منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله (https://www.liilas.com/vb3/f717/)
-   -   حينها ابتسمت الدموع للكاتب وليد محمد (https://www.liilas.com/vb3/t101714.html)

dali2000 01-01-09 08:12 AM

حينها ابتسمت الدموع للكاتب وليد محمد
 
بسم الله الرحمن الرحيم

حينها ابتسمت الدموع ...

الكاتب : وليد محمد



تتوقف السيارة الفارهة في طرف حديقة البيت ويترجل منها رجل خمسيني يضع على يده مشلحا تدل الطريقة المبدعة التي حيكت بها الخيوط الذهبية التي تطرز اطرافه على نفاسته وخصوصيته .. بدا الرجل متعبا وهو يغلق باب سيارته بتثاقل يكاد ينطق بالمرض الذي يجتهد صاحبه لاخفائه امام عائلته ... يسمع وقع خطوات سريعة في ممر الحديقة وكان يعرف صاحبتها من الصوت التي تحدثه خطواتها الرشيقة فوق الممر الرخامي .. تقبل اليه الفتاة مسرعا تسابقها نظرات يختلط فيها توقد الذكاء وابتسام الخجل ووقار الحنان وشقاوة الدلال .. تقبل رأسه ثم تتناول مشلحه وتضع يده بحركة عفوية على كتفها وتضمها الى صدرها كأنما تريد ليده ان تربت على قلبها بحنان الأبوة

- كيف حال غاليتي ... هل أنهيتي امتحاناتك ..

- الحمدلله يا أبي .. انا بألف خير مادمت أنت تظللني ياحبيبي .. نعم لقد كان آخرها اليوم .. (كانت تحاول اخفاء احساسها بتعبه الذي ترجمه ارتعاش يده الخفيف)

- حقيقة لا أحب ان اسأل عن دراستك فوالله ياغاليتي ما أخاف عليك الا عينا حاسدة .. ولكن الخوف كل الخوف على أخيك الذي لا أدري ان كنت انا السبب في اهماله بتدليلي اياه ..

ابتسمت بسذاجة الجمال و عبث الدلال ..

- أبي .. هل تريد لأحمد أن يكون مثل ابنتك ليلى .. صدقني يا أبي انه أفضل حالا من الكثير من أقرانه الا انك تصر على مقارنته بي دوما

- وهل هناك مثل فنانتي وفاتنتي "ليلى" .. لا أحمد ولا غير أحمد يمكن أن يستحق أن أقارنه بك يارائعة أبيك

يستخفها الطرب لسماع كلماته تلك فتجلس الى جانبه على الأريكة ولا تزال يده تحيط بها فتميل عليه بكل الحنان كأنما لم تملك من نفسها امام حنانه الأبوي الغامر الا ان تحتضنه بصورة طفولية ..
أقبلت الأم من المطبخ تحمل طبقا بدا من طريقة امساكها به انه ساخن جدا تتبعها خادمة آسيوية تحمل هي الأخرى اطباقا متنوعة ... وتضوع المكان برائحة الطعام الزكية .. حانت من الأم نظرة الى الفتاة وابيها

- ليلى هلا أعتقتي اباك من دلالك فهو متعب ولاشك والطعام لن ينتظر ..

نظرت اليها الفتاة بعين فاترة وابتسامة تجسد فيها دهاء الدلال ..

- أمي لماذا تصرين على ان تفرقين بيني وحبيبي .. هلا رحمتينا من غيرتك قليلا وتركتيني أنتهل السعادة في أحضانه

تضع الأم يديها حول خاصرتها وهي تقف امامهما ثم تحاكي طريقة كلامها المدللة وتقول

- سأتركه لك ياعاشقة أبيك ولكن بعد أن يتناول المسكين غداءه فأنا اعرف ان أشغاله لم تعطه فرصة لينتبه الى انه لم يتناول الا كوب القهوة هذا الصباح ..

يقوم بخفة بعد أن راقه ذلك الوجود النسوي الآسر الذي يحيطه بحنان يجعله يشعر بأن عليه الا يبدو الا قويا كما اعتادوا رؤيته .. يمسك بيد الفتاة التي تمشي خلفه ثم يغمض عينيه وهو يستنشق رائحة البخارالمتصاعد من الطبق الساخن وهو يميل اليه .. ثم يبادل النظرات بين الفتاة وأمها ويقول

- حقيقة يا ابنتي انني اتوق الى كل لحظة في أحضانك ولكن طعام امك لا يقاوم .. مع انها تقسو علي اذ تسمع كلام طبيبي وتحرمني من بعض الأطباق التي افتقدها حقا ..

تتحلق العائلة الصغيرة حول مائدة الطعام تحف بهم السعادة .. يسأل الأب عن أحمد و الصغيرة "شمس" وتخبره الأم بأنهم تناولوا غدائهم في بيت خالهم القريب من مدارسهم وسيقضون بقية النهار هناك ..

بعد لحظات يحس الأب بارهاق شديد أرغمه على مغادرة طاولة الطعام والتمدد على الأريكة المجاورة .. وبدا احساسه بالارهاق يتزايد مع خدر في يده وضيق في التنفس .. حدا ذلك بالأم الى المسارعة بمهاتفة الطبيب .. فيما جلست الفتاة الى ابيها وهي تشد على يده .. تملأ عينيها الدموع ...

خرج الطبيب من الغرفة التي يرقد فيها الأب تجاريه الأم وهي تستمع باهتمام الى نصائحه الأخيرة .. ودعته عند الباب بكلمات الثناء والعرفان لاستجابته السريعة لهذه الحالة الطارئة ..

هرولت اليها ليلى وهي تتلهف لمعرفة حالة غاليها فطلبت منهاالأم ان تجلس وتهدأ وتستمع اليها .. كانت نظراتها واثقة وقوية حتى أن ليلى أحست من تلك النظرات بأن الأمر حتما عارض طاريء فهي تعرف ماذا يعني ابوها بالنسبة لأمها ..

وتعي ان امها هي بمثابة ابنة كبرى له فقد تزوجا وهي صغيرة وأضحت صورة لشخصيته ولم تخفي طوال سني زواجها غرامها به واعتدادها بكونها شريكة حياته .. بل أنها تسمع دوما عبارات التعجب دوما من الجميع لشبه أمها بأبيها وكيف انهم يعزون ذلك للحب الكبير الذي بينهما .. وهي تراها الآن رابطة الجأش كأنما الأمر ليس بالجلل ..

- اسمعي يا ابنتي .. أنتي الآن كبيرة بشكل كاف لأكون صريحة معك لاسيما وانك ستذهبين الى الجامعة في السنة المقبلة .. يجب أن ارى فيك صديقتي التي أعتمد عليها ويجب أن يرى أخوتك فيك القدوة في الصبر ..

كانت ليلى تتلقف بنظرات الخوف واللهفة كلمات امها ولم يسعها صبرها الى ان تستمع اكثر

- بالله يا امي قولي .. هل سيكـــون أبي بخيــر ؟!! ..
- لا تخافي يا ابنتي سيكون بخير ان شاء الله ولكن .. يقول الطبيب انه ربما لن يكون قادرا على تحريك بعض اطرافه .. انه نوع من الشلل الجزئي بسبب قصور في القلب .. ولكن بمساعدتنا وبتجنيبه كل الضغوط النفسية سوف يتحسن مع الوقت باذن الله .. طبعا لن اعتمد على تشخيص طبيب ابيك ولكن كان شرحه للحالة واضحا جدا ويجب ان نكون اكثر واقعية وتقبلا للأمر .. وانتي تعلمين ان اباك قد شخصت حالته من قبل ونحن نعي تطوراتها ..

كان ذلك كافيا لتبدأ ليلى نوبة من البكاء المر الذي لم تساعدها قوتها على اخراجه صوتا بل كان مكبلا بعظم المفاجأة فاحتضنت امها وهي تتمتم

- يا حبيبي يا ابي .. ليتني كنت انا ولا انت يا غالي .. اماه .. أحبك ..

- لا يا ابنتي .. كوني مؤمنة صابرة كما ربيتك وعهدتك .. لن تُجدي الدموع .. بل ستزيد حالة أبيك سوءا .. امسحي دموعك الآن وادخلي اليه مبتسمة ولا يرين منك الا وجها يشرق بالامل كما عهده وصدقيني سيفعل ذلك فيه فعل السحر فأنتي لا تعلمين كيف تأثير ابتسامتك في قلبه .. بل أني أراه كلما اقتربتي منه يكون أقوى وأسعد .. ... سوف اذهب انا للصيدلية حتى اعرف عن جرعات العلاج بدقة فقد نبهني الطبيب لضرورة ذلك في حالة ابيك .. ليلى .. كوني ابنة أبيك .. اريد أن ارى صبره فيك انتي .. ...اذا اتى اخوتك فاحرصي على الا يملأون البيت بالصخب كعادتهم لكي يرتاح ابيك ..

قبلتها وخرجت وكانت ليلى تستطيع سماع صوت انين امها وهي خارجة اذ كانت تحتبس دموعها بكلتا يديها .. وبدأت سلسلة من الذكريات في عقل الفتاة المنهك بالخوف على صديقها وأبيها و كبيرها الذي لا تفـتأ حتى عندما كبرت أن تحيطه بكل تفاصيل احداث اليوم التي واجهتها فلا تجد منه الا اقبالا عليها و مستمعا لا يملها بل ويشاركها التعليق على سذاجات الطفولة بمرح كان يضطر احيانا لافتعاله بسبب أشغاله الكثيرة وهموم تجارته حتى لا تحس هي بأدنى شعور من الأنزعاج او اللامبالاة منه ..

تذكر كيف أنه مرة الغى سفرا مهما كان سيعقد فيه صفقة لاستيراد نوع جديد من ديكور الأسقف وكان كل المشتغلين باعمال الديكور والبناء يتسابقون لاستيراده فأدى ذلك الى خسارته لربح يصل الى ضعف رأس مال تجارته في ذلك الوقت .. والسبب ؟ .. انه سمعها تبكي بسبب علمها بسفره وكان قد واعدها بحفلة لتخرجها من المرحلة المتوسطة وقد حازت جائزة التفوق في المنطقة تلك السنة ..

و تتذكر انها كانت تستمع الى امها تلك الليلة وهي تلومه على الغاء سفره بسبب حفلة الصغيرة وكيف ان امها وامام اصراره مازحته وهو يحتضن ابنته الغالية قائلة "ليتني كنت ابنة لك لانعم بهذا الدلال" ... كان أبا بمعنى الكلمة .. كان يعي ماذا تعنى مسئولية الاب تجاه اولاده وكان ذلك يرهقه كثيرا بسبب محاولاته للتوفيق بين تلك المسئوليات وادارة تجارته التي كان شريكه فيها اخوه الاكبر والذي كان عبئا دائما عليه وعلى تطور اعماله بسبب افكاره القديمه وبخله الشديد ..

تبتسم وهي تذكر كيف انه لما لاحظ ابداعها في فن الرسم أخذ احدى لوحاته وطلب من أحد رسامي محلات الديكور التابعة لهم بتكبيرها ووضع اسمها عليه كنموذج للرسمات الجدارية واقتراحها على زبائنهم الذين اعجبوا بالفكرة وبالرسم الذي كان من الدقة بمكان الا ان عمها رفض ذلك مبررا رأيه بأن ذلك سيكون مدعاة لسخرية الناس ..

كان أبوها هو مشجعها الأول على هوايتها المفضلة .. الرسم .. وكان يفاجأها دوما بأدوات جديدة لمرسمها الصغير بل ويرغم افراد العائلة احيانا على الوقوف امامها لفترات طويلة لكي تقوم برسمهم .. وكان يفتعل حركات مضحكة في تلك اللحظات مداعبة لها ثم اذا ماضحكوا انتهرهم وهو يقول " دعوا الفنانة تأخذ جوها يا جماعة " ...

كان جو المرح سائدا في ذلك البيت الصغير والأنيق في ذات الوقت .. جلساتهم في الحديقة وسط ذلك النسق العجيب من الازهار والذي ترعاه هي بتذوق وفن راقيين .. كانت دوما تتعالى فيها الضحكات والتعليقات المتبادلة حتى ان الناظر اليهم بعين تعي معنى الاحساس يسيطر عليه شعور بأن البيت والحديقة و اشجارها تشاطر تلك العائلة سرورها وجو المرح السائد بين افرادها ..

أيقظها من مسلسل الذكريات صوت ابيها وهو يناديها .. سارعت اليه وهي تمسح الدموع الصامته من على وجنتيها وتحاول جاهدة ان تبتلع عيناها ما اغرورقت به من دموع حارقة .. ما ان وقع ناظره عليها حتى تهلل وجهه وحاول بكل قواه ان يعتدل في جلسته .. هرعت هي اليه واسندته ثم دست راسها في احضانه وساد الصمت في الغرفة الا من دقات قلبيهما اللتان تنبئان عن ان مجالا للصراحة التي لابد منها آت ..

خلل باصابعه خصلات شعرها وطبع قبلة على خدها ثم وضع يده على ذقنها كأنما يطلب اليها ان تنظر اليه .. وضع جبينه على جبينها و قال وهو يبتسم بحنو بالغ :

- لاتخافي على أبيك ياليلى .. لن يطاوع ضعف قلبه ويفارق هاتين العينين بسهولة .. صدقيني .. أعي تماما حالتي الصحية واعرف ماذا اقول ..

ابتسمت برضا اذ احست ان كلماته تلك امدتها بقوة تستطيع بها القفز فوق جسور الحزن والمضي قدما في الحياة ..
ثم نظر اليها بجدية بالغة وقال لها ..

- اسمعي ياغاليتي ماذا يريد أن يقول ابيك وافهميه جيدا .. حتما لن استطيع متابعة اعمالي بعد الآن وانتي تعرفين عمك وحبه الشديد للمال .. يعز علي ياابنتي ان اتحدث عن الرجل الذي رباني بعد وفاة ابي هكذا ولكن انتي لست غريبة عنه وما سأقوله هو كلام مهم اولا لانه يمس مستقبلك انتي وثانيا لانك ابنتي الكبرى ... عمك ياابنتي ذو قلب حنون للغاية وربما استدرت كليمات بسيطه دموعه ولكن عندما يتعلق الأمر بالمال فلا رحمة لمن يقف في طريقه حتى ولو كنت انا .. اخوه وابنه الكبير .. انتي تعلمين انني انا الذي عملت على انقاذ تجارة ابي في اعمال البناء وحولت اتجاهنا لاعمال الديكور ونجحت وكبرت تجارتنا .. ولكني ابقيت كل شيء باسم عمك .. اتدرين لماذا ؟ .. ليس فقط لانه رباني بعد ابي ولكن لانه ياابنتي اعارني ابنا له في شبابي ... نعم .. كان عمك من اشد المعارضين لزواجي من امك لا لشيء الا لانها من عائلة فقيرة .. وأصارحك يابنيتي انني اعلم انه لو ظن ان بصاقه فيه نفع لأمك ماجاد لها به لكرهه اياها .. لكني اصررت على الزواج بها وربطت ذلك بالخروج من البيت واعمال ابي .. فاضطر للموافقه .. وانجبناك وانجبنا بعدك صبيا مات وهو صغير ثم عانت امك من مشاكل منعتها من الحمل لفترة طويلة وكان عمك يصر دوما على تزويجي بأخرى واناارفض اكراما لأمك ولانني كنت اسعد رجل معها .. وفي احد الايام كنت اسامر صديقا لي والحديث ذو شجون حيث قادنا الى الكلام عن الاولاد فكأنه احس مني شوقي الى ان يكون لي ولدا ذكرا اذ لاحظ ان عيني كادت ان تدمع .. فذكر ذلك لعمك .. فوجئت بعمك في اليوم التالي يأتي بأحد اولاده وهو يقول لي منذ الآن عبدلله هو ابنك ياعلي .. حاولت جاهدا اعادة الولد الى امه مرارا وتكرارا ولكن كان عمك دوما يحلف بأنه سيقتله اذا بات عندهم ليلة واحدة .. وذلك السر في انك تربيتي مع ابن عمك لسنوات .. حتى رزقنا الله باحمد وعاد عبدلله لعائلته ... من ياابنتي يفعل ذلك ؟ .. من يهدي اكبر اولاده حمية لأخيه .. من؟ .. لذلك ورغم ان تجارتنا تطورت على يدي انا ظللت دوما كأنني اجير عند عمك .. نعم نحن والحمدلله بنعمة وخير ولكني لا أملك شيئا من تجارتي الا بالاسم فقط ونحن يابنيتي رغم كل ماترين من مظاهر الثراء نعيش في مستوى اقل بكثير من امكانيات تجارتنا التي تعادل الملايين الكثيرة .. اريد ان اقول ياابنتي انني رجل واقعي وادرك ان عمك لن يتوانى في التضييق عليكم وربما حاول ارغامنا على تزويجك باحد ابناء عمك و فضلا عن اخلاقهم التي لا ارتضيها في زوج ابنتي فأنك ماتزالين جدا صغيرة على الزواج وقد فاتحني عمك من قبل بهذا الامر وقابلته بالرفض للمرة الثانية فقط في حياتي بعد رفضي للانفصال عن امك .. واقول لك ذلك يابنيتي حتى لاتلوميني ان تركت مصيركم فيما لو حدث لي شيء لاسامح الله في يد عم قاس .. وايضا لكي تعين اننا سنمر بظروف صعبة ربما لم تعتاديها في حياتك اذ لن اكون قادرا على ان اجعلكم تعيشون بذات المستوى الحالي فيما لو واجهت الخيار الصعب .. اعرف يابنيتي انني ربما اثير الخوف في قلبك الصغير بكلامي هذا ولكن انا اتحدث اليك الآن كصديق و لثقتي بقوة ارادتك في مواجهة صعاب الحياة ..

اطرقت قليلا .. ثم ارغمت شفتيها على الابتسام حتى ليتخيل الناظر اليها ان دموعها تبتسم

كفكفت ليلى دموعها وقد أحست بأن غاليها ينتظر ردها بكلمات تخبره الى اين آلت كلماته السابقة في عقل وقلب حبيبته .. رفعت رأسها اليه وامتطت نظراتها كل الكبرياء وقوة الارادة التي اودعها اياها هذا الرجل الذي تحتضنه على مر السنوات ..

- أبي ... لن تخذل في ابنتك الغالية يا أبتاه .. لقد عشنا في ظلك ياغالي حياة هانئة ليس بسبب الثروة والجاه بل بسبب مشاعر ننتهلها من قلبك الحاني في كل نظرة وفي كل كلمة بل في كل سكنة في هذا البيت .. ابي لقد تعبت كثيرا لزرع مبادئك وثقافتك وعصاميتك في نفس ابنتك واعاهدك ياغالي أنك لن تخذل في أبدا .. انا ابنتك يا أبتاه ولن ألين للحياة مهما قست ومهما عاندتني .. أبي .. لقد صنعت مانحن فيه من عز ورخاء بعصاميتك .. وربما يذهب المال والعز ولكن حتما عصاميتك لن تذهب بعيدا .. ستبقى شعلتها في نفوسنا تضيء لنا الطريق .. اطمئن ياغالي والق بحملك على ربي ثم على ابنتك التي ستفخر بها وأعدك بذلك ..

ضمها اليه وطبع قبلة على جبينها وكأن كلماتها تلك كانت فوق مايتصور ان يصدر من ابنته من نقض لهواجسه التي باتت تخيفه وتجعله يلوم نفسه دوما على التفريط بمستقبلهم ووضعه في يد من لايطمأن اليه .. تركته ليرتاح وخرجت وما ان أوصدت الباب حتى سجدت مكانها وهي تلهج بالدعاء لله أن يعافي لها الحبيب .. أحست بأنها لاترغب حتى في الدعاء بصيغة يرد في الموت لأن عقلها لايطيق هذه الفكرة ابدا ...

لم يرد في خاطرها من قبل حتى في نوبات مرضه ولا في اسفاره بأن يد الموت قد تطاله حتى عندما كانت تشتاق اليه ثم تحس بهاجس الخوف يرافق ذلك الشوق .. كانت تطرد من بالها على الفور لفظة الموت .. ربما تخيلت بأنها هي سوف تموت في موقف معين .. في لحظة معينة .. اخوتها .. حتى امها .. كل الناس .. الا هو .. كأنما قد عاهدت ملك الموت الا يلتفت الى ابيها الا عند رحيل الجميع ... رأتها الخادمة على تلك الحالة فجرت اليها وضمتها وكأنما أحست تلك الانسانة البسيطة بأن الفتاة تخاف اليتم الذي عانت هي منه من قبل فكان بكائها يعلو على صوت ليلى الذي تجهد ماوسعها كتمانه ..

في اليوم التالي كان جميع أفراد الأسرة على علم بحالة الأب اذ شاءت الام ان تشارك ابنائها جعل البيت مكانا ملائما لعائل الاسرة في حالته التي لم يعتادوها ... غدا ربما سيقوم ابيهم من فراشه ولكنه سيكون غير قادر على تحريك احدى يديه وغدا سيجدون انه سيتكلم بصعوبة تجعلهم غالبا لا يدركون مايريد الا بترديد الكلمة اكثر من مرة .. وغدا سيرون خدرا في عينيه يجعل نظراته اقل بريقا من قبل .. وهي من مظاهر الضعف التي لم يكونون يرونها ابدا في عيني ذلك الرجل المهيب الطلعة الأجش الصوت الذي كانت نظرة منه لهم في السابق كفيلة بخلق حالة من الهدوء في البيت رغم حنانه البالغ ...

لكن اعلنت الام ان الاطباء أجمعوا على ان حالته لن تسوء باذن الله بل ويتوقعون انه سيستجيب للعلاج في وقت قد يكون طويلا نسبيا الا انه سيكون اقصر بكثير اذا ماتكاتف الذين من حول المريض لجعل المكان الذي فيه اكثر هدؤا من الناحية العاطفية والنفسية .. أخبرتهم بأن اباهم سيقضي شهرين على الاقل في مستشفى يقع في مدينة أخرى الى أن يكون مهيئا لمزاولة حياته الطبيعية بالتدريج خارج المستشفى .. ولذا ستسافر هي ويبقى الأولاد في البيت وستتناوب الاشراف عليهم هي وخالاتهم لأن سفرها بين المدينتين حتما سيتكرر ..

انفض الاجتماع باعلان الخادمة لقدوم العم وعائلته لزيارة المريض .. دخل العم الى أخيه من غير حتى ان يلقي نظرة على الأسرة بينما انهمكت الاسرة الصغيرة باستقبال الآخرين .. رغم عدم كتمان العم لبغضه لزوجة أخيه الا ان العلاقة بين زوجتي الأخوين كانت علاقة صداقة واحترام متبادل ... كانت ام ليلى تتساءل دوما عن ذنبها الذي اقترفته ضد هذا الرجل حتى يكيل لها بكل ماأوتي من مشاعر الكراهية ..

تعرف بأنه كان يخطط لتزويج أخيه من ابنة احد الأثرياء وكان في ذلك مشروعا جديدا يضمن به قوة مركزه المالي الذي صنعه أخاه وان زواج أخوه من ابنة رجل كان يعمل لدى ابيهم وقام العم بطرده بعد وفاة أبيهم هو انتهاك صريح لمخططاته وكسر لما اعتاده من طاعة اخيه له حتى في الامور المصيرية .. ولكنها لم تكن ترى في هذا الامر مبررا كافيا لتلك الكراهية ذلك أنها دأبت على مر السنوات على اظهار الاحترام والتبجيل له حتى ان زوجها يتعجب لقدرتها على ذلك رغم كلمات أخيه التي تنتهك كرامتها باللمز الى حال اهلها وتواضع مكانتهم بين الناس على الدوام في كل اجتماع للعائلة .. كان يعجب حقا لقوة نفسها وهي تصر على زيارة بيت أخيه معه رغم علمها بما ستلقى من أخيه ان حدث ورآها ..

خرج العم من عند اخيه والقى نظرة فاحصة يختلط فيها الحزن ببريق الطمع واستكثار مهم فيه عليهم .. القى نظرة على البيت والاسرة المجتمعة ثم خرج وهو يشير الى زوجته وبناتها بأن تتبعه ..

وسافرت ام ليلى مع زوجها كمرافقة في المستشفى وبقي الاولاد في البيت وأضحت ليلى هي ربة المنزل الآن .. مسئولية كادت أن تسرقها من هوايتها المحببة الى نفسها .. الرسم .. ولكنها وجدت في الرسم مهربا من أحزانها واحزان البيت لغياب من ملأوه بالحب منذ أن قام ...

في البداية كان التحكم في الصغيرين يشكل معاناة لليلى ولكن مع الوقت باتت قادرة على اقناعهما مثلا بالنوم باكرا وقضاء النهار في اعمال مفيدة كرعاية الازهار وتهيأة الممرات في البيت والحديقة للأب الذي سيعاني صعوبة في التحرك هنا وهناك في ظل العوائق الموجودة .. وقد استطاعت ان ترتب جدول عمل هدفه تهيأة البيت للأب عند عودته وكانت تخطط مع الصغيرين لتقليل احتياجاتهم ..

كانت تعلم بأنهم ورغم الثراء الموهوم سيعانون من محدودية الدخل وأنهم قد يضطرون الى التخلي عن الخادمتين والسائق .. كانوا يستفسرون من زملائهم عن كل مايلزم للعيش في ظل دخل محدود جدا ... المدهش أن ليلى تخلت عن حالميتها المعتادة وبدأت وبسرعة كبيرة بأقلمة حياتها بل وحياة اخويها على العيش في نطاق الفقر ان صح القول .. كانت تعي حقا أن العم سيبدأ حانيا أو آنيا مسلسل التضييق ... وكأنها بدأت تعد العدة حقا ...

تفاجأ الأولاد بزيارة من عمهم الذي اختلى فورا بليلى التي كانت تراوغ بعينيها عينا عمها .. كأنما خافت ان تهزم بنظراته الحادة اذ تعلم مسبقا مايريد قوله .. بعد محاضرة طويلة عن العائلة والأصول و الحب الذي يجمعه بأخيه .. محاضرة لم تسمع منها ليلى كلمة واحدة اذ كانت تهيأ الجواب في داخلة نفسها .. محاضرة انتهت بكلمتين كانت تنتظرهما لتبدأ هي الرد الحازم .. زواجها من احد ابناء عمها

- عمي اني أحبك ولك علينا حق الطاعة .. ولكن اولاد عمي هم مثل أخوتي .. لا أدري ربما لأن واحدا منهم تربى بيننا .. ولكن نظرتي لهم هي حقا نظرة الأخت لأخوتها ولا استطيع تصور نفسي زوجة لأحدهم على هذا الأساس ..

كانت تعي تماما انها لاتعني ماتقول وأن اسرة عمها بما فيهم هو لن تكون أبدا الا جحيم حياتها ان هي رامت تقديم أي نوع من التنازلات .. ولكنها لم تشأ المواجهة التي فضلت تركها لأمها التي حتما ستستطيع التعامل مع الرجل بحكمة أكثر .. الا أن الرجل لم يترك بابا للنقاش بقوله

- لا اريد سماع هذا الكلام مرة أخرى .. فور عودة أمك سنعلن زواجك على ابن عمك ..

كانت نظراته قوية وصلبة وخالية من أي استعداد للتنازل ولكن أتى الرد بشكل لم يتوقعه أبدا .. كانت الفتاة تعد نفسها لهذه المواجهة منذ أمد ..

- عمي .. لن أتزوج بأي من ابنائك ولو قتلت نفسي .. ثم ان لي أبا حيا يرزق وأما أيضا ام أنك خلت بأن ليلى أضحت شاة غاب عنها رعاتها .. ثم والذي خلقني حتى لو يتمني الدهر منهما فلن يفرح بيتا ضن بالحب على أمي بقلبي .. .. فأرح نفسك ياعماه واستبق لك عندي شيئا من الحب الذي مافتأت تأده في أنفسنا لكل شيء له علاقة بنا ..

رام مقاطعتها ولكنها رفعت نبرة صوتها وهي تقول
- ثم منذ متى ياعم أضحت ليلى ابنتك الغالية .. ويلاه مارأيتك مبتسما لي قط .. هل تذكرت أن لك ابنة أخ الآن ..

تلقت ليلى على أثر هذه الكلمات أول صفعة تصافح خدها ورام العم تثنيتها لولا أن دوت في المكان صرخة من خلفه تبعها صوت تحطم زجاج جلجل في الصالة جعلت يده تتجمد مكانها .. كان أحمد الصغير .. يحمل زجاجة في يده وقد كسرها ونظراته تثير الرعب في نفس ناظره ..

صرخت ليلى فيه ناهية وهرولت اليه لتأخذها من يده ولكنه انتحى جانبا وهو يعتصم بالصمت الغاضب ..
غادر الرجل البيت على الفور وهو يتمتم وقد بدا عليه الانفعال الذي كانت تفصح عنه ارتعاشة يديه ..

- هذا ماجنيناه من التعليم والمدارس .. عقوق .. و"بلطجة" صغار ..

لم تنبس الفتاة بأية كلمة أو همسة بل جلست إلى جانب أخيها الذي كأنما تفاجأ بنفسه وهو يحمل تلك الزجاجة المكسورة أو كأنما كان الموقف أكبر من أن يحتمله ..
لم تعنفه ليلى وكأنها رأت فيما فعله حقا مشروعا لصغار جرى للتو محاولة النيل من كرامتهم في غياب الأبوين .. لكنها بدأت نوبة بكاء لم يظهر صوته الا في نشيجها المتقطع .. أما شمس الصغيرة فكانت طوال الوقت تحاول مهاتفة خالتها وكأنها أحست بما سيئول إليه الامر هي الأخرى ..

سرعان مااستعاد الصغار وضعهم السابق لتلك الزيارة بوصول خالتهم ثم ألأم في اليوم التالي .. هاتفت أم ليلى أخا زوجها بعدما علمت بأحداث زيارته وطلبت منه شيئا واحدا ثم أغلقت السماعة .. أن ينساهم الى الأبد .. كانت تعرف انها ليست بحاجة الى ان تقول ذلك وكانت تعرف الرد ..

تلقى أبو ليلى على اثر ذلك مكالمة من أخيه يخبره فيها عن سوء أدب الأسرة معه فقط بسبب صفعة وجهها لمن تعد ابنته .. وكان رد أخيه مفاجأة له:

- أتدري يا أخي انني سعيد بتلك الصفعة التي وجهتها لابنتي

- هذا هو حسن الظن بك يا أبا أحمد .. وأنا ابو الجميع في كل الاحوال

- لا يا أخي ليس هذا ماقصدته ... أما وقد رفعت يدك يا أخي على أغلى الناس فقد استوفيت دينك عندي .. ولن أزيد على ما قالته زوجتي .. تستطيع أن تنسانا يا أخي ..
في اليوم التالي كان هناك زائرا آخر للأسرة .. ابن العم الذي قضى بضع سنوات في بيتهم كانت كافية ليشعر بأن هذا البيت يكتنف أسرة تعيش كما ينبغي للاسرة المثالية أن تفعل .. يدرك عبدالله بأن قدومه لهذا البيت وانضمامه لهذه الأسرة كان أمرا قد أرغم عليه ولكن الخروج منه كان جد أصعب مع ان معناه عودة الصبي لأمه وأخوته ..

عندما استقبلته ام ليلى كانت تبتسم له اذ هي تعرف أن ثلاثة سنوات قضتها في تربية هذا الفتى كانت كافية لخلق علاقة أمومة لاتفك عراها وأن الفتى ليس صنو ابيه ابدا .. بادر الى تقبيل يدها كعادته عندما يراها .. ثم استأذنها في أن تنضم ليلى اليهم ..

نادت عليها الأم فأقبلت وقد بدا على وجهها أثر تلك الصفعة كهالة سوداء تعلو وجنتها والتي زادها بروزا تلك الصبغة الوردية التي يدرك الناظر اليها بانها لون الوجه الطبيعي لها بسبب تموجها بفعل حركة الدماء والتي تزداد ألقا عندما تلتقي بأخيها الذي لم تلده أمها .. حيث تحس بانه أخ يجب قبل ابداء شعور الحب تجاهه اظهار الخجل الذي يليق بها وبه ..

ألقت التحية اليه ونظرات الدلال الغاضب او ان شئت الغضب المدلل السمة تتالى من عينيها مع كل نفس يعلو فيه صدرها وينخفض وهي مطرقة للأرض .. نظر اليه برهة ثم قام وقبل رأسها وهو يقول:

- تمنيت يا أخية أن لو كان الذي مد يده اليك بالسوء غير أبي لأريك كيف تكون حمية اخيك لك ..

بدا اثر كلماته واضحة عندما أشرقت شفتاها بابتسامتها الآسرة التي كشفت عن الغمازتين اللتين تتوسطان خديها فتجتهد مقاومة الابتسام حتى لايبينان ويلفتان انتباه الناظر فيثير ذلك خجلا تواريه أيضا ..

- صدقني يا أخي يعز علي أن اتفوه بكلمة واحدة تزعج عمي وكبير اسرتنا ولكن وجدت نفسي مضطرة الى ذلك ولم يدر في خلدي أنني يمكن أن أمتهن على يده ..

_ لا بأس .. لست بحاجة لأن تبرري أي شيء .. صحيح انه ابي .. ولكنك ايضا اختي وانتم اسرتي الثانية وانا أعلم بالأمر وادرى بمن يجب أن يوجه اليه اللوم ..

ثم توجه الفتى الى أم ليلى وهو يقول ..

- أماه .. علمت أنك ترافقين أبي "علي" في المستشفى .. سأتناوب مرافقته معك منذ الآن ..

- ربما سنضطر الى السفر الى الخارج يابني لاجراء عملية جراحية له ..ولكن بعد اشهر من الآن ..

- اذا سارافقكم الى هناك .. أعلميني فقط بموعد العملية حتى أرتب أموري ..

- آه يابني .. لا أعلم ماذا اقول لك .. انك حقا ابني وأخو اولادي .. أنت وأمك يابني .. كرامتكما عندي وقدركما أجلا المواجهة بيني وبين أبوك كل هذه السنين ..ولكن نسأل الله أن يهدأ النفوس ويطيب الخواطر بيننا ..

- لاتحسبيني يا أماه لا أعلم بما يكن أبي لك .. بل انني كلما أسمعه ينال منك احس بالقهر فلا انا قادر على الدفاع عن أمي ولا انا قادر على اغضاب ابي ..

- لابأس يابني .. هذا قدرنا

- ولكن يا أماه .. لقد قرر ابي أن يحرمكم من كل حقوقكم في ثروتنا .. وكلنا يعلم بأن عمي هو الذي جمعها ونماها حتى وصلت الى ماهي عليه الآن .. ولما واجهته اليوم بهذه الحقيقة .. كان ... كان نصيبي تماما مانالته أختي ليلى منه بالأمس ..

- يابني .. لقد وطنا أنفسنا على القبول بالأمر وهذا ما كنا نتوقعه للأسف كلنا .. لا تقلق سنتدبر أمورنا .. ويكفي يابني أنني محاطة بكم انتم أولادي وثروتي وثروة ابيكم علي الحقيقية ...

عاد الأب الى البيت واثار دهشتة وطمأنينته أيضا ذلك الجو الأسري الذي لم يبدو أنه تأثر بظروف مرضه وذلك التماسك بين افراد اسرته الذي جعل فقد عمله وثروته لايعد خسارة بقدر ماهو كشف عن مداد الصبر والحب في نفوس محيطيه ..

وكان لرؤية ابن أخيه واقفا بجانبه اثر كبير في رفع معنوياته اذ جعله ذلك يشعر بأن اسرته بأمان حتى في غيابه ... وكان في جعبة غاليته ليلى مفاجأة سارة جعلت روحا ملؤها الفخر تسري في أعماقه .. اذ رفعت يدها وهي تقف امام الجميع و ترفع صوتها بالمفاجأة ..

- اريد أن اعلن للجميع بأنني قد قررت دراسة تخصص هندسة الديكور في الجامعة وهو تخصص جديد أضيف هذه السنة ... ذلك اني لن اضيع فرصة كوني ابنة أحد أكبر متعهدي أعمال الديكور في مدينتنا وسأجمع بين دراستي وخبرته .. واستأذن ابي الحبيب في ذلك ..

وكانت دعواته لها بالتوفيق بنبرة تدل على أن الرجل لم يكن يتمنى افضل من تلك المفاجأة .. بل ان الحماس قد جعله يهمس لزوجته بأنه يريد اجراء العملية في أقرب وقت .. لقد امتلأ قلبه الضعيف شجاعة وقوة .. احس بأن ارادته وتمسكه بهذه الحياة وذلك الحب لن تخذله ابدا ...

وانقضت سنة كانت الحالة المادية فيها في تناقص رغم توفر السيولة النقدية بسبب موارد جانبية كايجارات بيوت قديمة و بعض المحلات الصغيرة لكن مصاريف علاج الاب كانت ايضا كبيرة ..
لذا كان لزاما على أم ليلى أن تقنن اوجه الصرف حتى انها استغنت عن احدى الخادمات وخفضت رواتب السائق والخادمة الاخرى على رضا منهم اذ لم تطب انفسهم بترك العائلة التي باتوا يحسون أنهم افرادا منها لطيب معشرهم ودماثة أخلاقهم ونظرتهم المثالية لمن يعملون عندهم والتي تتسم بالتواضع الجم .. كان الابناء يكتمون أي معاناة يتجرعونها اثر ذلك التغيير خصوصا أمام الأب .. ساعد ذلك كثيرا على احساسه بالراحة النفسية الدائمة ...

وتقرر سفر الأب والأم برفقة ابن الأخ لاجراء العملية ... تبعهم الاولاد بعد اسابيع .. وفي رحلتهم تلك بالطائرة كانت لليلى مواجهة مع الحب .. برعم في القلب تفتح في تلك الرحلة .. كانت ثمرته بالغة المرارة وكادت ان تودي بسعادتها وسعادة اسرتها ..

ربما لم تكن هذه المرة الأولى التي تسافر فيها بالطائرة لكنها كانت المرة الأولى التي لايجلس ابيها الحبيب الى جانبها .. طافت بها اهازيج الذكريات بعيد جدا خلف السنين .. الى أول سفر رافقت فيه ابويها .. تذكر كيف خرجت ليلى الصغيرة تتمشى الى جانب النهر الذي كانت تحفه أشجار البساتين حتى وصل بها رفيقها النهر الى ناعورة يكاد انينها يحكي مارأته من هموم البشر الذين مروا بها فاستوقفها ذلك الصوت وأضحت أسيرة له فجلست الى شجرة توت ترقب دوران الناعورة المتثاقل ورذاذ المياه الندية المنبعث من درجاتها .. كانت قد قرأت عن تاريخ هذه النواعير اذ كان يحرص أبوها أن تعمل على تثقيف نفسها واستغلال فترات السفر كمجال لتركيز ثقافتها ...

بدا ذلك الرذاذ الذي تصاحبه رائحة أخشاب السرو الذي صنعت منها تلك النواعير يعيد المرء الى حقبات ضالعة في القدم من التاريخ ... كانت مخيلة الصغيرة تدور على نوافذ الزمن هناك وبدا أن الزمان قد نسيها هناك ونسيته هي حتى افتقدها ابواها وبدا الجميع رحلة بحث عنها دامت لساعات .. تذكر تماما أن امها عندما رأتها على تلك الحالة ساهمة وقد أسندت ظهرها الى شجرة التوت كأنما هي أحد اوراقها الرقيقة .. كيف انها نادت على ابيها ومن معه لينظروا اليها .. سارع احدهم بجلب آلة التصوير وبدأ بالتقاط الصور لها حتى لفت انتباهها ليملأ المكان بعذ ذلك اهازيج الضحكات الذي كان صوت أنين الناعورة المجاورة خلفية له ...

انتبهت ليلى الكبيرة من مسلسل الذكريات على أزيز الطائرة وضحكات بعض الركاب في الخلف وأدركت لم عادت بالذات الى تلك الحقبة من الذكريات .. رفعت رأسها لتجده امامها ...

المضيف "طلال" .. كان بسبب طول قامته حانيا رقبته بشده حتى يتجنب علية الطائرة وفي ذات الوقت كان يحاول الابتعاد بجسمه عن مقعد ليلى خجلا اذ كان عبثا يحاول لفت انتباهها وهي ساهمة بنظراتها وتبتسم اليه حتى بدا العرق يتصبب من جبينه بسبب الاحراج اذ لاحظ قهقات بعض الركاب التي كانوا يحاولون كتمانها وهم يرون كيف تحدق تلك الراكبة الجميلة بالمضيف ..

انتبهت هي للموقف واعتذرت وخفر الحياء يكاد يذيب منها النظرات ..

- عفوا .. ولكن لمبة الاضاء التي في سقف مقعدك لا تعمل لذا ارجو افساح المجال لي لأغيرها ..

هزت راسها وأخلت مقعدها على الفور وهي تشير الى أختها النائمة بجانبها ..

- لابأس .. دعيها نائمة .. لن يستغرق هذا وقتا طويلا

وبدا الاحراج عليه وهو يحاول تغيير لمبة الاضاءة اذ بدا منعدم التركيز تماما .. وبعد دقائق انهى عمله ثم قد اعتذاره لليلى وهو ينسحب يحيطه الخجل العارم .. شكرته فخرجت نبرات صوتها المرتعش موسيقى بتهوفنية رقيقة الى حد انه ورغم خجله بادرها بنظرة دامت للحظات ...

نظرات كان ملؤها الاعجاب بهذا الجمال الساحر الذي لم يصادفه أبدا رغم كثرة اسفاره ورغم التعليمات المشددة بالتزام أعلى درجات التأدب مع الركاب الا انه لم يملك من نفسه الا اختلاس النظر اليها كلما سنحت له الفرصة .. بل انه اختار لنفسه مكانا في مقدمة الطائرة في فترات استراحته ليكون بمقدوره الاستزادة من نورانية هذا الوجه النسائي الطفولي الملامح ..
في المطار كان عليهم الانتظار لساعات حتى يستقلوا الطائرة التالية وكان الارتباك باديا على ليلى واخوتها اذ كانت عملية التجوال في المطار الكبير والمزدحم صعبة بسبب اللغة الغير دارجة وقلة لوحات الارشادات باللغة الانجليزية .. لمحها "طلال" فبادر على الفور الى عرض مساعدته .. بدا أكثر ثقة بنفسه واقل حيرة من قبل .. لم تمانع هي اذ كانت ملامح هذا الشاب الخجول تثير في نفس الناظر اليه شعورا بأنه يعرفه منذ امد طويل ..

شعورا بالألفة تجاهه يجعلك تبادر بقبول اية مبادرة منه تجاهك .. تجول معهم قليلا وهو يعرفهم بدلالة كل علامة واين يمكنهم قضاء وقت الاستراحة اذا شاءوا .. كانت جرأة أحمد الصغير في طرح الأسئلة تحرج "طلال" كثيرا .. فقد طرح عليه الكثير من الاسئلة حول حياته الشخصية مضطرا اياه للحديث عن عائلته وعمله .. كانت ساعات الانتظار تلك عبارة عن لقاء تعارف بين الأخوة والشاب أكثر منها ارشادا لهم في جنبات المطار .. ساعدهم ايضا على اقتناء الهدايا للابوين من سوق المطار وكان في ذلك تبادل للآراء والحديث عن كل هدية ...

لاحظ الشاب أن ليلى تبدد النظرات الى مجموعة ادوات للرسم لكنها عندما نظرت الى السعر المكتوب عليها وبدات بحساب تحويل العملة صرفت النظر عنها ... وعندما حان الوقت ليستقلوا طائرتهم ودعوا مضيفهم ثم دليلهم الخلوق الذي بادر عند البوابة ومضوا .. عندما حلقت الطائرة فوجئت ليلى باحدى المضيفات تؤكد اسمها ثم تمد اليها كيسا قالت ان شابا ناولها اياه وقال انها نسيته في المطار .. عندما فتحت الكيس وجدت علبة أدوات الرسم تلك وقد الصقت اليها بطاقة كتب عليها " عندما رأيتك تنظرين اليها ادركت ان تلك العينان الجميلتان هم عينا فنانة فارجو قبولها هدية مني " وكتب تحت تلك الكلمات رقم هاتف ..

حانت نظرة من ليلى الى اختها لتتأكد بانها لم تلتقط الكلمات المكتوبة .. وظلت صورة "طلال" ملتصقة بذهن الفتاة الى ان وصلوا المطار التالي .. كان ابن عمهم في اسقبالهم وقد بادرهم ببشارة ادهشتهم .. اخبرهم بأن الاطباء فوجئوا بعد الفحوصات النهائية بأن قلب أبيهم بدأ بالاستجابة للعلاج حتى أن الاطباء بدأوا بالتشاور حول تأجيل العملية الجراحية اذ شكك البعض في ضرورتها ..

وعندما التقى الأبناء بالأب بدا أن ابيهم قد استعاد اشراقة وجهه من جديد .. وبعد ايام تقرر بالفعل أن العملية الجراحية غير لازمة وسط دهشة عارمة من الاطباء .. أدركت الأم بأن تكاتف الاسرة أدى الى بث القوة والعزم في حنايا صدر الرجل وجعله ينبض بالحياة كما كان في سني شبابه .. تقرر بان يعود الجميع الى البيت اذ اكد الاطباء بأن حالة الاب اذا استمرت بالتقدم على تلك الشاكلة فانه حتما سيستعيد عافيته خلال سنوات قليلة ..

وعاد بيت الاسرة ينبض بالحياة مرة اخرى ... لم تنس ليلى وجه ذلك المضيف ابدا .. وخلال سفر الابوين الى المدينة المجاورة وفي أحد ليالي الاجازة امسكت بالهاتف وقررت ان تتحدث اليه .. كان هاتف عمله اذا .. وكان هو الذي رد .. همست بكلمات ثم اغلقت السماعة ..
كررت إتصالها بعد ذلك عدة مرات مما حدا به الى أن يصرخ فيها بحدة بالغة مهددا هذا المتصل المزعج .. مازحته قليلا واخبرته بأنه يعرفها .. وبدا مسلسل التخمين حتى عرفها .. وبدأت العلاقة بين الشاب والفتاة ...

كانت مكالماتهما مقننة جدا وغالبا تكون في غياب الابوين عن البيت .. ثم كانت بينهما رسائل عديدة يتبادلانها تزخر بالكثير من مشاعر الود المتبادلة .. وإن كان هو يتحدث في أغلبها عن أسفاره وكانت هي تتحدث عن مغامراتها البريئة في كليتها

dali2000 01-01-09 08:15 AM

________________________________________
بدأت تبعث برسائل تتضمن رسومات لها تنبأ عن حرفيّة عالية في الرسم و مشاعر جميلة تتضمنها و تعبيرات كانت ترجو لها أن تأخذ مكانها في قلبه .. لكن راعها أنه لم يكن يعلق على تلك الرسومات كأنما لم تجد مكانها في قلبه أو كأنما لم يرها حتى .. لكنها كانت تبرر ذلك بأنه ليس ممن يجيدون التعبير عن أحاسيسه الخاصة جدا كما يردد دوما في رسائله

طلب إليها أن يلتقيها فوافقت على أن يكون لقائهما في مكتبتها المفضلة ... وتكرر اللقاء عدة مرات

كانت تجلس في الركن المخصص للقراءة ... وكان هو يجلس إلى جانبها يتحدثان من غير أن ينظران إلى بعضهما .. كان يردد عبارات إعجابه بجمالها بينا كانت نظرات الخجل تعتمر وجنتيها .. لكنها كانت تحس بأن ثمة مايجب أن يقوله غير الحديث عن جمالها و سحر ضحكاتها وصوتها ... وهالها أنه يدخل إلى المكتبة ويخرج منها من غير أن ينظر إلى رفوف الكتب أو يخرج بكتاب حتى ... سألته مرة عن هذا فأخبرها بأنه لايجد وقتا للقراءة إذ يعمل مضيفا ويدرس في ذات الوقت

في أحد الأيام وبينا هي تساعد أختها الصغيرة في اعداد لوحة مدرسية لاحظت بأن من بين اسماء المشتركات في العمل من يطابق اسمها الثلاثي اسم "طلال" .. وكانت المفاجأة ان اسم الاب هو طلال .. طلبت من أختها ان تعرف اسم صاحبتها الكامل .. وعرفت ان الفتاة هي فعلا ابنة "طلال" ..

واجهته ..

وأخبرها انه متزوج ولديه اطفال ..

عندما راى بأنها بدأت تتجنبه .. بكى بحرقة ..

حارت هي في خطوتها التالية .. لقد اخبرها بأنه مستعد للأقتران بها ان قبلت لأنه لن يطيق فكرة ان تخرج من حياته ..

لكنها بعد أيام أخبرته بأنها ستقطع علاقتها به لأنهما أصلا ليسا متوافقين في ميولهما وتفكيرهما صرفا عن كونه متزوجا ورب أسرة ..

بعد دأب هو على الوقوف بسيارته تحت نافذتها لساعات كل ليلة .. وبعد أن قابلته بالصمت ودموع تودعها وسادتها .. هددها بأن رسائلها سوف تصل الى أبيها فقد كان يعرف ماذا يعني ذلك بالنسبة اليها ..

سقط القناع الذي كان يغطي الوجه الجميل للشاب وظهر ذئب ليلى .. واسقط في يدها ..

الآن ستكون نهاية السعادة على يدها .. بل الآن قد تقتل هي بثقتها فيمن لايستحق ثقتها أغلى الناس ...

دخلت عليها أمها وهي تتجرع الآهات ..

- حبيبتي مابك .. لم كل هذه الدموع .. أبوك الآن صحته تتقدم والحمدلله وليس ثمة مايدعو للقلق .. مابك؟!!

ولأول مرة تجد ليلى نفسها عاجزة عن البوح لصديقتها .. أمها .. حاولت أن تقول شيئا ولكنها لم تستطع .. لكن كان هناك شيئا أكبر من الكلمات .. اذ لطالما قرأت الأم في عيون ابنائها مايغنيهم عن بث مايجدون .. احتضنتها وهي تقول بصوت دافيء النبرات:
- ليلى ... ليس الأمر حزنك على ابيك .. بل هو شيء آخر ... ستبوحين الى امك الحبيبة به .. أليس كذلك ..

وعندما طالت فترة الصمت .. أخرجت الأم من جيبها ورقة صغيرة كتب عليها " أحبك للأبد" وهي تسال ليلى

- هل هو كاتب هذه الكلمات ؟

نظرت الفتاة الى امها تتملكها الدهشة والحيرة .. ولم يدر في خلدها بعد أن تلك الوريقة كانت ستنقذ مستقبلها ومستقبل اسرتها ...

وباحت ليلى لأمها بالأمر .. وعندما أيقنت الأم المسكينة أن حياة غاليها باتت مهددة بادرتها الدموع .. نظرت الى فتاتها وهي تقول
- ويلاه ياليلى ماذا فعلتي بنا .. أي حماقة هذه التي ارتكبتي .. ربيتك وتعبت في تربيتك وأعطيتك الثقة حتى أننا لم نمانع لحظة واحدة في فكرة سفرك لوحدك .. ثم تضعين نفسك وتضعين أسرتك في هكذا موقف مع هكذا ذئب بشري .. ماذا عساني أقول وماذا عساني أفعل ..

- أماه .. أقتليني .. بل أكثر قولي أنني لست أبنتك .. افعلي ماشئتي ولكن أبي .. لا أريد أن يصاب أبي بمكروه بسببي ..

كان نحيب ليلى يتعالى لكن أمها قامت عنها وهي تقول

- دعينا الآن نحاول حل هذه المعضلة ثم يكون للملامة والبكاء أوان ..

كانت من الحكمة بمكان .. وكانت تعرف ان مثل هذا الانسان لا ينفع معه طلب ولا اثارة لاي شعور للشفقة .. عرفت انه تزوج صغيرا واذا فلأهله عليه حكم وحتما يستطيعون ردعه .. استطاعت ان تتصل بابيه وخلطت وعيدها برجائها اذ أعلمته بالامر وطلبت اليه ان يكف شر ابنه عنهم .. و بالفعل وعدها خيرا وطمأنها بأنه سيتأكد بأن ابنه سيكف أذاه عن الأسرة التي لم تكن بحاجة الى مواجع أكثر ...

عندما تلقت ليلى الخبر من أمها احتضنتها كأن لم تحتضنها من قبل واختلطت دموع الفتاة بدموع امها وهما تتعانقان ..

نظرت اليها امها وهي تقول :

- ليلى .. صدقيني انا متأكدة تماما بأنك سوف تستعيدين ثقتي اولا وثقتك في نفسك قريبا .. وآمل أن هذا درس كاف يابنيتي .. ودموعك ابلغ من اي كلام يقال ..

ابتسمت الام ودموعها لاتزال متعلقة بعينيها .. فانتهضت ليلى فجأة وطلبت لأمها ان ترسم لها صورة ... أثار هذا الطلب كل الدهشة في نفس الام ولكنها قبلت على مضض ومسحت دموعها وهي تحاول جاهدة رسم ابتسامة على شفاه الحزن .. بينما كانت الدموع تتهدد بالانهمار كلما خطر في بال الام بان زوجها الحبيب كان تحت تهديد مايقوض قوة قلبه ..

انهت ليلى الرسم الاولي للوحة .. ثم اكملتها بعد شهر من ذلك الوقت

كانت لحظة "ابتسمت فيها الدموع" ...

أنهت ليلى لوحتها .. ثم جلست امامها وابتعدت قليلا ... انبهرت لأنها لاحظت ان يدها لم تستطع اهمال اثر الدموع في عيون أمها .. لقد رسمتها احساسا وبالأحساس رسمت قبل أن تكون الوانا تمازجت فأخرجت لوحة يقف امامها القلب قبل العين فتأسر منه نطقها بخليط من المشاعر لايصوره رصف لنثر أو لشعر ولا وصف لحقيقة أو خيال .. وجه أم تمازج في قلبها الحاني خوف على الحبيب ورأفة بحال الحبيبة وحزن تردده ذكريات ضعف امرأة وان ادعت لقوة النفس مجالا .. لحظة انهزام لروح الاباء و الصبر هي ذاتها لحظة فرح باحتضان فرحتها بألم لايوازيه حتى ألم ولادتها .. عينان تحتبسان الدموع خلف سياج الصبر واظهار القوة امام لايعرفها الا أبية صابرة ... وابتسامة شفتين أبلت فيهما قلة الحيلة وحزن الخوف على مايوازي عندها الدنيا بكل مافيها .. أبلت فيهما شوقها للابتسام .. لكن للحبيبة .. لمدللة العمر يجب أن تطيع الشفاه وتجترع الابتسامة بل وتكون كأحلى وأصفى وأعذب ماتكون ابتسامة الأم لابنتها ...

صبر .. حزن ... قلق .. اباء .. ودمــــــــــوع تبـــتســــم ...
لم تتمالك نفسها وكتبت على بطاقة كلمات تصف بها احساسها ذاك : " هنا .. في هذه اللوحة يسكن شعور مني .. في دموع ابتسمت .. أودع فيها فكرا وعمرا لست راضية عنه ولكنني تعلمت منه الكثير .. تعلمت وفهمت عندما وقفت أمام هذه المشاعر فجسدتها وعرفت بأن الدنيا لا تساوي الا لحظات سعادة نرسمها نحن ثم نتوقف عندها ونمضي من غيرها هربا .. انها مختلفة .. لقد رسمتها بأحساس صاف حقيقي .. بلا أدنى تكلف" ..
وأودعت البطاقة بين خلفية اللوحة والقماش الذي يغطيها ...

عندما استغرقها النظر الى ابداعها ذاك لم تملك من نفسها الا البكاء ... ثم غطتها

أكملت ليلى دراستها و كانت الفرحة بتخرجها كفيلة بضخ مياة الحياة الى قلب أبيها ... كأنما الحبر الذي خطت به شهادتها هم مداد دماء لروح جديدة في قلب الرجل جعلته وبلا شعور منه يرفع يده لتلحق بأختها فتحتضن الغالية وانطلق لسانه بأصفى كلمة تهنئة لها .. وبكى الجميع .. فرحا .. وابتسمت الدموع ..

وانشغلت ليلى لشهور بالبحث عن عمل .. لم تكن تشترط الكثير الا أن يليق بتحفظها الذي باتت تدين به بعد تجربتها تلك .. الى اتت صديقة لأمها في زيارة كان فيها لليلى حياة أخرى .. كان زوج الزائرة صديق قديم لأبو ليلى وكان في فترة ليست بالقصيرة شريكا له .. وقد تحدث من قبل لزوجته عن فكرة ليلى ابنة شريكة برسم اللوحات الجدارية التي كان فيها جرأة كبيرة في ذلك الوقت .. وتذكر جيدا كيف انها أعجبتها بل وأحزنها رفض عم ليلى للأمر في وقتها ..

عندما رأت الزائرة ليلى أسرت منها القلب فهي الآن عروس تتمناها كل سيدة لابنها .. ثقافة وفن وأدب وأخلاق وجمال .. فأبدت رغبتها على الفور بأن تعمل ليلى معها في القسم الذي تشرف هي عليه من أعمال زوجها ذلك أن ابنها مشغول بأعمال أخرى ...

وبدأت ليلى العمل عند السيدة " ام خالد" .. وكانت أسعد ماتكون لأن عملها كان بالفعل تجسيدا لهوايتها المحببة ولدراستها ايضا ..

وفي يوم افتقدت ليلى لوحتها "دموع تبتسم" .. فقلبت البيت بحثا عنها .. حتى رأفت امها لهفتها وأخبرتها مالذي فعلته باللوحة واتبعت ذلك بسؤال حارت الفتاة معه الجواب ...

بدت الأم محرجة من ابنتها ومترددة لأول مرة ..

- كنت ياحبيبتي أرتب غرفتك فأنتي بعد عملك في مركز أم خالد تقضين وقتا طويلا في العمل و باتت غرفتك تشكو عدم الترتيب ... وفي زاوية من مرسمك وجدت اللوحة التي رسمتيها لي منذ أكثر من سنة ... صدقيني ياليلى عندما رأيتها لم أتمالك من نفسي الا ان استعدت ذلك الشعور الذي رسمتيه انتي فيها ... تسمرت امامها لساعة كاملة وأضحيت أسيرة لكل تفاصيلها ... أحسست أن الذي في اللوحة هو رسم لقلبي كأحساس وليس لتعابير وجهي في تلك اللحظة .. صدقيني كنت أشجعك على الرسم منذ ان كان عمرك ثلاثة سنوات ليس لقناعة مني به كفن ولكن لأنني لم أكن أستطيع ان امنعك من شيء تهوين عمله ولأن اباك كان يكرر دوما بأن هذه موهبة فيك يجب أن ننميها .. لكن ما ان رأيت اللوحة حتى أدركت أنه هو الفن الحقيقي وأن الريشة يمكن أن تقول الكثير مما يعسر علينا التعبير عنه ولو تقصدنا ذلك بأرق و أقوى مالدينا من أساليب ... حتى الألوان .. (تبتسم وتتناثر الكلمات منها بحماس شديد) .. نظرت بعدها للمرآه وكم أدركت اني كنت أظلم نفسي اذ اعتقدت بأن احزاننا قد ذهبت بنظارته .. أحسست بأنني استطيع أن اكون أجمل بكثير مما أنا عليه .. ولعلك لاحظتي كيف بدأت الاهتمام من جديد بمظهري ..

ولما زارتني أم خالد قبل أيام وكنتي أنتي خارج البيت أريتها اللوحة ... وكنت أنظر في عينيها وقد تسمرت هي الأخرى أمامها ... بعد أكثر من عشرة دقائق ياليلى نطقت أم خالد فقالت " انه فن يا أم أحمد .. لن يرى أحد هذه اللوحة ويزعم بأن ابنتك ليست فنانة .. أتحدى" .. ثم عرضت علي أمرا غريبا .. أن تأخذها وتعرضها على اناس مهتمين بفن الرسم .. كنت أتوق حقا لأسمع رأيهم وأنقله اليك فوافقت ولكن طلبت اليها ان يكون الامر سرا بيننا .. بعد يومين هاتفتني أم خالد وأخبرتني أحد معارفهم من رجال الأعمال من المهتمين بالفنون رأى اللوحة وكانت في مكتب خالد وعرض فور أن رآها أن يشتريها بمئة ألف ريال ...

- أمي أنتي تمزحين ؟!!!! (وقفت ليلى وهي تقول هذه الكلمات)

- لا والله يا ابنتي ..

- حسنا .. لماذا لاتكون ام خالد مثلا تريد مساعدتنا و ...............

قاطعتها قائلة بنظرة أودعتها بريق ذكاء وحزم أكيدين:

- فكرت في هذا من فوري فطلبت اليها أن اتحدث الى الرجل وبالفعل عرفت من هو ولو أخبرتك باسمه ستعرفينه وربما قرأتي عنه في احدى المجلات ان كنتي تذكرين وقد كان بيته فعلا مليئا باللوحات ..

عندما أخبرتها باسمه وعرفت على وجه اليقين اقتناعه بنفاسة الرسم وحرفيته وأن عرضه لم يكن على سبيل المجاملة لم تملك الا أن تحتضن امها بقوة وتقبلها عدة مرات .. هذه اول مرة تعرف رأي احد غير اهلها برسمها وموهبتها .. وكان رأيا قويا يعتد به ..

- والآن ياليلى مارأيك .. هل ستبيعين اللوحة ...

وتوقف الكلام في قلب ليلى فهذا أمر لاتجيد الكلام عنه الا بقلبها وكل ما يحتويه من أحاسيس .. فكرت مليا ثم سألت أمها عن رأيها ..

- حقيقة يابنيتي انا أوافق مع ان اللوحة والله تعني لي أكثر مما تعني لك وليست حاجتنا هي مبرري لهذا الكلام والله ولكن أرى في بيعها تجسيدا لموهبتك و اثباتا لمقدرتك في الرسم ..
- ولكن يا أمي تلك كانت مختلفة ولا أظنني قادرة على أن اكررها ...

- لا يابنيتي ... الحياة مليئة بالمفاجئات وصدقيني ستجدين بأنك قادرة على تجسيد الكثير من المشاعر بالرسم .. والذي لاتعلمينه أن هناك لوحتين أخريين لدى أم خالد الآن .. ربما لم تنتبهي لفقدهما .. لقد رأت ام خالد بعض لوحاتك وعرضت هي في احداها عشرة الآف ريال ولماذا؟ .. تريد أن تهديها لأخيها الدكتور .. ربما تعرفينه ؟ ... انا اعرف بأن القيمة المادية ليست دليلا ولكن مالذي يجبرهؤلاء الناس على شراء لوحاتك لولا اقتناعهم بقيمتها الفنية ...

- حسنا .. كما تريدين ياغالية ..

توقفت الكلمات في ذهنها عندما تذكرت أمر البطاقة وكادت أن تطلب لأمها أن تمهلها ريثما تستعيد البطاقة ثم ليكن ما أرادت ... لكنها آثرت أن تبقى تلك الكلمات رفيقة لتلك اللوحة ... حاولت اقناع نفسها أن أحدا يشتري لوحة بهكذا قيمة لن يسمح بالعبث بها وبالتالي العثور على بطاقتها ... وان حدث فلا ضير ... فهي مجرد كلمات تصف مشاعرها الصادقة ومن ألف الفن يالف الأدب ويقدره ...

بعد يومين ردت أم خالد بأنها تلقت عرضين آخرين لشراء اللوحة وبقيمة أعلى .. احدهما بمئة وخمسين ألف ريال ..

ثم توالت العروض على ليلى بشراء لوحاتها من عدة جهات .. وبعد سنة فقط من بيع لوحتها الأولى أقيم لها معرض في أحد المجمعات التجارية المعروفة بعرض من صاحب المجمع بنفسه ...

كان الجميع فخورا بليلى .. وأقيمت سهرة عائلية بتلك المناسبة انتهت بخطبة ليلى ... لمن ؟ .. لخالد ...

وبدأت قصة خالد وليلى ... قصة ابتسمت فيها الدموع ...

في تلك الليلة أخذ والد ليلى بيدها وذهبا الى الشرفة .. كان نسيم الهواء من النوع الذي تملأ صدرك به عدة مرات وفي كل مرة تحس بأنك بت أكثر قدرة على ادخال كمية أكبر الى رئتيك ترافقها لذة ترتعش لها فرائس وجهك فيتحرك جسمك بشكل طفولي يجعل الناظر اليك وأنت مغمض العينين تتمايل بخفة كأنما ينظر الى مغني أوبرا وهو يحاول تعبئة جسمه بالهواء ليخرجه نغما شجيا ... وهكذا كان أبوها ينظر اليها للحظات قبل أن يبادر الى لحظة من المكاشفة والبيان الأبوي الأخير لفاتنته التي ماعادت صغيرة كما عهدها وكما تمنى أن تكون لتبقى له ولكن لابد أن يأد فرحته ويعلن نهايتها مدعيا أنه أسعد مايكون وقتها ..

- ليلى ياحبيبتي ... لا أدري كيف يجب أن يفاتح الأب ابنته في موضوع كهذا ولكن أجد الكلمات تائهة على لساني فأعذر نفسي وأقول ليست العلاقة بيني وبين غاليتي ليلى كأي علاقة بين اب وابنته .. بل هي علاقة قلب أب بفكره وأمانيه و عواطفه و طفولته بل ومستقبله أيضا .. ذلك كله يتجسد فيك أنتي ياليلى بالنسبة لأبيك وذلك ماتمثلينه أنتي له .. أخال أحيانا أنني لو كنت زوجا لأمك – ونحن والله أخالنا أسعد زوجين – وأبا لأحمد وشمس فقط لما تمسك قلبي بالحياة كما فعل ولما عدت الى حياتي الطبيعية كما حدث بسهولة كانت أشبه بالمعجزة الطبية .. انه أنتي ياحبيبتي .. كنتي لي كما لو أنك روحا أخرى ... كنتي ينبوعا للحياة عندما نضب قلبي الضعيف بها انهال علي يسقي نبضي الذاوي فيحيل اصفراره خضرة و يشيع اركان الحياة في شرايينه .. أتدرين ياليلى خلت كأنما ارادة الله أن يحدث هذا معي حتى أرجع لنفسي وأعترف بعور بصيرتي اذ لمت الأقدار يوما على أن لم أوهب ولدا في مقتبل عمري والآن عرفت بأن الحكمة الالهية فوق فكرنا البسيط اذ أرتني الأيام كيف أنك ياغالية ابيك الهبة التي يعذر الآباء كلهم لو غبطوني عليها .. والآن يابنيتي يأتي اليوم الذي يجب أن أزف هذه الهبة الالهية الى رجل أحسبه والله حسيبه بأنه سيرعاها ويكن لها الحب الذي ملأت هي قلبي به فنضح في تربيتي لها حبا ورأفة ورحمة وحنانا .. راجيا من ربي الكريم أن يكون قلب هذا الرجل مدادا لقلب أبيك .. ربما يابنيتي كانت هذه السنة الكونية المحتومة حتى تأخذ مثلك حقها من المشاعر بما يناسب سنها و حاجتها من الأحاسيس التي بات بعض الناس يعيشون بعيدا عنها فكأنما عقولهم لاتعي قيمتها تماما كما لايعي سكان القطبين معاني الربيع والدفء و.. و ... ... وانه والله للشيء الغريب ان ينقل الأب سبب فرح عمره ليكون فرحة لرجل آخر و يكون وقتها أسعد مايكون ... آه يا ابنتي وأمي و أختي وكل دنياي .. أتى اليوم الذي يفاجأني الناس بأن غاليتي أضحت عروسا وأنه أضحى من واجبي أن أزفها الى من يستحقها فيخطبونها .. نعم .. لقد خطبتك أم خالد لابنها خالد .. لقد أخبرت أمك بأنني اهب لك حرية القرار في هذا الامر كاملة لكن يجب أن أتحدى نفسي ومشاعري قليلا وأبين لك ما أعرفه عن خالد وأبيه .. أما والده فكان شريكا لي لفترة ليست بالقليلة فما رأيت منه والله يا ابنتي الا الامانة و جبر الذات على ابراء الذمة في كل وقت الى درجة أنه عندما اضطره أخي لفض شراكتنا تنازل عن نسبة ليست بالقليلة في رأس المال عن طيب خاطر وقد كنت أنا أقر له بها وكان يقول أن معرفته بي تساوي الكثير وما تركه ليس شيئا امام صداقتنا وما تعلمه مني ... كان دوما يردد الحديث الذي يقول " رحم الله المؤمن سمحا اذا باع سمحا اذا اشترى " أو كما قال عليه الصلاة والسلام ... وكنت أرى وأسمع عن خالد بأنه على سيرة أبيه بل ويفضله لكونه خريج جامعة عريقة في ادارة الاعمال وكاتب أيضا كما تعرفين .. وأرى يابنيتي انه انسان مناسب جدا لك ... ولن أزيد على ماقلت حتى يكون القرار قرارك بالفعل ..

أحست أنها تريد أن تقول شيئا يطمأنه ولكن الخجل الذي أحست بأنه يملأ روحها وقلبها جعلها تهمس :

- يفعل الله خيرا يا أبي ..

وانتهي الأمر بالنسبة للأب عن تلك الكلمات التي كانت أكثر من كافية كخلفية لترسم ليلى عليها قرارها مثلما تجيد رسم لوحاتها ... عندما فاتحتها أمها بالأمر أبدت ليلى جرأة أكبر وناقشتها في تفاصيل كثيرة عما تعرفه الأم عن تلك الأسرة .. بعدها أحست بأنها من الممكن أن تكون عضوا فيها فأبدت موافقتها عن اقتناع تام ... لكن قبل عقد القران بساعات فاجأتها أمها بشيء جعل صورة خالد تبدو ضبابية لها بعد أن كانت واضحة تماما خصوصا بعد أن تحدثت اليه مرارا وعرفته عن قرب وتبادلا كل الاسرار .. أخبرتها أمها بأنها صارحة خالد بقصة طلال مع ليلى .. بررت الأم كلامها بحكمة الكبار ونظرتهم البعيدة

- يابنيتي هبي أن طلال هذا شاء أن يفسد حياتك ولا تنسي أنك أضحيتي انسانة مشهورة وزوجك أيضا كاتب وتاجر معروف وذئب مثل طلال ربما وسوست له نفسه ايقاد الفتنة في بيتكما بايصال فكرة غلوطة لزوجك عن علاقتكما التي كانت في سن وظروف تعذرين فيها امامي وامام اسرتك ولكن زوجك لن نضمن ذلك .. وحقيقة عندما حدثت خالد بالامر أكبر صراحتنا ووضوحنا وأبدى تفهمه للأمر ووعيه بل وقال بأن هذا يزيده تعلقا بأسرتنا وبك أنتي وأدهشني عندما قال بأن ليلى بهكذا تجربة ستكون أكثر حكمة و فهما للحياة وهذا يجعله مطمئنا أكثر

هزت رأسها ليلى وابتسمت ببرود وفي داخلة نفسها شعرت بأن خالد قد يفتقر الى الغيرة التي تريدها هي في رفيق حياتها المقبلة عندما أبدى تساهلا في هذا الأمر الى تلك الدرجة ...
جعل هذا مقابلتهما التالية بعد عقد القران تبدو أقل بريقا من المتوقع بين تلك الانسانة التي أول ماتوصف به بأنها حساسة وبين ذلك الانسان الشاعري .. وكأنما ارادت اختباره .. صارحته بأن هناك رجل يطلب دوما شراء لوحاتها من وسيط ,اضحى زبونا دائما للوحاتها ويكتب اليها بعض الرسائل التي ربما لم تزد على الاطراء والاشادة بموهبتها ولكنها تحمل دوما توقيع "المعجب بأحساسك في الرسم" ..

خيب خالد آمالها عندما أخبرها بأن ذلك شيء جيد وبأنه سيحاول معرفة هذا الرجل حتى يشكره على هذا الاطراء المميز ... ولكن تزوجا وبدأ أول ايام شهر العسل ...

توجه العروسان الى سفوح جبال الألب لقضاء شهر العسل وكانت ليلى تتسائل لم جعلوه شهرا ولم يلتزم الناس بتحديده بالشهر .. وافقها خالد وقرروا عدم تحديد المدة .. كان هذا يعني أن كل منهما ربما سيبتعد عن أعماله مدة طويلة ولكنهما بهذا وضعا قاعدة جديدة ... لا حدود لشيء لايكونان مقتنعان بجدوى محدوديته وضوابطه ...
في الطائرة وعندما مر مضيف من جانبهما فاجأها خالد بسؤال جعلها لا تسمع الا صدى كلماته تلك ..

- كان مضيفا .. أليس كذلك؟

عرفت مقصده ولكنها آثرت بأن تعطي نفسها وقتا لتقبل المفاجأة ..

- من ؟

- الفتى الذي تعرفتي عليه من قبل ..

وضعت كل ما جاد لها الزمن من قوة في تقبل المفاجاءات في عينيها وأجابته ..

- خالد .. كنت أعجب لردك على أمي عندما صارحتك بالأمر .. ولن أسألك ان كنت مررت بتجربة ما مع فتاة ولكن ثق بأن تجربتي أنا جعلتني لا أقيس الرجال الا بمدى رقي تفكيرهم .. ربما كنت أتمنى في الرجل الذي سأقترن به لبقية حياتي بأن يكون ذا رومانسية مغرقة في الخيال .. رجل يعيش مع الناس بجسده ولكن روحه تطوف بي في خيالات الحب الحالم .. أصحو على كلمات الحب وأغفو عليها تهدهدني دوما همساته .. لكن هذا كان قبل أن أخرج الى معترك الحياة وأعرف أن الدنيا ليست مكانا ملائما لخيالات المراهقة ان اردنا أن نعيشها كما يجب .. صدقني أنت الآن متزوج من امرأة تنظر الى الحياة بمنظار الواقعية .. ولا تحسب من كلامي هذا بأنني سأطيق بأن تكون حياتنا جامدة لا مشاعر فيها ولكن لن أتوقع بأن تكون كل لحظاتنا مع بعض سعيدة و رومانسية الطابع خصوصا أنك أنت شخص عملي ورجل واقعي .. هل تخالني لم ألحظ نوعية المقالات التي تكتب أو الكتب التي تقرأ ... لذا ثق بأنني سأحاول جاهدة بأن نتقارب في شخصياتنا الى أبعد حد ممكن .. على أن تهبني شيئا واحدا فقط .. الثقة المطلقة ولا شيء غير ذلك .. حقيقة لقد شعرت بأنه كان من الواجب أن تحس على الأقل بالامتعاض لسماعك قصتي مع المدعو طلال ولاشك أنك تعرف كيف تكشف عن قلب أسود مستغل وأحمد الله بأنني كنت متحفظة معه الى ابعد حد والا كان مالا يحمد عقباه .. كانت تلك فترة مراهقة وظروف لا أشك بأنك لا تجهلها ومضت وخرجت منها معافاة ولكن ثق بأنني أضحيت بعد تلك التجربة أقوى .. ثم دار في خلدي بأن ردك ذاك ربما لن يكون وضعا دائما وتبين لي ذلك الآن من سؤالك ..

- على رسلك ياليلى .. انا لست أحاسبك ولن يكون لي ذلك .. الأمر فقط أنني أردت معرفة اشياء أكثر عنك .. عن الانسانة التي سيقترن اسمها باسمي لبقية العمر ان شاء الله .. وصدقيني لا أجد في نفسي من ذلك شيئا ولن نتحدث فيه أكثر فقد قلتي المفيد وزيادة ...

أحست براحة عارمة بعد هذه المحادثة ... ولكنها أحست بأنها ستعيش مع هذا الانسان بروح وأحاسيس غير التي كانت تمني نفسها بها وتداعب خيالاتها في الماضي ..

كان تعامله معها غاية في الذوق والرقي لكن كان هناك نوع من الرسمية التي تمقتها في تعاملها الاسري .. ارجعت هذا الى طبيعة عمله وتحمله المسئوليات الجسام باكرا .. تدرك تماما بأنه ربما لم يكن لديه وقت للتفكير في الحب و التعامل مع شقائق الرجال .. ارتاحت الى هذه الفكرة و وعدها لنفسها بأنه سيتغير حتما وبأنها يجب الا تطلب الكثير وتراعي ظروفهما وطبيعة حياتهما ..

مضت الأيام جميلة ولكنها لم تخل من رتابة معهودة في حياة أرباب الاعمال ومن اعتادوا النظام والتخطيط لكل شيء .. وعاد العروسان ... عندما سلمت ام خالد عليه كانت تهمس له ..

- أين كانت من قبل؟

- في مكتبي يا أماه ...

ترى مالذي يتحدثان عنه ؟!!!!!

وبعد أن سلمت ليلى على أم خالد سألتهما بدلال ربما كانت ترمي من وراء اظهاره طمأنة الأم بأن السعادة لازالت تكتنف القلوب .. سألتها عن سر الهمس بينهما وكان جوابها محيرا اذ قالت وهي تحيط وجه ليلى بيديها بلمسات حانية ..

- ستعرفين ياحبيبتي بعد قليل .. حفظكما ربي لبعض وأدام بينكما الود أبد الدهر ..

طرق الباب فجأة واذا بأسرة ليلى ترافقهم اللهفة لرؤية الغالية ... بعد سلام حار وقبلات ملؤها الشوق لليلى التي هي معنى الرقة وترجمان الأحاسيس في الأسرة الصغيرة .. أخذت الأم بيد ليلى وقد وضعتها بين يديها وهي تلومها على اخفاء موعد وصولهما .. اعتذرت ليلى بأن الوقت كان متأخرا ولم تشأ وخالد ازعاجهم ... ثم بدأت اسئلة شمس الصغيرة تتوالى عن مكان شهر العسل وأختها تجيبها بتثاقل جعل أمها تستغرب لاختفاء تلك الروح المرحة لتي لطالما عهدتها في غاليتها المدللة ... طلبت لأم خالد أن تأذن لها بأن تتحدث الى ابنتها وأخذتها الى غرفة أخرى .. سألتها على الفور

- ماذا هناك يابنيتي ... لست على مايرام ,, أريد صراحتك التي اعتدتها منك ولا شيء غير ذلك .. هل رأيتي من خالد ماتكرهين ؟
- لا يا أمي صدقيني ليس هناك شيء لتنزعجي منه .. ربما هو تعب السفر .. وصدقيني كان خالد معي كما تحب أي زوجة أن يكون زوجها في شعر العسل .. بل أن اسعادي كان جل همه طوال الشهرين الماضيين ...

- ليلى .. ستخبرينني ... والآن .. ماذا هناك .. أهي قصة الفتى الذي كنتي تعرفينه ؟!! .. صدقيني لقد بت ألوم نفسي عن الافصاح لخالد عن الأمر فالرجال هم الرجال وهذا الأمر كان الأولى به أن يدثر في خزانة الماضي المنسي بيننا فقط ..

- لا ياأمي .. بالعكس كان لوضوحك معه أثر كبير في تخلصي أنا شخصيا من آثاره ثم أننا تصارحنا فيه انا وخالد منذ اول يوم وانتهى الأمر بالنسبة لنا تماما ... حسنا ... سأريحك ياغالية ... كل مافي الأمر يا أماه أن خالد رجل عملي بشكل زائد الى درجة أننا تحدثنا في كيفية تسيير حياتنا ونحن في شهر العسل .. هناك لحظات أجده فيها لا يشاركني طريقة تفكيري .. أعرف بأنني انسانة حالمة ولكني لست أطلب قصة حب خيالي بيننا .. فقط كنت أرجو أن أجد شيئا من اضفاء جو الحب الغير معتاد بيننا .. لكنني عندما أفكر في الأمر أجد بأنني اتسرع في الأمر فهو على اية حال انسان خلوق وطيب للغاية وكل ماتتمناه المرلأة من صفات في زوجها أجد له منها نصيب وافر .. ربما أثر في الرسم فخلت بأن الحياة حلم جميل فقط ..

- هل بدر منه مثلا يابنيتي ما يدل على أنه لايجاريك هذه الرومانسية التي أعرفها فيك و أعرف بأننا ربما كنا سببا فيها لأنك ماكنت ترين الاعلاقة الحب الدائمة والمتجددة بيني وبين أبيك ..
- حقيقة .. ليس هناك شيء معين .. ولكن مثلا كنت ارسم له لوحة وطلبت توقيعه عليها وان يكتب كلمة او تعليق عليها فرفض بلا مبرر ... لا أدري أعتقد أنني أتوهم فقط ..

- نعم يابنيتي .. ماقلتيه الى الآن يعطيني نفس احساسك .. أنتي تتسرعين بالحكم .. فمن يعرف ام خالد وابيه ويعرفه هو ايضا يدرك بأنك حتما تبالغين .. وستريك الأيام بأنك كنتي على خطأ .. هيا اذهبي الى غرفتك وانفضي غبار السفر عنك .. سنقضي هذه الليلة في سهرة لطيفة ولن نترككم ترتاحون .. سنزعجكم .. آه كم أشتاقك ياصديقتي الصغيرة ...

تبادلت الصديقتان .. الأم والابنة .. لحظات من الحنان المتبادل في عناق تغلف بشوق عارم للأحضان الدافئة التي تجدها كل واحدة في الأخرى .. وهرعت ليلى الى غرفتها ... هذه أول مرة تدخلها .. فاجأها الذوق الراقي لخالد في اختياره لأثاثها كان التصميم القديم والحديث لغرفة النوم الفارهة يجتمعان بشكل يشهد لمصممها بأنه ذو ذوق راق في اختيار نوعية الاثاث والالوان وحتى في توزيع الاضاءة وحتى في اختيار اللوحات التي كانت تتوق لرؤيتها هناك ... و ....

تسمرت عيناها عند لوحة علقت بين أدراج المكتبة الصغيرة في الغرفة ... انها ... انها "عندما تبتسم الدموع" .... يا الهي كان هو ... خالد .. لم يطرف لها جفن وهي تسير الى اللوحة بتسارع طفولي وهي تضم يديها الى قلبها وابتسامات الفرح والدهشة تلوح على وجهها القمري ... وكأنما أشرقت عيناها على كل الوان الحياة في لوحتها فتجسدت اللحظة التي رسمت فيها .. نزعتها من على الجدار ودارت في ارجاء الغرفة وهي تضمها اليها مغمضة العينين والدموع تتناثر منهما .. بعد ان ارتشفتها نظرا وأفاقت من المفاجأة الغير منتظرة .. وبانفعال زائد بدأت بالبحث عن البطاقةالتي أودعتها خلفية اللوحة فأدخلت يدها بارتباك الى القماش الذي يغطي خلفية اللوحة ... وجدت بطاقتها لكن ألصق اليها وبطريقة أنيقة بطاقة أخرى كتب فيها بخط يوازي جمال خطها هي " وقد نظرت اليها باحساس حقيقي وصاف .. وعرفت كم هي عظيمة صاحبة تلك الدموع وكم هي رقيقة راسمتها التي أسرني احساسها في الرسم .. وقررت بأن أسعد وأروي قلبي وروحي وايامي باحاسيسها ورقتها و أدبها .. سأحبها وأحبها وأظل أحبها حتى لا يبقى لحب بعده معنى .. حبيبتي .. عندما تقرأين هذه الكلمات اريدك بأن تعرفي بأنني حاولت بأن اريك مني وجها واحدا فقط في ايامنا الاولى وكان الاولى غير هذا اذ لن أكون قادرا ابدا على مجابهة مشاعرك التي لايفوقها رقة ولا عذوبة ولا صدقا أي شعور عرفته الانسانية .. ولكني أعدك بأن الوقت لن يطول حتى آخذك بين يدي وأصرخ فيك بأنني أحبك .. أحبك ... المعجب باحساسك بالرسم .. خالد" ...

أعادت كل شيء الى مكانه ودموعها تبتسم ... واستعادت الشهرين الماضيين لحظة بلحظة .. ثم هاتفته على المحمول وطلبت اليه بأن تراه في غرفتها ..

كان خالد في هذه الاثناء يقص عى حماته وأمه كيف استطاع الحصول على اللوحة بعد المزايدة عليها .. وكيف انه أضحى زبونا دائما للوحات زوجته اذ لم يطب خاطره بأن يتسابق الناس الى لوحاتها وهو لا يملك منها شيئا ..

صعد اليها .. وما ان وقع بصرها عليه حتى احتضنته وكأنما تضم اليها الشعور الذي اشتاقت اليه في رفيق حياتها وكأنما ارادت لقلبها ان يكون أقرب مايكون لقلبه ليستشف من تلك الأحاسيس الرقيقة ..

نبهها بأن الجميع في انتظارهم تحت .. وبأن بقاءهم في الغرفة سيكون محرجا لهما .. وبالفعل كان الجميع ينتظر وينظر اليهما .. وعندما اقتربا يتهلل وجهيهما بالسعادة و تتقافز نظرات المرح من عيني ليلى .. توارى الجميع الى غرفة الطعام وهم يتغامزون في خجل و أحمد يمد منديلا لخالد ويشير اليه بحركة طفولية بأن يمسح وجهه الذي اصطبغ باللون الأحمر ...

الـــــنـــــهـــايـــــة


الساعة الآن 07:13 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية