518 - اغنية الفجر ـ سارة كريفن ( قلوب عبير ) دار النحاس ( كاملة )
الملخص
" إنك تخفين شيئا في أعماقك ,يا مارغريت " لو أن جيروم مونتكورت يدرك مدى خداعها ! فهو لايعلم شيئا .. حتى الاسم الذى ذكرته له , لم يكن اسمها . منتدى ليلاس ولكن ميغ وجدت ان ذلك الرجل الفرنسى الجذاب كانت له أسراره هو أيضا .. ليس أقلها ماهية شعوره الحقيقى نحوها . الفصل الأول إنه حل مناسب تماما . يمكنك أن تذهبى لتأخذى مكانى . " ولكن قول مارغوت ترانت المرح هذا , قوبل بصمت عميق . وتمتمت ميغ لانغترى : " دعينى أستوضح الأمر تماما . إنك تريدين منى أن أسافر إلى جنوب فرنسا , فى الشهر القادم , وأمكث مع خالتك فى قصرها , منتحلى شخصيتك " وسكتت وهي تلقى على أختها غير الشقيقة نظرة طويلة متأملة , لتتابع بعدها قائلة : " هل هذه هى العناصر الأساسية فى التمثيليلة ؟ " سألتها مارغوت : " وما الخطأ فى هذا ؟ إن تلك العجوز تريد من يمكث معها لمدة أربع أسابيع لكى تتمكن مرافقتها المستعبدة تلك أن تأخذ فرصة ترتاح فيها , فما هى المشكلة فى ما لو ادعت فتاة بأنها مارغوت ترانت ؟ " فردت عليها ميغ بسخرية بالغة : " ليس ثمة مشكلة طبعا . حتى عدم الشبه بيننا , ليس له أهمية على الإطلاق " فهزت مارغوت كتفيها قائلة : " إننى شقراء ., وأنت سمراء . " وألقت نظرة استخفاف على شعر ميغ البني المسترسل البسيط الطراز , وهى تتابع : " وهذا يمكن تعديله بسهولة . أما بالنسبة للأشياء الأخرى , فهى عمياء تقريبا وهذا هو السبب فى حاجتها إلى مرافقة دائمة , فهى لن تتمكن من رؤيتك بوضوح ." تمتمت ميغ : " هذه هى نهاية طموحى " مالت مارغوت إلى الأمام قائلة بحدة : " هيا يا ميغ , يمكنك القيام بذلك بكل سهولة , ذلك أنه ليس ثمة وظيفة لك تقلقين بشأنها ما دامت المكتبة التى تعملين فيها ستقفل أبوابها فى نهاية الأسبوع . يجب ان تدركى هذا . " قالت ميغ معترضة : " ولم لا ؟ إن البرلمان يمنح لاعضائه إجازة فى الصيف . من المؤكد أن ستيفن سيعطيك اجازة . " اجابت مارغوت وقد ظهر على وجهها الجميل انفعال مفاجئ : " ربما سيفعل إذا أنا طلبت منه ذلك , ولكنه على وشك طلب أن يطلب الطلاق من زوجته , وأنا لا أريد أن أتركه فى هذا الوقت بالذات . " تمتمت ميغ بجفاء : " لقد فهمت " ذلك أنه , مهما كان رأيها فى هذا العمل المقيت , فقد كانت أختها بسبيله منذ وجدت عملا كسكرتيرة عند ستيفن كيرتيس عضو البرلمان الشاب الذى كان مرشحا لرتبة وزارية فى الحكومة المقبلة . قالت مارغوت باستياء : " ثم أنه ليس لديه الحق فى استدعائي بهذا الشكل المفاجئ , إننى لم أرها منذ كنت فى التاسعة من عمرى . " قالت : " إننى أعجب لعدم سماعى بها حتى الآن . " هزت مارغوت كتفيها قائلة : " إنها فى الواقع , عمة أبى , وكانت تحبه كثيرا . وقد أطلق علي اسمها . وهكذا , نحن الثلاثة , بنفس الاسم . أليس هذا شيئا جميلا ؟ " أجابت ميغ وهى تهز رأسها : " هذا غريب , ولكنه خارج عن موضوعنا الآن , ألا يمكنك أن تكتبى إليها لتخبريها بعدم تمكنك من الذهاب إليها . " منتدى ليلاس أجابت مارغوت بحدة : " كلا , إن هذا فى منتهى الغباء . ذلك أن ليس لها أولاد ولا أقرباء حسب ما أعرف . وإرث مثل قصر في لانغيدوك هو شئ لا يمكن الاستهانة به . وهكذا ترين أن من الضرورى أن أكون بجانبها " ونظرت إلى ميغ بابتسامة متوسلة وهى تستطرد : " أو تقومين أنت بذلك باسمى . " عضت ميغ شفتيها قائلة : " لا سبيل إلى ذلك . لأننا لن نستطيع الافلات من سوء النتيجة , هذا عدا عن الاعتبارات الأخلاقية . " |
أجابتها مارغوت : " ليس ثمة ضرر فى ذلك . الأمر هو أن مارغوت ترانت قد استدعيت . ومن المفروض أن هذه ستصل فى الوقت المعين . وأنت مناسبة , أكثر منى للعناية بعجوز كئيبة . اجعليها راضية لأجلى , وسأكون شاكرة لك إلى الأبد . "
قالت ميغ وهى تدفع شعرها إلى الخلف : " أهذا إذن , هو الحافز الذى يدفعنى للقبول ؟ إنك حقا , عديمة التفكير يا مارغوت . وعليك أن تقومى بعملك القذر هذا بنفسك ." قالت مارغوت وهى تنظر إلى أظافرها : " هل أنت ذاهبة ؟ كنت أظن أن المكتبة تقفل أبوابها يوم الأربعاء . " أجابت ميغ : " هذا صحيح . وأنا أمضى هذا النهار مع مربيتي تيرتر كالعادة ." قالت مارغوت : " طبعا فى كوخها الجميل , أم على أن أقول كوخنا ؟ " ضاقت عينا ميغ لتقول بعد برهة : " إن كوخ بريدونس هو لإقامة المربية طوال حياتها . لقد أوضح أبى ذلك بعد موته . " قالت مارغوت : " نعم , ولكنه لم يقرر ذلك كتابة , يا حبيبتى , وليس هناك وثيقة قانونية بذلك . ومنذ أيام قامت أمى بزيارة خاطفة إليه . ذلك أن أصدقاءها , آل نيستور , يبحثون عن مكان يمضون فيه عطلة نهاية الأسبوع . ويبدو أن هذا المكان ملائم جدا ." حدقت ميغ فيها قائلة : " إنك , طبعا , غير جادة بذلك . إن المربية مولعة جدا بالكوخ ." أجابت مارغوت بجفاء : " طبعا لابد أنها كذلك , فهو مكان مرغوب جدا ." قالت ميغ : " ولكن , ليس ثمة مكان آخر لتذهب إليه ." فأجابت مارغوت والحقد يكسو ملامحها : " هنالك ملجأ العجزة . إن لأمى أصدقاء في جمعية الخدمات الاجتماعية وأنا واثقة من أنهم سيساعدونها فى ذلك ." ارتجفت ميغ وهى تتنفس بصعوبة قائلة : " إن هذا سيقتلها , والإقامة فى ملجأ يرعبها . وهى بإمكانها أن تخدم نفسها بنفسها ." قالت مارغوت ببرود : " إن الأمر , فى هذا , بيدك أنت , ذلك أنه إذا قبلت بالذهاب إلى لانغيدوك فسأقنع أمى بأن طرد المربية من الكوخ سيكون خيانة لذكرى أبيك ." سألتها ميغ بخيبة أمل : " وهل هذا يغير من الأمر شيئا ؟ " أجابت مارغوت : " بالطبع , فقد كانت مولعة بأبيك جدا , رغم أنها لم تكن تحب المربية وطريقتها فى السيطرة , هذا إلى جانب أن كلمتى الآن مسموعة عندها , فأنا أوجهها أينما وكيفما شئت , ذلك لأنها مستميتة كي يكون لها صهر فى البرلمان ." فكرت ميغ عابسة , إن معنى هذا أن تذهب زوجته كيرين وأولاده إلى الجحيم . تابعت مارغوت بدهاء : " حتى ان فى استطاعتى أن اجعلها تكتب شيئا باسم المربية , هذا إذا ذهبت أنت للمكوث مع خالتى لمدة شهر . إننى بحاجة إلى معونتك , يا ميغ , إذ على أن أبقى هنا لكى استمر بالضغط على ستيفن ." قالت ميغ ببرود : " إن قمت أنا بهذا الأمر , فلأجل المربية وليس لأساعدك فى الحصول على هذا الرجل المتزوج ." تمطت مارغوت بسرور وهى تقول : " دعى عنك هذا الغرور . فأنت ستذهبين إلى فرنسا لمدة شهر كامل وكل التكاليف مدفوعة . ماذا تريدين غير ذلك ؟ " وابتسمت راضية وهي تتابع : " كذلك سأعيرك سيارتي لكي تذهبي بها إلى فرنسا . وعليك أن تبدأى بالتمرين على القيادة منذ الآن ." أطبقت ميغ أسنانها بشدة وهى تقول : " إننى لم أقل بعد إننى سأذهب ." فارتسمت على شفتى مارغوت ابتسامة الثعلب وهى تقول : " ولكنك ستذهبين , وإلا فإن المربية العجوز المسكينة ستصبح دون مأوى, فالخيار فى ذلك يعود إليك ." وبعد ذلك بأسبوعين . كانت ميغ فى طريقها مرغمة إلى جنوب فرنسا . لم تكن تريد أن ترضخ لهذا , ولكن نظرة منها إلى مربيتها وهى تجول فى أنحاء الكوخ سعيدة نشيطة , غافلة عما ينتظرها من أصدقاء السيدة لانغتري , جعلتها تغير رأيها . والسيدة ايريس لانغتري , نفسها ., لم تكن مسرورة بهذه المساومة , ولكنها قبلت بالأمر مرغمة , هى الأخرى . وتنهدت وهى تقول : " إن مارغوت تستحق السعادة . كما أن ستيفن هو رجل رائع بينما زوجته امرأة لا تعرف سوى الخدمة في بيتها . انه بحاجة إلى امرأة تقف بجانبه وتدفعه إلى الأمام فى مهنته السياسية هذه ." وفكرت ميغ متهكمة فى أنه لا عجب إذا كانت البلاد فى مثل هذا التدهور , إذا كانت نظرة ستيفن إلى مارغوت تحوى هذا الرجاء . أما بالنسبة لأعمال البيت , فليس ثمة من يمكنه القول إنها تصلح لشئ ماعدا غلى الماء على الأرجح . تلقت من ايريس لانغترى بعض الملابس الجديدة التى أصرت هذه على دفع ثمنها قائلة تسكتها عن الاحتجاج : " من المفروض أنك بمثابة ابنتى ولهذا , فلا يمكنك أن تسافري بمثل هذه الملابس ." كذلك كان لون شعرها الجديد ناجحا بشكل غير متوقع , فقد أصبح أشقر داكنا . ولم تجد الوقت لكي تبكي على عملها فى المكتبة والذى زاولته طيلة الثمانية عشر شهرا الماضية , بعد تقاعد صاحب المكتبة . أو تقلق , أثناء انتظارها أن تمر هذه المغامرة الفرنسية بسلام , ذلك أن مشكلاتها الحالية تكفيها . ودهشت وهى ترى مخدومها , السيد أوتواي يؤمي برأسه وهي تخبره بوجهة سفرها , راضيا وهويقول : " آه , لانغيدوك أرض إانى التبروبادو الشاعرية , والكاثار ." سألته ميغ : " وما الكاثار ؟ " فأجاب : " إنها طائفة دينية باقية من العصور الوسطي , وهي تعتقد أن الحياة بأجمعها آثمة , ولابد من الاستمرار في البحث عن النور . إن كل مقاطعات اللانغيدوك كانت غنية ومستقلة عن ملك فرنسا الذى كان يكره رايموند أوف تولرز أكبر أسياد الجنوب ويحسده على ثرائه وجمال وحضارة حياته فى الجنوب , فكان أن فكر فى اتخاذ الكاثار ذريعة لغزوه ومحاربته وسلبه أملاكه . ولكنك ستعشقين تلك المنطقة . فهى بلاد شاعرية مليئة بالمتناقضات , فترين فيها الضحكات السعيدة الدافئة إلى جانب الدموع . الحب الصادق إلى جانب الكراهية والحقد الذى لا يعرف التسامح . الشمس اللاهبة والعواصف الثائرة عندما تفلت الطبيعة من عقالها ." وابتسم بخبث وهو يرى الخوف يكسو ملامح ميغ واستطرد بعنف : " ربما فى إمكان كل هذا أن ينفض عنك قليلا هذا الجمود الذى يحيط حياتك رغم صغر سنك ." قالت باحتجاج : " ولكننى سعيدة بذلك ." قال : " كلا , إنك راضية فقط .. وهذا شئ مختلف تماما . ولكننى متأكد , يا طفلتى , من أنك لن تكونى نفس الفتاة عند عودتك من لانغيدوك ." وأطلق ضحكة جافة وهو يتابع : " كلا , ليس نفس الفتاة مطلقا . " وربت على كتفها : " إننى أتنبأ بأنك لن تعودى إلى مجرد قناعتك تلك فى حياتك . وستتمتعين بدفء الجنوب كاملا ." ولكن ذلك الحر اللاهب , والعرق الذى كان ينضح به جلد ميغ فى زحمة السير خارج قطار تولوز , لم يكن لينطبق عليه كلمة , دفء , التى وصف بها مخدومها ذاك , هذه المنطقة الجنوبية , فقد كانت السيارة التى أستاجرتها , أشبه بالفرن بينما كانت ما تزال فى مستهل رحلتها إلى هاوت أرينياك , فقد وصلت إلى فرنسا مبكرة يومين عن موعدها , وذلك لكى تمضى بعض الوقت فى التفرج قبل أن تستقربين آل دي بريسو كمرافقة للسيدة . كذلك , كانت هذه الفترة تساعدها على تمرين لغتها الفرنسية . فقد كانت متفوقة فى هذه اللغة بين تلميذات صفها فى المدرسة . كما كانت تحضر دروسا ليلية للتقدم بها .ولكن لم يكن أمامها فرصة لاختبار مهارتها فى تلك اللغة , فى قصر هاوت أرينياك , حيث أن السيدة مارغريت دي بريسو قد أبغت أثناء المراسلة , أن مارغوت لا تتكلم الفرنسية . وعندما احتجت ميغ على هذا القرار التعسفى بالإدعاء بأنها لا تحسن الفرنسية . قالت لها مارغوت ببساطة : " هذا شئ سيفيدك تماما إذ بإمكانك الادعاء بعدم الفهم إزاء أى سؤال لايعجبك ." فقالت ميغ بمرارة : " لا أريد الإدعاء بأى شئ ." فقد كانت تشعر بالذنب إلى درجة بالغة إزاء هذه اللعبة التي تقوم بها . ذلك أنها فى سبيلها إلى خداع امرأة مسنة شبه عمياء , وذلك لكي تساعد أختها فى العمل على هدم زواج حبيبها , وبالتالى تشريد امرأة غافلة بريئة مع أولادها . حتى ادراكها بأن هذا العمل سيعود بالفائدة على المربية إذ ستمتلك الكوخ , هذا الادراك لم يبعث العزاء فى نفسها أو يقلل من مبلغ الخسة التى تتنابها في عملها ذاك . كانت هذه الافكار تراودها وهي تنقر بأصبعها على عجلة القيادة فى انتظار الضوء الأخضر الذى لم يلبث أن ظهر لتتابع سيرها . كانت تتقدم بحذر بالغ أولا , لكى تعود نفسها على قوانين السير فى هذا البلد الغريب . وثانيا لكي تتعود على قيادة هذه السيارة التى وضعت تحت تصرفها . ولكنها سرعان ما أدركت أنها تسير فى طرقات جيدة اقل ازدحاما مما اعتادته فى انكلترا , ليبعث هذا فى نفسها الشعور بالارتياح . كانت السماء زرقاء صافية , ولكنها , وهي تسير نحو الشرق , لم تليث أن لمحت فى الأفق البعيد سحبا تتركام بصورة تنذر بالخطر . وفى الوقت الذى توقفت فيه لتبتاع طعاما للغداء , كانت تلك السحب قد حجبت السماء . وألقت نظرة قلقة على الجو المدلهم , وهى تقفل راجعة إلى سيارتها تحمل بعض السندويتشات وزجاجتى مياه معدنية . كانت قد صممت على أن تقوم بنزهة فى بقعة هادئة , واختارت , لذلك طريقا بعيدا عن الشوارع العامة لتتمكن من قيادة السيارة على مهل ولكى تتعرف إلى فرنسا الحقيقية . وبدا لها الآن , وكأنها على وشك أن تتعرف إلى جو فرنسا الحقيقى أيضا . إذ أنه , مع أن الحرارة كانت ماتزال مرتفعة , فقد كانت السحب تنذر بجو عاصف , ولكن , ما أن ابتدأت قطرات المطر تصفع زجاج السيارة الأمامى , حتى تخلت , مكرهة , عن قرارها فى تناول طعامها فى الهواء الطلق , لتركز اهتمامها على إيجاد مكان تمضى فيه ليلتها . وقد التقت فى آخر مدينة مرت بها , بفتاة رقيقة الشعور أرشدتها إلى فندق صغير يدعى الأوبيرج يقوم فى نهاية طريق جورج دي بيرون مشيرة إليه بعلامة على الخارطة التى كانت ميغ تحملها . وجدت نفسها تسير فى طريق متعرج تحف به صخور شاهقة . وما لبث أن الطريق أن أصبح فى محاذاة نهر غير عميق يتدفق فوق الحصى , لتعرف أنها قد وصلت الآن إلى الطريق المقصود الذى يقع الفندق فى نهايته . |
وعندما اشتد هطول المطر . فكرت فزعة بأن خير البر عاجله , فقد ابتدأ الرعد والبرق الآن فى التناوب , وأطلقت ميغ بعض الشتائم وهى تدير المساحة على الزجاج أمامها والتى لم تجد لها فائدة ملموسة أمام تدفق المطر الذى كانت الريح تصفع به الزجاج , مما جعلها لا تجرؤ على متابعة القيادة فى ذلك الطريق غير المستقيم . وهكذا , اتجهت بالسيارة إلى الجانب الصخرى من الطريق حيث أوقفتها هناك محتمية به .
من ذا الذى كان يتوقع مثل هذا التغير السريع فى الجو . مع أن السيد أوتواي كان قد حذرها من تقلبات الجو السريعة هذه , منبها إياها إلى أن أفضل ما فى إمكانها أن تفعله فى هذه الحال , هو البقاء فى السيارة بدلا من تعريض نفسها إلى صاعقة البرق . وشعرت فجأة بالبرد , فتناولت سترتها من المقعد الخلفى تشدها على كتفيها . وألقت نظرة على النهر شعرت معها بقشعريرة باردة . كانت حرارة الجو فى انخفاض مطرد . وكانت مياه النهر فى ارتفاع حتى أصبحت متدفقة على ضفتيه . شعرت . بشئ من الفزع , وبأن هذا المكان غير مناسب للوقوف . ولكن , لابد لها من البقاء حيث هى إلى أن يخف هطول الأمطار على الأقل . ذلك أن العاصفة قد أصبحت الآن فوقها تماما . كما كان الرعد والبرق متزامنين معها تقريبا . وشعرت ميغ وكانها تحدق فى جدار من الماء . ربما كان من الأفضل لها لو أنها وصلت فى نفس يوم الموعد , فتجد من يستقبلها فى المطار كما كانت السيدة دي بريسو قد اقترحت . إذ أن هذا هو الطريق السوي الذى اعتادت هى أن تتبعه أكثر حياتها . خاطبت نفسها قائلة , لماذا أنت ضجرة إلى هذا الحد , وأين روح المغامرة فيك ؟ وتأرجحت السيارة فجأة أثر زوبعة مفاجئة , وارتجفت ميغ بالرغم عنها , لتصرخ رعبا وهي ترى الباب إلى جانبها يفتح بعنف لتمتلئ السيارة بالهواء البارد الرطب . وظنت للوهلة الأولى , بأن هذا من فعل العاصفة لترى شبحا قاتما متدثرا بمعطف فضفاض , يقف بالباب يحدق فيها ., فانكمشت فى مقعدها , وهمت بالصراخ مرة أخرى لولا أن الرعب قد أخفى صوتها وجاءها صوته يقول بهدوء يخفى انفعالا حادا : " لعلك مجنونة تماما . هل تريدين أن تموتى ؟ هيا ابتعدى بهذه السيارة الآن , فى هذه اللحظة ." لم يكن هذا الذى يتكلم , شبحا صورته لها العاصفة , ولكنه كان رجلا غاضبا . وقد تكلم بالفرنسية واجأبته هى بنفس اللقة بصورة آلية , وقد أخذ قلبها يخفق بمزيج من الراحة والحذر , وهى تقول : " وما الذى أعطاك الحق فى أن توجه إلى الأوامر ؟ " فرد عليها بحدة : " إنه حق شخص يعرف هذه البلاد أكثر منك . ذلك أن الوقوف بالسيارة تحت هذه الصخور الشاهقة فى حالة طقس كهذا , ينطوى على خطر شديد أيتها الحمقاء الصغيرة . إذ إنه كثيرا ما تحدث انهيارات أرضية , وفى هذه الحال تدفنين أنت وسيارتك , هيا . تحركى بسرعة ." ومهما كان مقدار الخشونة فى حديثه ذاك إليها , فانه كان يبدو منطقيا فى حديثه . ويعرف تماما ما يقول . وشعرت ميغ بشئ من الضيق , بأن من الأفضل لها أن تمتثل لنصيحته تلك سألته ببرود : " وأين تقترح , إذن , أن أوقف السيارة ؟" فرد عليها عابسا : " ثمة مكان أكثر أمانا على بعد مئتى متر ., فاتبعينى وسأريك إياه . هيا بسرعة " واختفى بعد أن صفق الباب وراءه , وبعد لحظة رأت ميغ سيارة قاتمة تتجاوز سيارتها بمسافة قريبة . أدارت مفاتح المحرك , وقد انتابها الفزع , ولكن بدلا من أن يدور المحرك كالمعتاد . ساد صمت عميق ينذر بالسوء . حاولت ميغ مرة ثانية وثالثة وقد أحست بالذعر ولكن المحرك بقى على عناده . ومن جانبها جاءها صوت ذلك المتلفح بالمعطف يسألها :" ماذا حدث ؟ " فقالت بالانكليزية بصوت منخفض تبدو الخشونة فى نبراته : " ما الذى تراه أمامك أيها الثرثار , إن محرك السيارة لا يدور ." واخذت تفتش فى ذاكرتها عن كلمات فرنسية أكثر رقة . فقال : " إنك إذن انكليزية . كان يجب أن أتكهن بذلك ." وبدت فى لهجته نبرة ازدراء , وتصلب جسد ميغ غيظا , إنه إذن . يعرف لغتين . وتوردت وجنتيها وهى تتذكر لهجتها الفظة التى تشبه لهجة تلميذات المدارس . وسألها : " ماهى مشكلة السيارة الآن ؟ هل من عادتها أن تسبب لك مضايقات ؟ " فأجابت بضجر : " لقد أستاجرتها هذا النهار فقط , ولكن , ها هو ذا المحرك يبدو كالميت . ربما دخلت المياه فى المحرك ." تمت بكلمات لم تشأ ميغ ان تسمعها , ثم قال بلهجة آمرة : " أتركيها . إذن , هنا , وتعالى معى ." قالت محتجة : " ولكننى لايمكننى أن أتركها هنا , فهى ليست ملكى , ثم اننى .." وترددت برهة , ثم تابعت تقول :" إننى لا أعرف أنى نوع من أبناء آدم أنت ! " قال بلهجة لاذعة : " حسنا , أمكثى هنا يا آنسة , فبقاؤك هنا فيه ما يخيف , أكثر مما لو قبلت ما أقدمه إليك من مساعدة . والآن , أخرجى من السيارة قبل أن يغرقنا المطر نحن الاثنين . " أطاعته ميغ مكرهة وقد جفلت للمطر الذى بلل حذاءها وجوربها تماما . وكان الوصول إلى سيارته أشبه ما يكون بعبور نهر ضحل . لابد أن يبللها المطر تماما قبل أن تجتاز مسافة مترين فقط . وفكرت باكتئاب فى ما عسى أن تكون ردة الفعل عند السيدة دي بريسو فى ما لو وصلت مرافقتها الجديدة وهي مصابة بالتهاب رئوى . وسمعت بجانبها آهة تدل على نفاد صبر , لترى نفسها وقد لفها معه بالمعطف الذى يرتديه , ليقودها بعد ذلك , وكأنه يحملها حملا إلى سيارته , وأفعمت أنفها رائحة عطره الأخاذة التى تفوح منه . وعندما دغعها بخشونة إلى المقعد الأمامى فى سيارته , شهقت وهي تقول ساخرة : " شكرا ." قال وهو يجلس إلى عجلة القيادة : " لنبتعد من هنا . فهذا المكان معروف بخطورته ." وما إن أتم كلامه , حتى سمعت صوتا أشبه بأنة عميقة تبعتها ضجة غريبة . ادارت رأسها إلى الخلف تنظر إلى حيث كانت واقفة , لترى , غير مصدقة عينيها وقد تملكها الرعب , شجرة ساقطة من الأعالى وقد اجتثت من جذورها , لتستقر على سيارتها الرينو محدثة ضجة مفزعة سرعان ما تبعها سيل من التراب والحجارة إنهى على السيارة ليرتد بعدها قافزا إلى الطريق ممثلا نموذجا مصغرا لسلسلة من الانفجارات . ووصلت بعض تلك الأحجار إلى السيارة الثانية التى جلسا فيا مصعوقين دون حراك . تبع ذلك صمت عميق حيث أن المطر قد توقف الآن وكأنه قد اكتفى تماما بما حدث . الفصل الثانى كان مرافق ميغ هو الذى اخترق هذا الصمت قائلا بهدوء وهو يهز كتفيه : " هكذا إذن تنفست ميغ وهى تقول : " شكرا .... شكرا لك " وكان الدمار فى سيارتها ينحصر أكثره فى ناحية السائق . فقد كان السقف المحطم قد التصق بالمقعد كما تهشمت الواجهة الزجاجية بفرع كبير من تلك الشجرة . وفى ذلك المكان بالذات ، كانت هى منذ لحظة واحدة ، جالسة شاعرة بالأمان التام . ولو لم يأت هو ، فى تلك اللحظة ، ليرغمها على ترك مكانها ذاك ... ولم يستطع عقلها ، الذى أذهلته الصدمة ، متابعة التفكير فى ما كان سيحدث لو تمسكت بعنادها ولم تطعه فى ذلك ، وحاولت أن تتكلم .... أن تشكره بصورة صحيحة هذه المرة ، ولكن ، بدلا من ذلك ، وجدت نفسها تنخرط فى البكاء . وهمهم هو بشئ ما ، بعدما جلس قربها ، راميا بالمعطف إلى المقعد الخلفى ، وهو يتناول زجاجة تحوى شرابا منعشا ، فتحها ثم قدمها إليها قائلا : " هاك اشربى هذا " ثم تناول علبة المناديل الورقية يقدمها إليها ، لتتناول منها واحدة تغطى بها عينيها وهى تنشج قائلة : " سيارتى ، سيارتى ..." حاول أن يهدأ من روعها ، فقال :" عندما أستأجرت السيارة ، أخذت بها بطاقة تأمين مما يخول لك أخذ بديل لها ، الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى حياتك " قالت وهى تقاوم دموعها وقد ابتدأت تتمالك نفسها : " معك حق " وعندما هدأت تماما ، واستطاعت أن تتكلم قالت : " إن كل أشيائى كانت فى صندوق السيارة . إننى أعرف أن من الحماقة أن أقول هذا ...." فقال وهو يأخذ مفاتيح سيارتها من يدها المتهالكة : " سأحضرها إليك تعلقت بذراعه قائلة : " كلا ، لا تجازف .... دعها " قال وقد تحولت لهجته إلى الرقة : " لا بأس ، أنظرى إلى صندوق السيارة فهو سالم تقريبا قالت : " ولكن ربما يحدث انهيار آخر للأرض " ذلك أن البرق والرعد كانا لا يزالان يتناوبان فى السماء فتهتز تلك الأنحاء . وتخيلت ميغ انهيارا صخريا آخر ينهال على هذا الرجل كما حدث بالسيارة . ولأول مرة ، وجدت نفسها تحدق فيه للمرة الأولى ، فى الضوء المنبعث من السيارة . كانت تدرك أنه طويل وقد سبق وأخذت فكرة عن مبلغ قوته أثناء اندفاعها السريع ذاك من سيارتها. ولكنها ترى الآن أنه كان شابا فتيا فى بداية الثلاثينات من عمره ، رغم أنها لم تكن خبيرة بمثل هذا التقدير . ورأت شعرا كثيفا أسود منظما ، ووجها نحيلا ذا خطوط حول الفم والأنف والذقن توحى بالقوة والكبرياء . هذا إلى عينين قاتمتين عميقتين تحت جفنين ثقيلين . هز كتفيه مرة أخرى وهو يقول : " أظن أن الأسوء فى ما يمكن أن يحدث قد مر وانتهى " وارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية وهو يتابع : " هذا إلى أننى أحمل طلاسم سحرية " ربما كان هذا صحيحا . وجلست لا تجرؤ على النظر خلفها ، متوقعة بين لحظة وأخرى ، أن تسمع صرخة ألم .ولكن ، لم يكن هناك سوى اندفاع الماء إلى النهر المتدفق المتعاظم شيئا فشيئا . وفى ناحية قريبة ، تعالت زقزقة طير تعلن انتهاء العاصفة . وتخيلت أنه غاب أكثر مما ينبغى ، فأدارت رأسها لتراه واقفا عند مؤخرة سيارتها الرينو وقد تصلب جسده وكأنه استحال إلى صخرة هو الآخر. وفكرت فى أنه ربما كان صندوق السيارة من التهشم بحيث لم يستطع فتحه ، ولكنها كانت مخطئة ، إذ أنه توجه إلى سيارته الستروان ، وقد حمل حقيبتى سفر فى كلتا يديه . لتسمع بعد ذلك صوت ارتطامهما وهو يضعهما فى صندوق سيارته . |
وعندما عاد إليها ، بدا مقطبا حاجبيه مستغرقا فى التفكير . وانتابها شعور بأنه ربما كان غاضبا من شئ ما يحاول إخفاءه .
ربما أدرك الآن أن شهامته هذه شكلت عليه عبئا مؤقتا بالنسبة إلى مسافر غير مرغوب فيه ، على الأقل . وانتابها الأسف ، فهى لم تكن تلومه لامتعاضه الذى أصبح من واجبها ، الآن ، التسرية عنه . قالت بحذر : " لقد كنت معى فى منتهى الشهامة ، وأنا أكره أن أثقل عليك أكثر من هذا . ولكننى فى حاجة إلى أن أصل إلى فندق الأوبرج دى سورس دى بيرون بامكانى الحصول على غرفة هناك ، وسوف أتدبر أمر السيارة " كان يبدو مستغرقا فى التفكير ، ولكنه ، عندما سمع كلامها هذا ، أدار رأسه إليها ليقول بشئ من الدهشة : " هل سبق وحجزت غرفة فى الأوبرج ؟ " فقالت : " حسنا ، فى الحقيقة كلا ، ولكن إنه المكان الذى كنت ذاهبة إليه قبل حدوث العاصفة تلك . فقد أرشدونى إليه " قال : " إنه مكان محبوب عند السواح . وكان من الأفضل لو كنت حجزت غرفة مقدما " وازداد تقطيب جبينه وهو يستطرد : " أليس عندك خطة بديلة لهذه ؟ " أجابت : " ليس ثمة ما هو مؤكد ." وسكتت . فلم يكن فى استطاعتها أن تطلب منه أن يأخذها كل ذلك الطريق إلى هاوت أرينياك . لقد كان هذا الذى حدث لها , نكسة قوية أفشلت مخططها , ولكنها كانت تشعر بالخوف من أن تصل إلى القصر مبكرة عن الموعد دقيقة واحدة . واستطردت وقد بدت على شفتيها شبح ابتسامة : " على أن أجازف لاحتمال أن أجد غرفة خالية ." ألقى عليها نظرة أخرى طويلة , ثم قال بلطف : " ليس من الحكمة دوما , يا آنسة , أن تجازفى , خاصة حين تكونين بعيدة عن موطنك ." كان فى صوته نبرة غريبة تتضمن نوعا من التحذير الذى يقرب من الوعيد , كما تراءى لها , جعل رعشة تشمل جسدها بأكمله , أم لعلها مجرد تصورات نتيجة للصدمة التى أصابتها ؟ لا بد أن الأمر كان كذلك , لأنه ابتسم لها فجأة , وكانت ابتسامة فاتنة خففت من صلابة فمه المتكبر ذاك . لم يكن وسيما بكل معنى الكلمة , كما بدا لميغ , ولكنه كان ذا جاذبية مخيفة . كان نوعا من الرجال لم تحلم بمقابلته من قبل . انها تتمنى لو وصلت بسرعة إلى الفندق كى لاتراه بعد ذلك أبدا , ذلك لأنها , بالرغم من روح المغامرة التى تشعربها , شعرت أن هذا الرجل يمثل خطرا أكبر من أى خطر يمثله أى انهيار أرضى أو صخرى . التوت ابتسامته قليلا, وكأنما شعربما يدور فى خلدها , مما أشعره بالسخرية , ليقول بعد ذلك وهو يدير المحرك : " هيا بنا نذهب ." ولم تكن الرحلة سارة مع أن المطر قد توقف , وابتعدت العاصفة إلى حيث كانت تدمدم من بعيد , لتسمح للشمس الباهتة أن تتقدم , بظهورها , بالاعتذار لما حدث . كان مرافقها هادئا قليل الكلام , ولكن ربما كان ذلك كما تصورت ميغ , لتركيزه على القيادة فى هذا الطريق الصعب الذى كان ممتلئا بالحطام , فقد كان يضطران إلى التوقف مرارا لكى يزيحا من الطريق ما يكون هناك من أحجار وأغصان أشجار تعترضهما . قالت له أثناء عودته إلى السيارة , وهو يمسح يديه ببنطاله الجينز : " هل الطريق بهذا السوء على الدوام ؟ " فأجابها وهويلقى إليها بنظرة جانبية , بينما كان يدير محرك السيارة :" لقد شاهدت طرقا أسوأ من هذه . لقد كان هذا ترحيبا بأولى زياراتك إلى فرنسا ." قالت عابسة : " وكيف علمت بأنها أولى زياراتى لفرنسا ؟ أذلك من رداءة لغتى الفرنسية ؟" أجاب وهو يهز كتفيه : " ليس لدي أية فكرة وانما خمنت ذلك . كما أن لغتك الفرنسية ممتازة . وهذا غريب ." ونطق الجملة الأخيرة بجفاء سألته : " لماذا تقول ذلك ؟ " أجاب بعد صمت قصير : " لأن الكثير من رجال بلدك لا يهتمون بتعلم لغتنا . أنهم يظنون أنهم إذا هم رفعوا صوتهم قليلا , وأبطأوا بالكلام فسنفهم ما يقولون ." أومأت ميغ برأسها أسفة , إذ سبق وسمعت نفس القول من المعلمة التى كانت تدرسهم اللغة الفرنسية فى المعهد الليلى . وهى سيدة فرنسية متزوجة من انكليزى . وقالت : " أظن أن السبب فى ذلك يعود لشعورهم بأنهم سكان جزر , فهم لا يشعرون بأنفسهم جزءا من القارة الأوروبية . وقد تتغير نظرتهم هذه إذا ما تم إنشاء نفق القنال فى بحر المانش ." أجاب : " ربما ." تبع ذلك صمت آخر . كان يقود السيارة بمهارة فائقة , كما لاحظت ميغ , وكانت يداه الرشيقتان تديران عجلة القيادة دون أى مجهود . كانت ملابسه بسيطة , وبنطاله الجينز ذات قصة جيدة , وكانت أكمام قميصه الأبيض مثنية تبرز عضلات ساعديه . والشئ الوحيد الذى كان يتزين به هو ساعة ذهبية . لم تستطع ميغ , وهى تتأمله من تحت أهدابها , أن تخمن الفئة التى ينتمى اليها , مهنية كانت أم اجتماعية , ولكنها ما لبثت أن تذكرت قلة خبرتها فى ذلك وأنها , فى ما يختص بالرجال , كانت عديمة الخبرة تماما , ما عدا السيد أوتواي صاحب المكتبة , وتيم هانزبي الذى كان يجمع كتب التاريخ العسكري , والذى دعاها , ذات مرة , للذهاب معه إلى لندن فى زيارة إلى المتحف العسكري الأمبراطوري . وقد استمتعت ميغ بزيارة ذلك المتحف أكثر مما توقعت . ولكن تيم , حيث أنه كان وحيد والدته الأرملة المتعلقة به , لم يكن ليصلح أكثر من مجرد صديق عادى . فقد كان ما يزال يعيش مع والدته . وقد شعرت ميغ , حينذاك , بالشفقة على الفتاة التى تقع في حبه , ذلك أن والدته كانت مصممة على أن تحتفظ بحياتها تلك معه كما هى دون تغيير . ومع ان مرافقها الآن لم يكن يبدو عليه أنه مرتبط بأية امرأة , الا أن ميغ اعتبرت أن المظاهر قد تكون خداعة , فقد يكون مرتبطا بامرأة سليطة اللسان وفوج من الأطفال , وسيخبرهم هذه الليلة , بعد العشاء , كيف انقذ سائحة انكليزية وحيدة من العاصفة , جاعلا مما حدث مجرد قصة مسلية . وعندما تنفرد به زوجته , فى ما بعد , ستسأله , كيف تراها تبدو تلك الفتاة الانكليزية ؟ وسيبتسم وهو يقول : انها مجرد فتاة عادية , فأنا لم أكد ألحظها .. عندما نظر إليها , أدركت ميغ ان آهة خفيفة كانت قد أفلتت منها , فأسرعت تقول : " هل مازالت الطريق أمامنا طويلة إلى الأوبرج ." أجاب : " حوالى الكيلو متر الواحد . هل تجدين الرحلة مملة ؟ " أسرعت تقول : "آه . كلا ,. ولكننى أخشى ان يكون لديك عمل تود القيام به . اننى اشعر بنفسى مزعجة ." أجاب :" انت مخطئة , فأنا مسرور بتقديم هذه الخدمة لك . لأن هذا هو طريقي , فأنا سأمر بالاوبرج على كل حال , وهكذا , الفائدة تعود علينا نحن الاثنين . ان اسمى هو جيروم مونتكورت . هل يمكننى أن أعرف اسمك أنت أيضا ؟" فتحت فاها لتقول ميغ لانغتري , ولكنها عادت فترددت , ولم تقل شيئا . فقد جاءت إلى هنا لتكون مارغوت . وساورها الشعور بالذنب اذ وجدت نفسها تكاد تنسى ذلك . ولكن , بما أن الخداع لابد أن يبدأ على كل حال , فماذا لا تبدأ به مع هذا الغريب ما دامت لن تراه مرة أخرى ؟ ولكنها , فى نفس الوقت , ادركها الرعب من أن تدلى بتلك الكذبة المحضة . وفكرت , وهى تطلق آهة , انها ليست من النوع الذى يجيد حبك المؤامرات . واخيرا , قالت بابتسامة مصطنعة : " دعنا نقل مارغريت فقط ." وفكرت فى أن هذه نصف الحقيقة على كل حال , وقد لاتحتاج علاقتها معه إلى أكثر من هذا . قال بلطف : " إنه إسم زهرة , وهو أيضا اسم ملكة فرنسية مشهورة . ربما قد سمعت باسم الملكة مارغوت واسمها الحقيقى مارغريت دي فالوا والتى تزوجت من هنرى أوف نافار ؟ وكانت من أجمل نساء عصرها . ويسمونها السيدة المغامرة ." تحركت ميغ بقلق وهى تسمع الاسم , ثم سألته : " مامعنى هذا اللقب ؟" هز كتفيه قائلا : " معناه أنها كانت تحب المغامرات العاطفية , خصوصا مع رجال غير زوجها . لقد اكتسبت سمعة سيئة جدا ." قالت : " لا أظنها كانت سعيدة مع زوجها هنري اوف نافار إذن ؟ " فضحك وهو يجيب : " آه , ولكنه هو أيضا لم يكن خاليا من العيوب . وربما كان هذا هو السبب فى أن فرنسا ما زالت تذكره باعجاب وتسميه الرجل الشجاع ." قالت ميغ متسائلة : " وطبعا . كان الزواج فى تلك الأيام , يقوم على المصلحة فقط . ولهذا . أظن أن الأزواج كانت لهم عذرهم فى ذلك ما داموا قد ارتبطوا بغير حب ." قال بسخرية : " وما رأيك بالنسبة للزوج إذا كان مرتبطا بهذا الذى نسميه حبا ؟ " قالت بحزم : " إذن فلا عذر أبدا للأزواج فى الخروج على الرابطة الزوجية ." قال : " إن كلامك هذا يدهشنى ." أجفلت قليلا وسألته : " لماذا ؟ " فتردد جيروم لحظة , ثم قال وهو يرفع كتفه : " لأن هذا قد أصبح رأيا قديما ضد المفهوم الحديث . أما مفهوم العصر فو , زواج سهل يتبعه طلاق سهل ." هزت ميغ رأسها قائلة : " لا أصدق هذا , فالطلاق ليس سهلا أبدا . ذلك أن أحد الزوجين سيصيبه الضرر البالغ , وخصوصا إذا كان هناك أولاد ." ألقى عليها نظرة سريعة وقال : " لم أتوقع أن التقى بفتاة مثالية . " قالت برزانة : " إنك , إذن , لم تتوقع التعرف إلى أبدا . " ابتسم مرة أخرى , فشعرت بجاذبيته تتغلغل فى نفسها برقة فائفة مع ابتسامته تلك . وقال : " ألا تظنين أن القدر , وليس العاصفة , هو ما جمع بيننا ؟" أطلقت ميغ ضحكة قصيرة , شاعرة برجفة خفيفة فى صدرها , وهى تقول : " إننا فى انكلترا , يا سيدى , اعتدنا على توجيه اللوم إلى الأحوال الجوية فى كل شئ . " ضحك هو أيضا , وقال : " وفى فرنسا , يا آنستى , زهرة المارغريت تميل دوما نحو الشمس . تذكرى هذا ." وسكت لحظة ثم عاد يقول :" هو ذاك فندق الأوبرج أصبح امامنا ." وفجأة , شعرت بشئ من الخيبة تكتنفها . ماذا جرى لعقلها لتدع رجلا غريبا يؤثر عليها بهذا الشكل ؟ حقا أنه انقذها وأنها ستبقى مدينة له بهذا الجميل على الدوام , ولكنها لم تكن متأكدة من أنه أعجبها . فقد كان شخصا لا يمكن التنبؤ بسلوكه . ألا يكفيها ماهى فيه من مشكلات , حتى تضيف إليها هذا أيضا ؟ ربما كان من طبعه العبث ومغازلة أى فتاة يصادفها فى طريقه . وهى غير معتادة على هذا النوع من الرجال . كان فندق الأوبرج دي سورس دي بيرون مبني مريحا متشعب البناء . وربما كان سابقا منزلا فى مزرعة وقد قام فى خلفية باحة محاطة بسور . دخل جيروم فى ممر مسقوف إلى حيث الباحة تلك ثم توقف . واستقامت ميغ فى جلستها , ثم مدت اليه يدها باسمة وهى تقول : " حسنا , وداعا , مع شكري الجزيل ." قال وقد بانت السخرية على شفتيه : " أراك متلهفة إلى التخلص منى ." أسرعت تقول : " آه , كلا , ليس الأمر هكذا . ولكننى أخذت من وقتك الكثير . " قال وهو يترك السيارة : " يجب أن تسمحى لى بتقدير ذلك بنفسى ." ودار حول السيارة يفتح لها الباب يساعدها على النزول , وهو يتابع : " اذهبى وأسأليهم إذا كان ثمة غرفة خالية , وسأحضر لك أمتعتك ." ومن خلال باب زجاجى , دخلت إلى قاعة الاستقبال مسقوفة بالقرميد , لتستقبلها الموظفة المسؤولة بغاية الترحيب , قائلة إن ثمة غرفة فعلا , وسيكون من دواعى سرورها أن تريها للآنسة , ولكن ثمة أمر مزعج جدا وهو أن العاصفة قد تسببت فى قطع التيار الكهربائي , وإلى أن يصلح هذا الخلل , فان هنالك الشموع والقناديل . أما بالنسبة إلى غرفة الطعام .. وأشارت الموظفة المسؤولة بيدها بيأس . وقال جيروم مونتكورت من فوق كتف ميغ : " هذا لايهم . ان الآنسة ستتناول العشاء معي وشعرت ميغ بوجنتيها تتوهجان وهى ترى المرأة ترفع حاجبيها وهى تظهر موافقة ماكرة على هذا الحل , بوجه عام , وعلى شخصية جيروم بوجه خاص . ثم تطلب راجية من السيد أن يتكرم بنقل أمتعة الآنسة إلى الغرفة حيث أن المكلف بذلك مشغول تماما بنقل القناديل , وهى لن تنسى هذا الجميل منه إلى الأبد . ابتسم لها جيروم قائلا : " بكل سرور . ولكننى أحب أن أعرف أولا ما إذا كانت العاصفة لم تضر بالأسلاك الهاتفية , إذ يجب أن نبلغ عن الحادث ." ولما أجابت بأن الهاتف غير معطل , رفع جيروم حاجبه مخاطبا ميغ : " اترضين بأن اتصل بالمسؤولين لابلاغهم عن الحادث وأنهى الاجراءات الرسمية بالنسبة للسيارة ؟ إن هذا سيسهل الأمور بالنسبة اليك مهما كانت لغتك الفرنسية جيدة و .. " شكرته ميغ بخجل , ثم صعدت مع الموظفة عبر سلم خشبي عريض يقود إلى خلف المبنى حيث غرفتها . كان السقف منخفضا والأرض غير مستوية ولكن الأثاث كان ملمعا بالدهان . والسرير الواسع مفروشا بملاءات ناصعة البياض . وفى زاوية الغرفة ,يقوم باب يقود إلى حمام لا يكبر كثيرا عن خزانة الثياب . وكانت النافذة المربعة الصغيرة تبدو عميقة فى الجدار الحجرى السميك , وكانت مفتوحة لتسمح للشمس بالدخول . وكان الهواء ما يزال باردا مشبعا برائحة زهور الخزامي . وبينما أخذت ميغ تتنفس بعمق , أومأت الموظفة برأسها راضية وهى تتلفت حولها , ثم خرجت عائدة إلى عملها بعد ما أغلقت الباب خلفها . وقفت ميغ أمام النافذة . لقد كان يوما حافلا وإن يكن لم ينته بعد .. إلا إذا شاءت هي , طبعا ذلك . ولكنها لم تكن متأكدة من مشاعرها بالنسبة لهذا الأمر . وفكرت فى شئ من الارتباك , بأن أشياء كهذه لا تحدث , فى العادة , لها , وأن طبيعة شعورها قد تغيرت . إن من المفروض انها مارغوت فهل ترها أخذت حياتها كما أخذت اسمها ؟ وتساءلت , هل بمقدروها ان تسلبها ذلك ؟ وسمعت صوت الباب يفتح , وجيروم يدخل بأمتعتها . وابتدأ قلبها يخفق , وجف فمها. قال وهو يرفع الحقيبتين ليضعهما فوق الحامل الخشبي المخصص لذلك :" سترسل الشركة إليك سيارة ثانية صباح الغد . انما سيكون عليك أن تضعى تقريرا بالحادث , وأنا سأكون شاهدا على الحادث , وبهذا تنتفى أية صعوبة ." وبقيت مولية ظهرها اليه ثم قالت : " اننى .. اننى شاكرة جدا . " فقال : " هل أنت شاكرة إلى درجة تقبلين معها دعوتى إلى العشاء هذه الليلة ؟ " كان واقفا خلفها مباشرة . كانت تحدق فى المنظر الخارجي وكأنما كانت تريد ان تحفره فى ذاكرتها . كانت الأرض خلف سور حديقة الفندق الصغيرة . تعلو بصخورها مما يشكل منظرا بريا مثيرا , تنتشر فى أنحائه مجموعات من الأشجار . وكان ثمة جدول ينساب بين مجموعتين من الصخور لكي ينحدر , بعد ذلك , بشكل شلال صغير , وكانت على جانبيه تقوم نباتات داكنة الخضرة . قال جيروم من فوق كتفيها : " انه نبع بيرون " أومأت برأسها وهى ترتجف . وعاد يقول بعد فترة صمت : " أنك بالطبع , غير مجبرة على أن تقبلى دعوتى للعشاء ." وكانت هى تعرف ذلك . تعرف أيضا أن رفض هذه الدعوة بادب وابتهاج ظاهرين , انما هو أفضل واكثر امانا . ولكن , بينما كانت تستدير لكى تجيبه , لمحت انعكاس صورته فى زجاج مصراع النافذة , كان وجهه قاتما حذرا وفمه مطبقا بحزم , شهقت وأدرات رأسها بحدة . ولكن , لابد أن ما بدا على وجهه كان من تأثير الأضواء , لأنه كان ينظر إليها ببساطة وابتسامة شبه ساخرة قال بلطف : " امنحينى هذا السرور , يا مارغريت . هل يمكننى أن أعود اليك حوالى الساعة الثامنة ؟ " أجابت : " نعم , إننى أود ذلك ." وعندما أصبحت وحدها فى الغرفة , أخذت تتساءل عما إذا كان ما قالته صحيحا حقا . |
الفصل الثالث
استمتعت ميغ بدوش طويل دافئ , لتمضى بعد ذلك وقتا لا بأس به فى اختيار ثوب تلبسه لهذا المساء , وفى النهاية , استقر رأيها على ثوب بسيط عسلى اللون ذو تنورة واسعة . ووضعت فى أذنيها قرطين ذهبيين , ثم نثرت على جسدها عطرها المفضل من روائح نينا ريتشي وقفت تتأمل مظهرها فى المرآة . مقطبة الجبين , ابتداء من شعرها المنسدل على كتفيها وعينيها العسليتين الواسعتين , إلى قدميها الرشيقتين فى النعل الخفيف ذى الأربطة , والبرونزى اللون , ثم هزت رأسها وهى تفكر فى أنها تبدو غريبة عن ذاتها .. وأنها أشبه ما تكون بالمرأة العجوز المذكورة فى أغانى الأطفال . منتدى ليلاس شعرت بالإحباط وهى تفكر فى أن جيروم مونتكورت لو كان قد جاء إلى المكتبة حيث كانت تعمل طوال ثمانية عشر شهرا الماضية , ربما ما كان ليوليها أى اهتمام , إنها ما زالت لا تعرف لماذا قبلت دعوته هذه إلى العشاء , فهذه لا تبدو لها خطوة حكيمة مطلقا . ذلك أنها لا تعلم عنه شيئا ما عدا اسمه الذى قد يكون مزيفا , على كل حال . انتابها الضجر , أخيرا , من كل هذه الوساوس , ألا يمكن أن تكون مخاوفها , تلك من أن يكون مخادعا , ناشئة عن أنها هى نفسها تقوم بدور مخادع ؟ إنها لاتنكر حماسه الفائق فى تقديم المساعدة لها , ولكن ألا يمكن أن تكون هذه ناحية من شخصيته ؟ وتذكرت ذلك التعبير الجامد المخيف الذى سبق ولمحته على وجهه المنعكس فى زجاج النافذة , وقبل ذلك فى السيارة حين شعرت للحظة وكأن غضبه يمتد إليها كشئ حقيقى تماما . ربما كان من أولئك الأشخاص الذين يتبدل مزاجهم بسرعة .. وربما , وهذا أكثر احتمالا , كان هذا كله مجرد تخيلات منها , وفكرت وهى تتحول عن المرآة , فى انها لم تعد تعرف شيئا , ولكن هذه الدعوة قد حصلت بحضور الموظفة المسؤولة , وهذا يجعلها فوق مستوى أية شبهة , وبعد , أنها على الأقل , لن تتعشى وحدها فى أول ليلة لها هنا فى اللانغيدوك . وتملكها , لذلك شعور بالبهجة . حملت حقيبتها اليدوية وكتابا عن الكاثار كان السيد اوتواي قد قدمه إليها عندما ودعته , ثم نزلت إلى الطابق الأسفل لتنتظره . وفى قاعة الاستقبال , كانت الموظفة مستغرقة فى جدل حام فى الهاتف مع واحد سيئ الحظ من ممثلى شركة الكهرباء . ولكنها ابتسمت لميغ مشيرة إليها بأن تذهب إلى باحة الفندق . كانت الشمس قد عادت , بكل قوتها وتألقها , لتغرق الكائنات بفيض أشعتها الذهبية . وجلست ميغ إلى أحدى تلك الطاولات الحديدية المزخرفة المنتشرة فى الباحة ترشف كوبا من العصير وتقرأ فى الكتاب . لم يكن من السهل , فى هذه الأمسية الرائعة , أن تركز ذهنها فى ما تقرأه , كما انه مما يدعو للاكتئاب أيضا , أن الكاثار كانوا يعتقدون أن الجنس البشرى وكل شئ أخر هو مكون فى جوهره , من الإثم . ولكى يتجبنوا اللعنة اتبعوا نظاما صارما من الصلاة والصوم والامتناع عن الكحول بما فى ذلك الامتناع عن أكل اللحوم . كما كان يدعون أيضا إلى العزوبية دون الزواج . وفكرت ميغ فى أنه لابد أن الغالبية من أتباع هذا الدين لا يتبعون أوامر دينهم تماما , وإلا لانقطع نسلهم منذ أجيال , ومن وجهة نظر العصر , يبدو دينهم غريبا أكثر منه خطرا , وبعد فإن الجيوش قد أرسلت لتمحوهم عن وجه الأرض , تماما كما تضرب الذباب بمطرقة ثقيلة . أدركت أن جيروم قد وصل حتى قبل أن يسقط ظله على صفحة الكتاب التى كانت تقرأها . فقد انتبهت إلى حركة حول الطاولات المجاورة , ورفع النساء لحواجبهن وتمتماتهن وهن يدرن رؤوسهن لكي ينظرن إليه أثناء عبوره الباحة . قال لها بالفرنسية :" مساء الخير " وكان يرتدي بنطالا عاجى اللون وقميصا كستنائيا مفتوحا عند العنق . وكانت غرته السوداء الكثيفة العاصية فوق جبينه قد نظمت نوعا ما . وعندما ردت عليه التحية , خطر لها ان غرته المتمردة تلك قد تكون هي مفتاح اللغز فى شخصيته . وأن تحت هذه الملابس الغالية , والسلوك المتمدن , تكمن نزعة إلى العنف تنتظر لحظة الانفجار . وتساءلت عما إذا كان فنانا , فلابد أنه ناجح جدا . إذ أن ساعته وسيارته , وكل شئ يتعلق به يدل على الثراء . ولم يبد عليه أنه لاحظ شيئا من الاهتمام الذى أثاره قدومه , وهو يجذب كرسيا ليجلس عليه , مشيرا إلى النادل لكى يحضر له الشراب واعجبها منه عدم انتباهه إلى مقدار جاذبيته , فقد اعترفت ميغ . بينها وبين نفسها , أنها لأول مرة فى حياتها , تواجه رجلا تطغى الجاذبية المتدفقة منه على أية وسامة أو جمال مظهر . ولم تعرف كيف تتعامل مع ذلك . قال : "إنك تبدين فى منتهى الجد , أرجو أن لا تكون ثمة صدمة ما زالت فى نفسك مما سبق وحدث . " فهزت رأسها نفيا وهى تقول باشمئزاز : " كلا , وإنما أفكر فى ظلم الإنسان للإنسان ." فألقى نظرة على الكتاب الذى فى يدها وهو يقول : " انها أفكار حزينة بالنسبة لأمسية مثل هذه . " ورفع حاجبيه وهو يقرأ عنوان الكتاب : " بلاد الكاثار . هل تهتمين بقراءة مثل هذه المواضيع ؟ " فقالت وهى ترفع ذقنها متحدية : " ولم لا ؟ " وتساءلت باستياء , أتراه يظنها غبية لمجرد تركها لقضية سيارتها تحت سلطته ؟ وأخذ يتأملها فترة طويلة وعلى وجهه تعبير غامض . ومالبث أن هز كتفيه قائلا : " حسب قولك . لم لا ؟ إنك مخلوقة مليئة بالمفاجآت , يا مارغريت ." فقالت : " ليس أنا فقط . إن كلانا منا لا يعرف شيئا عن الآخر ." قال برقة : " هذه الليلة , إذن , ستكون رحلة استكشافية ." ربما كان يسيطر على السيد مونتكورت فكرة تأثيره على النساء , فأصبح مطمئنا إلى قدرته على إغرائها بسهولة ؟ وربما يعتبر ذلك ثمنا لمساعدته تلك لها . حسنا , ليس عليه ان يتوقع شيئا .. كانت عابسة وهى تفكر فى ذلك بصمت . وفكرت ميغ فى أن مارغوت كانت , بلا شك , ستستمتع بهذه اللعبة جدا لو كانت مكانها , فتتقدم وتتأخر , وتقدم وعودا كاذبة وفى النهاية , إما أن تبتعد نهائيا وإما أن تبقى .. حسبما تشاء . وربما لايتنج أى ضرر فى ما لو زاولت هى هذه اللعبة لهذه الليلة فقط , أوربما تتعلم بعض قواعدها . وفكرت فى أنه ربما هذه هى فرصتها لكى تتعلم كيف تعيش ضمن الخطر ! وفرغ جيروم مونتكورت من احتساء شرابه ., ثم نظر إلى كأسها الفارغ وسألها : " هل نذهب , أرجو أن تكون مغامراتك هذه النهار قد منحتك شيئا من الشهية ." أشرق وجهها بالابتسام وقالت وهى تدفع كرسيها إلى الخلف ثم تقف منتصبة :" إنها أولى تجاربي مع الطعام الفرنسي , ولا يمكننى الانتظار أكثر من ذلك ." كانت الشمس قد مالت إلى المغيب , بلونها القرمزى الأخاذ , عندما قاد السيارة خارجين من الوادي . ومالت ميغ برأسها نحو الشمس وهى تهتف : " ما أروع هذا ., سيكون نهار غد رائعا . " ابتسم وقال يغيظها :" هل ستحدث عواصف أخرى ؟" هزت كتفيها قائلة : " أرجو أن لا يحدث ذلك ." قال : " لقد كان حظك سيئا . ذلك أن العواصف ,. عادة تحدث فى الليالى , وأحيانا أثناء قيادتك للسيارة , ترين البرق بتلاعب حول التلال مشبها أضواء مسرح صامت . وفجأة تقتلع شجرة من جذورها ليجن بعد ذلك الكون كما سبق ورأيت بنفسك ." قالت بأسى : " لقد رأيت . أليس عندك شئ أفضل من ذلك يمكن للسائح أن يراه ؟" أجاب : " ربما سيناسبك الفجر أكثر , حيث ذلك الخط من الضوء النقى فى السماء الذى يفرق النجوم , قبل أن ترتفع الشمس فوق الأفق . " فألقت عليه نظرة جانبية وهى تقول : " إنك تتكلم كشاعر . هل أنت كذلك ؟ " فضحك قائلا : " كلا مع الأسف , إن عملى بعيد عن الشاعرية , مع ان والدى كان يهتم كثيرا بأشعار هذه المنطقة .. أغانى التروبادور وما يليها ." سألته : " هل كان يكتبها بنفسه ؟ " فهز رأسه نفيا وهى يقول : " كان أبى يعيش فى أرض تعود إلى عائلته , يغرس كرومه بنفسه . كان يعشق الحياة البسيطة ." قالت : " هذه الحياة تتراءي لى جميلة حقا " قال : " أظنها كانت قاسية , فى إحدى الفترات , ذلك أن الحياة البسيطة تصبح معقدة أحيانا , وفى النهاية , عاد أبى إلى باريس ." سألته : " وهل تعيش أنت أيضا تلك الحياة البسيطة ؟" أجاب باسما : " حسب استطاعتى , ولكننى مهندس فى أغلب الأحيان . وقد اعتدت العمل فى باريس , ولكن أعمالنا تمتد وتتشعب فى أنحاء البلاد , وأنا حاليا مستقر فى تولوز ." قالت : " أى أنك عدت إلى جذورك ؟" أجاب : " تماما . وأنا أعمل بصورة رئيسية , مستشارا فى حفظ وترميم المبانى القديمة . أى البيوت التى كانت قد أهملت فى غمرة الانجراف الكاسح من الأرياف إلى المدن . والتى عادت الآن مطلوبة . قالت مفكرة : " أظن أن إصلاح نسج التاريخ هذا فيه من الشاعرية والخيال بقدر ما فى الشعر نفسه " فازدادت ابتسامته اتساعا وهو يقول : "إننى فى الواقع . أتفق معك فى هذا , ولكننى لا أقول ذلك لعملائى وإلا فهم يتوقعون منى أن أعمل لأجل الحب وليس لأجل النقود ." سألته : " هل تعمل حاليا , فى مشروع ما .؟ " أجاب : " تقريبا , وأنا الأن فى إجازة رسمية " ولما لم يبد عليه رغبة فى التحدث فى هذا الموضوع . سكتت . وسألته بعد برهة : " هل تفتقد الحياة فى باريس ؟ " هزرأسه نفيا وهويقول : " إننى لا أفتقد أية مدينة . لقد اختارت أسرتي الحياة هناك ما عداي ." فعادت تسأله : " هل أسرتك أصلا , من المنطقة من البلاد ؟" أجاب : " نعم . إن جذورنا دوما كانت هنا , وفى الواقع , كان جدي هو أول من انتقل من هنا كليا ." سألته : " ألم تخطرله العودة قط ؟" هز كتفيه قائلا : "لقد كانت جدتى باريسية لا تحب الحياة فى الريف ." قالت : " ولكنك أنت عدت " اجاب :" نعم , عدت إلى حيث أنتمى ويسعد قلبى ." فكرت ميغ بشئ من الكآبة فى أنه لم يحدث قط أن كانت هى متأكدة ,. يوما مما تريد , كما يبدو عليه هو . فهى ما زالت تعيش فى آخر منزل لأبيها ولكنه قد تحول كليا حسب ذوقة زوجة أبيها ايريس مما جعل ميغ تشعر , فى أغلب الأحيان وكأنها غريبة , وهى قد أصبحت الآن دون عمل تعول به نفسها , وهكذا شعرت بنفسها هائمة فى العالم ,. وربما حان الوقت لكي تجد لنفسها مستقرا تمد فيه جذورها . وابتدأت الان تتساءل عن المكان الذى كانا ذاهبين إليه . فقد كانت تظن أنه سيأخذها إلى مطعم محلى لاتكون فيه الكهرباء مقطوعة . ولكن سيارته الستروان كانت تسير فى سرعة فائقة , وتمنت لو كانت لاحظت إشارات السير , لترى على الخارطة التى تحملها معها فى حقيبتها , وجهة سيرهما هذه . وكأنما لاحظ شرودها . فسألها : " أتحبين أن تسمعى شيئا من الموسيقى ؟ " أجابته بسرعة : " كلا . إننى أفضل متابعة المناظر والحديث , ولكن إذا رأيتنى أكثر عليك بالأسئلة . نبهنى إلى ذلك ." فرمقها بنظرة سريعة , ثم عاد ينظر إلى الطريق وهويقول : " لا أظنك توجهين إلى اسئلة لا أحب الإجابة عنها . هل الأمر كذلك بالنسبة إلى يا مارغريت ؟ " أجابت : " طبعا . فليس لدي ما أخفيه ." قال هازلا : " امرأة دون أسرار ؟ ذلك شئ غير معقول . " فضحكت وهى تقول : " كلا , إن حياتى غير معقدة , بل ومملة أيضا . " وفكرت فى أن حياتها كانت كذلك فى الحقيقة . قال : " ومع ذلك , أراك تسافرين بمفردك , وتهتمين بهذه المنطقة أكثر مما يفعل السياح عادة , وهذا لايدل على انعدام فى النشاط . أظنك تخفين شيئا فى أعماقك , يا مارغريت ." كان فى صوته نبرة جعلت قلبها يقفز من موضعه وأجابت بشئ من الإنفعال : " إن ذلك يقال عن كل شخص يولي إجازته اهتماما غير عادي ." سألها بعد صمت قصير : " أخبريني . لماذا تلكأت بالجواب حين سألتك أن تتعشى معى ؟ هل هنالك صديق فى انكلترا , قد يعقد الأمور ؟ " وفكرت ميغ ساخرة فى تيم هانزبي , ثم قالت :" لا يوجد أحد ." فقال بلهجة يبدو فيها الشك : "لا أصدق أنه لا يوجد ثمة شخص تهتمين به ." هزت كتفيها وقد منعها الكبرياء من الاعتراف بأنها حتى الآن , ما زالت تحتل مكانا غير ملحوظ على الرف . وان هنالك شخصين فقط يهمانها حقا , هما صاحب المكتبة الذى تقاعد الآن , وامرأة مسنة كانت لها بمثابة الأم ومنحتها من الحنان والعزاء ما عجز أبوها إزاء حيرته وألمه لفقد زوجته الشابة , عن تقديمه إليها , وأنها هنا الآن , بسبب هذين الشخصين . وازدرت ريقها . ليس لديها الكثير لتتحدث عنه , فى سنيها العشرين هذه , ثم ان هذا ليس الوقت المناسب للشعور بالحزن لأجل نفسها , ولكن . ما شأنه هو بذلك فى ما لو لم تشأ هى أن تكون صريحة ؟ ثم لماذا هي تسعى لأن تبدو مثيرة للاهتمام فى الوقت الذى عندها فيه ما تخفيه ؟ قالت متحدية : " وهل هذا يغير من الأمر شيئا ؟ إن دعوة إلى العشاء لا تستلزم موعظة فى الوفاء . " والتقطت أنفاسها وهى تتابع : " ثم انك أيضا قد تكون متزوجا." فرد عليها قائلا : " وهل لكونى متزوجا أية أهمية ؟ " شعرت بانه يراوغ فى كلامه , مما جعل قلبها ينتفض هلعا بشكل غير معقول . أجابته : " اظن الأمر مهما جدا بالنسبة إلى زوجتك ." قال : " من حسن الحظ إذن , ان لا زوجة لي بعد . " كانت لهجته , وهويقول ذلك , مزيجا من السخرية وشيئا غامضا لم تدرك كنهه . فغمغمت تقول : " هذا من حسن حظها هي , على كل حال ." وشعرت , وهى تقول ذلك , بالاشمئزاز من نفسها لهذا الشعور بالارتياح الذى اكتنفها والذى جعلها سيئة الخلق لتقول شيئا كهذا . فقال بلهجة تحوى شيئا من اللوم : " ليس هذا من اللطف فى شئ , ألا تظنين أننى ساكون زوجا جيدا ؟ " فأجابت باقتضاب : "لايمكننى إعطاء رأى صحيح فى هذه المدة القصيرة من تعارفنا . " كانت تعلم أنه يضحك منها رغم الجد الذى يبدو على ملامحه والذى يقرب من العبوس . فقال : " ولكن لا شك أن عندك مثلا أعلى فى خيالك , ماهى الصفات التى تريدينها فيه ؟ هل تتطلبين فيه الأمانة الزوجية ؟" أجابت ميغ وهى تعبث بشريط حقيبة يدها : " أريده أن يحبنى , ويحبنى أنا فقط , كما أحبه , وأظن هذا يسهل أمورا كثيرة . " سادت فترة صمت قال بعدها : " هذا يكتسح كل شئ بالتأكيد . ولكن إذا حدث , بالرغم من هذا الحب , وتدخلت امرأة أخرى تريد أن تسلبك مثلك الأعلى هذا , ما الذى ستفعلينه , عند ذاك ؟ هل تضحين بنفسك ؟ هل تطلقين سبيله ليذهب إليها ؟ " فأجابت بعنف : " كلا . سأكافح للاحتفاظ به بكل ما أملك . " فقال بصوت منخفض : " هل ستكونين عديمة الرحمة ؟ هل ستستعملين السلاح ؟ " فأجابت مترددة : " طبعا , ولكن لماذا توجه إلى كل هذه الأسئلة ؟" فقال بلطف : " لأننى أريد أن أعرف يا صغيرتي , فهذه المعرفة هى جزء من رحلة الاكتشاف التى تحدثت عنها , وقد وجدت أنك ستدافعين عن حبك كالنمرة ." ومرة أخرى , ظهرت تلك النبرة الغامضة فى صوته . ووجدت ميغ نفسها ترتجف . فلاحظ هو ذلك وسألها : " هل تشعرين بالبرد ؟" فقالت وهى تتصنع ابتسامة :" أوه , كلا . ربما أنا جائعة ." وذهب بها التفكير , وهى تقول هذا إلى الغداء الذى سبق واشترته للنزهة تلك , وسحق مع السيارة . فقال : " لقد صبرت وقتا كافيا وآن لك أن تأكلى ." واستدار بالسيارة فجأة خارجا من الطريق العام ليدخل فى طريق يقود إلى أسفل التل . واستندت ميغ بيديها عندما تأرجحت السيارة ثم قفزت فوق الأحجار والأخاديد العميقة. وشهقت قائلة : " هل يوجد ثمة مطعم فى هذا المكان ؟ أرجو أن يكن هناك طريق آخر نخرج منه ؟" فأجاب : " انه ليس مطعما . " كان أمامهما مجموعة من مبان سابحة فى الشفق الوردى للشمس الغاربة . وكان ثمة دخان ينبعث من مدخنى من إحدى تلك المبانى , ليعلو متلويا بكسل فى الهواء الساكن . منتدى ليلاس قالت : " أين نحن إذن ؟ " لقد بدا وكأنهما فى متاهة . وشعرت بالعزلة تكتنفهما إذ لم تر أية سيارات هناك . لا شك ان هذا المكان غير مأهول . قال وقد عادت السخرية إلى صوته : " هذا هو منزلى . منزل العائلة الذى حدثتك عنه . " سكت برهة ثم عاد يقول : " لقد صممت يا جميلتى , على تناول الطعام فى منزلى هذه الليلة , مستمتعين باستكشافنا المتبادل وحدنا , وآمل أن يوافقك هذا . " |
الساعة الآن 09:40 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية