على جناح تنين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أنا كاتبة جديدة في هذا المنتدى، لكني لست جديدة في الكتابة.. لي عدد من السنين أنشر رواياتي في مدونتي وفي منتدى آخر. والآن أحببت نشر هذه الرواية في هذا المنتدى آملة أن تنال إعجابكم ومتابعتكم.. قد نشرت هذه الرواية سابقاً في مدونتي، لكني ارتأيت أنها ستكون مناسبة لعرضها لكم هذه الرواية خيالية، تدور في عالم آخر يخلتف أو يتشابه مع عالمنا كثيراً هذا هو ملخص الرواية، وبالضغط على الصورة يمكنكم رؤية غلافها كاملاً http://4.bp.blogspot.com/-maLZ403WO7...el%2Bthumb.jpg هذه خارطة خاصة بهذا العالم ويوضح أهم الأماكن فيه خارطة الرواية سأنشر فصلين معاً اليوم، وسأبدأ بنشر بقية الفصول يومياً بإذن الله حتى انتهائها فأتمنى منكم المتابعة والتعليق على ما تقرؤونه.. وأتمنى أن يعجبكم المحتوى.. الفصل الأول الفصل الثاني الفصل الثالث الفصل الرابع الفصل الخامس الفصل السادس الفصل السابع الفصل الثامن الفصل التاسع الفصل العاشر الفصل الحادي عشر الفصل الثاني عشر الفصل الثالث عشر الفصل الرابع عشر الفصل الخامس عشر واﻷخير فصل إضافي1: حكاية جايا والمنقذ الأسطوري فصل إضافي 2: حكاية غياث http://1.bp.blogspot.com/-jfbUir7Juf...400/break2.png |
رد: على جناح تنين..
الفصل الأول: مستقبل لا أريده في عالم آخر.. عالم بعيد أم قريب، لا أحد يعرف.. في عالم شاسع، مكوّن من قارتين عظيمتين تحتلان ذلك العالم.. في ذلك العالم، انقسمت الأرض بين مملكتين عظيمتين هيمنتا على تلك القارتين وفرضتا سيطرتهما شبه الكاملة.. في مثل ذلك العالم، ولاء المرء لا ينقسم إلى اثنين.. فإما أن يكون موالياً لمملكة (بني فارس) التي سميت بهذا الاسم نسبة لموحدها فارس بن ظاهر، والتي ملكتها عائلة عريقة من الملوك الأقوياء.. وقد اشتهرت المملكة بمساحتها الكبيرة التي تغطي أغلب إحدى القارتين المكونتين لذلك العالم، وتسمى القارة العظمى.. فمنذ نشوئها، توسعت مملكة بني فارس وهي تلتهم الممالك والولايات الأصغر والأضعف حجماً بكل شراهة.. ولم يسلم من سطوتها إلا بضع ممالك صغيرة وقبائل غجرية في شمال وشرق المملكة في الأماكن الأكثر وعورة وقسوة في المناخ.. وفي الجزء الغربي من القارة الأكثر غنىً بثرواتها الطبيعية، استقرت العائلة المالكة في مدينة كبيرة اتخذتها عاصمة للمملكة، وسميّت (الزهراء)، والتي ازدانت بمساحات شاسعة من الحدائق الغنّاء بأشجارها المثمرة وشجيراتها الزاهرة، وشيّدت فيها المباني الفخمة والساحات المنظمة والشوارع المرصوفة حتى تعارف على تسميتها بزهراء الممالك لجمال أحيائها وتنظيمها وفخامة قصورها.. أو يكون المرء موالياً لمملكة (كشميت) الواقعة في قلب قارة الثنايا، وهي مملكة محبّة للعلوم والفنون وجميع أنواع المعارف.. شُغف ملوكها بالتطوير والتعمير، وقاموا باستقطاب أصحاب الفنون والعلوم لتطوير مملكتهم، بحيث أصبحت العاصمة التي اختاروها والتي سميّت (كاشتار) مطمحاً للعلماء وأصحاب المعارف المختلفة، وسرت شائعة أن كل من يملك علماً يعامل بأفضل مما قد يجد في باقي ممالك العالم.. ورغم أن ملوك (كشميت) لم يكونوا من عائلة عريقة بل مجهولي الأصل، فإن حكمهم القوي قد جعل من مملكتهم تتمدد حتى تكاد تغطي على قارة الثنايا بأكملها.. وكما هو معروف ومتوقع، فإن عداءً قوياً قد تأصّل بين المملكتين لاختلافهما في الأهداف والتطلعات، وامتد ذلك الخلاف لمئات السنين واستهلك عشرات وآلاف الأرواح والممتلكات في حروب ضارية خاضتها المملكتان دون تردد.. ورغم أن الحرب الأخيرة، التي انتهت باتفاقية مؤقتة للسلام، مضى عليها ما يزيد على خمس وعشرين عاماً، إلا أن مثل هذه الاتفاقية لم تتمكن من إرساء سلام كامل في العالم ولم تهّدئ القلاقل التي تحدث بين وقت وآخر عند أطراف المملكتين وعبر بحر السلام وهو بحر يفصل بين القارتين ويحمل في اسمه أمنية تمناها الأجداد.. بأن يسود السلام بين المملكتين وتنقطع الحروب الشرسة بينهما والتي أزهقت أرواح المئات من أبنائهم ودمرت القرى الواقعة على ساحل ذلك البحر من جهتيه.. وبسبب هيمنة هاتين المملكتين، وجدت الممالك والدول الأصغر والأقل تأثيراً أنها مجبرة على تحديد ولائها لمن يملك مصالحها أو من تخشى من بطشه أن يطالها ويتهدد أمانها.. وهذا كان حال مملكة بني غياث الصغيرة التي تحتل جزيرة لا تتجاوز مساحتها مساحة إقليم من الممالك الأكبر حجماً، وتحتوي على أقل من عشر مدن رئيسية وبعض القرى المتفرقة ومساحات جبلية احتلت معظم تضاريس الجزيرة.. مما جعل معيشة سكانها صعبة وقاسية، وجعل المملكة فقيرة وذات اقتصاد ضعيف.. وفقرها هذا جعلها غير قادرة على بذل المال لتجهيز جيش مدرب بعتاده لحماية المملكة من أي عدو يهدد أمنها وسلامة شعبها.. وهذا جعلها بحاجة ملحة لحليف قوي يدرأ عنها الأخطار ويساندها في أي أزمة تمر بها.. كانت عاصمة تلك المملكة هي (بارقة)، والتي أسماها ملوكها السابقون بذلك لأن القادم إليها يرى أول ما يرى انعكاس الشمس على بواباتها الفضية الضخمة.. هي مدينة كبيرة الحجم وتبزّ باقي مدن المملكة مساحة وفخامة.. لكنها أصغر بكثير من مدن الممالك الأكبر وتبدو كمجرد قرية صغيرة جوارها.. لكن الملك حاول جهده للتغلب على ذلك بالكثير من البهرجة والفخامة في قصره الملكي، بالإضافة لابتداع الكثير من المراسم الخاصة به وبالطبقة العليا لا هدف لها إلا إضفاء أهمية مزعومة على مملكته وعلى شخصه.. كان ملك مملكة بني غياث، قصيّ الرابع، رجلاً في الستين من عمره، بطباع جافة ومزاج عصبي وتسلط ظاهر، لا يتردد في عقاب من يخالف قوانينه محاولاً وأدَ أي اعتراض قبل أن يتفاقم لثورة تطيح به وبعائلته.. وكان يملك عائلة كبيرة الحجم بالنسبة لملك مثله، مكونة من زوجتين أنجبتا اثنا عشر ابناً وابنة بالإضافة لصبيين صغيرين أنجبتهما إحدى جواريه.. وقد تراوحت أعمار أبنائه بين الثالثة والثلاثين، وهو عمر أكبر بناته، إلى السنتين، وهو عمر الصبيين التوأمين اللذين أنجبتهما الجارية.. ورغم العدد الكبير لأبنائه، إلا أن الملك لا يكاد يذكر من أبنائه إلا اسم وريث مملكته، غياث الثاني، والذي يعدّه ليحكم المملكة من بعده آملاً أن يتحقق هذا بعد زمن طويل وعمر مديد.. ولا يكاد يذكر من بناته إلا من احتاج تزويجها لشخص ذي مكانة تمنح ملكه شيئاً من القوة أو تمنحه حليفاً جديداً.. لذلك، عندما تردد اسم ابنته السابعة على شفتيه، فإن الأخبار طارت بسرعة البرق في قصره الفخم الذي احتل مساحة يعجز الشخص العادي في تلك البلاد من تصديقها.. هلّلت زوجته الثانية لهذه الأخبار، وهي أم الإبنة السابعة.. بينما تراوح انفعال أخواتها لهذا الخبر بين سعادة لما يعنيه ومط شفاه بغيرة وحسرة.. ومع نهاية ذلك الأسبوع، كانت العاصمة تقيم احتفالاً باهراً عمّ أرجاءها وأحياءها باختلاف طبقاتها.. ولم يكن هناك سبب معروف لهذا الاحتفال، إلا إظهار البهجة والمبالغة بالترحيب بموكب خاص وبادي الأهمية على وشك الوصول لأبواب العاصمة.. فخلال الأيام الماضية، أمر الملك بالشوارع أن تزيّن والمنازل أن تجمّل والمصابيح الزجاجية الملونة أن تعلق في أغلب الأحياء التي سيمر بها الموكب.. انتشرت شجيرات الورد الزاهية حالّة محل الشجيرات التي ذبلت لعدم العناية بها، وازدانت المدينة بشكل لم يُرَ مثله من قبل.. ولما تساءل أحد الشباب بتعجب لرؤية التغيير الذي حدث للمدينة خلال أيام قليلة "ما الذي جرى؟.. من النادر أن يبذر الملك أمواله في تزيين المدينة وبهرجتها بهذه الصورة مهما كانت المناسبة.." أجابه آخر وهو يتأمل الأعلام الزاهية التي تم تعليقها في مواقع متميزة "ألم تعلم؟.. موكب ملكي قادم من مملكة بني فارس لزيارة الملك.. ويبدو أن أنباء تتردد عن رغبة ملك مملكة بني فارس، الملك عبّاد، مصاهرة ملكنا بتزويج ولي عهده من إحدى أميرات مملكتنا.. لهذا يظن الملك أن رمي هذه الأموال في احتفال فارغ لإبهار ضيوفه سيعود عليه بفائدة عظيمة.." قال الأول بدهشة "وما الذي يجعل ملك تلك المملكة العظيمة يسعى لمصاهرة ملك مملكة صغيرة ومتواضعة كمملكة بني غياث؟.. ما الذي سيجنيه من هذا؟" ربت الثاني على كتفه قائلاً بابتسامة "وما الذي يهمك من هذا؟.. المهم أننا سنحصل على طعام وشراب مجاني هذه الليلة.. وسنرقص حتى الفجر.. فكن مستعداً.." غمغم الأول وهو يتبع رفيقه "لكن ما يجري لا يمكن ابتلاعه بسهولة من ملك بخيل كملكنا المبجل.." وفي جانب من قصر الملك، حيث الخدم والخادمات يعملون بأقصى سرعتهم استعداداً لذلك الاحتفال ولاستقبال الضيف في أبهى صورة، اندفعت إحدى الخادمات عبر أرجاء الحديقة هاتفة "مولاتي.. مولاتي أين أنت؟" وتوجهت لأحد الخدم حاملة تساؤلاتها بقلق شديد، لكن الخادم نفى معرفته بموقع من تبحث عنها.. ولما ابتعدت الخادمة صاح خلفها "ابحثي عنها عند الحظائر.." حوّلت الخادمة وجهتها نحو الحظائر التي كانت تحتل الجهة الجنوبية من حدائق القصر الواسعة.. وقد استغرقها الأمر عدة دقائق لتعبر طرقات معقدة وسط حدائق مزينة بشكل هندسي جميل، تقودها إلى الحظائر والاسطبلات التي تحتوي على عدد لا يحصى من الحيوانات اللازمة لإعاشة المئات الذين يعيشون في القصر، بالإضافة لعدد كبير من الخيول الخاصة بالملك والأمراء والتي خصص بعضها لجرّ العربات الملكية.. وقرب أحد الإسطبلات، رأت ما جعلها تقترب منه هاتفة "مولاتي...؟!.." رأت، عند كومة من القش، تلك الفتاة التي استلقت قربها وهي تضع كتاباً بالي الأطراف تغطي به وجهها من أشعة الشمس التي كانت على شيء من الحدة، بحيث لا يبدو من رأسها إلا تلك الخصلات الكثيفة المتماوجة، وتعقد ذراعيها على صدرها بسكون تام.. وقربها قبع كلبٌ ضخم بشعر طويل بني يكاد يغطي عينيه وهو يستلقي بصمت وسكون.. اقتربت الخادمة من الفتاة هاتفة "ما الذي تفعلينه هنا يا مولاتي؟" فتحت الفتاة عينيها شيئاً ما وهي تزيح الكتاب عن وجهها وتقول بصوت ناعس "ما الذي ترينه؟.. أستمتع بغفوة تحت أشعة الشمس الدافئة.." قالت الخادمة باستنكار وهي تغطي أنفها بكُمّ ثوبها "في هذا المكان؟.. كيف يمكنك احتمال هذه الرائحة من الحظائر القريبة؟" لم تعرها الفتاة اهتماماً وهي تغمض عينيها وتستسلم للنوم من جديد، لكن الخادمة اقتربت منها وقالت بإلحاح "مولاتي.. عليك أن تعودي للقصر حالاً.. أمك الملكة الثانية تطلبك حالاً، وعلينا ألا نجعلها تنتظر.." قامت بطرد الكلب الذي أصدر زمجرة منزعجة وهو يبتعد خطوات ويجثو في موقع آخر، بينما قالت الفتاة بضيق "ما الأمر هذه المرة؟.. لمَ عليكم أن تقاطعوا غفوتي بشكل يومي؟.." قالت الخادمة بعصبية "مولاتي الملكة ستعاقبني إن لم أعد بك حالاً.. أرجوك يا مولاتي لنعُدْ للقصر.." نهضت الفتاة متأففة والخادمة تنفض القش الذي علق بشعرها وهي تقول بحنق "كيف يمكنك أن تفعلي هذا بنفسك؟.. وفي يوم مهم كهذا اليوم.. لن يكفينا الوقت لتجهيزك بشكل ملائم قبل وصول الضيف.." نظرت لها الفتاة بغير فهم متسائلة "أي ضيف؟" قالت الخادمة بضيق "مبعوث مملكة بني فارس، والذي أرسله الملك عبّاد لطلب يدك من والدك الملك.. أنسيتِ الأمر بهذه السرعة؟" هزت الفتاة كتفيها معلقة "لا.. لكني ظننت أن سمعي قد خانني عندما ذكر أبي الملك اسمي في ذلك اليوم.. لابد أنه لم يكن يعنيني بتاتاً" عقدت الخادمة حاجبيها قائلة "كيف يمكن أن يخطئ الملك في أمر كهذا؟.. كفاك تجاهلاً للأمر ولنسرع.." دفعتها الخادمة نحو القصر وهي تنفض ملابسها مضيفة "مولاتي الملكة الثانية شديدة العصبية الآن.. يعلم الله ما الذي ستفعله بنا لكل هذا التأخير.." زفرت الفتاة وهي تسير خلف الخادمة ضامّة كتابها لصدرها.. ماذا لو تركوها تستمتع بغفوتها تحت أشعة الشمس لمدة أطول؟.. ألابد أن يعيدوها لذلك القصر البارد بهذه السرعة؟.. وكأنهم يستكثرون عليها متعة صغيرة كهذه.. ********************* "رنيم.. ألم أطلب منك مراراً الكف عن الذهاب للحظائر؟.. أنت أميرة ولك مكانتك.. ألا تخجلين من هذه الرائحة التي تخلفها الحيوانات على ثيابك الغالية؟.. هل يعقل أن يصدر هذا من فتاة على وشك الزواج من وريث مملكة بني فارس؟.." وقفت الملكة الثانية على شيء من المبعدة وهي تغطي أنفها باشمئزاز من الرائحة التي غمرت الجناح الواسع، بينما قالت رنيم وهي تنزع ثوبها الطويل محتفظة بقميص داخلي يصل لركبتيها "لا يهمني اشمئزازكم من هذه الرائحة.. أنا أستمتع بوجودي هناك أكثر من وجودي في هذه القصور الخانقة.." لوّحت الملكة بيديها لوصيفتها وهي تقول بضيق "كفى هذراً.. اذهبي للاستحمام بسرعة وارتدي الملابس التي أعددتها لك.. لم يبق إلا القليل على وصول الضيف، وبعد لقائه بالملك سيطلب مقابلتك بالتأكيد.." دمدمت رنيم متذمرة وهي تسير مجبرة خلف وصيفتها الخاصة، بينما رفعت الملكة الكتاب الذي وضعته رنيم جانباً قائلة باشمئزاز "ولازلت تُتْلِفين عينيك بقراءة هذه الكتب البالية.. إن رائحتها العفنة ستلتصق بأصابع يديك التي من المفترض أن تضوع برائحة أفخم العطور.. عليك أن تكفّي عن هذه الهوايات الغريبة.." ورمت الكتاب من نافذة الجناح العريضة بينما رنيم تهتف محاولة الإمساك به "لا تفعلي هذا.. إنه كتاب قيّم.." قالت الملكة بصرامة وهي تواجه رنيم "الكتاب الذي سأعثر عليه بين يديك في المرة القادمة سأقوم بحرقه.. أتفهمينني؟.." واستدارت مغادرة وهي تقول للخادمات بعصبية "أين رئيسة الخدم؟.. أحضرنها لي حالاً.." التفتت رنيم لوصيفتها وهي تقول بلهجة منذرة "لو لم يعد لي الكتاب خلال لحظات فسأقتلك يا صفية.. أفهمتِ؟" ابتسمت صفية وهي تدفع رنيم ناحية الحمام الفخم الملحق بجناحها قائلة "حاضر يا مولاتي.. أتظنين أنني لا أعرف ما عليّ فعله بعد السنوات التي قضيتها في خدمتك؟" وبإشارة من يدها، انطلقت خادمة أخرى لاستعادة الكتاب وإخفائه عن عين الملكة المسلطة على رنيم.. أما الملكة الثانية، ففور مغادرتها الجناح المخصص لابنتها فوجئت بضرّتها، الملكة الأولى، تقترب منها وخلفها حاشيتها دون أن تحاول إخفاء ملامح الامتعاض من وجهها.. فاضطرت الملكة الثانية للانحناء للأولى التي تفوقها مكانة ومنزلة في القصر.. بينما تجاهلتها الأولى وهي تقول بصوت بارد "هل استعدّت ابنتك المتشردة لاستقبال الضيف؟.. لم يبقَ الكثير على وصوله.." قالت الثانية بثبات "لا تقلقي أيتها الملكة.. ستكون ابنتي بأفضل هيئة عند قدوم الموكب الرسمي لمملكة بني فارس" مطّت الملكة الأولى شفتيها معلقة "عليك تنبيه ابنتك ألا تتصرف كعادتها بكل خرق ولا مبالاة.. لا أريد أن تسبب الحرج للملك أمام ضيفه.." قالت الثانية بحزم "رنيم تعرف كيف تتصرف كأفضل من أي أميرة في القصر عندما يستدعي الأمر.. فلا تشغلي بالك كثيراً.. لا بد أنها ستنال إعجاب الضيف بكل تأكيد.." ثم ابتسمت بجانب فمها مضيفة "سأرحب بأي نصائح منك لتجهيزات عروسنا الجميلة.. فهي يجب أن تظهر بأبهى حلة أمام شعب وملك مملكة بني فارس العظيمة.. أتمنى للأميرة سهى أن تحظى بحظ مماثل لحظ رنيم في المستقبل.." بدت الغيرة واضحة على ملامح الملكة الأولى، لكنها لوت فمها باستنكار وغادرت دون أن تتفوه بكلمة رافعة أنفها بتكبر.. بينما كتمت الثانية ضحكة كادت تفلت منها وهي تغادر بسرعة لتتابع ما يقوم به الخدم.. وقد اشتعل القصر بحركة الخدم التي لا تهمد وهم يتراكضون في أرجائه لإتمام الاستعدادات لاستقبال الموكب فائق الأهمية.. والذي لم يحلم الملك قصيّ باستقباله يوماً في مملكته المتواضعة.. ********************* عندما اقترب وصول الموكب لأبواب القصر الملكي، كانت الابتسامة الواسعة تشقّ جانبي وجه الملك قصيّ، وقد كاد يتوجه لمدخل القصر لاستقبال الموكب بنفسه لولا أن استوقفه الأمير غياث قائلاً "مهلاً يا مولاي.. لا يجب أن تحطّ من قدرك بهذه الصورة.. تذكر أن ضيفك ليس إلا وزير من وزراء الملك عبّاد، وليس الملك نفسه ولا ولي عهده.." قال الملك قصيّ دون أن تزول ابتسامته "أدرك ذلك.. لكن لا تنسَ من يمثل هذا الوزير، ولا تنسَ الفائدة التي سنجنيها لو رحّبنا به بشكل يسرّه.." قال غياث بحزم "ليس بهذه الصورة.. تكفي هذه الابتسامة التي لم نرَ مثلها منذ سنين عديدة.. دعني أنا أتولى الأمر.." وهبط بخفة على السلالم بجسده الممشوق وثيابه الرسمية وسيفه معلقٌ في حزامه، متجهاً لبوابة القصر الرئيسية حيث سيصل الموكب الملكي خلال وقت قصير.. بينما وقف الملك قصيّ في موقعه متململاً بانتظار قدوم ضيفه المبجل.. وبعد وقت رآه طويلاً، لمح ذلك الموكب الذي شقّ حديقة قصره سالكة الممر الحجري الواسع قبل أن يقف قرب السلالم المؤدية لمدخل القصر.. ومن عربة تتوسط ذلك الموكب المكون من ثلاث عربات وبضع جنود على أحصنتهم، خرج رجل في أوسط عمره من العربة وهبط بهدوء ليتقدم من سلالم القصر.. كان الرجل عادياً لا يوحي بأي هيبة أو أهمية لو تجاوز الناظر عن ملابسه الفخمة.. فهو نحيل نوعاً ما ويغطي رأسه العاري من الشعر بقبعة ذات ريش أسود، وعلى كتفيه وضع معطفاً ثقيلاً ليتجاوز به برد العاصمة النسبي بسبب موقعها المرتفع وتوسطها عدداً من الجبال العالية.. لاحظ الملك استقبال غياث للضيف وترحيبه به قبل أن يصعد الرجلان السلالم ويدلفا من بوابة القصر الضخمة، عندها سارع الملك عائداً لقاعة عرشه تمهيداً لمقابلة الضيف.. وفي جانب آخر من القصر، قرب إحدى الشرفات المطلة على مدخله، كانت الملكة الثانية مع عدد من خادماتها تقف مراقبة ما يجري لدى وصول الموكب قائلة "هل استعدت رنيم؟.." أجابتها إحدى الخادمات "إنها مستعدة بالفعل.. فلا تقلقي يا مولاتي.." فقالت الملكة الثانية بشيء من الحنق "لماذا كان على غياث أن يستقبل الضيف؟.. لا نعلم ما الذي سيفعله ليفسد هذه الزيجة قبل أن تنجح.. فلا بد أن أمه الملكة الأولى قد دفعته لاستقبال الضيف بنفسه لإقناعه بالعدول عن طلب يد رنيم.." علقت الخادمة بشيء من التردد "لا أظن ذلك صحيحاً يا مولاتي.. مولاي غياث يحب الأميرة رنيم كثيراً، ويساندها دوماً.. لا يمكن أن يسعى لفعل شيء كهذا بتاتاً.." قالت الملكة الثانية بحدة "اصمتي أنت.. ما أدراك ما ينتويه هذا الخبيث؟.. يكفي أنه ابن تلك الحرباء.." نظرت الخادمة حولها بشيء من القلق خشية أن تتنصت إحدى الخادمات لحديثهما وتنقله مع الكثير من البهارات لأذني الملكة الأولى، ثم قالت الخادمة "يحسن بنا أن ننصرف لرؤية ما فعلته مولاتي رنيم.. الوقت يداهمنا بالفعل يا مولاتي.." زفرت الملكة الثانية بضيق وغادرت موقعها مدمدمة "يحسن بتلك الفتاة أن تكون متأهبة لما سيحدث.. وإلا سيكون عقابها شديداً.." في الآن ذاته، كانت الملكة الأولى تراقب ما يجري بدورها من خلف إحدى نوافذ القصر قائلة بجفاء "أما كان على الملك أن يحسن اختيار العروس؟.. لمَ اختار فتاة سوقية كهذه لزوج كهذا؟.. هذا سوء تقدير منه.." جاءها صوت ابنتها البكر صافيناز، وهي الابنة الكبرى للملك، قائلة من موقع قريب "طبعاً لن يعجبك اختيار رنيم، لأنها سترفع شأن الملكة الثانية.. عليك قول ذلك صراحة يا أمي.." نظرت لها الملكة الأولى قائلة بأنَفَة "مهما ظنت تلك المرأة أنها عَلَتْ شأناً، فهي لن تعلو عليّ أبداً.. أنا الزوجة الأولى، وابني هو وريث عرش هذه المملكة.. عليها أن تعِيَ موقعها جيداً في هذا القصر.." ابتسمت صافيناز معلقة "عليك أن تفهمي هذا أنتِ أيضاً يا أماه.. لا داعي للقلق والضيق من هذا الزواج.. دعي لها هذه السعادة الصغيرة، فأنت لك مقامك الذي لن يتغيّر أبداً لدى الملك.." عادت الملكة الأولى تراقب ما يجري ملاحظة وصول الموكب وتقدم غياث من الضيف لاستقباله، وقالت بضيق "هذان الاثنان لا يستمعان لكلمة مما أقولها.. لا الملك ولا غياث يعيران حديثي أي اهتمام.." تساءلت صافيناز بفضول "ما الذي دار بينك وبين غياث وتجاهلك فيه؟.." أشاحت الملكة الأولى بوجهها قائلة بحدة "وما شأنك أنت؟.. اذهبي لجناح تلك الفتاة وأنصتي لما يقال.. أريد أن أعرف ما سيجري بالتفصيل.." قالت صافيناز وهي تبتسم "بل سأذهب لمعاونة أختي الصغيرة.. فهي ستحتاجني في يوم كهذا.. أنا لا أحب التنصّت على الآخرين، ويمكن لأي خادمة من خدم القصر أن تقوم بهذه المهمة بكفاءة تامة.." واستدارت مغادرة بينما الملكة الأولى تدمدم بشيء من الحنق "أنت أيضاً؟.. لمَ يعاملني الجميع وكأنني مجنونة؟.. هذا لا يطاق.." وراقبت الضيف الذي غاب في القصر برفقة غياث، قبل أن تكرر من جديد "هذا لا يطاق بتاتاً.." ********************* وقفت رنيم بشيء من التوتر وهي تلملم أطراف ثوبها وتتأكد من هيئتها مواجهة الأبواب المزخرفة والمذهبة التي تفصلها عن قاعة عرش الملك.. عدّلت خصلات شعرها البني الجميل وشدت جسدها لتمنحه طولاً بالإضافة لما اكتسبه من حذائها ذي الكعب العالي.. ولم تتوقف عن حركتها الملولة والمتوترة حتى سمعت صرير الأبواب وهي تفتح ونداء باسمها يتردد عبر القاعة.. وعندما فتحت أبواب تلك القاعة، تعلق بصر الملك وبقربه ضيفه وسفير مملكة بني فارس بتلك الفتاة التي سارت بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة تخفي تحتها توتراً وارتباكاً شديدين.. بينما وقف ولي العهد الأمير غياث قرب كرسي أبيه الملك قصيّ وقد ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه.. كانت رنيم تكره تلك المظاهر والبهرجة التي لا تلائم روحها وتصيبها بالاختناق، لكنها وبتوصيات مشددة من أمها بذلت جهدها بالفعل لتتحكم بانفعالاتها وبتوترها وأن ترسم ابتسامة جميلة على شفتيها على أمل أن تنال إعجاب الوزير الذي سيرفع تقريراً لخطيبها المستقبلي بكل ما سيراه.. بعد وقت بدا لها طويلاً، وهي التي لم تعتد مثل هذا السير الهادئ، وقفت الفتاة بظهر مستقيم وأمسكت جانب ثوبها بيد وهي تحني رأسها بخفة قائلة "مولاي.. يسعدني المثول أمام سموّك وسموّ الوزير الأعظم لمملكة بني فارس العظيمة.. هذا شرف لي لم أطمح به يوماً.." سمعت الرجل يقول "لست الوزير الأعظم.. إنما أنا أحد الوزراء التابعين لمجلس الوزراء في المملكة.." غاص قلب رنيم في صدرها لهذا الخطأ الذي قد يكلفها الكثير وهي تلاحظ الضحكة التي كبتها غياث بصعوبة.. لمَ لمْ تنتبه لتوصيات أمها المطوّلة وسرحت في عوالم أخرى في وقت حرج كهذا؟.. تداركت الأمر بما تملكه من لباقة قائلة "أنا آسفة.. عندما لمحتك يا سيدي عند دخولي القاعة، تيقنت من رؤيتي للأبّهة التي تبدو عليك أنك لا يمكن أن تكون أقل من الوزير الأعظم.." وأحنت رأسها من جديد مضيفة "اعذرني لهذا الخطأ يا مولاي.. رغم أنني لازلت مصرة أن منصب الوزير الأعظم يليق بك أكثر من أي شخص آخر.." لمحت بطرف عينها ابتسامة متسعة على شفتي الوزير وهو يلتفت للملك قائلاً "لديك ابنة جميلة وذات أخلاق عالية.. لا أظن ولي العهد يطمح بالحصول على أفضل منها.." غمرت الراحة رنيم لرد فعل الوزير على قولها بينما علق الملك بفخر "طبعاً.. يكفي أنها ابنتي.." جلست رنيم على أحد الكراسي المذهبة المصطفة في وسط القاعة على جانبي الممشى بالسجادة الحمراء ذات النقوش الكبيرة على شكل تعريشات ورود وعصافير زاهية الألوان.. بينما أضاف الوزير بابتسامة "ولي العهد قد خطب عدداً من فتيات العائلات المالكة في أرجاء القارة، لكن أياً منهن لم ترُق له.. لكن أظن أنه سيعثر على مبتغاه عندك يا مولاي بالتأكيد.." لم يبدُ الاهتمام على وجه رنيم لهذا القول.. هي لا تهتم بالمناصب وليس الزواج من طموحاتها الحالية.. لكنها مضطرة لمجاراة البقية مع الوعيد الذي هددتها به أمها الملكة.. يجب أن تنجح هذه المقابلة، وتنال إعجاب الوزير ومن ثم ولي العهد.. ويجب أن يتم هذا الزواج بأي صورة كانت.. لكن ماذا عنها هي؟.. في الواقع ليس لرنيم أي طموح ثوري، ولا تملك القدرة على تغيير واقعها أو اختيار مستقبلها بأي شكل كان.. كل ما تملكه هو إحناء رأسها وترك العاصفة تمر، واستراق بعض المتعة من انغماسها بقراءة الكتب ورعاية الحيوانات التي تحبها بشكل يفوق أفراد عائلتها الكبيرة.. ورغم وصايا أمها، لكن رنيم مقتنعة أنها لن تنال إعجاب ولي عهد مملكة عظيمة كمملكة بني فارس التي تتقاتل بقية الممالك للحصول على حظوة لدى ملكها.. هي لا تملك الجمال الذي يجذب الأنظار، خاصة بالنسبة لشخص يرى أنواعاً وأشكالاً من الفتيات الساعيات لنيل إعجابه والحصول بالتالي على مكانة في قصره.. فقامتها التي لا تملك أي طول يتجاوز الطول العادي، وجسدها المتوسط بغير أن يبدو لافتاً للنظر بدون الملابس الزاهية والمشدّ الذي يمنحها خصراً لا تملكه، وبشرتها التي تحمل شيئاً من السمرة بسبب طول مكثها في الشمس، كلها تجعلها تبدو عادية المظهر ولا تحمل جمالاً مبهراً كالذي قد يرجوه ولي عهد مملكة بني فارس.. إن استثنينا شعرها الطويل البني والذي يتموج تموجات جميلة.. وعيناها الخضراوان اللامعتان بنباهة ملحوظة.. هي فتاة نبيهة وتملك صفات لا تتحلى بها فتيات أخريات، لكن تلك الصفات لا تفيدها كزوجة لولي العهد والملك المستقبلي.. كل ما هو مطلوب ممن يختارها الأمير هو جمال فائق وابتسامة جذابة وخصوبة عالية لتنجب ولي عهده المستقبلي بأسرع ما يمكن.. وبهذا تضمن لنفسها مكانة في تلك المملكة، وتضمن لزوجها أن يستمر نسله في وراثة تلك المملكة التي توارثتها عائلته لخمسة عشر جيلاً.. هذه هي الحقيقة المؤسية لمنصب زوجة الملك والذي تتنافس عليه الأميرات أشد التنافس.. ولهذا السبب بالذات فإن رنيم تودّ التنازل عن هذا الشرف بكل أريحية، لكن رأيها مرفوض جملة وتفصيلاً في قصر أبيها.. بعد أن أنهى الرجلان حديثهما القصير، ورنيم صامتة في خيالاتها الخاصة وهي تراقب السماء من النوافذ العريضة، فإنها انتبهت عندما لوّح لها الملك بيده علامة الانصراف.. فلم تعلق رنيم وهي تقف محنية رأسها بخفة، ثم استدارت رافعة رأسها وسارت بهدوء حتى غادرت القاعة واختفت عن ناظري الملك وضيفه.. وبعد أن أغلقت الأبواب خلفها، زفرت رنيم بقوة وهي تحني كتفيها متخلية عن تلك الاستقامة وهي تغمغم "تباً.. هذا عسير حقاً.." وسارت بخطوات واسعة وسريعة عائدة لجناحها للتخلص من هذه الأثقال التي تقيدها، وسرعان ما لحقها شقيقها الأكبر وولي العهد غياث وقال "أتعرفين أنني شعرت بالذهول عندما رأيت تلك المسرحية في قاعة الملك؟.. عليك أن تقدري الصدمة التي شعرت بها عندما رأيت تلك الأميرة التي استبدلت القرد الصغير الذي هو شقيقتي.." قالت له رنيم بابتسامة جانبية "اهزأ كما يحلو لك.. لو سمعت جانباً من الوعيد الذي صبّته أمي على رأسي فستدرك مقدار الجهد الذي كان عليّ بذله لأبدو في تلك الصورة.." غمغم غياث وهو يتبعها بخصوات واسعة "أنا واثق أنها سعيدة بهذه الفرصة التي تمكنها من التفوق على الملكة الأولى بشيء ما على الأقل.." همست رنيم "وما ذنبي أنا؟" لم يعلق غياث بينما زفرت رنيم وهي تتركه وتسير بخطوات سريعة وقوية عبر ممرات القصر.. ولما دلفت جناحها، وجدت جمعاً من الفتيات هنّ شقيقاتها الخمس وثلاث من بنات عمّها واللواتي هتفن فور رؤيتها "ما الذي جرى؟.. هل نلتِ إعجاب الضيف؟" علّقت صافيناز "أتمنى ألا تكوني قد تصرفتِ على طبيعتك وأحرجتِ الملك أمام ضيفه.." غمغمت رنيم بشيء من الضيق "طبعاً لم أفعل.. لست حمقاء لأفعل فأجد أسنان أمي تطبق على رقبتي بغلّ.." ضحكت الفتيات من قولها بينما صاحت شقيقتها الصغرى سهى التي تفوقها جمالاً ورقة وكل صفة أخرى تتمنى رنيم لو كانت تتحلى بها "يا لحظّك الباهر.. ولي عهد مملكة بني فارس؟.. من أين لنا بزوج مثله بعد أن اقتنصتِه أنت؟" مطت رنيم شفتيها قائلة "بودّي التنازل عنه لك لو كان لي الخيار.. أنت تعلمين أن هذا الزواج هو آخر ما قد أتمناه في الحياة.." قالت ابنة عمها الثانية بعتاب "هل تحاولين إثارة غيرتنا بهذا القول؟.. أنت تعلمين أن نصفنا يحلم بزواج كهذا.." قالت رنيم وهي تخلع زينة شعرها "لكني لا أكذب.. أنا حقاً لا أتمنى هذا الزواج.." ونظرت من النافذة للمدينة القريبة مضيفة بتنهيدة "لو كان لي الخيار في الزواج من ملك أو من غجري من الغجر الرحّالة، لاخترت الأخير دون تردد.. على الأقل، سأرى في ترحالي معه عوالم لم أرَها إلا من نافذة جناحي الضيقة.." قالت صافيناز بحزم "أتظنين أن أباك سيزوجك من غجري أو حتى من شخص يقل عنك مكانة بهذه السهولة؟.. سيفضّل دفنك في هذا القصر عن منحك الفرصة لأن تضعي رأسه في التراب.." تنهدت رنيم معلقة "لو كان سيفعل، فأفضل أن يحبسني في أعلى برج في القصر حيث يمكنني رؤية السماء.. أو أن يغلق عليّ أبواب مكتبة القصر الضخمة.. بعدها لا أطلب شيئاً من دنياي هذه.." ضحكت سهى معلقة "يا لك من جاحدة.. الدنيا فيها من المسرّات ما يفوق بضع كتب ستؤدي بك للجنون بكل جدارة.. لماذا تقسين على نفسك بهذه الطريقة؟" قالت رنيم وهي تخلع ثوبها بالمشدّ الضاغط على خصرها "لستُ أقسى ممن أجبرنا على ارتداء هذه الملابس المستحيلة لنمتع أنظارهم.." تضاحكت الفتيات على قولها الذي لم يكن غريباً عليهن بينما سارعت صافيناز لمعاونتها.. كن يعرفن رنيم حق المعرفة، ويعرفن أنها تكره تلك المظاهر التي تتطلبها حياتها كأميرة.. كانوا يعلمون أنها تتوق للخروج من هذه المملكة ومن قيود القصر التي تجد أنها لا تطاق.. وتتوق لرؤية عالم آخر أكثر بهجة وانطلاقاً من العالم الذي تعيش فيه.. وبما أن تحقيق ذلك مستحيل، فقد استعاضت عن ذلك بالانغماس في قراءة أصناف وأشكال متنوعة من الكتب التي تحمل ذلك العالم إليها، ولا تكون بحاجة إلا لبعض الخيال لتعيش في تلك العوالم بالفعل.. ********************* في تلك الليلة، قالت الملكة الأولى لزوجها الملك وهي تتناول العشاء معه "ما الداعي لاستدعاء رنيم لمقابلة الوزير؟.. ملك مملكة بني فارس لم يحدّد ابنة معينة من بناتك للزواج من ابنه ووريث عرشه.. أما كان المفترض أن تقدم له أجمل بناتك؟.." قال الملك "هل منبع اعتراضك أن رنيم ليست ابنتك؟.." قالت الملكة بسرعة "لا.. لكن رنيم معروفة بعدم تقيدها بالقوانين وبكونها لا تتحلى بأي ميزة بين الأميرات.. إن ابنتي سهى أجمل وأكثر لطفاً وحصافة منها.. ماذا لو استاء الملك أو ابنه من تصرفات رنيم؟.. سنكون بذلك خسرنا زوجاً لابنتك، وفوق كل ذلك خسرنا حليفاً قوياً كان من الممكن أن يعين مملكتنا بشتى الطرق.." قال الملك "الملك عبّاد مصرّ على مصاهرتنا، لذلك لم يحدد أي أميرة يرغب بتزويجها ابنه.. رنيم تكاد تبلغ العشرين من عمرها ولم يتقدم للزواج منها أي من أمراء وأعيان الممالك الأخرى، وبذلك هي تخسر فرصتها للزواج بسرعة كبيرة.. زواج وريث مملكة بني فارس هي فرصتها الأخيرة، ولو رفضها ذلك الأمير، فيعني ذلك أن أي شخص آخر لن يعدّها مؤهلة للزواج بتاتاً، وستبقى في قصري تأكل من طعامي لآخر يوم من حياتها.." ونظر للملكة بحدة قائلاً "وهذا ما لن يحدث بتاتاً.. لذلك، من مصلحتها أن تنجح هذه المرة.." دمدمت الملكة متذمرة "كيف تتوقع من تلك الفتاة أن تتحلى بالتهذيب الكافي لتنال إعجاب الأمير الذي ولاشك رأى أصنافاً عديدة من الأميرات؟!" قال الملك بحزم "ستفعل ذلك رغم أنفها.." صمتت الملكة للحظات وهي تعبث بطعامها مفكرة، ثم قالت بابتسامة "أنت تعلم أن كل ولاة مملكتك يتمنون مصاهرتك.. ما رأيك بأن نزوج رنيم أحدهم بينما تتزوج سهى ولي عهد بني فارس؟.. لا نريد أن نخسر حليفاً قوياً بسبب تصرفات ابنتك غير المسؤولة.." قال الملك بحدة "أتريدين أن أزوج بنتاً من بناتي لوالٍ يعمل عندي؟.. هل جننتِ؟" قالت الملكة بارتباك "لست أعني ذلك، لكني أفكر بمصلحة مملكتنا الضعيفة أصلاً والتي بحاجة لحليف وسَنَدٍ قوي.. لذلك....." ضرب الملك الطاولة بيده قائلاً "رنيم ستتزوج ولي عهد بني فارس.. هذا قول قاطع.. أما سهى، فلا تزال في الرابعة عشر من عمرها.. لا تزال تملك فرصة كبيرة لنيل زوج كفء لها.. فلا داعي لإطالة هذا الحديث.." مسح فمه بمنشفة قريبة ورماها جانباً وهو يغادر قاعة الطعام.. فزفرت الملكة بحنق ودمدمت "لماذا اخترتَ تلك الفتاة بالذات؟.. إنها لا تستحقه.. ولا تستحق ما ستحصل عليه بهذا الزواج.." ونهضت بدورها عازفة عن إتمام طعامها وفكرة واحدة تدور في رأسها.. لابد من علاج سريع لهذه الزيجة غير المتكافئة.. علاجٌ لن يثير غضب زوجها الملك ولن يغيّر رأي الملك عبّاد في مصاهرتهم.. فأين هذا الحل المثالي؟.. ********************* مرت عدّة أيام على مبعوث الملك عبّاد في قصر الملك قصيّ، لم يلبث بعدها أن رحل عائداً لمملكة بني فارس محمّلاً بهدايا ووصايا من الملك قصيّ فيما يخص هذه الزيجة.. ومع رحيله، فإن رنيم تنفسّت الصعداء بشيء من الراحة ظناً منها أنها ستُترك وشأنها في الأيام التالية.. كل همها كان أن تعود لتقضي وقتها فيما تحب، وتنسى هذا الزواج الذي لم ترْتح له لسبب أو لآخر.. وعندما استدعاها الملك بعد أقل من إسبوعين، فإنها لم تملك نفسها من التأفف بشيء من الضيق.. لقد تردد اسمها على شفاه جميع من في القصر في الشهر الماضي ما يتجاوز سني عمرها كله.. فما الذي جرى؟.. هل يستحق هذا الزواج أن يعكر صفو حياتها بهذا الشكل دون أن تتمكن من الاعتراض؟.. نظرت لوصيفتها صفية التي وقفت قريباً وقالت "أأنتِ واثقة أن الملك قد طلبني أنا؟.. ربما لم يكن يعني أنه يريد مثولي أمامه.." قالت صفية بإلحاح "بل هو يطلبك حالاً.. لم أنت متكاسلة كثيراً؟.. وكأن من ستتزوج هي فتاة أخرى لا تربطك بها أي صلة.." دمدمت رنيم وهي تدفن بصرها في الكتاب بين يديها "لم أكد أُنهِ أي كتاب منذ عدة أيام لكثرة المقاطعات التي تلاحقني من كل جهة.." سحبت صفية الكتاب من يدي رنيم بهدوء قائلة "ليست هذه الكتب هي المهمة الآن.. اذهبي للقاء الملك لكيلا تصبّ الملكة الثانية غضبها عليّ لهذا التأخير.." لم تتمكن رنيم من الاعتراض وهي تزفر بحدة.. ثم نهضت وتأكدت من هندامها لئلا تواجه تعليقات حانقة من أمها فيما يخص مظهرها، قبل أن تغادر نحو قاعة العرش حيث يقضي الملك أغلب أوقاته في النهار.. وخلال وقت قصير، كانت رنيم تحني رأسها للملك بهدوء قائلة "هل طلبتني يا مولاي؟" قال الملك ملوحاً بيده "ارفعي رأسك.. لقد أرسل إليّ الملك عبّاد برسالة قبل قليل يؤكد فيه رغبته بمصاهرتنا.." سمعت رنيم شهقة صدرت من أمها التي وقفت جانباً وملامحها تنطق بسعادة تامة، بينما لم تبدُ أي سعادة مماثلة على ملامح رنيم التي قالت "هذا خبر جيد، مادام سيسعدك يا مولاي.." لم يعلق الملك على ردها البارد وهو يضيف "أريدك أن تستعدي للرحيل نحو مملكة بني فارس خلال أقرب وقت ممكن.. سيصل موكب ملكي مرسل من الملك عبّاد ليصطحبك لعاصمة المملكة (الزهراء).." رفعت رنيم رأسها بدهشة وتعجب، ثم قالت "لماذا؟.. ما الذي يستدعي رحيلي لمملكة بني فارس في هذا الوقت بالذات؟" أجاب الملك بحدة "كي تقابلي زوجك الأمير زياد، ولكي تستكملي مراسم الخطبة والزواج في (الزهراء).." نظرت رنيم للملك بتعجب قائلة "كيف أرحل للزهراء قبل زواجي من الأمير زياد بالفعل؟.." أجاب الملك "الزواج لن يتم قبل ذهابك لعاصمة المملكة (الزهراء) ومقابلتك لولي العهد.. فهو قد أصرّ على رؤيتك قبل إتمام هذا الأمر، كما أصرّ الملك على أن يتم الزواج في عاصمة مملكته.. يريد أن يحتفل شعب مملكته بهذا الزواج مباشرة خاصة أن زياد هو ابنه الوحيد.." تزايد تعجب رنيم وهي ترفع حاجبيها قائلة باستغراب "أفهم موضوع مقابلة الأمير قبل إتمام الزواج، لكن أما كان المفترض به أن يأتي لرؤيتي؟.. ألا يتم الزواج عادة في قصر الأميرة؟" قال الملك مقطباً "أأنت حمقاء؟.. كيف نطلب من ملك مملكة عظيمة كعبّاد أن يتنزّل ويأتي بنفسه لمملكتنا؟.. ماذا لو تعرض لخطر أثناء تلك الرحلة؟.." تعاظم استنكار رنيم والملك يضيف بصرامة "ستذهبين أنت إليه، وسيتم الزفاف بعد شهر من وصولك للزهراء وحصولنا على موافقة الأمير زياد.. وعندها، سنتجه نحن بدورنا للزهراء لحضور ذلك الزفاف.." قالت رنيم باحتجاج "لماذا تفعل هذا لي أنا يا أبي؟.. أليس في هذا التصرف إهانة لي ولك؟.." ثم أشاحت بوجهها قائلة "لو كان الأمير يريد الزواج بإحدى بنات ملك آخر، عليه أن يسعى لذلك.." ضرب الملك مقبض كرسيه بقوة وهو يهدر "كفّي عن هذه الترهات.. سترحلين في الموعد تماماً دون أن أكرر قولي مرة أخرى.." زمّت رنيم شفتيها بحنق وصدمة، بينما سارعت الملكة الثانية تقول بانفعال "لا تقلق يا مولاي.. سأتأكد أنها ستكون على أتم الاستعداد للرحيل في الوقت المحدد.. فطِبْ نفساً وتهيأ لمقابلة ضيوفك الذين سيتقاطرون لتهنئتك من جميع أرجاء المملكة.." وأسرعت نحو رنيم فدفعتها أمامها وهي تنحني للملك مراراً.. وخارج قاعة العرش، قالت الملكة الثانية بعصبية "ألا بد من كل هذا الجدال أمام الملك؟.." قالت رنيم بضيق "ألا يحق لي الاعتراض؟.." قالت الملكة الثانية بحدة "لا.. ماذا لو غيّر الملك رأيه بخصوص زواجك هذا؟.. لا نريد أن يقوم باختيار تلك الفتاة سهى ونبذك أنت بعد أن وصلنا لهذه المرحلة.." دمدمت رنيم "أنت قلقة من تغلّب الملكة الأولى عليك في هذا الأمر.. أليس كذلك؟" أجابتها بحنق "أجل.. لذلك افعلي ما يطلب منك دون تذمر.. وافعليه بطريقة صحيحة لمرة واحدة في حياتك على الأقل.." وغادرت بخطوات سريعة تاركة رنيم تقف والضيق يعتلي ملامحها، فلم تجد وسيلة للتخلص من هذا الضيق إلا بالانزواء في الجزء المفضل لديها من القصر.. لطالما اعتبرت قصر أبيها كصحراء قاحلة جافة بجفاف من يعيشون في القصر، والواحة الوحيدة في قلب تلك الصحراء الخانقة هي المكتبة الضخمة التي تحتل جانباً كاملاً من ذلك القصر العتيق الذي يعود عمره لمائتي سنة على الأقل، والذي بناه قصيّ الأول بن غياث فور جلوسه على العرش.. والمكتبة التي فيه غنية بما لا يوصف ولا يعدّ من الكتب التي حرص قصيّ الأول على جمعها نسبة لحبه الشديد للقراءة وللعلم ورغبته بأن يصنع مكتبة يصل صيتها لجميع الآفاق.. وهذا هو الشيء الذي لطالما شكرت رنيم جدها الأكبر عليه في كل مرة انزوت في جوانبها مستندة على بعض الأرفف التي تحوي أشكالاً وأنواعاً مختلفة من الكتب والمخطوطات القديمة التي علاها الغبار.. في ذلك اليوم، اختارت رنيم كتاباً يتحدث عن البحر الهائج الذي يقع شمال شرق القارة العظمى ويزخر بعشرات الأنواع من الكائنات الغريبة والمخلوقات التي لم يعرف كنهها البشر.. بالإضافة لجزر يقال إن سكانها من البدائيين يقتاتون على أكباد الغرباء ويعشقونها دوناً عن أنواع الطعام المتاحة لهم.. ورغم أنها بدأت قراءة الكتاب بحماس كبير وشغف بالغ، إلا أنها رغماً عنها تركته في حضنها وسرحت وهي تتطلع للسقف المزخرف الذي يعلو رأسها وتفكر في حياتها القادمة.. أهي مقدمة على الزواج حقاً؟.. وهل ستتزوج ولي عهد مملكة عظمى لتغادر قصر أبيها فتقضي ما بقي من حياتها حبيسة قصر زوجها؟.. ما الذي سيقدمه لها الزواج حقاً؟.. هي متأكدة أن زواج مصلحة مثل هذا سيكون جافاً خالياً من أي مشاعر قد تنشأ بين أي زوجين.. لذلك هي واثقة أن حياتها ستخلو من الحب.. لكن، مع ذلك، قد تتجاوز عن الأمر لو كانت طليقة وتملك الحرية لتغادر القصر متى شاءت.. لكن حياة زوجة ولي العهد أكثر تزمتاً من حياة أميرة مملكة عادية.. ستتكاثر القيود حول عنقها حتى لا تغدو قادرة على التنفس وستموت مختنقة من هذا العالم الكئيب الذي تعيش فيه.. فأي حياة ترجوها بعد الزواج؟.. انتبهت من شرودها وأفكارها التعيسة عندما دخل وجه أخيها غياث نطاق بصرها.. فالتفتت إليه وهي تسمعه يقول "كنت أدرك أنني سأجدك هنا ولابد.. لديّ خبر جديد قد يسعدك لو كنتِ فتاة عادية كبقية الفتيات.." غمغمت رنيم وهي تعتدل في جلوسها "هذا يعني أنه خبر تعيس بلا شك.." جلس غياث بعد أن جذب كرسياً خشبياً قريباً قائلاً "الملك أبلغني برسالة وصلته منذ قليل.. الموكب الملكي من مملكة بني فارس سيصل خلال عشرة أيام.. عليك أن تعدّي العدة لترحلي بعد وصوله بيوم أو يومين.." نظرت له رنيم بصدمة واستنكار.. ثم صاحت "عشرة أيام؟.. بهذه السرعة؟.." هز غياث رأسه موافقاً، فقالت رنيم بحنق "كيف ذلك؟.. هذا مبكر جداً، أبكر مما توقعته بكثير.." تساءل غياث "وما سبب اعتراضك على هذا؟.." قالت بحنق وبالعذر الوحيد الذي طرأ لها "عشرة أيام لا تكفي لتجهيز كل ما أحتاجه كعروس ولي العهد.. هذا الوقت لا يكفي لخياطة ثوب واحد.. فما الذي يمكنني فعله؟.." قال غياث "رسالة الملك تقول إن عليك الرحيل في الموعد المحدد، وهم سيتكفلون بكل الأمور الثانوية في (الزهراء).. عليك أن تكوني سعيدة لكل هذه التسهيلات التي ترافق زواجك.." بدت رنيم أكثر غمّاً لهذا القول، فمال غياث تجاهها مضيفاً بابتسامة "هل منبع ضيقك أنك لم تستعدي للزفاف حقاً؟" زفرت دون أن تعلق وهي تقبض على الكتاب بين يديها بشدة، فقال غياث "أنت قلقة من هذا الزواج بأكمله.. لكن لا تقلقي.. لن يكون الأمر أسوأ مما أنتِ عليه هنا.." قطبت رنيم لقوله مغمغمة "تباً.. هذا لا يسعدني بحال.." علق غياث "عليك أن تكفي عن هذه الكلمات التي لا تليق بأميرة.. لمَ أنت مختلفة عن الأخريات؟.." زفرت رنيم وهي تسند رأسها للأرفف خلفها قائلة "لا أدري.. ربما من الخير لو ولدت صبياً.. عندها ما كنت سأحتاج لهذا التصنع والادعاء والقلق لهوية زوج المستقبل.." نظر لها غياث بدهشة، بينما استطردت رنيم بشيء من الحماس "ربما كان الملك سيطلق علي اسماً رجولياً جميلاً.. مثل ثابت أو غسّان.. عندها سأكون بارعة باستخدام السيف وركوب الخيل.. ولن أضطر لقضاء وقتي بين جدران هذا القصر.. وعندها......." نهض غياث معلقاً "استيقظي من أحلامك يا فتاة، وابدئي استعدادات رحيلك.. لا تنسي أن الملك سيقيم احتفالاً لك قبل بدء الرحلة بيوم، وبعدها ستنطلقين لحياتك الجديدة.." وغادر تاركاً رنيم تدمدم بملل "ليت الأحلام تتحقق بمجرد تمنيها.." ********************* عند وصول موكب مملكة بني فارس الملكي الفخم، فإن المدينة بأكملها خرجت لاستقباله والتفرج عليه بشغف تام.. المدينة بأكملها باستثناء رنيم التي انشغلت عن ذلك برعاية فرس مريضة تحبها بشكل كبير في حظائر القصر.. قضت وقتاً طويلاً في رعايتها والاهتمام بها رغم أن الطبيب البيطري قد طمأنها أن الفرس ستكون بخير خلال أيام قليلة.. لكن رنيم رفضت مغادرة الحظيرة وقضت وقتها قرب الفرس برفقة صبي من الخدم يعتني بالخيول الخاصة بالملك.. ولما سمعا صوت الأبواق التي علَتْ من جانب القصر، قال الصبي "مولاتي، أما كان من المفترض أن تذهبي لرؤية موكب مملكة بني فارس؟.." قالت رنيم بعدم اهتمام "فرسي الجميلة أهم عندي من موكب ملكي سخيف.." ومسحت على عنق الفرس قائلة بلطف ممتزج بالقلق "ما الذي أصابك يا عزيزتي؟.. كنتِ بأفضل حال بالأمس.." قال الصبي بشيء من اللهفة "إذن.. أيمكنني أن أذهب أنا لرؤية ذلك الموكب؟.. لم يسبق لي أن شهدت موكباً مثله من قبل.." أجابت رنيم "اذهب لكن عُدْ سريعاً.. سيغضب منك رئيسك بشدة لو اكتشف أنك تركت الموقع للفرجة على الموكب.." صاح الصبي وهو يستدير راكضاً "شكراً يا مولاتي.." ابتسمت رنيم بتعجب لسعادة الصبي.. ما الذي سيجنيه من مراقبة موكب ملكي تافه يسعى لإبهار الآخرين بشكله المبهرج؟.. أما الصبي، فقد سار متجاوزاً جوانب حدائق القصر باتجاه مدخله حيث الأبواب المزخرفة التي تفصله عن باقي المدينة.. وهناك، وقف قرب بعض الخدم الذي تجمعوا لمراقبة الموكب وشيك القدوم من جانب يسمح لهم بعدم الظهور أمامه.. وبعد وقت قصير، وصوت الأبواق يعلو بشكل متناغم معلناً اقتراب الموكب الذي طال انتظاره، فإن البوابة الحديدية المزخرفة لسور القصر فتحت بصوتٍ عالٍ ليدخل الموكب عبره بعد رحلة طويلة منذ غادر أسوار (الزهراء).. كان الموكب مكوناً من عدد من المركبات الفخمة يقود كل منها سائس بزي موحد فخم، وتجرها أحصنة أصيلة بديعة المنظر.. ووسط هذه المركبات سارت مركبة أكبر وأفخم عن البقية، بشعار مملكة بني فارس الذي يمثل أسداً فاغراً فمه وأنيابه بارزة وعلى رأسه تاج ملكي، والزخرفات الجميلة طالت جميع أرجائها حتى دواليبها الذهبية اللامعة.. ومن حول العربات، سار عدد من الخيّالة بأحصنتهم وزيّ الجنود الموحد وسيوفهم التي تدلّت من أحزمتهم.. راقب الصبي الموكب بشيء من الانبهار وهو يسمع إحدى الخادمات تهمس لرفيقتها "أترين هذه العربات؟.. إنها تحمل مهر الأميرة.. ترى كم قطعة ذهبية وكم من الجواهر تحوي في قلبها؟" علقت الأخرى بشيء من الحسرة "بل كم من الأثواب والحرائر تحوي صناديقها؟.. يا لبؤسنا.. عندما تتزوج الفتاة منا فإن جلّ ما تحلم به هو خاتم ذهبي وبعض الملابس الرخيصة ومنزلٍ متداعٍ.." قالت الأولى "طبعاً.. فمن نحن جوار الأميرة ابنة الملك قصيّ؟.. حياتها منذ مولدها وحتى مماتها تختلف عنا تمام الاختلاف.. يا لحظها الباهر ويا لحظنا التعس.." علق خادم آخر وقف قريباً بشيء من الاستهزاء "أتظنين أن مولاتي رنيم ستحصل على شيء من هذه الجواهر والعملات الذهبية؟.. إنها ستنتقل رأساً لخزانة الملك، ولن ترى النور بعدها أبداً.. أما عن الأقمشة، فالملكتين والأميرات الأخريات سيتناهبنها ولن يبقين شيئاً للعروس المجيدة.." غمغمت الخادمة الأولى وهي تتلفت حولها "صَه.. لا يعلو صوتك بهذا القول أبداً.. لا نريد أن نقع في طائلة مثل هذا القول بتاتاً.." ظل الصبي يراقب الموكب ويستمع لأحاديث الخادمات والخدم، حتى وجد من يقبض على قميصه ويهزه صائحاً "ما الذي تفعله هنا يا فتى؟.. ألم آمرك أن تتمّ ما عليك من مهام قبل عودتي؟" رفع الصبي رأسه ليرى أحد الساسة الموكلين بالحظائر ينظر له بغضب، فقال بسرعة "لقد سمحت لي مولاتي رنيم برؤية الموكب للحظات.. وسأعود بعدها لأعمالي.." ثم تملص من قبضة الرجل وغادر راكضاً بينما الرجل يصيح خلفه "ستنال عقاباً على هذا يا فتى.. أتفهم؟" لكن الصبي لم يعره أي اهتمام وهو يهرع للحظيرة، وهناك وجد رنيم في موقعها ذاته وهي تمسح على عنق الفرس التي كانت تلهث بصوت مسموع.. وفور أن رأته قالت "حسناً.. هل أعجبك ما رأيته؟.." قال الصبي بحماس "إنه أمر مذهل.. ليتك أتيتِ معي.. إنه أكبر وأجمل وأفخم موكب رأيته يدخل القصر.." ابتسمت رنيم لحماسته وانفعاله معلقة "سعيدة بسعادتك يا فتى.. لكن ليته لم يكن قادماً لأجلي.." هتف الصبي "بل أنا مسرور لأنه قادم لأجلك يا مولاتي.. فأنت تستحقين الأفضل.." قالت رنيم وابتسامتها تخفت "الأفضل لا يشي بالسعادة دائماً.." ومسحت عنق الفرس بيدها مضيفة "لا أعلم لأي مصير سيأخذني هذا الموكب المبهرج، لكن يراودني شعور أنه لن يكون بأفضل من الواقع الذي أعيشه.." صمت الصبي محاولاً فهم مغزى جملتها، ثم قال "أليس زواجك من ولي عهد مملكة الفرسان هو ما تطمحين إليه؟.." هزت رأسها قائلة "قطعاً لا.." وأضافت بابتسامة "لطالما حلمت بأن أرحل مع رجل قوي وطيب في الآن ذاته، بعد أن يشفق عليّ من السجن الذي أعيش فيه.. ومعه، أعرف معنى الحرية وأن أستمتع بحياتي كما أريد دون تسلط أحد.. حتى لو كان يعني ذلك تحمّل شقاء العيش دون رعاية من أبي الملك ودون الاعتماد على أمواله الطائلة.." أمسك الصبي يديها بيديه بقوة قائلاً بحماس "لو كان هذا ما تحبينه، فأنا أتمنى أن يتحقق لك.. أنت تستحقين الأفضل، فأنا لم أرَ أميرة بطيبتك ولم يعاملني أحد بمثل هذا اللطف حتى بين الخدم.. سأدعو الله تعالى أن يحقق لك ما تتمنينه.." ربتت رنيم على رأسه بابتسامة متسعة وقالت "شكراً لك يا عزيزي.. لكن أشك أن يتحقق ذلك حقاً.. بعد أن أصل (للزهراء)، ستكون حياتي قد تحددت ولا رجعة فيها.." ونهضت قائلة "سأرحل خلال أيام قليلة.. لذلك أعهد لك برعاية الحيوانات خلال غيابي.. لا تهملها لئلا يطالك غضبي.." ابتسم الصبي معلقاً "اعتمدي عليّ.. رغم شكي بموضوع غضبك هذا، فلم يسبق لي أن شهدته من قبل.." قالت رنيم ملوحة بإصبعها "لا تستهن بغضبي يا فتى لئلا تندم.." وغادرت بصمت وهي تتأمل أرجاء المكان وتلاطف ذلك الحصان وتمسح على أنف تلك الفرس.. كانت تعلم أن هذه قد تكون زيارتها الأخيرة لهذه الحظائر، فلا شك أن أمها ستمسك بخناقها طوال الأيام الباقية على رحيلها لمملكة بني فارس.. وهي، للأسف، لا تملك الاعتراض على ذلك بتاتاً.. ********************* |
رد: على جناح تنين..
الفصل الثاني: واقعٌ قد دحر كل خيال بعد احتفال بهيج أقامته المملكة لوداع الأميرة رنيم، وابتهاجاً بزواجها الوشيك من ولي عهد مملكة بني فارس، استيقظت رنيم في وقت مبكر بعد عدة أيام وأكملت استعداداتها للرحلة الطويلة.. ارتدت ثوباً بسيطاً مناسباً للترحال ولفّت شعرها الطويل في جديلة تتدلى على صدرها، ولم تنسَ قبل مغادرتها أن تمر على الإسطبلات والحظائر تودع الحيوانات التي عرفتها واعتنت بها منذ وقت طويل.. ورغم كل شيء، فإن جلّ ما كانت ستشتاق له في قصر أبيها هي هذه الحيوانات والمكتبة الكبيرة التي قضت فيها أغلب أيامها منذ تعلمت القراءة في صغرها.. وفي القاعة الخارجية للقصر، وجدت رنيم عائلتها الكبيرة تنتظرها لوداعها، مكونة من أشقائها وشقيقاتها وزوجتي الملك بالإضافة لعدد من الخدم والخادمات ممن اصطفوا باحترام وأحنوا رؤوسهم لها عند مرورها.. وبعد أن عانقنها شقيقاتها دامعات آملات أن تحظى بحياة سعيدة، وعانقها أشقاؤها آملين منها أن تكف عن التصرف بخرق ورعونة، ودعتها أمها بدموع فرح وسعادة للمكانة التي حصلت عليها، بينما ودعتها زوجة أبيها بابتسامة جانبية تعجبت لها رنيم ولم تفهم مغزاها.. وكأن الملكة الأولى تسخر من فشلها قبل أن يتحقق ذلك بالفعل.. لكن رنيم لم تحمّل الأمور أكثر من طاقتها وتجاوزت الأمر.. بعد ذلك، سارت مع الملك الذي قال لها "عليك أن تحسني التصرف ولا تحرجينني أمام ملك مملكة بني فارس.. تصرفاتك الخرقاء ستنعكس سلباً على علاقتنا بهم، لذلك كوني حذرة.." غمغمت رنيم "أدرك ذلك يا مولاي.. لقد أعدت عليّ هذا الحديث مئة مرة في الأيام الماضية" نظر لها الملك بشيء من الحنق، ثم أضاف "رحلتك الطويلة ستبدأ الآن، وستغادرين أراضي المملكة خلال يوم أو يومين نحو مملكة بني فارس.. لكن لا تقلقي، لقد أرسل الملك شخصاً أميناً وموثوقاً به لحمايتك طوال الرحلة.. إنه رئيس الحرس الملكي، ولا يمكن لشخص مثله أن يسمح بأن يصيبك أي سوء في تلك الرحلة.." لم تعلق رنيم على قوله.. في الواقع كانت تشعر بحماس كبير لمغادرة المملكة للمرة الأولى في حياتها البالغة تسعة عشر عاماً.. لذلك لا تشعر بأي قلق من هذه الرحلة وتتوق لبدئها في الحال.. على الأقل، ستستمتع ببعض الحرية قبل أن تنزوي في قصر آخر من تلك القصور الخانقة.. بعد أن هبطوا عدة درجات تؤدي بهم لساحة القصر الواسعة، والتي تحفها أشجار زاهرة زرعت في أماكن مدروسة ومكونة منظراً هندسياً بديعاً، اتجهت رنيم برفقة الملك للموكب الذي يليق بزوجة ولي العهد، وإلى العربة التي تفوق البقية حجماً والتي هُيّئت لرحلتها الطويلة.. وقرب العربة، رأت رنيم رجلاً بثياب جنود ينحني واضعاً ركبته أرضاً ورافعاً الأخرى وهو يضع يده عليها واليد الثانية بقبضة مضمومة جوار ركبته.. ولما وصلت أمامه قال بلهجة احترام "لي الشرف بأن أكون حارسك الشخصي طوال هذه الرحلة يا مولاتي.. وتأكدي أن الرحلة ستكون سهلة وآمنة حتى تصلي بأمان للزهراء.." علق الملك قائلاً "هذا هو مجد.. وهو من سيقود الموكب حتى تصلوا لقصر الملك عبّاد.." رفع الرجل رأسه وانتصب واقفاً أمامها فوجدته يبزها طولاً رغم ارتدائها لحذاء بكعب عالٍ.. كان الرجل يبدو في منتصف الأربعين من عمره، بسمرة خفيفة ولحية سوداء مشذبة بعناية، وشعر فاحم تخللته شعيرات بيضاء لم تزده إلا هيبة ووقاراً.. عيناه رماديتان بلون باهت تتناقض مع سواد شعره، بزاويتان حادتان تمنحانها صارمة واضحة.. أنفه طويل ومستقيم وملامحه تشي بأنه شخصية شديدة الجدية.. ابتسمت رنيم ابتسامة خفيفة متجاوزة مشاعرها لرؤيته وهي تقول "شكراً لك يا سيدي.. سأعتمد عليك في هذه الرحلة.." ابتعد مجد من طريقها سامحاً لها التقدم من العربة الملكية.. ولما وصلت إليها مد يده لها باحترام ليعينها على صعود العربة.. ورغم أن رنيم شعرت بضيق لهذه المعاملة، وهي لا تحتاج لمعونة عادة، إلا أنها لم تتردد في قبول يده شاكرة إياه بابتسامة.. عليها أن تحسن التصرف، وتعوّد نفسها على التصرف برقة وأناقة أمام أي شخص ينتمي لمملكة بني فارس.. على الأقل، هذه هي النصائح التي صبّتها أمها الملكة في أذنيها في الأيام والليالي الماضية دون ملل.. وفي العربة، والتي كانت واسعة بشكل لم تره من قبل ويمكنها أن تضمّ سبع أفراد دون تزاحم، وجدت رنيم أن جدرانها الداخلية مبهرجة بشكل مثير للدهشة.. جدرانها الخشبية قد بطّنت ببطائن حريرية مطرزة بخيوط ذهبية، وعلى نافذتها الجانبية ستائر رقيقة بلون سكري، ومقاعدها وثيرة بلون أخضر زاهٍ عليه تطريزات منمنمة لفراشات بيضاء وأشجار ذهبية.. وعلى الأرضية سجادة سميكة سكرية اللون كاد كعب حذائها يغوص فيها لسمكها.. جذبت رنيم ثوبها الطويل واستقرت في جانب العربة وهي تتلفت حولها بحبور.. هي حقاً من العائلة المالكة في هذه المملكة، لكن مملكة بني فارس تتفوق على مملكتهم الصغيرة في كل شيء.. لطالما سمعت عن مدنها العظيمة وقصورها الضخمة ذات الأبراج العالية وجسورها البديعة التي تعبر فوق الأنهار التي تقطع المدينة من عدة جهات.. وهذه العربة، وهذا الموكب الفخم، أكبر دليل على ما ستراه عند انتهاء رحلتها ووصولها لهدفها.. ورغم أنها تعلم أنها بوصولها لهدفها ستصبح سجينة تلك القصور الفاخرة، إلا أن هذا لا يمنعها من الاستمتاع بما تراه والتلهف على ما تتوقع رؤيته.. ظلت تقنع نفسها أنها في رحلة لاستكشاف عوالم لم ترها من قبل، وهي التي لم تغادر قصر أبيها بتاتاً في سنوات عمرها الماضية.. لذلك فإنها تناست التفكير في مستقبلها في ذلك القصر وفي مملكة زوجها المستقبلي، واقتنعت بالاستمتاع بحاضرها وبما ينتظرها في هذه الرحلة.. وبعد حديث قصير دار بين مجد والملك، وتلقى فيها رسالة مختومة منه للملك عبّاد، امتطى مجد فرسه البيضاء ذات العرف الذي خالط بياضه لون أشهب، وجذب عنانها وهو يرفع يده ليبدأ الموكب انطلاقه عبر حديقة القصر الشاسعة وعبر أحياء وطرقات المدينة ليغادروها من إحدى بواباتها.. وفور تجاوز الموكب لبوابة القصر المذهبة الضخمة، وسيرهم عبر طرقات المدينة الواسعة، سمعت رنيم صوتاً عالياً يندلع من جانبي الطريق.. نظرت من النافذة مزيحة الستائر، فرأت عشرات وعشرات من سكان المدينة ممن اصطفوا على جانبي الطريق حاملين زهوراً ألقوها على الموكب الذي يمر بينهم بينما هتف الآخرون بسعادة واضحة انعكست على رنيم وهي تراقبهم بسرور.. لا يخفى عليها سبب سعادة سكان مدينتها بزواجها هذا وما يتبعه من تحالف بين المملكتين واستفادة مملكتهم الضعيفة والفقيرة نوعاً بحليف قوي وغنيّ كمملكة بني فارس.. ورغم إدراكها أن سعادة الجميع بزواجها ليست موجهة لها هي بالذات، لكنها رغم ذلك بدت سعيدة وهي تتأمل سكان العاصمة ومنازلها والطرقات التي تمر العربة من خلالها.. وفي مقدمة الموكب، سار مجد بفرسه بخطوات متعجلة محاولاً تخطي الجموع التي أصمّت أذنيه وأثارت توتراً في فرسه شعر بها بوضوح.. وبعد لحظات، اقترب رجل آخر من الموكب بحصانه ليسير قرب مجد قائلاً "بدا الملك سعيداً بشدة لهذه المصاهرة.. كان بإمكانه أن يتصرف بشكل أكثر رقياً وأقل انفعالاً.." علق مجد قائلاً "من يمكنه أن يلومه؟.. إن هذه المصاهرة ستمنحه حليفاً قوياً وإمداداً كبيراً على جميع الأصعدة.. يكفي وجود ابنته في قلب عاصمة مملكتنا، وفي قصرها الملكي.. وفي المستقبل، لو كانت حسنة الحظ، ستقف جوار زوجها الملك وقد تتمكن من تحريك قراراته بما يصبّ في مصلحة مملكة أبيها.." ابتسم الرجل قائلاً "أنت أيضاً حسن الحظ بهذه الرحلة.. لو أتممتها وأرضيت الملك، سيرفعك لمنصب أكثر قوة وتأثيراً من منصبك.. لقد وعدك الملك بهذا قبل بدء رحلتنا هذه بالفعل.." غمغم مجد بضيق "لا يهمني المنصب كثيراً، فيمكنني الحصول عليه بطرق أخرى.. ما أكرهه بشدة هو اضطراري لمرافقة هذه الأميرة في رحلة طويلة كهذه.. هذا أكثر مما أطيق احتماله بالفعل.." تساءل الرجل "لماذا؟.. هل تخشى من فشلك في حمايتها؟." أجاب مجد "بل أخشى من تعاملي معها.. لا أمانع من اصطحاب ذوي المناصب العليا والأمراء في مثل هذه الرحلات، لكن الأميرات هن أمر آخر.. إنهن يتصرفن بتعالٍ بغيض ويكثرن من الطلبات التي لا داعي لها ويتذمرن من كل أمر.. يتظاهرن بالرقة، لكنهن لا يعبأن لأمر طفل مشرد أو كلب أجرب.. كل ما يهمهن هو جمالهن وبهرجة ملابسهن.. في الواقع، أفضّل مواجهة عدو من أعداء المملكة في أحد الحروب عن مواجهة تذمر أميرة مدللة.." ضحك الرجل بقوة وقال "لو سمعتك الأميرة لاشتكت لولي العهد من تصرفاتك واتهمتك بالصلافة.. فكن حذراً.." غمغم مجد "لا تقلق.. لست مجنوناً لأفعل.." وأضاف وهو يحث فرسه لتسرع في سيرها "فلنأمل أن تنتهي هذه الرحلة على خير.." وبينما كتم مجد تأففه بصعوبة لذلك الإزعاج الذي صمّ أذنيه، فإن عينا رنيم تلألأتا وهي ترى الموكب يقترب من أسوار العاصمة، والبوابات الضخمة التي ترفرف فوقها أعلام المملكة قد فتحت بدعوة واضحة لها.. لقد بدأت رحلتها التي تتمنى ألا تقف عند أبواب (الزهراء).. ولا تدري لم خيّل إليها أن عربتها فور مغادرتها أسوار العاصمة ستطير مع الرياح المندفعة وترتفع فوق الغيوم العالية في رحلة خيالية.. رحلة لطالما تاقت نفسها إليها.. ********************* بعد نصف نهار من السير المتواصل، سار فيه الموكب الملكي مغادراً عاصمة المملكة عبر دروب تقطع تلك السلسلة الجبلية، فإنه وصل لموقع يمر بسهول عشبية تغزوها الأزهار البرية من كل جانب بينما تظللها الجبال التي وقفت جانباً كجدار عظيم يلامس عنان السماء.. انتاب رنيم ملل شديد وتعب أشد بعد أن اضطرت للبقاء في عربتها وحيدة إلا برفقة وصيفتها صفيّة والتي ستنتقل للعمل عندها في قصرها الجديد.. لم تكن رنيم معتادة على البقاء في موقع واحد لفترات طويلة دون عمل ودون كتاب تتسلى به، وبدأت تشعر بألم شديد في ساقيها لطول جلوسها دون حراك.. فقالت بتذمر وضيق "رباه.. متى ستقف هذه العربة؟.. أكاد أختنق من الجلوس فيها.." قالت صفية مبتسمة "ما الداعي للتذمر يا مولاتي؟.. العربة واسعة ومريحة جداً.. ورحلتنا ستكون طويلة لذلك عليك أن تتحلي ببعض الصبر.." قالت رنيم وهي تنظر لسقف العربة بملل "كيف تتوقعين مني ذلك؟.. كان عليهم الوقوف للراحة في وقت أبكر.." علقت الوصيفة "هذا سيبطئ سيرنا أكثر.." غمغمت رنيم وهي تنظر من النافذة "ليتني أحضرت كتاباً معي.. أشعر بملل قاتل.. لو كنت أكثر جرأة لارتحلت على ظهر فرس بدل اللجوء لهذه العربات الخانقة.." علقت صفية بشك "وهل تتقنين ركوب الخيل يا مولاتي؟" مطت رنيم شفتيها معلقة "ليتني كنت كذلك.." ثم نظرت لصفيّة قائلة "استدعِ مجد.." تساءلت صفية بدهشة "لمَ يا مولاتي؟" قالت رنيم "يجب أن نتوقف قليلاً قبل أن أقضي نحبي اختناقاً من هذه العربة.. استدعيه حالاً.." ورغم اعتراض صفية، إلا أنها استسلمت للأمر في النهاية وفتحت النافذة التي تعلو باب العربة مستدعية سائقها وطالبة الحديث مع مجد.. وخلال لحظات، توقف الموكب بأكمله عن الحركة وسمعت رنيم تململ الأحصنة وصهيلها وتساؤلات بعض الرجال الذين يرافقون الموكب لحمايتها.. اعتدلت رنيم في جلوسها وهي تعدّل هيئتها عندما سمعت طرقاً على باب العربة.. ولما سمحت للطارق بالدخول، وجدت الباب يفتح ويظهر من خلفه مجد الذي قال "ما الأمر يا مولاتي؟.. أهناك خطب ما؟" قالت رنيم "ألن يتوقف الموكب للراحة قليلاً؟.. لقد أمضينا عدة ساعات في السير دون توقف.." قال مجد باعتراض "عذراً يا مولاتي.. وقوفنا للراحة الآن ليس في صالحنا.. لم نقطع إلا مسافة ضئيلة من رحلتنا.." شعرت رنيم بضيق لفكرة أن تبقى حبيسة هذه العربة، فقالت باندفاع "لكنني أريد أخذ قسط من الراحة.. ساعة واحدة لن تعطل سيرنا بشكل كبير.." لمحت نظرة استياء في عيني مجد، لكنه لم يعلق وهو يحني رأسه لها، ثم ابتعد عن الباب، فنهضت رنيم وغادرت العربة متجاهلة يده الممدودة وتلفتت حولها في الموقع.. كانوا يقفون عند أطراف غابة كثيفة الأشجار يقطعها طريق على شيء من الاتساع، مخلّفين السهول العشبية التي كانت الأكبر في الجزيرة بأكملها.. فغمغمت رنيم "يا له من مكان بديع.." علق مجد القريب "هذا هو الموقع الأجمل الذي رأيته منذ وصولي لمملكة بني غياث.." ثم أضاف "سيهيئ الرجال لك موقعاً ملائماً لترتاحي فيه حتى نعاود السير.." قالت رنيم بابتسامة متسعة "لا حاجة بكم لذلك.. يمكنني تدبر أموري كالبقية.." ثم رفعت طرف ثوبها وتقدمت من الغابة القريبة قائلة "سأقوم بجولة صغيرة في المكان.." استوقفها مجد قائلاً بشيء من القلق "بقاؤك في هذه السهول أفضل من دخولك الغابة.. لا نعلم ما قد يعترضك فيها.." كان فضول رنيم يتزايد حول الغابة رغم جمال السهول القريبة، فقالت "أرجوك ألا تقلق لأمري.. ستصحبني وصيفتي.." وأكملت سيرها غير عابئة بالضيق المتزايد في وجه مجد، بينما لحقتها صفية حاملة مظلة بيضاء من الدانتيلا وهي تقول "مهلاً يا مولاتي.. عليك أن تبقي في الظل ولا تتعرضي لأشعة الشمس القوية.." علقت رنيم بابتسامة جانبية "لماذا؟.. هل سيرفع هذا من حظي أمام ولي العهد؟.." غمغمت صفية بضيق "لماذا أنت مختلفة عن الأخريات يا مولاتي؟.. أنت لا تتصرفين كأميرة بتاتاً.." قالت رنيم "ألا يكفي أنني أعفيك من طلباتي الكثيرة والتذمر الذي يلاحقكن من بقية الأميرات؟.." قالت صفية "لكنني أركض بشكل دائم بحثاً عنك في أرجاء القصر.. وهذا منهك تماماً.." التفتت إليها رنيم قائلة "يؤسفني أنني أجبرك على ذلك.. سأحاول ألا أفعل هذا.. والآن عودي للبقية وخذي بعض الراحة.." قالت صفية باعتراض "لكن يا مولاتي...." لوحت رنيم بيدها قائلة "لا تخشي شيئاً.. سأكون بخير.." وقفت صفية تنظر لها بحيرة مما عليها فعله، بينما سارت رنيم بابتسامة متسعة وهي تأخذ نفساً قوياً مستمتعة برائحة الغابة.. تلك الرائحة التي تختلف عن رائحة القصر والحدائق المحيطة به.. لم يكن إصرارها على التخلص من وصيفتها لسبب معين، إلا لتشعر أنها طليقة حقاً دون رقيب ودون عين تلاحقها وتتبعها بإصرار.. فرغم أن صفية خادمتها ووصيفتها الوفية، إلا أنها تجبرها على التقيّد بقوانين القصر وعدم تجاوز ما يقتضيه منها كونها أميرة وابنة ملك هذه المملكة.. وتلاحقها بشكل دائم بالوصايا والتعليمات التي تصيب رنيم بالضجر.. لذلك كان هذا أنسب وقت للتخفف من هذه القيود والتمتع ببعض الحرية.. سارت في أرجاء الغابة التي بدأت أشجارها بالتكاثف والتقارب مع كل خطوة تخطوها رنيم في قلبها.. كان الموقع ساحراً، والهدوء الممتزج بأصوات العصافير المتنوعة يجعله خيالياً أكثر من اللازم.. تلفتت رنيم حولها وهي تحفر هذه المناظر في عقلها بشغف واضح، وسارت حتى انتبهت لخفوت الأصوات من خلفها وابتعادها عن موقع الموكب أكثر من اللازم.. ولو أنها كانت تفضّل الاستمرار في استكشاف الغابة، لكنها نوعاً ما خشيت من غضب وصيفتها أو مجد لو ضاعت ولم تتمكن من العودة.. لذلك استعاضت عن رحلتها بالتجوال في موقع قريب من طرف الغابة حيث الموكب قريب منها وحيث لن تثير قلق أحد عليها.. وبعد أن استكملت جولتها، فإن رنيم عادت مرغمة لموقع الموكب وهي تتنهد كمن يستيقظ من حلمٍ طالما اشتاق لرؤيته.. ولما خرجت من الغابة رأت المعسكر البسيط الذي أقيم في ذلك الموقع، وفي وسطه، نصبت مظلة كبيرة انتصبت على أربع أعمدة خشبية مدّ فوقها قماش أبيض اللون حمل زخارف وصور جميلة.. وتحت المظلة رأت رنيم كرسياً مريحاً أبيض اللون وقربه طاولة خشبية عليها بعض الفطائر وكوب عصير طازج.. لكن رنيم تجاهلت الموضع المهيأ لراحتها، وتجاهلت توسلات وصيفتها صفية، وسارت للموقع الذي ربطت عنده الأحصنة في جانب الغابة.. كان الجنود يجلسون للراحة في جانب المكان، بينما ربطت الأحصنة بالأشجار القريبة، فتقدمت رنيم منها ماسحة على عنق أقربها وهي تتأملها بابتسامة جانبية.. لفتت انتباهها تلك الفرس البيضاء ذات العرف الأشهب الجميل والذي ربط بضفيرة صغيرة، فتقدمت رنيم منها ومسحت على عنقها ووجهها وهي تتمتم "يا لك من فرس جميلة.." سمعت من خلفها صوت مجد يقول "يبدو أن الشهباء قد أعجبتك.." التفتت إليه قائلة "إنها جميلة جداً.. أهي ملكك؟" هز مجد رأسه إيجاباً، وتقدم مربتاً على عنق الفرس وقال "هي معي منذ عدة سنوات، وهي فرس جميلة ومطيعة ومثابرة بشكل لا يصدق.. هي الوحيدة التي ارتحت لرفقتها طوال هذه السنوات.." غمغمت رنيم وهي تتأمل عيني الفرس السوداوين "تمنيت لو كنت أعرف ركوب الخيل.. أحب هذه الكائنات الجميلة، وأود لو أنطلق على ظهرها بأقصى سرعة وبكل حرية.." تساءل مجد "وما الذي يمنعك من ذلك؟" تنهدت قائلة "لا يسمح لنا الملك بذلك.. يظن أن تعلم ركوب الفرس يجعلني أفقد أنوثتي وبهذا تقل فرصي في الزواج.." رفع مجد حاجبيه بتعجب قائلاً "هذا غير مقنع.. لمَ عليك أن تكوني كالأخريات وتنزوي في جانب القصر بانتظار زواجك؟.." انتبهت رنيم لنفسها وأدركت ما سيوحي به هذا الحديث لمجد، وما قد يتصوره عنها.. لكن، ما الذي سينقله لولي العهد وللملك عبّاد في (الزهراء)؟.. ألن يؤثر ما سيقوله لهما على مستقبلها الذي تسعى لنجاحه مرغمة؟.. بقدر ما كان ذلك مناقضاً لها، إلا أنها كانت ساعية بالفعل لإنجاح هذا الزواج، لتنال رضى أبويها،و لتزيح همّهما من عقلها بعدها.. اعتذرت رنيم من مجد وابتعدت عائدة نحو المظلة المهيئة لها بشيء من الكآبة.. أبعد ذلك الوقت الذي قضته جالسة في العربة يتوقعون منها أن تظل جالسة تحت هذه المظلة التي تمنع دفء الشمس من الوصول إليها وتملأ معدتها بالطعام والشراب دون هدف؟.. لكن، كما علقت صفية سابقاً، فإن رنيم تتساءل أيضاً عن السبب الذي يجعلها مختلفة عن بقية الأميرات، ولا تسعد بأشكال الراحة والبهرجة هذه كما تفعل الأخريات.. ********************* بعد راحة قصيرة، استأنف الموكب سيره قاطعاً تلك الغابة عبر طريق ممهد يمتد بطولها ولا ينتهي حتى يصل للبحر الواقع خلفها.. لم يكن السير عبر أراضي الجزيرة يمتد لأكثر من يومين، وبعدها سيرحل الموكب على سفينة ملكية تقطع به بحر السلام الواسع حتى تصل لأقرب ميناء من العاصمة (الزهراء) وهو ميناء (ذات المخالب) الذي يقع على الجانب الغربي من القارة العظمى.. وبعدها يسير الموكب عبر تضاريس سهلة حتى يصل العاصمة التي تبعد أربعة أيام عن الميناء.. هذه باختصار هي الرحلة التي سيقطعها الموكب في الأيام العشرة القادمة، كما شرحها لها مجد أثناء راحتها في ذلك الموقع.. وبدا لها بوضوح أنه أخبرها بكل هذه التفاصيل كي تكفّ عن قطع سيرهم بين لحظة وأخرى لتتجول في الأرجاء دون هدف واضح.. وخلال عدة ساعات، قضتها رنيم تتأمل الغابة من نافذة عربتها بصمت، توقف الموكب بعدها وسط الغابة في موضع منبسط تقلّ فيه الأشجار ليعسكر هذه الليلة.. وخلال وقت قصير، وقبل أن تغرب الشمس بشكل كامل، كان الجنود قد أقاموا المعسكر بسرعة وخبرة ونصبوا خيمة فخمة لرنيم وعدة خيام أخرى للوصيفات والخدم وبقية الجنود.. بدا المكان موحشاً بعد غروب الشمس، مع شحّة النور التي تغلغلت من بين الغيوم تلك الليلة، لكن رنيم لم تشعر بأي خوف وهي تجول في أرجاء المعسكر مهتدية بضوء النار التي أشعلت في عدة أجزاء منه.. وفي وقت متأخر من تلك الليلة، بعد أن أوى أغلب الجنود والخدم للنوم بينما بقيت فرقة صغيرة لحراسة المعسكر.. خرجت رنيم من الخيمة الفخمة التي نُصِبَتْ لها وسط الموقع، ووقفت تتأمل القمر المنير وسط السماء.. كان ضوء القمر قوياً وواضحاً بعد زوال أغلب الغيوم التي كانت تحجب نوره، وهو يلقي بلمعة فضية على كل ما يطاله نوره على سطح الأرض.. وبدت تلك الليلة لعيني رنيم مسالمة هادئة بشكل كبير.. تلفتت حولها مدركة أن وصيفتها صفية قد نامت منذ أمد طويل، بينما بقيت فرقة صغيرة من الجنود موزّعين في مواقع حددها مجد في وقت سابق لحراسة المعسكر الصغير.. تسللت رنيم دون أن يلاحظها أحدهم بخطوات خافتة نحو الغابة القريبة.. كان تعلم تمام العلم أن تصرفها خطير في ذلك الوقت، ولن تسلم من تأنيب صفية ومجد لو علما بذلك.. لكنها كانت تريد التجوال بحرية في الموقع دون رقيب بعد أن جافاها النوم لوقت طويل.. نوعاً ما، شعرت أن هذه الرحلة التي تستمر لعشرة أيام هي المتنفس الوحيد الذي قد تحصل عليه قبل أن تضمّها أسوار قصور (الزهراء) في قلبها وتحجب عنها نور الشمس بشكل كليّ.. قد يكون هذا التعبير مبالغاً فيه بشدة، فقصور (الزهراء) تملك أكبر وأجمل حدائق يمكن للمرء أن يرى في حياته، لكن رنيم تشعر أن مثل تلك القصور تغطيها غمامة سوداء تجعل كل ما تطاله كئيباً باهتاً لا روح فيه ولا يزهى بأي لون.. وربما كان هذا راجعاً لنظرتها المتشائمة والتي لا تحمل أي تفاؤل لأيامها القادمة.. كانت الغابة أشد ظلمة مما تخيلت، ونور القمر يتخللها بصعوبة بحيث بدت لها جذوع الأشجار المحيطة بها كأشباح أو ظلال متحركة جعلت قشعريرة قوية تسري في جسدها.. لكنها لم تتراجع وهي مستمتعة نوعاً ما بهذا الشعور.. شعرت بأنها تخوض رحلة خيالية كما قرأت مراراً في بعض الكتب الروائية.. لابد أن بطلة الرواية، لو كانت في موقعها، ستستلّ سيفها وتسير بحذر في هذا الطريق متلفتة حولها خشية أن يباغتها بعض اللصوص أو من هم أسوأ.. لابد أنها ستحاذر في سيرها وستتجنب وطء هذا الفرع اليابس الذي سيصدر صوتاً يوحي بموقعها في هذه الليلة الهادئة.. تماماً كهذا الصوت الذي سمعته من خلفها.. قبل أن تستفيق رنيم من خيالاتها، فوجئت في تلك اللحظة بيد تكمم فمها بقوة وبأداة حادة باردة الملمس تضغط على عنقها وصوت خافت يقول "لا تأتِ بأي حركة إن كنت تريدين النجاة.." ارتجفت رنيم بشيء من الرعب لتلك المفاجأة.. لم تتوقع أن الخيالات التي دارت في عقلها كان لها جانبٌ من الصحة، ولم تظن أن شخصاً ما يمكن أن يختبئ في هذه الغابة الموحشة.. أهذا الرجل لصٌّ يطمح للاستيلاء على ما ترتديه من حليّ؟.. هل دفعه الفقر لمغافلتها بهذه الطريقة؟.. لاحظت ظهور شخصين آخرين من خلف أشجار قريبة، ثم قال أحدهما بهمس "لنسرع قبل أن يداهمنا بعض الجنود.." شعرت بالرجل الذي يمسكها يجذبها مبتعداً عن المعسكر غير عابئ بمقاومتها، ثم قال لها بصرامة "اخلعي ما تملكينه من حليّ بسرعة.." لم تتردد رنيم في تنفيذ طلبه بصمت وهي ترى الخنجر الذي لمس طرفه عنقها.. إذن فهم فقراء دفعهم الجوع للسرقة دون أن يعلموا هويتها حقاً.. وأغلب الظن أنهم لن يسيؤوا لها بعد أن يحصلوا على مبتغاهم.. سمعت أحد الرجال يقول بعصبية "أهذا وقته؟.. لم نتفق على هذا.." نظرت له رنيم بدهشة بينما قال صاحب الخنجر "نحن لصوص.. لن نقنع أحداً بذلك إن لم نفعل هذا.." رفعت رنيم حاجبيها بدهشة، وهي تحاول التعرف على ملامح هؤلاء اللصوص المزعومين.. فقال الرجل القريب بحدة "أسرعي.. ألم تسمعي ما........." فوجئت به رنيم يسقط أرضاً بعنف بعد ضربة قوية أصابت رأسه من الخلف.. تجمد الآخران للحظة مع رؤية ما حدث لرفيقهم، بينما نظرت رنيم لمجد الذي وقف خلفها ضامّاً قبضته وقال بحدة "استسلما ولا داعي للمقاومة.." لكن الرجلين قررا استغلال وجود مجد وحيداً فهجما عليه وهما يطلقان صيحة حانقة لتدخله قبل أن ينجحوا بالفعل.. لكن مجد دار حول نفسه متفادياً ضربة من أحدهم قبل أن يمسك ذراعه الممتدة بخنجر ويوجه له ضربة قوية ألقته للخلف، ثم وجه ركلة لساق الثاني قبل أن يصل إليه أتبعها بضربة قوية بقبضتيه المضمومتين على مؤخرة رأسه أسقطته فاقد الوعي على الفور.. تنهدت رنيم بشيء من الارتياح لرؤية انتصار مجد على الثلاثة بهذه السهولة رغم أنه امتنع من استخدام سيفه المعلق في حزامه، بينما تقدم مجد من الثاني الذي لم يفقد وعيه قائلاً بصرامة "من أنتم؟.. وما الذي دفعكم لمهاجمة الأميرة؟.." لاحظت رنيم التوتر في وجه الرجل إنما لم يبدُ عليه أي دهشة لمعرفة هويتها وهو يقول بسرعة وارتباك "نحن لصوص.. كنا في موقع قريب ورأينا الموكب الفخم يعسكر قرب الغابة، ففكرنا أننا قد نتمكن من سرقة ما يمكننا بيعه بثمنٍ غالٍ والاستفادة من المال في إعالة عوائلنا.." ثم أضاف ملوحاً بيديه "لم نكن نعلم أنها أميرة ولم نعلم هوية هذا الموكب.. ظننا أنه ملك لأحد التجار الأغنياء.." نظر له مجد مقطباً بغير اقتناع، بينما وقفت رنيم قربه تنظر لما يجري بتردد.. ولما سمعت مجد يسأله "ألست كاذباً يا هذا؟.. لن أرحمك لو كنت كذلك.." هتف الرجل "لست أكذب.. صدقني.." سمع مجد رنيم تقول "ولكن......." التفت إليها مجد باهتمام دون أن يغفل عن ذلك اللص، فقالت رنيم بعد تردد "لقد قال رفيقك أنكم لن تُقنِعوا أحداً بكونكم لصوصاً إن لم تسرقوا الحليّ التي ألبسها.. فماذا عنى بذلك؟" التفت مجد إلى الرجل الممتقع قائلاً بغضب "إذن كان ذلك كذباً بالفعل.. أخبرني.. من أنتم حقاً ومن أرسلكم إلينا؟" صاح الرجل ملوحاً بيديه "نحن لصوص بالفعل.. ما الذي علينا فعله لتصدق قولي؟" تقدم منه مجد خطوة مدمدماً "لن تخدعني بهذا يا رجل.." ودفع نصل سيفه في كفّ يد الرجل اليمنى بقوة صرخ لها الرجل متألماً.. ولما أبعد مجد سيفه تراجع الرجل خطوة وهو منثنٍ على نفسه وقد قبض على يده الجريحة التي تصببت الدماء منها بيده الأخرى.. وفي الآن ذاته اقترب عدد من الجنود بعد أن جذبتهم الأصوات العالية محيطين بالرجال الثلاثة.. ظلت رنيم تنظر لما يجري مشفقة على الرجل للألم الظاهر على وجهه، وراودها خاطر أن تكون قد جَنَت عليه بتعليقها ذاك.. فتقدمت محاولة التراجع عما قالته كي تجنّب الرجل استجواب مجد له، لكن مجد كان قد اقترب من الرجل من جديد قائلاً بصرامة "من أرسلك؟.. أخبرني لتوفر على نفسك المزيد من الألم.." صاح الرجل وهو يقبض على يده الجريحة بعد أن خلّف فيها سيف مجد جرحاً بليغاً "إنها الملكة.. الملكة هي من أرسلنا.." اتسعت عينا رنيم بصدمة بينما نظر له مجد بدهشة قائلاً "الملكة؟.. أتعني زوجة الملك قصيّ؟" هز الرجل رأسه إيجاباً بقلق قائلاً "أجل.. هي من أرسلنا.." زمجر مجد قائلاً "لا تكذب.. ما الذي أرادت الملكة تحقيقه بهذا التصرف؟" قال الرجل وهو يتراجع خطوتين بقلق "لا أدري.. كل ما طلبته منا أن نباغت الفتاة بعيداً عن الجنود ونصيبها بجرح في وجهها.. لا أكثر من ذلك.. هذا كل ما طلبته منا وقد دفعت لنا مالاً لتنفيذه.." نظر مجد لرنيم مقطباً ملاحظاً نظراتها الزائغة، ثم تساءل بحنق "ما معنى هذا؟" أخيراً، تساءلت رنيم بصوت مبحوح "أي ملكة تعني بالضبط؟" أجاب الرجل بسرعة "الملكة الأولى بالطبع.. مولاتي مريام هي من طلب منا ذلك قبل خروج موكبكم من العاصمة.. وطلبت منا تتبع الموكب من مبعدة وانتظار الفرصة الملائمة دون أن نلفت الأنظار إلينا أو إليها.. صدقني.. هذا كل ما هنالك.." ********************* ظلت رنيم شاحبة وهي تجلس في جانب المعسكر غارقة في أفكارها، بينما تحدث مجد مع رجاله وأرسل عدداً منهم لاستطلاع الموقع حولهم بحثاً عن أي متسللين آخرين.. ثم توجه للفتاة الصامتة واقترب منها متسائلاً "ما الذي تطلبين منا فعله؟.. هل نقتلهم؟" هزت رنيم رأسها نفياً بشدة، فعلق مجد "قد يكررون المحاولة مرة أخرى في وقت آخر طمعاً في النقود التي وعدتهم بها الملكة.." ألقت رنيم نظرة على الرجال المقيدين في جانب المكان والبؤس واضح في ملامحهم، ثم خفضت بصرها وهي تهز رأسها نفياً من جديد.. فزفر مجد وهو يتطلع للموقع حولهم، ثم قال "ربما من الخير لنا اصطحابهم معنا مقيدين حتى نصل للميناء.. يمكننا عندها أن نطلقهم قبل رحيلنا على السفينة التي جئنا بها.. بهذا نضمن ألا يعودوا للملكة ويبلغوها بما جرى قبل رحيلنا بالفعل.." ظلت رنيم على شحوبها وصمتها وهي تفرك يديها باستمرار.. عندها سألها مجد "أتعلمين لمَ فعلت أمك ذلك؟" همست رنيم بصوت مبحوح "ليست أمي.. بل زوجة أبي.. إنها الزوجة الأولى للملك.." فقال مجد "هذا ليس سبباً يدعوها لما فعلته!.." صمتت رنيم وهي تتذكر سخرية أمها من الملكة الأولى لأن هذه الزيجة جاءت من نصيب رنيم عوضاً عن سهى وهي الوحيدة التي لم تتزوج من بنات الملكة الأولى.. عندها قالت رنيم بخفوت "لطالما أعربت أمي عن الحقد الذي ستشعر به الملكة الأولى تجاهي لأن هذه الزيجة لم تكن من نصيب ابنتها الصغرى.. ربما كانت هذه هي وسيلتها لاستبدالي بابنتها قبل وصولنا للزهراء، خاصة أن زواجاً كهذا لن يتكرر لمملكتنا الصغيرة.. فبجرح في وجهي، لن يتردد ولي العهد في رفضي دون أن يثير غضب أبي الملك ويسيء العلاقات بين المملكتين.." نظر لها مجد بشيء من التعجب للهدوء الذي تتحدث به رغم شحوبها الواضح، ثم تساءل "ألستِ غاضبة لما جرى؟" تطلعت رنيم لجانب الموقع وهي تكبت دموعها بصعوبة، ثم قالت بصوت مرتجف "لو كنت أعلم بما تنتويه الملكة، لتنازلت عن هذا الزواج منذ البدء.. لست سعيدة بارتباطي بولي العهد، ولن يهمني لو حظِيَتْ أختي سهى بهذا الشرف.. لماذا تلجأ الملكة لهذه الأساليب الرخيصة لتنحيتي من المستقبل الذي خططته لابنتها؟" صمت مجد وهو بين مشفق على رنيم من الصدمة التي حاقت بها، وبين متعجب لخنوعها الظاهر.. لو كان الأمر يخصّ أميرة أخرى لملأت الدنيا صراخاً غاضباً لما جرى.. لكن ردة الفعل الهادئة هذه قد فاجأته.. فجلس قربها قائلاً "أتسمحين لي بأن أنصحك بشيء؟.." نظرت له في استجابة صامتة، فقال "سترين الكثير بين جدران القصر، وستواجهين الكثير بالفعل.. لكن لو تصرفتِ بمثل هذا الخنوع وصُدمتِ لكل خيانة من شخص قريب منك، فلن تعيشي في هذا العالم طويلاً.. كل ما يمكنني أن أنصحك به أن تتجاهلي وتحاذري من الجميع.. المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته.. هذا شأن القصور في كل مكان وزمان.." خفضت رنيم رأسها وهي تقول بصوت متهدج "أعلم ذلك تمام العلم.. لكني لا أطالب بالكثير.. كل ما أريده هو أن أترك وشأني.. أن أعيش حياتي بهدوء وسكينة.." فقال مجد متأملاً ملامحها "إذن لمَ لا تتحررين من هذه القيود؟.. لمَ لا تفصحين عن رغباتك بوضوح وحزم؟.." صمتت للحظات وهي تتذكر مواجهاتها البسيطة مع الملك والملكة في السابق، ثم أدارت وجهها جانباً مغمغمة بمرارة "هذا مستحيل.. هذه ليست أنا، ولا يمكنني أن أكون أكثر حزماً وقوة.. لا يمكنني مجابهة الآخرين دون أن أخضع وأنكسر بسهولة.." علق مجد بحزم "ربما لم يَفُت الأوان لتغيير ذلك.." هزت رنيم رأسها بشدة واستنكار، فتنهد مجد وقال "لن تستفيدي أمراً من هذه السلبية.. وأنا أعني ما أقوله.." وغادرها عائداً للرجال المقيدين بحراسة بضع جنود تابعين له.. بينما زفرت رنيم وهي تنظر للأرض العشبية بصمت.. كيف يطلب منها مجد مثل هذا الطلب؟.. إنه لا يعرفها، ولو عرفها حقاً لأدرك أن حالها ميؤوس منه.. لو كان بإمكانها التغيير لما كانت في هذا الموقع وتخوض مثل هذه التجربة التي خلّفت مرارة في حلقها.. ********************* مضى اليوم التالي على الموكب في سيره نحو ميناء آرطا الحيوي الذي كان أقرب المواقع من القارة العظمى حيث تحتل مملكة بني فارس جزءاً كبيراً منها.. كان الميناء هو الأكبر على الجزيرة التي تحتلها مملكة بني غياث، وهذا الميناء هو ثاني أكبر مدينة في المملكة بعد العاصمة.. لذلك كانت الحركة على أشدها في أرجاء الميناء وفي المدينة المحيطة به حيث تبقى ساهرة أغلب الأحيان لتلبية احتياجات السفن القادمة للمملكة والتي لا تكاد تهدأ ليلاً أو نهاراً.. أمضت رنيم أغلب هذه الرحلة بصمت تام وهي سارحة في أفكارها الخاصة.. بدأ حماسها في هذه الرحلة يخفت وأفكارها تدور حول تلك الحادثة التي تكشف لها ما كانت غافلة عنه من خبايا قصر أبيها.. يمكن، لو صحّ القول، أن نَصِفَ رأس رنيم بأنه كان معلقاً بين الغيوم طوال سني عمرها.. لم تكن تدرك ما يدور في القصر من دسائس وما يخفيه من أسرار وخبايا.. لم تكن تحمّل أي ابتسامة تراها على وجه شخص في القصر أكبر من قدرها، ولم تكن تتساءل عن مغزى أي كلمة أو تصرف يصدر من أي شخص.. قد يصفها البعض بأنها براءة، رغم نباهتها في أمور أخرى.. وقد تكون مجرد سذاجة.. لكنه في الحقيقة كان انفصالاً عن الواقع.. كانت رنيم تعيش في عوالم أخرى وحكايات أخرى.. قد تنتبه لأدنى قدر من الخبث والنوايا السيئة في إحدى شخصيات رواية تقرؤها، لكنها لا تقتنع أن هذا يمكن أن يحدث في الواقع ومن أقرب الأشخاص إليها.. فكيف، بعد كل هذا، يمكنها أن تقتنع أن زوجة أبيها يمكنها أن تقوم بعمل خسيس كهذا؟.. كيف يمكنها أن تتصور حقداً يعتمر صدر تلك المرأة التي تحمل ملامح نبيلة ورثتها من عائلتها العريقة؟.. كيف؟؟!!!.. هذا ما يكاد يخرج رنيم من طورها ويصيبها بشيء من الكآبة.. ورغم محاولات صفية الدائمة للتسرية عنها والتخفيف من وقع هذه الصدمة عليها، إلا أن رنيم كانت تستمع لها بنصف وعي وهي تراقب ما يمر به الموكب الملكي في سيره نحو ميناء آرطا.. وعند وصول الموكب إلى الميناء في وقت متأخر من ذلك اليوم، فإن المكان كان ينبض بالحياة وكأن اليوم لا يزال في بدايته، والمدينة تغصّ بسكانها وبالبحارة والمسافرين الذين وصلوا على ظهر إحدى السفن أو يستعدون للرحيل على ظهر سفينة أخرى.. ظلت رنيم تراقب الأحياء والشوارع التي يمر عبرها الموكب لافتاً أنظار الجميع دون استثناء.. ورغم انشغالها بما تراه، فإنها لم تُبدِ حماسة أو تُظهر شغفاً بما تشاهده للمرة الأولى في حياتها.. وهذا أقلق صفية نوعاً ما وهي تقول مشيرة عبر نافذة العربة "أترين هذا يا مولاتي؟.. هذا هو الميناء الذي تدور حوله هذه المدينة.." ثم أضافت بابتسامة "لا يمكنك تصديق ما يمر عبر هذا الميناء كل يوم من بضائع نفيسة.. يقال إن من يتمكن من السطو على هذا الميناء ولو لمرة واحدة، سيغدو ثرياً ما بقي له من العمر.. لكن طبعاً هناك حراسة قوية وفرق كاملة من الجنود تحرس الميناء من السرقات ومن أي هجوم متوقع من دولة معادية.." لم تعلق رنيم بكلمة وهي تحدق من النافذة بصمت كعادتها مؤخراً.. عندها قالت صفية بإشفاق "لا تُتعبي نفسك بالتفكير فيما جرى يا مولاتي.. ما فعلته الملكة الأولى ليس غريباً عليها حقاً، لكنك لم تعرفي شخصيتها الحقيقية من قبل لأنك لا تهتمين لأمور القصور وما يجري فيها.. أنت بريئة التفكير ولا يمكنك تخيّل الدسائس التي تجري من حولك في القصر.." غمغت رنيم "تقصدين أنني بلهاء لأنني ظننت أن الملكة الأولى سعيدة لزواجي كما هي أمي.." أسرعت صفية تقول "لستِ بلهاء يا مولاتي.. بل ساذجة.. هناك فرق بين الاثنين.." ابتسمت رنيم ابتسامة هازئة دون أن تعلق، فأضافت صفية "انسي ما جرى يا مولاتي.. لا نعلم متى سترين الملكة الأولى من جديد.. ثم إن مجد قد تمكن من حمايتك بنجاح حتى الآن، ولن يعجز عن فعل ذلك فيما بقي لنا من الرحلة.." تنهدت رنيم وهي تعود بأفكارها لمجد.. وكلماته التي اختتم بها تلك الليلة المشؤومة لا تزال تتردد في ذهنها طوال الوقت.. (المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته).. أحقاً ستعيش في (الزهراء) حياة مشابهة للحياة التي عاشتها في قصر أبيها؟.. ما فائدة زواجها إذن؟.. أهي مجرد قطعة في رقعة شطرنج يحركها أبوها كيفما يشاء دون إرادة؟.. يبدو أنها فعلاً كذلك.. إنها تدرك ذلك منذ مدة، لكن لا تملك تغيير واقعها بشيء بتاتاً.. لاحظت أن الموكب قد توقف عن سيره، ولما نظرت من النافذة رأت ملامح الميناء واضحة لعينيها.. رغم أنها لم ترَ ميناء من قبل في حياتها، وهي التي لم تغادر العاصمة قبلاً، إلا أنه لم يكن من الصعب عليها إدراك مدى ضخامته.. وتبدّت لعينيها أعداد لا تحصى من السفن مختلفة الأحجام وقد توزعت في جوانبه بينما رسى بعضها في موقع أبعد قليلاً وسط الخليج بانتظار فراغ موقع قريب من رصيف الميناء.. ومع الحركة الشديدة في أرجاء الموقع، فإن الجنود فور وصولهم قد شكلوا طوقاً حول عربتها لمنع المتطفلين من الاقتراب منها حتى صعودها على السفينة القريبة.. هبطت رنيم من العربة متلفتة حولها وقد لاحظت كثرة الأعين الفضولية التي ترمقها من بين المتحلقين حول الموقع.. لكنها لم تعلق وهي تتقدم برفقة مجد ووصيفتها خلفها نحو السفينة القريبة.. غنيّ عن القول أن رنيم انبهرت بضخامة السفينة وحجمها وبهائها وهي تصعد إلى سطحها.. وخلال وقت قصير، كانت العربات الملكية قد حملت إلى قلب السفينة عبر معبر خاص، ومعها أغراض رنيم التي جلبتها معها.. ومع كل لحظة تمضي، كانت رنيم تتساءل وهي تجول في أرجاء السفينة "ألن تغرق السفينة مع حجمها الهائل هذا؟" لكن مجد كان يجيب على أسئلتها القلقة بابتسامة جانبية وثقة شديدة.. ولما بدأت السفينة رحلتها الطويلة، تأكد لرنيم أن مخاوفها لم يكن لها أساس من الصحة.. كانت السفينة تقطع البحر وأمواجه بكل سلاسة وقوة والهواء المندفع يقوّس الأشرعة للأمام.. قضت رنيم الساعة الأولى تراقب رحلة السفينة مذهولة لهذه القدرة الخفية على الطفو فوق سطح المياه العميقة رغم وزنها الثقيل.. لكن لم يطُلْ بها الوقت قبل أن يداهمها غثيان شديد ودوار عنيف جعلها تتكوّم في جانب السفينة بتعب.. اقتربت منها صفية بقلق شديد وهي تهتف "مولاتي.. ماذا أصابك؟.. أأنت على ما يرام؟" لوحت لها رنيم بيدها وهي عاجزة عن الإجابة، ولم تلبث أن أفرغت معدتها من فوق حاجز السفينة رغم مقاومتها لذلك.. فقالت صفية وهي تمسح جبهتها التي بدأ العرق ينضح منها وتناولها منديلاً "يحسن بنا أن نتجه للغرفة المخصصة لك.. هناك يمكنك أن تنالي قسطاً من الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة وتمايلها.." سمعتا صوت مجد الذي اقترب قائلاً "لا.. على الأميرة أن تلجأ لغرفة أخرى.. سأنقل أمتعتها لغرفة ثانية تتوسط السفينة، وستكون أفضل بدون شك.." تساءلت صفية بدهشة "أليست الغرفة الأولى هي الرئيسية في هذه السفينة؟.. لماذا تريد نقل الأميرة؟" أجاب مجد "كما قلت لك، ستكون الأخرى أفضل لها وأكثر راحة.." قالت صفية بشيء من الحدة لم تملكها "ليس من مقام الأميرة البقاء في غرفة صغيرة.. لقد تفحصت أغلب غرف السفينة وتلك التي تقع في مقدمتها هي الأكبر.. هل تهدف للتقليل من شأن الأميرة؟" قال مجد وهو يعاون رنيم على النهوض "قطعاً لا.. لمَ أنت محتدة هكذا؟" لكن رنيم قاطعت جدالهما وهي تجبر نفسها على السير بمعاونة مجد.. لم تكن تقوى على البقاء في موقعها والغثيان يزداد حدة مع كل لحظة تمضي.. بدأت الأرض من حولها تميل بشدة وبدت ساقاها لينتان تكادان لا تقويان على حملها.. ولولا اعتمادها على ساعد مجد القوي، لتهاوت بعد الخطوة الأولى أرضاً.. وعند وصولها للغرفة التي حددها لها مجد، أدركت رنيم أنها أصغر وأكثر ضيقاً من الأولى بكثير.. لكنها لم تقوَ على الجدال وهي تستلقي على السرير البسيط بعد أن غادر مجد متمنياً أن تسترد عافيتها بسرعة.. وبينما أغمضت رنيم عينيها بتعب، فإن صفية أخذت تجول في الغرفة الصغيرة وهي تقول بحنق "ما الذي يعنيه هذا؟.. أهو يتهاون بمقام الأميرة؟.. ألن تكون زوجة مولاه؟.. كيف يمكنه أن يتخذ تصرفاً كهذا دون الرجوع إلينا؟.." لم تعلق رنيم بكلمة، لكن ما قالته قد دار في ذهنها لوقت طويل.. لقد لاحظت سخرية مجد منها في الأيام الماضية، وهي مبطنة بابتسامته الجانبية دون أن يتخلى عن تهذيبه الدائم.. ولقد بدأ هذا منذ رآها مهتمة بالفرس الخاصة به.. فهل بدأ يتهاون بمقامها حقاً؟.. لم تكن تهتم بتلك المقامات والدرجات الاجتماعية، لكنها لا تريد سخريةً من شخص ينتمي لزوجها المستقبلي مما قد يفسد زواجها لأمر أو لآخر.. فما الذي عناه مجد حقاً بهذا التصرف؟.. ********************* بعد أن ساد الظلام أرجاء السفينة، وخلدت وصيفتها للنوم في غرفة جانبية قريبة من غرفتها، نهضت رنيم بعد أن استردت شيئاً من قواها وراودتها رغبة قوية بالخروج من هذه الغرفة الضيقة.. فتحت بابها متطلعة للممر خارج الغرفة والذي سادته ظلمة موحشة، لكنها لم تعبأ بهذا وهي تغادر بصمت وخطوات خافتة متخلية عن حذائها لئلا يصدر صوتاً يجذب إليها الأنظار.. كان الغثيان قد خفت قليلاً إنما لا تزال تشعر بمعدتها متقلبة وكأنها ستخرج من فمها في أي لحظة.. تجاوزت ذلك الممر بأبوابه المغلقة حتى وصلت للسلم الخشبي الذي يقودها لسطح السفينة، فنظرت عبر الفتحة للحظات خشية وجود شخص على السطح قد يعترض على خروجها في ذلك الوقت المتأخر.. سارت رنيم عبر سطح السفينة الخشبي بخفة وهي تتنفس بقوة والهواء المنعش المشبع برائحة البحر يملأ رئتيها.. وللدهشة، بدأ الغثيان يخفت أكثر فأكثر وشعرت أنها ستغدو على ما يرام خلال لحظات.. لذلك شتمت مجد في سرها بعد أن أجبرها على البقاء في تلك الغرفة الخانقة.. سارت مستطلعة جوانب السفينة الواسعة، حتى وصلت لمقدمتها حيث رأسها المزخرف والذي يحمل علامة مملكة بني فارس المميزة بشكل بارز، بالأسد المزمجر والتاج الملكي على رأسه.. فوقفت قرب الحاجز الخشبي لتنظر للأفق المظلم وتطلّ على المسطحات المائية الشاسعة التي لم ترَ مثلها من قبل.. لم تعرف من قبل، مع كل ما تسمعه عن البحر، أن له سطوة كاسحة تُشعر ركاب السفينة بالضآلة والضعف.. كانت تتوق سابقاً لرؤية البحر وخوض غماره، لكنها الآن مع الضعف الذي تشعر به، فإن سطوة البحر بدت مهيمنة عليها وتثير رجفة في أعماقها بشدة.. ظلت رنيم تراقب الأمواج والهواء البارد يعبث بشعرها، ولما طال وقوفها على السطح الذي تمايل مع تمايل الأمواج تحته، عاد لها الشعور بالغثيان بقوة حتى أجبرها على إفراغ معدتها من فوق ذلك الحاجز.. ظلت رنيم في موقعها وهي تكاد تفقد قواها مع التعب والغثيان القوي، لكنها تشبثت بحد السفينة بإصرار وهي تلهث بقوة عندما فوجئت بضحكة تتعالى من موقع ما خلفها.. أدارت رنيم رأسها عابسة لترى، في موقع مرتفع من السفينة وعلى أحد صواريها، مجد ينظر لها بابتسامة جانبية كما أصبح يفعل في الأيام الأخيرة.. وسمعته يقول "لم أتوقع من أميرة نبيلة أن تفرغ معدتها بهذا الحماس أمام الآخرين.." قالت بعبوس "ما الذي جاء بك لهذا المكان في مثل هذا الوقت؟" أجاب رافعاً حاجبيه "للمرء الحق بأن يصاب بالأرق.. أليس كذلك؟.. كان حريّاً بك البقاء في غرفتك وإطاعة ما طلبته منك.." لم تجبه رنيم وهي تبحث في ثوبها عن منديل تمسح به فمها، ولما لم تعثر على واحد قالت بضيق "تباً لهذه الرحلة المشؤومة.." شعرت بشيء يسقط على رأسها، ولما مدت يدها إليه وجدت منديلاً سقط عليها بخفة بينما تعالى صوت مجد قائلاً "لا تلقي لعناتك على رحلتنا، فأنا سأكون الملام الوحيد لو لم نصل لوجهتنا سالمين.." لم تعلق رنيم وهي تمسح فمها وتشعر بالغثيان يعود لها من جديد، بينما هبط مجد من موقعه المرتفع وهو يغمغم "يا لك من عنيدة.. عودي لغرفتك وخذي قسطاً من الراحة.. ستصبحين أفضل حالاً في الصباح.." رآها تضغط على فمها بيد، قبل أن تقول بصوت متعب "الغثيان لا يخفت أبداً مهما تقيأت.. كيف تريدني أن أصدق قولك؟" قال وهو يقف قريباً "لأنك ترفضين اللجوء لبعض الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة.. ثم إن وقوفك في مقدمتها حيث الحركة أشد وضوحاً كفيل بزيادة تعبك وشعورك بالغثيان.. الموقع وسط السفينة أكثر ثباتاً، لذلك أصررت على أن تبقي في إحدى الغرف القريبة من وسط السفينة.." نظرت له بشيء من الدهشة.. إذن لم يفعل ذلك احتقاراً لها؟.. هل أخطأت الظن به؟.. شعرت بالسوء نوعاً ما، فأدارت وجهها جانباً وغمغمت "لقد شعرت بشيء من الراحة مع هذا الهواء المنعش، وهو أفضل من تلك الغرفة الخانقة بالتأكيد.." عندها قال مجد "إذن هناك حل آخر أكثر ملاءمة لحالك هذه.." نظرت له باستفهام، فأشار للأفق قائلاً "ثبتي بصرك على الأفق لبعض الوقت.. رؤيتك لحركة الأمواج القريبة تزيد من شعورك بالغثيان.. الأفق أكثر ثباتاً، وإطالة النظر إليه ستعيد التوازن لجسدك وسيخفت التعب سريعاً بعده.." ترددت رنيم للحظات، ثم أخذت بنصيحته وهي تتأمل الأفق المظلم إلا من انعكاس نور القمر الخفيف على الأمواج.. ظلت تراقب الأفق بصمت ومجد يقف في موقع قريب يراقب البحر بدوره.. فتساءلت رنيم عن سر ذلك الاهتمام الذي يبديه مجد تجاهها.. أهذا بسبب مرضها؟.. هل يخشى من تأنيب الملك له لو حدث لها شيء في هذه الرحلة؟.. هل يشعر بالشفقة تجاهها؟.. ليس هذا ما تريده بحال.. بعد قليل، شعرت أنها أفضل حالاً.. ومع كل لحظة تمضي، تشعر أن تعبها وغثيانها يخفت أكثر فأكثر.. لكن ألن يعاودها الغثيان حقاً؟.. ويبدو أن مجد قد سمع تساؤلاتها الصامتة، فقال فجأة محطماً ذلك الهدوء "لو زال عنك الغثيان، فستكونين بخير لما تبقى لنا من الرحلة.. عليك أن تتعلمي التحكم بجسدك بصورة أفضل.." غمغمت رنيم "وهل هذا ممكن حقاً؟" أجاب مجد "يمكنك ببعض الإرادة لو كنتِ تملكينها حقاً.." شعرت رنيم أن قوله يحمل بعض التأنيب لها بسبب ما دار بينهما من حديث في ليلة الهجوم عليها، وما تلاه من تهاون رنيم في التصرف بشكل حازم فيما يخصّ حياتها.. لكن مجد الذي لاحظ انقباض ملامحها بضيق، سارع ليقول "أتعلمين؟.. لم يكن رد فعلي في أول رحلة قمت بها على ظهر سفينة يختلف عما جرى لك.. بل ربما كان أسوأ.." نظرت له رنيم بدهشة، فقال بابتسامة "رغم أنني كنت رجلاً تجاوز العشرين من عمره بعدة سنوات، لكني قضيت أغلب تلك الرحلة أفرغ معدتي من فوق حاجز السفينة بكل حماس.." ضحكت رنيم لتعليقه، فيما قال بابتسامة "لذلك، أشعر تماماً بما تشعرين به.." تساءلت رنيم "وإلى أين كنت ذاهباً على ظهر تلك السفينة؟" أجابها متطلعاً للأفق "كنت متوجهاً للزهراء في رحلتي الأولى.. فأنا لست من سكان (الزهراء) في الحقيقة، بل نشأت في جزيرة صغيرة من (الأرخبيل الأسود) الذي يتوسط بحر السلام.. وعندما بلغت ذلك العمر، قررت أنني أريد التوجه لعاصمة الملك عبّاد والانضمام لجيوشه.." استمعت له رنيم بشيء من الدهشة، ثم تساءلت بشغف "ما اسم الجزيرة التي نشأت عليها؟.. وكيف كانت تبدو؟" أجاب بابتسامة لفضولها "تلك جزيرة صغيرة نسبياً تقع وسط الأرخبيل، واسمها (جزيرة القمة البيضاء).. وبسبب موقعها المتوسط فإنها قد شهدت بعض المعارك بين جيشي المملكتين المعاديتين كان آخرها قبل أن أرحل من الجزيرة بالفعل........" علقت رنيم "لم أسمع بهذه الجزيرة من قبل رغم كثرة قراءاتي في مكتبة أبي.." نظر لها مجد باهتمام قائلاً "حقاً؟.. لا أتوقع أن تتحدث الكتب عن جزيرة بغير أهمية كجزيرتنا، كما لم أتوقع بتاتاً أنك تحبين قراءة الكتب.." علقت رنيم بشيء من التردد "أحبها بالطبع، لكن......" خشيت للحظة من أن يسيء هذا لصورتها أمام مجد، لكنها وجدته يبتسم قائلاً "رائع.. هذا يثبت لي أنك بالفعل مختلفة عن بقية الأميرات فارغات العقل ممن لا يستهويهن إلا الجواهر والحلي.." ابتسمت رنيم مع دهشتها لتعليقه، وقالت "في الواقع، تتذمر أمي باستمرار من كوني مختلفة.. وهذا سبب لضيقها مني منذ نشوئي.." غمغم مجد "لابد أن الملكة تطمح لأن تكون ابنتها كما هن بقية الأميرات.. رغم أن هذا ليس الخيار الأفضل دائماً.." ثم التفت إليها مغيراً الموضوع "أتعلمين أن أسطورة معينة تتردد عن الجبل الذي يتوسط جزيرتنا؟.. إنها أسطورة قديمة جداً وعلى جانب من الغرابة يجعلها بعيدة عن الصحة بشكل أكيد، لكن كبار السن يؤمنون بها بشكل مطلق.. إنها تقول إن اليوم الذي سيطلق فيه الجبل حممه ويلتهم نصف الجزيرة، سيكون هو اليوم الذي سيخرج فيه شاب من شبابها يملك مقدرة غير عادية على مواجهة هذا الخطر، وسـ........." استمعت له رنيم بكل اهتمام وشغف.. كانت تحب قراءة الحكايات التي تحكي عن مناطق لم ترها من قبل في هذا العالم الواسع.. والآن، مع استماعها لمجد، فإن شعوراً مشابهاً قد راودها وهي تنصت له بكل اهتمام.. ورغم التعب الذي نال مجد من الرحلة في هذا اليوم، فإنه لم يتنصل من هذا الحديث مع رؤية اللهفة في عينيها وهي تستمع له.. ومع مرور الدقائق بسرعة كبيرة حتى قارب الفجر على الانبلاج، فإن رنيم لم تترك أي جزء من رحلات مجد في أرجاء مملكة بني فارس لم تسأله عنها.. وعندما طالبها أخيراً بالعودة لغرفتها لنيل بعض الراحة، غادرت رنيم عائدة لغرفتها وقد زال عنها شعور الضيق والكآبة اللذين استعمراها منذ تلك الحادثة.. بدأت تدرك أن مجد، رغم صرامته ورغم تصرفاته التي ضايقتها أحياناً، فإنه شخص طيب ولطيف معها.. والأهم من ذلك يملك الكثير من الحكايا التي أمتعتها وأنستها همومها ولو بشكل مؤقت.. وشيئاً ما، شعرت أن ذلك الرجل الذي يقارب في عمره عمر عمها الثاني، قد أصبح أقرب إليها بحكاياته وبلطفه الذي أظهره بشكل باغتها.. وأصبحت ترى أن رحلتها تلك ستغدو أكثر إمتاعاً وثراء مما ظنت بكثير.. ********************* |
رد: على جناح تنين..
هذه الرواية كما قلت لكم هي رواية خيالية بالدرجة الأولى..
مكونة من خمسة عشر فصلاً، بالإضافة لفصلين إضافيين.. أرجو أن تبلغوني لو كنتم تريدون تغيير نوع الخط أو لونه أو حجمه ليناسب القراءة.. وأتمنى أن تعجبكم أحداث الفصول حتى الآن.. وغداً موعدنا مع فصل جديد بإذن الله تعالى.. |
رد: على جناح تنين..
يا هلا بيك في صرح ليلاس أختي الغالية عالم خيال وأتمنى تكملي الرواية دون توقف عرفت من العنوان إنها بتكون خيالة وحسيت خلال قرائتها وكأني أشوف مسلسل تاريخي قديم لغتك العربية جدا نظيفة وسلسة الصراحة أهنيك على خلو نصوصك من الشوائب والأخطاء وبشكل كامل تقريبا في انتظار وصول رنيم لمملكة فارس وللزهراء ويا خوفي من ولي العهد كيف بيكون هذا لو وصلت طبعا شكرا عزيزتي على الرواية ذات الطابع المختلف ولك كل ودي
|
الساعة الآن 01:43 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية