنا معيار السكر فيه قليلاً، أو تشتهي فطائراً أصنعها بسرعة ونلتهمها ساخنة، فنسهر الليل بسببها ونحن نعاني من سوء الهضم!
نضحك ونبكي معاً.. نلعن الدنيا ونسخر منها، ونحن نعرف أنها تلعننا وتسخر منا أيضاً.
أما طارق الطبيب، فهو وأسرته الوحيدين من أهل القرية الذين تجاوزت علاقتي بهم حدود المجاملة والمعرفة السطحية.
يأتي طارق ليسهر عندنا في الصيف، وتمتد السهرة حتى الثانية صباحاً.. ينظر إلى ساعته، وقد تذكرها فجأة، مندهشاً ثم معتذراً أنه نسي الوقت، فأضحك وأقول له:
-أهلاً وسهلاً بك دائماً.. لا بأس علينا نحن إن تأخر الوقت، ولكن عليك أنت أن تستيقظ باكراً للذهاب إلى العيادة.
يتصل طارق دائماً عندما أكون وحيدة ليسألني إن كنت بحاجة لشيء ما، ويستفسر عن حال ليلى.
يدعوني من حين لآخر لتناول الغداء مع أسرته في المنزل، أو مع أصدقائه في المطعم ليبعد عني السأم والكآبة.
يوصلني وحقيبتي بسيارته إلى موقف الحافلة عندما أسافر، أو يترك مرضاه لعشر دقائق، ويأتي إلى الموقف مودعاً إن أوصلني شقيقه بدلاً منه.
عندما نجتمع نحن الثلاثة، يلتزم بيتر الصمت ويكتفي بالاستماع إلى حوارنا وهو يبتسم، ويزعجني ذلك، فأطلب منه أن يشاركنا الحديث، لكنه يقول أنه يستمتع بالاستماع إلينا ونحن نتناقش ونضحك!!
أطلب من كليهما أن يلتقيا عندما أكون مسافرة فلا يفعلان، ويبقى كلا منهما ينتظر عودتي كي نجتمع نحن الثلاثة!
****



النهى 21-05-09 10:29 AM



اليوم هو الرابع عشر من شهر رمضان..
دعتني أم فادي البارحة لتناول الإفطار عندها مساء اليوم، فوافقت..
كنت مشغولة بري النباتات عندما اتصلت بي ريما تدعوني هي أيضاً لتناول الإفطار عندها اليوم…
تدعوني لتناول الطعام في بيت أهلها، وليس في بيتها!
(لماذا لا تدعوني لبيتها؟.. هل أنت مدعو للإفطار في بيت أختك، ومن الممكن أن أراك هناك؟!)
سأحضر إذن طمعاً برؤيتك فقط، وليس رغبة برؤية ريما، أو تذوّق طعام أمها التي لا تجيد الطبخ.
اعتذرت من أم فادي بعذر مقنع مع أني لا أجيد الكذب، وعدوت مسرعة إلى موقف السيارات فقد تأخر الوقت وأوشكت الشمس أن تغيب.
كانت ريما وزوجها يونس وأمها وأخيها ياسر متحلقين حول مائدتين واطئتين غير متساويتين في الحجم أو الطول موضوعتين في غرفة الجلوس قرب التلفاز.
(كم أكره هذه العادة.. التلفاز الذي يرافقنا حتى أثناء تناول الطعام).
أما غرفة الطعام حيث يمكن أن يجلس الإنسان مرتاحاً، فأظن أنها تبقى مجرد ديكور لا يستعملونها أبداً لتناول الطعام.
سألت أم ياسر:
-أين أبا ياسر؟
-لقد ذهب مع أخي إلى بانياس.. إنهم مدعوين لتناول الإفطار هناك!
(يا لحظي العاثر مرة أخرى.. ليتني لم أعتذر لأم فادي وتناولت الإفطار عندها)
كان منظر الملوخية غريباً جداً، فلم أتعرف إليها إلا عندما أومأت أم ياسر أن أضع في صحني بعضاً منها.. كانت في غاية اللزوجة!!
أما الكبَّة اللبنية، فلم يكن منظرها أفضل حالاً، ولا طعمها أيضاً!!
****
مشيت اليوم ساعتين أذرع الطرقات مللاً..
أتخيل أني سألاقيك في منعطف ما، وأقطع المسافات وأنا أنسج في خيالي كل مرة قصة جديدة للقائنا آه.. كم كنت سعيدة وأنا أتوه في شوارع المدن المغربية في آخر رحلة رغبت فيها..
سعيدة بالسير في مدن لا أعرفها من قبل، ولا يعرفني أحد من سكانها.. كما يعرفني الناس في اللاذقية.
في دمشق عدت لمغامرة التسكع في الشوارع، فقد أصبحت دمشق لا تعرفني.
شوارع دمشق مكتظة بالناس الذين أتخموا بطونهم بطعام الإفطار، ثم خرجوا يتدافعون داخلين أو خارجين من المحلات التي تعاود فتح أبوابها حتى منتصف الليل من أجل العيد..
تناهى إلى سمعي في "الطلياني" صوت جرس بيد شاب يهزه لجذب انتباه المارة، فالتفتّ إلى الخلف لأرى صاحب الجرس المتنكر بثياب "بابا نويل" يقف أمام يافطة كتب عليها "سوق خيرية من أجل الأطفال المصابين بالشلل الدماغي بمناسبة شهر رمضان".
"بابا نويل" وشهر رمضان.. هذه هي بلادنا.. مزيج من كل شيء.
دلفت من المدخل أهبط الدرج إلى السوق الخيري، وأجلت نظري في المعروضات.. لم أكن راغبة بشراء الملابس أو الشوكولا، أو مساحيق التجميل.
سحبت من جزداني نقوداً وضعتها في صندوق جمع التبرعات، وتدحرجت من عينيّ دمعات، وأنا أفكر بليلى وأدعو لها بالشفاء.
في الليل حلمت أني أزورك في العيادة، وما إن دخلت مكتبك حتى وجدت طبيباً آخر قد حل محلك!
نظرت إلى الجدار، فلم أجد صورتك التي من المفترض (في الحلم) أنها هناك.. بل صورة الطبيب الجديد!!
أصابني القلق والحزن من أجلك، وسألت الطبيب الآخر عنك، فأجابني إجابة مبهمة.
****
جاري حسام، مدير مكتب الطيران، في الرابعة والخمسين.. وباب شقتي التي استأجرت في دمشق لا يبعد إلا أمتاراً عن مكتبه..
كان بيتر يتردد عليه قبل سفره من أجل التنسيق لعمل سياحي مشترك، وكان هو يتفقد أحوالي بحكم الجيرة وعلاقته بزوجي..
فأنا امرأة وحيدة، والرجل الشرقي يشفق على المرأة الوحيدة.. يراها ضعيفة، ويرى نفسه ولياً لأمرها، فلا يتوانى عن مساعدتها خاصة عندما تكون جارته..
كان يناديني لأرد على الهاتف عندما يتصل بيتر.. إذ ليس في الشقة التي استأجرتها هاتف.
وكنت أتحدث إليه، عندما يلمحني، وأنا أمر يومياً من أمام واجهة المكتب الزجاجية لأدخل شقتي.. حديثاً لا يتعدى حدود تلك العلاقة.

قال لي مرة أن زوجي طيب القلب لدرجة أنه لا يتوقع لـه أن ينجح في العمل هنا، لأن الناس الذين سيتعامل معهم سيستغلون طيبته بالتأكيد.
ودعاني مرة لأزوره في البيت وأتعرّف على زوجته، فأذعنت أخيراً لالحاحه خاصة وأنه سبق لبيتر أن زاره في البيت.. لكن زوجته لم تكن حقاً من النوع الذي أرغب بصداقته، رغم حرصها أن تكون لطيفة معي، فلم تتكرر الزيارة!
لم أرغب أبداً في ذلك الحديث.. لكن حسام بدأ فجأة يحدثني عن زوجته.. عن اهتماماتها التي تنحصر منذ 25 سنة في شؤون المنزل فقط من طبخ وغسيل وتنظيف، وعن شجاعته التي خانته أكثر من مرة، فلم يتركها!!
أدركت عندئذ أنه يجب علي أن ألتزم جانب الحذر، فأصبحت أتجنب الحديث إليه وأكتفي بالتحية. (عجبت كيف يجرؤ أن يبدأ معي حديثاً كهذا، وعلاقتنا لا تتعدى حدود المعرفة السطحية..
أنا فتحت لك قلبي وأخبرتك عن أموري الشخصية، لكن الوضع مختلف، فأنت.. أنت تعلم!)
"الحب أعمى، لكن الزواج يعيد إليه النظر"***
****
قالت لي سوسن على الهاتف:
-لقد مللت.. كل يوم هذا الروتين القاتل.. قولي بالله عليك ما الغاية من وجودنا؟!
قلت لها مازحة في محاولة فاشلة لإزالة الملل:
- أن نأكل ونشرب و..!
- يا لها من حياة!
- المشكلة يا عزيزتي أن ما قد يجده أحدنا غاية لوجوده قد لا يجده الآخر كذلك.. الناس كلها تتذمر، وإن اختلفت الأسباب.
أنت مثلاً لم تتزوجي، ولكنك تتمتعين بكامل حريتك في كنف أسرة منسجمة، وحالك أفضل بكثير ممن هن مثلك، ولكنك غير راضية، لأن ثمة شيء تتوقين إليه وتفتقدينه.. شيئاً لم يتحقق في ذاتك..
وأنا.. عشت في أوروبا، وسافرت في أنحاء الدنيا وتزوجت وأنجبت، ومارست نشاطات كثيرة، ولكنني رغم ذلك لم أكن يوماً راضية تماماً عن نفسي يا سوسن.
-وماذا إذن؟
-ننتظر حتى نرضى عن ذاتنا.. أو نموت دون ذلك.. فهل من اقتراح آخر؟!
-لا!
الوحدة التي هربت بسببها من اللاذقية تبعتني إلى دمشق، وأنا كئيبة حتى البكاء.
أبكي وأتوسل إلى الله.. أرجو منه حلا.. حلا لا يتراءى لي أبداً.
صمت.. وقد قارب الشهر من نهايته.
صلّيت.. ولكني أشرد في صلاتي.
قرأت القرآن، فلم أشعر بالراحة النفسية التي أنشدها.
لم أقرأ في القرآن سوى قصص من سبقونا وتذكير بالإيمان، وأنا مؤمنة..
مؤمنة.. فلم تبخل عليَّ يا رب ببعضٍ من الراحة النفسية فقط؟
أريد فقط أن أكون راضية عن نفسي، ولكنني لست كذلك.
أنا لا أطلب منك مالا ولا جاها ولا مظاهر براقة..
لا أريد تلك الزائفة.. الآتية من المادة..
أريد سعادة تنبع من الروح.. من القلب، فأين أجدها؟!
****
حلمت أنك تزورنا في بيتنا.. بيت أبي، وأبي لا يزال حيا..
كنت مدعواً لتناول الطعام عندنا، وقد تناهى إلى مسمعي صوتك، وأنا في المطبخ أعد الطعام..
كنت أسمع تحادث أبي وأختي، ثم خرجت أنظر إليك وأبادلك بتردد البسمات، وأتأمل وجهك الذي كان يشبه وجه أبي!
ثم أدنو منك وأقبّلك في عنقك، وأسألك: ألم تشتاق لقبلاتي؟!
فتقول: بلى.. وتقبلني على شفتيّ!
استيقظت في ساعة متأخرة على غير عادتي.. ربما لأن الحلم كان جميلاً جداً.
اليوم الجمعة..
أمضيت النهار وأنا أجمع أشيائي في الحقائب والعلب لأنقلها إلى الشقة التي اشتريناها بالتقسيط.
كنت قد دفعت القسط الأول من مال حصلت عليه من لوحاتي التي تركتها هناك وطلبت من بيتر بيعها، ومن المال الذي جنيته من عملي في مجال التصميم الإعلاني، ومما تجود به المجلة عندما يتذكر رئيس التحرير فجأة أن يرسل لي شيكاً!!
أما القسط الثاني، فقد أرسله بيتر متأخراً جداً، ولم أستلمه بعد.. فقد حلّت أيام العطل: عيد الميلاد ورأس السنة. (كنت قد تركت لك عند نديم بطاقة تهنئة بمناسبة العام الجديد.. بطاقة بلا كلمات، فقد أقسمت مرة أخرى ألا أعاود الكتابة إليك).
****
جاء عيد الفطر مع البرق والرعد والمطر..
عدت ليل البارحة من اللاذقية بعد أسبوع إجازة أمضيته في منزلي.
أمضيت العيد للمرة الثالثة.. وحيدة.
أنتهز فرصة العطلة لأكتب..
تحلو لي الكتابة هنا، فأعيد كتابة الخواطر التي تراكمت في دمشق.
أستمع إلى الموسيقى وأكتب.
كانت سوسن تتصل بي لتسألني ماذا أفعل، فأقول لها أنني أكتب، فتتساءل بعجب: ألم تتعبي.. ألم تملّي؟!
****
كان البرد قارساً هذا المساء وأنا قادمة إليك.. مشتاقة إليك
أحمل إليك قرنفلة على الورقة.. دون كلمات.
كانت غرفة الانتظار فارغة
مددت يدي بالورقة إلى حمزة، وجلست أنتظر خروجه، فخرجت أنت بدلاً منه تمد لي يدك مصافحاً..
وجهك حيادي.. لا يعبس ولا يبتسم:
-أهلاً يا كارمن.. تفضّلي بالدخول.
-شكراً.
دخلت وأنا أظن أنك لوحدك.. ولكنك لم تكن لوحدك.
كانت هناك امرأة.
امرأة أنيقة وجميلة تجلس في الركن القصي.
(ارتحت أنها تجلس بعيدة!)
ألقيت عليها السلام، وجلست في المكان المعتاد.. على الكرسي اليساري قرب طاولة المكتب.
كانت فايزة أحمد تغني عبر المذياع: "قالوا لي هان الود عليه.."
(أغنية مناسبة تماماً.. كأنها تغنيها نيابة عني.. خسارة أننا لم نكن لوحدنا!)
بدأت تسألني عن أحوالي وأحوال ليلى، وأنا أسألك عن أحوالك.. والمرأة صامتة.
قلت لي أنك كنت في القرية.. "عندنا".. تزور المختار المريض..
(تزوره، لأنه مريضك، ولا تزورني وأنا مريضتك.. فمرة واحدة تكفي!)
وقفت تبحث بين رفوف الكتب، وتقلّب بين أصابعك كتيبات طبية تضع بعضها على المكتب أمامك. لمحت على المكتب خيوطاً فضية، فأمسكتها.. كانت خصلة صغيرة من شعرك:
-هل تقص شعرك، وتتركه على المكتب؟!
مددت يدك تتلمس شعرك وتتساءل:
-لقد استطال.. أليس كذلك؟!
انصرفت المرأة، ودخل رجلان يستشيرانك على عجل..
لمحت على مكتبك يقطينة صغيرة متطاولة.. ثمة كلمات مكتوبة عليها:
"ستبقى قريباً من الجميع، ولا تقترب من أحد"!
أنت فعلاً كذلك..
كان التوقيع يحمل اسم سوسن، لكنها ليست بالتأكيد سوسن التي أعرفها.
(ما قصة سوسن معك؟.. إن كلماتها لم تأت بالتأكيد من الهواء).
أمسكت باليقطينة أخط عليها:

"أصبحت الكتابة ممنوعة، لكن اللبيب من الإشارة يفهم"!
أعطيتها لك، وقد خرج الرجلان للتو، فوضعت نظارتك أمام عينيك لتقرأها ثم تسألني:
-لماذا ممنوعة؟!
(ما أشد مكرك!.. تشتكي من رسائلي وتجعل منها سبباً لابتعادك عني، ثم تتساءل!
سأعاود بالطبع الكتابة إليك.. سأعاود الإدمان بعد فترة نقاهة قصيرة!).
نهضت أريد الانصراف.. فوجئت بك تجذبني إليك وتقبّلني.. على الشفتين، ثم تعتذر مني لانشغالك!
اتصلت بي ليلى:
-ماما.. كيف حالك؟.. اشتقت إليك.
وبدأت تحدثني وتحدثني.. عن صديقتها ايفي، وإجازة التزلج، والمشرفات وايرين، وكل ما يخطر ببالها التحدث عنه.
كانت نبرات صوتها غير واضحة تماماً، لكنها كانت تحدثني بهدوء وتركيز لنصف ساعة، وعندما سمعت إشارة التنبيه أن الوقت على وشك الانتهاء.. قالت لي:
-ماما.. سأرسل لك في الهواء قبلات حتى ينتهي الوقت!
****
عاود بيتر الاتصال ليستفسر عن وصول النقود التي أرسلها:
-أتعلمين؟.. لقد استدنتها من البنك، لأن والديّ جمدا الحسابات بحجة أنهما قلقين على مستقبلي ومستقبل ليلى!!
-أنت وليلى؟! طبعاً أنا على الهامش بالنسبة إليهم. هل يخشون عليكما مني، ولأن البيت لا يسجّل إلا باسمي؟!.. هذا هو القانون في بلادي، فماذا بإمكاني أن أفعل إن لم يكن يحق لزوجي أو حتى لابنتي التملك فيها.؟! هل نسي والداك أن ليلى ابنتي، وأنني زوجتك التي عاشت معك عشرين سنة بحلوها ومرها، ولم أكن يوماً أنانية؟.. كان مالي الذي أجنيه هو بالطبع مالك، ولم أقتن أبداً ثياباً فاخرة ومجوهرات وأبذّر نقودك وأخرب بيتك.. إن حدث وافترقنا يوماً، فسأبيع فوراً، وأرد لك المال اللعين.. أرميه في وجوههم الصفراء، وأرحل.
-أرجوك يا كارمن.. أعرف ذلك، ويعرفان، ولكنهما هكذا بطبعهما.. أرجوك، لا تنفعلي..
****
عيون المسافرين في الحافلة التي تقلّنا إلى اللاذقية تتابع أحداث فيلم لعادل إمام.. أما عينّي فتتأمل عبر النافذة الغيوم الوردية في سماء زرقاء بعد ليلة عاصفة.
اجتزنا القطيفة، وقد لاحت قمم الجبال المدبّبة على يساري مغطاة بوشاح رقيق من ثلج هطل البارحة.. أفكاري مشتتة..
أتذكر حلم تلك الليلة.. حلمت أني في مستشفى، وقد تهت في الردهات. أرى ليلى وهي ما زالت طفلة تترك عربتها وتمشي، فأركض إليها.
وأتذكرك..
أنت تزورني دائماً في الأحلام لتؤكد لي أن عبثاً أن أهرب منك!
وقد استيقظت صباح اليوم، وفي بالي أطياف حلم أحاول أن أستذكره الآن، وأنا أنظر عبر النافذة:
كنت أزورك، وبعد انصرافي تذكرت أني نسيت شيئاً عندك.. مفاتيح؟
نعم.. مفاتيح..
عدت أدراجي لأستعيدها..
لم تكن أنت موجودا، بل حارساً يعمل عندك وزوجة له!
وفجأة.. رأيت بيتر يجلس مع الحارس يبادله الحديث والمزاح، وقد ارتدى كل منهما زي الآخر!!
سخرت من أحلامي السخيفة، وارتديت ثيابي على عجل، وأسرعت إلى مكتبي، فقد تأخرت في الخروج من البيت اليوم.
هذه أول ليلة أقضيها في هذه الشقة التي اشتريناها في دمشق من أجل أن يباشر بيتر عملا هنا، ومن أجل معالجة ليلى مستقبلاً، ومدرسة لها –ربما- ومن أجلي أيضاً.
ما زال البيت خالياً من المفروشات، سوى فراشاً اسفنجياً موضوعاً على فراشين آخرين كي لا يلامس الأرض الباردة مباشرة.
فراش وطاولة وكراسي بلاستيكية وبضع أدوات وأواني في المطبخ والحمّام.
جلست في غرفة الاستراحة مع زميليّ غسان و عماد نحتسي الشاي وندخن..
كان عماد يحدثنا عن دراسته الجامعية وعن أستاذته الصارمة نضال معلا..
نضال معلا.. زوجتك السابقة!!
كانت دهشتي كبيرة فخرجت تساؤلاً عفوياً من بين شفتيّ:
-نضال معلا؟! كانت أستاذتك؟
-أجل.. الزوجة السابقة للدكتور ".." من عندكم.. من اللاذقية!!
(من "عندنا".. هل أنا دمشقية، أم أنني أصبحت لاذقانية دون أن أدري؟!… أنا أشعر أنني فعلاً في بيتي هناك، وليس هنا).
وتابع عماد:
-إنها متشددة جداً مع الطلاب عندما يتغيبون عن محاضراتها.. لا ترتدي إلا البنطال، ولا تبتسم أبداً هذه المرأة.. إنها مسترجلة!!
ثم سألني فجأة:
-لماذا تطلّقا؟‍
-وما أدراني أنا ؟‍‍!!
أرأيت؟‍.. عبثاً أحاول الهروب منك، فأنت تقتحم أسواري دون قصد منك، ورغماً عني.. تزورني في الحلم، أو يذكّرني دائماً أحد بك.
(ما علاقة حلم الليلة الفائتة بحديث عماد وسؤاله الفجائي هذا الصباح؟‍.. عجباً).
كنت متعبة، واهتزازات الحافلة تهدهدني، فأغلقت عينيّ وغفوت للحظات، وعندما فتحتهما فوجئت بالرجل الجالس بجواري يقرأ بعضاً مما كتبته في الدفتر الذي نسيته مفتوحاً في حضني!
لا بأس.. إنه لا يعرفني ولا يعرفك، ولا يهمني أمره على أي حال.
****



النهى 21-05-09 10:30 AM



أدخلت المفتاح في قفل الباب ودخلت..
أشعر بالحنين إليك يا بيتي في اللاذقية، وببعض الندم لمجيئي إلى دمشق..
أردت أن أشغل نفسي فيها بالعمل نهاراً، وبالثقافة مساء.
فرحت بالحصول على العمل بسهولة، وأفرحني أيضاً قول السيد عبد القادر أن لدي مجال للإبداع في هذا العمل. بدأت العمل مع افتتاح المعرض وفعالياته، وكان العمل ممتعاً.. وفود وأجانب ومناقشات ثقافية ولقاءات صحفية..
وانتهى المعرض، وعدت لأقبع طوال اليوم في المكتب مع الأخبار والترجمة والحاسب.
أين هو هذا الإبداع، وأنا أعرف تماماً ما ينبغي علي عمله كل يوم؟!
مكتب أنيق هو مكتبي، لكن الروتين يعشش فيه، وأنا أكره الروتين.
وجدت نفسي في دمشق وحيدة وبائسة..
أذهب إلى المسرح وحدي، وإلى المعارض وحدي، وإلى حفلات السفارة وحدي..
ما فائدة الثقافة؟!
الأدب.. الفن.. الموسيقى.. أي شيء جميل في الحياة أن لم يشاركك فيه أحد؟!
هل أتناقش مع نفسي في موضوع ذاك الفيلم، أو لوحات ذاك المعرض؟!
عملي الروتيني أصابني بالملل، وأمسياتي الثقافية كئيبة.
كنت أفرح أحياناً بأوقات وحدة قصيرة عندما كانت ليلى لا تزال تذهب إلى المدرسة، ويكون بيتر مسافرا.. لكنني لم أتخيل قط أن تكون الوحدة قاسية إلى هذا الحد.
فرشاتي وألواني والقماشة المشدودة ما زالت في الزاوية تنتظر إنجاز اللوحة التي ما زالت في مكانها منذ أسابيع. لقد أصبحت أفتقد اللاذقية.. أفتقد البحر والحديقة وعصافيرها.
أفتقد الكتابة، والموسيقى الكلاسيكية تصدح في أرجاء البيت.
عندما دعونا بيير، مندوب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سورية، لزيارتنا فرح كثيراً..
كان يريد الهروب من المدينة الكبيرة وضوضائها..
مكث عندنا أسبوعاً، وكنا ننوي أن نأخذه في جولات، لكنه كان يسترخي طوال اليوم في مقعده في الحديقة.. لقد جال في أنحاء سورية، وتعرّف على كل معالمها الطبيعية والأثرية، وكان يعجب من أناس يسألهم عن هذا الموقع أو ذاك فينكرون معرفتهم به رغم أنهم من أهل البلد، ويكتشف أنه يعرف عن بلدهم أكثر مما يعرفوه!!
قال لي مرة:
إن بيتك يا كارمن يصيبني بالخدر.. الحديقة الخضراء، والبحيرة، والعصافير، والأثاث.. أنا استرخي سعيداً قانعاً في هذه الجنة الصغيرة، ولا رغبة لي بنزهات خارجية..
ضحك بيتر وضحكت، وأنا أقول له:
-أهلا وسهلاً بك.. استرخ كما يحلو لك، فالبيت بيتك.
بعد عودته إلى دمشق، اتصل بنا مرة يستأذن في أن يزورنا ثانية، ويعتذر عن "وقاحته".. إن كان في السؤال وقاحة..
رحبنا به طبعاً، واستضفناه لعدة أيام أخرى قبيل سفره إلى تايلندة.
****
كانت القرية تستهويني مذ كنت صغيرة..
أجمل الأيام بالنسبة لي كانت تلك التي قضيناها في أريحا، من نواحي ادلب..
كانت أريحا في ذاك الوقت قرية صغيرة..
وكان الكرز البري الأحمر الداكن الذي يسمونه "الوشنا" ينمو برياً على سفوحها..
كان أبي الأستاذ موفد إليها لعامين دراسيين متتاليين..
وفيها دخلت المدرسة الابتدائية لأدرس الصف الأول والثاني..
كنا نقضي الشتاء فيها، ونعود في الصيف إلى دمشق، حيث جدتي..
شتاء أريحا قارس البرودة، لأنها تستلقي في أحضان جبل الأربعين.
أذكر كيف استيقظت يوماً على صوت أمي تنادينا لنرى ما فعله الصقيع بالحديقة.
كانت الورود الحمراء متفتحة داخل كرات بللورية أبدعها الصقيع.
كان أهل أريحا طيبون جداً وكرماء.. ككل أهل القرى في بلادنا.
وكان الأستاذ في تلك الأيام يحظى باحترام كبير وتقدير..
كانوا ينادوننا بأولاد الأستاذ، ويتنافسون على ارضائنا بحلوى الجبن ومربى الكرز والمكسرات، وبالنزهات نقطف فيها –نحن الأولاد- الكرز لنلوّن أظافرنا بعصير حباته كطلاء مستخدمين بذلك أعواده.. أو نشوي سنابل الحنطة الغضّة ونتلذذ بقضمها كالفئران، وقد تلّطخت شفاهنا بالسواد!
كانت زياراتنا لبيت عمي الذي يقع على تخوم المدينة من أجمل أيام الطفولة أيضاً..
كانت الحقول الخضراء تمتد أمامي وتغريني بمغامرات كانت تبدو لي "عظيمة"!
كنت أستمتع بمطاردة السحليات.. أتأملها تقف على الجدران في أشعة الشمس بلا حراك، فأنقض عليها محاولة الإمساك بها، لكنها كانت تفلت مني بسهولة إلا نادراً..
كنت أطلق عندئذ صيحة الظفر، وأنا أتلذذ بحركتها تدغدغ كفي، وهي تحاول الإفلات..
ولكن مهارتي كانت أفضل في اصطياد الضفادع.. أطاردها بين الأعشاب الطويلة حتى أحظى بواحدة منها، لأطبق عليها أصابعي برفق، ثم أتركها تخرج رأسها وذراعيها من خلال أصابعي.. أتأملها بفرح قبل أن أطلق سراحها.
لم أحاول قط إيذاء أو قتل تلك المخلوقات الضعيفة، وعندما تسببت مرة بموت ضفدعة صغيرة دون قصد، بقيت أياماً أبكيها!
كنت قد ظفرت توا في الحقل القريب من منزل عمي بضفدعة صغيرة خضراء فاقعة اللون.. تماماً، كتلك المرسومة في حكاية الأمير المسحور الذي جعلته إحدى الساحرات ضفدعاً، ولم يبطل مفعول سحرها إلا بتلك القبلة!
لقد سحرتني تلك الحكاية، وكنت أنوي تهريب الضفدعة وجلبها إلى حديقة منزلنا لتسرح هناك وتمرح دون علم أمي التي تكره الحشرات والحيوانات.
فكرت أن أخفيها في علبة كبريت فارغة.. لكن صوت أمي وهي تتقدم نحوي باغتني:
-ماذا تفعلين هناك يا كارمن؟
-لا شيء!
قلت لها، وأنا أخفي بسرعة يدي المطبقة على الضفدعة خلف ظهري.
-إيّاك أن تأتي بضفدعة إلى البيت.
-لن أفعل يا أمي.
عادت أمي أدراجها إلى بيت عمي، وفتحت يدي بسرعة لأطمئن على الضفدعة.. كانت مختنقة.
لقد باغتني حضور أمي، فضغطت يدي على الضفدعة دون قصد مني وقتلتها.
قال لي أبي يوماً، وهو يضحك: "أتمنى يا كارمن أن تتزوجي فلاحاً حتى تستمتعي حقاً بحياة القرية"
لم أدر وقتها إن كان يسخر مني، لكن أمنيته تحققت، ولم أقطن إلا في القرية بعد زواجي رغم أنني لم أتزوج فلاحاً!
كان بيتر أيضاً لا يحبذ السكن في المدينة..
والريف في أوروبا جميل، ولا تنقصه الخدمات العامة ووسائل الراحة، كما أنه متصل بالمدينة بالطرق السريعة والسكك الحديدية التي تعمل منذ الصباح الباكر، وحتى ساعة متأخرة من الليل.
ولذا لم نقطن إلا في القرية.
كان جمع الأعشاب الطبية هو إحدى هواياتي.
أحفظ أسماءها العربية والأجنبية.. أجمعها وأجففها وأخلطها، ثم أضعها في أوعية زجاجية جميلة أهدي بعضها للأصدقاء المقربين.
أشتري زيوتها الطيّارة، وأطبخها مع سكر الفاكهة لأصنع منها سكاكر ضد نزلات البرد في الشتاء.
وكانت ليلى مساعدتي الصغيرة.
تخرج معي إلى البرية، وقد أجلستها على مقعدها الصغير على الدراجة خلفي..
تركض وسلتها في يدها لتجمع فيها أزهار البابونج، وكثيراً ما كانت تخطئ فتجمع معها أزهارا أخرى تشبهها، لكنها كانت تفضّل جمع التوت البري تضع منه في فمها الصغير أكثر مما تضعه في السلة!.
****
بيتي في دمشق قريب في موقعه من وسط المدينة، في حي يعتبر من أقدم، وبالتالي من أعرق أحيائها المأهولة.. حي تقطنه الطبقة الوسطى.. طبقة المثقفين، والعمود الفقري للبلد.. أي بلد.
لكن الطبقة الوسطى بدأت تتقلص في بلادي بشكل مثير للقلق تتبدى مظاهره بوضوح في الشوارع.
يتسع نطاق طبقة الفقراء من متسولين، وجامعي قمامة، وبائعي علكة، وأصحاب "بسطات" تحتل من الأرصفة معظم المساحة.
ونرى أبناء تلك الطبقة التي برزت واغتنت فجأة بوسائلها "الفنية" الخاصة تعبر الشوارع بسرعة بسيارات "الشبح" وتغدق النقود بسخاء في فنادق الخمسة نجوم وما فوق!
تشاء الصدفة أن يكون البيت الذي اشتريته يقع في نفس الحي الذي فيه (أو كانت فيه) تقطن أسرة هيثم الحبيب الأول..
جارنا الذي جاء ليقطن لوحده في حارتنا أيام كنت طالبة في الثانوية، وكان يرميني بزهرات الفل!
بين بيت أهله وبيتي يفصل شارع مواز.. أتساءل إن كانوا ما زالوا يقطنون فيه.. أبوه الطبيب، وأمه، وربما أخوته..
أتساءل ماذا فعلت به الأيام بعد أن تزوج، وبعد أن انتقل من السكن في حارتنا.. وهل سأتعرف عليه إن لمحته بالصدفة في الشارع؟!

عندما جاءت أمي تزورني وتبارك لي في البيت.. قالت:
-ما أغرب الصدف يا ابنتي.. ها أنت تقطنين بالقرب من منزل أهل هيثم، وبالقرب من منزل خال أبيك ياسين.
-الخال ياسين؟!.. حقاً، إن منزله يقع في هذا الحي.. أذكر بيته القديم الجميل، ولكنني لا أذكر بالتحديد موقعه..
-ستستغربي كم هو قريب!
عندما غادرت أمي خرجت إلى الشارع أبحث عن منزل الخال. كان يفصل بينه وبين بيتي بيت واحد فقط!
اتصل بي حسام يتساءل عن انقطاع أخباري، فاتخذت من انشغالي ببعض الأمور عذراً لأتهرب منه، ثم فوجئت به يطلب أن يزورني في بيتي ليشرب فنجان قهوة ويبارك لي بالبيت!
عندما رفعت السماعة وسمعت صوته انتابني شعور مقيت..
أفهمته بصريح العبارة أني لا أرحب بزيارته وأنا وحدي في البيت، فقال:
-لقد تغيرت يا ست كارمن.. لقد ظننت..
وقاطعته:
-ماذا ظننت؟!.. أنا لم أفسح لك المجال أبداً لسوء الفهم.
لقد كنت أبادلك الحديث بحكم علاقتك بزوجي، وأراك كل يوم تقريباً بحكم الجيرة، ونحن لم نعد جيراناً، فهل كنت حقاً تظن أني سآتي لأزورك كل يوم؟!
فلا تذهب بأفكارك بعيداً لأني وحيدة..
ما أغرب أمر الرجال عندنا!
-أنا لست انتهازياً.. أرجو أن لا تسيئي فهمي!
ثم أردف يناقض نفسه:
-سأنتظرك.. ربما..
قاطعته بحدة.. ولم أدر كيف خرجت الكلمات من حلقي:
-ربما ماذا؟!.. ماذا تنتظر؟!
.. ثمة رجل واحد أنتظره فقط.. فإن لم يأت، فأنا لست بحاجة لرجل آخر!
استغربت كيف تفوهت أمامه بهذه الكلمات..
فأنا.. من أنتظر.؟!
لماذا أحببتك أنت بالذات؟
إن كان قدري أن أحب.. فلماذا لم يختر لي كيوبيد واحداً من أولئك الذي يحومون حولي، رغم أني لست جميلة؟!
ترى.. هل يلازمك ذاك الشعور المقيت الذي لازمني وأنا أسمع صوته، عندما ترفع السماعة وتسمع صوتي؟! خفت أن يكون شعورك تجاهي مشابهاً لشعوري تجاهه..
كيف أتصل بك إذن، أو أزورك بعد اليوم؟!
اتصل بي بيتر يخبرني أنه لن يأتي قبل حزيران.. أما ليلى، فمن المحتمل أن يرسلها لوحدها في إجازة لأسابيع. أخبرته عن حسام، ورغبته في زيارتي، فقال لي: "إن زوجته سيئة"!
كان هذا كل ما قاله!
****
جلست في الشرفة، وقد استدرت للشمس أملاً أن تدفأ ظهري..
أفكر فيك في وحدتي، وأتمنى لو تنتزعني منها، ولو بمجرد رنّة هاتف تقول فيها: كيف الحال؟
اليوم الجمعة، وأنا وحدي في دمشق.
هذه أول مرة أتغيب فيها ثلاثة أسابيع عن منزلي في اللاذقية.
متعبة ولا أرغب بالسفر.
وأنت .. هناك.
ماذا تفعل يا ترى؟!
****
أتيت إليك في عيد العشاق، وما أنت بعاشق..
لا أريد أن يكون للعشاق عيدا، فأيامي كلها أعياد إن أحببتني..
لا أريد أن يكون للهدايا مواعيد، فأنا أهديك كل يوم شوقاً جديداً.
هداياي تأتيك من القلب، ولذا أهديتك كلمات وموسيقى وخزفاً مغربياً وبنفسجاً ووردة وقرنفلة.. وقبل ذلك كله أهديتك قلباً.
لن أهديك في العيد شيئاً، ولكن للطفل الذي في داخلك.. لعبة!
أو لم تقل لي يوماً أنك ما زلت تحمل في داخلك طفلاً، وأنك ما زلت تحب الألعاب وتشتريها؟!
فكيف تلومني في يوم آخر على تصرفاتي الطفولية أيها الطفل المغرور المدلّل؟!
بقايا من طفولتنا ما زالت تعيش فينا.. ففي نفسينا بعض من عفويتها، وفي قلبينا طيبتها..
الأرنبة الصغيرة البيضاء ستذكرك بي، ليس لأن اسمي مكتوب عليها، ولكن لأنني لا أحفل بالهدايا تأتي من الجيب. ولأني –ربما- ما زلت أنتظر منك هدية تأتي من القلب.. كهداياي.
دخلت إليك أحمل في يدي المجلة وقصاصة الجريدة.. لقد نشروا الخاطرتين في آن واحد..
اليوم.. في "الفالنتاين" في عيد العشاق.
كنت لوحدك في العيادة تجلس أمام طاولة صغيرة مفروشة بالكتب والدفاتر والأوراق.
لم يمنعك دخولي من التوقف لدقائق عن النظر في مراجعك اللعينة، وتدوين ملاحظاتك بالقلم الأحمر.
سألتني وأنت ما زلت تكتب:
-كيف حالك يا كارمن؟
-لا بأس.
-وكيف حال بيتر؟!
-لا بأس أيضاً
(لماذا تتعمد سؤالي عنه؟.. ألتذكرني أني زوجته وتوقظ فيّ تأنيب الضمير؟!.. كيف يؤنبني ضميري، وهو لا يبالي إن أحببتك ولا إن تحرش بي حسام أو غيره؟!)
وضعت المجلة وقصاصة الجريدة على المكتب:
-اقرأها هذه المرة، ولا تضيّعها!
ثم ناولتك اللعبة.. أمسكت بها تتأملها وتقول:
لطيفة.. Sympathetic
نهضت أود الانصراف:
-أنت مشغول جدا.. لا أريد ازعاجك.
-أنا فعلاً مشغول جداً.. علي أن أنهي هذا الكتاب.. See you later
تعالي بعد عشرة أيام!
حاولت أن أبدو مرحة وأنا أقول لك: See you later alligator
****
لبست البيجامة وتربعت على الأريكة أدخن، وأفكر:
"تعالي بعد عشرة أيام"..
لكن فرحتي بلقائك تقتلها دائماً الخيبة..
لا أريد أن يكون الحوار مقطوعاً بيننا إلا من عبارات المجاملة.
عشرة أيام؟
فلتكن خمسة عشر يوماً.. بل سنة كاملة.
عندما قلت لي أنك حر، وأنك مجنون..
أردت أن أجاريك في جنونك، وفي عنادك..
أبرهن لك أني عنيدة أكثر..
وأتحول كرمى لك من نمرة شرسة إلى قطة وديعة!
أردت أن أكون قطرة ماء تتساقط برفق، ولكن باستمرار على الصخر حتى تترك فيه أثراً.
ولكن؟!
كم من الوقت تحتاجه القطرة؟
ربما تجف القطرة، وربما ينتهي الوقت!
الوقت!!

أراك بعد سنة، لتلمح في وجهي تجعيدة جديدة، وألمح في وجهك مثلها!
سينتظر حسام دون جدوى رغم أني لم أغويه، وسأنتظر أنا دون جدوى رغم أنك أغويتني..
أغويتني، وعندما وقعت في حبك لم تعد تعرف كيف تتخلص مني، ولم أعد أعرف كيف أتخلص منك!
****
حقاً.. لم أعد أعرف كيف سأتخلص منك..
جلست أتابع أخبار الساعة السادسة، فشاهدتك فجأة على الشاشة..
كانت لقطة صغيرة للحظات، ولكن رؤيتك أسعدتني..
كنت تهز رأسك منسجماً مع حديث الطبيب الفرنسي الزائر، وأنا أهز رأسي عجباً من حالتي المجنونة معك!
تذكرت كيف اتصلت بي يوماً، وقد عدت من بيروت لتطلب مني أن أشاهدك على التلفاز..
لم أستطع يومها أن أخفي فرحتي حتى عن بيتر
أنا لا أستطيع أن أخفي انفعالاتي أبداً..
انفعالاتي تفضحني، ومشاعر الفرح أو الحزن أو الغضب تبدو دائماً مقروءة في عينيّ، ولذا لم يصعب عليك يوماً أن تقرأ الحزن في عينيّ.
انفعالاتي تفضحني أيضاً، لأني أكره التملّق والكذب، ولا أجيدهما..
لا أجيد الكذب، ولو كان مجرد كذبة صغيرة بيضاء.. كتلك الكذبة عندما أرادت مايا أن تعرفني على صديقها.
****


النهى 22-05-09 09:29 AM



الربيع الثالث
من حديقتي فاح العبير








اتصل بي بيتر ليطمئن على أحوالي..
أنا كالعادة.. وحيدة وتعسِة..
وهو ما زال كالعادة.. ما زال يعمل مؤقتاً في "شركة العائلة"، وأخوته يريدون التخلص منه بأسرع وقت.
حدّثني مطوّلاً عنهم.. أفرغ شحنته من الكرب فيّ.
حدّثني ثانية عن والديه.. جعل عينيّ تفيض مرة أخرى بالدمع:
-أتعلمين؟!.. أمنيتهم أن نفترق.. أن أبقى هنا، وتبقين هناك..
-يا لـه من حقد أعمى.. ما الذي يجعلهم يكرهونني هكذا؟!.. هل كانت حياتك ستكون أسعد لو أنك تزوجت غيري؟
-إنهم مصابون بعقد نفسية.. وإن حدث وافترقنا، فستكون لنا أسباباً أخرى.
-أعتقد أن علينا أن نفترق يا بيتر.. ها أنت تذكرني ثانية بذلك.
-ماذا تقولين؟!
صدمه قولي، وكأننا لم نتناقش يوماً في هذا الموضوع.
-أعتقد أننا نجلب التعاسة لبعضنا البعض.. انظر لحالنا، ولحال ليلى.
-يا كارمن.. إن ليلى مريضة، ولا دخل لنا بمرضها.. إنه القدر.
-.. ولكن، ربما كان من الخطأ أننا تزوجنا منذ البداية.. ربما ما كان ينبغي لنا أن نفعل ذلك أبداً.
دعنا من هذا الموضوع الآن.. المهم ما تفعله حالياً هناك.. أريدك أن تقف أخيراً على الأرض بقدمين ثابتتين.. أن تجد أخيراً عملاً مجدياً تقوم به.
وأخبرني بيتر عن كل تلك المجالات التي من الممكن أن تفتح أمامه أبوابها: مكتب سياحي مع خاله لتنظيم رحلات إلى سورية.. شركة كومبيوتر.. شركة استيراد وتصدير..
مجالات.. لكنها ما زالت حبراً على ورق.
اتفقت معه أن يحجز لليلى بطاقة سفر يكون موعدها أوائل الشهر القادم.. شهر نيسان.
وأخبرني أن علاجها بالمركز سينتهي في أوائل الخريف، وأن علي أن أبدأ البحث عن طبيب مختص يعنى بها بعد عودتها، ومشرفة اجتماعية متخصصة، لأن ليلى مرهفة الحساسية، وأحتاج إلى مساعدة للتعامل معها!!
****
جلست أفكر بكلام بيتر:
".. إن ليلى مريضة، ولا دخل لنا بمرضها.. إنه "القدر"
أيها القدر.. كم أصبحت أؤمن بك!
كنت أظن أنه بإمكاننا أن نصنع بإرادتنا الكثير، لكنني أدركت فيما بعد أن الإرادة عاجزة أمام القدر، لأن صلاحيتها لا تتعدى تفاصيل الحياة اليومية.
أما الخطوط العريضة.. مفترقات الطرق في حياتنا.. فتصنعها الأقدار.
كان أبي قد ساهم دون أن يدري، في صنع قدري عندما أسماني كارمن إعجاباً منه برائعة جورج بيزيه وتزوجت بيتر لأن القدر أراد ذلك..
في رحلة جامعية مددت يدي مثل الباقين إلى العرّافة لتقرأ كفي..
ضحكت عندما أخبرتني أنني سأسافر وأتزوج أجنبياً وأعيش في الغربة، ولم آخذ كلامها على محمل الجد، ولكنها صدقت ولو أنها كاذبة!
عندما وافقت على الزواج من بيتر، وعدت من بلاده، كانت رسالة من هيثم بانتظاري..
لم أفتح صندوق البريد على غير عادتي، ولم ألتق به.
لو أنني فعلت وقتئذ لما تزوجت بيتر أبداً.
لقد بقي هيثم ينتظر دون جدوى، وبقيت الرسالة تنتظر أن أقرأها، وعندما قرأتها كان الأوان قد فات، وكان هيثم قد ذهب إلى غير رجعة..
كانت تلك الحادثة أشبه بالقصص الخرافية لم أصدقها تماماً عندما رواها لي بيتر، ولكنني صدقتها عندما روتها لي أمه وصادق أبوه على صحة كلامها في "جلسة صفاء" مصطنعة معهم، وأنا لا أزال "عروساً".
كان والده يدخن سجائر تحمل اسم كارمن، وعندما جاء مارية الطلق، وكانت حاملاً ببيتر، كان أبوه يشاهد أوبرا كارمن على الشاشة، ويرجوها أن تنتظر قليلاً ريثما ينتهي العرض!!
(لقد ذهبت إلى كشك بيع السجائر ووجدت حقا سجائر تحمل اسمي، فاشتريت علبة ما زلت احتفظ بها للذكرى.. خاصة وأن تلك العلامة التجارية اختفت فيما بعد من السوق).

عندما عدت إلى الوطن، كانت أول نبتة أزرعها في الحديقة شجيرة ياسمين من أجل ليلى.. كانت تصاب بمرض غريب كلما بدأت نجومها البيضاء تتفتح أوائل الصيف، فأقضي باقي السنة وأنا أداويها دون جدوى.. وقفت مرة أتأملها وأتساءل إن كان قدرها مرتبطاً حقاٌ بقدر ابنتي؟!
احتجت إلى عملية، فدلّوني عليك لأحبك، ومرضت ليلى، فكان لمرضها علاقة باختصاصك!
****
ذهبت أزور روزماري، زوجة هانس نائب السفير.
لقد دعتني لتناول طعام الغداء، وهانس في السفارة لا يأتي عادة إلى البيت من أجل الغداء..
كان أطفالها الثلاثة الوديعين جداً يجذبونني من يدي ويعرضون علي ألعابهم، ويأخذون الحلوى التي جلبتها لهم ليضعوها على المائدة منتظرين تناول طعام الغداء أولا، لأنهم أولاد مطيعين.
أخبرتها عن ليلى، واستشرتها من أجل المشرفة الاجتماعية، فأعطتني رقم هاتف طبيب عائلتها لأستفسر منه. ثم تذكرت فجأة البطاقة فنهضت كي تجلبها لي..
كانت البطاقة بطاقتين.. دعوتين لي لحضور حفل استقبال المستشار الذي تقيمه السفارة في نفس الفندق الضخم الذي تعمل فيه مايا، ودعوة لحفل العشاء الذي يليه.
قالت لي روزماري، وهي تبتسم بود: "يسرنا أن ندعوك كصديقة وكمواطنة وكصحفية".
خرجت من البيت كاملة الأناقة.
كان الجو ماطراً، والريح الباردة تلسع وجهي.
أسرعت أفتح المظلة، وأنا واقفة على حافة الرصيف أنتظر سيارة أجرة لتقلني إلى الفندق.
دخلت مسرعة إلى مكتب مايا، فما زال لدي متسع من الوقت.
ألقيت عليها التحية، وجلست على الكرسي المجاور أمشط شعري الذي عبثت به الريح.
سألتني مازحة:
-كيف هي أخبارك العاطفية؟
-زفت والحمد لله!
-لا تقولي زفت.. بل أسوأ.. أحوالنا كلها".."!
كان المكان مزدحماً بالمدعوين، والوجوه التي لا أعرفها أكثر بكثير من التي أعرفها.
كانت عيناي تختلسان بين فينة وأخرى النظر إلى الباب ترقب كل رأس أشيب يدخل منه!
أفكر فيك؟.. أجل!
أتخيل معجزة صغيرة تحدث في خيالي فقط.
جاء هانس ليوقظني من أحلام اليقظة: "حضرة المستشار يريد التعرف إليك"..
بعد تبادل عبارات المجاملة وقف المستشار بقامته المديدة يلقي كلمته الدبلوماسية المنمقّة.
كان خفيف الظل لا يفوته سرد النكات، والمدعوون يضحكون ويصفقون.
انتهى حفل الاستقبال وانصرف معظم الناس، بينما اتجه الباقون إلى المطعم، حيث العشاء.
كان مكاني محجوزاً على المائدة العاشرة "مدام مايور".
جلست أتبادل ابتسامات المجاملة مع المحامي السوري الشاب الجالس قبالتي، والصحفي الأجنبي إلى يمينه، والمراسل الصحفي الأجنبي إلى يساري، وقد اصطّفت أطباق المقبلات والكؤوس على المائدة الممتدة بيننا.
كرهت مرة أخرى حضوري وحدي، واجتاحتني رغبة بالفرار.
فررت بعينيّ عبر النافذة إلى الفضاء الواسع خارج النافذة.. إلى العتمة التي تلف هذه المدينة القديمة قدم التاريخ.
عانق ناظري الضوء الأخضر المنبعث من مآذن الجامع الأموي ثم ارتد تلقائياً إلى الداخل.
أخبرني حدسي أن ثمة من يراقبني:
كان المحامي الشاب يتأملني، وقد لاح على شفتيه طيف ابتسامة!
كان لطيفاً ومثقفاً يتحدث الانكليزية والفرنسية والألمانية، وسرعان ما انسجمنا نحن الأربعة بحديث شيّق أزال الحديث بعضاً من كآبتي، وأنساني إلى حين همومي، وتأخر الوقت دون أن نشعر به..
عرض علي المحامي أن يوصلني بسيارته، فقبلت عرضه شاكرة، وودعته عند مدخل البناية.

****
كيف بالإمكان أن أنتظر سنة كاملة؟
كيف أحتمل مضي سنة كاملة لا أراك فيها؟!
هراء..
سأراك قريباً، وأستشيرك من أجل ليلى.
لا أريد استشارة طبيب روزماري وهانس.
كان صوتك يتناهى إلى مسمعي، وأنا أصعد الدرج ببطء كي لا يخفق قلبي بشدة.
الباب نصف مفتوح.. دفعته بحذر، والتفتّ يساراً إلى حيث تقف أنت في غرفة الانتظار، وسماعة الهاتف في يدك.
ابتسمت بتردد، وأنا أقترب منك.. أصافحك وأجلس.
كنت لا تزال تتكلم على الهاتف، وأومأت لي بيدك لأدخل المكتب.
في غرفة المكتب كان البرد..
دخلت وأنت ما زلت ترتدي سترتك الجلدية:
-لم يأت حمزة اليوم ويشعل المدفأة.
طلبت مني قداحة وأوقدت ناراً في المدفأة، ثم رفعت من جديد سماعة الهاتف:
-هؤلاء.."الـ..." في المستشفى.. يتحاملون دائماً على الفقراء.. ليتهم يفعلون ذلك مع أحد أبناء المسؤولين أو الأغنياء.
وجاءك الصوت على الطرف الآخر، وتدفق السباب من فمك تنذر وتتوعد وتطلب فوراً من أولئك "الـ.." أن يسمحوا لأهل ذاك الشاب البدوي الفقير بالدخول لزيارة ابنهم.
جلست بقربي تحدثني وتبتسم..
أحدثك وأبتسم..
نتحدث في مواضيع شتى:
-كيف أحوالك يا كارمن؟
-دعك من أحوالي الآن.
-أتريدين شايا؟
-بكل سرور.. إن كان وجودي لا يزعجك.
-لا يزعجني البتة، ولكن إن كنت تريدين شاياً...
-فعلي إعداده بنفسي..
ابتسمت وأنت تهز رأسك إيجاباً.
-لا مانع.. على الأقل أعده كما أحبه، وليس سكراً وماء أصفر ساخناً على طريقة حمزة.. لكن الشاي لا يناسبك. هل أحضر لك فنجاناً من الزهورات.؟
-نعم شكراً.. يمكنك غلي الماء، وسأحضر الزهورات بعد ذلك.
خلعت السترة ووضعتها على الكرسي:
-دخول المطبخ لا يصلح وأنا أرتدي السترة!
دخلت المطبخ..
أبحث عن الإبريق.. الفنجان.. الكأس.. المصفاة.. السكر.. أين السكر؟
لم يبق منه إلا القليل.. وضعته في السكّرية، ولبثت أنتظر الماء حتى يغلي..
تذكرت ذاك اليوم البعيد عندما ذهبت إلى المطبخ لتعد لي القهوة، وتبعتك لأضع ذراعي حول خصرك، وأسند رأسي إلى ظهرك، وأنا أقول لك: أحبك!
استفقت من شرودي على وقع خطوات ظننت للوهلة الأولى أنها خطواتك.. وأنك تتبعني إلى المطبخ لتضع ذراعك حول خصري وتشدني إليك، وتقول لي: أحبك!
لكن الخطوات توقفت، فقد جلس صاحبها ينتظر في غرفة الانتظار.
خرجت من المطبخ وبيدي ظرف الزهورات الذي وجدت علبته على الرف، وقرعت الباب:
-ثمة شخص ينتظر.. هل هذا هو الظرف المطلوب؟
-نعم، شكراً..
ودخل الرجل وعدت إلى المطبخ، ثم إلى المكتب أحمل فنجان الزهورات وكأس الشاي.
مددت الصينية بكأس الشاي أقدمها للرجل.. قريبك:
-تفضل .
-شكراً.
قال وهو يرمقني، وقد ارتسم في عينيه أكثر من تساؤل.. لاحظت أنت ذلك، فبادرته قائلاً:
-إنها ليست سكرتيرة.. إنها أميرة تفضلت بإعداد شيئاً نشربه
-شكراً.. شكراً جزيلاً لك.. نحن فلاحون وبسيطون!
نظرت إليه أعجب من ارتباكه:
-أهلاً بك.. ولو!!
-أين شايك؟!
سألتني مستغرباً، فأجبتك أني سأجلبه من المطبخ.. لم يكن ثمة شاي أجلبه، فقد أعددت فقط فنجاناً واحداً، وكأساً واحدة!
جلست صامتة أقلّب المجلات الموضوعة أمامي، وقريبك يتحدث ويتحدث، وأنت تومئ برأسك وتجيب باقتضاب.. تنظر في كرّاسات طلابك التي أمامك.. تقلّب صفحاتها لتقرأها وتكتب ملاحظاتك عليها.
وعدت تسألني:
-أين شايك؟!
ابتسمت وأنا أضغط بأسناني على شفتي وأجيبك:
-.. لقد شربته في المطبخ!
فهمت إشارتي وضحكت، وأنت تقول:
-حقاً.. كل شيء في الدنيا قسمة ونصيب.
كان قريبك ينقل ناظريه بيننا بفضول أكثر، ثم يسأل:
-لم تعرّفنا بالأميرة!
-السيدة كارمن مارديني.. صحفية، ومثقفة.. السيد ".." مخرج سينمائي، ومثقف!
لم يعلق اسمه بذاكرتي، خاصة وأني لم أسمع به من قبل.
كنت عنه ساهمة أتساءل عن اللحظة التي سينصرف فيها!
حانت أخيراً تلك اللحظة، وخرجت معه تودعه عند الباب، وما إن خرج حتى زعق الهاتف، وبقيت أنت في غرفة الانتظار لترد عليه..
بحثت بناظري عن اللعبة.. هديتي لك في عيد الحب، فوجدتها مستلقية على طاولة المكتب..
****
أجلست الأرنبة، وأنا أتساءل عن المجلة..
ها هي على المنضدة الصغيرة، وقصاصة الجريدة في داخلها..
-هل قرأت المجلة؟
بادرتك بالسؤال، وأنت تدخل.
-ليس بعد!!
-إنها مجرد صفحة لن تأخذ من وقتك كثيراً.. كتبتها عنك!
-....
(كان صمتك هو الدليل أنك قرأتها!)
عدت تجلس بجانبي.. قلت لك:
شكراً على الشاي الذي لم أشربه!
-لقد أزعجني ذلك حقاً.. إن هذا الرجل ثقيل الدم!
ما زلت ترتدي السترة..
دسست يديك في جيبك..
وددت لو أسحب يديك لأدفئها بيدي الباردتين، أو أدفئ يديّ بهما!.. لكنني لم أجرؤ.
-أما زلت تشعر بالبرد؟
-نعم.. وبالتعب أيضاً.. لقد عدت اليوم من اللاذقية، وليس البارحة.
وقفت أريد الانصراف:
-سأزور أم ياسر لأطمئن على ساقها المكسورة.
-دعك من تلك الزيارات!
-ليست لدي حقاً الرغبة بذلك، ولكن ريما أحرجتني عندما اتصلت تستفسر عن انقطاع أخباري، وتخبرني عن أمها.
-إلى اللقاء إذن.. Bon nuit
-إلى اللقاء.. سآتيك بليلى كما اتفقنا لتراها ونرى ما يمكن أن نفعله من أجلها.
-طبعاً.. طبعاً..
جلست في السيارة أفكر في اقتراحك..
تريد أن تشرف على ليلى ابنة أخيك الطبيبة ديمة.
لو لم تكن تريدني أن أكون قريبة لكنت أشرت إلى أي طبيب أو طبيبة أخرى تعرفها ولا تمت لك بصلة القربى. ارتحت لهذا التفسير.. لهذا "الوهم"!
كغريق يتعلق بقشة، ويتمنى أن تتحول إلى خشبة!
وتبقى القشة أفضل من لا شيء.. جذوة أمل صغيرة!!
استقبلتني ريما كالعادة بابتسامة وقبلة واحتجاج على تأخري..
سلّمت على أمها وأبيها، والضيف الذي كان هناك..
لقد كان والد ديمة.. يا للصدفة!
تفاءلت خيرا بوجوده.
استأذن الرجلان، وانصرفا
تأملتني ريما، وقالت تخاطب أمها:
-انظري يا أمي.. كم يبدو وجه كارمن أبيضا مشرقا!
-إنه الشتاء.. يعيد بشرتي بيضاء اللون
-لكن وجهك مشرق جداً!
لم أحر جواباً، وابتسمت وأنا أقول في سري:
إنه الحب يا كارمن يا مجنونة! وليس الشتاء يا ريما يا مغفلة!!
****
شكراً على ابتسامتك..
شكراً على الحوار اللطيف..
شكراً على فرح أهديته لي البارحة..
عادت عفوية أيام تعارفنا الأولى، وارتويت دون أن أشرب شايا!
ليت حمزة يغيب كل يوم، وليتك تفتقدني، فآتيك كل مساء لأعد لك فنجاناً من الزهورات، وأتحدث معك في الفن، في السياسة، في الأدب.. في أي موضوع تشاء.
ربما أتواطأ في المرة القادمة مع عمال الهاتف ليقطعوا لك الخط في يوم معيّن أزورك فيه، وأكتب خلسة على باب العيادة كلمة "مسافر" لأمنع عنك زيارة ثقيل يشرب الشاي بدلاً مني!
****
تأخر الوقت وأنا منهمكة بإنهاء اللوحة.. أضع خطا هنا، وأضيف لوناً هناك.
التلفاز يثرثر..
مجرد صوت يؤنس وحدتي..
أخبار الساعة الواحدة والنصف صباحاً تذكرني أن اليوم الذي بدأت ساعاته الأولى هو يوم عطلة!
كيف فاتني ذلك، وأنا على وشك الذهاب إلى الفراش أفكر بالاستيقاظ باكراً من أجل الدوام؟!
يوم عطلة آخر مقيت أقضيه وحدي في البيت.. لماذا لم أتذكره قبل أن يتأخر الوقت؟ كان بإمكاني الاتصال بروزماري ودعوتها للغداء..
أطبخ لها ورق الملفوف على الطريقة السورية كما وعدتها.. أكلة "يخنة"!
اتصلت بها في العاشرة أدعوها للغداء، فاعتذرت لارتباطها بموعد غداء آخر، واعتذرت أنه فاتني أن اليوم عطلة، ولم أتصل بها قبل الآن.
قالت لي:
-لقد فكرت أنا أيضاً بك البارحة، وأردت اليوم أن اتصل بك لأرى إن كان بإمكاني زيارتك بعد الظهر.
اتفقنا أن نلتقي عند مدخل المشفى الإيطالي القريب من البيت، فروزماري تزورني فيه لأول مرة.
ثم خرجت بسرعة إلى السوق لأشتري بيضاً وطحيناً، وأصنع أول قالب كاتو في فرن البيت الجديد!
عندما عدت رن جرس الهاتف.. إنه بيتر:
-ألو كارمن؟.. لماذا أنت بالبيت؟
-لأن اليوم عطلة.. وأنت؟.. كيف خطر ببالك أني بالبيت؟!
-لا أدري.. طلبت الرقم.. هكذا.. كيف حالك اليوم؟
-كالعادة.. ولذا دعوت روزماري لزيارتي.
-أرجوك يا كارمن لا تكوني تعيسة.. تعالي إلى هنا..
-ماذا تقول؟.. كيف؟!.. ألا تعرف أن ذلك أصبح صعباً جداً؟.. لم يعد لنا بيت في بلادك، وأنت عند أهلك، وبالكاد تستطيع ترتيب أوضاعك، فتصور لو أنني أتيت أيضاً!
-لكن وضعنا هكذا ليس حلا.
-طبعاً ليس حلا.
-الطلاق هو الحل الوحيد إذن.. لا أريدك أن تكوني تعيسة بسببي!
-ولكن!..
-أنا سأبقى هنا، وسأعتني بليلى، فلا جدوى من إرسالها إلى سورية!!
-ماذا عن البيت الذي اشتريناه في دمشق؟!.. ماذا عن عملك فيها؟!
-بإمكانك أن تزورينا، وبإمكانك بيع البيت، وأنا لم يعد يهمني أن أعمل في سورية!
-ما الذي حدث إذن وجعلك تغيّر رأيك هكذا؟.. لقد صدمتك فكرة الطلاق في مكالمتنا السابقة، وأنت تطرحها الآن!
اسمعني جيداً يا بيتر.. أنا لا ألومك، ولكنك أنت من قرر الاستقرار في سورية، وأنت من أكّد لي أن الأمور ستكون على ما يرام بالنسبة لأهلك وعملك وأنه ليس من مبرر لقلقي بهذا الشأن.
ألم نقرر أيضاً معاً شراء البيت في دمشق من أجلك، ومن أجل ليلى؟!
هل تدرك الآن أن حدسي كان دائماً في محله وأن قلقي ومخاوفي لها دائماً ما يبررها؟!!
-سأذهب إلى الطبيبة النفسية قبل أن أرتكب جريمة بحقه!
-هم والديك إذن!
أجهشت بالبكاء.. وصل نحيبي إلى بيتر:
-أرجوك.. لا تبك!
-..
-سأرسل لك قريباً نقوداً.. دفعة أخرى من أجل البيت..
شعرت بالغثيان:
-لا أريد نقوداً.. سأبيع البيت وأرسل لك ثمنه.
-لا أريد ثمنه.. ليس عليك أن تبيعيه من أجلي.
ذهبت إلى المطبخ..
أفش خلقي بالبيض أخفقه بشدة، وأنا أبكي:
لماذا لا يكبر بيتر يا ربي ويصبح رجلاً، ويريحني؟!
لماذا لا تسمعني يا ربي وتريحني؟!
أنا لا أطلب منك معجزات.. أصلي لك وأصوم ولا أؤذي أحداً.
فما الفائدة؟!
لن أصلي لك بعد اليوم، ولن أصوم..
أنا لم أعد أؤمن بك أيها الرب!!
حاولت بصعوبة إخفاء متاعبي عن روزماري.. انفعالاتي تفضحني كالعادة.
عندما سألتني، أخبرتها عن بعضها فقط.. عما تعرفه من قبل..
عن أهله العنصريين!
ورن الهاتف من جديد..
قالت روزماري:
-ربما كان بيتر يتصل من جديد
كان بيتر:

-ألو؟.. ليس معي وقت.. أنا أتكلم من كشك بالشارع.. أريدك أن تعرفي أني سأرسل غداً مبلغاً كبيراً!!
-من أين حصلت عليه؟.. من أهلك؟!
-بيب.. بيب!
انقطع الخط دون أن أستطيع تبليغ تحيات روزماري له، ودون أن أسمع حتى جوابه على سؤالي!
-خيراً!
تساءلت روزماري..
-.. سيرسل نقوداً، ولم أستطع أن أعرف مصدرها، فقد انقطع الخط..
-ربما سطا على أحد البنوك!
ضحكت مع روزماري للنكتة، ثم خرجنا معاً إلى بوابة الصالحية.
عدت إلى البيت..
أفكر بما قلناه أنا وبيتر، صباح اليوم..
عندما طرحت في لحظة يأس على بيتر فكرة الطلاق صدمته.
وعندما طرح عليّ نفس الفكرة في لحظة مماثلة صدمني..
كيف يمكن إلغاء عشرين سنة من حياة مشتركة بكلمة واحدة؟!
الطلاق يكون حلاً.. يكون فرحاً، عندما يحيل أحد الشريكين، أو كليهما، حياة الآخر جحيماً.
أما بالنسبة لنا، فالأمر مختلف.. إنه مؤلم ومحزن..
يسهل علينا اتخاذ القرار لأنه عبر الهاتف.. دون أن ينظر أحدنا في عيني الآخر، فلا تحرجه نظراته، ولا يرى عبراته!
اتصلت بأمي.. أخبرها عن بيتر، وأنا أحاول أن أبدو رابطة الجأش، لكن شجاعتي خانتني، وسمعتني أمي أبكي:
-.. لقد كفرت بربي يا أمي.. قلت له أني لن أصلي وأصوم بعد اليوم!
-إياك يا ابنتي أن تكفري بربك.. أنسيت كم مرة أنجاك فيها في اللحظة الأخيرة، وأرسل لك الحل المناسب، لأنك طيبة القلب يا ابنتي، ولست أنانية، ولا تؤذي أحداً.
-…
-كفي عن البكاء.. لقد كنت على وشك الدخول إلى الحمام، ولكن..
-دعك من الحمام، وتعالي.
ما إن وضعت السماعة في مكانها، حتى رن الهاتف.. كان بيتر من جديد:
-.. لقد حصلت على نقود من والديّ!
-يا للمفاجأة.. كيف حصل ذلك؟!
-لقد غضبا مني لأني أخذت قرضاً من البنك، وأعطوني المبلغ!
-ما أغرب أطوارهما.. جمّدا الحسابات، وهما يعرفان أننا مرتبطين بعقد بيع.. أجبراك على أخذ قرض لأول مرة في حياتك، ثم غضبا منك.. يا لها من علاقة رهيبة.. هذه العلاقة التي تربطك بوالديك!!
-دعك منهما الآن.. واهدئي نفساً، وافرحي بقدوم ليلى.
-معك حق.. وأنت أيضاً أهدأ نفساً، وعش حياتك كما تحلو لك دون أن يساورك تجاهي أي شعور بالذنب. ضحك بيتر، وسألني:
-ماذا تعنين؟!
-أريدك أن تحب يا بيتر. ليتك تحب!
عندئذ فقط سيسهل عليك أن تتحرر مني!
وضحكنا معاً..
أجل..
لن يفرّق بيننا إلا الحب!
هكذا اتفقنا في يوم الاعتراف..
سنفترق فقط عندما يقع أحدنا في حب يكون متبادلاً، وليس من طرف واحد.
عندئذ يمكن لأحدنا أن يتمنى للآخر السعادة في حياته الجديدة..
فليس لدينا حقا من سبب آخر وجيه يدعونا للطلاق!
حضرت أمي..
كانت تتوقع أن ترى على وجهي تعبيراً مأسوياً..
لحظت في وجهها استغرابها فبادرتها:
-لقد اتصل بيتر من جديد..
-أرأيت؟.. إنه لن يستغني عنك، والله أيضاً!
-الحمد لله.
-لا تبك ثانية على الهاتف وتثيري هلعي.. أفهمت؟!
قالت لي أمي ضاحكة.
عاود الهاتف رنينه..
إنه بيتر للمرة الرابعة اليوم:
-لن تصدقي يا كارمن.. ما الذي جرى بعد أن كلمتك على الهاتف..
-ما الذي جرى؟!
-جاءتني ثلاث مكالمات هاتفية هامة في آن واحد.. ثلاثة ردود إيجابية بشأن العمل، من خالي، ومن شركة الكومبيوتر، ومن شركة الاستيراد والتصدير..
أخبرني بيتر بالتفصيل، وأخبرت أمي بالمختصر المفيد..
-ألم أقل لك يا ابنتي أن الله لن يستغني عنك؟
قالت لي أمي، وعادت إلى بيتها.
*****

النهى 22-05-09 09:31 AM



اليوم قدّمت استقالتي من العمل..
مللت من الروتين..
مللت من الأحاديث التي أصبحت سخيفة جداً ومبتذلة منذ أن جاءت تلك البدينة إلى استراحتنا!
كنا نجتمع في الاستراحة نحن الأربعة.. غسان، وعماد، وفريال وأنا..
نتحدث ونمزح ضمن حدود المعقول وينتهي الأمر.
لكن الصبية فريال لم تكن حقاً تهتم لحديث الأدب أو السياسة التي كنا نتداوله، فأرادت أن تكون استراحتها مع الصبايا الأخريات، ووافق المدير على طلبها، لكنه أرسل لنا بدلاً منها مها المسؤولة عن البريد، والتي لم يكن أحد من الصبايا يرغب بمجالستها.
كانت مها التي تبلغ الثانية والعشرين تبدو أكبر من سنها بكثير، والسبب لم يكن في بدانتها وحسب.. بل في تلك الوقاحة في عينيها..
شعرها مصبوغ بلون أصفر، وأظافرها المطلية معقوفة لطولها، وعلى وجهها مساحيق تجميل سمكها سنتيمتر!! (من أين جاؤوا بها، والباقي من الموظفين قد تم اختيارهم اختياراً مدروساً؟!).
أصبحت مها هي محور الحديث.. كانت تتكلم معظم الوقت، وأصبحت الأحاديث تبدأ بجوارب النايلون التي ترتديها، مروراً بأحمر الشفاه والأكلات التي تحبها وانتهاء بآخر أخبارها العاطفية!
كنت أكتفي بابتسامة المجاملة والصمت، وأحتسي الشاي على عجل وأخرج قبل أن يصيبني الصداع، وكان الرجلان يجاريانها في الحديث، وقد سال لعابهما لأحاديثها الشيَّقة.. ثم يعودان إلى المكتب ليسخرا منها!
سألتهما:
-لماذا تجاريانها في الحديث، وأنتما تدركان سخافته.. لم لا تلتزما الصمت لتدرك هي ذلك؟!
أجابني عماد:
-إننا نتسلى!!
كانت ساعات العمل تسير على هذه الوتيرة يوماً بعد يوم، وأنا أعلل نفسي بالصبر حتى قدوم ليلى..
وأفكر أن تقدم بعد أيام بطلب إجازة بلا راتب كي أعطي ليلى كل ما لدي من وقت.
حتى جاء ذلك السبب الذي جعلني أحسم أمري بسرعة.
دخلت فريال تخبرنا أن البريد حمل إلينا رسالة من المدير العام.. قرار بنقل إدارتنا وحدها إلى الضاحية، حيث المطابع كي يتسنى لنا الإشراف المباشر على الطباعة!!
صدمنا الخبر، وتساءلنا: لماذا؟!
قلت لفريال، وقد أصبحنا لوحدنا:
-لم يعد ضرورياً ذهابنا في مهمات لمراقبة الإخراج، وماكيت كل عدد يصلنا بسرعة لنشرف عليه الإشراف النهائي.. فلماذا قرار النقل؟
-أنت محقة إن كنت تتحدثين عن عملك، فقد جلبوا لك كل ما طلبته من مستلزمات، ولم تعودي بحاجة للذهاب في مهمات، ولكن عماد كان يستغل فرصة خروجه في مهمة لينهي مهماته الخاصة، وما زال!
-هكذا إذن، وأنا كنت أستغني عن الاستراحة عندما أخرج في مهمة كي أنجز العمل بنفس اليوم ولا أضطر لتأجيله وتأخيره، ثم أعود للمنزل وعيناي تؤلماني من كثرة التدقيق.
دخل غسان ونحن نتحدث، فبادرته فريال بالسؤال:
-وأنت؟.. هل كنت تعرف بقرار نقلنا عندما ذهبت البارحة إلى المدير العام وأبلغك قرار نقلك إلى إدارة أخرى غير إدارة الإعلام؟
-نعم.. كنت أعرف، ولكنه أوصاني أن لا أخبر أحداً منكم !
-هكذا إذن.. ونحن جئنا إليك نعبر لك عن حزننا لفراقك.
دخلت مها غرفة الاستراحة متهللة الوجه وناولت غسان قرار نقله:

-مبروك.. أصبحت معاون مدير.
ثم التفتت إلى عماد:
-وأنتم قد تم نقلكم والحمد لله!
-الله يسامحك.. أتشمتين بنا، وتفرحين لأن "الفرافير" انتقلوا؟!
ضحكت مها وهي تجيب:
-أجل!!
عندئذ خرجت عن صمتي أصب جام غضبي على هذا "الفرفور" وهذه "الغانية"، وأخرج فوراً لأقدم استقالتي إلى المدير العام.
هرعت إلي مديرة الإعلام تسألني:
-ومن سيشرف على الأخبار الانكليزية والفرنسية؟.. أنا بحاجة إليك.
ثم طلبني مدير المقر.. يريد التحدث إلي:
-هل صحيح أنك رفعت طلب استقالتك إلى المدير العام؟.. أرجو أن لا يكون السبب هو مها.. لقد استدعيتها إلى مكتبي ووبختها.
-طبعاً لا.. أنا في الحقيقة لم أعتد على الروتين في عملي.. لم أعتد على العمل في دائرة رسمية.
كنت أعتقد أن العمل هنا سيختلف عما هو عليه في الدوائر الأخرى، وفرحت بالمكاتب الأنيقة والنظام.. لكن ذلك وحده لا يكفي.
ثم جاء قرار النقل التعسفي ليقصم ظهر البعير.. لا أريد أن أتنقل كل يوم للعمل في ذلك المجمّع الضخم، خاصة وأن ابنتي ستأتي قريباً في إجازة.. لقد كنت أنوي تقديم إجازة بلا راتب، ولكن لم يعد هناك من داعي!!
-ومع ذلك أنصحك أن تتريثي.. انتظري على الأقل لما بعد إجازة العيد.. وعسى أن تغيّري رأيك..
-سأرى.. شكرا لك أستاذ سعيد.
طلبت إذن مغادرة، وذهبت إلى السفارة لأستلم الحوالة التي أرسلها بيتر..
قالت لي سامية:
-تبدين شاحبة الوجه.
-لقد قدمت استقالتي..
وأخبرتها..
-لا تهتمي للأمر.. سيعرفون قيمتك ويندمون..
ساعة الخروج تلك منحتني طاقة وفرحا وشعوراً بالراحة والحرية.
توقفت عند المكتبة لأشتري كتاباً أقرأه في الحافلة غداً، ثم قفزت إلى ناصية الشارع، وأنا أنفخ العلكة بالونا غير عابئة بالمارة!
****
دلفت عبر الحديقة، وقد فاح عبق البنفسج في هذه الأمسية الدافئة من آذار.
سيمضي العيد الرابع وأنا وحيدة.
تمددت في فراشي سعيدة بالعودة إلى بيتي.
إلى حديقتي وكتاباتي و.. لوحاتي.
لما لا أمارس الرسم من جديد؟
لقد أصبح الرسم في السنوات الأخيرة مجرد لوحة في السنة أهديها لأحد ما في مناسبة ما!
سأعتني بحديقتي التي طال اهمالي لها، وسأفتح نوافذ بيتي من جديد للشمس..
لشمس تدفئ قلبي، وتبعث في روحي أملاً جديد، وكل شيء سيكون على ما يرام.
استيقظت فجأة في الليل وأنا أشعر بالبرد..
مددت فوقي غطاء إضافياً، ولبست جواربي فلم يذهب البرد عني.
ثم جاء ذلك الألم في البطن، وارتفعت حرارتي.. إنه الغثيان..
أسرعت إلى الحمام، ومضى باقي الليل وأنا أهرع ما بين الحمام والسرير.
اتصلت بي أمي.. كنت منهكة وأنا أحدثها على الهاتف عصر اليوم التالي:
-لقد أصابك المرض بسبب تلك الاستقالة اللعينة.. هكذا أنت.. شديدة الحساسية.. تمرضين كلما شعرت بالحزن الشديد أو الانزعاج.
-ورغم ذلك أنا سعيدة يا أمي أنني عدت لبيتي وأشيائي التي أحبها.. ستأتي ليلى قريباً، وسيكون كل شيء على ما يرام.
-فليقدم الله لك ما فيه الخير.
جاء المساء.. جاء وقت الكتابة.
أسدلت الستارة، ومددت أصابعي بين الأسطوانات أبحث عن موسيقى أستمع إليها.
سحبت أسطوانتي..
أريد الاستماع إليها، وقد شارفت روايتي على نهايتها.
انسابت الألحان من "كارمن"، وانسابت أصابعي معها تكتب.
تكتب، وتكتب..
تناهى إلى سمعي فجأة زقزقة عصافير!
لماذا تزقزق في هذا الوقت؟!
في هذا الوقت؟!! كم الساعة الآن؟
ساعة المكتب متوقفة، فقد انتهى مفعول بطاريتها.
خرجت من الغرفة أبحث عن ساعة أخرى.
فاجأني النور!
لقد انبلج الفجر، والساعة تشير إلى السادسة إلا ربعاً!!
قضيت إذن الليل كله أكتب..
وقد جاء الصباح، وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
انتهت روايتي يا شهريار!
شهرزاد الحكايا كانت تحكي حكاياها مخافة الموت..
شهرزاد حوّلت شهريار من قاتل يكره إلى رجل يحب!
وأنا لم أحك في ألف ليلة وليلة سوى حكاية واحدة!
أنا لا أخاف الموت، وما أنت بقاتل يكره!
أنت فقط.. رجل لا يحب!
يا شهرياري..
جاء الربيع الثالث، وفاح عبق البنفسج..
وقريباً ستتفتح براعم القرنفل الأحمر، وأنا أحبك.
سيأتي الصيف الثالث، والخريف الثالث، وأنا ما زلت أحبك!
فهل يأتي الخريف ربيعاً؟!
قد يأتي الخريف.. ربيعاً!!
إلى اللقاء

*******************


- تمــــــــــت -


الساعة الآن 03:14 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية