منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله (https://www.liilas.com/vb3/f717/)
-   -   القلب الجريح للكاتبه النبع الصافي (https://www.liilas.com/vb3/t105845.html)

dali2000 22-02-09 06:41 PM

القلب الجريح للكاتبه النبع الصافي
 
بسم الله الرحمن الرحيم

القلب الجريح ...

الكاتبه : النبع الصافي



التفت الجميع حول كعكة عيد الميلاد، التي تتوسط تلك المائدة الحافلة ، في منتصف الردهة، ليطفئوا شموع العيد ، التي ازدانت بها الكعكة ، ثم أحاطوا بصاحبة الحفلة (غادة) ، وهم يصفقون، ويهنؤنها بعيد ميلادها الخامس والعشرين ، واشراقة وجهها تؤكد مدى سعادتها وبهجتها بهذا الجو المحيط بها ، واجتذبها والدها من بين اصدقاءها ، وانتحى بها جانبا ، وقبلها بحنان أبوي صاادق وهو يقول:

كل سنة وانت طيبة يا (غادة)

غادة وهي ترنو اليه بنظرة تشف عن حبها وتقديرها له:وانت طيب يا أبي.. لايمكنني أن أعبر لك عن امتناني وسعادتي ، لكل ما بذلته من اجل ان يبدوا حفل عيد ميلادي بهذه الصورة.

الأب وهو يقرص وجنتها في رقة : اتنتظرين أقل من ذلك ، من أب يحتفل بعيد ميلاد ابنته الوحيدة التي لايتمنى من دنياه سوى سعادتها ورؤية وجهها بهذه الأشراقة؟

اقترب منهما في هذه اللحظة عادل وهو شاب متوسط الطول كستنائي الشعر ، يفيض بالحيوية والوسامة وابتسم .

عادل : عمي هل تسمح لي بغادة قليلا.

الأب وهو مازحا: هاهو ذا منافس جاء ليخطفك مني

غادة وهي تضحك: كان من الضروري ان تنتبه لذلك ، قبل ان توافق على خطبتي له .

التفت الأب الى عادل: تصور !! كانت تريد مني ان افكر ، وانا ارى هذا الحب في عيونكما .. حسنا عادل سوف اتركها لك ، ولكن لاتنس أن لديها الكثبر من المدعوين هذا المساء فلا تكن انانيا وتسرق السهرة كلها.
تناول عادل من جيبه علبة من القطيفة وقدمها لغادة وهو يقول :كل سنة وانت طيبة.

غادةشاهقة: ياله من سوار الماسي رائع .. رمقته بحب وحنان يبدو انه كلفك الكثير.
التقط كفها بين راحتيه ، وهو يقول في همس : لاشيء في العالم يغلوا عليك .. أأعجبك حقا؟؟
أطرقت في حزن مفاجىء وهي تغمغم:
كنت أتمنى هدية أخرى .. أن تخبرني بانك لن تسافر الى (باريس) غدا.

عادل : كم تمنيت ذلك ! ولكن سفري محتوم لأنهاء رسالتي للدكتوراه في ( السوربون).
غادة: ولم لم تستكمل دراستك في احدى الجامعات التي هنا ؟.. لماذا السوربون؟

عادل : انها رغبة أبي كما تعلمين ، ثم ان الحصول على الدكتوراه هنا يستلزم المزيد من الجهد.
ومسح وجنتها بانامله ، محاولا أزالة العبوس عن وجهها قائلا:

لم اتصور ان فراقنا سيحزنك الى هذا الحد .. هيا ؟؟ دعينى أرى ابتسامتك في عيد ميلادك.

غادة في حزن: ولكنك ستذهب الى باريس غدا.

عادل: اجلت سفري خصيصا ، لحضور عيد ميلادك ، ثم انها ليست المرة الأولى التي نفترق ، سانهي رسالة الدكتوراه في ستة أشهر فقط وبعدها نتزوج ولا نتفترق ابدا.


غادة: ماذا ننتظر ؟ لاشيء ينقصنا ، فلنتزوج ونسافر معا .

عادل : والدي يقول : انه من الضروري ان استكمل دراستي اولا ، فالزواج في رايه سيشغلني كثيرا ، وخاصة انجاب الأطفال وتضاعف المسؤليات ، ثم ان الدراسة ستقتطع الكثير من الوقت ، الذي ينبغي ان امنحه اياك.

غادة: يا الهي ! الم تتحرر بعد من اوامر ونواهي والدك وحططه الدقيقة لحباتك ومستقبلك؟

عادل : انت تعلمين ان ابي كان وسيظل مثلي الأعلى دوما، فهو صاحب عقلية منظمة للغاية لقد عمل لصالحي دوما ومنهجه في الحياة سر نجاحي وتفوقي.

غادة : لست اققل من شأن والدك بالطبع ، ولست اعترض على ان يظل دوما مثلك الأعلى ، ولكن من الضروري ان تكون لك شخصيتك المستقلة ايضا ، وان تحطط لمستقبلك بنفسك لأنك سوف تكون في المستقبل زوجا وابا وليس من المستساغ ان ترجع في كل خطواتك الى ابيك حينذاك.

عادل وهو متوتر: ألا ينبغي ان نؤجل تلك المناقشة لما بعد ؟ ان اصدقائك ينتظرونك كما قال والدك ، وسأسافر انا الى باريس غدا فلنسعد بليلتنا اذن.

غادة في استسلام: معك حق

تشابكت ايديهما ، وهما يتجهان الى أصدقائهما ، وعادت الأبتسامة تشرق على وجهها مع اندماجها في جو المرح رفعت يدها الى والدها هاتفة:

ارايت السوار الماسي الذي اهداه لي عادل ابي.

الأب:انه رائع حقا الم اقل لك ان عادل هذا منافس شديد لقد اطاحت هديته الثمينة بهديتي المتواضعة

انطلقت صيحات وشهقات الأعجاب من أفواه الأصدقاء وهم يبدون تقديرهم لتلك الهدية.

حملت غادة الى والدها طبقين من الحلوى وهي تقول:

اين ذهب عادل وعمي جمال يا ابي انهما لم يتناولا كعكة عيد ميلادي بعد.

الأب:اظنهما في الشرفة ، فقد رأيتهما يتجهان اليها مع الدكتور ( صادق) .

غادة في مرح : حسنا سوف اذهب خلفهما

لم تكن تعرف انها ذاهبة الى حتفها.

اتجهت في مرحها المتزايد ، ولكنها لم تكد تخطو اليعا حتى سمعت

جمال وهو يهمس لأبنه في حزن:
انها الحقيقة يا ولدي على الرغم من كل ما يغلفها من حزن ان غادة مريضة و الموت يهدد حياتها في كل لحظة .

هبط هذا القول على غادة هبوط الصاعقة فتجمدت في مكانها لحظة وخفق قلبها في عنف ، قبل ان تختفي خلف خملية من النباتات المتسلقة وتسمع عادل يقول مستنكرا:

مستحيل يا ابي !!! مستحيل غادة بكل حيويتها مريضة ؟؟ لا يمكنني ان اصدق ذلك .

جمال : ما كنت انا اصدق ذلك ، لولا ان اخبرني الدكتور صادق .

تنحنح الدكتور صادق في مزيج من الحرج والأشفاق وقال:

صدقني يا ولدي .. لولا صداقتي لأبيك ، ولولا خطورة مرض غادة الذي لا تدري عنه شيئا ، والذي يجعل سنواتها في الدنيا معدودة ، ما اخبرتك الحقيقة ولكن تلك المسكينة تعيش بقلب مريض ، مهدد بالأزمات دوما ولو تجاوزت بعضها ، فستاتي حتما أزمة قاتلة , ولقد اوهمتها انا ووالدها ان حالات الأغماء التي تصيبها في الآونة الأخيرة هي نتيجة ارهاق ولكن ازمتها الأخيرة تشير الى ان قلبها قد بلغ حالة من الضعف تهدده بالتوقف عند اول ازمة قادمة.

عادل وهو يهز رأسه مرددا في ذهول :

مستحيل !! مستحيل

جمال: حاول ان تبدو متماسكا ، حتى لا تنتبه هي لذلك ، فانا حزين مثلك لمرضها ، ولكن يؤلمني ان والدها اخفى الحقيقة عنا على الرغم من معرفته بخطورته وهذا يعد نوعا من الغش.

عادل هاتفا: ولكني لن اتخلى عنها ايا كان الأمر.

جمال وقد اكتست ملامحه بالصرامة وهو يقول:

كف عن هذا العبث انه امر يتعلقك بمستقبلك ، ولقد عودتك الا تتعامل نع مستقبلك على هذا النحو العاطفي .. ان افضل الفتيات وافضل الأسر تتمناك ، ولا يوجد سبب واحد يدعوك الى ربط مصيرك بمصير فتاة مريضة لمجرد الشفقة.
عادل بمرارة: ولكني احبها

جمال : الحب ليس كل شيء المهم هو مستقبلك الم تسمع ما قاله الطبيب ؟ انها ستموت .. ولن يورثك هذا الحب سوى الآلام والحزن وخاصة اذا ما تعلقت بها كزوجة.

ملأ الألم ملامح عادل وهو يقول:
بالله عليك يا ابي .. لا تتحدث بهذه القسوة انني .....

بتر عبارته بغته ، عندما هوت الأطباق التي تحملها غادة ، وتحطمت على أرض الشرفة ، وأطلق قلبها المريض صرخة ، حملت كيانه المتزلزل بتلك الصدمة وتفجرت الدموع من عينيها كالسيل وهوت ..

هوت بجرح غائر في اعماقها..

.
.

فتحت غادة عينيها ، وهي تشعر بالألم ، وشعرت بصداع شديد يكتنف رأسها ، وتبين لها،

من خلال الضوء الخافت ، الذي تسلل الى عينيها ، شبح وجهي والدها و الدكتور صادق

فعادت تغلق عينيها مرة اخرى وسمعت الدكتور صادق يقول لأبيها:

حمدا لله .. لم تؤثر الصدمة على قلبها .. أنها بضع كدمات فحسب سقوطها في الشرفة ،

ولم تعاودها الأزمة.

ردد الأب: حمدا لله .. حمدا لله.

ثم تطلع الى ابنته بنظرة ملؤها الحزن ، مستطردا:

فليرأف بك الله يا بنيتي .. لا ريب انها كانت صدمة قاسية.

عاد الدكتور صادق يهمس في أذنه: سأسافر الى ألمانيا بعد يومين .. فلا تتردد في الأتصال بي سريعا ، أذا ماتعرضت لأية مضاعفات .

و تطلع مرة اخرى الى غادة ، التي تظاهرت بالنوم ، وأردف :

والآن هيا .. فلنتركها تستريح.

لم يكد يصحب والدها الى الخارج، حتى فتحت غادة عينيها مرة اخرى ، وقد أغرقتهما الدموع وادارت وجهها جانبا ، وحاولت ان تمنع دموعها من الأنهمار ، الا هذا زاد من غزارة الدموع ، حتىبللت وسادتها.

تناهى الى مسامعها صوت الباب يفتح مرة أخرى ، ووقع أقدام والدها يقترب من فراشها قبل ان يقول في صوت خافت يعتصره الحزن:

غادة اما زلت نائمة؟

أجابته بصوت اختنق بالعبرات ، دون أن تدير وجهها اليه:

لا يا أبي .. أنني مستيقظة .

الأب: حمدا لله يا بنتي .. حمدا لله على سلامتك .

امتزج حزنها بشىء من الغضب ، وهي تقول:

لماذا يا ابي ؟ .. لماذا اخفيت عني الحقيقة ؟


أجابها في صوت يحمل أطنا نا من الأسى والأسف :

لم أشأ ايلامك يا بنيتي .. كان لدي دوما امل في تشخيص أفضل ، أو علاج جديد.. لقد طلبت الحصول على أجازة من عملي في الشهر القادم ، لأصطحبك الى لندن وكنت سأخبرك انذاك.

غادة في مرارة: وما الذي يمكن أن يقدموه في لندن لقلب يحتضر ؟

الأب في ضراعة:
لا تقولي هذا يا بنيتي .. أننا لم نفقد الأمل بعد .. ربما كان تشخيص صادق خاطئا .

استدارت تواجهه بعينين مغرورقتين بالدموع ، قائلة:

كان من الضروري ان تخبر عادل ووالده كان من الواجب ان يعلم ان الفتاة التي خطبوها تحمل بين ضلوعها قلبا عليلا .. هذا افضل من ان نخدعه.

الأب في حزن: عادل يحبك ، وسيتمسك بك ايا كان

.
.

سألت غادة أباها في لهفة ورجاء : أهو هنا

سعل الأب في حرج قبل ان يجيب:

لا... لقد سافر لأستكمال دراسته ، كما تعلمين.

اكتسى وجهها يتعبير حزين ، وهي تقول:

كما أعلم ؟.. انني اعلم أنه قد سافر وتركني وحدي ،فاقدة الوعى ، وهو يعلم أنني أقرب الى الموت مني الى الحياة .. ودون كلمة وداع واحدة.

حاول الأب أن يهون عليها الأمر ، مغمغما :

انت تعلمين كم كان سفره ضروريا .

غادة: كان يمكن أن يؤجله بضع ساعات ، حتى أستعيد وعيى على الأقل.

الأب: ولكنه ظل ساهرا الى جوارك طيلة الليل ، و أنا الذي الححت عليه بالسفر ، فلم يكن وجوده ليفيدك بشىء .. فلقد ارتبط بموعد مع أستاذه في السوربون ، وأنت تعلمين كم يعقد هؤلاء الأوربيون مسالة الوقت والمواعيد .

حاوا أن ينطق العبارة الأخيرة بشيء من المرح ، ولكنها غمغمت في صوت كسير وحزين :

ألن يتركني حقا ؟

الأب : كيف تقولين ذلك ؟.. أنت تعلمين كم يحبك عادل و.....

غادة: وماذا ؟ انه لايستطيع مخالفة أوامر أبيه ، ووالده يعترض على زواجه مني الأن، بعد أن علم بحقيقة مرضي .. انه يريد له زوجة سليمة ، تنجب له أطفالا اصحاء ، وتكون عونا له في حياته العملية ومستقبله الباهر ، الذي يعده له ، وأنا أخالف هذه الشروط الآن.

عادت العبرات تكسو وجهها ، دون أن تقوى على كبحها ، فغمغم الأب في أشفاق:

أرجوك يا بنيتي .. لا تفعلي ذلك بنفسك ، فلست أحب أن أرى دموعك ، ثم ان الأنفعال يسبب لك الأضرار . أؤكد لك أن عادل يحبك وأنه...

قاطعته في مرارة :

أتركني وحدي ابي .. أرجوك..

الأب : ولكن ....

غادة : أتوسل اليك.

مزقت لهجتها نياط قلبه ، ولكنه لم يجد بدا من الأنصياع لرغبتها فغادر الحجرة ، مغمغما:

كما تحبين يا بنيتي ، ولكن حاولي التغلب على أحزانك في سرعة ، رحمة بك وبي.

ولم تكد غادة تتأكد من مغادرته حجرتها ، حتى أطلقت العنان لدموعها مرة أخرى ...

وفاض حزنها أنهارا...



فجأة .. وبعد أن سكبت من عينيها فيضا من الدموع ، قررت غادة ان تنفض عن نفسها كل هذا الحزن، فغادرت فراشها ، واستقبلت والدها بابتسامة كبيرة ، وهي تطبع على وجنته قبلة طويلة ، وكأنها تعتذر بها عن كل ما سببته له من حزن وأسى ، وقد وطدت العزم على ان تتعامل مع مرضها كحقيقة واقعة ، فلتلم بكا التعليمات اللازمة، و الأدوية المطلوبة ، وتتقبا الخضوع لمزيد من الفحوصات والتشخيصات ، التي قد تعيد الى قلبها المريض صحته وعافيته ، وألا تستسلم أبدا مادام الأمل قائما وما دامت لا حيلة لها فيما سيحدث

انها ستحيا مع قدرها ، وتتعايش معه ، ولن يسرق منها قلبها المريض حبها للحياة ، ولا تفاعلها معها

ذها ما استقر عليه تفكيرها ، بعد أيام مريرة ، سجنت فيها نفسا في حجرتها ..

و لقد انعكس هذا التحول على الأب نفسه ، فانفرجت أساريره وهو يقول في حنان:

هاهي ذي غادة التي أعرفها ،تعود من جديد .ز الآن أقول من كل قلبي .. حمدالله على سلامتك

داعبته قائلة:
أما أنا فأرى أبا يختلف عمن أعرف ، فلقد شحب وحهك ، وانخفض وزنك كثيرا ، ويبدو أنه قد حان دوري لأعتني بك بعد عودتي من الخارج.

الأب في قلق: أتنوين الخروج؟

غادة: نعم .. لقد مللت الفراش ، سأغادر المنزل ، وأتنزه بعض الوقت في الطرقات وأتنسق الهواء النقي بعيدا عن حجرتي الكئيبة.
الأب: حسنا سأعد سيارتي لنخرج معا

غادة: لا لا تعطل نفسك من أجلي .. لقد اقترب موعد ذهابك الى العمل ، ثم انني احب التنزه على قدمي ، وأجول بمفردي .. وصدقني سينعش هذا نفسيتي كثيرا...

الأب : حسنا يا بينتي ، فقط اعتني بنفسك.

اسرعت غادة تغادر المنزل وأخذت تتمشى حتى بلغت المكتبة، دفعت بابها في ألفة ، ودلفت اليها ، فابتسم صاحب المكتبة على نحو يوحي بأنه يعرفها جيدا وهو يقول:

مرحبا انسة غادة اننا لم نرك منذ زمن طويل .

ابتسمت غادة قائلة: كنت مشغولة بعض الشيء

اندفع يقول في حماس: لقد أحضرت لك بعض الروايات الرومانسية القديمة ، التي تفضلينها دوما وسوف تنال اعجابك بأذن الله .. أتعلمين لقد ابتعتها لك خصيصا من مكتبة عتيقة .. لقد أصر صاحب المكتبة على الأحتفلظ بمجموعته ولكني أقنعته ببيعها..

قاطعته غادة قائلة: حسنا سأخذها كلها ، ولكنني أريد منك أن تبحث لي أولاعن كتاب متخصص في أمراض القلب.

تطلع الرجل اليها في دهشة وهو يقول:
أمراض القلب ؟! .. انها اول مرة تطلبين فيها كتابا من هذا النوع لقد عهدتك دوما..

قاطعته مرة أخرى في أصرار :

هذا صحيح ولكنني أريد هذا الكتاب .. أأجده لديك أم لا؟

أجابها ولم تفارقه الدهشة بعد:
ستجدينه بالطبع ، ولكنه كتاب تخصصي باللغة الأنجليزية ، و..

قاطعته مرة أخرى :
ساخذه

سألها في حيرة :
ألن تطالعي الروايات الرومانسية القديمة؟

أجابته في حزم : لا داعي سأخذها كلها مع الكتاب.

هز كتفيه مستسلما وهو يقول :
حسنا سيبلغ ثمن المجموعة ستين دينارا.
منحته النقود ، وهو يلف المجموعة بورق أنيق ، قبل أن يغمغم بحزن: أتعلمين أنك بأختيارك هذا الكتاب قد حركت في نفسي الحزن انسة غادة؟

سألته بفضول : لماذا

أجابها في حزن أتذكرين عم احمد الذي كان ينظف المكتبة هنا؟

غادة : نعم . . أذكره بلا شك .. انه ذلك الطيب ذو الةجه الممتلىء الذي يستقبلني دوما بابتسامة حنون ونظرات أبوية .. أين هو ؟

صاحب المكتبة : لن يستقبلك بعد الآن للأسف . لقد توفي في الأسبوع الماضي.

غادة في لوعة : توفي ؟! كيف؟

فاجأته أزمة قلبية أودت بحياته .. لقد سقط بين يدي هنا في المكتبة .

اندفعت فجأة تغادر المكتبة ، وقد بدت لها كلماته كخنجر قاس يخترق قلبها وهتف الرجل يناديهافي دهشة ولكنها لم تسمعه ..

كانت صورة عم أحمد تملأ ذهنها وهو يسقط صريع تلك الأزمة القلبية التي افترسته دون هوادة.
وقد عاد ذلك الطنين المزعج الر رأسها و أطلت من عينيها نظرة هلع وقد بدا أن مرضها اللعين يحيط بها من كل جانب .
وفجأة .. تراخى ذراعاها وسقطت حقيبتها وراحت تلهث بقوة وشدة وقد سرى وخز شديد في صدرها راح يتزايد في سرعة حتى بدا كخناجرحادة تخترق قلبها

وامتلأ ت عيناها بصورة جمع من المارة يحيط بها في جزع وفضول ، ثم تجمدت قدماها ، و..

و سقطت غادة ...


اندفع الأب عبر أروقة مستشفى الصدري كالمجنون يسأل كل من يلتقي به من ممرضات و أطباء عن ابنته حتى وصل الى قسمها .

سألت الممرضة الأب : ما اسمها .. ومتى دخلت الى المستشفى

قال الأب في لوعة: اسمها غادة ابراهيم .. ةلقد هاجمتها نوبة قلبية هذا الصباح ولقد أخبروني ان سيارة اسعاف نقلتها الى هنا.

الممرضة: اه تقصد تلك الفتاة التي أحظروها في العاشرة صباحا لقد نقلوها الى غرفة العناية المركزة.

الأب : العناية المركزة ، أبلغت حالته هذا الحد من الخطورة؟

كان الأطباء يغادرون احدى الحجرات الجراحية وقد توسطهم شاب طويل القامة قصير الشعر حاد النظرات تشف ملامحه عن الذكاء والوسامة وقد أحاط به زملاؤه باهتمامهم بعد ان انتهى على التو من اجراء احدى العمليات الجراحية.

اندفع الأب نحوه هاتفا في يأس ومرارة: ابتي دكتور .. أرجوك ماذا أصابها؟؟

أبعده أحد الأطباء عن الطبيب الشاب في هدوء وهو يقول:
اهدأ يارجل لقد وصل الدكتور نبيل من لندن أمس فقط لأجراء بعض العمليات الجراحية ولا يعلم عن حالة ابنتك.

الأب وقد أصابه انهيار تام:
ولكن اين ابنتي لقد قيل لي انها في حجرة العناية المركزة في حالة بالغة الخطورة أريد ان أراها فورا أرجوكم

استوقفه الدكتور نبيل وهو يقول في اهتمام : ماذا اصاب ابته
التفت اليه الطبيب قائلا: انها تلك الفتاة التي أحضروها هذا الصباح مصابة بنوبة قلبية حادة مما استدعى دخولها الى العناية المركزة

سأل الدكتور نبيل : من يشرف على حالته؟

أجابه بكل بسلطة: الدكتور منير نائب رئيس القسم .

تفرس نبيل وجه الأب بأهتمام : أيمكنني رؤيتها؟

بالطبع لو أنك ترغب في ذلك على الرغم من أنها ليست من ضمن الحالات المقرر عرضها عليك

استدار الدكتور نبيل لكي يذهب ليراها ثم لم يلبث ان توقف بغته والتفت الى الأب يسأله :
ألم نلتق من قبل؟

تهالك الأب فوق مقعد قريب وهو يقول بنظرات زائغة: لست أدري لست في حالة تسمح لي باجترار ذكريات سابقة.

نبيل: ولكنني متأكد من معرفتي لك نعم تذكرت .. أنت غانم المنصور

تطلع اليه الأب : انت نبيل سالم

ابتسم نبيل لأول مرة وبدت وسامته واضحة : نعم عمي غانم .. أتذكرني

لم يجب الأب على سؤاله وانما تعلق بذراعه هاتفا:

نبيل أقصد دكتور نبيل ان غادة تموت

قطب نبي حاجبيه ، وهو يقول :

غادة ؟ أهي التي...
.
.

قاطعه الأب منتحبا : نعم يا نبيل ابنتي الوحيدة التي لم انجب سواها تموت

ازداد انعقاد حاجبي نبيل ، واتسعت عيناه في قوة ، ثم التفت الى زميله ، قائلا في حزم:

سأذهب على الفور الى حجرة العناية المركزة ، أبلغهم انني ساتولى امر هذه الحالة ، منذ اللحظة وأريد تقريرا شاملا عن حالتها

كانت حجرة العناية المركزة متسعة فسيحة ، تنتشر فيها أسرة نظيفة معقمة ، و عدد من احدث الأجهزة الطيبة ، كما توزعت فيها الأضاءة على نحو جيد ، لم ينجح في ازالة تلك الرهبة ، التي صنعها السكون الرهيب ، ومشهد الخيام البلاستكية المعقمة ، التي رقدت غادة تحت احداها ..

و تطلع الدكتور نبيل الى وجه غادة الشاحب من خلف الخيمة الشفافة وقد اخفى قناع الأكسوجين نصف الوجه واتصلت عشرات الأنابيب بعروقها وتناثرت خصلات شعرها الأسود فوق الوسادة فمنحها جمالا لم يحجبه الشحوب.

وغمغم نبيل في اعماقه : اهكذا نلتقي ، بعد سنوات الفراق يا غادة؟

أيقظه صوت الدكتور منير ، وهو يناوله تقرير غادة هامسا:
هاهو التقرير الخاص بها .. أنها مصابة بجلطة في الشريان التاجي .. لقد حاولنا تنشيط القلب بالصدمات الكهربائية ، ولكننا فشلنا ، والأدوية المذيبة لجلطات الشريان لم تعط أي نتيجة حاسمة لضيق الشريان الشديد.

قال نبيل في اهتمام :

ولم لا نحاول اجراء التدخل الجراحي؟

أجابه الدكتور منير:
القلب لا يعمل بكفاءة تامة ، فأحد الصمامين تالف تماما، في حين لا تتجاوز كفاءة الثاني ثلاثين في المائة ، مما يجعل التدخل الجراحي بالغ الخطورة.

صمت الدكتور نبيل ، بعض الوقت ، وهو ينقل بصره ما بين التقرير ووجه غادة ، ثم قال:

تلك الأدوية التي تتناولها جيدة ولكن لدي دواء حديثا أكثر فاعلية ، سأحقنها به بنفسي ، ولكن أرجو ان تتخذوا كافة الأستعدادات لتننشيط القلب كهربيا.

غمغم الدكتور منير : يبدو أن المريضة تهمك كثيرا .

رمق نبيل غادة بنظرة محب ، قبل ان يقول : أكثر مما تتصور

اتخذت الأجراءات اللازمة في سرعة ، علي حين ارتدى الدكتور نبيل كمامته الواقية بعد ان غادر حجرة التعقيم ودلف الى الخيمة البلاستيك لحقن غادة..

وفي الخارج ، استوقفه الأب ، وسأله في لهفة وقلق :

كيف حالها الآن.

أجابه نبيل في هدوء :

ما زالت غائبة عن الوعي ، ولكن اطمئن .. أنني أرعاها

أيمكنني رؤيتها ؟

يحسن الا تفعل ، فهي تجتاز مرحلة خطر،و...

أرجوك.... دعني أراها ولو لحظة واحدة .. أعدك أنها لحظة واحدة

حسنا... يمكنك لأن تراها ، على ان تعدني بان تغادر المستشفى بعدها ، وتتجه بعدها الى المنزل ، فأنت بحاجة الى قسط من الراحة وبعدها يمكنك العودة للاطمئنان عليها غدا اترك لي رقم هاتفك وعنوانك ، وسابلغك باي تطور يحدث

أوما الأب برأسه ايجابا في استسلام وتبعه الى الداخل قي صمت ، واختنقت العبرات في عينيه وهو يلقي نظرة على ابنته ، ثم يفر من الموقف سريعا وعندما ابتعد كان قلبه يبكي بدموع من دم....

في بطء وضعف فتحت غادة عينيها

كانت الحجرة تسبح في ضوء خافت ، يضفي عليها نوعا من الهدوء و السكينة ، ولكن ضعف غادة الشديد و تأثير المخدر عليها جعلاها عاجزة عن تبين ما حولها برهة.

اخذت معلم المكان تتبين قليلا قليلا ثم تبينت الطبيب يرتدي معطفا ابيض اللون ، فغمغمت في وهن : أين أنا ؟ .. من أنت ؟

مال عليها الدكتور نبيل ، يقول في رفق:
أنت في حجرتك في المستشفي ، وأنا طبيبك المعالج .. اطمئني لقد مرت الأزمة في سلام .

أ سبلت جفنيها مرة أخرى ، وبدا من الواضح أنه تبذل جهدا كبيرا ، لتبقي عينيها مفتوحتين ، وهي تغمغم:

يلوح لي انني أعرفك

ابتسم نبيل وهو يهمس:
أظن ست سنوات ليست بالفترة الضخمة لتنسينى تماما هكذا
بدت الدهشة على ملامحها وان عجزت عن ترجمتها الى صيحة تعبر عما يجيش في صدرها وهي تقول في ضعف: نبيل؟!

حملت ملامحه عاطفة قوية وهو يغمغم:

نعم يا غادة .. نبيل.. كم يؤسفني أن يأتي لقاؤنا الأول ، بعد تلك السنوات ، وسط ظروف سيئة ، ولكن كل شيء سيمضي على ما يرام ، فأنت الأن أحسن حالا عن ذي قبل ، وستزداد حالتك تحسنا بمرور الوقت.. فقط أريدك أن تهدئي تماما ، وتمصاعي للتعليمات.

قالت في أنين حزين : أخبرني الحقيقة يا نبيل .. كم بقي لي من الوقت ، قبل أن أموت؟

أجابها في صرامة نوعا ما:

لست أحب سماع تلك العبارات اليائسة .. لقد وعدتك بالتحسن ، ألاتثقين بوعودي .

جاهدت لتفتح عينيها ، وتملأهما بصورته ، وهي تغمغم:
انك دوما موضع ثقتي يا نبيل ، حتى عندما تركتني ورحلت، منذ ست سنوات.

بدا الضيق على ملامح ، حيث أن تلك العبارة قد أعادت اليه ذكرى سيئة، فغمغم محاولا ابدال الموضوع:
سأترك الآن فأنت بحاجة الى الراحة والهدوء ، ولست أطالبك الا بالراحة، والالتزام بمواعيد الدواء وتعليمات العلاج ، وسأتابعك يوميا.

قالت في صوت واهن ، عندما بدا لها أنه سيغادر الحجرة:

أتتركني هكذا ، سريعا؟

حاول أن يهزم مشاعره ، وهو يقول:

لاتنسي أنك لست مريضتي الوحيدة

أجابته في انكسار:

حسنا.. لن أشغلك عن باقي مرضاك ، فلست سوى واحدة منهم.

عاد يقترب من فراشها ، قائلا:
أترغبين في شيء؟

أجابته بصوت واهن : نعم أريد أن أرى أبي

أجابها في حنان، وهو يتأمل وجهها الشاحب:
انه ينتظر في الخارج .. سأسمح له بالدخول لدقيقتين فحسب ، فما زلت متعبة ، وهو في أسوا حالات الحزن والقلق ، وياليتك تبدين بعض التفاؤل ، لتطمئني قلبه ، كما أرجو ألا ترهقي نفسك كثيرا .. من أجلي

قالها وأسرع يغادر الحجرة، قبل أن تغلبه مشاعره أمامها وعندما خرج اصطدم....

اصطدم نبيل بوالد غادة الذي كان يقف خارج الغرفة وعيناه متعلقتان ببابها في قلق ولهفة ، فقال له:
يمكنك أن تدخل أليها الآن.. ولكن أرجوك أن تنزع تلك النظرة البائسة ، فقلبها لن يحتمل لوعتها عليك ،ومن الواجب أن نمنحها جميعا شعورا بالأمل والتفاؤل .. هل تفهمني ؟

أجابه الأب في استسلام:


نعم اطمئن.

أفسح له نبيل الطريق ، وراح يراقبه حتى بلغ سرير ابنته ، ثم اغلق الباب بهدوء

وكانت غادة قد عادت تستسلم الى المخدر ، فأغلقت عينيها وارتخى جسدها ، وأن لم تغب عن الوعي تماما فوقف الأب مترددا حائرا ما بين لهفته علي أايقاضها والأطمئنان على صحتها ، وضرورة منحها أكبر قدر من الراحة والسكينة ،ألا أن غادة أنقذته من حيرته عندما فتحت عينيها في صعوبة ، حين شعرت بوجوده ألى جوارها، زاستقبلته بأبتسامة شاحبة واهنة ، عجز ضعفها على منحها الأشراقة المعتادة ، وهي تقول في ضعف: أبي

اتسعت ابتسامة الأب وامتلئت بالحنان وهو يقول:
غادة ابنتي الحبيبة.

غمغمت ، محاولة التغلب على اعيائها :

تعال أبي .. اجلس الى جانبي.

جلس على طرف سريرها وأحاط رأسها بذراعه في رفق وحنان ، وراح يربت على يدها بيده الأخرى وهو يقول:
لقد أخبرني الطبيب أنك قد اجتزت الأزمة ، وأنك الآن على مايرام .... لايمكنك تصور مدى قلقي ، عندما أخبروني بما أصابك .. ولقد أتخذت كل ما يلزم ، لنقلك الى مستشفى الدكتور صادق الخاص ، بمجرد تحسن حالتك، و..

بدا كأنها لم تكن تنصت له ، وهي تسأله :

ألم تتعرف ذلك الطبيب يا أبي أحرجه سؤالها المباغت ، فغمغم مرتبكا :

اه .. نعم .. يبدو أنه....
قاطعته وهي تقول، ضاغطة على كل حرف من حروف كلماتها :

انه نبيل يا أبي .. ألا تذكره ؟ نبيل سالم
.
.

غمغم الأب :

لقد عرفني على نفسه.

ثم استطرد في سرعة ، وكأنما يحاول الفرار من الحديث في هذا الشأن:

حمد الله أنك بخير .. لقد طلب مني طبيبك ألا أرهقك بزيارتي الآن ، وأعود فيما بعد، و....

قالت في لهفة ، تشف عن مدى شعورها بالوحدة :

متى؟

ابتسم ابتسامة فاترة، وهو يقول:
لن أغادر المستشفى على أي حال .. ثم أنني أتبع تعليمات الأطباء ، بشأن الزيارة.

سألته فجأة:
ألم تتصل بعادل وتخبره بأمري؟

غمغم في حرج :
لا داعي لأن نقلقه بشأنك .. أنت تدركين أعباء دراسته ، ولقد مرت أزمتك في سلام

سألته في لهجة أقرب الى الأستعطاف :

قد ابدو لك أنانية ياابي ، ولكنني أريد منك أن تبلغ عادل بحالتي .. أرسل برقية .. أرجوك افعل ذلك من أجلي

أريد أن أعرف حقيقة موقفه تجاهي ، بعد أن علم بحقيقة مرضي.. أرجوك.

أليس من الأجدى أن تهتمي بصحتك ، وتتركين الأمور للمستقبل.

قالت في انفعال لا يتناسب مع ضعفها:

أرجوك يا أبي .. افعلها من أجلي.

أشفق الأب عليها من ذلك الأنفعال ، فربت على يديها وهو يقول مهدئا:
سأفعل يا بنيتي .. سأفعل.. اهدئي..

استرخت غادة في فراشها ، وكانما ملأتها عبارته بالأرتياح حتى أنها ذهبت في نوم عميق ، قبل أن يغادر والدها الحجرة ، فاكتفى هو بمنحها نظرة حزينة ، ثم غادر الحجرة في هدوء..

استيقظت غادة بعد ساعات ، وحضرت ممرضة القسم لمنحها جرعة العلاج، وتغير زجاجة الجلكوز المتصلة بذراعها فقالت لها غادة وهي تبسم:

أنك تبدين لطيفة للغاية .. أتعلمين ؟ كنت أرهب الحقن دائما ، منذ طفولتي ، وعلى الرغم من فهأنذا أستجيب لك دون خوف أو رهبة.

بادلتها الممرضة الأبتسام ، وهي تقول:

يسعدني أن ألقى منك هذا التقدير ، والواقع أنني أشعر بتقارب نحوك يتجاوز حدود العمل ، ربما لجمالك ورقتك

بالمنلسبة أ سمي سناء ، ولقد أوصاني بك الدكتور نبيل على نحو خاص.
هتفت غادة من أعماقها : نبي؟! حقا ؟!

أدهش سناء أنها نطقت اسمه مجردا .. دون ألقاب .. فقالت:

اذن أنتما متعارفان مسبقا .. هذا يبرر اهتمامه الشدي بك.

قالت غادة في اهتمام:

انها معرفة قديمة وقوية.. أخبريبي ، منذ متى وهو يعمل هنا ؟

أجابتها سناء:

أنه لا يعمل هنا ، فهو أخصائي في احد أكبر مستشفيات لندن، حيث استقر بصفة نهائية، وهو هنا كطبيب زائر ، بناء على طلب مدير المستشفى ، لعلاج بعض الحالات المستعصية ، وأجراء بعض العمليات الجراحية الدقيقة.

بدا الأحباط على وجه غادة، وهي تقول:

أيعني هذا أنه سيسافر ثانية؟
نعم .. خلال اليومين القادمين .. أتصدقين أن هذا الشاب الوسيم ، الذي لم يتجاوز الحادية و الثلاثين من عمره يعد واحدا من أشهر المتخصصين في جراحات القلب في العالم ، وأن الهيئات الدولية تتنافس عليه .. أننا نفخر به حقا؟
ثم عادت تسأل غادة:
ولكن متى تعارفتما؟

حدقت غادة في سقف الحجرة ، وكأنها تستعيد ذكرى قديمة، وقالت:

منذ سنوات طويلة

ثم التفتت الى الممرضة تسألها في خجل:

ولكن لاريب أنه قد تزوج .. أليس كذلك ؟ أنها زوجة انكليزية على الأرجح

ضحكت الممرضة ، وقد أنبأتها غزيرتها الأنثوية بغرض السؤال ، وقالت:

أن أحد لم يلق عليه هذا السؤال الشخصي ، ولكنك تعرفين أن أول ماتتطلع أليه الفتيات ، بعد وسامة الرجل،
هو أصابعه ، ليتأكدن من حقيقة موقفه الأجتماعي، ولكن أصابعه كانت خالية من دبلتي الزواج والخطبة ،
مما يؤكد أن أحداهن لم توقعه بعد

شعرت غادة ببالسعادة ، فعادت تسترخي فوق وسادتها ، ووجهها يحمل ابتسامة هادئة ، جعلت سناء تسألها في خبث:
هل من أسئلة أخرى؟

لا.... شكرا

حسنا .. سأعود بعد ساعتين ، فأذا ما احتجت الي قبل ذلك ، فقط اضغطي ذلك الزر الأحمر الى جوارك.

ومنحتها ابتسامة مودة ، وغادرت الحجرة ، وتركتها تسبح مع ذكريات حبها الأول ... مع نبيل..


كانت تتساءل عما اذا كان من الئق أن تستعيد في ذهنها ذكريات تلك الأيام السعيدة التي جمعتا مع نبيل
بعد أن أصبحت مرتبطة بخطبة مع عادل ، ولكن ذلك الصمت المطبق الذي يحتويها داخل الحجرة وعودة نبيل الى حياتها بعد ست سنوات من الفراق ، وحديث الممرضة عنه ، كلها عوامل جعلتها تسبح على الرغم منها في نهر الذكريات ، وتستسلم لتياره بحلوه ومره.
.
.

لقد كان نبيل جارهم في بيتهم القديم ، أيام كان والدها موظفا بسيطا بشركة النقل البحري ، وكانت والدتها حية ، ولقد تعلقت به منذ طفولتها ؛ لما رأته فيه من شهامة ورجولة ، تميزه عن الأخرين.. ولقد صارحته هي بحبها، عندما كانت طالبة في المتوسط، وكان هو طالب في السنة الثانية بكلية الطب ، ويومها سخر منها ، واتهمها بأنها ما تزال طفلة ، مما منحها _ آنذاك_ شعورا بالمهانة والغضب، والندمعلى أنها قد صرحت له بحبها ، وزاد من غضبها أنه عندما شعر بخطئه ، حاول أن يسترضيها ببعض الحلوى والشكولاته، فألقتها في وجهه هاتفة في عصبيةوغضب :

احتفظ بالحلوى لنفسك ، وكف عن معاملتي كطفلة ، والأفضل أن يكف كل منا عن رؤية الأخر

وكم ندمت على عبارتها هذه أشد الندم ؛ اذ كان نبيل من ذلك النوع الشديد الأعتزاز بالنفس

فتوقف من يومها عن زيارتهم ، وعن اعطائها دروس اللغة الأنجليزية ، التي كانت تتلهف على انتظارها ...

وعندما أصبحت في المرحلة الثانوية ، تبدلت نظرة نبيل لها ، وأصبحت تلمح في عينيه كلما التقيا ، مزيجا من الأعجاب والحب...

وربما كانت هذه العاطفة في نفسه منذ البداية ؛ وأن عجز عن التعبير عنها لعدة اعتبارات ، منها ما يتميز به من شهامة منعته من خيانة ثقة أب سمح له بدخول بيته ، وأعطاء ابنته الدروس الخصوصية من دون رقابة أو شكوك ، واعتبره ابنا له ، مما جعل مجرد التفكير عن عواطفه خيانة لا تغتفر

فراح يطرد الفكة من أعماقه ويحاربها ، ويحاول أقناع نفسه بأن غادة مجرد طفلة ، وأن عاطفته نحوها لاتتجاوز العواطف الأخوية..

ثم جاءت وفاة أمها ، التي كانت صدمة هائلة لها ، كادت تسلمها الى أنهيار تام..


وهنا كشف نبيل عن عواطفه تجاهها ، وأحاطها بكل حنانه ورعايته ، وعندما ألقت رأسها على كتفه باكية ذات يوم أ انسبت كلمات الحب والحنان من شفتيه ، وأفصح لسانه عن مكنونات قلبه وعواطفه الجياشة

ومع مرور الأيام ، راح حبهما يعلن عن نفسه ، وينمو وينسج الأحلام الوردية عن المستقبلا والنجاح في ثوب طاهر نقي ، لم يحاولا أخفاءه من أحد، حتى أن والدها كان يعلم ويباركه.

عندما تقدم نبيل طالبا يدها وجد ترحيبا وقبولا ، الا أن الأب اكتفى بقراءة الفاتحة فحسب على أن يؤجل الأجراءات الى مابعد تخرج نبيل في كلية الطب ةالذي تبقى له عام واحد فقط

ثم حدث ذلك التحول في حياة الأب الذي كان له تأثيرا عظيما على تغير مسار حبها ، فقد سافر الأب وغادة الى أمريكيا ، مع وعد بأتمان أجراءات الخطبة والزواج في أول اجازة...
ولكن هذه الأجازة لم تأت أبدا..

لقد مرت السنوات دون أن يعود الأب وابنته الا أن رسائل غادة ونبيل كانت تحمل نفس العاطفة القوية والأصرار على التمسك والحب، ولكن الرسائل بين نبيل والأب كانت تختلف ، كانت مبهمة باردة .. مبتورة

وتخرج نبيل في كليته ومارس عمله كطبيب في أحد المستشفيات العامة ، وحاول أن يهزم لوعة الفراق بالأستغراق في العمل والأنكباب على مزيد من الدراسة والتحصيل حتى صار محل تقدير واعجاب أساتذته ، لتفوقه الملحوظ ومثابرته.

وعاد الأب والأبنة من الخارج ، ولكن في ثوب جديد ورؤية مختلفة..

وانتقلا من حولي الى فيلا فاخرة في الجابرية ، وترك الأب وظيفته ، ليعمل مع شريك في الأعمال الحرة ، وانعكس هذا على طموحاته ، ونظرته الى مستقبله ، ومستقبل ابنته ، وراح يشير الى ضرورة ارتباط ابنته بشاب ثري ليكون ارتباطها بمثابة دفعة قوية لطموحاته ، ومصاهرة لشريك قوي متمرس ومضا عفة لتلك الثروة التي عاد بها من أمريكيا...

وهكذا عندما توجه نبيل الى الوالد _ بعد عودته_ فوجىء به يستقبله قائلا:

لست أنكر أنك كنت دومت محا تقديري وأعجابي ، وعندما قرأت معك الفاتحة كنت أتصور أنك الزوج المناسب لابنتي ، ولكن كل شيء يختلف بمرور الوقت .. صحيح أن ثقتي في روجلتك وشهامتك لم يتغير واعجابي وتقديري لشخصيتك لم يتبدل ولكن هذا يدفعني فقط للتحدث أليك في صراحة ، مقدرا قدرتك على تفهم الأمور
والنظر اليها بنظرة واقعية ، فأنا لم ابراهيم المنصور الموظف البسيط بشركة النقل البحري ..

لقد بذلت الكثير من الجهد والعرق ؛ لأ ختياره حياة جديد ، وتأمين مستقبل
أفضل لي ولابنتي الوحيدة غادة، وأنا أخوض الآن عالم الأعمال الحرة ، وأخطو فيه أولى خطواتي، وهو عالم قاس لا يرحم كما تعلم ، وينطوي على مخاطر شتى قد يحتملها آخرون تمرسوا على مثل هذا النوع من الحياة ، وجمعوا من الثروات ما يمكنهم من مواجهة الصدمات المالية ، الا انني لست كذلك وأي خطأ صغير قد يطيح بكل ما جمعته من أجل ابنتي ؛ لذا فأنا أحتاج الى رجل قوي يعضدني في هذا المجال ويكون لي أكثر من شريك .. بل صهر .. ولقد تأكدت من أن مستقبلي ومستقبل ابنتي في اتمام هذه المصاهرة

قال نبيل محاولا اخفاء انفعاله:
أيعني هذا انك تحل نفسك من ارتباطنا؟

dali2000 22-02-09 06:44 PM

________________________________________
كما قلبت لك ، الأمور تتغير وعلينا أن نتغير معها وننظر الى الأمور بواقعية ولو انه كان من المناسب ان تتزوج ابنة ابراهيم منصور الموظف البسيط بشركة النقل البحري من طبيب شاب حديث التخرج الا أن ابنة ابراهيم منصور رجل الأعمال الطموح لا تناسبها هذه الزيجة
.
.

قال نبيل في سخرية تشوبها المرارة :

وهل جعلت ابنتك المشروع الأول الذي تقتحم به عالم الأعمال ؟؟ أأصبحت جزءا من صفقاتك؟

احتقن وجه الأب وهو يقول في غضب:

أظن الأمور اصبحت واضحة بيننا الأن ولقد انتهت المقابلة

ولكن نبيل لم يتحرك من مكانه وهو يسأله :

أتوافق غادة على هذا الأ ختيار ؟

أجابه انها ابنتي وأنا اعرف صالحها ثم ان اختياري هو اختيارها.


ولكن غادة اندفعت من حجرتها بغته وهي تقول في تصميم:

لا يا أبي .. لن أرتبط سوى بنبيل الذي أعطيته كلمتك والذي ظل وفيا امينا على ارتباطنا والذي كان دوما موضع اعجابك وثقتك

احتقن وجه الأب وهو ينهرها في غضب قائلا:

كيف تتصرفين على هذا النحو؟.. عودي الى حجرتك .

ولكنها ظلت متشبت بموقفها وهي تقول في عناد:
لو أنك لست مستعدا للحفاظ على ارتباطك مع نبيل فأنا متمسكة به ، ومن حقي اختيار الرجل الذي أتزوجه.د
فاجأها والدها بصفعة قوية علي وجهها وهو يقول في حدة:

قلت لك عودي الى حجرتك.
ولكن الصفعة لم تحطم عزيمتها وهي تقول من خلال دموعها:

يمكنك أن تظربني ، وأن تفعل بي ما يحلو لك، ولكن ذلك لن يجعلني أحيد عن أختيار الأنسان الذي أحببته.

هم الأب بصفعها مرة أخرى ، ولكن نبيل أمسك يده، قائلا بهدوء:

أطيعي أباك يا غادة ، وادخلي حجرتك.

ثم التفت الى الأب مستطردا بمرارة:

لم أكن أتصور أن النقود يمكنها أن تغير البشر على هذا النحو.

وغادر المنزل ، دون ان يضيف حرفا واحدا..

وبعد يوميت من هذا الموقف ذهبت الى نبيل في المستشفى وقالت له:

لن أتزوج سواك يا نبيل .. لن تقف أطماع أبي في طريق أحلامنا وسعادتنا.

أجابها والمرارة لم تفارق صوته بعد :

وما السبيل ال ذلك ؟.. لقد اختلف والدك تماما وأصبح ينظر الى كل الأمور من منظور شخصي مادي ولم تعد لغة العواطف والمشاعر تجدي معه


قالت في تصميم وعزم:

فلندافع اذن عن حبنا وحياتنا.

ماذا تعنين؟

أما زلت ترغب في الزواج مني

أهذا سؤال ؟؟ أنه حلم حياتي بالطبع.

فلنتزوج اذن اليوم قبل الغد.

أتعنين أن نتزوج ضد رغبته ؟

انه لم يمنحنا سوى هذا الأختيار.

لا ياغادة .. هذا يتعارض مع أخلاقي ومبادئي

اننا لانرتكب ذنبا عندما نتمسك بحقوقنا

لا يا غادة ... لست أوافق عل ذلك، على الرغم من اختلافي مع والدك ، فلقد نشأت أول ما نشئت ان الحق الشرعي لا يؤخذ باغصب والا انه يفقد شرعيته ويصبح أشبه بجريمة.

ليس من حقك أن تصف شرعا حلله الله بأنه جريمة فالوضعان يتعارضان الا اذا أردت أن تضحي بحبنا وارتباطنا من أجل قيم بالية ، ليس من المنطقي أن تحملها عقليته طبيب متفتح.

بدا التردد على نبيل وهو يقول :

هناك نقطة أخرى حجبتها عنا أحلامنا يا غادة فالفارق شاسع بين الحلم والواقع ولم أتبن ذلك الا عندما تحدث والدك عنه .. فأنا مازلت طبيبا حديث التخرج امكاناتي محدودة في أول الطريق لاتكفي لتوفير حياة كريمة لزوجتي ثم انني لست مستعدا للا عتماد على ثروة والدك

تطلعت اليه مستنكرة وهي تقول:

أنت شخص آخر بخلاف نبيل الذي عرفته والذي كان يمتلىء بالثقة والأيمان بان الحب يهزم كل العقبات .. لقد ناقشنا تلك الأمور من قبل ، ولم يهمنا الثراء ... كل ما ربطنا هو الحب والحلم بمسكن متواضع ينمو مع الأيامو...


قاطعها قائلا :

كنا نتصور أن أحلامنا وعواطفنا ستذلل لنا كل العقبات ولكن الواقع هو أنها ستتحطم على صخرة الواقع فحتى هذا المنزل المتواضع لست أملك الأمكانات لتحقيقه على الرغم من أنني ألهث وراء عواطفي .. لقد كان والدك محقا عندما قال أن كل شىء يتغير مع الوقت حتى الأحلام

قالت وملامحها تحمل خيبة الأمل:

لم تعد تختلف عنه كثيرا .. كلاكما تخلى عن مشاعره بحجة الواقعية وان اختلفت المبررات فهي بالنسبة له القوة وبالنسبة لك الضعف كلاكما ةجد حجة لعدم مواجهة ارتباطاته

حاول أن يغمغن :
هتفت بازدراء :

كفى .. أنت تعلم أنه من أجلك أنت.

ثم اندفعت مغادرة المكان وهو يهتف مناديا اياها دون أن تجيبه ، با دون أن تلتفت لتلقي عليه نظرة واحدة

لقد شعرت أنها قد فقدته ... فقدته الى الأ بد ..

سافر نبيل الى لندن بعد ان احتار العلم بديلا عن عواطفه ومشاعره وقد رسخ لديه أنهما اختياران متعارضان تماما وأصبح لديه طموحه أيضا يختلف.

أما غادة فقد رضخت لمشيئة والدها وقبلت خطبة سامي ابن شريكه ولكن أربعة شهور فقط من الخطبة كانت تكفي لت}كد استحالة زواجهما ، بعد أن ثبت لها ولوالدها أنه من أسوأ أنواع الرجال .. سكير .. مقامر ..أناني .. لايقيم وزنا للمبادىء أو المشاعر..

ولم يكن هناك بد من فسخ الخطبة ، خاصة أن الأب لم يعد يعتمد على شريكه ، بعد ان اكتسب خبرته اللازمة للعمل ، وأن ظل الحزن في عيون ابنته يؤنب ضميره كلما تطلع اليها ورأى فيها نتاج مقامرته الخاسرة وطموح فاشل

ولم تحاول هي معاتبته يوما على ما فعل ؛ اذ كانت ترى أن نبيل يشاركه جزءا من هذا لافشل وكذلك هي عندما وافقت على الأرتباط بشخص تبغضه ولا تحمل له في نفسها سوى الأشمئزاز والأحتقار

ولكن ظل الأب يعد نفسه مسؤلا عن الأمر فبذل أقصى مايملك ليستطيع تحقيق كل ما تصبو اليه ابنته ماديا وأقسم ألا يتدخل في حياتها أو يفرض عليها أمرا قط

ثم ظهر عادل في حياتها..




لا تظلميني يا غادة انما أفعل هذا من أجلك

.
.

كان والده ذلك القاول الأشهر جمال الغانم، ولقد تعارف مه والدها في النادي عندما دار بينهما عمل بالمصادفة واعجب الأب بها منذ اللقاء الأول وفاتح والدها برغبته في تزويجها لأبنه في اللقاء الثاني.

اخبره والدها أن الموافقة تعود اليها وأنه لايسطيع اتخاذ قرار بشأن حياتها وحده.

فأتفق الوالدان على تدبير لقاء يجمع بينهما ليتم تعارفهما ، على رغم من ميلها الدائم الى الوحدة والى قراءة الروايات الرومانسية وعدم اختلاطها بزملاء وزميلات النادي بحكم طبيعتها الهادئة الساكنة الحالمة التي اتخذت من الروايات الرومانسية وسيلة للتحليق في عالم الخيال والسباحة في نهر الأمل الوردي.

وذات يوم فاجأها عادل بوسلمته وشعره الكستنائي بعد أن عرفها والدها اياه بيوم واحد وجذب مقعدا ليجلس الى جوارها وهو يجمل على شفتيه تلك الأبتسامة الجذابة قائلا:

أوجدت فارس أحلامك في تلك الروايةز

غمغمت في حرج: ألديك موعد مع أبي؟

أجابها ببساطة:
لا الواقع أنني جئت لقضاء بعض الوقت في النادي، وعندما رأيتك وحدك، فكرت أن نجلس معا.. أيضايقك هذا؟

بدا الضيق على وجهها بالفعل وهي تغمغم:

لست أجلس وحدي في الحقيقة ... فهذه الرواية صديقتي ، وأكره أن يشغلني أحد عنها.

اتسعت ابتسامته ، وقال دون أدنى حرج:

انني أحسدها على صداقتك ، وأتمنى لو كنت رواية تنال اهتمامك وبعض اعجابك.

انفرجت أساريرها ، على الرغم منها ، وهي تقول:
أستاذ عادل .. انك تثير دهشتي فمن يراك صامتا طيلة الوقت أمس ، لايتصور حديثك المنمق اليوم !! أكان هذا بسبب والدك؟

أجابها في مرح:

ربما .. ولكنه لم يمنعني من أن أختلس النظر أليك ، ولقد كانت تلك النظرات المختلسة كافية لأنجذابي أليك ، ولحضوري اليوم مصطنعا أكذوبة كبيرة ، لقضاء بعض الوقت معك في النادي ، ولكن لو أن هذا يسببب لك الضيق .. ولو أنك تجديني رفيقا ثقيا الظل ، فلن يسعني سوى الأنسحاب ، وتركك برفقة روايتك.

قالها وهم بالنهوض ، مورثا اياها شعورا بالخجل ، وانبهارا بلباقته ، مما جعلها تعتذر قائلة:

لم أقصد هذا قطعا ، ولكننا تعارفنا أمس وهأنتذا اليوم...

عاد يجلس في سرعة ، قائلا بنفس المرح:

اذن هناك مكان لي.. شكرا لك ، لأنك ام نحرميني الفرصة.

تأملته لحظة في دهشة ثم ما تلبث أن أطلقت ضحكة مرحة وهي تقول:

أنت أنسان غريب حقا.

تناول الكتاب من يدها قائلا:
أتسمحين لي؟

وألقى نظرة على العنوان ، قبل أن يقول في مزيج من السخرية والدهشة::

غادة الكامليا ؟! انها رواية كلاسيك عفا عليها الدهر!!

أجابته في ضيق:

ولكنها خالدة ، تصلح لكل الأزمنة .

أتصدقين ما ورد فيها عن التضحية والوفاء وانكار الذات؟... ان تلك القيم النبيلة لم تعد تتفق مع العصر الذي نحياه.

ليست المشكلة في العصر ، وأنما فينا نحن ، فكلما طغت المادية على مبادئنا وأفكارنا ، مع مزيج من حب الذات والأنانية والأنتهازية ، بدت لنا تلك القيم النبيلة غير مواكبة للعصر، أما لو سمت نفوسنا ، وتمسكنا بالمبادئ الأنسانية الصحيحة ، فستبدو لنا تلك القيم هي الحياة.

رمقها بنظرة أعجاب ، امتدت لبرهة من الوقت ، قبل أن يقول :

قد لا أتفق مع أرائك ، ولكنني لا أملك سوى الأعجاب بها وبك.

أطرقت في حياء ،دون أن تنبس بنبت شفة فأستطرد:

وتعبيرا عن أعجابي سوف أاهدي لك مجموعة أختفظ بها من الروايات الرومانسية القديمة.

رفعت عينيها اليه ، تسأله في دهشة:

أتحتفظ في مكتبتك بروايات رومانسية ؟

أجابها والحزن في ملامحه ، وصوته يشف عن حنين جارف:

أنها تخص أمي _ رحمها الله _ فقد كانت تهوي قراء تها

ثم استطرد مبتسما :

وأراهن أنها لو كانت علي قيد الحياة كانت ستعجب بك أيضا، فأنت تذكرينني بها.
مست عبارته الحزينة بكل ما يسري فيها من حزن ، شغاف قلبها ،وذكرتها [مها التي فقدتها في سن مبكر وبكل ملكانت تمنحها أياه منعطف وحنان وحب، وجمعت تلك المشاعر بينهما وقربت بينهما بشدة ، وأن لم تبلغ بها شاطئ الحب طويلا ، على الرغم من أنه عادل شابا وسيما مثقفا ميسور الحال مهذبل رقيقا يتمتع بكل الصفات التي تميل اليها الفتيات ، فيما ضعف شخصيته وانقياديته الشديدة لأبيه وتشبعه بأفكاره ورضوخه لكل ما يحطط له..

حتى اختياره لغادة تم بناء على ترشيح والده وطبيعته كمقاول وقوله الشهير:

البناية التي ترسم على الأوراق تتمزق معها ، أما التي تنتقل الى الواقع فوق أساسيات متينة فأنها تبقى دهرا وتتحدى مع الزمن.

وفي كل تعاملاته كان يبحث عن هذا الأساس المتين المال.. والمركز الأجتماعي ، والمركز العلمي..

وعلى الرغم من تعارض ذلك المبدا مع طبيعة غادة ألا أنها وافقت على الأرتباط بعادل عندما تقدم لخطبتها على أمل في أن يتطور التقارب بينهما مع تلك اللمسة الأنسانية في شخصيته فيزول تأثير والده عنه .

ولكن بقي تأثير والده قويا يحدث فجوة فيما بينها

هل هي تحب عادل حقا ومع تأثير المهدئ القوي توقف نهر الذكريات عن الجريان في عقلها وراح جسدها الواهن يسترخي قبل أن تغوص في بئر النوم العميق وعقلها يرسم صورتين متداخلتين ..

صورتي عادل ونبيل والحيرة
.
.

كان الصباح يرسل تباشيره الأولى ،عندما وقف نبيل الى جوار فراش غادة ، يتأملها في صمت وهي نائمة وأنفاسها تتردد في هدوء وانتظام ودون صعوبة كالسابق في حين غرقت الحجرة في صمت عميق ولم يشعر بدخول الدكتور منير اليها حتى سمعه يقول:

أنك لم تحصل على قدر وافر من النوم أمس دكتور فلقد أخذت حالاتك كل ليلتك تقريبا وخصوصا هذه الحالة,

وابتسم مستطردا :

يبدو أنهم يحاولون استنزاف أكبر قدر ممكن منك ، قبل رحيلك الى لندن

لم يبادله نبيل الحديث بل ظلت عيناه مسلطتين على وجه غادة ، فعاد منير يقول:

اسمع .. لقد أنهيت عملي ، ما رأيك لو تذهب لتنال قسطا من الراحة فب حجرتي ، ريثما أتابع هذه الحالة ؟ لقد كانت مريضتي في البداية.

أجابه نبيل في خفوت ، ودون أن يرفع عينيه عن وجه غادة :

أنها ليست مجرد مريضة يا دكتور منير .. لقد كادت تصبح زوجتي يوما.

هتف منير في دهشة:

هذا هو سر اهتمامك بها اذن!

أجابه نبيل في هدوء:

يمكنك أن تستفيد من وقتك ، فسأتابع هذه الحالة بنفسي؟

ربت منير على كتفه قائلا:

انني أقدر لك ذلك .. عموما لو احتجت الي فستجدني في الدور العلوي.

وغادر منير الحجرة في هدوء تاركا نبيل وسط عواطفه الجياشة ينعم النظر في وجه غادة حتى حضرت الممرضة وهمست :

عفوا دكتور نبيل .. أنه موعد حقنتها

قال في حنان وكأنما يشفق على غادة حرمانها من النوم الذي يضفي عليها جمالا ملائكيا :

فلنمنحها نصف ساعة أخرى من النوم

ولكن موعد الحقنة ..........

لن يضيرها أن تنتظر نصف ساعة أخرى فالراحة لها التأثير الأعظم على تحسن حالتها.

ولكن غادة استيقظت على صوت الحديث الهامس بينهما وفتحت عينيها ببطء ، ولم تكد تلمح نبيل الى جوار فراشها حتى انفرجت أساريرها عن ابتسامة تلقائية وهي تهتف في ضعف :

نبيل؟!

ثم بدا لها أن مخاطبته بأسمه مجردا لا يليق وخاصة في حضور الممرضة فأسرعت تقول :

عفوا دكتور نبيل

لم يبد أية ملاحظة بخصوص اعتذارها ، بل تناول معصمها ، وراح يعد نبضها في بساطة ، وهو يقول في لهجة من يؤدي عملا روتنيا:

أتشعرين بتحسن الآن؟

أجابته وقد خيب بروده أملها:

نعم

تناول الحقنة من الممرضة قائلا:

يمكنك الأنصراف .. سأحقنها أنا .

أنصرفت الممرضة على الأثر ، في حين راح هو يعد الحقنة قائلا:

ألاجو ألا تكوني من ذلك النوع من الفتيات الللاتي يرهبن الحقن.

أجابته بهدوء :

لن أخشى شيئا تقدمه لي بنفسك ، فأنا أمنحك كل ثقتي واطمئناني

حركت عباراتها مشاعره ، فعاد يتطلع اليها قليلا ، قبل أن يشمر عن ساعدها ويحقنها قائلا:

هل آلمتك ؟

أجابته مبتسمة :

مطلقا.

قال وهو يمسح أثر المحقن:
انك تستحقين الشكر ؛ لأنك مريضة مطيعة ملتزمة وصمت برهة قبل أن يقول:

لقد سمعت أنك مخطوبة .. لماذا لم يأت خطيبك لرؤيتك والأطمئنان عليك؟

أجابته في ضيق:
أنه في باريس ... يعد رسالة دكتوراه.

هز رأسه ، قائلا في جمود:
عظيم .. يبدو أنك ستقترنين بشخصية مرموقة.

تأملته لحظة ، قبل أن تقول في صوت يحمل رنة عتاب :

أنت أيضا أصبحت شخصية مرموقة ، ويبدو أنك قد حققت ما كنت تصبو اليه من طموح علمي ، وصرت علما يشار اليه بالبنان.

نعم لقد أثمرت سنوات الدراسة والعذاب في لندن ، وأصبحت اليوم رئيس قسم جراحات القلب في مستشفى هيثرو ، ولكن ذلك لم ينسني وطني وأبناءه ، فلبيت النداء فور استدعائي للأشراف على علاج بعض الحالات المستعصية.

تطلعت الى أصابعه قائلة:

توقعت أن تعود بزوجة انجليزية

قال في صوت يحمل نبرة خاصة:

انسانة واحدة فقط في العالم أجمع ملكت قلبي وعقلي بعد الطب والجراحة
أخرجتها عبارته من تحفظها فقالت :

لا تحاول أقناعي بأنه ام تكن هناك أخرى في حياتك ، طيلة السنوات الماضية.

ابتسم وهو يستعيد الألفة بنهما ، وخرج من جموده قائلاك

لم يكن في حياتي سواك ...أقسم على ذلك

ارتفعت عيناها الى وجهه وشعرت وكأن يدا قوية قد تسللت الى أعماقها ،لتهز المشاعر الساكنة فيها ، والتي تصورت أنها قد وأدتها تماما ، ومن الغريب أن نفس الشيئ قد حدث مع نبيل ، ألا أنه استعاد سيطرته على نفسه في سرعة وشعر أنه قد تجاوز واجبه كطبيب وحقه كرجل تحاه فتاة مخطوبة لغيره ، فعاد ينفض عن نفسه مشاعره وعواطفه ويستعيد دوره كطبيب وهو يستطرد:
عموما .. ان حالتك تتحسن ولكنك ستظلين تحت الملاحظة عموما لبعض الأيام لنتأكد من أن الأزمة لن تعاودك ..أما أنا فمرتبط بالعودة الى لندن خلال اليومين القادمين وسيتابع الدكتور منير تطورات حالتك بعد سفري انه طبيب متفوق ، وأنا أثق فيه ، كما سيطلعني على تطورات حالتك هاتفيا بصورة يومية ، ولقد وعدني بذلك و..

قاطعته بحزن :

ستسافر وتتركني؟!

حاول أن يحتفظ بأبتسامته وهو يقول:

هناك حالات أخرى تنتظرني في لندن

شعرت بغصة في قلبها وهي تقول:

آه . . نعم بلا شك ..أنني أقدر لك ذلك

دلف والدها الحجرة في هذه اللحظة ، وحاول أن يملأ صوته بالمرح وهو يقول:

صباح الخير يا دكتور .. صباح الخير يا غادة

أجابته بصوت يحمل شيئا من الحزن :

صباح الخير ياأبي

كيف حالك اليوم يا بنيتي؟
في خير حال يا أبي هكذا يقوا الدكتو نبيل
تطلع الأب الى نبيل بعينين ملؤهما الرجاء وهو يقول :

أحقا يا دكتور ؟

أجابه نبيل مطمئنا :

لقد مرت الأزمة بسلام ولكنها ستبقى تحت الملاحظة هنا بعض الوقت

وزع الأب نظراته القلقة بين نبيل وابنته التي ترنو اليه بعينين حزينتين وأدرك بغريزتهأن هذا الحزن الكامن يعود الى عاطفتها القديمة فقال وقد أقلقه أن تتحرك تلك العاطفة من جديد في ظل ظروف ابنته المرضية وما يمكن أن يعكسه عليها ذلط من اضطرابات ومتاعب نفسيةقد لاتحتملها فقال مترددا:

ألا يمكننى أن أنقلها الى مستشفى الدكتور صادق الخاص ؟ ..أنه صديق لنا وأعتقد أنها ستلقى عناية أفضل هناك

عارض نبيل قائلا:

أن أدنى مجهود تبذله الآن سيكون له تأثير سيئ علىحالتها الصحية وعلى الرغم من ثقتي بكفاءة الدكتور صادق الا أنني أعتقد أنها لن تلقى هناك عناية أفضل مما يمكن توفيرها لها هنا .. اطمئن يا عماه .. ابنتك في أيد أمينة وسأتركما الآن ، على ألا ترهقها بالحديث طويلا

وانصرف بعد أن أغلق باب الحجرة خلفه ، واتجه الى حجرته منهوك القوى بعد يوم عمل شاق وتممد فوق احدى الأرائك وراح يتطلع الى السقف ويطلق العنان لذكرياته التي امتدت أمامه كشريط طويل عاد به الى تلك السنوات التي عرف بها غادة وهي بعد طفلة صغيرة

تذكر كيف نشأت قصة الحب بينهما وكيف انتهت بفشل عاطفي كان بمثابة نقطة تحول في حياته ووداع أخير لكل عواطفه ومشاعره..

وعندما حملته الطائرة الى لندن كان يترك خلفه كل ما يمكن أن يؤثر على حياته القادمة من عواطف وأبدل ذلك كله بحبه وأخلاصه لمهنته وجعل المنهاج العلمي هو المسطر الوحيد على نظرته لكل الأمور ومقياسه الأوحد لمجابهة الحياةوالتعامل معها
حتى الدين لم يعد له مكان واضح في نفسه
لقد صار واحد من أشهر جراحي القلب في العالم وعلى الرغم من ذلك فقد صار بلا قلب

وعندما عاد بعد ذلك الى موطنه وقادته الملابسات والمصادفة تاى لقاء حبه القديم قرر منذ أول لحظة أن يعاملها كمريضة من مرضاه من الناحيتين العلمية والأنسانية ألا أن تلك المشاعر التي راحت تتسلل اليه بين حين وآخر والتي راح يحاربها بعنف كانت تملؤه شعورا بالخوف والقلق بعد أن صار الحب في نظره نوعا من الضعف يتعارض مع النجاح والتفوق
كانت هذه نظريته الخاصة التي عزت نجاحه الى كونه رجلا بلا قلب والى ايمانه بأنه وعلى الرغم من كون الطب مهنة انسانية من الضروري أن يثق في انقاذه الحياة أمر يتوقف على براعته كطبيب وخبرته في مواجهة الأمر واستخدامه كل الأمكانات العلمية والتقنية لديه وليس على تعاطفه مع المريض أو انسانيته معه وبهذا المنهج نجح في أن يقاوم مشاعره نحو غادة حتىالآن وأن أقلقته تلك المشاعر التي تتسلل اليه من حين الى آخر والتىتتجاوز ما ينبغي أن يشعر به نحوها كطبيب

وهز رأسه في قوة محاولا منع نفسه من الأسترسال في عواطفه نحوها ومنع شريط الذكريات من الأسترسال في ذهنه فحتى لو قرر استعادة عاطفته الجديدة ولو تخلى عن قلبه الجامد ولو اهتزت مفاهيمه الجديدة فلن يتغير من الأمر شيئا لأن قصة خبهما قد انتهت لأن غادة مخطوبة لشخص آخر الآن
ثم كيف يفكر في الأرتباط بها وهو يراها كطبيب تواجه نوعا من الموت البطئ بقلب مريض متهالك كيف يبيح لنفسه استعادة ذكرياتهما معا في الوقت الذي ينبغي أن يكثف فيه كل جهودهللتعامل معها كمريضة والبحث عن أسلوب وعلاج فعال لأزمتها ؟

ونهض من الأريكة يتطلع الى وجهه في المرآة متعجبا

هاهي ذي كل الأمور تتداخل مرة أخرى

هاهو ذا المحب يمتزج مع الطبيب ويتعاطف مع المريضة ويرفض الاستسلام للمنطق العلمي باحثا عن معجزة ينقذ بها مريضته..

نعم .. هذا ماكانت تحتاج اليه غادة بقلبها المريض المتهالك ...

كانت تحتاج الى معجزة

.
.

خضعت غادة لعدة فحوصات الطبية هذا الصباح ، والتفت عدد من الأطباء والممرضات حول فراشها لعمل كشف دقيق على قلبها ومخها ... ولم تكد فحوصهم تنتهي حتى ابتسم الدكتور منير لها ابتسامة مشجعةوهو يقول:

ها هي الفحوصات المزعجة تنتهي هل سببنا لك الضيق؟

أجابته بأبتسامة باهته :

لا لقد بذلتم الكثير من أجلي ، ويجب أن أشكركم على ذلك.

قال بهدوء :

لقد تحسنت وظائف القلب كثيرا ويمكننا الأستغناء عن الجلكوز تماما وأبداله بوجبات خفيفة وأظن ذلك سيسر الدكتور نبيل كثيرا.

ودخل الدكتور نبيل هذه اللحظة ، وهو يقول في مرح:

ترى أي وشاية تلقيها في أذن مريضتي؟

اتسعت ابتسامة منير وهو يقول :

كنت أخبرها بأنك ستسر بنتائج فحوص اليوم.

وناوله كل الفحوصات وهو يشير الى زملائه بالأنصراف قائلا:

سأتركك لتقدم لها التهنئة بنفسك.

راجع نبيل النتائج في اهتمام في حين راحت غادة تختلس النظر اليه وقد اتاح لها انشغاله فرصة تأمل قسماته التي غابت عنها طويلا دون أن تخشى ذلك الشعور بالحرج الذي ينتابها كلما التقت نظراتهما انه لم يتغير كثيرا وان بدا وجهه أكبر من عمره الحقيقي وهو يحمل علامات اجهاد كثيرة لم تنقص من رجولته وتلك النظرة العميقة في عينيه

كم أحبت هذا الوجه وهاتين العينين

الآن فقط أدركت أن ملامحه لم تفارق خيالها طيلة السنوات الست الماضية وأن حاولت أقناع نفسهل بالعكس

وأغمضت عينيها وهي تحاول منع نفسها من الأستغراق في التفكير فيه والأستسلام لجاذبيته المحببة وقد راح ضميرها يؤنبها في شدة ويعاتبها على منحها تلك الشاعر انبيل وهي مخطوبة لأخر..

لقد شعرت أن التفكير ، مجرد التفكير خطأ يحمل طابع الخيانة..

نفضت عنها تلك الأفكار عندما سمعت نبيل يقول:
هذه النتائج تنبئ بالخير ، وسيكنك نغادرة المستشفى قريبا

سألته في لهفة:
ألن تعاودني الأزمة مرة أخرى؟

أطرق بوجه عاجزا عن توضيح الحقيقة لها ، ثم لم يلبث أن قال لها :

اسمعي يا غادة ..سأكون صريحا معك .. أنك تعانين من نقص شديد في ضخ الدم الى الجسم ، فهناك صمام تالف في القلب ، وآخر لايعمل بكفاءة تامة ، وهذا يعني أنه مع اتباع نظام علاجي مناسب وغذائي خاص والبعد عن الأنفعالات النفسية ، سيمكننا مستقبلا تفادي حدوث الجلطات القلبية وهو ما كان يهدد حياتك في الآونة الأخيرة ، ولكننا لن نتخلص من خطرها تماما مادام القلب لا يعمل بكفائته العادية

تنهدت في يأس .. قائلة:

أذن ما زلت أسيرة ذلك المرض اللعين

ثم سألته بغته في اهتمام :
أ لا يجدي أجراء جراحة للتخلص من ذلك؟

احتمالات النجاح في مثل هذه العمليات لا تتجاوز الخمسة في المائة خاصة مع وجود صمام تالف في القلب

سأقبل المخاطرة لو وافقت أنت على أجراء العملية بنفسك

انتفض كما لو أنه أصيب بصاعقة كهربائية ، وهتف ،
أنا مستحيل!
لماذا ؟ انني أثق في براعتك ، ولن أطمئن على نفسي مع سواك

لا يا غادة لايمكنني هذا

لماذا ..لأنني غادة ..أما زلت تحمل بعض العاطفة نحوي؟

لاذ بالصمت تماما وتركها تستطرد في سعادة:
حتى لو كان هذا حقيقيا حاول أن تتناسى تلك العاطفة وأن تتعامل معي كمريضة تفضل الموت على السجن المؤبد خلف أسوار المرض اللعين الذي يعذبها ويهدد حياتها في كل لحظة ، وربما تنجح حينذاك.

قاطعها في حزم:

لا لن أسمح بأجراء تلك العملية الجراحية ولا صلة لهذه بالنواحي العاطفية بل هو لأمر عملي وعلمي بحت ففرص النجاح هنا لا تقارن بضخامة نسبة الفشل واحتمالاته في حين يمكننا السيطرة عاى الحالة طبيا كما يحدث مع الكثيرين

قالت في حدة :
أي آخرين ؟! أنني لن أحيا حياة طبيعية أبد هكذا سيصبح حتى مجرد صعود السلم أو هبوطه مخاطرة غير مأمونة العواقب .. سأضحك بحساب ، وأحزن بحساب ، وأعيش عمري كله مهددة بأزمة قاتلة قد تنتابني في المنزل أو الطريق كما حدث ثم انني من البشر لا يمكنني أن أستبعد انفعالاتي الى الأبد .. ربما تكون العملية خطيرة كما تقول ، وقد أ موت بسببها ، ولكن البديل هو أن أموت فعليا في كل لحظة

خشي عليها من الأنفعال فقال مهدئا :

حسنا .. حسنا .. اهدئي وامنحيني بعض الوقت للتفكير

هدأت نبرتها قليلا وأن استمرت تقول في حزم وتصميم :

أريد مواجهة صريحة مع المرض يا نبيل .. أريد منك أن تجري تلك الجراحة قبل أن تسافر فأذا رفضت فسأطلب من الدكتور صادق أو الدكتور منير أن يجريها بعد أن أتعهد بتحمل النتائج والمخاطر وأن كنت أصارحك بأنني لن أثق في الأمر تماما ما لم تجري
أنت العملية

حسنا .. سأعطيك ردي في المساء غادر الحجرة متجها الى أستراحة الأطباء وهو شارد الذهن تماما بسبب ذلك الأختيار العسير الذي وضعته فيه غادة وشعر لأول مرة باخوف الحقيقي وبعدم ثقته في اجراء العملية لغادة على الرغم من أنه أجرى عمليات مماثلة في النجاح .. بل أنها سبب شهرته الا أن نجاحه فيها يعود الى أعصابه الباردة ولا مبالاته بما سيأتي به القدر أما بالنسبة لها فهو يرتجف لمجرد الفكرة ويدرك تماما أنه سيعجز عن السيطرة على أعصابه معها

ولن يحتما الفشل

ان غادة جزء غالي في حياته .. انها حبه الوحيد الذي لن يعرف سواه وأذا فشلت العماية ولقيت مصرعها على يديه فستكون نهايته كجراح ولن يغفر لنفسه أبدا

وفي أعماقه راح يهتف في اصرار :

لا لن أسمح لها بأجراء مثل هذه العملية لها .. لن أقامر على حياتها أبدا .. أبدا

.
.

دلفت الممرضة سناء الى حجرة غادة وهي تحمل على وجهها ابتسامة خبيثة ولوحت لها بخطاب وردي قائلة:

جاءك خطاب معطر من باريس

اختطفت غادة الخطاب من يدها بلهفة وهي تقول:

لاريب أنه من عادل

عادت الممرضة تخطف الخطاب قائلة :

ليس بمثل هذه السهولة ... أريد مكافأتي أولا.

مدت غادة يدها اليها بشوق وهي تقول :

سأمنحك المكافأة التي تريدنها .. ولكن أعطيني الخطاب.

ناولتها سناء الخطاب ، وهي تبتسم قائلة :

تكفيني تلك السعادة المطلة على وجهك ومن عينيك ، سأتركك تقرئين الخطاب وحدك على أن تخبريني بما به من حب وهيام فيما بعد

وغادرت الحجرة تاركة الخطاب بين يديغادة تقلبه بينهما دون أن تفضه ..

كانت تسأل نفسها :

لماذا لم يحضر بنفسه للاطمئنان عليها؟

وجدت نفسها تجيب :

يا لها من حمقاء ! لاينبغي أن يعود بالطبع ، فلا ريب أنه مشغول بدراسته ولن يقطعها ويهرع اليها على أول طائرة ويكفي أنه أجاب على برقية والدها بهذه السرعة..

ولكن هل يتمسك بها فعلا بعد أن علم بحقيقة مرضها وظروفه ؟ أم خضع لأرادة والده كالمعتاد ؟

ترددت في فض المكتوب وهي تستعيد تلك العبارة التي سمعته في الشرفة التي يجيب بها والده مؤكدا أنه يحبها ولن يتخلى عنها أبدا

وخشيت أن تفض الخطاب..

خشيت أن يصدمها ما جاء فيه..

صحيح أن تخلى عنها عادل لن يفعل بها أكثر مما فعله فراقها عن نبيل ولكنها في هذه المرة تفقد ثقتها بنفسها تماما وستعتبر هذا الرفض بمثابة حكم بأنها لم تعد فتاة طبيعية لها الحق أن تحب وان تتزوج وأن مرض قلبها لن يصبح عذابها الوحيد ...

وبأصابع مرتعشة فضت الخطاب وراحت تقرؤه وجسدها يرتعد انفعالا...

(( عزيزتي غادة..

آلمتني بشدة تلك البرقية التي وصلتني من الكويت تبلغني بتطور حالتك ونقلك الى المستشفى وكم وددت أن أحضر لزيارتك لولا ظروفي الدراسية في باريس وأرجو _ عندما تصلك رسالتي_ أن تكون أزمتك قد مرت بسلام كما أرجو أن أطمئن دوما على صحتك ..

غادة .. لست أدري كيف ألدأ الحديث معك هذه المرة ولكننل أثق في حسن تقديرك وفي أنني لم أدع يوما أنني عاطفي أو مثالي بل كنت أصارحك دوما بأنني شخص عملي تماما وربما كان أحد أسباب أختياري لك هو ما كنت تمثلينه لي من عاطفة أفتقدها في نفسي و أذكرها عن أمي الراحلة وربما هذا سر أعجاب والدي بك وتقديره لك ولقد عشت عمري كله أثق في تقديراته وأحترم آراءه ألا أن هذا لم يكن كل الأسباب فقد أحببتك وأصبحت بالمسبة الي جزءا من أحلام المستقبل وربما لو كنتت قد علمت بحالتك المرضية منذ البداية لهيأت نفسي لتقبلها ولتغلب الحب على ما عداه من عقبات الا أن معرفتي بالأمر جاء ت كالصدمة ولم أكن مهيئا لها حتى لقد شعرت بالمهانة لأنني لم أعرفها منك قبل أن يخبرني بها الدكتور صادق

ربما بدا لك حكمي قاسيا غير عادل الا أن شعوري في تلك الليلة قد خلط الأمور في رأسي فالمستقبل الذي رسمته أنا ووالدي لي لم يكن فيه مكان لزوجة مريضة مما اضطرني لفسخ الخطبة والغاء كل ارتباطاتنا

مرة أخرى أرجوك أ لاتتسرعي في الحكم علي أو وصفي بالقسوة و النذالة .. فعلى الأقل أنا لم أخف عنك شيئا عن نفسي وكنت صريحا معك منذ البداية في حين أخفى والدك وأنت عنا أهم أمورك..

وفي النهاية .. أرجو ألا تنقطع بيننا كل الصلات وألا يكون فسخ الخطوبة سببا لفسخ صداقتنا وأن يصلني دوما ما يطمئنني عليك ومع أطيب تمنياتي بالشفاء ))

(( عادل))

اذن فقد حدث ما كانت تخشاه

لقد لفظها عادل ..

لفظها كعادته ببضع عبارات منمقة تؤدي في النهاية الى نتيجة واحدة واضحة ومحدودة بأنها ام تعد سوى مريضة بائسة لاحق لها في الحب أو في حياة زوجية طبيعية ..

وأغمضت عينيها في ألم ثم عادت تحدق أمامها بلا هدف وقد راحت كرامتها الجريحة تنزف الدموع من عينيها على الرغم من محاولتها ألا تبكي وأن تستوعب الموقف في قوة ..

ولكن مشاعرها أعلنت العصيان في قوة وجبروت حتى بدا هلا أن تخمد تلك الأنفاس التي تتردد في صدرها لتنهي أمرها كله وشعرت بوحدة قاسية مطلقة وبعداء لكل البشر حتى نفسها

وفي تلك اللحظة دلف والدها الى حجرتها وهو يقول في بشر وتفاؤل:

لقد أخبرني الدكتور منير الآن أنه يمكنك العودة الى المنزلو..

تحجرت كلماته في حلقه عندما رأى شحوبها والدموع المتحجرة في عينيها وهتف في لوعة وجزع:

غادة !! ماذا حدث

بدت له صامته كثمتال من حجر وعيو نها تنزف الدمع بغزارة وهي تحق في سقف الحجرة بلا هدف ويدها تطبق على الخطاب فتناوله من يدها دون مقاومة منها وقد بدا وكأنها لم تشعر بوجوده وراح يقرؤه ويدرك معاناة ابنته الحقيقية

لقد خشي ذلك منذ البداية منذ سمع كلمات جمال خاصة وه يعام طريقة تفكيره وقوة سيطرته على ابنه مهما كانت عواطفه نحو غادة

وحاول أن يجد كلمات ما يخفف من وقع الصدمة على ابنته وهو يردد في نفسه:

رحماك يارب بابنتي البائسة !! ألايكفي مرضها اللعين الذي يحاصر حياتها ويهددها بالمت؟

فجأة أغمضت ابنته عينيها واكتسى وجهها بزرقة شديدة ومخيفة وراحت أنفاسها تتلاحق في سرعة شديدة وانطلقت من صدرها زفرة مرعبة جعلت صرخته تدوي في أرجاء المستشفى

dali2000 22-02-09 06:45 PM

________________________________________
أنقذوني!! ابنتي تموت !! النجدة !! النجدة!

في نفس اللحظة كان الدكتور منير قد انتهى من أجراء عملية عندما اندفعت سناء نحوه هاتفة:

لقد عاودت الأزمة غادة ووالدها يصرخ كالمجنون

سألها في توتر:

هل أجرى أحدهم تدليكا لقلبها؟

أجابته في جزع

انها لم تستجب له والدكتور وائل يواصل محاولة تنشيط قلبها بالتدليك

سألها وهو يسرع نحو حجرة غادة:

وأين الدكتور نبيل ؟

أجابته متوترة:

لقد غادر المستشفى منذ ساعتين ولا أحد يدري أين هو؟

قال وهو يعدو نحو الحجرة:

أعدوا لها ترتيبات نقلها الى حجرة العناية المركزة على الفور وشأشرف على نقلها اليها بنفسي

رآه الأب يعدو قادما فاندفع اليه هاتفا:
أنقذني يا دكتور !! أرجوك .. ابنتي تموت !! انقذني

أبعده منير في رفق قائلا :

اطمئن يا سيدي .. سنبذل أقصى جهدنا من أجلها . . اطمئن

ولكنه _ في أعماقه_ كان يشعر أنها تحتاج الى أكثر من مجرد الرعاية


تحتاج الى معجزة

.
.

تردد نبيل طويلا وهو يقف أمام أحد المساجد وراودته ـكثر من مرة الرغبة أن يعود أدراجه بعد أن مضت ست سنوات لم يتقرب فيها من الله ( سبحانه وتعالى) ثم لم يلبث أن خلع حذاءيه وخطا داخل المسجد

وهو يتطلع في رهبة الى أضوائه الخافتة وذلك العدد القليل من المصلين في غير أوقات الصلاة وأحاطت به هالة روحانية افتقدها طويلا مع مزيج من الحيرة والتوتر وكأنه سائح يرى مسجدا لأول مرة حتى وقعت عيناه على دائرة من البشر يجلسون حول رجل في أواخر الأربعينات من عمره يرتدي زي المشايخ ويلقي دروسا دينية حول القيم والمبادئ الأسلامية وقد اكتسى وجهه بهالة نورانية وصفاء لا تخطئهما العين فوقف يتطلع اليه صامتا ، ثم أشار اليه برغبته في التحدث اليه ، الا أن الرجل تجاهله تماما ، وتابع دروسه الدينية ، وكأنما لم يره.. فلم يجد نبيل أمامه سوى أن يجلس في مواجهة تارجل ، وسط حلقة الدرس، وقد بهرته تلك الثقة والمهابة في ملامحه ، وقد تعلقت به العيون في أجلال ومحبة وتقدير ...

ولم يكن هذا الشخص بغريب عن نبيل

كان شقيقه

نعم شقيقه الشيخ صلاح، الذي يشعر نحوه أيضا بالحب والمهابة والأجلال ، الى جوار مشاعره الأخوية ، والذي يشعر في مجلسه بالضآلة ، على الرغم من كونه طبيبا وجراحا شهيرا ، ويحسده على قوته وصلابته، اللتين تمتزجان بالرحمة والتسامح ...

ولقد تولاه الشيخ صالح برعايته وعنايته ، بعد وفاة أبيه ، وكان له بمثابة الأب ، وهو يحمل لمحات الرجولة منذ صباه، فلم يتخل أبدا عن صديق ، أو يحيد عن مبدأ، وعندما اخنار دراسة الشريعة وأصول الدين ، على الرغم من أن مجموعه ي}هله لدخول أية كلية يختارها ، لم يأبه لأعتراض أبيه وخاله بل كان له ما أراده.

هكذا كان، وسيظل شقيقه الشيخ صلاح ، رجلا قويا ذا مميزات خاصة تؤهله لأن يحمل رسالة وضعها نصب عينيه ، في صلابة ورجولة، يمنعانه من الحياد عن الطريق الذي رسمه لنفسه دائما..

وعندما انتهى الشيخ صلاح من ألقاء الدرس ، وانصرف مريدوه وهم يلقون عليه التحية بكل الأحترام والتقدير ،نهض اليه نبيل ، وهو يقول:

كيف حالك يا شيخ صلاح؟

أجابه صلاح في صوت يحما نبرة تأنيب:
وعليكم السلام ورحمته الله وبركاته .. اجلس يا نبيل

جلس نبيا الى جوار شقيقه ، وقد خامره ذلك المزيج من الأرتياح والضآلة، أمام رجل عرف كيف يجمع ما بين الرحمة والصلابة في حزم ، وسمعه يقول بنبرة عاتبة:

لم أعهدك مرتادا للمساجد / منذ أن قررت السفر الى لندن.. فماذا حدث؟
ذهبت لألقاك في منزلك ، فأخبرتني زوجتك أنك هنا

وأي شئ ذكرك بي اليوم ؟.. أنك هنا منذ أسبوعين ، لم أرك فيهما سوى مرة واحدة

شرد نبيل ببصره لحظات وهو يقول :

أحتاج الى مشورتك

ارتسم مزيج من الدهشة والأهتمام في عين الشيخ صلاح وهو يقول:

بشأن ماذا ؟

أتذكر غادة؟

غادة ؟! آه تلك الصغيرة جارتنا التي أردت أن تخطبها والتي سافرت بعد فشلك معها الى لندن

انهت مريضة.. مريضة بمرض قلبي شديد ، وحالتها متدهورة للغاية .. ولقد نقلوها الى نفس المستشفى ، الذي جئته لفحص حالات متشابهة وهي تطالبني بأجراء جراحة لأنقاذها من آلامها

سأله في حيرة:
وما الذي يمنعك ؟.. أليس هذا عملك ومجالك؟
أجابه في أسى :

مع حالتها السيئة لن تتجاوز نسبة النجاح خمسة في المائة ، على أحسن الفروض

صمت الشيخ صلاح برهة ، ثم سأله :
وماذا لو لم تنجز العملية؟
ستحيا ما تبقى من عمرها في خطر ، متجنبه أية أنفعالات
لن يختلف الحطر أذن في الحالتين

الى حد ما ، ولكنها لو اتبعت النظام والتعليمات بمنتهى الدقة..

كيف يمكن ضمان ذلك بالله عليك ؟.. انها بشر ، وهي عرضة للأنفعال في أي لحظة ، وخاصة مع كل هذا القدر من القيود ، ومع قلب يشعر بالحطر ، وبدنو النهاية في كل لحظة ..

وصمت برهة قبل أن يقول في حزم :
أما زلت تحبها؟

اطرق نبيل برأسه دون أن يجيب فاستطرد الشيخ صلاح :

لو أنك مازلت تحبها حقا ، فتوكل على الله ، وأجر لها العملية

هتف نبيل في هلع:

مستحيل !.. قلت لك أن نسية النجاح لا تتجاوز خمسة في المائة ، ولن أحتمل فكرة التسبب بموتها

أجابه الشيخ صلاح في حزم وثبات:

هناك من يموتون أيضا في أثناء اجلراء جراحة الزائدة الدودية ، علر الرغم من أن نسبة النجاح فيها تتجاوز الخمسة والتسعين في المائة ، حتى بالنسبة لجراح مبتدئ .. الموت والحياة بيد الله وحده يا نبيل ، وتلك النسب التي تقيسون بها الأمور وفقا لمقاييس طبية وعلمية هي نتاج حسابات مادية دقيقة ولا شك ، ولكن رحمة الله لا تخضع لآية نسبة .. ومادام الخطر سيبقى دون الجراحة فمن واجبك أن تجريها ، وأن تثق فيما وهبه الله اياك من فضل وموهبة .. ومن يدري ، لربما أنت أحد الأسباب التي هيأها الله لتلك الفتاة لتنجو من الخطر وتحيا ما تبقى لها من العمر حياة طبيعية

قال نبيل في توتر:

انك تتجاهل المنطق العلمي تماما وتنسى أنالنتائج والتجارب هي مصباحنا في الحياة

قال صلاح في حزم:

يبدو أنك قد تشبعت بالمنهج تاعلمي حتى أنك لم تعد تؤمن بقدرة خالقك
اعترض نبيل في توتر :

يا شيخ صلاح..

قاطعه شقيقه في صرامة:
لم جئت تطلب مشورتي اذن ، مادمت لاتؤمن بها

علت الدهشة والحيرة وجه نبيل وهو يغمغم :

لست أدري .. لقد وجدت نفسي مدفوعا اليك طالبا مشورتك

ارتسم الصفاء على وجه الشيخ صلاح وهو يقول:ك

هذا لأنك تؤمن بمنهجي في أعماقك وكل ما تحتاجه اليه هو الأيمان والأقتراب من الله ..فكل ما حققته من نجاح وشهرة وثراء لم يمنحك الثقة والطمأنينة اللتين تحتاج اليهما .. وعندما واجهتك تجربة تحتاج اليهما وتتعلق بالأنسانة التي تحبها بينت لك تلك الحقيقة ورحت تتمنى لو أنك تمتلك من الأيمان ما يجعلك تقدم على اجراء العملية دون خوف أو رهبة .. لقد أدركت الأن فقط أن العلم مهما بلغ تقدمه يقف أحيلنل عاجزا على عكس الأيمان الذي لاحدود له ولا يعترف بالمستحيل فلا مستحيل مع رحمة الله سبحانه وتعالى .. ابحث عن ا لأيمان في أعماقك يا نبيل وعنذئذ ستجد نفسك قادرا على مواجهة الأختبار حتى لو ماتت غادة بعد العملية سيتريح ضميرك لأنك بذلت أقصى مايمكنك ؛ ولأنك لم تتقاعس عن مساعدتها ولأن هذه مشيئة الله سواء أجريت العملية أم لا ؛ ولأنه لكل أجل كتاب

ظل نبيل صامتا تتنازعه المشاعر حتى نهض الشيخ صلاح قائلا:

سأتركك الآن فقد حانت صلاة العصر ..

وابتعد خطوتين ، ثم عاد يستطرد :
لم لا تشاركني اياها؟

انتفض نبيل ، وكأنما سمع ما يرهبه ، فهو لم يقرب الصلاة منذ ست سنوات ، وكأنما هناك شئ بداخله يشعره بأنه غير جدير بالوقوف بين جموع المصلين على الرغم من أن ديانته في جواز السفر هي الأسلام ...

ودوى أذان الصلاة ،دون أن ينهض نبيل من مكانه ودون أن يلبي نداء ربه ونداء شقيقه الذي قال في أسى:

_ بسم الله الرحمن الرحيمك (( أنك لاتهدي من أحببت ، ولكن الله يهدي من يشاء)) ( صدق الله العظيم) .. هداك الله يا نبيل
وعندما اتجه الى الصلاة ، كان نبيل يغادر المسجد وكان قلبه يرتجف.

*****************
لم يكد نبيل يجتاز ردهة قسم أمراض القلب حتى استقبلته سناء ووجهها يحمل علامات التعب والأرهاق هاتفة:

دكتور نبيل حمدالله على حضورك

سألها نبيل :

ماذا حدث؟
أجابته في أرهاق :

لقد عاودت الأزمة الأنسة غادة ، وقمنا بنقلها الى حجرة العنلية المركزة

سألها في اضطراب :

متى حدث ذلك ؟

أجابته ملوحة بكفها :

بعد مغادرتك المستشفى بساعتين

انطلق يعدو نحو حجرة العناية المركزة وهي تلهث خلفه وسألها:

ما مدى خطورة حالتها الآن ؟

أجابته لاهثة:
أظن أن الدكتور منير يسيطر على الأمر

لم يطق صبرا في مرحاة التعقيم لاتي تسبق الدخول الى العناية المركزة، ولم يكد ينتهي منها حتى اندفع الى الحجرة ، وراى الدكتور منير يتابع رسام القلب الكهربائيوالى جواره أسطوانة أكسجين وغادة مستغرقة في النوم فاقترب منه يسأله:

هل نجحت في السيطرة على الأزمة؟

أجابه هامسا ، وهو يشير الى شاشة رسام القلب :

الى حد ما ولكن قلبها كما ترى قد بلغ حدا من الضعف يعجزه عن مواجهة أزمة أخرى

ظلت عينا نبيل متعلقتين برسام القلب وهو بغمغم:

نعك أعلم ذلك ...شكرا لك دكتور منير على كل ما بذلته من جهد .

ابتسم منير قائلا:

علام تشكرني ؟ انني أ}دب عملي ، ولا تنس أنها حالتي ، قبل أن تطالب أنت بتوليها

غمغم نبيل : حسنا .. يمكنك أن تستريح الأن .. سأبقى أنا الى جوارها

ربت منير على كتفه قائلا:

لا بأس ستجدني في حجرتي ، لو احتجت الى المعاونة

أومأ نبيل برأسه شاكرا وهو يتطاع ال ى وحه غادة الشاحب في حين انصرف الدكتور منير الى حجرته وتقدم نبيل نحو فراش غادة وغمره شعور جارف بالحب والحنان تجاه تلك المخلوقة الجميلة الممدة على الفراش وعاودته في تلك اللحظة كل المشاعر والعواطف لاتي يكنها لها في قلبه ، والتي حاول أن يجعل منها مجرد ذكرى لولا لأن هزمته لحظة المواجهة

ما أعجب النفس البشرية

لقد تصور أنه يعلم أدق أسرار القلب بحكم خبرته وبدراسته لأنسجته وصماماته وشرايينه دون أن يتأمل يوما ذلك المعنى الذي يصبغه به الشعراء ومؤلفو الروايات الرومانسية بل راح يسخر منهم ومن جهلهم بالقواعد العلمية .. ولكنه الأن يشعر بأنه يجهل الكثير عما لا يصل اليه مبضع الجراح

واكتسى وجهه بتعبير حزين وهو يشعر بعجزه عن انقاذ الأنسانة الوحيدة التي أحبها وبخوفه من الأقدام على الوسيلة الوحيدةلأنقاذها والتي لاتتجاوز نسبة النجاح فيها خمسة في المائة مع خمسة وتسعين في المائة من احتمالات الفشل

والفشل في هذه ااحالة تعني الموت

دخلت سناء في هذه اللحظة لتهمس في أذنه:

والد المريضة في الخارج ويرغب في مقابلتك

تمتم نبيل في خفوت :

ابقي الى جوارها حتى أقابله وأبلغيني فور استيقاظها

غادر الحجرة ليجد والدها أمامه في حالة يرثى لها وهو يتحرك جيئة وذهابا في اضطراب ولم يكد يلمحه حتى هرول اليه قائلا:
لقد أبلغني الدكتور نمنير أنها تجاوزت الأزمة أهذا صحيخ؟

أحكم نبيل رباط عنقه في محاولة لتهدئة أعصابه وهو يقول:
نعم .. انها نائمة الآن

ثم دعاه الى الجلوس في مكتبه مستطردا:

أعتقد أن كلينا يحتاج الى قدح من الشاي يسترد به نشاطه

وضغط على زر الجرس المجاور للمكتب في حين ناوله الأب خطاب عادل وهو يقول:

لقد عاودتها الأزمة بسبب هذا

التقط نبيل الخطاب وقرأه في اهتمام ثم ألقاه في أسى :

ياللمسكينة ! ما أقسى ما تعرضت له !! قلب يحتضر وخطيب يهجرها بكل خسة ونذالة لمرضها سيد ابراهيم انني انني..

قاطعه الأب:

مازلت تحب غادة .. أعلم ذلك . أنه خطئي منذ البداية فلم يكن يصلح لها سواك

ردد نبيل في ندم :
وخطئي أيضا فلم يكن ينبغي أن أتخلى عنها حينذاك

لسنا هنا انبحث أمر المحطئ .. لقد فات أوان الحساب ولكن قل لي : كم تبقى لأبنتي ؟؟ أخبرني الحقيقة مهما بدت قاسية

ظل نبيل صامتا لحظات قبل أن يقول :
أمامنا خياران أحلاهما مر: الأول : هو أن تظل في المستشفى تحت رقابة الأطباء لمدى لا يعلم سوى الله مداه مع مراعاة أن أي أزمة جديدة قد تعني نهايتها ..

والثاني : هو أن نجري لها العملية لتغيير صمامات القلب في ظل ما يعانيه قلبها من متاعب وقد يعيدها هذا الأجراء فتاة عادية ولكن نسبة نجاح تلك العملية لا تتجاوز خمسة في المائة على أحسن الفروض .. فأما أن تنجح أو تمتد غيبوبتها أربعا وعشرين ساعة وتنتهي بتوقف القلب عن العمل تماما

صمت الأب طويلا لايدري ماذا يقول فسأله نبيل :
أي الخيارين تختار؟

امتد صمت الأب برهة قبل أن يجيب :
ليس من حقي الأختيار .. أنه حقها وحدها

قال نبيل وهو يحدق في سقف الغرفة:

لقد اختارت العملية على أن أجريها أنا

بدا وكأن حالة من الهدوء النفسي قد انتابت الأب بغته وهو يقول:
على بركة الله أذن

وانحسم الأمر

.
.

انكمشت في فراشها وأطلت من عينيها نظرة تبعث على الأسى عندما رأته مقبلا عليها ، واقترب منها محاولا أمساك معصمها اى أنها أبعدت يدها في عنف على الرغم من ضعفها وأخفتها تحت غطاء الفراش وقد ازدادت فيه انكماشا فقال محاولا بث الطمأنينة في نفسها :

أتخافيني؟...

أجابته في يأس:

لقد تخليت عني ، وهاهو ذا عادل يفها نفس الشئ نفسه لم لا تدعني أموت؟

قال نبيل في هدوء وصوته يحمل نفس النبرة المطمئنة:

لأن الحياة أجمل من أن نتخلى عنها ، وهي تستحق أن نحارب من أجلها

أجابت في حزن:

أية حياة مع الغدر والهجر والوحدة والمرض ؟.. انني بائسة تعسة الكل يتخلى عني ويلفظني ... انني جثة على قيد الحياة

مسح شعرها في حنان وهو يقول:

لا يا غادة .. لاتقولي هذا انك ما زلت في نظري غادة الجميلة ذات الوجه الملائكي .. غادة التي أحببتها وتمنيتها زوجة لي وما زلت أحمل هذه الأمنية في قلبي .. لقد أخطأت مرة عندما تصورت يوما أن الفارق المادي بيننا والجرح الذي أصاب قلبي من رفض أبيك لي يكفيان لأنهاء ما بيننا .. واليوم أدركت فداحة هذا الخطأ وأنك ما زلت تعيشين في قلبي وأن حبنا أعظم من أن تنهيه السنين

قالت وقد ازدادت حزنامن كلماته:

أشكرك على محاولتك رفع معنوياتي ولكنني لست بحاجة الى شفقتك

قال متضرعا:

صدقيني يا غادة .. أرجوك .. أنني ما زلت أحبك أكثررمن أي وقت مضى

سالت الدموع من عينيها وهي تقول:

أتعرف ما الذي تمنيته منذ لحظات قبل أن تدخل الحجرة؟ لقد تمنيت أن تكون ذكريات حبنا هي آخر ما أغلق عليه عيني عندما أرحل عن هذه الدنيا فقد كان حبنا عظيما حقا ولست أحب أن تشوهه بهذا المشهد التمثيلي أرجوك.. لا تفعل يا نبيل مهما كانت شفقتك نحوي

تناول كفها من تحت الفراش وأمسكها في حنان وهو يقول:

تطلعي الي جيدا يا غادة .. افعلي ولا تشيحي بوجهك عني

أرادت ألا تستجيب الى توسلاته الا أنها لم تلبث أن رضخت له ورفعت عينيها الى عينيه العميقتين وهو يستطرد:

أما زلت تذكرين هاتين العينين ؟ .. هل كذبتا عليك يوما؟

أجابته في وهن و كأنما تحاول مقاومة تأثيره عليها :

نبيل أرجوك

تابع دون أن يلتفت الى محاولتها:

صدقيني يا غادة انني أحبك ولم أتوقف عن حبك يوما وكل ما منعني من التصريح لك بهذا هو خطيبك لآحر أما وقد انتهت الخطبة فلم يعد هناك ما يحوا بيني وبين التصريح لك بحبي و بأعلى صوتي في المستشفى ربما يعيد اليك هذا ثقتك في مشاعري وكلماتي

قالت وقد شعرت بالصدق في كلماته ورأته في عينيه :

وما فائدة ذلك الآن ؟ ان حبنا سيمنحنا المزيد من الألم . انني أقترب من الموت ولست أحب أت أورثك العذاب برحيلي

احتضن كفها بقوة وكأنما يتشبت بها وهو يقول:
لا يا غادة ... ستعيشين ... ستعيشين من أجلي .. ستعيشين لأنني لم أتنازل عنك هذه المرة و لأنني سأسعى لأتمام زواجي منك الذي تأخر ست سنوات كاملة .. لقد أحضرت لك خاتم الخطبة وسأعلن خطبتنا هنا في المستشفى

شملها شعور جارف بالسعادة والثقة بالنفس والأقبال على الحياة وهي تسمع كلماته وأدركت لحظتها أنها لا ولم ولن تحب سواه وابتسمت ابتسامة مشرقة على الرغم من شحوبها وهي تقول:

لست بحاجة الى خاتم خطبة .. انني أحتفظ بخاتم الخطبة القديم

قبل كفها بثقة قائلا:

كنت واثقا من ذلك يا حبيبتي

تقلصت ملامحها بغته وهتفت في جزع:

ولكن لا لن أسمح لك بمثل هذه التضحية من أجلي

رفع وجهه اليها قائلا:

أية تضحية ؟ ... أن كلينا يحب الآخر وحان الوقت لنتم زواجنا

قالت والألم يعتصرها :

أتحب أن تتزوج جثة؟
صاح معترضا:

لا تصفي نفسك بذلط

هتفت :

ولكنها الحقيقة وأنت أكثر من يدركها فالحياة بقلب نصف مهترئ تجعل مني جثة حية لا تصلح لحب أو زواج .. لقد عشت معك لحظات حلم جميل أشكركعليه ولكن حتمية الأمور تجعل من الضروري أن نستيقظ منه ونواجهه فلا معنى لزواج يخيم عليه شبح الموت

قال في أصرار :

لا ياغادة .. لن يفرق بيننا الموت .. لقد قلت أنك ستعيشين وسأبذل أقصى جهدي لتحقيق ذلك

غمغمت في يأس :

لاتعد بما لا تقدر على أنجازه

قال في حزم:

سأجري لك العملية الجراحية غدا يا غادة وسأبذل كل جهدي من أجل الحفاظ عليك

وعلى الرغم منأن أجراء العملية كان مطلبها الا أن رعدة سرت في جسدها عندما ذكر نبيل الأمر فقد ذكرها ذلك بأقترابها من الموت بعد أن تمنت أن يطول بها العمر لتنعم بتجدد حبها الدافئ الذي أحياه هو في قلبها

أنها تخشى الآن اجراء العملية فلم يعد الموت والحياة متساويان عندها كذي قبل

انها لا تريد أن تفقد الحياة الآن بعد أن عاد الحب اليها ..
لا تريد لقلبها أن يتوقف عن النبض بعد أن تراقص بين جوانبه حبا

وفي تردد غمغمت:

ألن تسافر الى لندن غدا؟

أجابها في حزم:
لقد ألغيت سفري .. سأبقى لأجراء الجراحة .. سأتخلى عن أي شئ مقابل نجاح العملية هذه بالذات

حاولت أن تبتسم في ضعف وهي تحيط أصابعه بأصابعهاوهي تقول:

كم أتمنى أن أحتفظ بكلماتك وحبك الى الأبد انهما الشئ الوحيد الذي أخشى أن أفقده لو فشلت العملية

وعلى الرغم من أنه لم يكم يملك ما يوكد به قوله وعلى الرغم ما تمتلئ به نفسه من مخاوف الا أنه حاول أن يبدو أمامها قويا متماسكا ليبعث في نفسها الثقة والطمأنينة وهو يقول مداعبا:

لم هذا الحديث عن المت ؟ ألا تثقين في قدرتي كطبيب ؟؟ سأطالبك بتعويض عن ذلك بعد العملية

ابتسمت قائلة:

سأكون راضية يا نبيل حتى لو مت فيكفيني أن يكون وجهك هو آخر ماأراه

انتفض في ألم وقال:

كفي عن هذا القول يا غادة .. أرجوك .. انك بهذا تزيدين الأمر صعوبة وتضعفين ثقتي في نفسي

مدت له كفها فتناولها بين راحتيه في حنان وجثا على ركبتيه الى جوار فراشها وهي تهمس في حب :

كما تشاء يا حبيبي .. لن أذكر الموت مرة أخرى ..فقط دعني أسمع من بين شفتيك كلمة أحبك .. أسمعني أياها

ضم كفها الى صدره وه يردد:

أحبك يا غادة .. أحبك

ثم أضاف وعينيه تلتمعان بالدمع :

الى الأبد

انهار نبيل ....

غاص في مقعده منهارا ممتقع الوجه ..

لقد انتهىعلى التو من أجراء العماية الجراحية ل غادة ..

بذل كل ما يمكنه خلال العملية

جمد مشاعره

أوقف نبضاته القلقة...

سمر أصابعه حتى لا ترتجف فوق المشرط..

نسي أنها أحب مخلوقة الى قلبه..

ولم يتوان فريق الأطباء المصاحب له لحظة واحدة وبذل الجهد والعرق لأنجاح العملية

ولكن قلبها الضعيف لم يحتمل ولم تجد كل المساعدات الطبية له على الرغم من نجاح العملية طبيا ..

لقد حدث ما لا يملك أبرع أطباء العالم أزاءه شيئا ....

توقف القلب...

ارتجف عدة مرات ثم توقف..


انه لن ينسى _ ما بقي _ له من العمر جسدها القيق المسجى على الفراش

كانت عيناها مغمضتين الا أنه شعر وكأنهما ترمقانه بعتاب واتهام من خلف الأجفان الغلقة لعجزه عن الوفاء بوعده لها

ولكنه لم يقصر في شئ..

لقد كانت العملية مطلبها منذ البداية وكان الموت مصيرها سواء أجرتها أم لم تجرها

ولكنه لن يغفر لنفسه موتها علي يديه

وراح يردد لنفسه في مرارة:

ما أقسى ذلك !! لقد شاهدت بعض المرضى يفارقون الحياة ولكنني لم أشعر ببشاعة الموت وقسوته بقدر ما أدركته هذه المرة .. لنأطرق حجرة العمليات مرة أخرى .. لن ألمس مشرط الجراحة ما بقي لي من عمر

ثم انخرط في بكاء حار وراح ينتحب كطفل صغير مرددا:

وا حبيبتاه !! لقد أضعتك مني مرة أخرى يا غادة سامحيني يا حبيبتي ... لم أكن وفيا لعهدك

وصل الدكتور منير في تلك اللحظة وحاول تهدئته قائلا:

لا تفعل بنفسك هذا... أنك لم تخطئ .. لقد فعلنا جميعنا كل ما بوسعنا ولكن هذه مشيئة الله .. لا تجعل الحزن يقتلك

قال منتحبا :

كان يمكن أن تحيا لبضع سنوات مقبلة لو لم نجر لها العملية

أجابه في حسم ::

وكان من الممكن أن تحيا أطول لو نجحت العملية ولكن الأعمار بيد الله وحده انك جراح كبير ويدهشني أن تنهار على هذا النحو حتى لو كانت المريضة تعني لك الكثير فقد كنا ندرك الأحتمالات مسبقا

قال نبيل في صوت يحمل كل معني الألم :

الشخص الذي أمامك الآن هو نبيل فقط ليس الجراح الكبي ولكن المحب الذي فقد محبوبته

غمغم منير : انني أقدر عواطفك ولكن

قاطعه نبيل :

أريد أن ألقي عليها نظرة أخيرة

خطأ هذا سيزيد من آلامك

أجوك نظرة أخيرة فقط..

حسنا تعال معي

.
.

صحب الدكتور منير نبيل الى غرفة العناية المركزة حيث رقدت غادة فوق فراشها واتصلت بجسدها كل الأنابيب والأسلاك اللازمة للأبقاء عليها في غيبوبتها حتى يحين أجلها نعم توقف القلب أثناء العملية ثم ارتجف عدة مرات وتوقف ومع محاولات انعاشه المستمرة عاد يخفق في ضعف وسقطت غادة في تلك الغيبوبة العميقة التي تسبق الموت عادة وأصبح نبيل يعلم النهاية الحتمية

الوفاة بعد ما لايزيد على أربع وعشرين ساعة ..
لم يعد أمامه سوى أن يترقب رحيلها بين لحظة وأخرى

ووقف نبيل يتأمل وجهها الملائكي وقد علته صفرة الموت واحتقنت عيناه بالدموع فقال منير:

هذا يكفي.. دعنا نغادر المكان

لا.. أرجوك .. دعني معها وحدنا بعض الوقت

ولكن...

أرجوك يا منير ... أرجوك

رضخ منير لمشيئته وغادر الحجرة ليتركه معها وحدهما ، فاقترب نبيل من فراشها وجثا على ركبتيه الى جوارها وهو يردد باكيا :
اغفري لي حبيبتي .. اغفري لي..

وهتف من أعمق أعماقه :

يا الهي ! أنت تعلم كم أحبها .. ساعدها .. أرجوك .. لست أجد في نفسي القوة على فراقها

وتوقف بغتة وتجمدت الدموع في عينيه وقد تنبه الى أمر عجيب ..

لقد استنجد ربه..

ناشده في محنته...

لقد أدرك الآن أن مهارته وتفوقه لا يساويان شيئا وأن رحمة ربه وحدها تسع كل شئ..

تذكر كلمات أخيه الشيخ صلاح عن رحمة الله وتجاوزها لكل معطيات العلم

وآمن بها..

نعم..

أنه يعترف بجحوده وغروره البشري الأحمق..

يعترف بغبائه الذي جعله يؤمن بالأسباب دون رب الأسباب..

وأدرك لحظتها ما ينبغي له أن يفعله..

أنه سيصلي..

سيصلي من أجلها ..

وغادر الحجرة الى حجرته حيث توضأ وراح يصلي ..

لم يدرك كم من المرات سجد وركع ولكنه واصل صلاته حتى غمره شعور لا يمكن وصفه من الطمأنينة والأرتياح وهنا راح يبكي..

زرف أنهارا من الدموع وهو يصلي حتى انتهى من صلاته فغمره شعور رائع بالصفاء والسلام والأرتياح

وفجأة... اقتحم منير غرفته..

اقتحمها بفرحة طاغية تختلط بذهول عالم وهو يهتف:

نبيل .. دكتور نبيل .. لقد حدثت معجزة .. لن يمكنك أن تصدق هذا .. لقد عاد قلب غادة يعمل .. لقد انتظمت نبضاته بغته .. أنها معجزة .. معجزة بكل المقاييس..

أن كريضتك ستحيا .. ستحيا حياة طبيعية بعد أن كانت على شفا الموت

فاضت عينا نبيل بالدموع وهو يردد مرتجفا:

حمد الله .. حمدا لله .. شكرا يا ألهي .. لقد اتت استجابتك لي بأسرع مما تصورت

واندفع الى حجرة غادة ووجدها قد فتحت عينيها وان لم تستعد بعد قدرتها على النطق والحركة فجثا الى جوارها قائلا:

غادة.. أتسمعينني ؟ أتفهمين ما أقول ؟

أومأت غادة برأسها بصمت فأضاف في صوت يقطر بالسعادة :

ستعيشين يا غادة ... لقد نجحت العملية .. وسيمكنك مغادرة المستشفى بعد أيام قليلة يمكنك الآن أن تودعي الألم والحزن والخوف

تطلعت اليه في امتنان وسالت دمعة صغيرة كحبة اللؤلؤ من عينيها فهمس:

لا تشكريني أنا

وشاركها دمزعها وهو يستطرد في خشوع:

اشكري الله ( سبحانه وتعالى) فقد أنقذ حياتك بمعجزة

وتناول يدها التي عادت الى الحياة وأحاط أصبعها بخاتم الخطبة ثم مال على وجنتها يقبلها :

لا يمكنك أن ترفضي الآن

أطبقت على أصابعه بأصابعها في حب فاستطرد قائلا:

لن أسمح لك بمغادرت المستشفى عندما تستردين قواك .ز سأستغل سلطتي كطبيب وأمنعك أن تغادري قبل أن تضعي الخاتم الآخر في اصبعي أنا قبل أن تعدلي عن رأيك

ابتسمت في ضعف وبسعادة وهو يضيف :

هناك خبر آخر أريد منك أن تعرفيه .. انني لن أعود الى لندن مرة أخرى سأبقى هنا وسأبني مستشفى خيريا للفقراء والمعوزين لقد عاهدت الله على ذلك

ونهض مفلتا أصابعه من أصابعها ومردفا

سأتركك الآن فهناك موعد لا يمكنني التخلف عنه ولكنني سأعود انتظريني

ترقرقت الدموع في عيني غادة وانفرجت شفاها في ضعف:

سأنتظرك يا نبيل .. سأنتظرك حتى آخر العمر

علا صوت المؤذن يؤذن لصلاة المغرب ووقف الشيخ صلاح يؤم المصلين وينظم صفوفهم قبل بدء الصلاة
ثم لم تلبث الدهشة أن علت وجهه وهو يرى شقيقه متصدرا الصف الأول من جموع المصلين فاقترب منه قائلا:

نبيل .. عجبا لم أتوقع أن أراك بين المصلين هنا

أجابه بخشوع:

لقد هداني الله وستجدني بين صفوف المصلين دوما بأذن الله فلقد رأيت رحمة الله تتحقق أمامي وتصنع معجزة يعجز العلم عنها ولقد آمنت بأنه هناك أشياء لايجد الطب والعلم تفسيرا لها في حين لايعجز قلب المؤمن عن تفسيرها كما فعلت أنت انها رحمة الله التي أعادت غادة الى الحياة بعد أن كانت على شفا الموت

ابتسم الشيخ صلاح تلك الأبتسامة النورانية التي تشف عن الفرحة بهداية شقيقه وقال:

سأذهب معك بعد الصلاة لرؤية غادة

ثم تقدم صفوف المصلين وهتف من أعماقه:

(( الله أكبر ))


واكتملت المعجزة

انتهت



الساعة الآن 05:43 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية