منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   خواطر بقلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f725/)
-   -   ليلة عزاء العمدة (https://www.liilas.com/vb3/t108424.html)

ربيع عقب الباب 04-04-09 08:28 AM

ليلة عزاء العمدة
 
ليلة عزاء العمدة
بالفعل كانت ليلة رهيبة ، عاشتها قرية الناصر ، كنت تستطيع أن تسمع بوضوح ، ولو كنت هناك على مشارف حدودها ، أصوات الرجال ، وهى تصهل فى ليلها ، و كأنهم بين وهج نار ، بين أنياب وحوش ضارية ، الغوث يطلبون ، بينما بين الفينة و الأخرى تعلو أصوات ضربات ، و طرقات عصى ، تشج الحجر الصوان ، وربما صراخ نسوة ، وفى الخلاء ركضهن ، يبدو واضحا ، مسرعات طالبات النجدة !
لن تنسى القرية ليلة بالتأكيد ، نكص رؤوسهم فيها الرجال ، و بشكل مفاجىء ، ومبكٍ لأبعد حد ، أمام نسائهن ؛ فقد كانت ليلة ، ودعوا فيها ابن العمدة الصغير ، و بكامل عددهم احتشدوا لعزاء كبيرهم ، و أحد منهم لم يتخلف ، مخافة ورهبة ، وربما إتباعا لحديث رسولنا الكريم !
اندفع الرجال ، كل من طريق ، و كأنهم بالفعل يعرفون ما انتابهم ، كان ذلك قبيل أذان الفجر بساعتين على الأكثر ، كل وضع فى عينيه صورة و قامة ، وكفا أطبقت على كفه ، كف كان لها قوة السحر ، و اتجاها يسير فيه ، و بأسرع ما يمكن ؛ لدرء خطر داهم ، بعد أن طاشت رجولتهم ، و هراء أمست ، و عجزا ناقعا ، ربما حمل واحد منهم شرشرة أو فأسا أو بلطة ؛ دفاعا كانت عن كينونتهم ووجودهم ، فلا يصح بأية حال ، ومهما كان ، أن يصبحوا أمام النساء بلا جدوى ، ليكون التخبط ، وقلة القيمة ، و البحث عن بدائل هم فى غنى عنها .. !!
عطوان .. كانت البلطة معلقة في جيب سرواله ، و قد لف جلبابه حول وسطه ، و بين المزارع اتخذ طريقا ، و قطيع من كلاب يطارده ، فما كان منه سوى التقاط كمية هائلة من الطوب و الحصى ، و صكها في رؤوسها، أو كيفما اتفق ، حتى و صل بعد مكابدة إلى عزبة السبع ، التي ترقد فيها بغيته .
بجانب مصرف كانت مشاية ، أى جسر لعبور، ونقيق يدوى ، ولا ينقطع صرير ، و عفاريت تترقص ، و ترمى بنفسها على تراب السكة ، تتراقص به ، وتنهكه ، هو لا يهدأ ، وإن نال منه الخوف ، إلا أنه مستمر ، و بالحصوات ، و بعض آيات قرآنية ، يطارد شياطين و عفاريت ، تراوغه وتكاد تبكيه ، حتى وصل أخيرا ، و قد طقطق شعر رأسه تماما !!
طرق بابا مغلقا بالبلطة. أفزع من كان خلفه ، و لكن سرا في الأمر ، الباب فتح ، و قابله وجه الشيخ بركات ، عبوسا في أول الأمر ، وحين تأكدت حاجة القادم ، ابتسم وهو يتابع شيئا خلفه ، وأخيرا فتح له ؛ ليعبر إلى الداخل :" أنا مش جى أتضايف .. اخلص ".
بافتعال تصنع الغضب :" قال يا قاعدين يكفيكم شر الجايين .. مالك ".
و فجأة رفع البلطة :" قلت لك اخلص ، و بلاش لف و دوران .. يللا ، لأحش رقبتك !! ".
هنا تراجع بركات قليلا ، و على دكة خلفه استرخى:" طيب ماشى .. أمرك .. بس أعرف ..مش نتفق الأول على الحلاوة ؟!".
قليلا هدأ عطوان ، وعن غضبه لم يتنازل:" اللى تقول عليه يا كافر .. بس خلصني ".
كانت لعبة ، لعبها عبد الجبار بمهارة ، بعد كساد الحال ، و عجزه تماما ، عن تدبير مال لازم لسفر ولده ، إلى دولة خليجية ، فراح يلف على كل معارفه ، من شيوخ المندل و الكوتشينة ، و الربط و الأعمال ، و غيرهم من الدجالين المهمين والمعروفين بسوء فعالهم ، ممن وضعهم الناس ، فى بؤرة أهل الإيذاء والسحر و تناسوهم حتى بالسلام .
دبر معهم الأمر ، على أن ينال نسبة من حصاد عملهم ، ووافقوه تماما ، كانت مناسبة عزاء العمدة فى ولده كافية ، تماما كافية وعز الطلب ؛ لملء جيوبهم ، بل أكثر ، امتلاك مالم يستطيعوا خلال سنين من أغنام و ماعز !
في طابور المعزين على منافذ المقابر اندسوا ، متباعدين وقفوا ، كل أهل القرية مروا عليهم ، رجالها و شبابها ، و برغم اكتراث الجميع ، و محاولة تجاهلهم ، إلا أنهم ، و بلا استثناء وقعوا في الشرك ، و سلموا عليهم ، لتكون هواجس و قلق و استرابة ، تلازمهم بشكل بشع ، بل مرضى ، حتى فراشهم ، و لم يستطع سوى قلة التغلب على هذه الحالة ، لأن رؤوسهم كانت قادرة ، على الفتك بأي هاجس قد يحاول النيل منها ، وهؤلاء يطلق عليهم الدجالون :" دمهم زفر كالشياطين !!".
طائرا عاد عطوان ، يركل الأرض ، و الشياطين يضاحك ، وعفاريت المصرف ، بل و يكاد ينازلهم ، و من بعيد تنتظر أوبته الكلاب ، و مر من بينها ، و بكل بساطة ، و حين ابتعد قليلا ، كانت تركض خلفه ، وهو يطير مفعما ، يلوح بالبلطة ، كان يلمح على مدد الرؤية الكثير من الهياكل ، تسعى فى ظلام البلدة ، بين مغادر و عائد ، حتى وصل داره ، فرمى بالبلطة جانبا ، وفى لمح البصر تخلص من جلبابه ، و كافة ثيابه ، وطار ، وحط في أحضان زوجته ، أكثر فحولة وبأسا !
:" أنت واد غلبان .. كفاية عليك ورقة بخمسة .. قلت إيه ؟!!".
:" يعنى جيت فى جمل .. يللا بس أنت .. الله لا يسيئك ".
قدم له الورقة ، وهو يتأمل فيها عرقه ، و بيد مترددة ، فلقفها منه بركات ، وفورا وضعها في جيبه ، و أمسك به ، وعزم عليه ، ببعض كلمات يتمتم، وسهم الله كأنه حط بقلب عطوان ، لا ينطق ، ولا يأتي ببنت شفة ، يفغر فاهه كأنه يعبئه بأشكال التمتمات ، و رائحتها ، أو هو يتذوقها .
:" خلاص ياعم .. يللا .. بقيت صاغ سليم .. اتكل على الله ".
:" جد .. أما لو بتضحك عليه ؛ و الله لأجيب خبرك ، أفلقك اتنين ".
:" يللا يارجل ، بلاش جعجعة زى عدمها .. لا .. تعالى من هنا ، ما يصحش حد يشوفك ياوله .. يللا ، الباب التانى وراك أهووه ".
عاد الهدوء للقرية مع حلول الفجر، حين خمدت أوتار النشوة ، و نامت رؤوس النار ؛ بينما كانت دار عبد الجبار تلفها ألسنة دخان معبأ بالكيف ، و ضحكات ساخرة تعلو فيها ، و ربما مساومة أحد الرجال على حصة أكبر ، و لكنه بالتأكيد كان يفكر في حيلولة فعل ذلك مرة أخرى ، فى الوقت الحالي على الأقل ؛ حتى ينسى أهل القرية والعزب المجاورة ، ليلة عزاء العمدة في ولده الأصغر !!

Eclipse 09-04-09 09:55 AM

ليلة عزاء العمدة..
أتذكرها جيداً محفورة أحداث ذلك المساء في ذاكرتي..!!
الأستاذ:ربيع ..
الانتقال السلس المنسجم في وصف الأشخاص وأحوالهم يجعلك تشعر أنّ كلّ هذا يحدث على مرأى من عينك.
لا أعلم كيف تراءى لخاطري أن خلف هذه الأحاديث أحاديث أخرى أكثر عُمق..
ربيع
حسبي أنك تدرك قيمة حرفك عند الجميع؛ فلا تتوانى عن الاستمرار؛برغم انه لا يوجد تعديل فهو مجرد آمر مؤقت لحين استقرار بعض الامور..
شكراً بحجم السماء..

لِمَ السؤال؟ 09-04-09 01:43 PM

ليلة العزاء تلك
قرأتها روائحة القهوة تنبعث من الكوب الموضوع جواري
أنهيتها وأعدتها
والقهوة أضحت ثلجـًا .. من غير إدراك مني

نسج عميق أيها الأستاذ

ربيع .. لأحرفك عمق لا يراه من لا يقرأ ما بين السطور

دام الفكر والقلم


الساعة الآن 05:56 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية