منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   قصص من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f257/)
-   -   (رواية) رواية جديدة " لم تكن أنثى " (https://www.liilas.com/vb3/t208909.html)

سارة منصور دوار الشمس 21-05-23 10:26 PM

رواية جديدة " لم تكن أنثى "
 
الفصل الاول
جثا رجلا اربعيني على ركبتيه فى المشفي بعد مقابلته للطبيب والدموع تنهمر من مقلتاه، يلكز احدي خديه بحسرة متمتما وقلبه يتحطم إلى أشلاء "لما... لما أنا..؟ يالا حسرتي وما ضاع من شبابي، ليتني مت قبل ان اسمع هذا الهراء"
كانت زوجته تقف بجمود وقلبها يصرخ بوجع قاتل وهى تتابعه فغصتها علت إلى القهر ولم تعد تشعر بشيء، فقط تريد ان تقتل نفسها بصمت.
ران اليها والى عيناها الجامدتان والتى صبت النار في حلقه، لا يعلم من السبب فيما يمران به ، مدت يدها له لكي تسنده ويقف ، فحدجها بغضب بغرابة، فطوال تلك السنوات يمران على كافة الأطباء ليكي يعالجا مشكلتهما بالخلف ويأتي لهما طفل ولكن فى كل مرة يخيب آمالهما من كلام الأطباء و يخبرهما بتلك المقولة التى يكره كل حرف بها "لا يمكن أن يحدث حمل بينكما ابدا، يمكن فقط أن تزوجت امرأة أخري وهى تتزوج رجل آخر".
لا ينكر تمسكه بها طوال تلك الأعوام بسبب عشقه الكبير لها ولكن قد فاض به فشعور الأبوة يلح عليه كل يوم بل كل ساعة، كلما يري طفلا فى حجر أبواه ،فكم يتمني لو يعانق بكلتا يديه طفلا صغيرا يخبره كلما يراه بأبي...غمغم وهو يتجه صوب سيارته بحنق" تبا للحب وعيشته"
صعد إلى السيارة وانتظرها تأتي خلفه، رمقها بغرابة وهى تقترب منه بخطوات بطيىة وعيناها شاردة ، ها قد أصبحا فى الاربعين من عمرهما ولم يراها الا الان تبكي ابدا ولو لمرة واحدة من كلام الطبيب ،فكان ذلك سببا فى كبح دموعه حتي أصبحت تذبحه فى الليل الثقيل ،هو رجلا ومعروف ان جنس الرجال بُلداء المشاعر مقارنته بعاطفة الاناث الجياشة ،لا ينكر أبدا انها باردة كالقطب الشمالي دون ادني إحساس فيما يتعلق بحصولها على طفل ، نعم يشعر بعاطفتها معه دائما ولكن فى نقطة ضعف بامنيته للحصول على طفل يكاد يجذب انها اقوي امرأة فلم يري ضعفها أبدا بل لم يعلم ماهي نقطة ضعفها الا الان ، تساءل إن كانت تقوم بالتمثيل عليه بحبها حتي لا يتركها ويتزوج باخري، هى أخبرته العديد من المرات ان يتزوج ولكنه رفض امام تضحيتها بأنها الجانب المسؤول وايضا خشية من ان يتزوج باخري ولا تنجب ويكون السبب منه
عقد حاجبيه ثم اتسعت عيناه وهو يراها تحدق به بجمود فنظر أمامه وقاد سيارته بسرعة إلى البيت ،طوال الطريق لم تنزل عينيها لوهلة من عليه، عرف انها تريد أن تتحدث، ربما بأمر كان ينتظره منذ فترة ولكنها فقط ظلت صامته رغم عيناها التى تتحدث بالكثير.
...... مرت الايام كالخيل الذي يتسابق على الوصول للقمة بشغف العطشان الذي يريد ان يرتوي بالماء ودون سابق إنذار قرر ان يحادثها فى امر هام وبلهجة عازمة قال "اسمعيني يا نجلاء سأسافر إلى بلدي غدا فى مهمة عمل ضرورية، ابقي هنا واهتمي بحديقتي ليثما أعود واهم شيء زهراتي ارجوك اهتمي بها، سأتركها فى رعيتك يا حلوتي "
كانت تلك المرة الأولي التي يتحدث بها معها بعد عودتهما من عند الطبيب منذ أسابيع، فقد كان ينهك نفسه بالعمل متحاشيا التحدث معها ، فكرت ان تخبره بما يجول بعقلها ويؤرقها طوال السنوات الماضية، وبصوت متحشرج قالت" عاصم حبيبي تعلم انني احبك كثيرا ،ولم افرط في حبك ابدا وانت تعرف ذلك حق المعرفة، لذا اريد ان اخبرك بأمر هام"
احس بما هي مُقْدمة على قوله فتوتر دون سبب وبدأ جبينه يمتلأ بالعرق، هو ضعيف جدا أمامها وخاصة امام حبها له الذي يتلذذ به في كثير من الأحيان، رفع يده يربت على كتفيها مغمضا عينيه مجيبا بنبرة ممزوجة بالتوتر" نتكلم فيه لاحقا غاليتي.. أنا حقا مشغول " ، أمالت رأسها أجابا وعيناها تتابعانه يذهب إلى الخارج، بغتةً أسرعت وراءه تعانقه من ظهره، عناقا طويلا اخترق قلبه بحزن دفين، شهقة خرجت منها بحسرة مصاحبة بدموع ساخنة ،لأول مرة يراها تبكي وهي تعانق ظهره الذي تخبره دائما انه أمانها وسندها، غصة قلبت محياه فكتم دموعه بصعوبة بالغة ،خشي ان يبكي فى تلك اللحظة فإن بكي سينكسر امامها وتتحطم خطته، ازاح يدها بقوة دون أن يلتفت لها وابتعد خارجا بخطوات سريعة انقلبت لهروب من نفسه وضميره، تسللت الرياح تداعب قطرات دموعها التى انسكبت على قميصه ولم تحف بعد فشعر ببرودة بظهره مكانها،انفجرت اسارير وجهه وهو يقود سيارته بهمهمات تخرج من قلبه المتحطم "سامحيني ياحبيبتي فلا يوجد لدي حلا اخر، انا ايضا انسان ولدي مشاعر واحتياحات"
( 1)
"أيتها البلهاء كيف تصدقينه انه ذهب إلى بلده من اجل عمل انه قاضي موظفا فى محكمة العاصمة ، لقد خانك يا غبية وتزوج...!! تزوج بابنة عمك الارملة ويقضي شهر العسل بسم النبي حرصه "
سقطت سماعة الهاتف من يد نجلاء بصدمة قاتلة مما استمعت اليه من شقيقتها، فتلك المكالمة أتت اليها من مسقط راسها بالإسكندرية . نعم تمنت لو تزوج لكي يحظى بطفل كما يحلُم، رغم انه لم يخبرها منذ عدة اعوام إنه يشتاق لطفل بين يديه كما كان يخبرها قبلا فهل كان يخطط لخيانتها بهذا الشكل، لا لا ليست خيانة فمن حقه ان يشرع فى الحصول على ما يتمني ،ولكن قلبها.. قلبها يحترق وهي تتخيله بين احضان امرأة أخري غيرها بعد ما قدمت له كل ذلك الحب تأتي أخري وتحصل على عناق منه بكل سهولة ،لا لا تشعر إنها ستموت بعد أن اهدته قلبها الهزيل بعشقه ،لم تعلم أن هذا الشعور سيحارب عقلها بتلك الاستماته ورغبة ملحة فى الحصول عليه لنفسها فقط ، انهمرت الدموع من عيناها بحرقة، وخرجت شهقات تذبحها غيرةً وشفقةً على نفسها حتي أصبحت دموعها تسبح على الارض تحيك لها فراشها على مأساتها هتفت والدموع تسبح على وجنتيها الحارقة بلهب الغضب والكره فى آن واحد "لما تزوجت يا عاصم.. ؟ لما خنت عشرتي بصمت ؟ هل أشفقت علي ؟ واحترمت رغبتك بفعلها سرًا؟ لقد كسرتني يا حبيبي.. اااه يا وجعي.. اااه..
(2)
فى الصباح الباكر، لم تذق طعم النوم منذ معرفتها بعقد زوجها على امرأة اخري، شهر كامل مر عليها غصبا بين حيرة ذهبها له أو بقائها دون أن تفصح له عن معرفتها بزواجه وتعيش معه على أنها لا تعلم ، فكرت بأن تساير الأمور ولكنها تشعر ان أرضها الخصبة احتلت من قبل إبنة عمها الارملة، بل وطنها بالكامل.. ، هل تزوجها لأنها سبق لها الانجاب ام فعل خيرا بضمها وابنائها له وكفالتهم؟. تشعر ان بداخلها حربا تريد اطفائها حتي لا تصيبها جلطة فمن حقها ان تذهب وتراه فقد اشتاقت اليه كثيرا بسبب غيابه عنها لأول مرة ، شهر كامل دون اتصال واحد، هل يخاف من مواجهتها حقا ،تريد أن تجعله يطمئن فهى فى صفه رغم وجعها.عزمت على الذهاب اليه لكي يطمئن ولا يغيب عنها اكثر، ستتعامل مع الموقف بهدوء دون غضب... أهم شيء عندها ان تبقي فى أحضانه كما تعودت منه ولا يتغير بتاتا معها والا ستنهار حتما.
استقلت القطار فى الدرجة الاولي تحدث فى النافذة وعقلها شارد في نصفها الاخر ، فكل لحظة تمر عليها كأنها يوما كاملا ، تشعر ان الطريق طويل وان ما يفصله عنها ليس ساعات بل بلاد ،هى ضعيفة جدا بدونه فهل احبته بجنون؟ أم أن فراغها وعاطفتها والشعور الامومة التى يقبع بصدرها يحتله الفراغ حتي مُلأ بالحب له فقط ،هى لا تمتلك اي شيء من حطام الدنيا لكي تحبه معه سوي شقيقتها التى عاشت طوال عمرها مع عمها فى الإسكندرية دون أن تقترب منها فأصبحت كالغريبة التى تتحدث معها كل سنة مرة ، فمن الصعب أن يكون لك قلبا كبيرا وعالمك فارغا يستوطنه شخصا واحد تفكر فيه يوما كاملا وهو لا يتذكرك الا حين عودته من العمل. طوال زواجها عانت من الوحدة فى الساعات القليلة التى يتركها عاصم فيها ،ارادته لي يبقي معها دائما دون أن يبتعد.. أحبته كحب الام لصغيرها، حب نقي دون شوائب لا تدري بما تسميه ، فكما سمعت إن أعظم حب فى العالم هو حب الام لصغيرها وهى لم تجربه..!! تعلم فقط أن ما يقبع داخلها كبيرا.. كبيرا جدا له ،
لذا داخلها قلبا ينبض بجنون لعاصم.. حبا عطوفا ستحبه وإن تزوج عليها واحدة او اتنين المهم الا يبتعد عنها ابدا ..
اتجهت إلى منزل والداه فى الإسكندرية ،وصعدت إلى الشقة فى الدور العلوي مسرعةً باشتياق، دقت باب الشقة بشكل متواصل ولم تتوقف الا عند استماعها لصوت المفتاح. نعم ستخبره إنها اشتاقت اليه وتريد عناقا طويلا.. طويلا جدا.. حتي تشعر بالدفء ويختفى شعور الصقيع الذي سقطت به فى ليال الوحدة في الايام الماضية، فتح الباب أمامها لتجده يقف منتصبا بصدمة ،وكأن ملامحه تخبرها انه ليس مستعدا بعد لمواجهتها، قالت مسرعة حتي تغطي على الحدث الصادم بعيناه " لا تقلق ليس عندي مانع يا عاصم من زواجك ، لو كنت استمعت لي قبلا لكنت حصلت على طفل الأن وأصبح فى الثانوية..!! لما عاندتني من البداية إن كنت تفكر بالزواج أصلا .؟
ملأ وجهه الغضب من استماعه لها وعتابها الذي وجده يطعن قلبه فلما هى تحاول أن تظهر بدور المضحية ؟ والتي تتنازل عن حقها..؟ هتف بغيظ وهي يجز على أسنانه" لم تتغيري أبدا يا نجلاء دائما تشعريني انني الظالم.. لهذا علاقتي بك لم تستمر.."
ملأتها الدهشة واستكانت لبرهة حتي هتفت قائلة بغرابة " لا أفهم... ؟ كيف لم تستمر...؟ أن كنت تفكر بما جال بعقلي من كلامك الغريب فأنت مخطأ.. لم أفكر فى تركك أبدا... ابنك سيكون إبني ،أنا لا حتاج إلى طفل... أنا احتاج إليك انت.. "
حاول كتم غيظه قائلا بهدوء.." أرأيتي..؟ لهذا السبب لم أكن أتحدث معك بأمور تخصني لأنني لم اشعر بالراحة أبدا معك.. ( تنهيدة طويلة قبل ان يضيف) نجلاء أنت طالق... "
جحظت عيناها ولم تستوعب ما يقوله فهرعت إليه قائلة بدهشة" ماذا ؟ ماذا قولت.. ؟..
حدق بها بقوة قائلا يتهجا حروف الكلمة باستفزاز "طالق"
ابتعدت عنه عدة خطوات ورمقته بحسرة دون تصديق بما تمر به، فهمس بصوت مسموع " تطلقني بعد ما فعلته من أجلك... أنا حتي لم أفكر فى الزواج بعد معرفتي بزواجك.. لم افكر بنفسي ابدا.. مثل ما فكرت بك وحملت حزنك علي عاتقي... هل تتركني بعد كل ذلك... ؟
ازدرد ريقه بصعوبة فغصة وقفت فى عنقه تذبحه ببطء، حاول أن يلم شتات نفسه قائلا بلهجة أمره" اخرجي من بيتي الان (أغلق عيناه بقوة وأطلق زفرة ثم اضاف بصوت مرتفع ونظرة عدوانية ) لا أريد أن أري وجهك مرة أخري... أنا اكرهك.. اكرهك..."
انهارت حين سمعت همهمات حولها من أقاربهم الذين تجمعوا بسبب صوتهم المرتفع، تساءلت فكيف يفعل بها كل ذلك وبعد تلك السنين ،ان لم يحبها حقا لما خان عشرتهما بالسراء والضراء ،همست بصوت منكسر" أخبرني كيف اتركك بعد العيش والملح الذي كان بيننا.. أخبرني كيف انسي ؟ عشرون عاما... انت تتحدث كأنهما يومين.. "
اقترب منها مسرعا وجذبها من معصمها بعنف وهو يحدث نفسه "إنت قوية يا نجلاء ستتحملين لو سقط جبل على عاتقك" ،نزل بها على السلم ولم يتوقف مهما نادته باسمه باستعطاف ،دفعها خارج المنزل قائلا بنبرة حاسمة" ستكون تلك آخر مقابلة بيننا المحامي سينهي الباقي.. أن كان لديك كرامة تعزك لا تحاولي الاقتراب مني.. فانا لدي عائلة الأن وزوجتي حامل..."
أخرستها آخر كلمة رغم الكلمات التى تملأ عقلها بالتساؤلات، صعد الي شقته ولم يعلم الحرب التي يشنها عقلها على قلبها اليتيم.
( 3)
بعد مرور خمس سنوات
امتلأت الزغاريد فى البيت المتهالك الذي على وشك ان تسقط حيطانه التى تأويهم من البرد القارص ، قدمت الداية توؤم عبارة عن فتاتين مشرقتان الوجه بسمرة خلابة مع دقة الحسن التى تتوسط ذقنهما بسحر خفيف يمتع من يراهما، ابتسمت نجلاء وهى تحدق بزوجها المزارع الذي اجتاز رحلة العمر بقسمات وجهه الطاعة بالسن رغم إنه في بداية الستين من عمره، كان زواجها منه اعجازا بسبب رفضها لزواج لأربع سنوات بعد طلاقها من عاصم ،هاهي بعد خمس سنوات تضع مولودتان بين راحة يدها بعد أن فقدت الامل تماما.
دخل الليل الثقيل عليها وهى تتوسط الفراش بجانب زوجها وتحاول ان ترضع الطفلتين، وقطرات دموعها تنهمر بحسرة على ما رأته عصر اليوم، ضمها زوجها بدفء قائلا ببعض الحزن "لا تقلقي إنه فقط عيبا بسيط أخبرني خالي انها حين تكبر سيحتاج إلى عمليه بسيطة وأن هذا العضو الزائد سيضمر ،أكد لي على أنها فتاة.."
ابتلعت دموعها وقالت ببكاء " ان خالك رجلا طاعن فى السن أشك انه لا يزال يري ؟ أرجوك فلتذهب إلى طبيب آخر.."
ازدرد ريقه بتوتر ثم قال مهدئا" لا تعتقدي لانني فلاح فأنا بذلك جاهلا .. أعلم جيدا ان تلك الأمور حساسة ولأ يجب ان يطلع عليها أحدا والا سندمر مستقبل البنت.. فقط ثقي بي.."
وضعت رأسها على الفراش تئن من الحزن وتحدث نفسها" لا أريد أن يشمت بي الآخرون وخاصة عاصم.. أريده ان يعلم أنني سعيدة ورزقت بطفلتين مثل ما رزق بولدان واعيش بسعادة مع زوجي، لا أريده ان يعلم ان إحدى بناتي مشوهة... اااه يلا حظي... "
يتبع..

سارة منصور دوار الشمس 21-05-23 10:27 PM

رد: رواية جديدة " لم تكن أنثى "
 
الفصل الثاني
العمر ما هو إلا رحلة تمر سريعا عبر تيارات الهواء المزعجة المليئة بنوبات الحسرة على ما فنى دون استشعار قوي بالسعادة التي لم تكتمل ،فالسعادة كشريط الأسبرين الذي يسكن الوجع قليلا فلا يلبس سوي ساعتين حتي يذهب المفعول ويعود الصداع باستمرار تقلبات الأوجاع.
تجلس فى القطار وهي تمسح دموعها التى تدفق من مقلتيها على عمرها الذي هرول سريعا، ها هى تدخل في العقد الخامس من عمرها ولم تلبس سوي اربع سنوات فى أحضان زوجها المزارع وقد توفته المنية دون سابق إنذار، لم تحسبها ابدا ولم تضع فى عقلها يوما إنها ستبقي وحيدة بفتاتين تربيهما بمفردها ،ليتها لم تتزوج وبقت عالة على نفسها ولا تحمل هذا القدر الكبير من العبء والخوف..!!! الخوف من المستقبل..؟؟ كيف ستربي تلك الفتاتان دون أب.. خمس سنوات فقط وأصبحت يتيمتين بل يتاما فهل تحسب نفسها ان لها أحد تستند عليه فى شدتها.. لا.. لم يكن لها أب أبدا ولم تشعر أبدا ان لها حليفا من عائلتها، فالأب الذي ترك أولاده وزوجته لأجل امرأة أخرى هل تراه يعود لأجل ان يتكفل بها الان ؟
وهل تعترف والدتها بها بعد أن تركتها الأخرى وهي صغيرة مع شقيقتها في منزل جدتها لأجل ان تتزوج ، هل تراها تعود اليها وهى بالخمسين من عمرها .؟
بسمة ساخرة مريرة خرجت من ثغرها وهي تتذكر طفولتها المأساوية المتشردة وهي تصارع على البقاء مع أبناء خالتها الشباب الذين كانوا يتربصون بها فى الظلام ..!!
عضت على شفتاها حين مرت ذكري عاصم، الرجل الذي احتواها بكل شيء منذ اللقاء الأول في الجامعة.. ربما كان هو رزقها وعوضها خلال العشرين عاما التي قضتهم معه.. هل كان حبه كثيرا عليها ليذهب خطفا منها فجأة ؟ ،عشرون سنة مليئة بالحب والحنان والرأفة والاحترام المتبادل، كل شيء جميل موجود بينهما.. كل شيء إلا الولد.. تمنت داخلها لو احبها نصف ذلك الحب ورزقهم الله بطفل،... اااه من وجع ينحر داخل قلبها الأن.... هي مؤمنة بأن لا شيء كامل في هذه الحياة ،فالكل لديه وجع يؤرقه وان تعددت الأسباب فالشعور واحد، وكم من الصعب أن يمتلك البعض كتلة اكبر من الآخرين داخل قلبه كالقنبلة الموقوتة التي تحرق كل ذرة دماء داخله وعلي وشك الانفجار سواء بداخله ام بضحية ما .
لم تستطع أن تكتم ثأر حزنها على نفسها وعلى تلك الفتاتان اللتان لا تعرف مسيرهما بعد وخاصةً تلك الابنة، ابنتها التى جعلتها تتمني لو لم ترزق بالأطفال أبدا بسبب تشوهها.
أغمضت عيناها بقوة وقامت بضم كتفي ابنتيها وهما يجلسا على فخذيها بالقطار لكي تستمد منهما القوي من حبهما الشديد لها.. منة وأمنية..** اسمان يشبها ما انتظرته طويلا* وما أجمل أن يسمي الشيء بما آلا إليه.
خرجت من شرودها على صوت صفارة القطار المزعجة التي اختتمت على هتاف احدي السيدات بحماس وهى تمر بجانبها مسرعة خارج القطار* " ها قد وصلنا إلى العزبة ... ارجوا ان يكون جدي سعيدا بمقابلتنا "* حدثت نفسها بحسرة " اتمني يا أمي ان تكوني تغيرتي عن الماضي"
* * * * * * * * * * (٤)
*بعد مرور عامين*
تصلبت قسمات وجهها وهي تتمعن في جسد ابنتها أمنية بصدمة وهى تحممها بالخلاء لتتأكد من شكوكها ،مالت* قسماتها إلى الحزن الشديد بعد ثوان لم تتخيل أبدا أن ما تخشاه يمكن أن يتحقق بتلك السهولة وهل يقف شيء امام القدر..
تابعتها أمنية وقد شعرت بالخوف من نظرات أمها لجسدها الصغير فهتفت " لما تنظري إلى هكذا يا أمي هل أبدو قبيحة وانا عارية إلى هذا الحد؟"
لم تستطع نجلاء أن تفصح عن كذبة أرادت ان تقولها لكي تطمئنها فانفجرت بدموعها ببكاء مسموع فتركتها وابتعد حتي لا تشعر أمنية بشيء ، تابعتها أمنية بعيناها ليصل إلى عقلها الصغير ان سبب حزنها هو وفاة والدها ، ارتدت أ ملابسها وخطت صوب نجلاء الواثقة امام نافذة الشرفة تحدق بالظلام خارجا، قامت أمنية بمسك جزء من قميصها بأطراف اصابعها بحنو قائلة بقسمات حزينة "لا تبكي يا أمي فأبي ذهب إلى مكان أفضل عن رب العالمين* ألم تقولي ذلك بنفسك.."
عضت نجلاء على شفتاها المتشققة تكتم خيبتها التى سقطت على رأسها دفعة واحدة، الا يكفي ما تمر به الآن مع اشقائها ؟ ، الا تستحق ان تأخذ راحة؟، فلا شيء فى حياتها الان يجعلها تتمسك بالدنيا، بل تتمني الموت.. ولكن..
مسحت دموعها عن خديها المترهل وعن عينيها المائلتين إلى أسفل، فقد نسفها الحزن نسفا ومحا جمالها، جثت على ركبتها وأقبلت تنظر بتمعن داخل عينا أمنية البريئتان، وهل هي أمنية حقا بعد ما حدث..!!
علمت منذ الوهلة الأولي ان تلك العينان ببريقها الشديد المتوهج باللون العسلي مختلف تماما عن منة ابنتها الأخرى ، بها شيء يخبرها إنها ليست...
بلعت الكلمة التى مرت بعمق عقلها قائلة بجدية تامة رغم عيناها الذابلة من كثرة الدموع** " أمنية... إنت بنت...."
ازدردت ريقها بتوتر لا تعرف كيف تفصح لها عما تراه* وهل تصمت ام تتكلم معها؟، لا تعلم اي شيء بل لا تعرف كيف تتصرف فى ذلك الموقف، ربما لو كان زوجها موجودا الان كان ليجد حلا ويتصرف، فهل الابتلاء يختبر قوة صبرها ؟ وهل ستصبح ضعيفة امام قرارها ؟
أضافت بتلكؤ* وهي تمسك بكتفي أمنية بقوة " أنت.... قوية جداا، أشعر انك اقوي مني.. بل... بل انتِ اقوي مني فعلا ، إن حصل لي اي شيء أريدك أن تحمي منة.. ولا تجعلي لأحد أن يراك ابدا، اخفي نفسك دائما وخاصة الجزء السفلي منك.. حتي شقيقتك.. هل فهمتي.. ؟"
شعرت أمنية بالخوف من نجلاء وقد انقلب توترها الذي ملأ محليتها فجأة* إلى نهرها اياها فهتفت أمنية بخوف وبصوت مرتفع " امي انت تؤلميني.. "
عادت نجلاء إلى وعيها لتجد ان اظافرها تنغرس في لحم طفلتها ،فأبعدت يدها عنها مسرعةً قائلة ببعض الندم تحاول جاهدة إن تخفي توترها" سامحيني حبيبتي.. أنا أخاف عليك "
ردت أمنية عليها تلقائيا " ممن يا أمي"
تساءلت في نفسها هل تخبرها وتنتهي من تلك الغصة التى بحلقها ام تصمت للأبد؟ ، الخوف عليها يشبه الخنجر المنغرس فى قلبها كلما يمر العمر يذبحه اكثر، حتي أصبح لدي التقاط نفسها مشقة من كثرة التنهد، أضافت أمنية بتساؤل فضولي وهي تجد عينا والدتها تحوم حولها بتوتر دون ردا واضحًا" أنا حقا لا أفهم شيئا ، ارجوك اخبريني يا أمي، هل انت خائفة لأنني لا اشبه منة"
ارتعشت يدها وهى ترفعها على وجنتي طفلتها وقلبها يرتجف برعب قاتل، لم تستطع شفتاها ان تجد إجابة لها تفسر عما يحدث وتلك الطفلة الصغيرة التي لم تتجاوز السابعة قد فهمت ؟ وما الذي تفهمه بالضبط ؟،
انتفض جسدها وسحبتها من يدها بقوة إلى تلك الغرفة المتهالكة المظلمة وهي تراقب بعينيها يمينا ويسارا إن كان أحد يتبعهما ام لا* فقد أصبح وسواسا قاتلا منذ أن جاءت إلى العزبة، اقتربت منها بقسمات جاحظة قائلة بخوف" هل رأتك.. منة؟"
تعلم جيدا ان طفلتها منة شديدة الذكاء بل نابغة إن رأت جسد شقيقتها ستبحث عن إجابة وتقوم بتوجيه الأسئلة* علي أي أحد أمامها لكي يجيبها باستفاضة* فهي كثيرة الأسئلة عما حولها بسبب فضولها الشديد فى تجميع معلومات..
ردت أمنية وقد ملأها الخوف من تصرف والدتها معتقده ان ما بجسدها خطأ كبير مستنتجه باختلاف جسدها عن شقيقتها " أنا آسفة.. لا أعرف كيف اتصرف..لا تبعديني عنك يا أمي لأنني لست شبه منة.."
اعتراها نوبة بكاء شديدة، كم شعرت نجلاء فى تلك اللحظة إنها هي الطفلة امام أمنية وليس العكس ،فكيف لذلك الأمر أن يكتشف منذ البداية بتلك السهولة، هي ليست مستعدة بعد..!!!
هدرت نجلاء بها بقوة وهي تهزها بعنف " اخبريني.. هل رأتك مِنة "
لم تتوقف أمنية عن إعادة كلماتها بالا تتركها ببكاء ، مما زادت العصبية بنجلاء لتقوم برفع يدها بصفعة على وجنة امنية بقوة، فعيناها تبحث عن إجابة مُلحه خِيفةً من تقرب منة لخالها وجلوسهما مع بعضهما بعض الأوقات ،أتت اليها بعض الافكار متسارعة إلى عقلها تنبض بخوف شديد، فهل تغير اخوها معها فى الأوان الاخيرة بسبب علمه بأنها تخبئ عنه سرا كبيرا كهذا..؟
هنا ظهرت منة الصغيرة قاصدة الغرفة المظلمة تهرع الي شقيقتها النائمة على الارض تبكي بحرقة ، فجلست بجانبها تخفي بجسدها الصغير ظهر شقيقتها هامسة بخوف " لا تضربي أختي.. اضربيني أنا .."
* * * * * * ** (٥)
*في منزل عاصم بالإسكندرية *
يضطجع* على فراشه بتعجب، ينظر لسقف غرفته شاردا في حياته ،فقد عوضه الله بولدين معافيين وفتاة تملك جمالا يضاهي جاذبية السماء المشرقة في الصباح الباكر عن صبره الطويل، شكر الله على نعمه الكثيرة.
بالرغم من شدة سعادته حين علم ان طليقته نجلاء تزوجت وأنجبت فتاتين إلا ان بقلبه حزن دفين على فقدانها لعناقها الدافئ الذي يبعد عنه صقيع الليل، ولكنه سعيد من أجلها ،فعندما علم من زوجته انها حامل، لم يسع العالم فرحته، أول شخص فكر به كانت نجلاء وحين رفع سماعة الهاتف ليتصل بها.. تذكر وجعهما المشترك فهى لم تكن زوجته فحسب بل كانت رفيقة دربه الطويل التي شاركته نجاحاته وآلامه..
لذا في أول مرة راها بعد زواجه بأخري* تمني لها السعادة هي أيضا فلم يهن عليه أن يكون سعيدا ينتظر مولودها* وهي تتألم بمفردها فمن المؤلم ان يعيش الإنسان بوجعين فى آن واحد وخاصة فقدان الثقة بخيانته لها ،يعلم جيدا انه خانها جدا.. خان حبها وصدقها* بل خان عشرة عشرين عاما.
تململ على الفراش بعد أن علم عن وفاة زوجها، اول شيء جال بخاطره ان يضمها وبنتاها اليه ليكفلهن، ولكن مهما يبحث عنهن لا يجد لديهن أثر مما زاد توعكه وصعوبة نومه، قلبه يتألم وهو يتذكر حكايتها عن عائلتها المتفرقة ،جاء بخاطره انهم لن يقفوا معها أبدا ، حتي انه لا يكف عن التواصل مع شقيقها الأصغر متسائلا عن مكانها* دائما الإجابة الوحيدة التي يخبره بها إنه* لم يراها منذ سنوات طويلة.
قام من مضجعه واتجه نحو الهاتف الخلوي بعد تفكير طويل، ليهمس بجدية* بعد ثوان من إجابة المتصل " جدد الوصية ... تلك العمارة التى أخبرتك عنها سابقا اكتبها باسم نجلاء....."
حمدا الله في سره ان احدي بطاقتها الشخصية القديمة معه محتفظة برقمها...
ليعلو صوتا قائلا من الهاتف بدهشة ردا عليه* " ولكن يا سيدي تلك العمارة ستكون مستقبل ممتاز للأولاد ان بنوا.."
قاطعه عاصم هاتفا بإصرار " سجل ما أخبرك به ولتذهب غدا إلى* المحكمة لتسجيل العقار ."
يتبع..

سارة منصور دوار الشمس 21-05-23 10:31 PM

رد: رواية جديدة " لم تكن أنثى "
 
الفصل الثالث
الهبة هي الهدية التي تُهدى إلى شخص غالي في حياتنا، ولكن هل يهدى القلب إلى الغالي مثل المال والهدايا ؟


في اعتقادها كان لا ولن وابدا، كل ما هو سلبى الآن دخل فى عروق عقلها الذي ينبض بأفكار تجعل الشؤم يكبر اكثر داخلها..


فابنتها التى سجلت فى المواليد بعد عمر لم تكن أنثى بل شاب مختبئ بجسد فتاة ، كل الدلائل كانت تشير انها انثي فى الماضي ولكن عند وصولها إلى مرحلة البلوغ أصبح الأمر صعبا فمراكز البلوغ فى الذكر بدأت تظهر عليها ،كل ذلك بسبب مجتمع ريفي فقير مهمل وخاصة ذلك الطبيب الطاعن فى السن الذي تسبب بمشكلة كبيرة، ربما لو كان سجل فى بطاقة الميلاد على أنه ولد كان الأمر سيكون أقل حرجا ،ولكن الطبيب تحجج على انه عضو صغير سيحدث به ضمور وأن الجهاز التناسلي الأنثى متكامل... !!


لذا نجح بطريقته المخادعة بإثبات انه أنثي دون معرفه أي أحد بهذا الأمر.


تجلس في شرفة المنزل بالعزبة، شاردة، واهنة من كثرة الهم القابع داخل صدرها ،ترفع كوب الشاي تشربه و عيناها الباهتة ترصد السماء والاشجار الطويلة التي تحوط البيت القديم ،لأول مرة تنتبه إلى جمال الطبيعة حولها والى زقزقة العصافير!!


لقد فقدت الحياة بالكامل منذ زمن وبقت كالجثة الواهنة التى تتحرك بحجارة ضخمة على ظهرها حتى انحني وهى لا تزال بعمر الستين...


عادت إلى وعيها بانتباهها إلى مكابح سيارة مرسيدس قديمة تدخل علي عتبة المنزل الريفي، رمقت ذلك الشاب صاحب الخامس عشر ربيعا بقامة متوسطة وشعر غجري قصير يخرج من السيارة بمفرده ويمشي بطريقه جعلت جسدها ينتفض، عيناه المليئة بالغضب ، نبرته المتماسكة دون رجفة بما يعتريه ، ثقته، شخصيته القوية ، لا تشبه الاناث بشيء.. بل لا يخاف من كشفه وهو يرتدي مثل الشباب!


اتسعت عيناها بذهول ،يكاد كوب الشاي يتحطم من شدة قبض أناملها عليه ،علا صوت الشاب قائلا بمرح "لما انت هنا الجميع يبحث عنك يا نجلاء"


يعلم أن والدته نبهته اكثر من مئة مرة ان يتصرف مثل ما كتب بالبطاقة "أنثى" بصوت رقيق وملابس فتيات مبهجة.. ولكن كيف... هو يري نفسه ذكر بكل شيء وان حمل داخله أعضاء أنثي إلا إنه يري إنها زائدة لا اهميه لها تذكر ،بالرغم من اشتغال كل أعضائه بوظائفه على أكمل وجه الا انه ناقم على تلك الحجه التى تقسم عليها والدته وهي إنه ستجعله فتاة مهما كلفها الأمر . عضت نجلاء على شفتيها بغضب حين أضاف "لما انت جالسة فى البلكونة طوال اليوم صامتة فى هذا البيت المتهالك.. ؟"


فى ضواحي حينا فتاة ساحرة


تسرق القلوب برقتها


تسرق العيون بجمالها


تخطف النفوس بعبيرها


صدرت تلك الكلمات من الراديو الموضوع على احدي الكراسي الخشبية القديمة بجانبها قاطعه عن صمت نجلاء بالإجابة ، لتسبل أهداب الشاب بإعجاب فأضاف بنبرة مسلية" هؤلاء الشعراء متباهون جدا... هل تصدقي إن فتاة تسرق نفس أحدهم..؟"


لم تعقب نجلاء فللأسف لا يزال مراهقا جدا على ما تريد أن تتفوه به، فأكمل الشاب باقي ابيات الشعر الغزل ولم ينتبه إلى قسمات نجلاء المستكينة التي تحبس غصبا يرجم بالنار ان اظهرته وتفوهت به، تعلم انه يجاريها بالكلام بسبب ابتعادها عن بيت عائلتها وذهابها إلى منزل والدتها المتوارث من ابيها العمدة لانه بيساطة لا يستمع إلى كلماتها المزعجة والى أوامرها التي لا تنتهي .


كز الشاب على اسنانه بغضب بعد أن رأي نظراتها الغاضبة قائلا بعصبية " طبعا ، لو كانت منة هنا لعودتي معها فورا اما أنا.." تنفس الصعداء ليضيف بهجوم " لما تفعلين ذلك.."


اشتعلت قسمات نجلاء بالغضب لتنتفض قائلة بجنون " انتِ السبب يا بنت ، ليتك موتي .."


ارتعشت شفته بتأثر ومالت عينيه إلى الحزن، يعلم السبب جيدا وراء عِندها الكبير ، لا يريد أن يتفوه بالمزيد فتكسر خاطره كالعادة، فاكتفى بقول " أمين.. أخبرتك قبلا لا تتحدثي معي بأنتِ"


تنهدت نجلاء ورمقتها بنظرات نارية قائلة بكلمات جحيمية بنبرة هادئة جدا." الا تخجلين من نفسك بشعرك القصير هذا ،وملابسك الرجولية... طلعتي نزلتي إنت فتاة اسمك أمنية.. فى شهادة الميلاد والبطاقة أيضا...لن أتوقف حتي أقوم بخصي.."


هتف أمين مقاطعا بنوبة غضب حتي بح صوته " توقفى... توقفي عن نطق تلك الكلمة... أنا رجل.. غصب عنك.. ، الا يكفى أنني لم أخبر خالي الا الان بسببك او اي احد اخر.. "


انتفض جسدها الواهن من ذلك الاعتراف الذي تخشاه فاقتربت عرجاء تخطو اليه بتعب حتي وقفت قبالته ومالت عليه ترفع يدها على صدره الممتلئ الذي يخبئه تحت ملابس رجالية واسعة ، ،وبحسرة تحت دموعه المنهمره وشهقاته ونظراته المليئة بالرجاء كي ترحمه قائلة " اذا هذا الصدر.. لما برز عن جسدك ان كنتِ ولد .. هذا صدر أنثى... هذا الذي سترضيعن أولادك منه أن شاء الله يا حمقاء..."ضربت عدة ضربات على صدره بحزن كبير وهى تحاول أن تمنع الدموع من السريان على وجنتيها المترهلة، امسك كفيها بقوة ودفعها بعيدا عنه، فشعرت بقوة جسده وعروقه، قال وهو يتجه صوب السيارة" ساخبر خالي بكل شيء هو سيساعدني..."


ارتجف جسدها وقالت تصيح بلوعة.." لا.. لا انت لا تعرفه.. سيقوم بفضحك..." حدثته على أنه ذكر دون أن تنتبه ليتوقف فجأة امام السيارة لتضيف بخوف وكسرة " ان أخبرته سأنتحر... وسأكتب على جسدني إنكِ السبب يا غبية "


نفس الكلمة التي تهدده بها منذ الصغر أهي تعلم قدر حبها لها لهذا تهدده بحياتها...؟


" ان مت فهويتك طمست.. لن يعترف بك أحدا.. البشر اشرار.. عودي أيتها الحمقاء "


تهتف بها بصياح بعد ركوب أمين السيارة وابتعاده، فهرعت وراءه بظهرها المنحنى تشير بيدها به لكي يتوقف ،ولكن لم يسعفها قوة التحرك لعدة الخطوات فسقطت على وجهها متأوه يوجع... لم تستطيع أن تتحرك بسبب عجز قدميها ووجع ظهرها.. فتململت على الجهة الاخري ووجها المليء بالتراب ناحية الشمس على نفس الوضعية .. وبعد دقيقة كاملة التقطت اذناها صوت سيارة، تساءلت ان كان أخبر اخيها بتلك السرعة ليأتي اليها مسرعا ؟.


شخص ما يجذبها من يدها، لم تري من هو بفضل أشعة الشمس المنعسكة فى عيناها حتي حملها على ذراعيه لتنبته إلى وجود امين الذي عامت دموعه على كل أنحاء قسماته حتي احمرت وجنتيه ،سمرته الخفيفة، محاسن وجهه بنقشات الفراولة على خديه ،


قال وعيناه لا تنظر اليها " لن اخبره بشرط أن تأخذيني إلى الطبيب.. وهو من سيحكم..أن كنت فتاة او شاب"


كتمت دموعها خوفا من ذكر اسم الطبيب، كم تتمني لو تكن فتاة مثل ما كتبت فى البطاقة حتي لا يحدث ما تخشاه ، بصوت واهنا قالت " لا تصدق تلك الكلمات المزيفة التي يخبرك بها خالك ،إنه شيطان سيقتلك والله ان اكتشف انك خنثى، ان مستقبله اهم منا كلنا، عنده الانتخابات رقم واحد بحياته، ارجوك عديني انك لن تخبريه يا امنية"


كم تؤلمها كلمة أمنية حين تقولها فلم تتمني أبدا ابنة تعاني من اضطرابات الهوية، وكأنه قراءها من عيناها التي ترنوا إليه عن قرب وهو يضعها داخل الفراش ، عض على شفتاه بتماسك قائلا بمرح خافيا شعور الكسرة التى بداخله" قولي لي امين اولا.. ثم نضع اتفاق بيننا. "


رفعت بصرها اليه بصعوبة متفاجئة من محو دموعه وقسمات الحزن فى ثوان لتبتهج ملامحه بتلك الطريقة فقالت بسخرية مريرة ألمته جدا " ليضع الله برودك هذا بقلبي، قبل ان اموت بجلطة...."


صمت لبرهة قبل ان تضيف "يا فتاة لو متِ أمامي الان لن اقولك لك سوي يا أمنية "


" لن تتغيري أبدا يا نجلاء. "


يهمس بها وهو يتجه خارجا ويضيف بصوت مرتفع وهو يقود سيارته " سنسافر السبت القادم عند الطبيب "



(6)


مساء يوم الجمعة


يجلس أمين على الفراش بأريحية فى الظلام شاردا فى أفق الغرفة الواسعة وأمامه تجلس فتاة في الخامس عشر ربيعا تشبه أمين لدرجة كبيرة فى ملامحه الناعمة ولكنها تختلف فى زواية عيناها الناعسة، تتصفح الكتب بجدية وتقلب فى صفحاته بانتباه، حدجها امين بنظرة جانبية هامسًا ينادي بعد صمت طويل. " منة... ؟... منة.."


انتبهت له شقيقته التؤم رامقه اياه بحنق لأنه انتشلها من غوصها في المذاكرة ،فتمتمت بصوت منخفض جدا" ماذا تريد يا احمق.. " ليرد عليها هامسا بقلق. " غدا سيتحدد مصيري.. حقا اتمني لو أخبرني الطبيب"


اجابته مقاطعة بحنق متناسيه تماما ان صوتها مسموع خارج الغرفة " لا تقلق أخبرتك مرارا انك شاب كل شيء فيك يوحي بذلك..".


أشار اليها امين منتفضا لكي تصمت، فرفعت يدها على ثغرها بصدمة ثم أضافت هامسة تطمئنه " لا يوجد أحد هنا سوي امي"


ازدرد ريقه ومال برأسه بعدم ارتياح مغمغما "صدقيني لا شيء يخيفني سوي أمك"


زفر بقوة قبل ان يضيف وهو يجز على أسنانه ناظرا إلى جهة الباب بقلق ." امك تقتلني يا منة.. لا تريد الاعتراف.. تقول إن خالك سيقتلني إن علم بالأمر"


تركت منة المكتب واتجهت إلى أمين فى الفراش تجلس بجانبه وتناظره عن قرب ثم تأبطت ذراعه قائلة باطمئنان." عزيزي تعلم انها خائفة.. أنا متأكدة إن أقنعها الطبيب ستوافق"


شرد امين فى كلامها وتخيل ما يتمناه لثوان فأبتسم تلقائيا وقال وهو يربت على ظهر يد منة" حقا انا اشعر أن هذا القلب قلب رجل..يكفي انك الوحيدة يا حبيبتي تصدقيني وتشعرين بي.."


ابتسمت منة واحاطت يدها بكتفي امين تهمس وهي تعانقه" أشعر بك صدقني ولا تحزن من امي هي تخاف.. اتعلم ان لها حق عليك.. وهي سيدة كبيرة .."


زفر امين قائلا بعدم رضى "لكن.. هي لا تفهم.. عقلها توقف عن العمل ولا تريد أن تصدق سوي نفسها.. لا تشعر باي شيء يا منة.. بدأت اكرهها."


فى تلك اللحظة دلفت بغتة نجلاء عليهما والغضب يملأ محياها وما زاده اكثر عجز وجهها من يراها يزداد نفورا وخوفا ،ارتجفت" منة" من رؤيتها بهذا الشكل وبدأ جسدها يرتعش بالكامل وهي بجانب أمين فقام بإمساكها وضمها لكي تهدأ قليلا قائلا بقلق يحاول أن يخفيه حتى لا تتوتر " لا تخافي منة هذا الموقف لا يستدعي.. اطمئني"


التقطت "منة" انفاسها بقوة وهي تشهق وكأن نوبة الصرع تعود اليها ،كتمت نجلاء غيظها خوفا على منة،واتجهت اليها لكي تهدأ ،لا يعلما السبب وراء الصرع الذي تعاني منه منذ الطفولة وجُبنها الشديد ، في طفولتها كانت طفلة نجيبة لا تتوقف عن إلقاء الاسئلة والتحاور والمجادلة، فجأة تغيرت وأصبحت جبانة جدا لا تذهب إلى مكان دون امين اونجلاء وان لم يكن فخالها..


وضعت "منة" باطن يدها على قلبها الذي يدق بهلع، ازدردت ريقها بصعوبة حتي هدأت قليلا..


نظرا اليها بشفقة كبيرة قبل ان تقطع نجلاء الصمت قائلة بغضب مكنون " نامي باكرا حتي نذهب إلى الطبيب فى الغد يا.... أمنية"


زفر بقوة وهو يتابعها تذهب إلى الفراش المقابل مع منة وتنام بقربها، فهتف قائلا بقلق. " لا تتنهدي كثيرا حتي لا تفزعي البنت ،حرام"


ثم وجه انظاره الي منة قائلا بتساؤل " هل انت بخير حبيبتي"


مالت منة رأسها بإيجاب، فطبع قبلة على جبينها وهي فى الفراش وخطى نحو الباب تحت نظرات نجلاء اللازعة، فهتفت وهو يضع يده على الباب " إلى أين يا روح أمك ؟"


انزل يده من على مقبض الباب هامسا بلا مبالاة" دقائق وسأعود ، لا تشغلي بالك "


رفعت نجلاء يدها قائلة بتعب


" يارب خدنى... لقد فاض بى..".


"يارب" لا يعلم كيف نطقها بتلقائية حتي أنب نفسه على نطقها داخله..


(7)


فى حياة كل شخص منا شرير يتمني زوال نعمتنا وقتل طموحنا ولكن غالبا لا يتشارك معنا الدماء، تلك المقولة لم يؤمن بها أمين بل يري ان والدته تحاربه منذ الصغر، فلم يري فيها سوي الغضب والمعاملة القاسية.


دخل إلى القطار وهو يمسك بيد نجلاء بقوة بسبب صعوبة مشيها وثقل جسدها ،أجلستها فى احد المقاعد الامامية، كلا منهما ينظرا إلى بعضهما بضيق، داخله يحدث نفسه بأن والدته يجب أن تزرع داخله الثقة ،لما لا تضمه إلا صدرها و تطمئنه... حنان الأم يسمع عنه لكنه لم يشعر به أبدا ،أراد لو يجربه لمرة واحدة ولكن الدنيا حاربته منذ الصغر . خرجت نجلاء عن صمتها قائلة بنبرة غريبة لم يسمعها أبدا منها " افعل كل ذلك لمصلحتك.. غضبي وعصبيتي عليك كان لمصلحتك.. يجب أن تسمعي كلامي أنا عجوز ومررت بكل شيء فى الدنيا اعلم حقائق الناس حولنا، وانتِ بلهاء تصدقين اي شخص وتثقين به .. لستِ ذكية أبدا.. بل بلهاء...


تنهد أمين وترك عيناه هى من تتحدث امام عينيها الباردة...


بعد ساعتين.. اطلق القطار صوت الصفارة ليعلن عن الوصول إلى القاهرة ،استقلا سيارة اجرة وقلبه يزداد فى الخفق بشدة كلما اقتربا من وجهتهما.


(ظ¨)


جلس امام الطبيب بتوتر بالغ ،نسى كل شيء مر به إلى الآن، الشيء الوحيد الذي يبحث عنه إجابة يريدها بشدة.. كان الطبيب شابا فى منتصف الثلاثين تقريبا ،لم يكن مهتما باحاديثهما فى البداية حتي تفاجأ من الطامة ، فطلب عدة فحوصات غريبة، وأمر احد الأطباء بأن يذهب معهما حتي تتم الفحوصات بشكل سريع...


طوال اليوم ينقلون من مكان إلى مكان حتي ينتهي من الفحوصات والتحليلات الدقيقة...


كان يوما طويلا جدا وكأنه سنوات ثقيلة بشدة حرارة الشمس ايضا، اكثر شيء آلمه هو تعرضه للفحص الجسدي بدقة، لم تعجبه نظرات الأطباء له العجيبة ولهفتهم عليه.


وبعد عناء يوم طويل....


جلس امام الطبيب الذي طلب الفحوصات وبجانبه والدته يحدقا به بانتباه شديد ،تنهد الطبيب وهو يري الفحوصات الكثيرة وظل صامتا لفترة وهو غارق داخل تلك النتائج .. ثم استأذن وقام بإجراء اتصال يظهر انه مهما جدا بمرور نصف ساعة تقريبا على تحدثه فى الهاتف . طلب الطبيب منهما ان يذهبا إلى حجرة في المشفى ينتظراه فيها ،كان القلق يدب في اوصالهما بخوف مرعب، وتساؤل رهيب فهل هناك علاجا لحالته ام سيبقي هكذا؟


وحين دخل الوقت إلى منتصف الليل دخل عليهما عدة اطباء... لم يشعرا بالراحة أبدا في تجمعهم ونظرتهم له ،أراد لو يحطم الطبيب الذي أمامه حتي يخبره بالنتيجة فهتفت والدته بثقة لطبيب الأول . " والله لو أخبرتني انها فتاة سأدعوا لك ولذريتك بدوام العافية طوال حياتي .."


رمقها احدى الأطباء الكبار بعجب ثم اتجه إليهما جالسا بالقرب منهما قائلا بدهشة " لأول مرة فى حياتي أقابل مثل تلك الحالة ،لهذا اخترت ان اساعدكم واجازف بكل ما املك"


بدى الطبيب مجنونا بنظراته المتلهفة على اي أجابه منهما ،وهما لا يفهما شيء من كلامه فسرقت الكلمة من على فيه أمين لتقول نجلاء بتساؤل ولهفة مُميتة . " ماذا تعني..؟ بنت ام ولد..؟ "


رد الطبيب بجدية دون إعطاء اهميه لسؤلها" فقط ستوقعين عقدا ينص على نشر قصتكما على التلفاز... هناك قنوات كثيرة سترحب جدا وايضا ستمدكم بالمال الوفير وسيدفعون ثمن الجراحة "


هنا هجم أمين على الطبيب من فوق المكتب قائلا بصياح شديد وقد فاض به القلق.." أخبرني هل انا رجل..؟ "


رمقه الطبيب بفزع من شدة صياحه، فعبس بنظارته الطبية قائلا بإعجاب كبير" انتِ قوية جدا...يا أمنية "


ضعفت يد امين فنزلت من على ملابس الطبيب بصدمة كبيرة وتلاشت كل أحلامه بينما أطلقت نجلاء الزغاريد من ثغرها بسعادة غامرة بصوت متحشرج بسبب كبر سنها ، ليضيف الطبيب قائلا بذهول يملأ محياه بعجب بعد إن عدل من ملابسه " الشيء العجيب انه يمكنه ان يكون رجلا أيضا... سبحان الله.. كنت أقرأ عن تلك الحالات لم أعلم انني يوما سأكون مشرفا عليها.."



يتبع..
رأيكم ����

سارة منصور دوار الشمس 22-05-23 02:13 PM

رد: رواية جديدة " لم تكن أنثى "
 
الفصل الرابع
الساعة ظ§صباحا
يجلس بجانب والدته في القطار بجانب النافذة التي تسطع منها أشعة شمس الصباح الباكر شديدة الحرارة، لم تستطع النافذة ان تمنعها فانعكست داخل بريق عينيه السوداء كالظلام الدامس ،وبالرغم من شدة الحرارة إلا إنه لا يشعر بها أبدا بسبب شروده الطويل فيما أفصح عنه الطبيب لهما من غرابة. مشط شعره الاسود شديد الكثافة بأطراف اصابعه يطرحه الى الوراء ولكن عاد شعره إلى وضعه بسبب نعومته البالغة، أسبل اهدابه بتوتر والتي لا تتغير عن كثافة شعره الثقيل فمن يراه يعتقد انه يضع كحلا حول عينيه التي تتسم بالجرأة فكانت تلك نقطة الاختلاف بينه وبين توأمته "منة" صاحبة العيون الناعسة والشعر الغجري الكثيف ، رفع يده على ذقنه مفكرا، يعلم جيدا ان ميوله ذكورية ولا تتناسب طرديا مع الاناث في اي شيء، تنهد بإرهاق من كثرة العوائق الموضوعة أمامه فعبس بشعره ذهابا وايابا بباطن يده بعصبية، لتنتبه والدته اليه وتفق من شرودها الأخرى ،فهمست بحسم واصرار بجانب أذنيه حتي لا يستمع اليها احد* " كلمة اخيرة... انت أمنية بنت بطني ،إياك و المحاولة باللعب بالنار ،وخاصةً مع خالك شريف ،أعرفك جيدا والى ما تخططين لأجله.. سأطلب حقي بالورث واعمل ليك العملية وسأزوجك أي رجل لأتخلص منك سريعا ،أي محاولة خبيثة سأقتلك بكلتا يداي هاتين" كانت نجلاء تشير بيدها وعينيها مشتعلتين بوقود الغضب ، ابتسم أمين ساخرًا يجيب عليها بثقة" لن أعمل أي عملية وسأبقي كما أنا ولن اتزوج ابدا وليكن بعلمك ان سمعت صيغة المؤنث وانت تتحدثين معي سأقول لخالي بكل شيء " زادت البسمة من حدتها على وجنتيه حتى انفجرت قسماته بالسخرية حين رأي ضعفها يعتلى محياها ولكنه قرأ بها شيء جعل الغصة بحلقه تزداد وثقته بنفسه تهتز عندما قالت بتماسك" على جثتي يا أمنية.. "
عبس وجهه بغضب وزفر بقوة ورمقها بنظرة تحدي مقابلة لنظرة انكسار غريب لم يراه من قبل داخلها، فقال وهو يمسح على شعره باستفزاز " الا يوجد لديك كلمة غير جثتي جثتي.. أن عمرك طويل يا نجلاء "
فى تلك اللحظة حدث زلزال قوي يضرب أرضية القطار فعلى صوت الركاب بصياح النسوة، مسكت نجلاء امين وكأنها تعانق يده خوفا عليه ،فالتفتَ اليها بقلق فجأة.. خرج القطار عن مساره لينقلب الركاب فوق بعضهم البعض وكأن السماء سقطت فوق رؤوسهم ، ارتطم أمين رأسه* بسقف القطار الحديدي* اثر انقلاب القطار فتلاشت الرؤية فورًا واخر ما سمعه هتاف والدته بهلع "أمنية".......*
* * * * * * ** (9)
بعد عدة أيام..
يدفن عاصم رأسه بين راحة يديه ثم يرفعهما ماسحا على شعره الشايب مفكرًا فيما ألت اليه الأمور، فبعد بحثه عن نجلاء بعناية علم انها تسكن في العزبة بجوار أخيها الصغير مع ابنتيها وعلى مشارف الموت بسبب حادثة القطار التي حدثت منذ فترة ونشرت فى جميع الجرائد. لا يعرف كيف يتصرف؟ ولما كذب اخوها عليه ؟ يشعر انه السبب بكل ما حدث، لو كان بحث بكل جهده عنها* لكانت* بقربه الان* وتغيرت حياته ولم تصبح مثل الصحراء الجرداء، اااه يا ويله من عقله العاصي الذي يأبى ان يرحمه حتى يغفو قليلا من شعوره بالذنب.. وإن تحرك الان اليها؟ لن تتعرف عليه فقد وصل اليه انها فقدت نعمة البصر، وكسيدة عجوز تنجو من حادثة القطار الكبيرة لهى معجزة إلهية ..إذا لما لا يتوكل على الله ويسافر اليها لعلها تنجو أيضا فالله قادر على كل شيء ؟ ،وأن فقدت البصر وأصبحت عمياء يكفي انها ستكون بجانبه وترعاه بقلبها البصير بالرحمة كما كانت تفعل بالماضي. أسند ظهره على مكتبة فراشه وهي يحن إلى الماضي فقد كان يتمنى طفلا يراعاه ويكون سندا له في كبره وبعد حصوله على اربعة أبناء من زوجته التي تكفل بها وبأبنائها الآخرون ، تأكد انه هو من كان يحتاج إلى الرعاية والحب ، فالكل مشغول بشعفه بالحياة، وهو متروك كاللقيط.. يأكل وينام بمفرده.. دون سؤال عن احواله ، وأن تحدث معه أحدهم يكون لأجل المصلحة ، وكأنه كتب عليه أن يكون مفردا فى كل شيء. في الماضي كانت نجلاء تعامله كطفل صغير ووضعت فراغ عطفها* قلبها له فقط دون حركة خبيثة منها كما فعل وتزوج من ورائها مع انها كانت سترحب بالفكرة. تنهد بحزن حين تذكرها وقت كانت تأتي بالطعام إليه في الفراش إن تأخر بنومه ،ولا تتناول اي شيء أبدا حتي* يعود من العمل ولو كان بعد منتصف الليل، تيقن الان انها كانت لا تبكي امامه ابدا ولا تتحدث معه في موضوع الخلف حتي لا تجعله يتحطم اكثر! علم انها كانت تخفى حزنها وتستبدله أمامه بنكات وضحكات مزيفة! ليس لأجل برودها وقوتها كما كان يعتقد بل لأجله.. ، لطم على وجهه باكيا بحسرة فهو من خسر بالنهاية..، المال والنفوذ والولد بحوزته ولكن لا يوجد بحياته اي حنية.. لا يوجد من ينتظر قدومه ليلا ويعانقه ويخبره بأنه أشتاق إليه... بكي أكثر وهو يري انه ظلم المرأة الوحيدة التي كانت تشعر به ، وتخاف على إحساسه ،قارن تلك المعاملة التى تلقاها منها بما يمر به الآن فقام بلعن أولاده ... أولاده الذين يعذبونه* بمطالبهم الكثيرة وجشعهم..* نعم يحبهم.. بل يعشقهم ..* وبعشقه قام بإفسادهم بكثره التدلل وهو من شرب من كأس الندم بمفرده...* و بحبه الذائد قام بتوليد شباب لا يعترفون بالمسؤولية غير عابئين لما يحدث حولهم...
وبتسلطهم على بعضهم والغيرة التى تنهش صدورهم بصراعهم على من يأخذ اكثر ينهار كلما يري كرهم لبعضهم يندم... يندم على كل دمعة ذرفها على الخلف..
وكيف يكون سعيدا وهو يري ان كل ولد فيهم يتربص للأخر بمكيده ، يعرف جيدا انهم مراهقون ولكن الأمر زاد عن الحده ولم يعرف كيف يتصرف* سوي بتقديم الأموال لهم.. ، لولا وجوده بينهم الان وتقسيم الإرث بينهم وهو لا يزال ينبض داخله الروح* لكانوا قتلوا بعضهم البعض..
تذكر ماضيه وكم كان يحب اخواته، لم يكره اي أحدا منهم مطلقا، بل مر العمر عليهم وهم يمدون لبعضهم البعض العون من فترة لأخري ، اذن كيف لهم** أن يرثون دماء الغضب والكره من والدتهم بهذا الغل الواضح ؟ لما لا يوجد شخص واحد يشبه بينهم؟.
استقلت الشمس بوابة الصباح لتصعد إلى الشرق بنعومتها المشرقة الدافئة، رفع كافة يده يشير بالسلام لسائقه الذي ينتظره امام بناية شركته، شركته التى كانت صغيره وعلى وشك ان تفشل، وهو بمجهوده الكبير وذكائه أوقفها على اعمده عقله النجيب من جديد لتصبح شركة ناجحة.. ولكن تسللها أعداء النجاح حتي يحصلون على أسهم اكثر للوصول إلى كرسي القائد، ولكنهم يفشلون بسبب حكمته ورزانته.
حدق بالسماء قائلا بوجه حزين عجزت قسماته بسبب وهن السن وبؤسه الذي فاق ظلام الليل " اعطيني يا رب على قدر نيتي"
* * * * * ** (10)
يفترش الارض بصقيع جدرانها الأربعة يحيط نفسه بكلتا ذراعيه المليئة بالكدمات الزرقاء اثر الحادثة وبدموعه المنهمرة يحيك غطاءا على جسده بآلامه لعله ينجو من ضميره الذي يحاربه بتلك الدعوة التى لفظها عمدا عليها ،وامامه" منة" الجالسة على الفراش تراقب نجلاء بانهيار، ينتفض جسدها مع كل شهيق تسحبه والدتها بصعوبة، تموت رعبا لو ماتت أو حدث لها شيء..
تخشي من فقدانها حد الموت فمن يبقي لها وهي تعلم أن امين لايزال يعافر في تقبل ذاته وعيبه...
شعرت انها ستفقد وعيها من آهات والدتها المرتفعة التي تصب داخلها بمرارة الفقد ،فبادرت بالاقتراب من أمين الغائب عن الوعي بعبارته التي تسبح على وجنتيه باندفاع منذ يوم الحادث، وبصوت متحشرج قالت " لا تخاف يا اخي ستنجو.."
حدجها بنظرة مهزومة يجيب بنبرة مبحوحة " انا.. السبب... أنا من دعوت عليها..."
سقطت عبرة من عيناها وقد بلغ بها التعب ،حاولت مدت يدها تربت على كتفه ولكنها فشلت فسقطت على الارض امامه تتشنج بنوبات الصرع مرة أخرى، انتفض من جلسته مفزوعا عليها ممسكًا إياها بحزن يلهب قلبه بشروخ تذبحه، حاول تهدئتها بنبرة مبحوحة من البكاء" منة.. لما تركتي الدواء أيتها المتعجرفة، من سيهتم بأمنا إن أصبحنا ضعفاء* "
كانت "منة" تصدر أصواتًا مبهمة وحركات لا ارادية وكأنها تصعق بالكهرباء فانهار اكثر واتجه مسرعا إلى الخارج ببكاء جارف لينادي على أحدهم لينقذه ، تصلب واقفا حين قام بفتح غرفة خاله الأصغر، حاول أن يكذب ما يراه أمامه ولكنه تأكد من نظراتهما الصادمة.. فقد كان يمارس الرذيلة مع الممرضة التي تهتم بوالدته، شعورا ما اعتراه في ذلك الموقف حين رأي الممرضة شبه عارية...
ظل واقفا متجمدا فى حركته عيناه متسلطة على الممرضة لا تتحرك ، هتف خاله شريف بغضب وهو يضع بعض الملابس على جسده* للممرضة" اخرجي من هنا أيتها الحقيرة".
ارتجف امين مصدوما من نبره خاله وهرع إلى الغرفة ليجد شقيقته* فقدت وعيها بالكامل ..
ووراءها والدته شاخصة البصر تتصارع على التقاط النفس..
فخرجت منه شهقة اخرسته..
* * * * * ** (11)
بعد مرور اسبوع
بعد صياحه الكبير علي والدته حين اخيره الطبيب بوفاتها فقد طراوة صوته واصبح مبحوحا لايقدر على التحدث بشكل طبيعي، كلما يتذكر والدته فى مخيلته يراها بقسماتها الحادة لا يتذكر لين وجهها وضحكتها مهما يحاول.. فهل عاش معها طوال الخمسة عشر عاما دون ابتسامة..؟.. وحين فشل لم يعد يشعر باي شيء لا بكاء لا حزن لا شيء وكأنه أصبح متبلدا.. فقط يعتريه احساس منذ ذلك اليوم الذي رأي فيه الممرضة مع خاله لا يعرف كيف يصفه أو ما هو هذا الاحساس من الأساس؟.
ومنذ ذلك اليوم وهو يراقب كل تحركات الممرضة وخاصةً حين تذهب إلى خاله الصغير في* مكتبه المقابل لسرايا العائلة ، ويراقبهما من فتحة صغيره قد أحدثها من الباب الخلفي... حتي جاء ذلك اليوم ورأي ما لم يكن بالحسبان...
يحدق بتوجس ويراقب تصرفات خاله المخلة بالممرضة حتي دخلت عليهما "منة" ورأت ما يفعلونه ،لم ينسي نظراتها لهما المليئة بالخوف .. ابتسم بسخرية وهو يراقب خاله يقوم بطرد الممرضة ونهرها بأفظع الالفاظ كما فعل قبلا حين كشفهما* ، ملأت الغيرة محياه حين رأي عطف خاله شريف على "منة" وعناقه لها بتلك المحبة ،فمنذ الصغر وهو يعاملها معاملة خاصة كابنته، دائما يأخذها ويقدم لها الحلويات ويهديها ملابس جميلة حين تنجح وتتفوق بالدراسة ، شرد أمين بالماضي فلم يُهدى اليه شيء طوال حياته أبدا غير ان معاملته له سيئة جدا كلها نفورا وغضب ..!!
عبست ملامح وجهه غيرة عندما سقطت عينيه على عقدا ذهبيا أخرجه شريف من احدى أدراج مكتبه ويقدمه اليها.. تساءل* فى نفسه ما الذي يغيره عن "منة"* أليس إبن شقيقته أم انه يشعر باختلافه...؟
عقد أمين حاجبيه وهو يري خاله يقوم بإزاحة الحجاب عن رأس "منة" تحت انتفاض جسدها الغير مفهومه ،ازدرد ريقه ببعض الغضب من شدة قبض خاله على لحم ذراعيها بتلك القوة وهو يقوم بسحبها حتي يضع عقد الذهب حول عنقها، فهمس بصوت منخفض بينه وبين نفسه " هل يعوضها بفقدان امي بعقد من ذهب؟ ... الغبية تبكي من شدة سعادتها.. ،اذن ماذا عني.. ؟."
جحظت عينيه فجأة حتي توقف عن الشهيق والزفير* وكأن الوقت توقف حين رأي يد خاله تنزل على مفاتن شقيقته بطريقة جعلت قلبه ينقبض ..
لم يشعر بنفسه وهو يتجه مسرعا إلى الباب الامامي وقلبه يخفق بجنون.. سيقتله.. نعم سيقتله دون أدنى رحمة.. هل يفتك عرض شقيقته بعد موت امهما ؟... ام كان يتربص بها منذ زمن.. ؟ هل كان سبب نوبات الصرع التى أتت اليها دون سبب مقنع..؟
جز على أسنانه ولا شيء يدور بعقله سوي القتل..
يسرع من خطواته وكأن نعاله يسبقه بالخطى.. توقف فجأة حين رأي تجمهر بعض الأشخاص امام الباب الامامي ورجل عجوز يقف امامه يهتف بأعلى صوته بنبرة قوية " اخرج يا شريف واجهني أيها الجبان.."
فتح أمين باب المكتب فهرع* يسحب شقيقته التي تختبأ داخل المكتب ممزقا العقد الذهبي الثمين وألقاه على الارض بعنف* ولم يعبئ لصراع الذي بالخارج..
امسك شريف ذراع امين يمنعه من أخذ شقيقته "منة" للخارج، وحين تقابلت اعينهما لبرهة.. تساءل امين ان كان يهلوس بسبب غيرته ...؟* فما يجول بعقله امر مستحيلا..!
كان الرجل يحدق بالتوأم بغرابة فهتف بعزم " اعطيني التوأم.. ولك ما تريد. "
كان شريف مصدوم من وجود عاصم أمامه ،فمصمص شفتاه بغضب* هاتفا به بتساؤل" من ادخلك هنا...؟"
ثم وجه انظاره إلى الحراسة بالخارج يضيف بأمر " اخرجوه من هنا.."
يتبع

سارة منصور دوار الشمس 22-05-23 02:14 PM

رد: رواية جديدة " لم تكن أنثى "
 
الفصل الخامس
يعلو صوت المذياع الموضوع على المكتب الخشبي الكبير بصوت المغنية اللبنانية "جارة القمر" تغني بنبرة هادئة تسكنها همسات البساتين اللطيفة" ضل افتكر فيى.. رجعت الشتوية.. يا حبيبى الهوى مشاوير.. وقصص الهوى مثل العصافير.. لا تحزن يا حبيبى إذا طارت العصافير.. وغنية منسية ع دراح السهرية "
ساد الصمت بين شفهاهم لثوان ولكن اعينهم جميعا بها صراع ،حرب، تحدى، يفصل عنهما نظرات التوأم المليئة بالحسرة والنفور..
جز شريف على أسنانه وهو يتربص بمكيدة لعاصم يخططها داخل عقله ومن جهة أخرى يراقب الحراسة تقترب من عاصم بحذر فقد اخبرهم قبلا ان اشار اليهم بسبابته بحركة معينة تعني ان يهجموا على الداخل بتوجس، فترقب الامساك به من الخلف وبيده الاخرى مقبوضة على ذراع امين بقوة.
نجحت الحراسة بالقبض على عاصم وكلا الرجلين اللذان اتيا معه من ذراعيهم، ففزع عاصم من تصرفهم الغير لائق فقد اتى لغرض نبيل، فهتف بغضب " لا تتسرع لتلقى الندم حليفك... انصت الى ما جئت لقوله.. لمصلحتك* ان اردت ان تكون الانتخابات عادلة "
عقد شريف حاجبيه بغرابة واراح قبضة يده عن ذراع امين* ثم رفع احدى حاجبيه بخبث أمرا حراسته "اتركوه".
كان عقل شريف يحلق عاليا مفكرا فيما يجول بعقل عاصم، يعلم ان بيده ان يفعل اي شيء يحطم سمعته وبكل سهولة فهو بموقف حساس جدا حاليا امام اهل بلدته، يحاول كسب نظرات الاستحسان اليه لتنجح خطته الخفية عن الجميع الى الآن رغم انه لم يتوقف بعد عن التهام عقولهم بالرشوة وفعل الخير.
يجلس بمكتبه بانتباه شديد يحدق بعينين عاصم البراقة بالغضب المختزن طوال تلك السنوات التي اخفى عنه طليقته نجلاء وحرمه منها لسبب لا يتوصل اليه مهما يفكر، فمن مصلحة شريف ان يتخلص منها حتي لا تكون عائق امامه وبناتها،* وبقسمات حديدية رمقه شريف قائلا بتحدي" افهم من كلامك يا عاصم انه تهديد؟ "
قاطعه عاصم بنبرة غاضبة حتى كادت عيناه تخرج من محجرهما " لما كذبت بشأن نجلاء..؟ "ارتسمت بسمة ساخرة على جانب فاه شريف بمكر" وهل أتيت بعد كل تلك السنوات متأكدا بانني كذبت عليك؟، ان كنت تريدها حقا لم تكن لتسألني على الهاتف
.. لا احد يبحث عن شيء يريده بحق وهو جالس مكانه يا عاصم بيه "
ران الصمت بينهما رغم شرارة اعينهما، لا يزال عاصم لا يفهم لما؟* يعلم ان عائلة نجلاء تخلت عنها منذ زواجها منت بل كانوا ينتظرون الخلاص منها ، لما الآن حين ارادها تمسكوا بها؟* الأجل الفتاتان ؟هل يخافوا عليهما منه؟* ربما..!!
لا لا كان ليعاملهما كأنهما ابنتاه ، لن يفرق بينهما وبين اولاده بدليل انه تكفل بأولاد زوجته؟، غصة بحلقه توقفت عن المرور لتبقى معلقة بسؤال يؤلمه فهتف به غصبا عن مكنونه فلم يريد ان تخرج منه تلك الكلمات فيبدو ضعيفا* "هل تراني ظالم لأنني طلقت نجلاء؟* ان اعتقدت ذلك فانت احمق برأس كلب.. لاني طلقتها لأجعلها حرة ولها حرية التصرف ان تحصل على ابناء مثلي تماما فلن اصبح ابدا سعيدا وهي بجانبي محرومة من طفل من رحمها
." مهلا.. مهلا.. توقف عن هذا الهراء... لا اهتم باعتقاداتك.. اعرف فقط ان كنت تحبها لما طلقتها "
يجيب بها شريف باستفزاز دون كلمة تريح بدن عاصم من عصف افكاره التي تحاول ان تلبسه الذنب رغم محاولته الدائمة بتكذيبها وتلبسها لمن حوله فلم يعد يتحمل اي قدر من الذنب بعد الآن.
اراح ظهره على الكرسي حين رأي داخل عينا شريف الشماتة والتلذذ بوجعه فتنهد قبل ان يقول بغضب اعتلا محياه بنبرة متملكة "اعطني التوأم" رفع شريف كلا مرفقيه وراء رأسه متنهدا باستفزاز وهو يرجع بظهر الى مسند الكرسي* فضحك بخفوت ساخر ثم قال بتعجب " حين رأيتك للمرة الاولى اعتقدت انك ذكى يا عاصم، وسألت نفسي ما الذي يجعلك تتقدم لخطبة نجلاء " رحمها الله" وهي ليست على هذا القدر من الجمال لتجعل شاب ذو مكانة مرموقة يتمسك بها حتى قام بقطع صلة رحمه،* والان.. عملت الاجابة... "
"لم اتي الى هنا للاستماع الى كلامك الفارغ" يصيح بها عاصم وهو ينتفض واقفا ويضرب على المكتب ببطان يده بقوة بفراغ صبر، فبادله شريف النظرات بأكثر حدة قائلا بحسم " التوأم اولاد اخي الكبير يا عاصم.. كما رأيت فتاة ترتدي فستان* والاخر فتى يرتدي بنطال بقصة شعر عصرية.. ونجلاء رحمها الله كان لديها بنتان "
عقد عاصم حاجبيه متسائلا بغرابة "كان؟"
حاول شريف قدر الامكان ان يرسم على قسماته الحزن بتمثيلية مكروهة قائلا وهو ينظر للأسفل بحزن " تعيش انت "
جحظت عينا عاصم من هول المفاجئة ليضيف شريف بمكر " لقد داس القطر عليهما ايضا".
"كذاب" يصيح بها عاصم مقاطعًا بها تمثيلية شريف وصدره يعلو ويهبط من موجه الغضب التي تهلك صدره العاجز امام كيد الشباب الذي يمارسه شريف، فرمقه بنظرات نارية واتجه صوب والباب وحين امسك مقبض الباب ليخرج التفت اليه وحدق به بقوة وكأن عيناه من تهدده بكلمات مقاتلة ولكن شعور يملأ صدره بالضيق الشديد فأفصح عما يشعر به بغضب "ستندم على لعبك معي" ثم خرج وهو يجذب الباب خلفه صافقا اياه بعنف شديد تاركا شريف يقهقه بسخرية، فكم يهوى ان يستشعر بؤس الآخرين من استفزازه،* فقد تربى بوسط عائلة متسلطة تهتم بالتسلق فوق اكتاف ضحاياهم دون فائدة تعود عليهم ، لهذا المرضي فاقدي الثقة بأنفسهم يغتنمون اصحاب الوجوه البشوشة لتحطيمهم حتى لا يروا اناس* افضل منهم بل يجب علي من حولهم ان يكونوا تعساء لا يشعرون بالسعادة ابدا.. فكم. عانى شريف في صغره من تلقى المعاملة السيئة من كلا ابويه دون سبب مقنع خاصةً ان ابيه كان يستفرد به ويزجره في القبو ويضع عليه ضغط عمله وخسائره على جسد الصغير.. لا ينكر انه كان قويا ليحتمل كل ذلك فلم يهلك بضعف جسده بل تولد داخله وحشا يريد ان يحطم من حوله سواء بسرقة فرحته ام بتحطيم افكاره بالسطو على ممتلكاته... فكان كل من حوله يعانون بسبب جشعه.
* * * * * * * * * (١٢)
داخل السرايا في غرفة نجلاء
ينتظر أمين ان تنتهي "منة" من شهقاتها تحت عيناه المحطمة بسبب ضعفه وحسرته أمام خاله وعقله الذي يصارع الافكار التي تلاحقه بالانتقام منه، ولكن الامر ليس هينا لكي يقتله ويهرب، بل ليس الامر بتلك السهولة، لطالما كان أمين عاقلا في قراراته صبورا بسبب ما مر به ، ربما لأجل ذلك لم يتهور بأي كلمة الى الآن، يعقد حاجباه مفكرا بما سيحدث ان هرب هو وشقيقته، فبعد ما رأه لن يبقي في ذلك المنزل لوهلة.
سقطة عبرة حين تذكر والدته وكم كانت تحميه بقلقها وبحثها الدائم عنه حتى اهملت "منة" ووثقت ببقائها مع خالها، اي شخص طبيعي لن يشك بشقيقه بأن يقوم بهلك عرضه مع فلذة كبده مثلا!، فدائما كان الاخ يحافظ على عرض شقيقته امام الآخرين اليس كذلك؟* اذا لما حصل معهما ذلك..؟* ام انها المرة الاول الذي حاول فيها شريف ان يلتهم لحم "منة "بعد موت سدهما؟
قال امين وهو يقترب من مجلس" منة" على الفراش* "هل حقا هي المرة الأولى؟"
ابتلعت "منة" غصتها غصبا وهى ترفع بصرها الى أمين وتسبل اهدابها بتردد يهلك بدنها من الخوف، اشاحت بعيناها فورا عن عينا أمين الغاضبة فملأ الخوف عروقها فهزت رأسها منافية بعصبية ليضيف أمين "اذا ما سبب بكاءك؟"
ابتلعت ريقها بصعوبة هامسة بتردد "امي".
" افهم من ذلك انك تستمتعين حين يتحرش بك شريف "
برقت عيناها متغلغلة بكسرة تتلاحق لتخفي قدر الامكان توترها تخشي على امين من ان يتهور فيقتله مثلا؟.. فجثت على ركبتيها ارضًا امامه وهو يجلس على الفراش قائلة برجاء وتمسك بيده وتهزها* "ارجوك.. لا تفعل اي شيء، سيقتلنا..؟* ارجوك.."
ببرود يحاول ان يرتديه رغم الثورة التي بداخله "الا تخافي علي ايضا...؟ الم تفكري بصمتك ماذا يمكن ان يفعل خالك بي* ويكتشف حقيقتي"؟
عبست ملامحها* فجأة وتوقفت دموعها واستكانت على الصدمة وهى تمتم" مستحيل "
ساد الصمت بينهما تعلم "منة" ان امين شخصا صبورا امام خصمه، يفكر ويفكر حتي يأتي بخطة محكمة حتي ينجح بهلكه دون ان يمسه سوء.
لمعت عيناها حين لمحت البريق بعيناه يقفز بحماس اشعل بدنها بالرعب.. نعم الرعب من المستقبل.!
ابعد يدها عنه وهب واقفا يرنوا اليها بصمت بعينا افعى مليئة بالخبث، يحدق بها من علو ارتفاعه وهى على الارض،* فرفع قبضة يده امام عيناه قائلا بكيد مغامر " اليد التى رفعت على اختي سيتم كسرها بقبضة اكبر من تلك ، قبضة ستنهى ما قدمه واخره فى دنياه* ". قامت" منة" بإمساكه من تلابيب اقدامه لكي تمنعه عن الحركة فنفضها بعيدا وخرج مسرعا وقد أتت اليه فكرة جهنمية.
* * * * * * ** (١٣)
بعد مرور يومين
كان أمين ينتظر كل ليلة ان يذهب شريف* الى صالة تجمع كبار البلدة* للتحدث بأمر انتخابات العمدة، فيدخل بين الاشجار متسلقا بحذر بينهما حتي يصل الى سقف المكتب عبر الباب الخلفي ،يعبس بين الحاجات حتي يقوم بالحصول على بعض الاوراق التي يمسكها على خصمه في الانتخابات لكي يضره، فقد كان يسمع حواراته بالهاتف مع اصدقاءه حين كان يتلصص عليه مع الممرضة.
وبعدان وجد بعض الاوراق التي تثبت صحة الاتهامات الملفقة على الخصم وضعها على بطنه واحكمها بحزامه واخفتها تحت ملابسه ، وحين ثبتها بإحكام عاد الى سقف المكتب متسلقا الاشجار برشاقة، وبأحدي فروع الشجرة لم يسعفه الامساك بها جيدا فكان على وشك السقوط لولا فرع اخر قام بالتشبث به ولكن سقط منه بعض الاوراق، فطارت بفضل نسمات الهواء الى مقدمة الباحة الخلفية المقربة من سرايا المنزل، عض على شفتاه بندم وخوف، ابتلع ريقه وهو يتنقل بين فروع الاشجار* وعزم على الوصول الى خارج السور وما ان اقترب ترك الفرع ونزل على قدميه بسبب تلاهيه بالورق* نزل على مرتفع قليلا عن السابق فألمته قدماه اليمنى، فعرج بحذر الى مقدمة السرايا وهو يمسك ركبته بألم.*
عدل من ثيابه نفض عنه التراب وقام بتسريح شعره* ولم ينتبه الى ورقة الشجر التي لصقت بشعره من الخلف وما ان اقترب من بوابة السرايا وجد فلاح غريب الهيئة يتجه اليه مسرعا قائلا له وهو يقدم له ظرفا " عاصم بيه يريد ان يقابلكِ ضروري"
ران اليه امين بغرابة مستغربا من ذلك الفلاح المتوتر بخوف قاتل فلم ينتبه الى تحدثه بسبب نبرته السريعة في تلاحق الكلمات ببعضهما* واهتزاز مقلتاه بخوف من ان يراه احد ، فأعطى الظرف لأمين ثم ابتعد الفلاح بلمحة البصر.
* دخل امين الى ساحة السرايا بخطوات بطيئة وهو يقلب الظرف ويحدق به بتساؤل ولم ينتبه الى شريف الواقف امامه فارتطم بصدره بقوة حتى رجع الى الوراء عدة خطوات، حدق به شريف والى بنطاله الرمادي يبدو انه رثا بعض الشيء.. هنا... ارتجف امين واخفى الظرف وراء ظهره كردة فعل صادمة فعقد شريف حاجبيه واقترب منه قائلا "لو ما عندك ملابس نظيفة اخبريني سأشتري لك حتي لا يقول الفلاحين ان ابنة اختي ملابسها رثة"
قال كلمته الاخيرة وهو يقترب من امين ويسحب يده التى تخفي الظرف وراء ظهره ثم سحبه منه بقوة تحت انهزام امين من جذبه، سيترك له الظرف فى سبيل عدم كشف الاوراق المخبئة تحت صدره..
قطع* شريف الظرف وأخذ الورقة يقرأها حتي ارتسمت على جانب شفتاه بسمة ساخرة ثم انتهت بقهقهة وهو يضيف " الاحمق عاصم طليق والدتك يريد ان يهتم بتربيتكما.. بحجة تعويضكما عن وفاة نجلاء "
التمعت عينا امين بالأمل فكانت تلك خطة شريف* فأضاف شامتا " طبعا* ، فرحت ولا تعلم ان ذلك الوحش يريد انت ينتقم من فعل والدتكما بتركه والزواج من اخر حتى تنجب.. هل تصدق انه تزوج عليها ولم يرد ان تتركه حتى تكون تحت رحمته وتربي له اولاده من زوجته كالخادمة " وصلت نشوة السعادة الى اعماق وجدانه وهو يري الامل المتولد حديثا داخل عينا امين ينحرق بشعلة الحسرة وتتيتم نظراته، فأردف ممازحا بسخرية " سأرسل لك فاتن بفساتين حتى ترتديهم فى حفل نتيجة الانتخابات " رد امين بقسمات غاضبة "مبارك لك يخال.. متأكد انك ستكون افضل عمدة "* قهقه شريف بثقة واسعة بينما تمتم امين وهو يتجه داخل السرايا "اعدك انني سأرتديهم في جنازتك وانا اتبول على قبرك"
انتاب شريف القشعريرة بتقزز وهو يراقب خلفية امين وهو يتوجه نحو الداخل هامسا بين نفسه وهو يعض شفتاه بحنق " لما اشعر بالنفور من تلك البنت.. اعوذ بالله، عيناها تستفزني، حين تنتهي الانتخابات سوف اقوم بتزويجها من ابن اخي حاتم حتى اتخلص منها وتكون غاليتي "منة" بقربي.
* * * * * * * * (١٤)
ليلة يوم الجمعة
ذهب أمين الى منزل اكبر اعداء عائلتهم، طبعا هو لا يعلم اي شيء يخص العائلة وبفطرته المراهقة يدور برأسه الخطة دون البحث عن ماضي ذلك الخصم، فذهب الى الغفير وطلب منه مقابلته بضرورة..
دخل الغفير الى ساحة المنزل فرأي الرجل المطلوب يجلس مع اصدقاءه يشربون الخمور والشيشة ويتحدثون بأمور مهمة، فأشار الرجل الى الغفير لكي يتحدث.
"* بنت صغيرة* يا بيه بتقول انها ستساعدك بالانتخابات بسهولة...* "
ابعد الرجل الشيشة عن فمه وحدق به باستغراب ومن برفقته فقال بتساؤل "بنت مين؟" رد الغفير بتلقائية "نعم بنت صغيرة ترتدي مثل الاولاد"
قال احد اصدقاء الرجل بفضول "ادخلها بسرعة"
خطي الغفير مسرعا نحو البوابة وفتحها ويرمق الفتاة باستهزاء قائلا "انت بنت مين؟"
دخل امين بثقة وهو يضع يده في جيبه مجيبا بتقليل شأن " وانت مالك "
"فتاة قليلة الرباية صحيح"
اشار اليه الغفير لكي يتبعه، تصفح الحديقة المطلة على المنزل .. كان المكان مظلما فى الشرفة الامامية لساحة السرايا، التقطت اذناه صوت اغاني تمتزج مع صوت صفير الحشرات، بعد ثوان اتضحت صوت الاغاني لست ام كلثوم وكلما يقترب يتضح الصوت اكثر حتى وصل اليه كلماتها تداعب اذناه بنشيج فخامتها رغم توتره مما هو مقدم عليه "يا حبيبي
الليل وسماه ونجومه وقمره، قمره وسهره
وإنت وأنا يا حبيبي أنا يا حياتي أنا
كلنا، كلنا في الحب سوا
والهوى آه منه الهوى
الهوى آه منه الهوى، آه منه الهوى، آه منه الهوى
سهران الهوى يسقينا الهنا ويقول بالهنا
والهوى آه منه الهوى* * " برقت عيناه بانتباه حين وصلا الى المكان ووجد من لم يكن يتوقعه، حتى رأه ايضا الاخر ينتفض واقفا يحدق به وكانه فاز باليانصيب، همس امين بتوتر "عاصم"؟
* * * * * * ** (١٥)
صباح يوم السبت موعد* نتيجة الانتخابات...
الساعة السابعة صباحا
يهدر امين" بمنة" لكى تصمت ولا تبكي اكثر حتى لا يستمع اليهما احد وهو يقوم بترتيب ملابسهما داخل حقيبة قد سرقها من خزانة خاله بالسر، فترمقه "منة" وهى تشهق بين قطرات دموعها هامسة بوجل* " من اين جئت بكل هذه الثقة بخساره خالك بالانتخابات " ترك امين كل شيء بيده واستدار اليها قائلا بصوت منخفض بعصبية "ارجوك دعينا نفر قبل ان ينتبه الينا الخدم، صوتك يبدوا مسموعا للحرباية تعلمين انها تنصت الى دابة النملة"
"حرام عليك يا امين، سنتشرد بالخارج، ولن يتركنا الخال"
حاول امين ان يكتم عصبيته وأخرج باقة من النقود من حقيبته فجحظت عينا "منة" قائلة بصوت مسموع "من اين جئت بكل تلك الفلوس؟* هل سرقت الخال ايضا؟"* اغمضت عيناها بالقهر وتساقطت العبارات بجنون ليكتم بيده ثغرها بقوة وبفزع هامسًا " ايتها الغبية السمجة سنقتل بسببك" مالت رأسها بإيجاب فتركها واكمل تعبئة الحقيبة بكل ما يلزمهما فتابعته" منة" بقهر دون ان تتوقف دموعها عن السيلان، فهمست بتساؤل" سأتبعك على شرط ان تخبرني ما هي خطتك "
انتهي امين من ترتيب حقيبته ولم يعد سوى تسللهما لخارج السرايا، كان امين قد خطط للهروب فالجميع مجتمع عند لجنة الانتخابات والسرايا فارغة ولا يوجد بها سوي الخدم والغفير،* وقد عزم على التسلل من الباب الخلفي..
فجذب "منة" من ذراعيها لكي تتبعه، فأبت ان تتحرك، وهمست تضيف وهى تمنعه عن جذبها "ان جئت معك الان ستموت.. صدقني اهرب انت؟"
سكنت ملامحه قائلا بعاطفية " مستحيل..؟* انا اهرب من اجلك* ...* لا استطيع ان اتركك فانت اختي.. قرة عيني.. توأمي.. صدقيني سننجو ثقي بي ارجوك.."
شهقة عبرت من ثغرها بانهزام فهمست اليه بعد ان شعرت أن احدهما يقترب من الغرفة " الى اين سنذهب؟ "
تنهد بارتياح بعد ان راي موافقتها فأجابها وهو يقبض على اناملها بقوة وكأنه يعترف انه بدونها لا شيء حقا " الإسكندرية... عند خالتنا "
يتبع


الساعة الآن 01:28 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية