الدكتور جلال امين يكتب قصة الفساد في مصر (موضوع)
الجزء الاول الفساد وصل إلي درجة تفوق القدرة علي الاحتمال عندما يسمع أحد كلمة «فساد»، ينصرف ذهنه علي الفور إلي موظف أو مسؤول حكومي، كوزير أو مسؤول أعلي منه درجة أو أدني منه، في الحكومة المركزية أو المحلية، يوكل إليه، بحكم وظيفته، عمل من أعمال الصالح العام، فيتخلي عنه أو يعمل عكسه، تحقيقاً لمصلحة خاصة. إن المعني الحرفي لكلمة «فساد» يشمل حالات أخري كثيرة بالطبع، كالغش في البيع والشراء، أو سرقة أموال شركة أو بنك في القطاع الخاص، ولكن إذا لم تكن الحكومة طرفاً، ولم يكن المعتدي عليه «مالاً عاماً»، فالعادة أن يسمي هذا نصباً أو احتيالاً ولا يسمي فساداً. من الأمثلة الواضحة علي الفساد تغاضي موظف عام عن تنفيذ أمر بإزالة عمارة، أو إزالة دور من أدوارها أضيف بمخالفة للقانون، أو التغاضي عن تنفيذ حكم قضائي، أو السماح باستيراد أغذية مغشوشة أو ببيع مياه شرب ملوثة وكأنها مياه معدنية نظيفة.. إلخ، في مقابل رشوة، أو للحصول علي رضا شخص من أصحاب النفوذ، في قدرته تحقيق مصلحة خاصة له. من البديهي أن الفساد ينتشر عندما يشتد الإغراء لارتكابه، وعندما يسهل ارتكابه دون عقاب، أي أن الأمر يتوقف علي شدة الرغبة فيه، ودرجة القدرة علي تنفيذه وفي ظروف اجتماعية معينة، كتلك التي تسود مصر الآن، تشتد الرغبة والقدرة معاً، ولكن الأمر لم يكن دائماً كذلك، ولا هو سيظل دائماً كذلك. الفساد موجود بالطبع في كل بلد وفي كل عصر، ولكنه أحياناً، وفي بعض البلاد، يكون محتملاً، وفي غيرها غير محتمل. والناس في مصر الآن يرون أن الفساد قد وصل إلي درجة تفوق القدرة علي الاحتمال. إذ ما أشد الإغراء الذي يتعرض له المصري الآن، في مختلف مجالات الحياة، لارتكاب عمل من أعمال الفساد، وما أسهل ارتكاب أعمال الفساد في مصر الآن دون التعرض لأي عقاب. نعم كان الفساد موجوداً في مصر في العهد الملكي، وكان موجوداً في الخمسينيات والستينيات في ظل حكم عبدالناصر، واستمر في عهد السادات ثم مبارك، ولكن ما أكبر الفارق بين فساد كل عهد من هذه العهود وبينه الآن، مما يجعل قصة الفساد في مصر جديرة بأن تروي. * * * لابد أولاً من التمييز بين العقود الأولي من العهد الملكي وبين العقد الأخير، وهو عقد الأربعينيات من القرن الماضي. فما أقل الفساد الذي عرفته مصر في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، أي العقدين التاليين مباشرة لثورة 119، وما أسرع انتشاره ونموه خلال سنوات الحرب العالمية الثانية وحتي ثورة 1952. ومن السهل تفسير هذا الانقلاب في درجة الفساد وطبيعته بين هاتين الفترتين من العهد الملكي. إن من الصعب علي المرء الآن أن يتصور نوعية الرجال الذين كانوا يتولون منصب الوزير، أو رئيس الوزراء وغيرهما من المناصب العليا في الدولة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. كان لبعض هؤلاء، قبل اعتلائهم الوزارة أو رئاسة الوزراء، أو مناصبهم الكبيرة في الدولة، تاريخ معروف في مقاومة الاستعمار الإنجليزي، ولكن غالبيتهم العظمي كانوا، قبل اعتلاء هذه المناصب، يحتلون مكانة عالية في أذهان الناس، بسبب تميزهم المعروف في مجال عملهم. كان منهم الفقيه الكبير أو المحامي الشهير أو الطبيب النابغة أو الأديب الموهوب.. إلخ، كما كانت غالبيتهم العظمي (باستثناء عدد صغير من المستقلين) أعضاء في أحزاب سياسية حقيقية تتنافس علي الوصول إلي الحكم. كان الذي يميز بين هذه الأحزاب، ليس درجة النزاهة، فالغالبية العظمي من رجال هذه الأحزاب كانوا معروفين بالنزاهة والاستقامة، بل اختلاف مذهبهم في طريقة التعامل مع الإنجليز، أو في التزامهم بتحقيق مصالح طبقة اجتماعية أو أخري، أو في نوع المزاج الشخصي الذي يجعلهم يميلون أكثر أو أقل إلي الديماجوجية وتملق مشاعر الجماهير. لهذا السبب، تمتع منصب الوزير طوال العصر الملكي، خاصة في العشرينيات والثلاثينيات (ناهيك عن منصب رئيس الوزراء) بهيبة شديدة واحترام حقيقي مستمدين، ليس فقط من اتساع سلطات الوزير، بل أيضاً من شخصية الوزير نفسه وتاريخه، بالإضافة إلي ما كانت تتمتع به الطبقة العليا التي كان يأتي منها معظم الوزراء ورؤساء الوزراء، من هيبة مستمدة من الثراء الموروث، وليس من اعتلاء المنصب. هكذا كان حال المسؤولين الكبار، ولكن ماذا عن غالبية الشعب من الفقراء، ألم يكن الإغراء قوياً لديهم لطلب الرشوة وقبولها، في ظل فقرهم الشديد من ناحية، والتفاوت الكبير في الدخل والثروة من ناحية أخري؟ نعم كان الفقر شديداً، وكان التفاوت الطبقي كبيراً أيضاً، ولكن يبدو أن الأكثر أهمية من شدة الفقر، ومن التفاوت الطبقي في توليد الفساد، هو كيف ينظر الناس إلي هذا الفقر وهذا التفاوت. إني مازلت أذكر جيداً كيف كانت نظرة الفقير إلي الأثرياء في مصر قبل الثورة، وكيف كانت نظرة الأثرياء إلي الفقراء، كما أن الأعمال الأدبية التي تتضمن وصفاً لمجتمع ما قبل الثورة، والأفلام السينمائية التي ظهرت في الثلاثينيات والأربعينيات تقول الكثير عن هذه العلاقة. كانت نظرة كل من الطبقتين إلي الأخري يختلط بها شيء يشبه الشعور العنصري، إذ تنظر كل منهما للأخري وكأنها تنتمي إلي «جنس» مختلف، أو نوع مختلف من البشر. لاشك أن طول عهد المصريين بالخضوع للحكم الأجنبي، وقرب عهدهم بحكم الأتراك، وباحتكار ذوي الأصول التركية للمصدر الأساسي للثروة في مصر وهو الأرض، قد ساهم في ترسيخ هذا الشعور، ولكن لاشك أيضاً أن مجرد استمرار التفاوت في الدخول والانقسام الحديدي بين الطبقات، كل هذا التاريخ الطويل دون أن يظهر أي أمل في تغييره، قد رسخ أيضاً الشعور بأن الفقير سوف يبقي فقيراً إلي الأبد، وكذلك أولاده وأحفاده، وكذلك سيبقي الثري وأولاده أثرياء إلي الأبد. لقد ظل الحراك الاجتماعي (أي صعود شرائح من المجتمع علي السلم الاجتماعي وهبوط غيرها) ضعيفاً للغاية، وبطيئاً حتي لا يكاد يحس به أحد، لقرون طويلة قبل ثورة 1952، فإذا كانت خبرة المصريين خالية إلي هذا الحد من أمثلة لصعود شخص علي السلم الاجتماعي أو هبوطه، أو لتمتعه بالنعيم بعد طفولة بائسة، فأي أمل يمكن أن يوجد في أن ينجح أحد في تحقيق صعود اجتماعي سريع؟ إن الأمثلة القليلة التي شاهدها المصريون في نصف القرن السابق علي 1952، لصعود بعض الأفراد من الطبقة الدنيا إلي الطبقة الوسطي، كانت في الأساس أمثلة لبعض النوابغ الذين هيئت لهم فرص نادرة للتعلم والتفوق، أو أمثلة أكثر ندرة لضربة حظ في التجارة التي استمر الجزء الأكبر منها محتكراً من الأجانب حتي 1952، وقد ساعد علي ضعف الحراك الاجتماعي قبل 1952 تراخي معدلات النمو الاقتصادي، وبطء الزيادة في الأسعار. ومن ثم ما أندر الفرص التي كان يمكن أن تتاح للإثراء من وراء مشروعات اقتصادية كبيرة، أو من شراء أرض أو بيت يرتفع سعرهما فجأة. في مثل هذا المناخ لابد أن يضعف بشدة (أو حتي يختفي) أي أمل في الصعود الاجتماعي السريع، وفي المقابل يضعف الخوف من التدهور والسقوط. وفي ظل هذا وذاك يضعف الإغراء بتقديم رشوة أو قبولها، وتضعف الرغبة في التقرب إلي الحكّام أملاً في تحقيق مغنم كبير. * * * بالإضافة إلي كل ذلك كانت هناك، في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، قوة الشعور بالانتماء للجماعة الوطنية، مما ساعد علي تقوية المناعة ضد الفساد. إن قوة الشعور بالانتماء تنمي الحس الأخلاقي وتقوي الشعور بالالتزام بما فيه الصالح العام، وتضعف من الشعور الأناني بالرغبة في تحقيق المصلحة الذاتية بأي ثمن. لا يمكن لأحد الزعم بأن هذا الشعور بالانتماء كان قوياً قبل 1952 لدي الغالبية العظمي من الفلاحين المصريين. إذ أي نوع من الانتماء كان من الممكن أن يشعر به فقراء الفلاحين في مصر الذين كانوا محرومين من ضروريات الحياة، بل من أي فرصة للتعرف علي الآمال الوطنية أو فهم مطامع الإنجليز وضرورة التصدي لها...إلخ؟ لم تكن الحركة الوطنية غائبة تماماً عن الريف المصري، ولكنها لم تكن تمتد إلي أبعد كثيراً من الطبقة الوسطي من أصحاب الحيازات الزراعية المتوسطة، أما الغالبية العظمي من عمال الزراعة وصغار المستأجرين فكانت أعباء توفير القوت الضروري كافية لشغلهم عن أي شيء آخر. من الأقوال المأثورة عن كارل ماركس أن «العامل لا وطن له»، ومهما كان في هذا القول من مبالغة، فإنه ينطوي أيضاً علي حقيقة بسيطة لاشك فيها، وهي أن إلحاح الحاجات الاقتصادية الضرورية لابد أن يضعف من الشعور بالانتماء للوطن. ولكن من الصحيح أيضاً أن الشعور بالانتماء للوطن لدي الطبقة المتوسطة في مصر في عهد ما قبل الثورة، في الريف والحضر كان قوياً ونابضاً بالحياة. كانت الطبقة المتوسطة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين تتمتع (بوجه عام) ببعض الخصال الرائعة التي فقدتها بالتدريج في النصف الثاني من القرن. كان المصدر الأساسي (وأكاد أقول الوحيد) لنمو الطبقة الوسطي في مصر خلال النصف الأول من القرن هو التعليم، فقد كان نمو الصناعة والزراعة بطيئاً للغاية، ومن ثم التجارة أيضاً، وكان المشتغلون بالصناعة والتجارة الكبيرة، في الأساس، من الأجانب. المدهش حقاً، عندما نقارن بين حالة التعليم في النصف الأول من القرن وبين حالته الراهنة، هو ذلك المستوي الرفيع لما كان يتلقاه الطلاب في المدارس والجامعة علي السواء في ذلك الوقت، وأن التقدم الكمي الذي حدث في التعليم بعد 1952، بزيادة عدد التلاميذ وفتح مدارس جديدة، قد اقترن بتدهور مفزع في مستواه. لقد سمح المعدل البطيء للغاية للحراك الاجتماعي في مصر وانخفاض معدل التضخم، خلال النصف الأول من القرن العشرين بأن تشعر الطبقة المتوسطة بدرجة عالية من الاستقرار والثقة بالنفس، إذ لم يشعر أفرادها بأن هناك ما يهدد مراكزهم الاجتماعية، واستمروا يتمتعون باحترام الطبقتين الدنيا والعليا علي السواء. وزاد من هذا الاحترام ما كان معظمهم يتمتعون به من مستوي عالٍ من التعليم. انعكس هذا المستوي العالي للتعليم، رغم قلة عدد المتعلمين، في نوع الثقافة السائدة، كما تبدو في الكتب المؤلفة والمترجمة، وفي الصحف والمجلات، وفي البرامج والأحاديث الإذاعية، وفي مستوي اللغة العربية المستخدمة، وكذلك في المستوي العالي، الثقافي والخلقي لقادة الحياة الثقافية في ذلك الوقت، كان الناس يقرأون لطه حسين والعقاد وأمثالهما، ويحكي البعض عن طوابير من القراء كانت تنتظر أمام بعض المكتبات في الصباح الباكر إذا سمعوا عن ظهور كتاب جديد لهؤلاء، وكان المتحدثون في الإذاعة من مستوي هؤلاء الكتاب، وكذلك محررو ورؤساء تحرير الصحف والمجلات الثقافية. كانت القضية الوطنية في ذلك الوقت واضحة وضوح الشمس، وتتلخص في جلاء الإنجليز وتحقيق الاستقلال، والقضية الاقتصادية كانت واضحة أيضاً، وتتلخص في التصنيع والقضاء علي «الفقر والجهل والمرض»، فإذا حمل هذه القضية رجال علي هذا المستوي من التعليم والخلق، كان من الطبيعي أن يسود المناخ العام شعور قوي بالانتماء للوطن، وأن يرتبط بهذا نفور واحتقار شديدان لأي عمل فيه شبهة الفساد. * * * من اللافت للنظر أيضا أن الشعور الديني لدي الطبقة الوسطي المصرية في النصف الأول من القرن كان علي وفاق تام مع الشعور بالانتماء الوطني، بينما نجد الآن شيئاً يشبه التنافر أو حتي القطيعة بينهما، وكأن الولاء الوطني من نصيب العلمانيين «أو بعضهم»، وقوة الشعور الديني وقف علي غير المبالين بشؤون الدنيا والوطن، إن إطلاق الحكم في هذا الأمر خطأ بالطبع ومحفوف بالخطر، ولكن هناك فارقا واضحاً ومهماً تجب ملاحظته بين العلاقة بين الشعور الديني والانتماء الوطني في كلتا الفترتين، كما أنه ليس من الصعب تفسيره. كان من الطبيعي أن يكون فهم الدين من جانب الطبقة الوسطي المصرية، التي تمتعت بهذه الخصال التي ذكرتها حالا «الاستقرار والثقة بالنفس، والمستوي العالي من التعليم والخلق» أكثر عقلانية وأقل تأثرا بالخرافات، وأقل تمسكا بالمظاهر منه بجوهر الدين، ومن ثم كان من الممكن جدا أن يجتمع شعور ديني قوي، مع فهم عقلاني للغاية للحياة، وتسامح رائع مع أصحاب الديانات الأخري أو المواقف المخالفة من الدين، ناهيك عن اقتران الشعور الديني القوي بشعور وطني قوي أيضا، لم يبد أن هناك أي تضاد يمكن أن يحدث بين الولاء للدين والولاء للوطن، أو بين الانتماء للأمة الإسلامية والانتماء للأمة المصرية، فالموقف العقلاني من الدين يسمح بهذا وذاك. ولكن الموقف اللاعقلاني والمتشنج من الدين يساعد علي وجود فرقة بين الأمرين، وعلي انفصام عري الطبقة الوسطي بين المتدينين والعلمانيين، كما يساعد علي فهم الدين وكأنه يشمل الحياة كلها، وفهم السياسة علي أنها ليست إلا موقفاً معينا من الدين. إنني أزعم أن هذا التغير المهم الذي طرأ علي طبيعة الخطاب الديني كان مما ساعد علي نمو مناخ يساعد علي انتشار الفساد بدلا من أن يضيق نطاقه، إن من السهل جدا أن يجتمع القيام بعمل فاسد مع التمسك بشكليات الدين، وأن يقبل الرجل الرشوة أو يرتكب غشاً في المعاملة وهو يتمتم في نفس الوقت ببعض العبارات الدينية، في حين أن إعطاء الرشوة أو قبولها أو ارتكاب عمل مشين يصعب تصوره من شخص يتمسك بجوهر الدين وبالأخلاقيات التي يحض عليها. * * * إن كل ما أقوله عن هذه الأمور هو طبعاً نسبي، والمقصود به إبراز الفرق بين عصر وعصر، وليس إظهار عصر بأنه كان طاهراً طهارة كاملة ولا يعرف الفساد. فالحقيقة كانت طبعاً غير ذلك، خاصة في السنوات الأخيرة من العهد الملكي. فلاشك أنه خلال السنوات الأخيرة السابقة علي ثورة 1952، كثر الحديث عن الفساد وتكررت أمثلته مما سمح لرجال الثورة بأن يرفعوا شعار «مكافحة الفساد»، كواحد من أهم شعاراتهم، وأن ينشئوا بمجرد نجاح الثورة «محكمة للثورة» بهدف كشف فساد العهد السابق ومعاقبة مرتكبيه. فما الذي حدث بالضبط في السنوات الأخيرة من العهد الملكي، وكيف تغير المناخ الاجتماعي والسياسي حتي يسمح بنمو الفساد؟ |
الجزء الثاني
في السنوات العشر السابقة علي ثورة ١٩٥٢، حدثت في مصر أشياء كان من شأنها إعداد تربة صالحة لنمو الفساد، إذ ساد في مصر خلال الأربعينيات مناخ من التوتر الاجتماعي لم تعرف مصر مثله، لا في العقدين السابقين ولا في العقدين اللاحقين عليها. كان العامل الأساسي الذي خلق هذا التوتر هو بلا شك قيام الحرب العالمية الثانية وتغير المناخ الدولي بوجه عام، وانعكاس هذا وذاك علي الأوضاع الداخلية في مصر. ارتفع فجأة معدل التضخم، بسبب ندرة بعض السلع الضرورية مع صعوبة الاستيراد، وزيادة الإنفاق الحربي وإنفاق القوات البريطانية في مصر. ومع ارتفاع معدل التضخم ظهرت فرص لم تكن معروفة للحراك الاجتماعي، وتندر الناس بظاهرة «أغنياء الحرب»، وتداولوا القصص عن حمَّال فقير أصبح ثريا كبيرًا بسبب إتجاره مع قوات الاحتلال، أو عن صاحب ورشة صغيرة تحوّل خلال سنوات قليلة إلي مليونير بسبب الحماية الطبيعية التي وفرتها له الحرب. ارتفعت أيضًا بشدة أسعار الأراضي الزراعية بسبب ارتفاع معدل نمو السكان مع قلة ما بذل من جهد لاستصلاح أراض جديدة، وارتفع معدل الهجرة إلي المدن بحثًا عن فرص للعمل. فما أن انتهت الحرب حتي ارتفع معدل البطالة بسبب تراخي الإنفاق الحكومي وانكماش حجم القوات البريطانية، ظهرت المشكلة الاجتماعية إذن بوضوح أكبر بكثير مما كانت عليه الحال في العشرينيات والثلاثينيات، إذ اتسعت الفوارق بين الطبقات ولم يعد الفقر كما كان ظاهرة ريفية في الأساس. لا عجب أن أكبر وأشهر كاتب في مصر في ذلك الوقت (طه حسين) الذي كتب في نهاية الثلاثينيات، وقبل نشوب الحرب مباشرة، كتابًا يشع بالتفاؤل بمستقبل مصر ويضع فيه الخطط لتطوير الثقافة والتعليم (مستقبل الثقافة في مصر، ١٩٣٨)، وجد نفسه في نهاية الأربعينيات مدفوعًا إلي الكتابة في موضوع اجتماعي لم يطرقه من قبل وهو توزيع الدخل في مصر، فينشر كتابًا بعنوان (المعذبون في الأرض، ١٩٤٨). كان لابد أن يؤدي ارتفاع الطموحات، مع ارتفاع معدل الحراك الاجتماعي والتضخم، من ناحية، وزيادة السخط بسبب التدهور في توزيع الدخل، من ناحية أخري، إلي اشتداد الدافع وإلي انتهاز الفرص المتاحة لاستغلال النفوذ في سبيل الصعود الاجتماعي أو علي الأقل تجنب الهبوط. ولكن كان يحدث في نفس الوقت تراخٍ في قوة الدولة (لأسباب ليست بدورها بعيدة الصلة بالحرب) مما جعل الراغب في استغلال النفوذ أقدر علي تحقيق أغراضه، مما كانت عليه الحال في ظل دولة أكثر قوة. كان الإنجليز قد بدأوا منذ بداية الحرب، يمارسون ضغوطًا علي الدولة المصرية (ملكًا وحكومة) أكبر بكثير مما كانوا يمارسونه في وقت السلم. لم يكن من الممكن للإنجليز أن يسمحوا بأن يقوم الملك أو الحكومة المصرية بأي عمل من شأنه إضعاف فرصتهم في كسب الحرب، ولو اقتضي الأمر إرسال الدبابات البريطانية إلي قصر عابدين لفرض حكومة لا يريدها الملك (كما حدث في ٤ فبراير ١٩٤٢). وقد أثار هذا الاستعمال السافر للقوة من جانب سلطة الاحتلال، مشاعر الخوف والإحباط لدي الملك والحركة الوطنية المصرية علي السواء، ثم حدث في أعقاب الحرب مازاد الشعور بالإحباط شدة: الإنجليز لا يظهرون أي استعداد للاستجابة لمطالب الحركة الوطنية بالجلاء، وخاب رجاء حكومة مصرية بعد أخري في مفاوضاتها مع الإنجليز أو في عرض قضيتها علي الأمم المتحدة، في نفس الوقت اشتد عنف التيار الإسلامي وتجرؤه علي الدولة، فيقتل قاض كبير أصدر حكماً لا يرضي عنه الإخوان المسلمون، فتحل الدولة جماعتهم، فترد الجماعة بقتل رئيس الوزراء، ويرد رئيس الوزراء التالي بترتيب قتل رئيس الجماعة. في مناخ بهذه الدرجة من التوتر والإحباط يقوم اليهود في فلسطين بإعلان دولة إسرائيل وتنشب حرب فلسطين في ١٩٤٨ فتدخلها مصر بجيش غير مستعد للقتال، فيعود مهزومًا وفي نفس الوقت تنفتح مصر علي عالم جديد تظهر فيه لأول مرة السلع الأمريكية من السيارة الفارهة إلي الأفلام الفاتنة، إلي القميص النايلون إلي زجاجة الكوكاكولا ولبان تشيكلس...إلخ. لم يكن غريبًا في مثل هذا المناخ أن يصاب القصر الملكي بالضعف الشديد واليأس، وأن تتتابع الحكومات المصرية، فإذا بكل حكومة جديدة أضعف من سابقتها، بل وأن يصيب الضعف الشديد أيضًا أكبر الأحزاب المصرية شعبية (الوفد) وصاحب أطول تاريخ في الكفاح من أجل الاستقلال، والذي يرأسه أكثر الزعماء اشتهارًا بالنزاهة والاستقامة، لم يكن غريبًا أن يظهر هؤلاء جميعًا استعدادًا لقبول الفساد (أو السكوت عنه)، بل ممارسته بدرجة لم تعرفها مصر في العقود الأولي من القرن. هكذا بدأ الناس يسمعون ويرددون قصصًا عن فساد الحياة الشخصية للملك، وإهماله واجباته وظهوره بمظهر لا يليق بملك، وعن قبوله رشاوٍي من بعض كبار الأثرياء في مصر مقابل تخفيض الضرائب عليهم، أو عن قيام الحكومة بتقديم إعانة مالية كبيرة لشركة بواخر مقابل تجهيز «جناح ملكي» بإحدي بواخر الشركة، ووصف هذا الجناح بأنه لا مثيل له في أي باخرة ملاحية في العالم. كما انتشرت قصص عن قبول الملك للرشوة علي موائد القمار، إذ كان مجرد قيام الملك بمخاطبة شخص بقوله «يا باشا»، يصبح الرجل باشا بالفعل، بناء علي ما كان يسمي «النطق السامي». ومن ثم كان يكفي أحد الأثرياء أن يذهب إلي نادي السيارات ليلعب مع الملك علي مائدة القمار ويخسر عمدًا عشرة آلاف أو عشرين ألفًا من الجنيهات ليكسبها الملك، فيخاطبه الملك بـ«الباشا» فيصبح كذلك. يذكر أحمد بهاء الدين في كتابه (فاروق ملكًا) الذي ظهر بعد ثورة ١٩٥٢ بشهور قليلة (مكتبة الأسرة ١٩٩٩)، أنه: «في أوروبا كان عملاء الملك يعقدون صفقات السلاح الفاسد ويرسلونه إلي فلسطين ليتفجر في أيدي الجنود وقلوبهم. وكانت هذه العملية الجهنمية تدرّ مئات الألوف ربحا. وكان وزير الحربية (حيدر) يعرف، والوزارة كلها تعرف، ولكنها كانت تلوذ بالصمت لأن التاجر هو الملك» (ص ١٥٤). كما يحكي أحمد بهاء الدين القصة المؤثرة التالية التي تدل علي ما وصل إليه الملك من استهتار بالقانون، من ناحية، وما أصاب أكبر حزب وطني من ضعف، من ناحية أخري: «... كان منطقيا ألا تقصر هذه الصحف حملاتها علي شخص الملك وأفراد حاشيته، فامتد هجومها إلي النظام الاجتماعي الظالم، والحالة الاقتصادية التعسة، والموقف الوطني المائع... وذعر الملك إزاء هذا المد الثوري الذي وصل إلي أسوار قصره... وبدأ الملك يضغط علي الوزارة لمصادرة هذه الصحف، وبدأت الوزارة تصادر الصحف بالفعل، وإذا بمجلس الدولة يفرج عنها، بأحكام مدوية... وجاء سبتمبر ١٩٥١، وكان الملك في كابري. وانعقد مجلس الوزراء في الإسكندرية. ودخل مصطفي النحاس (رئيس الوزراء) قاعة المجلس يلهث، في قلق ظاهر، وألقي علي الوزراء نبأ خطيراً: إن إلياس أندراوس جاء من كابري يحمل أمراً صريحاً من الملك بأن تصدر الوزارة مرسوماً بإلغاء مجلس الدولة، عقاباً له علي ما أصدر من أحكام. وبهت الوزراء.. وتكلم حامد زكي فقال إنه مستعد أن يعد مشروعاً بالمرسوم المطلوب مع مذكرته التفسيرية حالاً، وقبل أن ينفض اجتماع المجلس، وبذلك تحقق الوزارة الرغبة السامية وتثبت ولاءها التام للملك.. ودارت مناقشة عنيفة لم ينطق خلالها النحاس بكلمة واحدة.. وقبل أن ينعقد المجلس مرة ثالثة عرف الوزراء أن رسولاً جاء من كابري يحمل مرسوماً مكتوباً وموقعاً من الملك (بإلغاء مجلس الدولة)، وأن علي الوزراء أن يوقعوه ليصبح أمراً واقعاً. وأسرع محمد صلاح الدين (وزير الخارجية) فكتب إلي النحاس خطاب استقالة قال فيه إنه يستقيل من وزارة الشعب قبل أن تصدر مرسوماً ضد الشعب.. وثار النحاس ثورة هائلة (كده ياصلاح؟ انت عايز تقتلني؟ انت عايز تعمل بطل علي حسابي؟) وكان يدق المائدة بعنف وهو يتدفق بالكلام... وظل صلاح الدين -الذي يعرف خلق النحاس- ساكتاً طول هذه المدة حتي هدأت العاصفة وأفرغ الرئيس كل ما في جوفه. ثم بدأ يتكلم في صوت مؤثر عن إخلاصه للنحاس.. ثم أخذ يبرر تصرفه وقال له: (ياباشا أنا عاوز أحميك مش أقتلك).. فوجئ الوزراء بالنحاس تنهمر الدموع من عينيه وهو يبكي بكاء حقيقياً. وأدركوا العواصف والبروق التي تخطف في باطن هذا الرجل، والعوامل التي تتجاذبه، ووقفته الدقيقة بين ماض جليل ومستقبل يحاول أن يكون مضموناً، وإدراكه للوهن الذي نزل عليه، فأسرعوا إليه كالأطفال إذ يجدون أباهم تهزمه أزمة فيبكي، وأبعدهم النحاس وهو يقول: (خلاص.. خلاص.. خد استقالتك ياصلاح، وآدي المرسوم في الدرج، موش حامضيه!) «فاروق ملكاً، ص ١٧٨ - ١٨٢». *** وقعت هذه الحادثة قبل الثورة بأقل من عشرة أشهر وهي تصور بوضوح المناخ الذي كان سائداً عند قيام الثورة، وأحد الأسباب الأساسية لترحيب الناس الشديد بالثورة وفرحهم بها، وأحد الأسانيد المهمة التي برر بها رجال الثورة للناس قيامهم بها. ولكن هناك أمرين لم يجد رجال الثورة بالطبع من الملائم أن يذكروهما، لا عند قيام الثورة ولا في أي وقت آخر: الأول: أن ما وصل إليه حال الفساد واستهتار الملك وحاشيته بالقانون، في الأربعينيات ومطلع الخمسينيات، ليس هو الطابع العام للمناخ الذي ساد في مصر طوال العقود الثلاثة التي تفصل بين الثورتين (١٩١٩ - ١٩٥٢). كانت ظروف مصر والعالم مختلفة جداً عن ذلك في العشرينيات والثلاثينيات، إذ كانت مواتية تماماً لاحترام القانون وإعلاء قيمة النزاهة والالتزام بالقيم الأخلاقية والوطنية (كما حاولت أن أبين في المقال السابق). الأمر الثاني: أنه حتي في العشر سنوات السابقة علي ١٩٥٢، كان الفساد يكاد أن يكون محصوراً في دائرة ضيقة للغاية، هي دائرة الملك وحاشيته، أما في خارج هذه الدائرة فقد ظلت الطبقة الوسطي في مصر متمسكة بقيم النزاهة والشرف، وتحترم القانون، وتعتبر الخروج علي هذا أو ذاك أمراً مشيناً للغاية ويشوه سمعة مرتكبيه إلي الأبد. كانت صور الفساد في خارج هذه الدائرة الضيقة تتعلق أساساً بما شاع بين الناس تسميته بالمحسوبية، وهذه كانت تتخذ في الأغلب صوراً قليلة المساس بالصالح العام، كترقية قريب أو صديق إلي درجة أعلي في الحكومة لا يستحقها، أو تقرير علاوة لموظف مفضل وحرمان من هو أفضل منه. لم يكن من المتصور مثلاً طوال العقود الأربعة السابقة علي ثورة ١٩٥٢ أن يعين مدير للجامعة ليس لديه من الصفات العلمية والشخصية ما يؤهله لهذا المنصب الرفيع، أو أن يصدر حكم قضائي ضد شخص مهم ولا يتم تنفيذه...إلخ. بل حتي فيما يتعلق بالملك وحاشيته، فإن قراءة قصص أعمال الفساد التي ارتكبوها أوحاولوا ارتكابها، خلال العشر سنوات الأخيرة، تكاد كلها تتضمن محاولة رجل شريف أو رجال شرفاء، في داخل الحكومة، التصدي لها وإيقافها، وكثيراً ما نجح هؤلاء الشرفاء في إيقافها بالفعل. فليست قصة رفض النحاس توقيع المرسوم الملكي بإلغاء مجلس الدولة هي القصة الوحيدة من نوعها بأي حال. فما أكثر ما رفضت الحكومة تنفيذ رغبات الملك أو القصر حتي في ظل حكومات الأقلية، إذ لم تكن شعبية الرجل ووقوف الجماهير وراءه (كما كانت الحال مع مصطفي النحاس) هي السند الوحيد (بل ربما ولا السند الأساسي) في وقوف وزير أو رئيس للوزراء أو رئيس ديوان المحاسبة أو رئيس مجلس الدولة أو النائب العام أو أي قاض من القضاة، ضد رغبات الملك وحاشيته، بل كان السند الأساسي التزاماً قوياً بالمثل الأخلاقية. *** كان مما ساعد بلاشك علي تضييق نطاق الفساد قبل الثورة، ضيق نطاق النشاط الحكومي أصلاً. فمن الطبيعي أن تدخل الحكومة في كل كبيرة وصغيرة وزيادة عدد القوانين المنظمة لنشاط الأفراد، من بين العوامل المشجعة علي انتشار الفساد (بفرض بقاء الأشياء الأخري علي حالها بالطبع). ولاشك في أن هناك قدراً كبيراً من الصحة في القول المأثور: «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة فساداً مطلقاً». وقد كان الموظف الحكومي قبل الثورة، بمختلف مراتبه قليل السلطات بالمقارنة بحالته بعد الثورة، ومن ثم كانت فرص استغلال هذه السلطات بالضرورة أقل قبل الثورة. تغير الحال بعد الثورة بزيادة عدد القوانين وزيادة القيود التي فرضتها حكومة الثورة علي نشاط الأفراد، فضلاً عن الضعف الذي أصاب المجالس الشعبية، ومن ثم كان من المتصور أن يزيد حجم الفساد بعد ثورة ١٩٥٢ لهذا السبب وحده. ولكن من حسن الحظ أن الخمسة عشر عاماً التالية مباشرة لقيام الثورة، ساد فيها مناخ مختلف تماماً عما كان سائداً في الأربعينيات، وحظي المصريون بفترة علي درجة عالية من النزاهة واحترام القانون، قبل أن يطيح بهذا كله ما حدث في ١٩٦٧ وما بعدها، ولكن هذا يحتاج إلي تفصيل. الجزء الثالث كان جمال عبدالناصر ديكتاتورًا ولكنه لم يكن فاسدًا. عاش ومات في نفس البيت الذي كان يعيش فيه قبل الثورة، وظل هو وزوجته، طوال حياتهما، بسيطي الملبس والمأكل دون أي مظهر من مظاهر البذخ، وماتا دون أن تعرف لهما ثروة تذكر، وقد باءت بالفشل الذريع المحاولات القليلة التي بذلت بعد وفاة عبدالناصر لإثبات أنه ترك حسابًا في أحد البنوك في خارج مصر. كان لابد أن ينعكس هذا في تصرفات الرجال المحيطين مباشرة به، إذ لم يكن عبد الناصر يتصور أو يقبل أن يثري أحد رجاله علي حساب المال العام، ومن ثم كبح جماح هؤلاء الرجال مجرد الخوف من الرئيس، إذ لم يكن لديهم مثل ما لديه من القدرة علي مقاومة إغراء المال. حكي لي أحد أصدقائي في ١٩٥٩، وكان يعمل في سفارة مصر في روما، أنه خرج لمرافقة السادات في التفرج علي روما ومحلاتها، فأعجبت السادات جاكتة خضراء فاقعة اللون، وكان يريد شراءها ثم أحجم قائلاً جملة لا أستطيع تكرارها هنا، وتتضمن ما يمكن أن يقوله له عبدالناصر لو رآه مرتديا هذه الجاكتة. كما يحكي صلاح الشاهد في كتابه (ذكريات بين عهدين) قصصًا تؤكد رفض عبدالناصر البات أن يتمتع أولاده بسلع كهربائية مستوردة كانت ممنوعة علي سائر المصريين، وخوف أولاده أن يحصلوا علي هذه السلع تجنبًا لغضبه. كما يرسم فتحي رضوان في كتاب (٧٢ شهرًا مع عبد الناصر) صورة واضحة تمام الوضوح لشخصية عبدالناصر لا مكان فيها قط للضعف أمام المال وإغراءات الحياة الرغدة. ولقد ساد حياة الطبقة المتوسطة بالفعل، في أيام عبدالناصر، تقشف مدهش لابد أن يثير العجب وعدم التصديق لدي كل من لم يعش في مصر في تلك الأيام. المحال التجارية لا تكاد تبيع إلا منتجات مصرية، سواء في ذلك الملابس أو المأكولات أو قطع الأثاث... إلخ، والسيارات في الشوارع تكاد تقتصر علي ماركة واحدة (سيارة نصر التي تم تجميعها في مصر)، والثلاجات والمطابخ تكاد تقتصر علي منتجات مصانع إيديال المصرية. فإذا استطاع مصري أتيح له لسبب أو آخر السفر إلي الخارج، في وظيفة أو في بعثة دراسية، أن يعود إلي مصر ومعه ثلاجة أمريكية أو غسالة ألمانية، واستطاع أن يدفع الرسوم الجمركية الباهظة المفروضة علي مثل هذه الأشياء، فهو في نظر زملائه وجيرانه أعجوبة زمانه ومعجزة عصره، بل لعل مثل هذا كان يثير الخجل أكثر مما كان يثير الزهو، في وسط ذلك التقشف الشامل الذي يلتزمه الجميع. بسبب هذا التقشف العام كانت أقل واقعة فساد تستلفت النظر ويكثر عنها الحديث، وهي في الحقيقة قد لا تزيد علي دخول مسؤول كبير بنجفة كريستال دون أن يدفع عليها رسوم الجمارك، أو قيام مدير الجمعية التعاونية الاستهلاكية بتوصيل بضع دجاجات إلي منزل مسؤول كبير فلا يضطر لإرسال من يقف كغيره في الطابور، ويحصل علي العدد المحدد من الدجاج المسموح به... إلخ. كان مثل هذه الأعمال يعتبر في الستينيات «أمثلة فظيعة علي الفساد»، مما يدل في الواقع علي ضآلة حجم الفساد في ذلك العهد. لا يمكن تفسير ذلك بمجرد أن رئيس الجمهورية كان «قدوة طيبة»، بل كان المناخ العام مساعدًا تمامًا علي تقليل الفساد وعلي احترام القانون. لقد عرفت مصر شخصيات عامة مهمة سلكت سلوكًا مختلفًا تمام الاختلاف في ظل عبدالناصر، عن سلوكها بعد وفاته، من حيث الانضباط واحترام القانون، كأنور السادات نفسه، أو كثير من المسؤولين عن القطاع العام الذين كانوا حريصين علي الصالح العام في الستينيات ثم خضعوا لإغراءات الانفتاح والخصخصة بعد ذلك. قد يقال إن هذا التغير يرجع إلي وجود عبدالناصر رئيسًا ثم غيابه، ولكني أميل إلي تفسير هذا التغير بتغير المناخ العام الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك تغير المناخ الدولي العام. نعم كان تغلغل الدولة في شؤون الاقتصاد والمجتمع في الخمسينيات والستينيات، بدرجة أكبر بكثير مما كان عليه قبل ذلك أو بعده، من شأنه أن يقوّي الدافع إلي الخروج علي القانون، وعلي الفساد والإفساد، ولكن عوامل أخري قوية كانت تعمل علي تضييق دائرة الفساد، بتقليل الرغبة فيه والقدرة عليه في نفس الوقت. لقد بدأ المصري عقد الخمسينيات فقيرًا، وانتهي في آخر الستينيات فقيرًا، ولكن ثورة ١٩٥٢ أحيت آماله في أن تتحسن أحواله وأعطت له من الأسباب ما يبث في نفسه الثقة بأن أحواله هو وأولاده ستتحسن بالفعل. لم يكن الإصلاح الزراعي خرافة، ولا كانت إعادة توزيع الدخل بقوانين التأميم في ١٩٦١ وفرض حد أدني للأجور وحد أقصي للدخول، ومجانية التعليم وضمان وظيفة لكل متخرج، وزيادة الضرائب علي أصحاب الدخول المرتفعة... إلخ، كل هذا كان حقيقياً ومطبقاً بالفعل، وكان التقريب بين الطبقات حقيقياً، وسيادة شعور عام بالتساوي بين المصريين حقيقياً أيضاً و ليس خرافة، لم يكن هناك مظاهر تلفت النظر للاستهلاك الاستفزازي الذي يمكن أن يقض المضاجع ويدفع الناس دفعاً إلي محاولة الحصول علي مال إضافي بأي وسيلة، ولو بالإضرار ضرراً بالغاً بالصالح العام. وعلي الرغم من ارتفاع معدل النمو الاقتصادي بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، ظل معدل التضخم منخفضاً، وكانت دخول الطبقات الدنيا تواكبه، فارتفع مستوي الدخل الحقيقي للغالبية الساحقة من هذه الطبقات، ارتفع بالطبع معدل الحراك الاجتماعي بالمقارنة بما كان عليه الحال قبل الثورة، ولكن الذي منع من أن يحدث هذا الحراك في الخمسينيات ما أحدثه في السبعينيات والثمانينيات من توتر وخروج علي القانون، أن الطمع في تقليد الطبقات العليا كان أقل بسبب غياب الاستهلاك الاستفزازي «أو علي الأقل ضيق نطاقه»، وما أقامه النظام الجديد من سياج يمنع أو يقلل بشدة من دخول السلع التي لا يتناسب استهلاكها مع متوسط دخل المصريين، فضلاً عن قلة انتشار التليفزيون وما اتسمت به برامج التليفزيون في الستينيات من رصانة وخلوها التام من الإعلانات. *** خلال الستينيات تدهورت بشدة قيمة الجنيه المصري في الخارج حتي أصبح موظفو البنوك في خارج مصر ينظرون إليه شزرا وهم لا يكادون يعرفون ما هو، إذ لأي شيء يمكن أن يطلب أجنبي من بنكه الحصول علي جنيهات مصرية؟ لم تكن مصر تصدر شيئا ذا بال غير القطن، و لم تكن السياحة ذات أهمية تذكر، وكان الأجانب الخارجون من مصر أكثر من القادمين إليها، وحيث إن خروج المصريين بجنيهات مصرية كان ممنوعاً منعاً باتاً لم يكن هناك لا عرض ولا طلب يذكر علي الجنيه المصري في الخارج، ولكن الجنيه المصري ظل محترماً طوال الخمسينيات والستينيات في داخل مصر، فمعدل التضخم لم يكن يتجاوز ٢% أو ٣%، والتنمية الاقتصادية تنتج في الأساس للسوق المصرية، فإذا كانت السلع والخدمات المعروضة تكاد كلها أن تكون سلعاً وخدمات مصرية، ومعروضة للبيع بالجنيه المصري، لم يكن من المتصور أن يحدث للمصريين ما حدث لهم ابتداء من السبعينيات، ثم تفاقم في العقود التالية حتي كادوا ينقسمون إلي أمتين، أمة تقبض وتدفع بالدولار «أو علي الأقل تقيم السلع والخدمات التي تشتريها بما تساويه من دولارات»، وأمة تقبض وتدفع بالجنيه المصري، أمة تلبس وتأكل سلعاً مستوردة وتفرش منازلها بأثاث مستورد، وتقضي عطلاتها في الخارج، وأمة تفعل العكس بالضبط، تلبس وتأكل منتجات مصرية ولا تسافر إلي الخارج إلا للبحث عن عمل. في مناخ ينقسم فيه المصريون إلي أمتين علي هذا النحو، يشتد الدافع بالضرورة إلي عبور هذه الفجوة الفاصلة بينهما ولو بعمل من الأعمال المنافية للأخلاق، والخارجة علي القانون. ولكن الحال لم يكن كذلك بالمرة في الخمسينيات والستينيات، كان للدولار جاذبيته بالطبع، حتي في ذلك الوقت، ولكنه لم يكن له السحر الذي أصبح له فيما بعد، إذ ما الذي كان يمكن أن يصفه المرء به، والاستيراد ممنوع والخروج من البلاد يكاد يكون في حكم الممنوع؟ *** ابتداء من قيام الثورة في ١٩٥٢ وحتي وقوع الهزيمة في ١٩٦٧، ساد المصريين شعور قوي بالانتماء، والأمل في أن ينهض الوطن ويحقق آماله، لم تكن إذن أشعار صلاح جاهين وأغاني عبدالحليم حافظ، أشعار رجل مجنون وأغاني رجل منافق، بل كانت تعكس بصدق مشاعر الغالبية العظمي من المصريين في ذلك الوقت، وفي مثل هذا المناخ تصبح النظرة إلي أعمال الفساد والرشوة واستغلال النفوذ لتحقيق ثروة أو مكسب مادي، نظرة احتقار مقرون بدرجة كبيرة من الدهشة، لا يمكن بالطبع أن تنعدم تماماً محاولات من هذا النوع، كحصول ضابط كبير علي كابينة متميزة بحديقة قصر المنتزه، أو تحويل موظف كبير مبلغاً من الدولارات يزيد علي المسموح به لكي يجلب معه لأسرته من رحلة بالخارج بعض الهدايا التي لا يوجد لها مثيل في مصر، ولكن المدهش حقاً كم كانت قليلة مثل هذه المخالفات، وكم كان تنفيذ قوانين الجمارك صارماً والخروج عليها نادراً، وكذلك كان تنفيذ قوانين الضرائب الأخري، وقوانين المباني، وقواعد التعيين والترقية في الحكومة، وشركات القطاع العام، وقواعد إرسال البعثات الحكومية.. إلخ. *** لم يقتصر الأمر علي ضعف الدافع إلي الخروج علي القانون، بل كانت الدولة المصرية في الخمسينيات والستينيات قادرة أيضاً علي التصدي لأي محاولة للخروج علي القانون. أما العبارة الشهيرة التي صدرت من أحد كبار المسؤولين في منتصف الستينيات بأنه «يجب إعطاء القانون إجازة»، فلم يكن يقصد بها السماح للناس بأن يفعلوا ما يشاءون، بل كان المقصود العكس بالضبط، بمعني أنه إذا كان هناك من القوانين ما يمنع الحكومة من فرض إرادتها علي الناس ويحميهم من تدخلها، فإن هذه القوانين هي التي «يجب إعطاؤها إجازة». *** من المؤكد أن هذا الحضور المستمر للسلطة كان عاملاً فعالاً في تضييق نطاق الفساد في مصر في الخمسينيات والستينيات، ولكن من الواجب أن نعترف بأن الفساد أنواع، وليس أصل كل فساد الطمع في المال، بل هناك أيضاً الطمع في محض السلطة. كان الحكم في مصر خلال الخمسينيات قليل الفساد من النوعين: فمن ناحية كان الدافع إلي استغلال النفوذ من أجل تحقيق مكسب مادي قد أصابه الضعف، لما أشرت إليه من أسباب.. ومن ناحية أخري كانت سلطة الرئيس، وإن كانت قد زادت قوة بعد استبعاد محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية، فإنها لم تكون تحولت بعد إلي ما يمكن تسميته الدولة البوليسية، وهو ما بدت بوادره في أعقاب التأميمات المتتالية، التي بدأت بتأميم قناة السويس في ١٩٥٦، ثم تتابعت حتي منتصف الستينيات. خلال هذه الفترة تساقط من قيادة النظام عضو بعد آخر من أعضاء مجلس الثورة الذين قاموا بالثورة ابتداء، ولم يبق إلا الرئيس وعدد قليل جداً من المعروفين بالموافقة علي كل ما يقول. لم تستخدم هذه السلطة المطلقة، والحق يقال، في تجميع المزيد من المال إلا في أضيق الحدود، كما سبق أن أكدت من قبل، ولكنها استخدمت بلا شك، وبمعدل متزايد (كما تقضي طبيعة الأمور والبشر) لتجميع المزيد من السلطات وتوسيع دائرة النفوذ، ولكن أليس في هذا فساد لا يقل أثره سوءاً عن الفساد المدفوع بالطمع في المزيد من المال؟ فإذا كان الفساد يتمثل، في نهاية الأمر، في التضحية بالصالح العام في سبيل تحقيق مصلحة خاصة، فهل من الضروري أن تكون هذه المصلحة الخاصة تحقيق المزيد من الثراء؟ ألا يوجد فساد أيضاً عندما يكون الدافع مجرد شهوة السلطة؟ أما أن شهوة السلطة فقد أضرت بالصالح العام، فقد شهدت مصر في الستينيات أمثلة عديدة علي ذلك من أهمها اختيار قائد للجيش قليل الكفاءة لمجرد اطمئنان الرئيس إلي أنه لن يقود ثورة ضده، أو قيام الرئيس قبيل وفاته باختيار نائب له، دون أن يستشير أحداً، لأسباب لا يمكن أن يكون من بينها مراعاة الصالح العام. وقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك، أنه في عهد هذا النائب، عندما أصبح رئيساً، زاد الفساد الذي مصدره الطمع في المال، إلي حد فاق بكثير ما عرفته مصر سواء في عهد عبدالناصر أو عهد الملكية. هكذا فتحت للفساد صفحة جديدة ليست مشرفة بالمرة بحلول السبعينيات، أو إذا أردنا الدقة، قبل حلول السبعينيات بقليل، إذ لم تكن هزيمة ١٩٦٧ كارثة عسكرية وسياسية واقتصادية فقط، بل إنها أصابت في الصميم كل الدوافع النبيلة التي كانت تحفز المصريين إلي إعلاء الصالح العام علي مصالحهم الشخصية. |
الجزء الرابع
كيف يمكن لحدث لم يستغرق أكثر من خمسة أيام أن يكون له مثل هذا الأثر في حياة أمة بأكملها؟: يوقف مسيرة الثورة، ويشيع اليأس في الناس، ويضعف بشدة شعورهم بالانتماء للوطن، ويصيب النظام الحاكم بالضعف والعجز عن تطبيق القانون، ويخفض معدل التنمية إلي معدل لا يكاد يزيد علي معدل نمو السكان، ويدخل في الخطاب الديني تياراً لا عقلانياً يتكلم باستمرار عن المعجزات، ويقبل الخرافات، ويعلي من شأن الطقوس وشكل الزي علي حساب التمسك بالأخلاق الفاضلة والمثل العليا، ويجعل المسلمين علي استعداد للتنكيل بالأقباط بلا سبب، ويشيع في الأقباط شعوراً بالتوجس والخوف، بسبب وبلا سبب؟ كل هذا وأكثر منه حدث في مصر نتيجة لهزيمة ١٩٦٧، فهل نستغرب أن ينمو الفساد في المجتمع المصري، ابتداء من هذا التاريخ بمعدل غير مسبوق؟ وكأن سكتة قلبية قد حدثت فجأة، فتوقف تدفق الدم من القلب إلي سائر أجزاء الجسم، فأصبح الجسم معرضاً لكل أنواع الفساد. إني أرجع بداية ظاهرة «الدولة الرخوة» التي نراها اليوم، في كل مجالات الحياة في مصر، في الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة والإعلام والعلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقة بين المسلمين والأقباط، إلي وقوع هزيمة ١٩٦٧. والدولة الرخوة، فيما تعنيه، دولة عاجزة عن التصدي للفساد بمنع حدوثه أو بمعاقبته، فيصبح المال العام وكأن لا صاحب له، ولكنها تعني أيضاً، في حالة مصر - في أواخر الستينيات - التوقف عن اتخاذ أي إجراء مهم يصحح التفاوت بين الطبقات، وكأن الدولة المهزومة في ١٩٦٧ أصبحت تخشي مواجهة الأثرياء، ومستعدة للتغاضي عن نزواتهم، وعلي استعداد لأن تسمح لهم ولغيرهم بتهريب البضائع، الممنوع استيرادها، إلي داخل مصر، وتهريب النقد الممنوع تصديره إلي خارجها. والطبقة الوسطي التي جرحتها الهزيمة أكثر مما جرحت أي شريحة اجتماعية أخري، يجب تدليلها بتوفير بعض السلع التي كانت تتوق إليها ولا تجدها، وتوفير بعض وسائل التسلية والترفيه التي لم تكن متوفرة، فلا بأس من استيراد بعض أفلام الجنس، وتوفير السلع الكمالية في الجمعيات التعاونية، والسماح لدور النشر الأجنبية بعرض الكتب التي كانت تتعرض لرقابة شديدة، وذلك في معرض سنوي للكتاب، ولبعض المسرحيات التي تنتقد النظام، بأن تعرض للناس لإتاحة فرصة للتنفيس عن الغضب. ولا بأس أيضاً من السماح لمن استطاع تكوين ثروة صغيرة في ظل القوانين الاشتراكية، أن يفتح مطعماً أو ملهي يزيد به من ثروته، مع بعض التهاون في تحصيل الضرائب منه، بل ولا بأس من التراجع عن إصلاح الجامعة والعودة إلي نظام الأعداد الكبيرة، حيث يقبل حملة الثانوية العامة في الجامعة دون تمييز يذكر بين من يستحق أن يتعلم بالمجان في الجامعة ومن لا يستحق. فالمهم هو فقط إرضاء الناس وعدم إعطائهم سبباً جديداً للتذمر. ولا بأس أيضاً من استخدام الدين في وسائل الإعلام استخداماً لصالح النظام، فيفسر الدين تفسيراً يؤكد الاستسلام للمقادير والصبر علي الشدائد، ويشجع الناس علي الانغماس في مظاهر التعبد، عسي أن ينصرفوا عن التفكير في أمور الحاضر. ويرتبط بهذا أيضاً ويساعده إحياء التاريخ المجيد للمصريين، عسي أن يكون في تذكره سلوي من مصائب الحاضر، وتشجيع الاهتمام بالتراث الثقافي والموسيقي والرياضة، عسي أن يجد الناس فيها نفس السلوي. ليس هناك مجتمع، في أي عصر، خالٍ من الأشخاص المستعدين لارتكاب أعمال الفساد، كما أن الميكروبات موجودة دائماً في أي هواء، ولكن هناك مناخاً يضعف المناعة ضد الميكروبات وآخر يقويها، وقد كان المناخ الذي بدأ يسود في مصر في أعقاب هزيمة ١٩٦٧ من النوع الذي يضعف المناعة ويساعد علي نشر العدوي. لقد ضعف ذلك الشعور بالولاء للوطن الذي أشاعه قيام الثورة في ١٩٥٢، وإحرازها نجاحاً بعد نجاح في سياستها الداخلية والخارجية علي السواء، إذ كشفت الهزيمة قناعاً كان يخفي وراءه كثيراً من الزيف. وإذ انفضح أمر النظام وفقد معظم قوته التي كان يستخدمها لفرض إرادته وفرض احترام القانون. كانت النتيجة أن هاجر بعض المثقفين وانتحر بعضهم، كما انتحر قائد الجيش، ولكن كان من النتائج أيضاً أن التفت عدد متزايد من الناس إلي أمورهم الشخصية بدلاً من اهتمامهم بشؤون الوطن، ومن كان منهم ضعيف الخلق أصلاً. لم يجد بأساً في ارتكاب أعمال غير أخلاقية، في مناخ ما بعد ١٩٦٧ تحول بعض السياسيين إلي مستثمرين، وبعض الملحنين إلي تجار، وبعض أساتذة الجامعات إلي مدرسين خصوصيين.. إلخ، ولكن فرص الإثراء الحقيقي لم تتكاثر إلا بعد مرور ثماني سنوات علي الهزيمة، أي في منتصف السبعينيات، فهنا ظهرت بوضوح تام الفرص الحقيقية للفساد والإفساد، إذ تضافرت منذ ذلك الوقت عوامل حديثة تساعد علي مزيد من إضعاف الدولة، ومن إضعاف الولاء للوطن. *** كانت شخصية الرئيس قد تغيرت قبل ذلك بخمسة أعوام، فقد تسلم الرئيس السادات الحكم بوفاة جمال عبدالناصر في ١٩٧٠، وكانت شخصية السادات بذاتها ملائمة تماماً للمناخ الجديد الذي حل بعد الهزيمة، ولكن السادات نفسه كان عاجزاً عن ارتكاب أعمال فاحشة من أعمال الفساد، طالما كان المناخ غير موات لذلك. كان السادات من النوع الذي يرتعد خوفاً من غضب الرئيس عبدالناصر فلم يجرؤ علي ارتكاب أعمال فساد كبيرة إلا بعد أن أصاب الضعف النظام كله في ١٩٦٧. إن واقعة استيلاء السادات علي قصر أحد الضباط (لمجرد أن القصر أعجب زوجته)، لم تحدث إلا بعد أن عينه عبدالناصر نائباًً للرئيس في ١٩٦٩، (وعلي كل حال فقد اكتفي عبدالناصر بإبداء غضبه لفترة قصيرة أعطاه بعدها قصراً بديلاً علي النيل). أما قبل ذلك فقد اقتصر السادات علي أعمال من نوع قبول هدايا فاخرة أثناء رئاسته ما سمي المؤتمر الإسلامي، منها سيارات كاديلاك كان يهدي بعضها لقائد الجيش المشير عبدالحكيم عامر. ولكن أياً كان حجم المخالفات التي ارتكبها السادات أثناء حياة عبدالناصر فقد كانت شخصيته من النوع الذي يسمح له بارتكاب أكثر منها بكثير في ظل مناخ مختلف (وهي ملاحظة تنطبق أيضاً وبلا شك علي شخصيات أخري مهمة لعبت دوراً مهماً في كلا العهدين). وقد كان هذا هو ما حدث فعلاً في عهد السادات بمجرد أن تغير المناخ الاقتصادي والاجتماعي العام، وتغيرت أيضاً علاقة مصر بالقوي الخارجية. حدث هذا في منتصف السبعينيات عندما بدأ في مصر عهد التضخم الجامح في أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣ ودشن السادات السياسة المعروفة بالانفتاح الاقتصادي، فتدفقت سلع الاستهلاك الفاخر والاستفزازي علي مصر، وارتفع بشدة معدل الهجرة إلي دول الخليج، فارتفع أيضاً معدل الحراك الاجتماعي. وقد تجاوب التليفزيون مع هذا المناخ الجديد فشاهد الناس علي شاشته برامج ومسلسلات من نوع جديد، تعبر عن تطلعات وطموحات جديدة، وبدأ اعتماد التليفزيون في تمويل برامجه علي الإعلانات التي حقق بعضها شعبية بالغة (تزيد أحياناً علي شعبية المسلسلات)، وساهم هذا كله في دعم حمي الاستهلاك، وكأن المصريين قد اكتشفوا لأول مرة المعني الحقيقي «للحياة الحلوة»، وهي حياة الاستهلاك العالي والبذخي. كل هذا خلق مناخاً يغري بشدة بارتكاب أعمال الفساد، خاصة مع ما أصاب الشعور الوطني من ضعف بسبب الهزيمة، وتضاؤل الطموحات والآمال التي تتعلق بنهضة الوطن، فلم تبق إلا الطموحات والآمال المتعلقة بتحقيق الثراء. فإذا قويت الإغراءات وضعف الشعور بالانتماء، في ظل دولة ضعيفة علي رأسها رجل لديه ميول مماثلة، واستعداد طبيعي لقبول المعني الجديد «للحياة الحلوة» لنفسه والمحيطين به، كان من الطبيعي جداً أن ينتشر الفساد في مصر، ولا يدحض هذا إصدار السادات قانوناً جديداً من نوعه اسمه «قانون العيب»، وكأنه محاولة لا شعورية لنفي حقيقة موجودة بالفعل. هكذا شهدت مصر في النصف الثاني من عهد السادات أمثلة جديدة وغير معهودة للفساد في مختلف المجالات: في المدارس والجامعات اشتدت ظاهرة الاتجار بالكتب المدرسية والجامعية والدروس الخصوصية، وتغيرت أسس اختيار مديري الجامعات والعمداء، فلم تعد قائمة علي المركز العلمي والاحترام الذي يتمتع به الشخص المختار(كما استمر الحال حتي نهاية الخمسينيات) ولا علي الاستعداد للترويج لشعارات الاشتراكية (كما أصبح الحال في الستينيات) بل علي الاستعداد لغض البصر عما يرتكب من مخالفات للقانون في المحيط الجامعي. وشرع نفس الأساتذة الذين ألفوا كتباً في تقريظ الاشتراكية في تأليف كتب جديدة للدفاع عن الانفتاح الاقتصادي، خاصة أن الهيئات الدولية الممولة للبحوث لم تشمل بعطفها إلا البحوث التي تساير الاتجاه الجديد. وفي الاقتصاد انتشر، مع تدشين سياسة الانفتاح، توزيع تصاريح الاستيراد وتوكيلات الشركات الأجنبية علي الأقارب والمحاسيب، وبدأ تنفيذ الدولة مشروعات للتعمير مشكوكاً في فائدتها، تحقيقاً لمصالح خاصة قريبة من آذان السلطة، وتضخمت العمولات المقبوضة علي صفقات الحكومة، خاصة في شراء الأسلحة. وقد بدا الإغراء شديداً في هذه الفترة لمديري شركات القطاع العام الذين يقبلون الدخول في مشروعات مشتركة مع شركات أجنبية ولو أدي هذا إلي الإضرار بعمال وموظفي الشركات القديمة وزيادة أعباء المستهلكين. وفي الزراعة انتشر التعدي علي الأراضي الزراعية بالبناء المخالف للقانون، حتي كاد ما فقدناه من أراض زراعية خلال السبعينيات، بسبب البناء، يعادل ما أضافه السد العالي. وفي الإسكان بدأت ظاهرة جديدة تماماً، وتكرر حدوثها عبر فترات قصيرة، وهي سقوط عمارات حديثة البناء علي رؤوس سكانها بسبب استخدام أسمنت مغشوش، أو التوفير في كمية الحديد، أو إضافة أدوار جديدة دون ترخيص...إلخ. عندما كشف للناس بعد مقتل الرئيس السادات، حجم الثروة التي كوّنها شقيق الرئيس (عصمت السادات) في عهد أخيه، تبين للناس ليس فقط المدي الذي وصل إليه الفساد في عهده، بل أيضاً المدي الذي بلغته حمي الاستهلاك في ذلك العهد، والنهم الذي لا يروي إلا بالمزيد من الثروة، إذ تبين أن ممتلكات هذا الشقيق الذي لم يكن له من الوظيفة أو التعليم، أو حتي من الأعمال التجارية والاستثمارات، ما يؤهله لامتلاكها في هذه الفترة القصيرة، قد شملت أراضي زراعية، وأراضي بناء، وفيلات وعمارات، ومحال تجارية ومصانع ومخازن وورش، وسيارات ركوب ولوريات نقل، ووكالات للاستيراد والتصدير، وشركات للمقاولات، وأن هذه الشركات والعقارات كانت تمتد من أقصي شمال الجمهورية إلي أقصي الجنوب. لقد كان هذا مجرد مثال لما كان من الممكن عمله في عهد السادات من استيلاء علي المال العام واستغلال النفوذ، ولسماح النظام بارتكاب كل هذا دون أن يترتب عليه أي عقاب. *** اقترن كل هذا الفساد في السبعينيات بزيادة كبيرة في إيرادات الدولة وارتفاع كبير في معدل النمو، وتدفق الأموال علي أسر المهاجرين مما ادخروه في الخارج، وقد ساعدت هذه الزيادة الكبيرة في الإيرادات والدخول علي زيادة فرص الفساد، ولكنها خففت أيضاً من شعور الناس بوطأة الفساد، فقد بدا وكأن الجميع، بما في ذلك أعداد كبيرة من الفلاحين، يشاركون في مهرجان كبير يختلط فيه الصالح بالفاسد، ويعلن فيه الصالحون والفاسدون معاً عن نجاحهم الباهر في تحقيق الصعود الاجتماعي وتغيير مركزهم الطبقي. وفي مناخ كهذا كان لابد أيضاً أن يتغير شكل الخطاب الديني ومضمونه بحيث تستخدم التعبيرات والطقوس الدينية كغطاء لما يجري، وللتظاهر بالتقوي والورع حين يكون الواقع عكس هذا بالضبط. إن من ألمع الرموز الدينية التي اشتهرت وذاع صيتها في السبعينيات، من كان يعتبر الثراء السريع مظهراً من مظاهر رضا الرب، ولم يذكر كلمة واحدة للتنبيه إلي التعارض بين أبسط مبادئ الدين وأخلاقياته، وبين ما يشيع من فساد. ومع هذا فإن هذا الموقف تجاه الفساد لم يقلل من الشعبية الساحقة لهؤلاء المتحدثين باسم الدين، بل دعم من مركزهم ما كان رئيس الجمهورية نفسه يستخدمه بكثرة من تعبيرات دينية، وإشادته المتكررة «بأخلاق القرية» وكأنه بدوره كان يستخدم هذا النوع من الخطاب للتغطية علي ما شاع من فساد في عهده. *** لم ينته كل هذا بمقتل الرئيس السادات، ولكنه اتخذ أشكالاً مختلفة ابتداء من الثمانينيات، فبينما كان الفساد في عهد عبدالناصر، وخاصة في أعقاب هزيمة ١٩٦٧، يتحسس طريقه علي استحياء، ويقابل بالاستنكار الشديد إذا اكتشف أمره، تحوّل في عهد السادات إلي مهرجان كبير يمرح فيه الناس ويقتنصون أية فرصة تتاح لهم فيه دون خوف. أما في عهد الرئيس مبارك فقد خفّ الاستنكار وزال المرح، إذ أصبح الفساد جزءاً لا ينفصم عن النظام نفسه. لم يعد الفساد من زوائد النظام الجديدة عليه، بل أصبح عنصراً من عناصر النظام الذي لا يتصور النظام بغيره. بعبارة أخري، لقد جري شيئاً فشيئاً منذ الثمانينيات «تقنين الفساد»، فلم يعد شيئاً يستوجب الإنكار أو الاستحياء، ولكن هذا التطور يحتاج بلا شك إلي تفصيل. الجزء الخامس الدولة الشمولية تشجع علي الفساد بكثرة قوانينها وبتدخلها في كل كبيرة وصغيرة، والدولة الرخوة تشجع علي الفساد بضعفها ورخاوتها. فما بالك بدولة شمولية ورخوة في نفس الوقت؟ هكذا بدأت الدولة المصرية منذ الثمانينيات من القرن العشرين، فهي وإن لم تكن بشمولية الدولة الناصرية فقد احتفظت بالكثير من القيود علي حركة الأفراد وتصرفاتهم التي كان قد فرضها نظام عبدالناصر، مما يغري بالتخلص منه بدفع رشوة كبيرة أو صغيرة. كان السادات قد ألغي الدولة البوليسية فأنهي التلصص علي الناس وقضي علي من كانوا يسمون «بزوّار الفجر»، كما أنه ألغي كثيراً من القيود علي الاستيراد، ولكن تحرير الاقتصاد ظل محدوداً حتي نهاية عهده، فورث نظام مبارك منه قطاعاً عاماً كبيراً، وإن كان ضعيفاً ومهلهلاً بسبب انصراف الدولة عن حمايته وتعرضه لمنافسة شديدة من الواردات. كان السادات قد قضي منذ ١٩٧١ علي ما اسماه «مراكز القوة»، وهي التي كانت تقيد بشدة الحريات السياسية والفردية، ولكن استمرت البيروقراطية المصرية العتيدة التي قويت في عهد عبدالناصر، تعطل مصالح الناس وتحملهم من الأعباء ما لا طاقة لهم به. استمر إذن الدافع إلي ممارسة الفساد للتخلص من هذه القيود ولكن كانت الدولة في عهد مبارك أضعف بكثير، حتي منها في عهد السادات، في مواجهة هذا الفساد. هل كان هذا الضعف نتيجة لمجرد التغير في شخصية الحاكم؟ ربما كان لهذا بعض الأثر، ولكن من المؤكد أنه لم يكن العامل الحاسم، وإنما كان العامل الحاسم في رأيي شيئا يتعلق بالتغير الذي طرأ علي القضية الوطنية وعلي علاقة مصر بالقوي الخارجية. كانت القضية الوطنية في عهد ما قبل الثورة، في غاية الوضوح والبساطة، إذ كان يمكن تلخيصها في التخلص من الاحتلال وجلاء الإنجليز، لقد تفاوت موقف الأحزاب المصرية وقتها في طريقة تحقيق هذا الهدف، فكان الوفد والحزب الوطني أكثرها تشدداً، ولكن لم يكن في استطاعة الأحزاب الأخري، عندما تأتي إلي الحكم، ولا حتي المستقلين، من أمثال إسماعيل صدقي أو علي ماهر، ألا يبذلوا كل ما في طاقتهم لتحقيق نفس الهدف، ولو عن طريق المفاوضة والمساومة. في الخمسينيات والستينيات، وبعد أن تم جلاء الإنجليز في ١٩٥٦، رفع عبدالناصر شعارات جديدة التف الناس حولها وشكلت في نظر الغالبية العظمي من المصريين المحتوي الجديد «للقضية الوطنية»، وكانت تدور حول تحرير الاقتصاد المصري من السيطرة الأجنبية، والتنمية الاقتصادية السريعة، وتقريب الفوارق بين الطبقات، ودعم الحركات العربية في تاريخ مصر في كفاحها للتحرر من الاستعمار، بما في ذلك دعم كفاح الفلسطينيين ضد الصهيونية. في عهد السادات كان كل هذا قد انتهي: انتهي النضال ضد الإنجليز من أجل تحقيق الجلاء، وانتهي النضال ضد السيطرة الأجنبية علي الاقتصاد المصري بما تحقق من تمصير وتأميم، وانتهي دعم الحركات العربية للتحرر من الاستعمار والصهيونية، إما بجلاء الإنجليز والفرنسيين، أو بتبني السادات لسياسة «مصر أولاً». تحولت القضية الوطنية في عهد السادات إلي تحرير الأرض المصرية التي احتلها الإسرائيليون في ١٩٦٧، وقد استغرقت هذه القضية عهد السادات كله، فلم تنته إلا بتوقيع السادات معاهدة الصلح في ١٩٧٩، أي قبل مقتله بقليل، وربما كانت هي نفسها السبب في مقتله. عندما جاء الرئيس مبارك إلي الحكم، لم يكن أي من هذه القضايا الوطنية مطروحاً، فلم تكن أمامه لا قضية جلاء، ولا تحرير الاقتصاد، ولا دعم الحركات العربية، وبدت قضية الأرض المصرية المحتلة علي وشك الانتهاء بعد انسحاب إسرائيل من آخر جزء من سيناء في ١٩٨٢، ولم يبق إلا طابا التي كانت موضوعاً لمفاوضات أدت أيضًا إلي إعادتها للمصريين. ما الذي كان الرئيس مبارك يكافح من أجله إذن؟ ما الآمال الوطنية التي كان يعمل علي تحقيقها؟ لقد بدأ مبارك عهده بإطلاق سراح المسجونين السياسيين الذين كان السادات قد اعتقلهم في سبتمبر ١٩٨١، وأعاد لصحف المعارضة حريتها في الظهور. ثم ماذا؟ لم يكن لدي الرئيس مبارك أي شيء يعد به المصريين، ولم تكن هناك أي قضية واضحة يمكن أن تجري محاسبته علي مدي التقدم بشأنها، لقد كان لعبد الناصر رؤية واضحة ومعروفة لما يجب عمله بعد جلاء الإنجليز، في ميادين الاقتصاد وتوزيع الدخل وتوحيد صف العرب، وكانت للسادات رؤية في طريقة استعادة سيناء، ورؤية مضادة تمامًا لرؤية عبد الناصر في ميداني الاقتصاد وتوزيع الدخل، وفي العلاقات العربية. وقد أثارت رؤية كل من الرجلين الجدل والعراك بين مؤيدين ومعارضين، ولكن ماذا كانت رؤية حسني مبارك لهذه الأمور أو لغيرها؟ لا شيء. إنني لا أقصد بالطبع أنه بمجيء حسني مبارك كانت مصر قد حققت آمالها الكبار، ولم يبق هناك ما يمكن أن تلتف حوله قلوب المصريين، كان من الممكن أن تصبح القضية تصحيح أخطاء عهد السادات العديدة، في الاقتصاد والسياسة الخارجية والداخلية علي السواء، كان من الممكن العمل علي تصحيح الإهمال الشديد للصناعة والزراعة طوال السبعينيات، وعلي تحويل الانفتاح إلي سياسة إيجابية تدفع الصناعة المصرية إلي الأمام بدلاً من تعريضها للمنافسة القاتلة من الواردات، وتحمي المجتمع من الآثار المدمّرة للتضخم الجامح، والعمل علي تطبيق ديمقراطية حقيقية والعدول عن تزييف الانتخابات والاستفتاءات، وتصحيح سياسة السادات نحو بقية الدول العربية فتستعيد مصر مكانتها المفقودة في العالم العربي، واستخدام ما كان لايزال باقيا في يد مصر من أوراق لإجبار إسرائيل علي تقديم تنازلات للفلسطينيين، وعلي الأخص ورقة التطبيع ورفض المشروع «الشرق أوسطي» الذي شرعت إسرائيل في فرضه علي مصر. وفوق كل ذلك محاولة التخلص من الخضوع للإدارة الأمريكية في كل هذه الأمور: في تحرير الاقتصاد، وفي مصر عن بقية العرب، وفي السير قدماً في طريق التطبيع. لقد ثارت بعض الآمال لدي المصريين في كل هذه الأمور، في الشهور الأولي من حكم مبارك، ولكن سرعان ما تبخرت عندما ظهر أن مبارك لا ينوي أن يفعل أي شيء من هذه الأمور، وأن الأخطاء التي بدأ السادات في ارتكابها سوف تستمر في عهد مبارك أيضًا. نعم، كانت شخصية الرئيس مبارك ملائمة تمامًا للاستمرار في الطريق الذي شقه السادات دون أي تعديل، وهو ما وصفه الرئيس مبارك مرة بقوله: «إنه يكره سياسة الصدمات الكهربائية»، وكان هذا يعني في الحقيقة عدم القيام بأي تعديل علي الإطلاق، علي ما هو قائم. شخصية الرئيس ملائمة تمامًا، ولكننا نعرف جيدًا أن شخصية الرئيس لم تكن قط هي العامل الحاسم فيما طرأ علي مصر من تطورات، بل كان العامل الحاسم ما يطرأ من تغيرات علي علاقة مصر بالقوي الخارجية، وهذه كانت يحددها في الأساس ما يطرأ علي العالم الخارجي وعلي العلاقات الدولية من تغيرات. * * * كان أنور السادات قد وضع مصر علي طريق التبعية الكاملة للولايات المتحدة في ١٩٧٢، عندما قام بطرد السوفيت من مصر وبدأ يتلقي توجيهات كيسنجر والإدارة الأمريكية فيما يفعله في الخارج والداخل، وإزاء إسرائيل والعرب، لم يكن الوضع يختلف في الظاهر عن خضوع الحكومات المصرية لتوجيهات الإدارة الإنجليزية ورغباتها قبل ١٩٥٢، ولكن كان هناك فارق كبير بين الحالين، فيما يتعلق بموضوع الفساد الذي نحن بصدده الآن. كانت طلبات الإنجليز في النصف الأول من القرن العشرين بسيطة للغاية إذا قورنت بطلبات الأمريكيين في النصف الثاني، والأهم من ذلك أن درجة مساس هذه الطلبات والرغبات بمبدأ سيادة القانون ونزاهة الحكم كانت مختلفة تماما في ظل السيطرة الإنجليزية عنها في ظل السيطرة الأمريكية. كان الإنجليز يريدون في نهاية الأمر، قطنا مصريا رخيصا، وفتح السوق المصرية لبعض السلع البسيطة كالمنسوجات البريطانية، واستخدام موقع مصر وقناة السويس عند اللزوم، لخدمة الأهداف العسكرية البريطانية. كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الأهداف في ظل درجة معقولة من النزاهة في إدارة الحكم في مصر، ومن احترام القانون، وقدر بسيط من الفساد قارن هذا بما كان يريده الأمريكيون من مصر ابتداء من أوائل السبعينيات: تسويق سلع لا نهاية لها من الأسلحة إلي الكوكاكولا، وبيع شركة بعد أخري وبنك بعد آخر للشركات الأمريكية أو متعددة الجنسيات، وترويض مصر ترويضا تاما يضمن الخضوع للأهداف الإسرائيلية في مصر والعالم العربي، وتكريس الاعتماد علي ما يسمي بالمعونة الأمريكية لضمان استمرار هذا الخضوع وتحقيق كل هذه الأهداف. كان كل هذا يتطلب نظاما سياسيا مختلفا جدا عما كان سائرا قبل الثورة، لم يكن يتطلب فقط استمرار السير في الطريق الذي شقه السادات منذ بداية التبعية الكاملة للأمريكيين، بل استخدام نوع جديد من المصريين كوزراء ورؤساء الوزراء، يفتقدون أبسط صفات السياسي الملتزم، ولا يؤمنون بمبدأ سياسي أو اقتصادي أكثر مما يؤمنون بغيره، وتنحصر اهتماماتهم فيما يمكن أن يحققوه من مكاسب لأنفسهم، وهذا هو بالضبط أكثر أنواع الحكم ملاءمة لنمو الفساد. |
الجزء السادس
كان فؤاد محيي الدين، الذي كان أول من شغل منصب رئيس الوزراء في عهد مبارك، آخر رئيس للوزراء له تاريخ معروف في الاشتغال بالسياسة، أو حتي في الاهتمام بها. ثم أتي بعده رؤساء للوزارة ليس لهم أي تاريخ سياسي، بل عرف عنهم قبل توليهم مناصبهم، النفور من السياسة وتفضيل الاهتمام بأمورهم الشخصية، أو بشؤون وظيفتهم الضيقة. ما نوع الوزراء الذين يمكن أن يأتي بهم هؤلاء؟ وأي قضية عامة يمكن أن تشغلهم أو تصرفهم عن الاهتمام بتنمية ثرواتهم الخاصة؟ الإجابة هي: وزراء ينشغلون أكثر فأكثر بشؤون ماليتهم الخاصة، ولا يجدون غضاضة في تنمية ممتلكاتهم، بغض النظر عن أي قضية عامة. لقد أخبرني أحمد بهاء الدين مرة، في أوائل عهد مبارك، بمحتوي تقرير سري وصله من إحدي الجهات الموكول إليها أمر الأمن القومي، التي يطلب منها ما تجمع لديها من معلومات عن بعض الشخصيات العامة التي يراد تعيينها في منصب كبير في الدولة، وكان التقرير يقتطف قولاً لأحد المرشحين لتولي منصب الوزير في وزارة مهمة مؤداه: «إن من يصبح وزيراً، ويقضي سنة في الوزارة دون أن يصبح مليونيراً، لابد أن يكون مصاباً بالهبل». ومع هذا فقد تم تعيين هذا الشخص نفسه وزيراً، رغم هذا التقرير، وعندما ترك الوزارة بسبب تعارض مصالحه الخاصة مع مصالح أخري خاصة أقوي منه، جاء بعده وزير لا يختلف عنه. في ظل دولة يحكمها رجال من هذا النوع، كانت تحدث أيضاً أشياء أخري أصابت المصريين بوجه عام بما جعلهم بدورهم أكثر استعداداً لممارسة الفساد من ذي قبل. *** ففي العشرين سنة الأخيرة تضافرت عدة عوامل قوية لانتشار الفساد بين الشرائح المختلفة في المجتمع المصري، العليا والوسطي والدنيا، بدرجة لم يعرف مثيل لها لا في السبعينيات ولا في الستينيات ولا في الخمسينيات، ولا في عهد ما قبل الثورة: دولة ضعيفة فاقدة القدرة أو حتي الرغبة في معاقبة الخارجين عن القانون، ولا تملك أي مشروع قومي أو هدف وطني يجتمع عليه الناس، وتعلق أهمية كبري علي رضا القوة الخارجية التي تحميها وتسمح لها بالبقاء في الحكم وتعطيها المعونات، أهمية تفوق بكثير ما تعلقه علي رضا الناس، في وقت انكشفت فيه مصر انكشافاً غير معهود علي العالم، وعلي مستويات الاستهلاك العالية في الخارج، وأصبح المصدر الأساسي (أو الوحيد) لكسب احترام الناس وحسدهم هو امتلاك ثروة كبيرة واستعراض السلع الاستفزازية أمام الناس، وتدهورت فيه مكانة العلم والشهادات الجامعية والموهبة، بل حتي مكانة الوزراء فلم يعد أحد يبالي بمعرفة أسمائهم ولم يشتهر منهم إلا من نجح في استخدام نفوذه لزيادة ثروته بدرجة تزيد علي المعتاد. في نفس الوقت زاد الضغط الخارجي علي الدولة المصرية لبيع شركة بعد أخري من شركات القطاع العام، وللتساهل الشديد مع المستثمر الأجنبي، والخصخصة وقدوم الاستثمارات الأجنبية يخلقان فرصاً رائعة لزيادة ثروات الكبار. كما وجدت فرص رائعة لزيادة الثروات بقيام الدولة ببيع أراضيها لأصحاب النفوذ بأسعار زهيدة ولكن سرعان ما تتضاعف، ليبنوا عليها قصوراً شاهقة أو يعيدوا بيعها بالأسعار الجديدة. في دولة كهذه، مازالت رغم كل ما أعلنته عن تنازلها عن دورها للقطاع الخاص، تملك العديد من البنوك والشركات والمجلات والصحف فتصدر نشرة دورية بتعيين أو عزل رؤساء تحرير هذه المجلات والصحف، وتملك أكبر دار لنشر الكتب، ومازالت تتحكم فيمن يقبل أو لا يقبل في الجامعات، ومن الذي يظهر أو لا يظهر علي شاشة التليفزيون، بل تقدم الدعم لأحزاب المعارضة حتي يمكن للدولة أن تتظاهر بالديمقراطية.. إلخ، في دولة «شمولية» كهذه، ولكنها ضعيفة جداً مع ذلك إزاء رعاياها وإزاء القوي الخارجية في نفس الوقت، كيف لا يعم الفساد وينتشر انتشار النار في الهشيم؟ ساعدت هذه الظروف علي التزاوج والمصاهرة بين المال والحكم، بين من له سلطة اتخاذ القرار ومن لديه مصلحة أكيدة في نوع القرار الذي يجري اتخاذه، فأصبح لا يثير الاستغراب أن يعين ستة وزراء في حكومة واحدة يشرف كل منهم علي وزارة وثيقة الصلة بنشاطه التجاري قبل اعتلائه الوزارة، وبعده، وهو بالضبط المقصود بالمثل الشعبي «مسّكوا القط مفتاح الكرار»، مما كان يثير ضجة كبري في عهدها قبل الثورة، إذا حدث وتجرأ أحد عليه، إذ كان يعتبر من قبيل تضارب المصالح الخاصة مع المصلحة العامة مما يستحيل قبوله في أي دولة يحكمها القانون، فأصبح من الممكن حدوثه الآن دون أن يثير أي جلبة. من الممكن أن نتصور في ظل هذا كله حجم الفساد الذي لابد أن يستشري بين الشرائح الاجتماعية القريبة من السلطة، أو القادة علي الاقتراب منها: حجم القروض التي يمكن أن تعطيها بنوك الدولة دون ضمان لأشخاص يهربون بها إلي الخارج ولا يسددونها، ورؤساء تحرير لصحف قومية يكوّنون ثروات ضخمة من حصيلة الإعلانات التي كان من الواجب أن تذهب للدولة، وذلك، مقابل ما يقدمونه لرجال الحكم من خدمات سياسية وشخصية، ومن ثم يرفضون بإباء وشمم تنفيذ القانون الذي يقضي بتركهم الخدمة عند بلوغ سن معينة، ويبقون في مراكزهم دون أن تجرؤ الدولة علي إزاحتهم. وشركات وهمية تنشأ تحت شعارات دينية، وتجمع بناء علي ذلك مدخرات صغار المستثمرين، فتستثمرها في مجالات مجهولة أو غير قانونية تحت سمع الدولة وبصرها، في مقابل أن توزع علي كبار المسؤولين أرباحاً خيالية طبقاً لكشوف تسمي «كشوف البركة»، وتصدر الدولة قرارات بتخفيض قيمة العملة أو رفعها طبقاً لمصلحة أشخاص من ذوي النفوذ يكوّنون الثروات من شراء العملة ثم بيعها.. إلخ. *** عندما كان يحدث هذا بين الشرائح العليا في المجتمع، كانت عوامل أخري تعمل علي انتشار الفساد في شرائح المجتمع الدنيا والوسطي. كان مجرد استمرار الزيادة السريعة في السكان، مع تراخي جهود التنمية، وانخفاض معدل نمو الدخل ابتداء من منتصف الثمانينيات، بعد انتهاء فورة الهجرة، ومن ثم ارتفاع معدل البطالة، وازدياد الاكتظاظ بالسكان في الأحياء الفقيرة، ونمو المساكن العشوائية، ونمو ظاهرة أولاد وبنات الشوارع، عاملاً قوياً بذاته لدفع الناس إلي الخروج عن القانون، إذ زاد باستمرار عدد الأشخاص الذين لا يستطيعون مجرد البقاء علي قيد الحياة دون الخروج علي القانون. صحيح أن الحراك الاجتماعي قد انخفض بدوره، ابتداء من منتصف الثمانينيات، مع تراخي معدل الهجرة إلي دول البترول، وعودة أعداد كبيرة من المهاجرين، وقد أدي هذا إلي تدهور في الطموحات وفي آمال الصعود علي درجات السلم الاجتماعي. (وقد سبق أن ذكرت أن ارتفاع معدل الحراك الاجتماعي كان من العوامل المساعدة علي الفساد في السبعينيات) ولكن معدل التضخم استمر مرتفعاً طوال الثمانينيات وعاد إلي الارتفاع في أواخر التسعينيات مما وجه ضربة شديدة لشرائح واسعة من الطبقة الوسطي التي أصابها الجزع من تدهور مركزها الاجتماعي، فسمحت لنفسها بدرجة أكبر من ذي قبل بالخروج علي القانون لتحقيق مصالح خاصة. ولم تجد هذه الشرائح لديها ما يكفي من شعور بالولاء للوطن يمكن أن يدفعها إلي التزام النزاهة الكاملة والتقيد بمبادئ الأخلاق. فمع ما طرأ من تغيير في السياسة العليا أصاب الشعور الوطني ضعف شديد، وتبخر الحماس لأي قضية قومية، وانغمس الناس أكثر فأكثر في مشاكل الحياة اليومية. *** عندما كثرت أمثلة الخروج علي القانون، واطرد سماع الناس بمثال بعد آخر من أمثلة الفساد، في مختلف ميادين الحياة، اعتاد الناس علي ذلك ولم يعودوا يتوقعون شيئاً مختلفاً. وكلما زاد اعتياد الناس علي الفساد، تجرأ أصحاب المال وأصحاب السلطة علي ارتكابه أكثر فأكثر، وأصبح من المألوف سماع القول «بأن الفساد موجود في كل دولة في العالم، فما وجه الشكوي بالضبط؟» هكذا أصبحت الرشوة الصغيرة والكبيرة متوقعة بل واجبة، يجري دفعها واستلامها علناً ودون شعور بالحياء، واعتبرها الموظف جزءاً من دخله الشهري يؤخذ في الاعتبار في حساب الدخل مثلما تؤخذ في الاعتبار العلاوات والمكافآت، كما اعتبرها من يتعامل مع الحكومة جزءاً لا يتجزأ من الإنفاق الضروري، يؤخذ في الاعتبار في حساب تكاليف المعيشة مثلما تؤخذ في الاعتبار أسعار السلع. هذا التكرار لأعمال الفساد وانتشاره، واعتياد الناس عليه، وتجرؤ الناس علي ارتكابه علناً، وقلة مبالاة السلطة بأي احتجاج عليه، وندرة وصوله إلي ساحة القضاء، ثم استهانة رجال السلطة بأحكام القضاء وامتناعهم عن تنفيذها إذا حدث ووصل الأمر إلي القضاء، كل هذا هو ما أعنيه «بتقنين الفساد» في العشرين سنة الأخيرة، أي أن الفساد أصبح هو نفسه القانون الذي لا يجوز الخروج عليه. الجزء السابع مادام الفساد قد أصبح سائداً في الاقتصاد والسياسة فكيف لا يصيب أيضاً الثقافة والمثقفين، بل الخطاب الديني نفسه؟ عندما يتذكر المرء أو يقرأ عن المناخ الثقافي، الذي كان سائداً في عهد الملكية، يبدو له وكأنه لم يكن هناك أي دافع لانتشار الفساد بين المثقفين مثل انتشاره اليوم: لا طبيعة الحكم السائد وقتها، ولا طبيعة التعليم، الذي تلقاه المثقفون، ولا الظروف الاقتصادية السائدة، ولا طبيعة وسائل الإعلام...إلخ. كان الملك يجلس علي قمة السلطة، ولكنه بعكس رئيس الجمهورية في النظام الجديد، الذي أتت به الثورة في ١٩٥٣، كان نادراً ما يتدخل في ترقية أحد أو الخسف به، بسبب علاقة شخصية بينهما أو عداوة يشعر بها الملك إزاءه. لم يكن هذا الانعزال النسبي للملك عن الحياة العامة بسبب صفات شخصية في الملك نفسه، بل بسبب طبيعة النظام السياسي، الذي أرساه دستور ١٩٢٣. نعم كان من سلطات الملك أن ينعم بلقب الباشوية أو الباكوية علي من يريد، ولكن هذه الألقاب لم تكن تجلب لأصحابها مالاً، بل حتي هذا الإنعام بالألقاب ظلت له لفترة طويلة قواعد مرعية كان من المستهجن الخروج عليها، فكان من العرف المتبع، وإن لم تكن هناك قاعدة قانونية بذلك أن من يصل إلي مستوي معين في الوظائف الحكومية يحصل علي الباكوية، بينما ظلت الباشوية محصورة في نطاق ضيق ينعم بها علي رؤساء الوزارات وكبار الأعيان. نعم كان من الممكن لطامع في الباشوية من المثقفين الكبار أن يتقرب إلي الملك بقصيدة عصماء أو خطبة (وفي أواخر عهد الملكية حدث أن اشتري البعض الباشوية بالمال، كما أشرت في مقال سابق)، ولكن ظل هذا نادر الحدوث حتي السنوات الأخيرة من عهد الملك فاروق، وكان قليل الضرر، علي أي حال، بالصالح العام. كان من الممكن أيضاً أن يوعز الملك أو يعبر عن رغبته في محاباة مثقف بعينه بتعيينه في منصب كبير دون غيره، أو بإعطائه جائزة كبيرة يستحقها آخر أكثر منه، ولكن المدهش لنا الآن -بعد ما رأيناه في العهود التالية- كيف أنه كثيراً ما كان هذا الإيعاز أو هذه الرغبة يجدان من يتصدي لهما ويمنع تحقيقهما. كان الملك طبقاً للدستور يملك ولا يحكم، وكان هذا هو ما يحدث بالفعل (باستثناءات قليلة للغاية)، وإنما كانت السلطة الحقيقية والقدرة علي ترقية أحد والإغداق عليه أو فصله والخسف به، في يد رئيس الوزراء والوزراء. ولكن المدهش أيضاً لنا الآن أن كثيراً من هؤلاء الوزراء ورؤساء الوزارات كانوا هم أنفسهم مثقفين كباراً، بعكس ما رأيناه فيما بعد. والوزير أو رئيس الوزارة المثقف يعامل المثقفين، فيما أظن، معاملة أعلي في مستواها الأخلاقي من معاملة الوزير غير المثقف. فعلي سبيل المثال، اعتلي منصب وزير التعليم في عهد ما قبل الثورة (وكانت الوزارة حينئذ تسمي وزارة المعارف وتشمل التعليم العالي وغيره) رجال من أمثال طه حسين (صاحب «مستقبل الثقافة في مصر») وعبدالرزاق السنهوري (صاحب أهم كتب في شرح القانون المدني، وواضع هذا القانون نفسه) ومحمد حسين هيكل (صاحب «حياة محمد»)...إلخ. صحيح أن درجة الاستعداد للفساد والإفساد لا تتوقف فقط (ولا بالضرورة) علي مستوي ثقافة الشخص، ولكن لاشك أيضاً أن استعداد رجال كهؤلاء لإفساد أساتذة الجامعات والمدرسين، ولإصدار الأوامر بتدريس كتب وقصص معينة للتلاميذ، لمجرد تحقيق الربح الوفير لمؤلفيها، الذين قد تربطهم بالوزير علاقات شخصية مع انخفاض مستوي هذه المؤلفات، لاشك أن هذا الاستعداد يقل مع ارتفاع مستوي ثقافة الوزير أو وكيل الوزارة. إني لا أتصور مثلاً أن يوافق وزير مثل طه حسين أو السنهوري أو محمد حسين هيكل، أو حتي وكيل وزارة يرأسها مثل هؤلاء، علي أن تقرر علي التلاميذ قصص أو كتب في المطالعة أو التاريخ من النوع الذي تصدره وزارة التعليم في هذه الأيام، بل كان المقرر علي التلاميذ في المطالعة في عهد أولئك الوزراء المثقفين كتباً من نوع «المنتخب من الأدب العربي»، يختار موضوعاتها ويشرحها صفوة من المثقفين، ويراجعها -قبل أن توضع في أيدي التلاميذ- بعض أعلام الثقافة في مصر. وعلي أي حال ما الذي كان بأيدي الحكام أن يفعلوه لإفساد المثقفين بالمقارنة بما أصبح في قدرة حكام ما بعد الثورة؟ نعم كان من الممكن أن يتطلع المثقف إلي أن يصبح وزيراً، ولكن كان عليه أن يكون أيضاً سياسياً، فلم يكن يكفي لوصول المثقف إلي منصب الوزير أن يوثق علاقاته بذوي الشأن أو أن يكتب مجموعة من المقالات في مدح الملك أو رئيس الوزراء. كان عليه أن يكون أولاً وفدياً أو سعدياً أو من الأحرار الدستوريين.. إلخ، إذ لم نكن عرفنا بعد تعيين وزراء ليس لهم أي تاريخ سياسي ولا نعرف لهم لوناً أو طعماً، ولم نكن نفاجأ بتعيين وزير لم نسمع اسمه من قبل، كما يحدث الآن. نعم حدث مرة (ولا أظن أنها تكررت) أن كتب عباس العقاد، وهو الكاتب الكبير، قصيدة في مدح الملك فاروق، وألقي طه حسين مرة وهو وزير المعارف، خطبة في افتتاح جامعة فاروق بالإسكندرية، قال فيها عبارة اندهش لها الناس كل الدهشة وهي «شرفت العلم يا مولاي». ولكن صدور مثل هذه الأفعال أو الأقوال من مثقفين كبار أو صغار لم يكن شيئاً مألوفاً، ومن ثم اجتهد الناس في البحث عن السبب الخفي، الذي أدي إلي حدوثه. هل كان دافع العقاد محاولة اتقاء شر الملك بسبب غضب شديد أثاره مقال له؟ وهل كان دافع طه حسين تمرير مشروعه بتطبيق مجانية التعليم، أم كان فقط (كما برر هو نفسه تلك العبارة) «يصف الملك لا كما هو بل كما يجب أن يكون»؟ علي أي حال لم تكن في ذلك العهد وزارة للثقافة أصلاً، تغدق الأموال علي المثقفين المقربين من الوزير أو المرضي عنهم من النظام، فتمنحهم الجوائز علي ما أدوه وما لم يؤدوه من أعمال علمية أو فنية عظيمة، ولا كان هناك هيئة تسمي الهيئة العامة للكتاب، تنشر الكتب الصالحة وغير الصالحة علي حسب حظ المؤلف من رضا المسؤولين.. إلخ. كان النشاط الثقافي يقوم به أفراد أو جمعيات أهلية بأموالها الخاصة، ولا تحصل علي معونة من الدولة إلا إذا ثبت للدولة أنها تحقق بالفعل نفعاً عاماً. فالكتب تنشرها دور نشر خاصة (فيما عدا الكتب المقررة علي المدارس)، والمسرحيات تقدمها فرق خاصة، والأفلام تنتجها شركات خاصة، والصحف والمجلات الثقافية تصدرها أيضاً شركات وجمعيات خاصة تستهدف رضا الجمهور عنها، فلم يكن هناك ما يسمي «الصحف القومية»، يعين رؤساؤها بحسب رضا الحكومة عنهم مهما كانوا ضئيلي الموهبة، ويتنافس المثقفون (وغير المثقفين)، علي تعيينهم رؤساء لها أو محررين بها وعلي الكتابة فيها، مما يتطلب رضا السلطة عنهم. كانت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، التي يمكن أن تدفع المثقف إلي إراقة ماء الوجه للظفر بمغنم مادي، ضعيفة للغاية في عهد ما قبل الثورة. كان انخفاض معدل التضخم وانخفاض معدل الحراك الاجتماعي، قبل ثورة ١٩٥٢ عاملين قللا من انتشار الفساد، كما سبق أن ذكرت في مقال سابق، سواء بين المثقفين أو غيرهم. وقد سبق أن ذكرت أيضاً، أن الغالبية العظمي من أفراد الطبقة الوسطي المصرية في منتصف القرن العشرين قد صعدت من أصول اجتماعية متواضعة في بداية القرن، اعتماداً علي سند أساسي هو التعليم، والصعود علي السلم الاجتماعي بسبب التعليم عملية بطيئة، بعكس الصعود بسبب تحقيق أرباح تجارية أو صناعية أو بسبب الهجرة إلي دول النفط، أو بسبب الصعود إلي قمة السلطة السياسية أو بالقرب منها، مما عرفته مصر في النصف الثاني من القرن. والذي صعد اجتماعياً ومادياً ببطء، وبسبب التعليم يكون أقل استعداداً علي الأرجح، للخضوع لإغراء المال أو للتضحية بالمبادئ الخلقية من أجل منفعة شخصية، ومن ذلك الذي ذاق طعم الثراء وبحبوحة العيش فجأة، ولأسباب لا علاقة لها بالعلم أو الثقافة ولا حتي بالجهد. إني أزعم أن هذا العامل، أي طبيعة الصعود الاجتماعي، الذي حققه المثقفون المصريون، خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان من العوامل التي جعلتهم أقل استعداداً للفساد من نظرائهم في النصف الثاني من القرن. لقد حققوا ما حققوه من نجاح بالجهد والتضحية لا بالشطارة، وفي مناخ كان يقدر الجهد والعلم والثقافة أكثر مما يقدر الشطارة. ترتب علي هذا أن مثقفي ذلك العهد كانوا يتوقعون الحصول علي تقدير الناس كمكافأة علي جهدهم، وكانوا يحصلون عليه بالفعل، فلما قل ما يحصل عليه المثقفون من تقدير لكفاءتهم، لجأوا إلي أعمال أخري، فنجح بعضهم وفشل آخرون، ولكن ظهر علي أي حال مناخ جديد تماماً، لعب فيه المثقفون المصريون دوراً بائساً، بدأ منذ الأيام الأولي لثورة ١٩٥٢ وازداد بؤساً مع مرور الوقت حتي اليوم. |
الجزء الثامن
لا شك أن قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ خلق طلباً علي نوع جديد من المثقفين لم يكن مطلوباً من قبل، فهاهم مجموعة من الضباط الثوار يزيحون الي الأبد الأحزاب السياسية التي تبادلت فيما بينها حكم مصر منذ ثورة ١٩١٩، ويستولون علي مقاليد الأمور كلها في مصر وهم ليسوا إلا ضباطاً صغيري السن ليس لهم سابق عهد بالسياسة أو الوزارة ولا معرفة تذكر بأمور الاقتصاد أو السياسة الخارجية أو العربية. لديهم أهداف رائعة حقاً وشعارات خلابة ولكن كيف يكون وضع هذه الأهداف والشعارات موضع التنفيذ دون الاستعانة بعدد من القانونيين والدبلوماسيين والاقتصاديين والمهندسين والزراعيين.. إلخ، ليصيغوا مبادئ الثورة في قوانين جديدة ويتعاملوا مع الدول الأجنبية طبقاً للأصول المرعية في العلاقات الدولية، ولتسيير الاقتصاد ثم فيما بعد لإدارة المشروعات المؤممة وليشرفوا علي تطبيق الإصلاح الزراعي.. إلخ؟ بل لقد ظهرت الحاجة إلي «مفكرين» أيضاً فالأهداف التي تتبناها الثورة مؤكدة ولا رجوع فيها، ولكنها غامضة ومشوشة وتحتاج إلي من يوضحها ويضع نظرية لها، بل وقد يحتاج قادة الثورة إلي من يوضح لهم هم أنفسهم ما يريدونه بالضبط، وعلاقته بالأفكار والأيديولوجيات السائدة في العالم.. إلخ. وأخيراً فقد كانوا في حاجة أيضاً إلي «دُعاة»، قد لا يؤمنون بأهداف الثورة بالضبط ولكنهم فصيحون يجيدون الكلام وتنميق الخطب، وكتابة المقالات المؤثرة في الصحف، هؤلاء مطلوبون أيضاً، إذا فالثورة تحتاج إلي تكنوقراطيين ومفكرين ودُعاة، وهؤلاء يجمعهم وصف «المثقفين»، وإن كان وصف كل هؤلاء بـ«المثقفين» فيه بعض التجاوز بلا شك، فإذا كان «المفكر» لابد أن يكون مثقفاً، فليس من الضروري أن يكون الدبلوماسي أو الاقتصادي أو المهندس مثقفاً بنفس المعني، و«الداعية» قد يكون أو لا يكون مثقفاً. المهم أن حكام ما قبل الثورة وإن كانوا بالطبع في حاجة إلي النوع الأول من «المثقفين» (إذ كيف تدار شؤون الدولة بغيرهم؟) فإنهم لم يكونوا في حاجة إلي مفكرين أو دُعاة بأي درجة تقارن بحاجة قادة الثورة إليهم. نعم، كانت لكل حزب من أحزاب ما قبل الثورة صحف تدافع عن الحزب ضد خصومه، وكان الملك يستخدم أحياناً بعض المثقفين للتشهير ببعض رجال الأحزاب (خاصة الوفد). ولكن ما الذي كان الملك يفعله أو يدعو إليه مما يمكن أن يكون موضوعاً للثناء أو النفاق؟ كان من الممكن أن يشيد كاتب أو صحفي بشباب الملك وصغر سنه، أو يبالغ في وصف حب الناس له في يوم الاحتفال بعيد جلوسه علي العرش، أو يصف مصافحته لمستقبليه بقوله: إن الملك صافحهم «بيده الكريمة»، ولكن هذا كله كان قليل الخطر وضعيف الأثر، وكان يذكر الناس بما قاله المتنبي في مدح سيف الدولة أو ما قاله النابغة الذبياني في مدح النعمان، أكثر مما يثير غضبهم أو احتقارهم. أما الدعاية والإفراط في الثناء علي رئيس حزب من الأحزاب فقد كانا أيضاً نادرين وضعيفي الأثر. وأما «المفكرون» فقد كان من النادر جداً أن توظف مواهبهم لخدمة هذا الحاكم أو ذاك، إذ لم تكن السياسات المتبعة قبل الثورة تحددها الأفكار أو الأيديولوجيات بقدر ما كان يحددها الإنجليز. اختلف الأمر تماماً بقيام الثورة، فالنظام يدعو إلي مبادئ جديدة ويحتاج إلي إقناع الناس بها. وهناك قوانين وإجراءات من نوع غير معهود تحتاج إلي شرح وتبرير. وربما كان الأهم من هذا وذاك أن النظام الجديد استولي علي الحكم بالقوة، واستغني عن البرلمان والانتخابات، وأحل حكم الرجل الواحد محل حكم حزب من الأحزاب، ولا يريد أن يتخلي عن سلطاته طالما كان هذا ممكناً، وهذا يحتاج إلي تبرير ودعاية، ولابد من العثور علي «مثقفين» يقومون بهذه المهام. *** ظلت مهمة المثقفين نظيفة نسبياً في السنتين الأوليين من عمر الثورة، ولم تبدأ تتعرض للفساد بدرجة ملحوظة إلا مع بداية الانقسام بين رجال الثورة في ١٩٥٤، فقد حما المثقفين المصريين في السنوات الأولي عدة أمور. كان النظام الجديد في السنوات الأولي يتمتع بتأييد شامل وحماس منقطع النظير مما سمح للنظام بأن يستعين بمثقفين علي أعلي مستوي من النزاهة الشخصية، ومستعدين للدفاع عن الثورة وتبرير أعمالها وقوانينها عن اقتناع كامل. كانت هذه هي فترة استعانة الثورة بمثقفين كبار من نوع السنهوري وسليمان حافظ لوضع قوانين جديدة، أو من نوع إسماعيل القباني ومحمد عوض محمد لتولي وزارة التعليم، أو فتحي رضوان لتولي أمور الثقافة (وزارة الإرشاد القومي وقتها) أو علي الجريتلي لتولي وزارة الاقتصاد...إلخ. ولكن سرعان ما تبين لرجال الثورة من ناحية، وللمثقفين من ناحية أخري، أن النظام الجديد في حاجة إلي نوع آخر من المثقفين. نعم، لقد استمر حماس الناس للثورة حتي بعد الانقسام الذي حدث بين عبدالناصر ومحمد نجيب، وإن كان هذا الانقسام قد أفقد الثورة بعض أنصارها. بل زاد الحماس بتأميم قناة السويس واتحاد مصر وسوريا واكتسبت الثورة أنصارًا جددًا بتأميمات ١٩٦١. ولكن هذه الانتصارات نفسها قوّت النزعة الديكتاتورية في الحكم وفتحت شهية الحاكم للمزيد من السيطرة ولابد أنها أيضًا لعبت برأسه وجعلته أكثر استجابة لمحاولات التقرب من السلطة التي يجيدها، نوع آخر من المثقفين، سرعان ما تكاثروا عندما لاحظوا استجابة النظام لهم. المدهش أنه في نفس هذه الفترة اتخذ عبدالناصر إجراءات في غاية القسوة ضد الشيوعيين المصريين الذين كان من بينهم بعض كبار المثقفين والفنانين الموهوبين. فلسبب ما فضل عبدالناصر أن يؤمم الشركات ويتخذ إجراءات إعادة توزيع الدخل وإنصاف العمال وإشراكهم في الإدارة في غياب الاشتراكيين والشيوعيين، إذ أودع كثيرين منهم السجن، حيث تعرض بعضهم للتعذيب، ولم ينج منهم إلا من هرب إلي خارج مصر. فضَّل عبدالناصر أن يطبق الاشتراكية بدون اشتراكيين، ومن ثم كان لابد أن يظهر علي سطح الحياة الثقافية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات نوع من المثقفين الذين يتظاهرون بالإيمان بالمبادئ التي أعلنها النظام دون أن يؤمنوا بها حقيقة، يجيدون إلقاء الخطب أو تأليف الكتب بل والأغاني في مدح الاشتراكية العربية، والحياد الإيجابي والقومية العربية، وفي ذم الاستعمار ورفض السيطرة الأجنبية، لمجرد التقرب من السلطة. كان أصحاب السلطة يعرفون تمام المعرفة، طبيعة هؤلاء الرجال وأغراضهم، ولكنهم كانوا يفضلونهم لهذا السبب بالضبط. إنهم رجال بلا مبادئ وبلا تاريخ، ومن ثم يمكن الاعتماد عليهم اعتمادًا كليا لتنفيذ كل ما يطلب منهم. لاشك أن هذا النوع من المثقفين موجود في أي بلد من البلاد، وكان موجودًا بالطبع قبل الثورة كما كان موجودًا بعدها، ولكن لاشك أيضًا أن المناخ السياسي الذي ساد في مصر ابتداء من منتصف الخمسينيات، وعلي الأخص منذ بداية الستينيات، قد شجع هؤلاء علي الظهور وفجّر مواهبهم الدفينة وبعث فيهم النشاط والحيوية. كان بعض هؤلاء معروفًا للجميع بقلة النزاهة والانتهازية، ولكن كثيرين منهم لم يكتشف معدنه الحقيقي إلا عندما تغيرت سياسة النظام تغيرًا تامًا فيما بين الستينيات والسبعينيات، فإذا بهؤلاء يظلون قريبين من الممسكين بالسلطة في السبعينيات مثلما كانوا في الستينيات، واتضح أن لديهم من المزايا ما لابد أن يعجب أي حاكم. كانت هذه هي الفترة (٥٨ - ١٩٦٤) التي انزوي فيها عدد من المثقفين الكبار، رأوا أن المناخ لم يعد يناسبهم فنأوا بأنفسهم عن المشاركة فيه (كنجيب محفوظ وتوفيق الحكيم في الأدب والمسرح، وإحسان عبد القدوس في الصحافة) ولكن كانت هي أيضًا الفترة التي لمعت فيها نجوم جديدة من المثقفين المصريين من أصحاب المواهب الحقيقية، ومن المتعاطفين تعاطفًا تاماً، في نفس الوقت مع النظام، (من أمثال يوسف إدريس في الأدب ونعمان عاشور في المسرح وأحمد بهاء الدين في الصحافة وصلاح جاهين في الشعر العامي والكاريكاتير والأغنية، وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي في الشعر...إلخ) وانضم إلي هؤلاء طائفة كبيرة من المثقفين الماركسيين بعد إطلاق سراحهم في ١٩٦٤، وتوليهم مسؤوليات مهمة في مؤسسات لنشر الكتب والسينما والمسرح ( كعبدالعظيم أنيس، وإسماعيل صبري عبدالله، ومحمود العالم، ومحمد سيد أحمد...إلخ). ولكن جاءت هزيمة ١٩٦٧ فخبا ضوء كل هذه النجوم القديمة والجديدة، إذ لزم بعضهم الصمت حزنًا ويأسًا، وهاجر بعضهم إلي دول الخليج أو أوروبا، ومن استمر منهم في الكتابة كتب بنفس مسدودة، أو تحول من كتابة القصة إلي كتابة المقال (كيوسف إدريس) أو من كتابة الشعر إلي تولي وظيفة إدارية (كصلاح عبدالصبور). واستمرت هذه الفترة الكئيبة نحو ثماني سنوات (٦٧ - ١٩٧٥)، دخلت مصر بعدها مرحلة جديدة شعاراتها الانفتاح والتصالح مع إسرائيل والابتعاد عن العرب والارتباط الوثيق بالولايات المتحدة، فإذا بالمناخ الثقافي تبعث فيه الحيوية من جديد، ولكنها حيوية يشوبها نوع جديد من الفساد. الجزء التاسع أدي التحول الذي جري في عهد السادات في السياسة الاقتصادية والعربية والخارجية إلي انقسام المثقفين المصريين إلي ثلاثة أقسام، كان هناك من المثقفين من وجد بغيته فيما أحدثه السادات من انفتاح علي الغرب وتصالح مع إسرائيل. فهؤلاء لم يتعاطفوا مع عبدالناصر قط، في إغلاقه الأبواب في وجه منتجات الغرب من السلع والثقافة، ولا تحمسوا لانتصاره للقضية الفلسطينية، ولا شعروا بانتساب قوي للعروبة، بل فضّلوا أن تلتفت مصر لحالها وتصلح أمورها وتنفق أموالها في تنمية اقتصادها. كان علي رأس هؤلاء بعض المثقفين الكبار الذين لزموا الصمت طوال عهد عبدالناصر أو كتبوا قصصاً رمزية أو مقالات في خارج الموضوع طلباً للأمان. فلما مات عبدالناصر كتبوا ما معناه أنه طوال عهده كانوا «فاقدي الوعي» والآن عاد وعيهم إليهم، أو رفعوا شعار «مصر أولاً» ونشط بعضهم في الكتابة للمسرح بعد حرمان طويل، أو ساعدوا السادات في كتابة سيرته الذاتية ورافقوه في نزهاته، وارتاح السادات إلي مجلسهم بعد ما عاناه في ظل عبدالناصر من كبت طويل. هؤلاء لم يخونوا أنفسهم ولم يتنكروا لماضيهم، فما أقل ما كتبوه لتأييد عبدالناصر، وعندما فعلوا ذلك كان من الواضح للجميع أنهم فعلوه خوفاً من بطش عبدالناصر لا حباً فيه. ولكن هناك قسماً آخر من المثقفين لم يتنكروا بدورهم لماضيهم، ولم يخونوا أنفسهم، إذ استمروا يدافعون عن سياسات عبدالناصر بعد موته، واشتبكوا مع الساداتيين في عراك عنيف، سمح به السادات سنوات طويلة بما أتاحه من حريات لم تكن متاحة من قبل. فاشتبك الاقتصاديون المنادون بحماية الاقتصاد مع الاقتصاديين الموالين للسادات في مؤتمرات سنوية حامية، واشتبك المعارضون للصلح مع إسرائيل مع من رفعوا شعار السلام وأيدوا زيارة السادات للقدس، ووقف المؤمنون بالقومية العربية يهاجمون اتجاه السادات الجديد للتقليل من شأن الدول العربية الأخري بل الاستهزاء بها، وأزعجهم بشدة ما أبداه السادات من انهيار نفسي أمام الولايات المتحدة وما أبداه من استعداد لتلبية كل طلباتها. هكذا شهدت جريدة «الأهالي»، التي بدأت في الصدور في عهد السادات، أمجد أيامها تحت رئاسة رجال من نوع محمد عودة وحسين عبدالرازق، وقرأنا فيها مقالات رائعة لكتاب موهوبين ومعارضين للسادات كعبدالعظيم أنيس وصلاح عيسي وفيليب جلاب، ونشرت جريدة «الشعب» (التي بدأت في الصدور أيضاً في عهد السادات) مقالات ممتازة، شكلاً وموضوعاً لرجال مثل فتحي رضوان وحلمي مراد، واحتفظت «روز اليوسف» باستقلالها فنشرت أيضاً مقالات ضد سياسة السادات. بل استمر كتاب مرموقون يكتبون في الجرائد والمجلات المعبرة عن سياسة الحكومة، مقالات ضد هذه السياسة، مثل أحمد بهاء الدين وصلاح حافظ...إلخ، هؤلاء جميعاً لم يتنكروا لشيء كتبوه في عهد عبدالناصر، ولم يخونوا اعتقادهم بضرورة العمل من أجل الاستقلال الوطني، اقتصادياً وسياسياً، ومن أجل تحقيق آمال الفلسطينيين، وضم صفوف العرب. ولكن كان هناك أيضاً ذلك النوع الثالث من المثقفين المستعدين للعمل في ظل أي عهد تحقيقاً لمكاسب خاصة، وهؤلاء، وإن كانوا موجودين بالطبع في عهد عبدالناصر أيضاً، فقد تكاثروا في عهد السادات، عندما وجدوا المكاسب أكبر وأشد جاذبية، بما أتاحه الانفتاح من فرص لم تكن موجودة من قبل، للانغماس في الترف والتمتع بالحياة. هكذا وجدنا ماركسياً قديماً وناصرياً متحمساً يكتب في محاولة التنظير «لمدرسة السادات السياسية» بعد أن كان في عهد عبدالناصر رئيساً لتحرير مجلة شهرية تدافع عن عكس ذلك بالضبط. ووجدنا اقتصاديين سبق لهم تأليف كتب في مدح الاشتراكية العربية يكتبون المقالات في مدح الانفتاح، وأساتذة جامعيين كانوا أعضاء نشطين في منظمة الشباب التي أنشأها عبدالناصر لترسيخ الإيمان بالاشتراكية بين الشباب، يعرضون خدماتهم علي السادات للدفاع عن سياسته، أو كانوا من قبل يدافعون عن حقوق الفلسطينيين، ثم فوجئوا بزيارة السادات للقدس في ١٩٧٧ وتصالحه مع الإسرائيليين إلي حد إلقائه خطاباً في الكنيست، فاحتاروا فيما يفعلون، وأخذ بعضهم يكتب مقالات يمكن أن تفسر علي أنها مع الزيارة، وكذلك علي أنها ضدها، وفضّل أحدهم أن يكتب مقالاً ذكر فيه أن لزيارة السادات لإسرائيل عشر مزايا وعشرة عيوب. مع كل هذا اتسمت الحياة الثقافية في عهد السادات بالحيوية وشدة الجدل بين الآراء المختلفة، واستمرت هذه الحيوية خلال السنوات الأولي من عهد مبارك، وأظن أن سبب هذه الحيوية هو أن الأمل كان لايزال قائماً في إعادة الأمور إلي نصابها، وإجبار النظام علي النكوص عن الردة التي اتخذها السادات في السياسة الاقتصادية وفي علاقاته الخارجية والعربية ومع إسرائيل، وكأن طائفة كبيرة من المثقفين المصريين لم يصدقوا أن من الممكن أن تنقلب السياسة المصرية علي هذا النحو رأساً علي عقب، فاستمروا يدافعون عن السياسات التي دشنها عبدالناصر حتي وضعهم السادات جميعاً في السجن في سبتمبر ١٩٨١. *** بعد فترة قصيرة من التفاؤل في أوائل عهد مبارك أصاب الكثيرين من المثقفين المصريين شعور بالإحباط زادت قوته شيئاً فشيئاً خلال العشرين سنة الأخيرة، ولكن اتسم عهد مبارك أيضاً ببعض السمات التي سمحت لصور جديدة من الفساد بأن تترعرع بين المثقفين. فمن ناحية، ظهر مع مرور سنة بعد أخري أن سياسة العهد الجديد لن تختلف في أي شيء مهم عن السياسة التي دشنها السادات، سواء في الاقتصاد أو في العلاقة مع العرب أو مع الولايات المتحدة أو إسرائيل. نعم، كانت اللهجة أهدأ، واختفت النبرة الحادة التي اتسم بها أسلوب السادات، والتي كانت تلائم تدشين سياسة جديدة، أما الآن فكل شيء يسير في نفس الطريق دون تشنج ودون صياح. الانفتاح مستمر، بل بدرجة أكثر فجاجة ولكن دون محاولة للتبرير أو الدفاع. وإهمال القطاع العام ثم بيعه يسير بمعدل أسرع ولكن في صمت. والعلاقة مع البلاد العربية الأخري بقيت فاترة ولكن دون توجيه الإهانات. والتبعية للولايات المتحدة استمرت واقترنت بإذلال أكبر ومهانة أشد، ولكن دون تسمية الساسة الأمريكيين بالأصدقاء، كما كان يفعل السادات، ودون مبالغة في الاحتفاء بهم. أما إسرائيل فظلت طلباتها مجابة، وعقدت معها اتفاقيات اقتصادية بالغة الأهمية، وتمهد الطريق لتبعية الاقتصاد المصري لها، ولكن هذه الاتفاقيات تعقد بسرعة ودون مناقشة، وكأنها اتفاقيات سرية، ويتم توطيد العلاقات بين مصر وإسرائيل دون أن تتم زيارة من الرئيس المصري لإسرائيل تطبل لها وسائل الإعلام وتزمر. في مناخ كهذا كان لابد أن يسود اليأس من حدوث التغيير المأمول. وفي ظل هذه الدرجة من اليأس يبرز نوع جديد من المثقفين القناصين للفرص، يائسون هم أيضاً كغيرهم، فيما يتعلق بالمستقبل المصري، ولكنهم أبعد ما يكونون عن اليأس فيما يتعلق بتحسين أحوالهم الشخصية. فحين يختفي مشروع للنهضة يوحد الجميع ويمنح فرصة للموهوبين من المثقفين للتألق، لا يبقي إلا المشروعات الخاصة التي تجلب للمثقف وأسرته الثراء وبحبوحة العيش. بعبارة أخري: إذا كانت الموهبة لم تعد مطلوبة لتحقيق نهضة الأمة، فلا مفر من توجيهها لتحقيق الثراء. ولكن هذا الغياب لمشروع للنهضة يثير الحماس بين الناس ويوحدهم، لم يكن العامل الوحيد لإفساد المناخ الثقافي في مصر. فقد تضافر هذا مع عوامل أخري خلال العشرين عاماً الأخيرة لإحداث مزيد من التدهور. ففي الوقت الذي ضعفت فيه الآمال في حدوث نهضة عامة، زاد انفتاح مصر علي العالم، فتدفقت عليها السلع والاستثمارات الأجنبية، وانفتح بشدة الإعلام المصري علي المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية الخارجية، من إعلانات عن السلع إلي التعرف علي أنماط جديدة للمعيشة أعلي بكثير من المتاح في مصر. سال لعاب الناس في مصر، خلال العقدين الماضيين (بما في ذلك لعاب المثقفين) شوقاً للوصول إلي هذه المستويات العالية من المعيشة، مما قوي الدافع إلي الخروج علي مقتضيات الواجب والأخلاق. وإذ حدث هذا في ظل تراخي معدل النمو الاقتصادي، وإنكماش فرص الهجرة إلي الخليج، أصبح التنافس يجري علي نصيب أكبر من كعكة ثابتة الحجم (أو تكاد أن تكون ثابتة الحجم)، مما يقوي بدوره الدافع إلي الفساد. يمكن التعبير عن ذلك بشكل آخر، بالإشارة إلي تأثير ارتفاع معدل «العولمة» علي مجتمع ضعيف الهمة، فاقد البوصلة، ينمو اقتصاده ببطء، مع تعريض الناس لإغراءات أكبر. لابد في مثل هذا المناخ أن ينمو الفساد، بما في ذلك الفساد بين صفوف المثقفين، بل ليس من المستغرب أيضاً أن يتسرب الفساد إلي الخطاب الديني نفسه، شكلاً ومضموناً. هكذا رأينا بعض الجالسين علي قمة المؤسسة الدينية يعبرون عن آراء مدهشة لا يمكن أن يقبلها الدين أو الخلق الكريم، لمجرد التقرب من الجالسين علي قمة السلطة كالقول بأن مقاطعة الاستفتاء (لصالح الرئيس طبعاً)، هذه المقاطعة التي دعت إليها بعض عناصر المعارضة تعبيراً عن رفضها للتزوير، هي بمثابة كتمان للشهادة، وهو مما ينهي عنه الدين، ومن ثم فالممتنع عن الذهاب إلي الاستفتاء «آثم قلبه». وذهب آخر إلي أن الشباب الغرقي الذين كانوا يحاولون الهرب من مصر والالتجاء إلي شواطئ دولة أوروبية أملاً في الحصول علي فرص للعمل حرموا منها في مصر، لا يمكن اعتبارهم شهداء جزاؤهم الجنة، بل يؤكد أنهم طماعون جشعون فضلاً عن مخالفتهم قوانين البلاد التي يحاولون الذهاب إليها. *** في هذا المناخ يميل بعض أصحاب المواهب الحقيقية من الراغبين في الإصلاح وتحقيق النهضة إلي الانسحاب أو الانزواء، إن لم يكن بالموت أو الشيخوخة، فبالقنوط والإحباط. ولكن يميل بعض المثقفين الموهوبين أيضاً إلي تغيير موقعهم فتنطفئ موهبتهم بسبب هذا التغيير، إذ ينشغلون بكتابة أشياء تافهة أو لا تعبر عما يشعرون به. وينتهز هذه الفرصة أعداد كبيرة من أنصاف الموهوبين أو عديمي الموهبة فيقفزون لاحتلال مراكز المحررين والكتاب ورئاسة تحرير الصحف والمجلات المملوكة للحكومة، فيكتبون كلاماً لا معني له، مما لا يكاد يقرؤه أحد أو يعبأ به أحد، بل إنهم هم أنفسهم لا يعبأون برأي الناس فيهم، إذ إنهم في الحقيقة لا يوجهون كلامهم إلا للممسكين بالسلطة، يريدون به تأكيد ولائهم، واستحقاقهم لمناصبهم. |
الفساد وسنينه
والجزء العاشر دا اكيد هيبقي اهم جزء حيث تضخم وتعملق المذكور اعلاه واصبح هو القاعدة ... ويحدث بمباركة وحماية النظام وتحت غطاء - تقيل - من الشرعية !!!
والف الف مبروك براءة المحروس د.هاني بيه سرور ... حيث اثبت قضائنا العادل الراسخ تحت حكمنا الرشيد ان هايدلينا هي .... احسن حاجة لينا !!! ولا عزاء للمواطنين |
مجهود رائع وف انتظار القراءة المتانية و العميقة للحكم و التعليق
|
الساعة الآن 01:39 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية