منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   [قصة مكتملة] على جناح تنين.. (https://www.liilas.com/vb3/t201513.html)

عالم خيال 13-12-15 02:49 PM

على جناح تنين..
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أنا كاتبة جديدة في هذا المنتدى، لكني لست جديدة في الكتابة..
لي عدد من السنين أنشر رواياتي في مدونتي وفي منتدى آخر.
والآن أحببت نشر هذه الرواية في هذا المنتدى آملة أن تنال إعجابكم ومتابعتكم..

قد نشرت هذه الرواية سابقاً في مدونتي، لكني ارتأيت أنها ستكون مناسبة لعرضها لكم

هذه الرواية خيالية، تدور في عالم آخر يخلتف أو يتشابه مع عالمنا كثيراً
هذا هو ملخص الرواية، وبالضغط على الصورة يمكنكم رؤية غلافها كاملاً

http://4.bp.blogspot.com/-maLZ403WO7...el%2Bthumb.jpg

هذه خارطة خاصة بهذا العالم ويوضح أهم الأماكن فيه
خارطة الرواية

سأنشر فصلين معاً اليوم، وسأبدأ بنشر بقية الفصول يومياً بإذن الله حتى انتهائها
فأتمنى منكم المتابعة والتعليق على ما تقرؤونه..

وأتمنى أن يعجبكم المحتوى..

الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر واﻷخير
فصل إضافي1: حكاية جايا والمنقذ الأسطوري
فصل إضافي 2: حكاية غياث


http://1.bp.blogspot.com/-jfbUir7Juf...400/break2.png

عالم خيال 13-12-15 02:55 PM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الأول: مستقبل لا أريده


في عالم آخر.. عالم بعيد أم قريب، لا أحد يعرف.. في عالم شاسع، مكوّن من قارتين عظيمتين تحتلان ذلك العالم.. في ذلك العالم، انقسمت الأرض بين مملكتين عظيمتين هيمنتا على تلك القارتين وفرضتا سيطرتهما شبه الكاملة..
في مثل ذلك العالم، ولاء المرء لا ينقسم إلى اثنين.. فإما أن يكون موالياً لمملكة (بني فارس) التي سميت بهذا الاسم نسبة لموحدها فارس بن ظاهر، والتي ملكتها عائلة عريقة من الملوك الأقوياء.. وقد اشتهرت المملكة بمساحتها الكبيرة التي تغطي أغلب إحدى القارتين المكونتين لذلك العالم، وتسمى القارة العظمى.. فمنذ نشوئها، توسعت مملكة بني فارس وهي تلتهم الممالك والولايات الأصغر والأضعف حجماً بكل شراهة.. ولم يسلم من سطوتها إلا بضع ممالك صغيرة وقبائل غجرية في شمال وشرق المملكة في الأماكن الأكثر وعورة وقسوة في المناخ..
وفي الجزء الغربي من القارة الأكثر غنىً بثرواتها الطبيعية، استقرت العائلة المالكة في مدينة كبيرة اتخذتها عاصمة للمملكة، وسميّت (الزهراء)، والتي ازدانت بمساحات شاسعة من الحدائق الغنّاء بأشجارها المثمرة وشجيراتها الزاهرة، وشيّدت فيها المباني الفخمة والساحات المنظمة والشوارع المرصوفة حتى تعارف على تسميتها بزهراء الممالك لجمال أحيائها وتنظيمها وفخامة قصورها..
أو يكون المرء موالياً لمملكة (كشميت) الواقعة في قلب قارة الثنايا، وهي مملكة محبّة للعلوم والفنون وجميع أنواع المعارف.. شُغف ملوكها بالتطوير والتعمير، وقاموا باستقطاب أصحاب الفنون والعلوم لتطوير مملكتهم، بحيث أصبحت العاصمة التي اختاروها والتي سميّت (كاشتار) مطمحاً للعلماء وأصحاب المعارف المختلفة، وسرت شائعة أن كل من يملك علماً يعامل بأفضل مما قد يجد في باقي ممالك العالم.. ورغم أن ملوك (كشميت) لم يكونوا من عائلة عريقة بل مجهولي الأصل، فإن حكمهم القوي قد جعل من مملكتهم تتمدد حتى تكاد تغطي على قارة الثنايا بأكملها..
وكما هو معروف ومتوقع، فإن عداءً قوياً قد تأصّل بين المملكتين لاختلافهما في الأهداف والتطلعات، وامتد ذلك الخلاف لمئات السنين واستهلك عشرات وآلاف الأرواح والممتلكات في حروب ضارية خاضتها المملكتان دون تردد.. ورغم أن الحرب الأخيرة، التي انتهت باتفاقية مؤقتة للسلام، مضى عليها ما يزيد على خمس وعشرين عاماً، إلا أن مثل هذه الاتفاقية لم تتمكن من إرساء سلام كامل في العالم ولم تهّدئ القلاقل التي تحدث بين وقت وآخر عند أطراف المملكتين وعبر بحر السلام وهو بحر يفصل بين القارتين ويحمل في اسمه أمنية تمناها الأجداد.. بأن يسود السلام بين المملكتين وتنقطع الحروب الشرسة بينهما والتي أزهقت أرواح المئات من أبنائهم ودمرت القرى الواقعة على ساحل ذلك البحر من جهتيه..
وبسبب هيمنة هاتين المملكتين، وجدت الممالك والدول الأصغر والأقل تأثيراً أنها مجبرة على تحديد ولائها لمن يملك مصالحها أو من تخشى من بطشه أن يطالها ويتهدد أمانها.. وهذا كان حال مملكة بني غياث الصغيرة التي تحتل جزيرة لا تتجاوز مساحتها مساحة إقليم من الممالك الأكبر حجماً، وتحتوي على أقل من عشر مدن رئيسية وبعض القرى المتفرقة ومساحات جبلية احتلت معظم تضاريس الجزيرة.. مما جعل معيشة سكانها صعبة وقاسية، وجعل المملكة فقيرة وذات اقتصاد ضعيف.. وفقرها هذا جعلها غير قادرة على بذل المال لتجهيز جيش مدرب بعتاده لحماية المملكة من أي عدو يهدد أمنها وسلامة شعبها.. وهذا جعلها بحاجة ملحة لحليف قوي يدرأ عنها الأخطار ويساندها في أي أزمة تمر بها..
كانت عاصمة تلك المملكة هي (بارقة)، والتي أسماها ملوكها السابقون بذلك لأن القادم إليها يرى أول ما يرى انعكاس الشمس على بواباتها الفضية الضخمة.. هي مدينة كبيرة الحجم وتبزّ باقي مدن المملكة مساحة وفخامة.. لكنها أصغر بكثير من مدن الممالك الأكبر وتبدو كمجرد قرية صغيرة جوارها.. لكن الملك حاول جهده للتغلب على ذلك بالكثير من البهرجة والفخامة في قصره الملكي، بالإضافة لابتداع الكثير من المراسم الخاصة به وبالطبقة العليا لا هدف لها إلا إضفاء أهمية مزعومة على مملكته وعلى شخصه..
كان ملك مملكة بني غياث، قصيّ الرابع، رجلاً في الستين من عمره، بطباع جافة ومزاج عصبي وتسلط ظاهر، لا يتردد في عقاب من يخالف قوانينه محاولاً وأدَ أي اعتراض قبل أن يتفاقم لثورة تطيح به وبعائلته.. وكان يملك عائلة كبيرة الحجم بالنسبة لملك مثله، مكونة من زوجتين أنجبتا اثنا عشر ابناً وابنة بالإضافة لصبيين صغيرين أنجبتهما إحدى جواريه.. وقد تراوحت أعمار أبنائه بين الثالثة والثلاثين، وهو عمر أكبر بناته، إلى السنتين، وهو عمر الصبيين التوأمين اللذين أنجبتهما الجارية.. ورغم العدد الكبير لأبنائه، إلا أن الملك لا يكاد يذكر من أبنائه إلا اسم وريث مملكته، غياث الثاني، والذي يعدّه ليحكم المملكة من بعده آملاً أن يتحقق هذا بعد زمن طويل وعمر مديد.. ولا يكاد يذكر من بناته إلا من احتاج تزويجها لشخص ذي مكانة تمنح ملكه شيئاً من القوة أو تمنحه حليفاً جديداً..
لذلك، عندما تردد اسم ابنته السابعة على شفتيه، فإن الأخبار طارت بسرعة البرق في قصره الفخم الذي احتل مساحة يعجز الشخص العادي في تلك البلاد من تصديقها.. هلّلت زوجته الثانية لهذه الأخبار، وهي أم الإبنة السابعة.. بينما تراوح انفعال أخواتها لهذا الخبر بين سعادة لما يعنيه ومط شفاه بغيرة وحسرة..
ومع نهاية ذلك الأسبوع، كانت العاصمة تقيم احتفالاً باهراً عمّ أرجاءها وأحياءها باختلاف طبقاتها.. ولم يكن هناك سبب معروف لهذا الاحتفال، إلا إظهار البهجة والمبالغة بالترحيب بموكب خاص وبادي الأهمية على وشك الوصول لأبواب العاصمة.. فخلال الأيام الماضية، أمر الملك بالشوارع أن تزيّن والمنازل أن تجمّل والمصابيح الزجاجية الملونة أن تعلق في أغلب الأحياء التي سيمر بها الموكب.. انتشرت شجيرات الورد الزاهية حالّة محل الشجيرات التي ذبلت لعدم العناية بها، وازدانت المدينة بشكل لم يُرَ مثله من قبل.. ولما تساءل أحد الشباب بتعجب لرؤية التغيير الذي حدث للمدينة خلال أيام قليلة "ما الذي جرى؟.. من النادر أن يبذر الملك أمواله في تزيين المدينة وبهرجتها بهذه الصورة مهما كانت المناسبة.."
أجابه آخر وهو يتأمل الأعلام الزاهية التي تم تعليقها في مواقع متميزة "ألم تعلم؟.. موكب ملكي قادم من مملكة بني فارس لزيارة الملك.. ويبدو أن أنباء تتردد عن رغبة ملك مملكة بني فارس، الملك عبّاد، مصاهرة ملكنا بتزويج ولي عهده من إحدى أميرات مملكتنا.. لهذا يظن الملك أن رمي هذه الأموال في احتفال فارغ لإبهار ضيوفه سيعود عليه بفائدة عظيمة.."
قال الأول بدهشة "وما الذي يجعل ملك تلك المملكة العظيمة يسعى لمصاهرة ملك مملكة صغيرة ومتواضعة كمملكة بني غياث؟.. ما الذي سيجنيه من هذا؟"
ربت الثاني على كتفه قائلاً بابتسامة "وما الذي يهمك من هذا؟.. المهم أننا سنحصل على طعام وشراب مجاني هذه الليلة.. وسنرقص حتى الفجر.. فكن مستعداً.."
غمغم الأول وهو يتبع رفيقه "لكن ما يجري لا يمكن ابتلاعه بسهولة من ملك بخيل كملكنا المبجل.."
وفي جانب من قصر الملك، حيث الخدم والخادمات يعملون بأقصى سرعتهم استعداداً لذلك الاحتفال ولاستقبال الضيف في أبهى صورة، اندفعت إحدى الخادمات عبر أرجاء الحديقة هاتفة "مولاتي.. مولاتي أين أنت؟"
وتوجهت لأحد الخدم حاملة تساؤلاتها بقلق شديد، لكن الخادم نفى معرفته بموقع من تبحث عنها.. ولما ابتعدت الخادمة صاح خلفها "ابحثي عنها عند الحظائر.."
حوّلت الخادمة وجهتها نحو الحظائر التي كانت تحتل الجهة الجنوبية من حدائق القصر الواسعة.. وقد استغرقها الأمر عدة دقائق لتعبر طرقات معقدة وسط حدائق مزينة بشكل هندسي جميل، تقودها إلى الحظائر والاسطبلات التي تحتوي على عدد لا يحصى من الحيوانات اللازمة لإعاشة المئات الذين يعيشون في القصر، بالإضافة لعدد كبير من الخيول الخاصة بالملك والأمراء والتي خصص بعضها لجرّ العربات الملكية..
وقرب أحد الإسطبلات، رأت ما جعلها تقترب منه هاتفة "مولاتي...؟!.."
رأت، عند كومة من القش، تلك الفتاة التي استلقت قربها وهي تضع كتاباً بالي الأطراف تغطي به وجهها من أشعة الشمس التي كانت على شيء من الحدة، بحيث لا يبدو من رأسها إلا تلك الخصلات الكثيفة المتماوجة، وتعقد ذراعيها على صدرها بسكون تام.. وقربها قبع كلبٌ ضخم بشعر طويل بني يكاد يغطي عينيه وهو يستلقي بصمت وسكون.. اقتربت الخادمة من الفتاة هاتفة "ما الذي تفعلينه هنا يا مولاتي؟"
فتحت الفتاة عينيها شيئاً ما وهي تزيح الكتاب عن وجهها وتقول بصوت ناعس "ما الذي ترينه؟.. أستمتع بغفوة تحت أشعة الشمس الدافئة.."
قالت الخادمة باستنكار وهي تغطي أنفها بكُمّ ثوبها "في هذا المكان؟.. كيف يمكنك احتمال هذه الرائحة من الحظائر القريبة؟"
لم تعرها الفتاة اهتماماً وهي تغمض عينيها وتستسلم للنوم من جديد، لكن الخادمة اقتربت منها وقالت بإلحاح "مولاتي.. عليك أن تعودي للقصر حالاً.. أمك الملكة الثانية تطلبك حالاً، وعلينا ألا نجعلها تنتظر.."
قامت بطرد الكلب الذي أصدر زمجرة منزعجة وهو يبتعد خطوات ويجثو في موقع آخر، بينما قالت الفتاة بضيق "ما الأمر هذه المرة؟.. لمَ عليكم أن تقاطعوا غفوتي بشكل يومي؟.."
قالت الخادمة بعصبية "مولاتي الملكة ستعاقبني إن لم أعد بك حالاً.. أرجوك يا مولاتي لنعُدْ للقصر.."
نهضت الفتاة متأففة والخادمة تنفض القش الذي علق بشعرها وهي تقول بحنق "كيف يمكنك أن تفعلي هذا بنفسك؟.. وفي يوم مهم كهذا اليوم.. لن يكفينا الوقت لتجهيزك بشكل ملائم قبل وصول الضيف.."
نظرت لها الفتاة بغير فهم متسائلة "أي ضيف؟"
قالت الخادمة بضيق "مبعوث مملكة بني فارس، والذي أرسله الملك عبّاد لطلب يدك من والدك الملك.. أنسيتِ الأمر بهذه السرعة؟"
هزت الفتاة كتفيها معلقة "لا.. لكني ظننت أن سمعي قد خانني عندما ذكر أبي الملك اسمي في ذلك اليوم.. لابد أنه لم يكن يعنيني بتاتاً"
عقدت الخادمة حاجبيها قائلة "كيف يمكن أن يخطئ الملك في أمر كهذا؟.. كفاك تجاهلاً للأمر ولنسرع.."
دفعتها الخادمة نحو القصر وهي تنفض ملابسها مضيفة "مولاتي الملكة الثانية شديدة العصبية الآن.. يعلم الله ما الذي ستفعله بنا لكل هذا التأخير.."
زفرت الفتاة وهي تسير خلف الخادمة ضامّة كتابها لصدرها.. ماذا لو تركوها تستمتع بغفوتها تحت أشعة الشمس لمدة أطول؟.. ألابد أن يعيدوها لذلك القصر البارد بهذه السرعة؟.. وكأنهم يستكثرون عليها متعة صغيرة كهذه..

*********************

"رنيم.. ألم أطلب منك مراراً الكف عن الذهاب للحظائر؟.. أنت أميرة ولك مكانتك.. ألا تخجلين من هذه الرائحة التي تخلفها الحيوانات على ثيابك الغالية؟.. هل يعقل أن يصدر هذا من فتاة على وشك الزواج من وريث مملكة بني فارس؟.."
وقفت الملكة الثانية على شيء من المبعدة وهي تغطي أنفها باشمئزاز من الرائحة التي غمرت الجناح الواسع، بينما قالت رنيم وهي تنزع ثوبها الطويل محتفظة بقميص داخلي يصل لركبتيها "لا يهمني اشمئزازكم من هذه الرائحة.. أنا أستمتع بوجودي هناك أكثر من وجودي في هذه القصور الخانقة.."
لوّحت الملكة بيديها لوصيفتها وهي تقول بضيق "كفى هذراً.. اذهبي للاستحمام بسرعة وارتدي الملابس التي أعددتها لك.. لم يبق إلا القليل على وصول الضيف، وبعد لقائه بالملك سيطلب مقابلتك بالتأكيد.."
دمدمت رنيم متذمرة وهي تسير مجبرة خلف وصيفتها الخاصة، بينما رفعت الملكة الكتاب الذي وضعته رنيم جانباً قائلة باشمئزاز "ولازلت تُتْلِفين عينيك بقراءة هذه الكتب البالية.. إن رائحتها العفنة ستلتصق بأصابع يديك التي من المفترض أن تضوع برائحة أفخم العطور.. عليك أن تكفّي عن هذه الهوايات الغريبة.."
ورمت الكتاب من نافذة الجناح العريضة بينما رنيم تهتف محاولة الإمساك به "لا تفعلي هذا.. إنه كتاب قيّم.."
قالت الملكة بصرامة وهي تواجه رنيم "الكتاب الذي سأعثر عليه بين يديك في المرة القادمة سأقوم بحرقه.. أتفهمينني؟.."
واستدارت مغادرة وهي تقول للخادمات بعصبية "أين رئيسة الخدم؟.. أحضرنها لي حالاً.."
التفتت رنيم لوصيفتها وهي تقول بلهجة منذرة "لو لم يعد لي الكتاب خلال لحظات فسأقتلك يا صفية.. أفهمتِ؟"
ابتسمت صفية وهي تدفع رنيم ناحية الحمام الفخم الملحق بجناحها قائلة "حاضر يا مولاتي.. أتظنين أنني لا أعرف ما عليّ فعله بعد السنوات التي قضيتها في خدمتك؟"
وبإشارة من يدها، انطلقت خادمة أخرى لاستعادة الكتاب وإخفائه عن عين الملكة المسلطة على رنيم.. أما الملكة الثانية، ففور مغادرتها الجناح المخصص لابنتها فوجئت بضرّتها، الملكة الأولى، تقترب منها وخلفها حاشيتها دون أن تحاول إخفاء ملامح الامتعاض من وجهها.. فاضطرت الملكة الثانية للانحناء للأولى التي تفوقها مكانة ومنزلة في القصر.. بينما تجاهلتها الأولى وهي تقول بصوت بارد "هل استعدّت ابنتك المتشردة لاستقبال الضيف؟.. لم يبقَ الكثير على وصوله.."
قالت الثانية بثبات "لا تقلقي أيتها الملكة.. ستكون ابنتي بأفضل هيئة عند قدوم الموكب الرسمي لمملكة بني فارس"
مطّت الملكة الأولى شفتيها معلقة "عليك تنبيه ابنتك ألا تتصرف كعادتها بكل خرق ولا مبالاة.. لا أريد أن تسبب الحرج للملك أمام ضيفه.."
قالت الثانية بحزم "رنيم تعرف كيف تتصرف كأفضل من أي أميرة في القصر عندما يستدعي الأمر.. فلا تشغلي بالك كثيراً.. لا بد أنها ستنال إعجاب الضيف بكل تأكيد.."
ثم ابتسمت بجانب فمها مضيفة "سأرحب بأي نصائح منك لتجهيزات عروسنا الجميلة.. فهي يجب أن تظهر بأبهى حلة أمام شعب وملك مملكة بني فارس العظيمة.. أتمنى للأميرة سهى أن تحظى بحظ مماثل لحظ رنيم في المستقبل.."
بدت الغيرة واضحة على ملامح الملكة الأولى، لكنها لوت فمها باستنكار وغادرت دون أن تتفوه بكلمة رافعة أنفها بتكبر.. بينما كتمت الثانية ضحكة كادت تفلت منها وهي تغادر بسرعة لتتابع ما يقوم به الخدم.. وقد اشتعل القصر بحركة الخدم التي لا تهمد وهم يتراكضون في أرجائه لإتمام الاستعدادات لاستقبال الموكب فائق الأهمية.. والذي لم يحلم الملك قصيّ باستقباله يوماً في مملكته المتواضعة..

*********************

عندما اقترب وصول الموكب لأبواب القصر الملكي، كانت الابتسامة الواسعة تشقّ جانبي وجه الملك قصيّ، وقد كاد يتوجه لمدخل القصر لاستقبال الموكب بنفسه لولا أن استوقفه الأمير غياث قائلاً "مهلاً يا مولاي.. لا يجب أن تحطّ من قدرك بهذه الصورة.. تذكر أن ضيفك ليس إلا وزير من وزراء الملك عبّاد، وليس الملك نفسه ولا ولي عهده.."
قال الملك قصيّ دون أن تزول ابتسامته "أدرك ذلك.. لكن لا تنسَ من يمثل هذا الوزير، ولا تنسَ الفائدة التي سنجنيها لو رحّبنا به بشكل يسرّه.."
قال غياث بحزم "ليس بهذه الصورة.. تكفي هذه الابتسامة التي لم نرَ مثلها منذ سنين عديدة.. دعني أنا أتولى الأمر.."
وهبط بخفة على السلالم بجسده الممشوق وثيابه الرسمية وسيفه معلقٌ في حزامه، متجهاً لبوابة القصر الرئيسية حيث سيصل الموكب الملكي خلال وقت قصير.. بينما وقف الملك قصيّ في موقعه متململاً بانتظار قدوم ضيفه المبجل.. وبعد وقت رآه طويلاً، لمح ذلك الموكب الذي شقّ حديقة قصره سالكة الممر الحجري الواسع قبل أن يقف قرب السلالم المؤدية لمدخل القصر.. ومن عربة تتوسط ذلك الموكب المكون من ثلاث عربات وبضع جنود على أحصنتهم، خرج رجل في أوسط عمره من العربة وهبط بهدوء ليتقدم من سلالم القصر.. كان الرجل عادياً لا يوحي بأي هيبة أو أهمية لو تجاوز الناظر عن ملابسه الفخمة.. فهو نحيل نوعاً ما ويغطي رأسه العاري من الشعر بقبعة ذات ريش أسود، وعلى كتفيه وضع معطفاً ثقيلاً ليتجاوز به برد العاصمة النسبي بسبب موقعها المرتفع وتوسطها عدداً من الجبال العالية..
لاحظ الملك استقبال غياث للضيف وترحيبه به قبل أن يصعد الرجلان السلالم ويدلفا من بوابة القصر الضخمة، عندها سارع الملك عائداً لقاعة عرشه تمهيداً لمقابلة الضيف..
وفي جانب آخر من القصر، قرب إحدى الشرفات المطلة على مدخله، كانت الملكة الثانية مع عدد من خادماتها تقف مراقبة ما يجري لدى وصول الموكب قائلة "هل استعدت رنيم؟.."
أجابتها إحدى الخادمات "إنها مستعدة بالفعل.. فلا تقلقي يا مولاتي.."
فقالت الملكة الثانية بشيء من الحنق "لماذا كان على غياث أن يستقبل الضيف؟.. لا نعلم ما الذي سيفعله ليفسد هذه الزيجة قبل أن تنجح.. فلا بد أن أمه الملكة الأولى قد دفعته لاستقبال الضيف بنفسه لإقناعه بالعدول عن طلب يد رنيم.."
علقت الخادمة بشيء من التردد "لا أظن ذلك صحيحاً يا مولاتي.. مولاي غياث يحب الأميرة رنيم كثيراً، ويساندها دوماً.. لا يمكن أن يسعى لفعل شيء كهذا بتاتاً.."
قالت الملكة الثانية بحدة "اصمتي أنت.. ما أدراك ما ينتويه هذا الخبيث؟.. يكفي أنه ابن تلك الحرباء.."
نظرت الخادمة حولها بشيء من القلق خشية أن تتنصت إحدى الخادمات لحديثهما وتنقله مع الكثير من البهارات لأذني الملكة الأولى، ثم قالت الخادمة "يحسن بنا أن ننصرف لرؤية ما فعلته مولاتي رنيم.. الوقت يداهمنا بالفعل يا مولاتي.."
زفرت الملكة الثانية بضيق وغادرت موقعها مدمدمة "يحسن بتلك الفتاة أن تكون متأهبة لما سيحدث.. وإلا سيكون عقابها شديداً.."
في الآن ذاته، كانت الملكة الأولى تراقب ما يجري بدورها من خلف إحدى نوافذ القصر قائلة بجفاء "أما كان على الملك أن يحسن اختيار العروس؟.. لمَ اختار فتاة سوقية كهذه لزوج كهذا؟.. هذا سوء تقدير منه.."
جاءها صوت ابنتها البكر صافيناز، وهي الابنة الكبرى للملك، قائلة من موقع قريب "طبعاً لن يعجبك اختيار رنيم، لأنها سترفع شأن الملكة الثانية.. عليك قول ذلك صراحة يا أمي.."
نظرت لها الملكة الأولى قائلة بأنَفَة "مهما ظنت تلك المرأة أنها عَلَتْ شأناً، فهي لن تعلو عليّ أبداً.. أنا الزوجة الأولى، وابني هو وريث عرش هذه المملكة.. عليها أن تعِيَ موقعها جيداً في هذا القصر.."
ابتسمت صافيناز معلقة "عليك أن تفهمي هذا أنتِ أيضاً يا أماه.. لا داعي للقلق والضيق من هذا الزواج.. دعي لها هذه السعادة الصغيرة، فأنت لك مقامك الذي لن يتغيّر أبداً لدى الملك.."
عادت الملكة الأولى تراقب ما يجري ملاحظة وصول الموكب وتقدم غياث من الضيف لاستقباله، وقالت بضيق "هذان الاثنان لا يستمعان لكلمة مما أقولها.. لا الملك ولا غياث يعيران حديثي أي اهتمام.."
تساءلت صافيناز بفضول "ما الذي دار بينك وبين غياث وتجاهلك فيه؟.."
أشاحت الملكة الأولى بوجهها قائلة بحدة "وما شأنك أنت؟.. اذهبي لجناح تلك الفتاة وأنصتي لما يقال.. أريد أن أعرف ما سيجري بالتفصيل.."
قالت صافيناز وهي تبتسم "بل سأذهب لمعاونة أختي الصغيرة.. فهي ستحتاجني في يوم كهذا.. أنا لا أحب التنصّت على الآخرين، ويمكن لأي خادمة من خدم القصر أن تقوم بهذه المهمة بكفاءة تامة.."
واستدارت مغادرة بينما الملكة الأولى تدمدم بشيء من الحنق "أنت أيضاً؟.. لمَ يعاملني الجميع وكأنني مجنونة؟.. هذا لا يطاق.."
وراقبت الضيف الذي غاب في القصر برفقة غياث، قبل أن تكرر من جديد "هذا لا يطاق بتاتاً.."

*********************

وقفت رنيم بشيء من التوتر وهي تلملم أطراف ثوبها وتتأكد من هيئتها مواجهة الأبواب المزخرفة والمذهبة التي تفصلها عن قاعة عرش الملك.. عدّلت خصلات شعرها البني الجميل وشدت جسدها لتمنحه طولاً بالإضافة لما اكتسبه من حذائها ذي الكعب العالي.. ولم تتوقف عن حركتها الملولة والمتوترة حتى سمعت صرير الأبواب وهي تفتح ونداء باسمها يتردد عبر القاعة..
وعندما فتحت أبواب تلك القاعة، تعلق بصر الملك وبقربه ضيفه وسفير مملكة بني فارس بتلك الفتاة التي سارت بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة تخفي تحتها توتراً وارتباكاً شديدين.. بينما وقف ولي العهد الأمير غياث قرب كرسي أبيه الملك قصيّ وقد ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه..
كانت رنيم تكره تلك المظاهر والبهرجة التي لا تلائم روحها وتصيبها بالاختناق، لكنها وبتوصيات مشددة من أمها بذلت جهدها بالفعل لتتحكم بانفعالاتها وبتوترها وأن ترسم ابتسامة جميلة على شفتيها على أمل أن تنال إعجاب الوزير الذي سيرفع تقريراً لخطيبها المستقبلي بكل ما سيراه..
بعد وقت بدا لها طويلاً، وهي التي لم تعتد مثل هذا السير الهادئ، وقفت الفتاة بظهر مستقيم وأمسكت جانب ثوبها بيد وهي تحني رأسها بخفة قائلة "مولاي.. يسعدني المثول أمام سموّك وسموّ الوزير الأعظم لمملكة بني فارس العظيمة.. هذا شرف لي لم أطمح به يوماً.."
سمعت الرجل يقول "لست الوزير الأعظم.. إنما أنا أحد الوزراء التابعين لمجلس الوزراء في المملكة.."
غاص قلب رنيم في صدرها لهذا الخطأ الذي قد يكلفها الكثير وهي تلاحظ الضحكة التي كبتها غياث بصعوبة.. لمَ لمْ تنتبه لتوصيات أمها المطوّلة وسرحت في عوالم أخرى في وقت حرج كهذا؟.. تداركت الأمر بما تملكه من لباقة قائلة "أنا آسفة.. عندما لمحتك يا سيدي عند دخولي القاعة، تيقنت من رؤيتي للأبّهة التي تبدو عليك أنك لا يمكن أن تكون أقل من الوزير الأعظم.."
وأحنت رأسها من جديد مضيفة "اعذرني لهذا الخطأ يا مولاي.. رغم أنني لازلت مصرة أن منصب الوزير الأعظم يليق بك أكثر من أي شخص آخر.."
لمحت بطرف عينها ابتسامة متسعة على شفتي الوزير وهو يلتفت للملك قائلاً "لديك ابنة جميلة وذات أخلاق عالية.. لا أظن ولي العهد يطمح بالحصول على أفضل منها.."
غمرت الراحة رنيم لرد فعل الوزير على قولها بينما علق الملك بفخر "طبعاً.. يكفي أنها ابنتي.."
جلست رنيم على أحد الكراسي المذهبة المصطفة في وسط القاعة على جانبي الممشى بالسجادة الحمراء ذات النقوش الكبيرة على شكل تعريشات ورود وعصافير زاهية الألوان.. بينما أضاف الوزير بابتسامة "ولي العهد قد خطب عدداً من فتيات العائلات المالكة في أرجاء القارة، لكن أياً منهن لم ترُق له.. لكن أظن أنه سيعثر على مبتغاه عندك يا مولاي بالتأكيد.."
لم يبدُ الاهتمام على وجه رنيم لهذا القول.. هي لا تهتم بالمناصب وليس الزواج من طموحاتها الحالية.. لكنها مضطرة لمجاراة البقية مع الوعيد الذي هددتها به أمها الملكة.. يجب أن تنجح هذه المقابلة، وتنال إعجاب الوزير ومن ثم ولي العهد.. ويجب أن يتم هذا الزواج بأي صورة كانت.. لكن ماذا عنها هي؟.. في الواقع ليس لرنيم أي طموح ثوري، ولا تملك القدرة على تغيير واقعها أو اختيار مستقبلها بأي شكل كان.. كل ما تملكه هو إحناء رأسها وترك العاصفة تمر، واستراق بعض المتعة من انغماسها بقراءة الكتب ورعاية الحيوانات التي تحبها بشكل يفوق أفراد عائلتها الكبيرة..
ورغم وصايا أمها، لكن رنيم مقتنعة أنها لن تنال إعجاب ولي عهد مملكة عظيمة كمملكة بني فارس التي تتقاتل بقية الممالك للحصول على حظوة لدى ملكها.. هي لا تملك الجمال الذي يجذب الأنظار، خاصة بالنسبة لشخص يرى أنواعاً وأشكالاً من الفتيات الساعيات لنيل إعجابه والحصول بالتالي على مكانة في قصره.. فقامتها التي لا تملك أي طول يتجاوز الطول العادي، وجسدها المتوسط بغير أن يبدو لافتاً للنظر بدون الملابس الزاهية والمشدّ الذي يمنحها خصراً لا تملكه، وبشرتها التي تحمل شيئاً من السمرة بسبب طول مكثها في الشمس، كلها تجعلها تبدو عادية المظهر ولا تحمل جمالاً مبهراً كالذي قد يرجوه ولي عهد مملكة بني فارس.. إن استثنينا شعرها الطويل البني والذي يتموج تموجات جميلة.. وعيناها الخضراوان اللامعتان بنباهة ملحوظة.. هي فتاة نبيهة وتملك صفات لا تتحلى بها فتيات أخريات، لكن تلك الصفات لا تفيدها كزوجة لولي العهد والملك المستقبلي.. كل ما هو مطلوب ممن يختارها الأمير هو جمال فائق وابتسامة جذابة وخصوبة عالية لتنجب ولي عهده المستقبلي بأسرع ما يمكن.. وبهذا تضمن لنفسها مكانة في تلك المملكة، وتضمن لزوجها أن يستمر نسله في وراثة تلك المملكة التي توارثتها عائلته لخمسة عشر جيلاً.. هذه هي الحقيقة المؤسية لمنصب زوجة الملك والذي تتنافس عليه الأميرات أشد التنافس.. ولهذا السبب بالذات فإن رنيم تودّ التنازل عن هذا الشرف بكل أريحية، لكن رأيها مرفوض جملة وتفصيلاً في قصر أبيها..
بعد أن أنهى الرجلان حديثهما القصير، ورنيم صامتة في خيالاتها الخاصة وهي تراقب السماء من النوافذ العريضة، فإنها انتبهت عندما لوّح لها الملك بيده علامة الانصراف.. فلم تعلق رنيم وهي تقف محنية رأسها بخفة، ثم استدارت رافعة رأسها وسارت بهدوء حتى غادرت القاعة واختفت عن ناظري الملك وضيفه.. وبعد أن أغلقت الأبواب خلفها، زفرت رنيم بقوة وهي تحني كتفيها متخلية عن تلك الاستقامة وهي تغمغم "تباً.. هذا عسير حقاً.."
وسارت بخطوات واسعة وسريعة عائدة لجناحها للتخلص من هذه الأثقال التي تقيدها، وسرعان ما لحقها شقيقها الأكبر وولي العهد غياث وقال "أتعرفين أنني شعرت بالذهول عندما رأيت تلك المسرحية في قاعة الملك؟.. عليك أن تقدري الصدمة التي شعرت بها عندما رأيت تلك الأميرة التي استبدلت القرد الصغير الذي هو شقيقتي.."
قالت له رنيم بابتسامة جانبية "اهزأ كما يحلو لك.. لو سمعت جانباً من الوعيد الذي صبّته أمي على رأسي فستدرك مقدار الجهد الذي كان عليّ بذله لأبدو في تلك الصورة.."
غمغم غياث وهو يتبعها بخصوات واسعة "أنا واثق أنها سعيدة بهذه الفرصة التي تمكنها من التفوق على الملكة الأولى بشيء ما على الأقل.."
همست رنيم "وما ذنبي أنا؟"
لم يعلق غياث بينما زفرت رنيم وهي تتركه وتسير بخطوات سريعة وقوية عبر ممرات القصر.. ولما دلفت جناحها، وجدت جمعاً من الفتيات هنّ شقيقاتها الخمس وثلاث من بنات عمّها واللواتي هتفن فور رؤيتها "ما الذي جرى؟.. هل نلتِ إعجاب الضيف؟"
علّقت صافيناز "أتمنى ألا تكوني قد تصرفتِ على طبيعتك وأحرجتِ الملك أمام ضيفه.."
غمغمت رنيم بشيء من الضيق "طبعاً لم أفعل.. لست حمقاء لأفعل فأجد أسنان أمي تطبق على رقبتي بغلّ.."
ضحكت الفتيات من قولها بينما صاحت شقيقتها الصغرى سهى التي تفوقها جمالاً ورقة وكل صفة أخرى تتمنى رنيم لو كانت تتحلى بها "يا لحظّك الباهر.. ولي عهد مملكة بني فارس؟.. من أين لنا بزوج مثله بعد أن اقتنصتِه أنت؟"
مطت رنيم شفتيها قائلة "بودّي التنازل عنه لك لو كان لي الخيار.. أنت تعلمين أن هذا الزواج هو آخر ما قد أتمناه في الحياة.."
قالت ابنة عمها الثانية بعتاب "هل تحاولين إثارة غيرتنا بهذا القول؟.. أنت تعلمين أن نصفنا يحلم بزواج كهذا.."
قالت رنيم وهي تخلع زينة شعرها "لكني لا أكذب.. أنا حقاً لا أتمنى هذا الزواج.."
ونظرت من النافذة للمدينة القريبة مضيفة بتنهيدة "لو كان لي الخيار في الزواج من ملك أو من غجري من الغجر الرحّالة، لاخترت الأخير دون تردد.. على الأقل، سأرى في ترحالي معه عوالم لم أرَها إلا من نافذة جناحي الضيقة.."
قالت صافيناز بحزم "أتظنين أن أباك سيزوجك من غجري أو حتى من شخص يقل عنك مكانة بهذه السهولة؟.. سيفضّل دفنك في هذا القصر عن منحك الفرصة لأن تضعي رأسه في التراب.."
تنهدت رنيم معلقة "لو كان سيفعل، فأفضل أن يحبسني في أعلى برج في القصر حيث يمكنني رؤية السماء.. أو أن يغلق عليّ أبواب مكتبة القصر الضخمة.. بعدها لا أطلب شيئاً من دنياي هذه.."
ضحكت سهى معلقة "يا لك من جاحدة.. الدنيا فيها من المسرّات ما يفوق بضع كتب ستؤدي بك للجنون بكل جدارة.. لماذا تقسين على نفسك بهذه الطريقة؟"
قالت رنيم وهي تخلع ثوبها بالمشدّ الضاغط على خصرها "لستُ أقسى ممن أجبرنا على ارتداء هذه الملابس المستحيلة لنمتع أنظارهم.."
تضاحكت الفتيات على قولها الذي لم يكن غريباً عليهن بينما سارعت صافيناز لمعاونتها.. كن يعرفن رنيم حق المعرفة، ويعرفن أنها تكره تلك المظاهر التي تتطلبها حياتها كأميرة.. كانوا يعلمون أنها تتوق للخروج من هذه المملكة ومن قيود القصر التي تجد أنها لا تطاق.. وتتوق لرؤية عالم آخر أكثر بهجة وانطلاقاً من العالم الذي تعيش فيه.. وبما أن تحقيق ذلك مستحيل، فقد استعاضت عن ذلك بالانغماس في قراءة أصناف وأشكال متنوعة من الكتب التي تحمل ذلك العالم إليها، ولا تكون بحاجة إلا لبعض الخيال لتعيش في تلك العوالم بالفعل..

*********************

في تلك الليلة، قالت الملكة الأولى لزوجها الملك وهي تتناول العشاء معه "ما الداعي لاستدعاء رنيم لمقابلة الوزير؟.. ملك مملكة بني فارس لم يحدّد ابنة معينة من بناتك للزواج من ابنه ووريث عرشه.. أما كان المفترض أن تقدم له أجمل بناتك؟.."
قال الملك "هل منبع اعتراضك أن رنيم ليست ابنتك؟.."
قالت الملكة بسرعة "لا.. لكن رنيم معروفة بعدم تقيدها بالقوانين وبكونها لا تتحلى بأي ميزة بين الأميرات.. إن ابنتي سهى أجمل وأكثر لطفاً وحصافة منها.. ماذا لو استاء الملك أو ابنه من تصرفات رنيم؟.. سنكون بذلك خسرنا زوجاً لابنتك، وفوق كل ذلك خسرنا حليفاً قوياً كان من الممكن أن يعين مملكتنا بشتى الطرق.."
قال الملك "الملك عبّاد مصرّ على مصاهرتنا، لذلك لم يحدد أي أميرة يرغب بتزويجها ابنه.. رنيم تكاد تبلغ العشرين من عمرها ولم يتقدم للزواج منها أي من أمراء وأعيان الممالك الأخرى، وبذلك هي تخسر فرصتها للزواج بسرعة كبيرة.. زواج وريث مملكة بني فارس هي فرصتها الأخيرة، ولو رفضها ذلك الأمير، فيعني ذلك أن أي شخص آخر لن يعدّها مؤهلة للزواج بتاتاً، وستبقى في قصري تأكل من طعامي لآخر يوم من حياتها.."
ونظر للملكة بحدة قائلاً "وهذا ما لن يحدث بتاتاً.. لذلك، من مصلحتها أن تنجح هذه المرة.."
دمدمت الملكة متذمرة "كيف تتوقع من تلك الفتاة أن تتحلى بالتهذيب الكافي لتنال إعجاب الأمير الذي ولاشك رأى أصنافاً عديدة من الأميرات؟!"
قال الملك بحزم "ستفعل ذلك رغم أنفها.."
صمتت الملكة للحظات وهي تعبث بطعامها مفكرة، ثم قالت بابتسامة "أنت تعلم أن كل ولاة مملكتك يتمنون مصاهرتك.. ما رأيك بأن نزوج رنيم أحدهم بينما تتزوج سهى ولي عهد بني فارس؟.. لا نريد أن نخسر حليفاً قوياً بسبب تصرفات ابنتك غير المسؤولة.."
قال الملك بحدة "أتريدين أن أزوج بنتاً من بناتي لوالٍ يعمل عندي؟.. هل جننتِ؟"
قالت الملكة بارتباك "لست أعني ذلك، لكني أفكر بمصلحة مملكتنا الضعيفة أصلاً والتي بحاجة لحليف وسَنَدٍ قوي.. لذلك....."
ضرب الملك الطاولة بيده قائلاً "رنيم ستتزوج ولي عهد بني فارس.. هذا قول قاطع.. أما سهى، فلا تزال في الرابعة عشر من عمرها.. لا تزال تملك فرصة كبيرة لنيل زوج كفء لها.. فلا داعي لإطالة هذا الحديث.."
مسح فمه بمنشفة قريبة ورماها جانباً وهو يغادر قاعة الطعام.. فزفرت الملكة بحنق ودمدمت "لماذا اخترتَ تلك الفتاة بالذات؟.. إنها لا تستحقه.. ولا تستحق ما ستحصل عليه بهذا الزواج.."
ونهضت بدورها عازفة عن إتمام طعامها وفكرة واحدة تدور في رأسها.. لابد من علاج سريع لهذه الزيجة غير المتكافئة.. علاجٌ لن يثير غضب زوجها الملك ولن يغيّر رأي الملك عبّاد في مصاهرتهم.. فأين هذا الحل المثالي؟..

*********************

مرت عدّة أيام على مبعوث الملك عبّاد في قصر الملك قصيّ، لم يلبث بعدها أن رحل عائداً لمملكة بني فارس محمّلاً بهدايا ووصايا من الملك قصيّ فيما يخص هذه الزيجة.. ومع رحيله، فإن رنيم تنفسّت الصعداء بشيء من الراحة ظناً منها أنها ستُترك وشأنها في الأيام التالية.. كل همها كان أن تعود لتقضي وقتها فيما تحب، وتنسى هذا الزواج الذي لم ترْتح له لسبب أو لآخر..
وعندما استدعاها الملك بعد أقل من إسبوعين، فإنها لم تملك نفسها من التأفف بشيء من الضيق.. لقد تردد اسمها على شفاه جميع من في القصر في الشهر الماضي ما يتجاوز سني عمرها كله.. فما الذي جرى؟.. هل يستحق هذا الزواج أن يعكر صفو حياتها بهذا الشكل دون أن تتمكن من الاعتراض؟.. نظرت لوصيفتها صفية التي وقفت قريباً وقالت "أأنتِ واثقة أن الملك قد طلبني أنا؟.. ربما لم يكن يعني أنه يريد مثولي أمامه.."
قالت صفية بإلحاح "بل هو يطلبك حالاً.. لم أنت متكاسلة كثيراً؟.. وكأن من ستتزوج هي فتاة أخرى لا تربطك بها أي صلة.."
دمدمت رنيم وهي تدفن بصرها في الكتاب بين يديها "لم أكد أُنهِ أي كتاب منذ عدة أيام لكثرة المقاطعات التي تلاحقني من كل جهة.."
سحبت صفية الكتاب من يدي رنيم بهدوء قائلة "ليست هذه الكتب هي المهمة الآن.. اذهبي للقاء الملك لكيلا تصبّ الملكة الثانية غضبها عليّ لهذا التأخير.."
لم تتمكن رنيم من الاعتراض وهي تزفر بحدة.. ثم نهضت وتأكدت من هندامها لئلا تواجه تعليقات حانقة من أمها فيما يخص مظهرها، قبل أن تغادر نحو قاعة العرش حيث يقضي الملك أغلب أوقاته في النهار.. وخلال وقت قصير، كانت رنيم تحني رأسها للملك بهدوء قائلة "هل طلبتني يا مولاي؟"
قال الملك ملوحاً بيده "ارفعي رأسك.. لقد أرسل إليّ الملك عبّاد برسالة قبل قليل يؤكد فيه رغبته بمصاهرتنا.."
سمعت رنيم شهقة صدرت من أمها التي وقفت جانباً وملامحها تنطق بسعادة تامة، بينما لم تبدُ أي سعادة مماثلة على ملامح رنيم التي قالت "هذا خبر جيد، مادام سيسعدك يا مولاي.."
لم يعلق الملك على ردها البارد وهو يضيف "أريدك أن تستعدي للرحيل نحو مملكة بني فارس خلال أقرب وقت ممكن.. سيصل موكب ملكي مرسل من الملك عبّاد ليصطحبك لعاصمة المملكة (الزهراء).."
رفعت رنيم رأسها بدهشة وتعجب، ثم قالت "لماذا؟.. ما الذي يستدعي رحيلي لمملكة بني فارس في هذا الوقت بالذات؟"
أجاب الملك بحدة "كي تقابلي زوجك الأمير زياد، ولكي تستكملي مراسم الخطبة والزواج في (الزهراء).."
نظرت رنيم للملك بتعجب قائلة "كيف أرحل للزهراء قبل زواجي من الأمير زياد بالفعل؟.."
أجاب الملك "الزواج لن يتم قبل ذهابك لعاصمة المملكة (الزهراء) ومقابلتك لولي العهد.. فهو قد أصرّ على رؤيتك قبل إتمام هذا الأمر، كما أصرّ الملك على أن يتم الزواج في عاصمة مملكته.. يريد أن يحتفل شعب مملكته بهذا الزواج مباشرة خاصة أن زياد هو ابنه الوحيد.."
تزايد تعجب رنيم وهي ترفع حاجبيها قائلة باستغراب "أفهم موضوع مقابلة الأمير قبل إتمام الزواج، لكن أما كان المفترض به أن يأتي لرؤيتي؟.. ألا يتم الزواج عادة في قصر الأميرة؟"
قال الملك مقطباً "أأنت حمقاء؟.. كيف نطلب من ملك مملكة عظيمة كعبّاد أن يتنزّل ويأتي بنفسه لمملكتنا؟.. ماذا لو تعرض لخطر أثناء تلك الرحلة؟.."
تعاظم استنكار رنيم والملك يضيف بصرامة "ستذهبين أنت إليه، وسيتم الزفاف بعد شهر من وصولك للزهراء وحصولنا على موافقة الأمير زياد.. وعندها، سنتجه نحن بدورنا للزهراء لحضور ذلك الزفاف.."
قالت رنيم باحتجاج "لماذا تفعل هذا لي أنا يا أبي؟.. أليس في هذا التصرف إهانة لي ولك؟.."
ثم أشاحت بوجهها قائلة "لو كان الأمير يريد الزواج بإحدى بنات ملك آخر، عليه أن يسعى لذلك.."
ضرب الملك مقبض كرسيه بقوة وهو يهدر "كفّي عن هذه الترهات.. سترحلين في الموعد تماماً دون أن أكرر قولي مرة أخرى.."
زمّت رنيم شفتيها بحنق وصدمة، بينما سارعت الملكة الثانية تقول بانفعال "لا تقلق يا مولاي.. سأتأكد أنها ستكون على أتم الاستعداد للرحيل في الوقت المحدد.. فطِبْ نفساً وتهيأ لمقابلة ضيوفك الذين سيتقاطرون لتهنئتك من جميع أرجاء المملكة.."
وأسرعت نحو رنيم فدفعتها أمامها وهي تنحني للملك مراراً.. وخارج قاعة العرش، قالت الملكة الثانية بعصبية "ألا بد من كل هذا الجدال أمام الملك؟.."
قالت رنيم بضيق "ألا يحق لي الاعتراض؟.."
قالت الملكة الثانية بحدة "لا.. ماذا لو غيّر الملك رأيه بخصوص زواجك هذا؟.. لا نريد أن يقوم باختيار تلك الفتاة سهى ونبذك أنت بعد أن وصلنا لهذه المرحلة.."
دمدمت رنيم "أنت قلقة من تغلّب الملكة الأولى عليك في هذا الأمر.. أليس كذلك؟"
أجابتها بحنق "أجل.. لذلك افعلي ما يطلب منك دون تذمر.. وافعليه بطريقة صحيحة لمرة واحدة في حياتك على الأقل.."
وغادرت بخطوات سريعة تاركة رنيم تقف والضيق يعتلي ملامحها، فلم تجد وسيلة للتخلص من هذا الضيق إلا بالانزواء في الجزء المفضل لديها من القصر.. لطالما اعتبرت قصر أبيها كصحراء قاحلة جافة بجفاف من يعيشون في القصر، والواحة الوحيدة في قلب تلك الصحراء الخانقة هي المكتبة الضخمة التي تحتل جانباً كاملاً من ذلك القصر العتيق الذي يعود عمره لمائتي سنة على الأقل، والذي بناه قصيّ الأول بن غياث فور جلوسه على العرش.. والمكتبة التي فيه غنية بما لا يوصف ولا يعدّ من الكتب التي حرص قصيّ الأول على جمعها نسبة لحبه الشديد للقراءة وللعلم ورغبته بأن يصنع مكتبة يصل صيتها لجميع الآفاق.. وهذا هو الشيء الذي لطالما شكرت رنيم جدها الأكبر عليه في كل مرة انزوت في جوانبها مستندة على بعض الأرفف التي تحوي أشكالاً وأنواعاً مختلفة من الكتب والمخطوطات القديمة التي علاها الغبار..
في ذلك اليوم، اختارت رنيم كتاباً يتحدث عن البحر الهائج الذي يقع شمال شرق القارة العظمى ويزخر بعشرات الأنواع من الكائنات الغريبة والمخلوقات التي لم يعرف كنهها البشر.. بالإضافة لجزر يقال إن سكانها من البدائيين يقتاتون على أكباد الغرباء ويعشقونها دوناً عن أنواع الطعام المتاحة لهم.. ورغم أنها بدأت قراءة الكتاب بحماس كبير وشغف بالغ، إلا أنها رغماً عنها تركته في حضنها وسرحت وهي تتطلع للسقف المزخرف الذي يعلو رأسها وتفكر في حياتها القادمة.. أهي مقدمة على الزواج حقاً؟.. وهل ستتزوج ولي عهد مملكة عظمى لتغادر قصر أبيها فتقضي ما بقي من حياتها حبيسة قصر زوجها؟.. ما الذي سيقدمه لها الزواج حقاً؟.. هي متأكدة أن زواج مصلحة مثل هذا سيكون جافاً خالياً من أي مشاعر قد تنشأ بين أي زوجين.. لذلك هي واثقة أن حياتها ستخلو من الحب.. لكن، مع ذلك، قد تتجاوز عن الأمر لو كانت طليقة وتملك الحرية لتغادر القصر متى شاءت.. لكن حياة زوجة ولي العهد أكثر تزمتاً من حياة أميرة مملكة عادية.. ستتكاثر القيود حول عنقها حتى لا تغدو قادرة على التنفس وستموت مختنقة من هذا العالم الكئيب الذي تعيش فيه.. فأي حياة ترجوها بعد الزواج؟..
انتبهت من شرودها وأفكارها التعيسة عندما دخل وجه أخيها غياث نطاق بصرها.. فالتفتت إليه وهي تسمعه يقول "كنت أدرك أنني سأجدك هنا ولابد.. لديّ خبر جديد قد يسعدك لو كنتِ فتاة عادية كبقية الفتيات.."
غمغمت رنيم وهي تعتدل في جلوسها "هذا يعني أنه خبر تعيس بلا شك.."
جلس غياث بعد أن جذب كرسياً خشبياً قريباً قائلاً "الملك أبلغني برسالة وصلته منذ قليل.. الموكب الملكي من مملكة بني فارس سيصل خلال عشرة أيام.. عليك أن تعدّي العدة لترحلي بعد وصوله بيوم أو يومين.."
نظرت له رنيم بصدمة واستنكار.. ثم صاحت "عشرة أيام؟.. بهذه السرعة؟.."
هز غياث رأسه موافقاً، فقالت رنيم بحنق "كيف ذلك؟.. هذا مبكر جداً، أبكر مما توقعته بكثير.."
تساءل غياث "وما سبب اعتراضك على هذا؟.."
قالت بحنق وبالعذر الوحيد الذي طرأ لها "عشرة أيام لا تكفي لتجهيز كل ما أحتاجه كعروس ولي العهد.. هذا الوقت لا يكفي لخياطة ثوب واحد.. فما الذي يمكنني فعله؟.."
قال غياث "رسالة الملك تقول إن عليك الرحيل في الموعد المحدد، وهم سيتكفلون بكل الأمور الثانوية في (الزهراء).. عليك أن تكوني سعيدة لكل هذه التسهيلات التي ترافق زواجك.."
بدت رنيم أكثر غمّاً لهذا القول، فمال غياث تجاهها مضيفاً بابتسامة "هل منبع ضيقك أنك لم تستعدي للزفاف حقاً؟"
زفرت دون أن تعلق وهي تقبض على الكتاب بين يديها بشدة، فقال غياث "أنت قلقة من هذا الزواج بأكمله.. لكن لا تقلقي.. لن يكون الأمر أسوأ مما أنتِ عليه هنا.."
قطبت رنيم لقوله مغمغمة "تباً.. هذا لا يسعدني بحال.."
علق غياث "عليك أن تكفي عن هذه الكلمات التي لا تليق بأميرة.. لمَ أنت مختلفة عن الأخريات؟.."
زفرت رنيم وهي تسند رأسها للأرفف خلفها قائلة "لا أدري.. ربما من الخير لو ولدت صبياً.. عندها ما كنت سأحتاج لهذا التصنع والادعاء والقلق لهوية زوج المستقبل.."
نظر لها غياث بدهشة، بينما استطردت رنيم بشيء من الحماس "ربما كان الملك سيطلق علي اسماً رجولياً جميلاً.. مثل ثابت أو غسّان.. عندها سأكون بارعة باستخدام السيف وركوب الخيل.. ولن أضطر لقضاء وقتي بين جدران هذا القصر.. وعندها......."
نهض غياث معلقاً "استيقظي من أحلامك يا فتاة، وابدئي استعدادات رحيلك.. لا تنسي أن الملك سيقيم احتفالاً لك قبل بدء الرحلة بيوم، وبعدها ستنطلقين لحياتك الجديدة.."
وغادر تاركاً رنيم تدمدم بملل "ليت الأحلام تتحقق بمجرد تمنيها.."

*********************

عند وصول موكب مملكة بني فارس الملكي الفخم، فإن المدينة بأكملها خرجت لاستقباله والتفرج عليه بشغف تام.. المدينة بأكملها باستثناء رنيم التي انشغلت عن ذلك برعاية فرس مريضة تحبها بشكل كبير في حظائر القصر.. قضت وقتاً طويلاً في رعايتها والاهتمام بها رغم أن الطبيب البيطري قد طمأنها أن الفرس ستكون بخير خلال أيام قليلة.. لكن رنيم رفضت مغادرة الحظيرة وقضت وقتها قرب الفرس برفقة صبي من الخدم يعتني بالخيول الخاصة بالملك.. ولما سمعا صوت الأبواق التي علَتْ من جانب القصر، قال الصبي "مولاتي، أما كان من المفترض أن تذهبي لرؤية موكب مملكة بني فارس؟.."
قالت رنيم بعدم اهتمام "فرسي الجميلة أهم عندي من موكب ملكي سخيف.."
ومسحت على عنق الفرس قائلة بلطف ممتزج بالقلق "ما الذي أصابك يا عزيزتي؟.. كنتِ بأفضل حال بالأمس.."
قال الصبي بشيء من اللهفة "إذن.. أيمكنني أن أذهب أنا لرؤية ذلك الموكب؟.. لم يسبق لي أن شهدت موكباً مثله من قبل.."
أجابت رنيم "اذهب لكن عُدْ سريعاً.. سيغضب منك رئيسك بشدة لو اكتشف أنك تركت الموقع للفرجة على الموكب.."
صاح الصبي وهو يستدير راكضاً "شكراً يا مولاتي.."
ابتسمت رنيم بتعجب لسعادة الصبي.. ما الذي سيجنيه من مراقبة موكب ملكي تافه يسعى لإبهار الآخرين بشكله المبهرج؟..
أما الصبي، فقد سار متجاوزاً جوانب حدائق القصر باتجاه مدخله حيث الأبواب المزخرفة التي تفصله عن باقي المدينة.. وهناك، وقف قرب بعض الخدم الذي تجمعوا لمراقبة الموكب وشيك القدوم من جانب يسمح لهم بعدم الظهور أمامه.. وبعد وقت قصير، وصوت الأبواق يعلو بشكل متناغم معلناً اقتراب الموكب الذي طال انتظاره، فإن البوابة الحديدية المزخرفة لسور القصر فتحت بصوتٍ عالٍ ليدخل الموكب عبره بعد رحلة طويلة منذ غادر أسوار (الزهراء).. كان الموكب مكوناً من عدد من المركبات الفخمة يقود كل منها سائس بزي موحد فخم، وتجرها أحصنة أصيلة بديعة المنظر.. ووسط هذه المركبات سارت مركبة أكبر وأفخم عن البقية، بشعار مملكة بني فارس الذي يمثل أسداً فاغراً فمه وأنيابه بارزة وعلى رأسه تاج ملكي، والزخرفات الجميلة طالت جميع أرجائها حتى دواليبها الذهبية اللامعة.. ومن حول العربات، سار عدد من الخيّالة بأحصنتهم وزيّ الجنود الموحد وسيوفهم التي تدلّت من أحزمتهم..
راقب الصبي الموكب بشيء من الانبهار وهو يسمع إحدى الخادمات تهمس لرفيقتها "أترين هذه العربات؟.. إنها تحمل مهر الأميرة.. ترى كم قطعة ذهبية وكم من الجواهر تحوي في قلبها؟"
علقت الأخرى بشيء من الحسرة "بل كم من الأثواب والحرائر تحوي صناديقها؟.. يا لبؤسنا.. عندما تتزوج الفتاة منا فإن جلّ ما تحلم به هو خاتم ذهبي وبعض الملابس الرخيصة ومنزلٍ متداعٍ.."
قالت الأولى "طبعاً.. فمن نحن جوار الأميرة ابنة الملك قصيّ؟.. حياتها منذ مولدها وحتى مماتها تختلف عنا تمام الاختلاف.. يا لحظها الباهر ويا لحظنا التعس.."
علق خادم آخر وقف قريباً بشيء من الاستهزاء "أتظنين أن مولاتي رنيم ستحصل على شيء من هذه الجواهر والعملات الذهبية؟.. إنها ستنتقل رأساً لخزانة الملك، ولن ترى النور بعدها أبداً.. أما عن الأقمشة، فالملكتين والأميرات الأخريات سيتناهبنها ولن يبقين شيئاً للعروس المجيدة.."
غمغمت الخادمة الأولى وهي تتلفت حولها "صَه.. لا يعلو صوتك بهذا القول أبداً.. لا نريد أن نقع في طائلة مثل هذا القول بتاتاً.."
ظل الصبي يراقب الموكب ويستمع لأحاديث الخادمات والخدم، حتى وجد من يقبض على قميصه ويهزه صائحاً "ما الذي تفعله هنا يا فتى؟.. ألم آمرك أن تتمّ ما عليك من مهام قبل عودتي؟"
رفع الصبي رأسه ليرى أحد الساسة الموكلين بالحظائر ينظر له بغضب، فقال بسرعة "لقد سمحت لي مولاتي رنيم برؤية الموكب للحظات.. وسأعود بعدها لأعمالي.."
ثم تملص من قبضة الرجل وغادر راكضاً بينما الرجل يصيح خلفه "ستنال عقاباً على هذا يا فتى.. أتفهم؟"
لكن الصبي لم يعره أي اهتمام وهو يهرع للحظيرة، وهناك وجد رنيم في موقعها ذاته وهي تمسح على عنق الفرس التي كانت تلهث بصوت مسموع.. وفور أن رأته قالت "حسناً.. هل أعجبك ما رأيته؟.."
قال الصبي بحماس "إنه أمر مذهل.. ليتك أتيتِ معي.. إنه أكبر وأجمل وأفخم موكب رأيته يدخل القصر.."
ابتسمت رنيم لحماسته وانفعاله معلقة "سعيدة بسعادتك يا فتى.. لكن ليته لم يكن قادماً لأجلي.."
هتف الصبي "بل أنا مسرور لأنه قادم لأجلك يا مولاتي.. فأنت تستحقين الأفضل.."
قالت رنيم وابتسامتها تخفت "الأفضل لا يشي بالسعادة دائماً.."
ومسحت عنق الفرس بيدها مضيفة "لا أعلم لأي مصير سيأخذني هذا الموكب المبهرج، لكن يراودني شعور أنه لن يكون بأفضل من الواقع الذي أعيشه.."
صمت الصبي محاولاً فهم مغزى جملتها، ثم قال "أليس زواجك من ولي عهد مملكة الفرسان هو ما تطمحين إليه؟.."
هزت رأسها قائلة "قطعاً لا.."
وأضافت بابتسامة "لطالما حلمت بأن أرحل مع رجل قوي وطيب في الآن ذاته، بعد أن يشفق عليّ من السجن الذي أعيش فيه.. ومعه، أعرف معنى الحرية وأن أستمتع بحياتي كما أريد دون تسلط أحد.. حتى لو كان يعني ذلك تحمّل شقاء العيش دون رعاية من أبي الملك ودون الاعتماد على أمواله الطائلة.."
أمسك الصبي يديها بيديه بقوة قائلاً بحماس "لو كان هذا ما تحبينه، فأنا أتمنى أن يتحقق لك.. أنت تستحقين الأفضل، فأنا لم أرَ أميرة بطيبتك ولم يعاملني أحد بمثل هذا اللطف حتى بين الخدم.. سأدعو الله تعالى أن يحقق لك ما تتمنينه.."
ربتت رنيم على رأسه بابتسامة متسعة وقالت "شكراً لك يا عزيزي.. لكن أشك أن يتحقق ذلك حقاً.. بعد أن أصل (للزهراء)، ستكون حياتي قد تحددت ولا رجعة فيها.."
ونهضت قائلة "سأرحل خلال أيام قليلة.. لذلك أعهد لك برعاية الحيوانات خلال غيابي.. لا تهملها لئلا يطالك غضبي.."
ابتسم الصبي معلقاً "اعتمدي عليّ.. رغم شكي بموضوع غضبك هذا، فلم يسبق لي أن شهدته من قبل.."
قالت رنيم ملوحة بإصبعها "لا تستهن بغضبي يا فتى لئلا تندم.."
وغادرت بصمت وهي تتأمل أرجاء المكان وتلاطف ذلك الحصان وتمسح على أنف تلك الفرس.. كانت تعلم أن هذه قد تكون زيارتها الأخيرة لهذه الحظائر، فلا شك أن أمها ستمسك بخناقها طوال الأيام الباقية على رحيلها لمملكة بني فارس.. وهي، للأسف، لا تملك الاعتراض على ذلك بتاتاً..


*********************

عالم خيال 13-12-15 03:00 PM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الثاني: واقعٌ قد دحر كل خيال


بعد احتفال بهيج أقامته المملكة لوداع الأميرة رنيم، وابتهاجاً بزواجها الوشيك من ولي عهد مملكة بني فارس، استيقظت رنيم في وقت مبكر بعد عدة أيام وأكملت استعداداتها للرحلة الطويلة.. ارتدت ثوباً بسيطاً مناسباً للترحال ولفّت شعرها الطويل في جديلة تتدلى على صدرها، ولم تنسَ قبل مغادرتها أن تمر على الإسطبلات والحظائر تودع الحيوانات التي عرفتها واعتنت بها منذ وقت طويل.. ورغم كل شيء، فإن جلّ ما كانت ستشتاق له في قصر أبيها هي هذه الحيوانات والمكتبة الكبيرة التي قضت فيها أغلب أيامها منذ تعلمت القراءة في صغرها..
وفي القاعة الخارجية للقصر، وجدت رنيم عائلتها الكبيرة تنتظرها لوداعها، مكونة من أشقائها وشقيقاتها وزوجتي الملك بالإضافة لعدد من الخدم والخادمات ممن اصطفوا باحترام وأحنوا رؤوسهم لها عند مرورها.. وبعد أن عانقنها شقيقاتها دامعات آملات أن تحظى بحياة سعيدة، وعانقها أشقاؤها آملين منها أن تكف عن التصرف بخرق ورعونة، ودعتها أمها بدموع فرح وسعادة للمكانة التي حصلت عليها، بينما ودعتها زوجة أبيها بابتسامة جانبية تعجبت لها رنيم ولم تفهم مغزاها.. وكأن الملكة الأولى تسخر من فشلها قبل أن يتحقق ذلك بالفعل.. لكن رنيم لم تحمّل الأمور أكثر من طاقتها وتجاوزت الأمر..
بعد ذلك، سارت مع الملك الذي قال لها "عليك أن تحسني التصرف ولا تحرجينني أمام ملك مملكة بني فارس.. تصرفاتك الخرقاء ستنعكس سلباً على علاقتنا بهم، لذلك كوني حذرة.."
غمغمت رنيم "أدرك ذلك يا مولاي.. لقد أعدت عليّ هذا الحديث مئة مرة في الأيام الماضية"
نظر لها الملك بشيء من الحنق، ثم أضاف "رحلتك الطويلة ستبدأ الآن، وستغادرين أراضي المملكة خلال يوم أو يومين نحو مملكة بني فارس.. لكن لا تقلقي، لقد أرسل الملك شخصاً أميناً وموثوقاً به لحمايتك طوال الرحلة.. إنه رئيس الحرس الملكي، ولا يمكن لشخص مثله أن يسمح بأن يصيبك أي سوء في تلك الرحلة.."
لم تعلق رنيم على قوله.. في الواقع كانت تشعر بحماس كبير لمغادرة المملكة للمرة الأولى في حياتها البالغة تسعة عشر عاماً.. لذلك لا تشعر بأي قلق من هذه الرحلة وتتوق لبدئها في الحال.. على الأقل، ستستمتع ببعض الحرية قبل أن تنزوي في قصر آخر من تلك القصور الخانقة..
بعد أن هبطوا عدة درجات تؤدي بهم لساحة القصر الواسعة، والتي تحفها أشجار زاهرة زرعت في أماكن مدروسة ومكونة منظراً هندسياً بديعاً، اتجهت رنيم برفقة الملك للموكب الذي يليق بزوجة ولي العهد، وإلى العربة التي تفوق البقية حجماً والتي هُيّئت لرحلتها الطويلة.. وقرب العربة، رأت رنيم رجلاً بثياب جنود ينحني واضعاً ركبته أرضاً ورافعاً الأخرى وهو يضع يده عليها واليد الثانية بقبضة مضمومة جوار ركبته.. ولما وصلت أمامه قال بلهجة احترام "لي الشرف بأن أكون حارسك الشخصي طوال هذه الرحلة يا مولاتي.. وتأكدي أن الرحلة ستكون سهلة وآمنة حتى تصلي بأمان للزهراء.."
علق الملك قائلاً "هذا هو مجد.. وهو من سيقود الموكب حتى تصلوا لقصر الملك عبّاد.."
رفع الرجل رأسه وانتصب واقفاً أمامها فوجدته يبزها طولاً رغم ارتدائها لحذاء بكعب عالٍ.. كان الرجل يبدو في منتصف الأربعين من عمره، بسمرة خفيفة ولحية سوداء مشذبة بعناية، وشعر فاحم تخللته شعيرات بيضاء لم تزده إلا هيبة ووقاراً.. عيناه رماديتان بلون باهت تتناقض مع سواد شعره، بزاويتان حادتان تمنحانها صارمة واضحة.. أنفه طويل ومستقيم وملامحه تشي بأنه شخصية شديدة الجدية..
ابتسمت رنيم ابتسامة خفيفة متجاوزة مشاعرها لرؤيته وهي تقول "شكراً لك يا سيدي.. سأعتمد عليك في هذه الرحلة.."
ابتعد مجد من طريقها سامحاً لها التقدم من العربة الملكية.. ولما وصلت إليها مد يده لها باحترام ليعينها على صعود العربة.. ورغم أن رنيم شعرت بضيق لهذه المعاملة، وهي لا تحتاج لمعونة عادة، إلا أنها لم تتردد في قبول يده شاكرة إياه بابتسامة.. عليها أن تحسن التصرف، وتعوّد نفسها على التصرف برقة وأناقة أمام أي شخص ينتمي لمملكة بني فارس.. على الأقل، هذه هي النصائح التي صبّتها أمها الملكة في أذنيها في الأيام والليالي الماضية دون ملل..
وفي العربة، والتي كانت واسعة بشكل لم تره من قبل ويمكنها أن تضمّ سبع أفراد دون تزاحم، وجدت رنيم أن جدرانها الداخلية مبهرجة بشكل مثير للدهشة.. جدرانها الخشبية قد بطّنت ببطائن حريرية مطرزة بخيوط ذهبية، وعلى نافذتها الجانبية ستائر رقيقة بلون سكري، ومقاعدها وثيرة بلون أخضر زاهٍ عليه تطريزات منمنمة لفراشات بيضاء وأشجار ذهبية.. وعلى الأرضية سجادة سميكة سكرية اللون كاد كعب حذائها يغوص فيها لسمكها..
جذبت رنيم ثوبها الطويل واستقرت في جانب العربة وهي تتلفت حولها بحبور.. هي حقاً من العائلة المالكة في هذه المملكة، لكن مملكة بني فارس تتفوق على مملكتهم الصغيرة في كل شيء.. لطالما سمعت عن مدنها العظيمة وقصورها الضخمة ذات الأبراج العالية وجسورها البديعة التي تعبر فوق الأنهار التي تقطع المدينة من عدة جهات.. وهذه العربة، وهذا الموكب الفخم، أكبر دليل على ما ستراه عند انتهاء رحلتها ووصولها لهدفها.. ورغم أنها تعلم أنها بوصولها لهدفها ستصبح سجينة تلك القصور الفاخرة، إلا أن هذا لا يمنعها من الاستمتاع بما تراه والتلهف على ما تتوقع رؤيته.. ظلت تقنع نفسها أنها في رحلة لاستكشاف عوالم لم ترها من قبل، وهي التي لم تغادر قصر أبيها بتاتاً في سنوات عمرها الماضية.. لذلك فإنها تناست التفكير في مستقبلها في ذلك القصر وفي مملكة زوجها المستقبلي، واقتنعت بالاستمتاع بحاضرها وبما ينتظرها في هذه الرحلة..
وبعد حديث قصير دار بين مجد والملك، وتلقى فيها رسالة مختومة منه للملك عبّاد، امتطى مجد فرسه البيضاء ذات العرف الذي خالط بياضه لون أشهب، وجذب عنانها وهو يرفع يده ليبدأ الموكب انطلاقه عبر حديقة القصر الشاسعة وعبر أحياء وطرقات المدينة ليغادروها من إحدى بواباتها.. وفور تجاوز الموكب لبوابة القصر المذهبة الضخمة، وسيرهم عبر طرقات المدينة الواسعة، سمعت رنيم صوتاً عالياً يندلع من جانبي الطريق.. نظرت من النافذة مزيحة الستائر، فرأت عشرات وعشرات من سكان المدينة ممن اصطفوا على جانبي الطريق حاملين زهوراً ألقوها على الموكب الذي يمر بينهم بينما هتف الآخرون بسعادة واضحة انعكست على رنيم وهي تراقبهم بسرور.. لا يخفى عليها سبب سعادة سكان مدينتها بزواجها هذا وما يتبعه من تحالف بين المملكتين واستفادة مملكتهم الضعيفة والفقيرة نوعاً بحليف قوي وغنيّ كمملكة بني فارس.. ورغم إدراكها أن سعادة الجميع بزواجها ليست موجهة لها هي بالذات، لكنها رغم ذلك بدت سعيدة وهي تتأمل سكان العاصمة ومنازلها والطرقات التي تمر العربة من خلالها..
وفي مقدمة الموكب، سار مجد بفرسه بخطوات متعجلة محاولاً تخطي الجموع التي أصمّت أذنيه وأثارت توتراً في فرسه شعر بها بوضوح.. وبعد لحظات، اقترب رجل آخر من الموكب بحصانه ليسير قرب مجد قائلاً "بدا الملك سعيداً بشدة لهذه المصاهرة.. كان بإمكانه أن يتصرف بشكل أكثر رقياً وأقل انفعالاً.."
علق مجد قائلاً "من يمكنه أن يلومه؟.. إن هذه المصاهرة ستمنحه حليفاً قوياً وإمداداً كبيراً على جميع الأصعدة.. يكفي وجود ابنته في قلب عاصمة مملكتنا، وفي قصرها الملكي.. وفي المستقبل، لو كانت حسنة الحظ، ستقف جوار زوجها الملك وقد تتمكن من تحريك قراراته بما يصبّ في مصلحة مملكة أبيها.."
ابتسم الرجل قائلاً "أنت أيضاً حسن الحظ بهذه الرحلة.. لو أتممتها وأرضيت الملك، سيرفعك لمنصب أكثر قوة وتأثيراً من منصبك.. لقد وعدك الملك بهذا قبل بدء رحلتنا هذه بالفعل.."
غمغم مجد بضيق "لا يهمني المنصب كثيراً، فيمكنني الحصول عليه بطرق أخرى.. ما أكرهه بشدة هو اضطراري لمرافقة هذه الأميرة في رحلة طويلة كهذه.. هذا أكثر مما أطيق احتماله بالفعل.."
تساءل الرجل "لماذا؟.. هل تخشى من فشلك في حمايتها؟."
أجاب مجد "بل أخشى من تعاملي معها.. لا أمانع من اصطحاب ذوي المناصب العليا والأمراء في مثل هذه الرحلات، لكن الأميرات هن أمر آخر.. إنهن يتصرفن بتعالٍ بغيض ويكثرن من الطلبات التي لا داعي لها ويتذمرن من كل أمر.. يتظاهرن بالرقة، لكنهن لا يعبأن لأمر طفل مشرد أو كلب أجرب.. كل ما يهمهن هو جمالهن وبهرجة ملابسهن.. في الواقع، أفضّل مواجهة عدو من أعداء المملكة في أحد الحروب عن مواجهة تذمر أميرة مدللة.."
ضحك الرجل بقوة وقال "لو سمعتك الأميرة لاشتكت لولي العهد من تصرفاتك واتهمتك بالصلافة.. فكن حذراً.."
غمغم مجد "لا تقلق.. لست مجنوناً لأفعل.."
وأضاف وهو يحث فرسه لتسرع في سيرها "فلنأمل أن تنتهي هذه الرحلة على خير.."
وبينما كتم مجد تأففه بصعوبة لذلك الإزعاج الذي صمّ أذنيه، فإن عينا رنيم تلألأتا وهي ترى الموكب يقترب من أسوار العاصمة، والبوابات الضخمة التي ترفرف فوقها أعلام المملكة قد فتحت بدعوة واضحة لها.. لقد بدأت رحلتها التي تتمنى ألا تقف عند أبواب (الزهراء).. ولا تدري لم خيّل إليها أن عربتها فور مغادرتها أسوار العاصمة ستطير مع الرياح المندفعة وترتفع فوق الغيوم العالية في رحلة خيالية.. رحلة لطالما تاقت نفسها إليها..

*********************

بعد نصف نهار من السير المتواصل، سار فيه الموكب الملكي مغادراً عاصمة المملكة عبر دروب تقطع تلك السلسلة الجبلية، فإنه وصل لموقع يمر بسهول عشبية تغزوها الأزهار البرية من كل جانب بينما تظللها الجبال التي وقفت جانباً كجدار عظيم يلامس عنان السماء.. انتاب رنيم ملل شديد وتعب أشد بعد أن اضطرت للبقاء في عربتها وحيدة إلا برفقة وصيفتها صفيّة والتي ستنتقل للعمل عندها في قصرها الجديد.. لم تكن رنيم معتادة على البقاء في موقع واحد لفترات طويلة دون عمل ودون كتاب تتسلى به، وبدأت تشعر بألم شديد في ساقيها لطول جلوسها دون حراك.. فقالت بتذمر وضيق "رباه.. متى ستقف هذه العربة؟.. أكاد أختنق من الجلوس فيها.."
قالت صفية مبتسمة "ما الداعي للتذمر يا مولاتي؟.. العربة واسعة ومريحة جداً.. ورحلتنا ستكون طويلة لذلك عليك أن تتحلي ببعض الصبر.."
قالت رنيم وهي تنظر لسقف العربة بملل "كيف تتوقعين مني ذلك؟.. كان عليهم الوقوف للراحة في وقت أبكر.."
علقت الوصيفة "هذا سيبطئ سيرنا أكثر.."
غمغمت رنيم وهي تنظر من النافذة "ليتني أحضرت كتاباً معي.. أشعر بملل قاتل.. لو كنت أكثر جرأة لارتحلت على ظهر فرس بدل اللجوء لهذه العربات الخانقة.."
علقت صفية بشك "وهل تتقنين ركوب الخيل يا مولاتي؟"
مطت رنيم شفتيها معلقة "ليتني كنت كذلك.."
ثم نظرت لصفيّة قائلة "استدعِ مجد.."
تساءلت صفية بدهشة "لمَ يا مولاتي؟"
قالت رنيم "يجب أن نتوقف قليلاً قبل أن أقضي نحبي اختناقاً من هذه العربة.. استدعيه حالاً.."
ورغم اعتراض صفية، إلا أنها استسلمت للأمر في النهاية وفتحت النافذة التي تعلو باب العربة مستدعية سائقها وطالبة الحديث مع مجد.. وخلال لحظات، توقف الموكب بأكمله عن الحركة وسمعت رنيم تململ الأحصنة وصهيلها وتساؤلات بعض الرجال الذين يرافقون الموكب لحمايتها..
اعتدلت رنيم في جلوسها وهي تعدّل هيئتها عندما سمعت طرقاً على باب العربة.. ولما سمحت للطارق بالدخول، وجدت الباب يفتح ويظهر من خلفه مجد الذي قال "ما الأمر يا مولاتي؟.. أهناك خطب ما؟"
قالت رنيم "ألن يتوقف الموكب للراحة قليلاً؟.. لقد أمضينا عدة ساعات في السير دون توقف.."
قال مجد باعتراض "عذراً يا مولاتي.. وقوفنا للراحة الآن ليس في صالحنا.. لم نقطع إلا مسافة ضئيلة من رحلتنا.."
شعرت رنيم بضيق لفكرة أن تبقى حبيسة هذه العربة، فقالت باندفاع "لكنني أريد أخذ قسط من الراحة.. ساعة واحدة لن تعطل سيرنا بشكل كبير.."
لمحت نظرة استياء في عيني مجد، لكنه لم يعلق وهو يحني رأسه لها، ثم ابتعد عن الباب، فنهضت رنيم وغادرت العربة متجاهلة يده الممدودة وتلفتت حولها في الموقع.. كانوا يقفون عند أطراف غابة كثيفة الأشجار يقطعها طريق على شيء من الاتساع، مخلّفين السهول العشبية التي كانت الأكبر في الجزيرة بأكملها.. فغمغمت رنيم "يا له من مكان بديع.."
علق مجد القريب "هذا هو الموقع الأجمل الذي رأيته منذ وصولي لمملكة بني غياث.."
ثم أضاف "سيهيئ الرجال لك موقعاً ملائماً لترتاحي فيه حتى نعاود السير.."
قالت رنيم بابتسامة متسعة "لا حاجة بكم لذلك.. يمكنني تدبر أموري كالبقية.."
ثم رفعت طرف ثوبها وتقدمت من الغابة القريبة قائلة "سأقوم بجولة صغيرة في المكان.."
استوقفها مجد قائلاً بشيء من القلق "بقاؤك في هذه السهول أفضل من دخولك الغابة.. لا نعلم ما قد يعترضك فيها.."
كان فضول رنيم يتزايد حول الغابة رغم جمال السهول القريبة، فقالت "أرجوك ألا تقلق لأمري.. ستصحبني وصيفتي.."
وأكملت سيرها غير عابئة بالضيق المتزايد في وجه مجد، بينما لحقتها صفية حاملة مظلة بيضاء من الدانتيلا وهي تقول "مهلاً يا مولاتي.. عليك أن تبقي في الظل ولا تتعرضي لأشعة الشمس القوية.."
علقت رنيم بابتسامة جانبية "لماذا؟.. هل سيرفع هذا من حظي أمام ولي العهد؟.."
غمغمت صفية بضيق "لماذا أنت مختلفة عن الأخريات يا مولاتي؟.. أنت لا تتصرفين كأميرة بتاتاً.."
قالت رنيم "ألا يكفي أنني أعفيك من طلباتي الكثيرة والتذمر الذي يلاحقكن من بقية الأميرات؟.."
قالت صفية "لكنني أركض بشكل دائم بحثاً عنك في أرجاء القصر.. وهذا منهك تماماً.."
التفتت إليها رنيم قائلة "يؤسفني أنني أجبرك على ذلك.. سأحاول ألا أفعل هذا.. والآن عودي للبقية وخذي بعض الراحة.."
قالت صفية باعتراض "لكن يا مولاتي...."
لوحت رنيم بيدها قائلة "لا تخشي شيئاً.. سأكون بخير.."
وقفت صفية تنظر لها بحيرة مما عليها فعله، بينما سارت رنيم بابتسامة متسعة وهي تأخذ نفساً قوياً مستمتعة برائحة الغابة.. تلك الرائحة التي تختلف عن رائحة القصر والحدائق المحيطة به..
لم يكن إصرارها على التخلص من وصيفتها لسبب معين، إلا لتشعر أنها طليقة حقاً دون رقيب ودون عين تلاحقها وتتبعها بإصرار.. فرغم أن صفية خادمتها ووصيفتها الوفية، إلا أنها تجبرها على التقيّد بقوانين القصر وعدم تجاوز ما يقتضيه منها كونها أميرة وابنة ملك هذه المملكة.. وتلاحقها بشكل دائم بالوصايا والتعليمات التي تصيب رنيم بالضجر.. لذلك كان هذا أنسب وقت للتخفف من هذه القيود والتمتع ببعض الحرية..
سارت في أرجاء الغابة التي بدأت أشجارها بالتكاثف والتقارب مع كل خطوة تخطوها رنيم في قلبها.. كان الموقع ساحراً، والهدوء الممتزج بأصوات العصافير المتنوعة يجعله خيالياً أكثر من اللازم.. تلفتت رنيم حولها وهي تحفر هذه المناظر في عقلها بشغف واضح، وسارت حتى انتبهت لخفوت الأصوات من خلفها وابتعادها عن موقع الموكب أكثر من اللازم.. ولو أنها كانت تفضّل الاستمرار في استكشاف الغابة، لكنها نوعاً ما خشيت من غضب وصيفتها أو مجد لو ضاعت ولم تتمكن من العودة.. لذلك استعاضت عن رحلتها بالتجوال في موقع قريب من طرف الغابة حيث الموكب قريب منها وحيث لن تثير قلق أحد عليها..
وبعد أن استكملت جولتها، فإن رنيم عادت مرغمة لموقع الموكب وهي تتنهد كمن يستيقظ من حلمٍ طالما اشتاق لرؤيته.. ولما خرجت من الغابة رأت المعسكر البسيط الذي أقيم في ذلك الموقع، وفي وسطه، نصبت مظلة كبيرة انتصبت على أربع أعمدة خشبية مدّ فوقها قماش أبيض اللون حمل زخارف وصور جميلة.. وتحت المظلة رأت رنيم كرسياً مريحاً أبيض اللون وقربه طاولة خشبية عليها بعض الفطائر وكوب عصير طازج..
لكن رنيم تجاهلت الموضع المهيأ لراحتها، وتجاهلت توسلات وصيفتها صفية، وسارت للموقع الذي ربطت عنده الأحصنة في جانب الغابة.. كان الجنود يجلسون للراحة في جانب المكان، بينما ربطت الأحصنة بالأشجار القريبة، فتقدمت رنيم منها ماسحة على عنق أقربها وهي تتأملها بابتسامة جانبية.. لفتت انتباهها تلك الفرس البيضاء ذات العرف الأشهب الجميل والذي ربط بضفيرة صغيرة، فتقدمت رنيم منها ومسحت على عنقها ووجهها وهي تتمتم "يا لك من فرس جميلة.."
سمعت من خلفها صوت مجد يقول "يبدو أن الشهباء قد أعجبتك.."
التفتت إليه قائلة "إنها جميلة جداً.. أهي ملكك؟"
هز مجد رأسه إيجاباً، وتقدم مربتاً على عنق الفرس وقال "هي معي منذ عدة سنوات، وهي فرس جميلة ومطيعة ومثابرة بشكل لا يصدق.. هي الوحيدة التي ارتحت لرفقتها طوال هذه السنوات.."
غمغمت رنيم وهي تتأمل عيني الفرس السوداوين "تمنيت لو كنت أعرف ركوب الخيل.. أحب هذه الكائنات الجميلة، وأود لو أنطلق على ظهرها بأقصى سرعة وبكل حرية.."
تساءل مجد "وما الذي يمنعك من ذلك؟"
تنهدت قائلة "لا يسمح لنا الملك بذلك.. يظن أن تعلم ركوب الفرس يجعلني أفقد أنوثتي وبهذا تقل فرصي في الزواج.."
رفع مجد حاجبيه بتعجب قائلاً "هذا غير مقنع.. لمَ عليك أن تكوني كالأخريات وتنزوي في جانب القصر بانتظار زواجك؟.."
انتبهت رنيم لنفسها وأدركت ما سيوحي به هذا الحديث لمجد، وما قد يتصوره عنها.. لكن، ما الذي سينقله لولي العهد وللملك عبّاد في (الزهراء)؟.. ألن يؤثر ما سيقوله لهما على مستقبلها الذي تسعى لنجاحه مرغمة؟.. بقدر ما كان ذلك مناقضاً لها، إلا أنها كانت ساعية بالفعل لإنجاح هذا الزواج، لتنال رضى أبويها،و لتزيح همّهما من عقلها بعدها..
اعتذرت رنيم من مجد وابتعدت عائدة نحو المظلة المهيئة لها بشيء من الكآبة.. أبعد ذلك الوقت الذي قضته جالسة في العربة يتوقعون منها أن تظل جالسة تحت هذه المظلة التي تمنع دفء الشمس من الوصول إليها وتملأ معدتها بالطعام والشراب دون هدف؟.. لكن، كما علقت صفية سابقاً، فإن رنيم تتساءل أيضاً عن السبب الذي يجعلها مختلفة عن بقية الأميرات، ولا تسعد بأشكال الراحة والبهرجة هذه كما تفعل الأخريات..

*********************

بعد راحة قصيرة، استأنف الموكب سيره قاطعاً تلك الغابة عبر طريق ممهد يمتد بطولها ولا ينتهي حتى يصل للبحر الواقع خلفها.. لم يكن السير عبر أراضي الجزيرة يمتد لأكثر من يومين، وبعدها سيرحل الموكب على سفينة ملكية تقطع به بحر السلام الواسع حتى تصل لأقرب ميناء من العاصمة (الزهراء) وهو ميناء (ذات المخالب) الذي يقع على الجانب الغربي من القارة العظمى.. وبعدها يسير الموكب عبر تضاريس سهلة حتى يصل العاصمة التي تبعد أربعة أيام عن الميناء..
هذه باختصار هي الرحلة التي سيقطعها الموكب في الأيام العشرة القادمة، كما شرحها لها مجد أثناء راحتها في ذلك الموقع.. وبدا لها بوضوح أنه أخبرها بكل هذه التفاصيل كي تكفّ عن قطع سيرهم بين لحظة وأخرى لتتجول في الأرجاء دون هدف واضح..
وخلال عدة ساعات، قضتها رنيم تتأمل الغابة من نافذة عربتها بصمت، توقف الموكب بعدها وسط الغابة في موضع منبسط تقلّ فيه الأشجار ليعسكر هذه الليلة.. وخلال وقت قصير، وقبل أن تغرب الشمس بشكل كامل، كان الجنود قد أقاموا المعسكر بسرعة وخبرة ونصبوا خيمة فخمة لرنيم وعدة خيام أخرى للوصيفات والخدم وبقية الجنود..
بدا المكان موحشاً بعد غروب الشمس، مع شحّة النور التي تغلغلت من بين الغيوم تلك الليلة، لكن رنيم لم تشعر بأي خوف وهي تجول في أرجاء المعسكر مهتدية بضوء النار التي أشعلت في عدة أجزاء منه..
وفي وقت متأخر من تلك الليلة، بعد أن أوى أغلب الجنود والخدم للنوم بينما بقيت فرقة صغيرة لحراسة المعسكر.. خرجت رنيم من الخيمة الفخمة التي نُصِبَتْ لها وسط الموقع، ووقفت تتأمل القمر المنير وسط السماء.. كان ضوء القمر قوياً وواضحاً بعد زوال أغلب الغيوم التي كانت تحجب نوره، وهو يلقي بلمعة فضية على كل ما يطاله نوره على سطح الأرض.. وبدت تلك الليلة لعيني رنيم مسالمة هادئة بشكل كبير..
تلفتت حولها مدركة أن وصيفتها صفية قد نامت منذ أمد طويل، بينما بقيت فرقة صغيرة من الجنود موزّعين في مواقع حددها مجد في وقت سابق لحراسة المعسكر الصغير.. تسللت رنيم دون أن يلاحظها أحدهم بخطوات خافتة نحو الغابة القريبة.. كان تعلم تمام العلم أن تصرفها خطير في ذلك الوقت، ولن تسلم من تأنيب صفية ومجد لو علما بذلك.. لكنها كانت تريد التجوال بحرية في الموقع دون رقيب بعد أن جافاها النوم لوقت طويل..
نوعاً ما، شعرت أن هذه الرحلة التي تستمر لعشرة أيام هي المتنفس الوحيد الذي قد تحصل عليه قبل أن تضمّها أسوار قصور (الزهراء) في قلبها وتحجب عنها نور الشمس بشكل كليّ.. قد يكون هذا التعبير مبالغاً فيه بشدة، فقصور (الزهراء) تملك أكبر وأجمل حدائق يمكن للمرء أن يرى في حياته، لكن رنيم تشعر أن مثل تلك القصور تغطيها غمامة سوداء تجعل كل ما تطاله كئيباً باهتاً لا روح فيه ولا يزهى بأي لون.. وربما كان هذا راجعاً لنظرتها المتشائمة والتي لا تحمل أي تفاؤل لأيامها القادمة..
كانت الغابة أشد ظلمة مما تخيلت، ونور القمر يتخللها بصعوبة بحيث بدت لها جذوع الأشجار المحيطة بها كأشباح أو ظلال متحركة جعلت قشعريرة قوية تسري في جسدها.. لكنها لم تتراجع وهي مستمتعة نوعاً ما بهذا الشعور.. شعرت بأنها تخوض رحلة خيالية كما قرأت مراراً في بعض الكتب الروائية.. لابد أن بطلة الرواية، لو كانت في موقعها، ستستلّ سيفها وتسير بحذر في هذا الطريق متلفتة حولها خشية أن يباغتها بعض اللصوص أو من هم أسوأ.. لابد أنها ستحاذر في سيرها وستتجنب وطء هذا الفرع اليابس الذي سيصدر صوتاً يوحي بموقعها في هذه الليلة الهادئة.. تماماً كهذا الصوت الذي سمعته من خلفها..
قبل أن تستفيق رنيم من خيالاتها، فوجئت في تلك اللحظة بيد تكمم فمها بقوة وبأداة حادة باردة الملمس تضغط على عنقها وصوت خافت يقول "لا تأتِ بأي حركة إن كنت تريدين النجاة.."
ارتجفت رنيم بشيء من الرعب لتلك المفاجأة.. لم تتوقع أن الخيالات التي دارت في عقلها كان لها جانبٌ من الصحة، ولم تظن أن شخصاً ما يمكن أن يختبئ في هذه الغابة الموحشة.. أهذا الرجل لصٌّ يطمح للاستيلاء على ما ترتديه من حليّ؟.. هل دفعه الفقر لمغافلتها بهذه الطريقة؟.. لاحظت ظهور شخصين آخرين من خلف أشجار قريبة، ثم قال أحدهما بهمس "لنسرع قبل أن يداهمنا بعض الجنود.."
شعرت بالرجل الذي يمسكها يجذبها مبتعداً عن المعسكر غير عابئ بمقاومتها، ثم قال لها بصرامة "اخلعي ما تملكينه من حليّ بسرعة.."
لم تتردد رنيم في تنفيذ طلبه بصمت وهي ترى الخنجر الذي لمس طرفه عنقها.. إذن فهم فقراء دفعهم الجوع للسرقة دون أن يعلموا هويتها حقاً.. وأغلب الظن أنهم لن يسيؤوا لها بعد أن يحصلوا على مبتغاهم..
سمعت أحد الرجال يقول بعصبية "أهذا وقته؟.. لم نتفق على هذا.."
نظرت له رنيم بدهشة بينما قال صاحب الخنجر "نحن لصوص.. لن نقنع أحداً بذلك إن لم نفعل هذا.."
رفعت رنيم حاجبيها بدهشة، وهي تحاول التعرف على ملامح هؤلاء اللصوص المزعومين.. فقال الرجل القريب بحدة "أسرعي.. ألم تسمعي ما........."
فوجئت به رنيم يسقط أرضاً بعنف بعد ضربة قوية أصابت رأسه من الخلف.. تجمد الآخران للحظة مع رؤية ما حدث لرفيقهم، بينما نظرت رنيم لمجد الذي وقف خلفها ضامّاً قبضته وقال بحدة "استسلما ولا داعي للمقاومة.."
لكن الرجلين قررا استغلال وجود مجد وحيداً فهجما عليه وهما يطلقان صيحة حانقة لتدخله قبل أن ينجحوا بالفعل.. لكن مجد دار حول نفسه متفادياً ضربة من أحدهم قبل أن يمسك ذراعه الممتدة بخنجر ويوجه له ضربة قوية ألقته للخلف، ثم وجه ركلة لساق الثاني قبل أن يصل إليه أتبعها بضربة قوية بقبضتيه المضمومتين على مؤخرة رأسه أسقطته فاقد الوعي على الفور..
تنهدت رنيم بشيء من الارتياح لرؤية انتصار مجد على الثلاثة بهذه السهولة رغم أنه امتنع من استخدام سيفه المعلق في حزامه، بينما تقدم مجد من الثاني الذي لم يفقد وعيه قائلاً بصرامة "من أنتم؟.. وما الذي دفعكم لمهاجمة الأميرة؟.."
لاحظت رنيم التوتر في وجه الرجل إنما لم يبدُ عليه أي دهشة لمعرفة هويتها وهو يقول بسرعة وارتباك "نحن لصوص.. كنا في موقع قريب ورأينا الموكب الفخم يعسكر قرب الغابة، ففكرنا أننا قد نتمكن من سرقة ما يمكننا بيعه بثمنٍ غالٍ والاستفادة من المال في إعالة عوائلنا.."
ثم أضاف ملوحاً بيديه "لم نكن نعلم أنها أميرة ولم نعلم هوية هذا الموكب.. ظننا أنه ملك لأحد التجار الأغنياء.."
نظر له مجد مقطباً بغير اقتناع، بينما وقفت رنيم قربه تنظر لما يجري بتردد.. ولما سمعت مجد يسأله "ألست كاذباً يا هذا؟.. لن أرحمك لو كنت كذلك.."
هتف الرجل "لست أكذب.. صدقني.."
سمع مجد رنيم تقول "ولكن......."
التفت إليها مجد باهتمام دون أن يغفل عن ذلك اللص، فقالت رنيم بعد تردد "لقد قال رفيقك أنكم لن تُقنِعوا أحداً بكونكم لصوصاً إن لم تسرقوا الحليّ التي ألبسها.. فماذا عنى بذلك؟"
التفت مجد إلى الرجل الممتقع قائلاً بغضب "إذن كان ذلك كذباً بالفعل.. أخبرني.. من أنتم حقاً ومن أرسلكم إلينا؟"
صاح الرجل ملوحاً بيديه "نحن لصوص بالفعل.. ما الذي علينا فعله لتصدق قولي؟"
تقدم منه مجد خطوة مدمدماً "لن تخدعني بهذا يا رجل.."
ودفع نصل سيفه في كفّ يد الرجل اليمنى بقوة صرخ لها الرجل متألماً.. ولما أبعد مجد سيفه تراجع الرجل خطوة وهو منثنٍ على نفسه وقد قبض على يده الجريحة التي تصببت الدماء منها بيده الأخرى.. وفي الآن ذاته اقترب عدد من الجنود بعد أن جذبتهم الأصوات العالية محيطين بالرجال الثلاثة.. ظلت رنيم تنظر لما يجري مشفقة على الرجل للألم الظاهر على وجهه، وراودها خاطر أن تكون قد جَنَت عليه بتعليقها ذاك.. فتقدمت محاولة التراجع عما قالته كي تجنّب الرجل استجواب مجد له، لكن مجد كان قد اقترب من الرجل من جديد قائلاً بصرامة "من أرسلك؟.. أخبرني لتوفر على نفسك المزيد من الألم.."
صاح الرجل وهو يقبض على يده الجريحة بعد أن خلّف فيها سيف مجد جرحاً بليغاً "إنها الملكة.. الملكة هي من أرسلنا.."
اتسعت عينا رنيم بصدمة بينما نظر له مجد بدهشة قائلاً "الملكة؟.. أتعني زوجة الملك قصيّ؟"
هز الرجل رأسه إيجاباً بقلق قائلاً "أجل.. هي من أرسلنا.."
زمجر مجد قائلاً "لا تكذب.. ما الذي أرادت الملكة تحقيقه بهذا التصرف؟"
قال الرجل وهو يتراجع خطوتين بقلق "لا أدري.. كل ما طلبته منا أن نباغت الفتاة بعيداً عن الجنود ونصيبها بجرح في وجهها.. لا أكثر من ذلك.. هذا كل ما طلبته منا وقد دفعت لنا مالاً لتنفيذه.."
نظر مجد لرنيم مقطباً ملاحظاً نظراتها الزائغة، ثم تساءل بحنق "ما معنى هذا؟"
أخيراً، تساءلت رنيم بصوت مبحوح "أي ملكة تعني بالضبط؟"
أجاب الرجل بسرعة "الملكة الأولى بالطبع.. مولاتي مريام هي من طلب منا ذلك قبل خروج موكبكم من العاصمة.. وطلبت منا تتبع الموكب من مبعدة وانتظار الفرصة الملائمة دون أن نلفت الأنظار إلينا أو إليها.. صدقني.. هذا كل ما هنالك.."

*********************

ظلت رنيم شاحبة وهي تجلس في جانب المعسكر غارقة في أفكارها، بينما تحدث مجد مع رجاله وأرسل عدداً منهم لاستطلاع الموقع حولهم بحثاً عن أي متسللين آخرين.. ثم توجه للفتاة الصامتة واقترب منها متسائلاً "ما الذي تطلبين منا فعله؟.. هل نقتلهم؟"
هزت رنيم رأسها نفياً بشدة، فعلق مجد "قد يكررون المحاولة مرة أخرى في وقت آخر طمعاً في النقود التي وعدتهم بها الملكة.."
ألقت رنيم نظرة على الرجال المقيدين في جانب المكان والبؤس واضح في ملامحهم، ثم خفضت بصرها وهي تهز رأسها نفياً من جديد.. فزفر مجد وهو يتطلع للموقع حولهم، ثم قال "ربما من الخير لنا اصطحابهم معنا مقيدين حتى نصل للميناء.. يمكننا عندها أن نطلقهم قبل رحيلنا على السفينة التي جئنا بها.. بهذا نضمن ألا يعودوا للملكة ويبلغوها بما جرى قبل رحيلنا بالفعل.."
ظلت رنيم على شحوبها وصمتها وهي تفرك يديها باستمرار.. عندها سألها مجد "أتعلمين لمَ فعلت أمك ذلك؟"
همست رنيم بصوت مبحوح "ليست أمي.. بل زوجة أبي.. إنها الزوجة الأولى للملك.."
فقال مجد "هذا ليس سبباً يدعوها لما فعلته!.."
صمتت رنيم وهي تتذكر سخرية أمها من الملكة الأولى لأن هذه الزيجة جاءت من نصيب رنيم عوضاً عن سهى وهي الوحيدة التي لم تتزوج من بنات الملكة الأولى.. عندها قالت رنيم بخفوت "لطالما أعربت أمي عن الحقد الذي ستشعر به الملكة الأولى تجاهي لأن هذه الزيجة لم تكن من نصيب ابنتها الصغرى.. ربما كانت هذه هي وسيلتها لاستبدالي بابنتها قبل وصولنا للزهراء، خاصة أن زواجاً كهذا لن يتكرر لمملكتنا الصغيرة.. فبجرح في وجهي، لن يتردد ولي العهد في رفضي دون أن يثير غضب أبي الملك ويسيء العلاقات بين المملكتين.."
نظر لها مجد بشيء من التعجب للهدوء الذي تتحدث به رغم شحوبها الواضح، ثم تساءل "ألستِ غاضبة لما جرى؟"
تطلعت رنيم لجانب الموقع وهي تكبت دموعها بصعوبة، ثم قالت بصوت مرتجف "لو كنت أعلم بما تنتويه الملكة، لتنازلت عن هذا الزواج منذ البدء.. لست سعيدة بارتباطي بولي العهد، ولن يهمني لو حظِيَتْ أختي سهى بهذا الشرف.. لماذا تلجأ الملكة لهذه الأساليب الرخيصة لتنحيتي من المستقبل الذي خططته لابنتها؟"
صمت مجد وهو بين مشفق على رنيم من الصدمة التي حاقت بها، وبين متعجب لخنوعها الظاهر.. لو كان الأمر يخصّ أميرة أخرى لملأت الدنيا صراخاً غاضباً لما جرى.. لكن ردة الفعل الهادئة هذه قد فاجأته.. فجلس قربها قائلاً "أتسمحين لي بأن أنصحك بشيء؟.."
نظرت له في استجابة صامتة، فقال "سترين الكثير بين جدران القصر، وستواجهين الكثير بالفعل.. لكن لو تصرفتِ بمثل هذا الخنوع وصُدمتِ لكل خيانة من شخص قريب منك، فلن تعيشي في هذا العالم طويلاً.. كل ما يمكنني أن أنصحك به أن تتجاهلي وتحاذري من الجميع.. المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته.. هذا شأن القصور في كل مكان وزمان.."
خفضت رنيم رأسها وهي تقول بصوت متهدج "أعلم ذلك تمام العلم.. لكني لا أطالب بالكثير.. كل ما أريده هو أن أترك وشأني.. أن أعيش حياتي بهدوء وسكينة.."
فقال مجد متأملاً ملامحها "إذن لمَ لا تتحررين من هذه القيود؟.. لمَ لا تفصحين عن رغباتك بوضوح وحزم؟.."
صمتت للحظات وهي تتذكر مواجهاتها البسيطة مع الملك والملكة في السابق، ثم أدارت وجهها جانباً مغمغمة بمرارة "هذا مستحيل.. هذه ليست أنا، ولا يمكنني أن أكون أكثر حزماً وقوة.. لا يمكنني مجابهة الآخرين دون أن أخضع وأنكسر بسهولة.."
علق مجد بحزم "ربما لم يَفُت الأوان لتغيير ذلك.."
هزت رنيم رأسها بشدة واستنكار، فتنهد مجد وقال "لن تستفيدي أمراً من هذه السلبية.. وأنا أعني ما أقوله.."
وغادرها عائداً للرجال المقيدين بحراسة بضع جنود تابعين له.. بينما زفرت رنيم وهي تنظر للأرض العشبية بصمت.. كيف يطلب منها مجد مثل هذا الطلب؟.. إنه لا يعرفها، ولو عرفها حقاً لأدرك أن حالها ميؤوس منه.. لو كان بإمكانها التغيير لما كانت في هذا الموقع وتخوض مثل هذه التجربة التي خلّفت مرارة في حلقها..

*********************

مضى اليوم التالي على الموكب في سيره نحو ميناء آرطا الحيوي الذي كان أقرب المواقع من القارة العظمى حيث تحتل مملكة بني فارس جزءاً كبيراً منها.. كان الميناء هو الأكبر على الجزيرة التي تحتلها مملكة بني غياث، وهذا الميناء هو ثاني أكبر مدينة في المملكة بعد العاصمة.. لذلك كانت الحركة على أشدها في أرجاء الميناء وفي المدينة المحيطة به حيث تبقى ساهرة أغلب الأحيان لتلبية احتياجات السفن القادمة للمملكة والتي لا تكاد تهدأ ليلاً أو نهاراً..
أمضت رنيم أغلب هذه الرحلة بصمت تام وهي سارحة في أفكارها الخاصة.. بدأ حماسها في هذه الرحلة يخفت وأفكارها تدور حول تلك الحادثة التي تكشف لها ما كانت غافلة عنه من خبايا قصر أبيها.. يمكن، لو صحّ القول، أن نَصِفَ رأس رنيم بأنه كان معلقاً بين الغيوم طوال سني عمرها.. لم تكن تدرك ما يدور في القصر من دسائس وما يخفيه من أسرار وخبايا.. لم تكن تحمّل أي ابتسامة تراها على وجه شخص في القصر أكبر من قدرها، ولم تكن تتساءل عن مغزى أي كلمة أو تصرف يصدر من أي شخص..
قد يصفها البعض بأنها براءة، رغم نباهتها في أمور أخرى.. وقد تكون مجرد سذاجة.. لكنه في الحقيقة كان انفصالاً عن الواقع.. كانت رنيم تعيش في عوالم أخرى وحكايات أخرى.. قد تنتبه لأدنى قدر من الخبث والنوايا السيئة في إحدى شخصيات رواية تقرؤها، لكنها لا تقتنع أن هذا يمكن أن يحدث في الواقع ومن أقرب الأشخاص إليها..
فكيف، بعد كل هذا، يمكنها أن تقتنع أن زوجة أبيها يمكنها أن تقوم بعمل خسيس كهذا؟.. كيف يمكنها أن تتصور حقداً يعتمر صدر تلك المرأة التي تحمل ملامح نبيلة ورثتها من عائلتها العريقة؟.. كيف؟؟!!!.. هذا ما يكاد يخرج رنيم من طورها ويصيبها بشيء من الكآبة.. ورغم محاولات صفية الدائمة للتسرية عنها والتخفيف من وقع هذه الصدمة عليها، إلا أن رنيم كانت تستمع لها بنصف وعي وهي تراقب ما يمر به الموكب الملكي في سيره نحو ميناء آرطا..
وعند وصول الموكب إلى الميناء في وقت متأخر من ذلك اليوم، فإن المكان كان ينبض بالحياة وكأن اليوم لا يزال في بدايته، والمدينة تغصّ بسكانها وبالبحارة والمسافرين الذين وصلوا على ظهر إحدى السفن أو يستعدون للرحيل على ظهر سفينة أخرى..
ظلت رنيم تراقب الأحياء والشوارع التي يمر عبرها الموكب لافتاً أنظار الجميع دون استثناء.. ورغم انشغالها بما تراه، فإنها لم تُبدِ حماسة أو تُظهر شغفاً بما تشاهده للمرة الأولى في حياتها.. وهذا أقلق صفية نوعاً ما وهي تقول مشيرة عبر نافذة العربة "أترين هذا يا مولاتي؟.. هذا هو الميناء الذي تدور حوله هذه المدينة.."
ثم أضافت بابتسامة "لا يمكنك تصديق ما يمر عبر هذا الميناء كل يوم من بضائع نفيسة.. يقال إن من يتمكن من السطو على هذا الميناء ولو لمرة واحدة، سيغدو ثرياً ما بقي له من العمر.. لكن طبعاً هناك حراسة قوية وفرق كاملة من الجنود تحرس الميناء من السرقات ومن أي هجوم متوقع من دولة معادية.."
لم تعلق رنيم بكلمة وهي تحدق من النافذة بصمت كعادتها مؤخراً.. عندها قالت صفية بإشفاق "لا تُتعبي نفسك بالتفكير فيما جرى يا مولاتي.. ما فعلته الملكة الأولى ليس غريباً عليها حقاً، لكنك لم تعرفي شخصيتها الحقيقية من قبل لأنك لا تهتمين لأمور القصور وما يجري فيها.. أنت بريئة التفكير ولا يمكنك تخيّل الدسائس التي تجري من حولك في القصر.."
غمغت رنيم "تقصدين أنني بلهاء لأنني ظننت أن الملكة الأولى سعيدة لزواجي كما هي أمي.."
أسرعت صفية تقول "لستِ بلهاء يا مولاتي.. بل ساذجة.. هناك فرق بين الاثنين.."
ابتسمت رنيم ابتسامة هازئة دون أن تعلق، فأضافت صفية "انسي ما جرى يا مولاتي.. لا نعلم متى سترين الملكة الأولى من جديد.. ثم إن مجد قد تمكن من حمايتك بنجاح حتى الآن، ولن يعجز عن فعل ذلك فيما بقي لنا من الرحلة.."
تنهدت رنيم وهي تعود بأفكارها لمجد.. وكلماته التي اختتم بها تلك الليلة المشؤومة لا تزال تتردد في ذهنها طوال الوقت.. (المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته).. أحقاً ستعيش في (الزهراء) حياة مشابهة للحياة التي عاشتها في قصر أبيها؟.. ما فائدة زواجها إذن؟.. أهي مجرد قطعة في رقعة شطرنج يحركها أبوها كيفما يشاء دون إرادة؟.. يبدو أنها فعلاً كذلك.. إنها تدرك ذلك منذ مدة، لكن لا تملك تغيير واقعها بشيء بتاتاً..
لاحظت أن الموكب قد توقف عن سيره، ولما نظرت من النافذة رأت ملامح الميناء واضحة لعينيها.. رغم أنها لم ترَ ميناء من قبل في حياتها، وهي التي لم تغادر العاصمة قبلاً، إلا أنه لم يكن من الصعب عليها إدراك مدى ضخامته.. وتبدّت لعينيها أعداد لا تحصى من السفن مختلفة الأحجام وقد توزعت في جوانبه بينما رسى بعضها في موقع أبعد قليلاً وسط الخليج بانتظار فراغ موقع قريب من رصيف الميناء.. ومع الحركة الشديدة في أرجاء الموقع، فإن الجنود فور وصولهم قد شكلوا طوقاً حول عربتها لمنع المتطفلين من الاقتراب منها حتى صعودها على السفينة القريبة..
هبطت رنيم من العربة متلفتة حولها وقد لاحظت كثرة الأعين الفضولية التي ترمقها من بين المتحلقين حول الموقع.. لكنها لم تعلق وهي تتقدم برفقة مجد ووصيفتها خلفها نحو السفينة القريبة.. غنيّ عن القول أن رنيم انبهرت بضخامة السفينة وحجمها وبهائها وهي تصعد إلى سطحها.. وخلال وقت قصير، كانت العربات الملكية قد حملت إلى قلب السفينة عبر معبر خاص، ومعها أغراض رنيم التي جلبتها معها..
ومع كل لحظة تمضي، كانت رنيم تتساءل وهي تجول في أرجاء السفينة "ألن تغرق السفينة مع حجمها الهائل هذا؟"
لكن مجد كان يجيب على أسئلتها القلقة بابتسامة جانبية وثقة شديدة.. ولما بدأت السفينة رحلتها الطويلة، تأكد لرنيم أن مخاوفها لم يكن لها أساس من الصحة.. كانت السفينة تقطع البحر وأمواجه بكل سلاسة وقوة والهواء المندفع يقوّس الأشرعة للأمام.. قضت رنيم الساعة الأولى تراقب رحلة السفينة مذهولة لهذه القدرة الخفية على الطفو فوق سطح المياه العميقة رغم وزنها الثقيل.. لكن لم يطُلْ بها الوقت قبل أن يداهمها غثيان شديد ودوار عنيف جعلها تتكوّم في جانب السفينة بتعب..
اقتربت منها صفية بقلق شديد وهي تهتف "مولاتي.. ماذا أصابك؟.. أأنت على ما يرام؟"
لوحت لها رنيم بيدها وهي عاجزة عن الإجابة، ولم تلبث أن أفرغت معدتها من فوق حاجز السفينة رغم مقاومتها لذلك.. فقالت صفية وهي تمسح جبهتها التي بدأ العرق ينضح منها وتناولها منديلاً "يحسن بنا أن نتجه للغرفة المخصصة لك.. هناك يمكنك أن تنالي قسطاً من الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة وتمايلها.."
سمعتا صوت مجد الذي اقترب قائلاً "لا.. على الأميرة أن تلجأ لغرفة أخرى.. سأنقل أمتعتها لغرفة ثانية تتوسط السفينة، وستكون أفضل بدون شك.."
تساءلت صفية بدهشة "أليست الغرفة الأولى هي الرئيسية في هذه السفينة؟.. لماذا تريد نقل الأميرة؟"
أجاب مجد "كما قلت لك، ستكون الأخرى أفضل لها وأكثر راحة.."
قالت صفية بشيء من الحدة لم تملكها "ليس من مقام الأميرة البقاء في غرفة صغيرة.. لقد تفحصت أغلب غرف السفينة وتلك التي تقع في مقدمتها هي الأكبر.. هل تهدف للتقليل من شأن الأميرة؟"
قال مجد وهو يعاون رنيم على النهوض "قطعاً لا.. لمَ أنت محتدة هكذا؟"
لكن رنيم قاطعت جدالهما وهي تجبر نفسها على السير بمعاونة مجد.. لم تكن تقوى على البقاء في موقعها والغثيان يزداد حدة مع كل لحظة تمضي.. بدأت الأرض من حولها تميل بشدة وبدت ساقاها لينتان تكادان لا تقويان على حملها.. ولولا اعتمادها على ساعد مجد القوي، لتهاوت بعد الخطوة الأولى أرضاً..
وعند وصولها للغرفة التي حددها لها مجد، أدركت رنيم أنها أصغر وأكثر ضيقاً من الأولى بكثير.. لكنها لم تقوَ على الجدال وهي تستلقي على السرير البسيط بعد أن غادر مجد متمنياً أن تسترد عافيتها بسرعة.. وبينما أغمضت رنيم عينيها بتعب، فإن صفية أخذت تجول في الغرفة الصغيرة وهي تقول بحنق "ما الذي يعنيه هذا؟.. أهو يتهاون بمقام الأميرة؟.. ألن تكون زوجة مولاه؟.. كيف يمكنه أن يتخذ تصرفاً كهذا دون الرجوع إلينا؟.."
لم تعلق رنيم بكلمة، لكن ما قالته قد دار في ذهنها لوقت طويل.. لقد لاحظت سخرية مجد منها في الأيام الماضية، وهي مبطنة بابتسامته الجانبية دون أن يتخلى عن تهذيبه الدائم.. ولقد بدأ هذا منذ رآها مهتمة بالفرس الخاصة به.. فهل بدأ يتهاون بمقامها حقاً؟.. لم تكن تهتم بتلك المقامات والدرجات الاجتماعية، لكنها لا تريد سخريةً من شخص ينتمي لزوجها المستقبلي مما قد يفسد زواجها لأمر أو لآخر.. فما الذي عناه مجد حقاً بهذا التصرف؟..

*********************

بعد أن ساد الظلام أرجاء السفينة، وخلدت وصيفتها للنوم في غرفة جانبية قريبة من غرفتها، نهضت رنيم بعد أن استردت شيئاً من قواها وراودتها رغبة قوية بالخروج من هذه الغرفة الضيقة.. فتحت بابها متطلعة للممر خارج الغرفة والذي سادته ظلمة موحشة، لكنها لم تعبأ بهذا وهي تغادر بصمت وخطوات خافتة متخلية عن حذائها لئلا يصدر صوتاً يجذب إليها الأنظار.. كان الغثيان قد خفت قليلاً إنما لا تزال تشعر بمعدتها متقلبة وكأنها ستخرج من فمها في أي لحظة.. تجاوزت ذلك الممر بأبوابه المغلقة حتى وصلت للسلم الخشبي الذي يقودها لسطح السفينة، فنظرت عبر الفتحة للحظات خشية وجود شخص على السطح قد يعترض على خروجها في ذلك الوقت المتأخر.. سارت رنيم عبر سطح السفينة الخشبي بخفة وهي تتنفس بقوة والهواء المنعش المشبع برائحة البحر يملأ رئتيها.. وللدهشة، بدأ الغثيان يخفت أكثر فأكثر وشعرت أنها ستغدو على ما يرام خلال لحظات.. لذلك شتمت مجد في سرها بعد أن أجبرها على البقاء في تلك الغرفة الخانقة..
سارت مستطلعة جوانب السفينة الواسعة، حتى وصلت لمقدمتها حيث رأسها المزخرف والذي يحمل علامة مملكة بني فارس المميزة بشكل بارز، بالأسد المزمجر والتاج الملكي على رأسه.. فوقفت قرب الحاجز الخشبي لتنظر للأفق المظلم وتطلّ على المسطحات المائية الشاسعة التي لم ترَ مثلها من قبل.. لم تعرف من قبل، مع كل ما تسمعه عن البحر، أن له سطوة كاسحة تُشعر ركاب السفينة بالضآلة والضعف.. كانت تتوق سابقاً لرؤية البحر وخوض غماره، لكنها الآن مع الضعف الذي تشعر به، فإن سطوة البحر بدت مهيمنة عليها وتثير رجفة في أعماقها بشدة..
ظلت رنيم تراقب الأمواج والهواء البارد يعبث بشعرها، ولما طال وقوفها على السطح الذي تمايل مع تمايل الأمواج تحته، عاد لها الشعور بالغثيان بقوة حتى أجبرها على إفراغ معدتها من فوق ذلك الحاجز.. ظلت رنيم في موقعها وهي تكاد تفقد قواها مع التعب والغثيان القوي، لكنها تشبثت بحد السفينة بإصرار وهي تلهث بقوة عندما فوجئت بضحكة تتعالى من موقع ما خلفها.. أدارت رنيم رأسها عابسة لترى، في موقع مرتفع من السفينة وعلى أحد صواريها، مجد ينظر لها بابتسامة جانبية كما أصبح يفعل في الأيام الأخيرة.. وسمعته يقول "لم أتوقع من أميرة نبيلة أن تفرغ معدتها بهذا الحماس أمام الآخرين.."
قالت بعبوس "ما الذي جاء بك لهذا المكان في مثل هذا الوقت؟"
أجاب رافعاً حاجبيه "للمرء الحق بأن يصاب بالأرق.. أليس كذلك؟.. كان حريّاً بك البقاء في غرفتك وإطاعة ما طلبته منك.."
لم تجبه رنيم وهي تبحث في ثوبها عن منديل تمسح به فمها، ولما لم تعثر على واحد قالت بضيق "تباً لهذه الرحلة المشؤومة.."
شعرت بشيء يسقط على رأسها، ولما مدت يدها إليه وجدت منديلاً سقط عليها بخفة بينما تعالى صوت مجد قائلاً "لا تلقي لعناتك على رحلتنا، فأنا سأكون الملام الوحيد لو لم نصل لوجهتنا سالمين.."
لم تعلق رنيم وهي تمسح فمها وتشعر بالغثيان يعود لها من جديد، بينما هبط مجد من موقعه المرتفع وهو يغمغم "يا لك من عنيدة.. عودي لغرفتك وخذي قسطاً من الراحة.. ستصبحين أفضل حالاً في الصباح.."
رآها تضغط على فمها بيد، قبل أن تقول بصوت متعب "الغثيان لا يخفت أبداً مهما تقيأت.. كيف تريدني أن أصدق قولك؟"
قال وهو يقف قريباً "لأنك ترفضين اللجوء لبعض الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة.. ثم إن وقوفك في مقدمتها حيث الحركة أشد وضوحاً كفيل بزيادة تعبك وشعورك بالغثيان.. الموقع وسط السفينة أكثر ثباتاً، لذلك أصررت على أن تبقي في إحدى الغرف القريبة من وسط السفينة.."
نظرت له بشيء من الدهشة.. إذن لم يفعل ذلك احتقاراً لها؟.. هل أخطأت الظن به؟.. شعرت بالسوء نوعاً ما، فأدارت وجهها جانباً وغمغمت "لقد شعرت بشيء من الراحة مع هذا الهواء المنعش، وهو أفضل من تلك الغرفة الخانقة بالتأكيد.."
عندها قال مجد "إذن هناك حل آخر أكثر ملاءمة لحالك هذه.."
نظرت له باستفهام، فأشار للأفق قائلاً "ثبتي بصرك على الأفق لبعض الوقت.. رؤيتك لحركة الأمواج القريبة تزيد من شعورك بالغثيان.. الأفق أكثر ثباتاً، وإطالة النظر إليه ستعيد التوازن لجسدك وسيخفت التعب سريعاً بعده.."
ترددت رنيم للحظات، ثم أخذت بنصيحته وهي تتأمل الأفق المظلم إلا من انعكاس نور القمر الخفيف على الأمواج.. ظلت تراقب الأفق بصمت ومجد يقف في موقع قريب يراقب البحر بدوره.. فتساءلت رنيم عن سر ذلك الاهتمام الذي يبديه مجد تجاهها.. أهذا بسبب مرضها؟.. هل يخشى من تأنيب الملك له لو حدث لها شيء في هذه الرحلة؟.. هل يشعر بالشفقة تجاهها؟.. ليس هذا ما تريده بحال..
بعد قليل، شعرت أنها أفضل حالاً.. ومع كل لحظة تمضي، تشعر أن تعبها وغثيانها يخفت أكثر فأكثر.. لكن ألن يعاودها الغثيان حقاً؟..
ويبدو أن مجد قد سمع تساؤلاتها الصامتة، فقال فجأة محطماً ذلك الهدوء "لو زال عنك الغثيان، فستكونين بخير لما تبقى لنا من الرحلة.. عليك أن تتعلمي التحكم بجسدك بصورة أفضل.."
غمغمت رنيم "وهل هذا ممكن حقاً؟"
أجاب مجد "يمكنك ببعض الإرادة لو كنتِ تملكينها حقاً.."
شعرت رنيم أن قوله يحمل بعض التأنيب لها بسبب ما دار بينهما من حديث في ليلة الهجوم عليها، وما تلاه من تهاون رنيم في التصرف بشكل حازم فيما يخصّ حياتها.. لكن مجد الذي لاحظ انقباض ملامحها بضيق، سارع ليقول "أتعلمين؟.. لم يكن رد فعلي في أول رحلة قمت بها على ظهر سفينة يختلف عما جرى لك.. بل ربما كان أسوأ.."
نظرت له رنيم بدهشة، فقال بابتسامة "رغم أنني كنت رجلاً تجاوز العشرين من عمره بعدة سنوات، لكني قضيت أغلب تلك الرحلة أفرغ معدتي من فوق حاجز السفينة بكل حماس.."
ضحكت رنيم لتعليقه، فيما قال بابتسامة "لذلك، أشعر تماماً بما تشعرين به.."
تساءلت رنيم "وإلى أين كنت ذاهباً على ظهر تلك السفينة؟"
أجابها متطلعاً للأفق "كنت متوجهاً للزهراء في رحلتي الأولى.. فأنا لست من سكان (الزهراء) في الحقيقة، بل نشأت في جزيرة صغيرة من (الأرخبيل الأسود) الذي يتوسط بحر السلام.. وعندما بلغت ذلك العمر، قررت أنني أريد التوجه لعاصمة الملك عبّاد والانضمام لجيوشه.."
استمعت له رنيم بشيء من الدهشة، ثم تساءلت بشغف "ما اسم الجزيرة التي نشأت عليها؟.. وكيف كانت تبدو؟"
أجاب بابتسامة لفضولها "تلك جزيرة صغيرة نسبياً تقع وسط الأرخبيل، واسمها (جزيرة القمة البيضاء).. وبسبب موقعها المتوسط فإنها قد شهدت بعض المعارك بين جيشي المملكتين المعاديتين كان آخرها قبل أن أرحل من الجزيرة بالفعل........"
علقت رنيم "لم أسمع بهذه الجزيرة من قبل رغم كثرة قراءاتي في مكتبة أبي.."
نظر لها مجد باهتمام قائلاً "حقاً؟.. لا أتوقع أن تتحدث الكتب عن جزيرة بغير أهمية كجزيرتنا، كما لم أتوقع بتاتاً أنك تحبين قراءة الكتب.."
علقت رنيم بشيء من التردد "أحبها بالطبع، لكن......"
خشيت للحظة من أن يسيء هذا لصورتها أمام مجد، لكنها وجدته يبتسم قائلاً "رائع.. هذا يثبت لي أنك بالفعل مختلفة عن بقية الأميرات فارغات العقل ممن لا يستهويهن إلا الجواهر والحلي.."
ابتسمت رنيم مع دهشتها لتعليقه، وقالت "في الواقع، تتذمر أمي باستمرار من كوني مختلفة.. وهذا سبب لضيقها مني منذ نشوئي.."
غمغم مجد "لابد أن الملكة تطمح لأن تكون ابنتها كما هن بقية الأميرات.. رغم أن هذا ليس الخيار الأفضل دائماً.."
ثم التفت إليها مغيراً الموضوع "أتعلمين أن أسطورة معينة تتردد عن الجبل الذي يتوسط جزيرتنا؟.. إنها أسطورة قديمة جداً وعلى جانب من الغرابة يجعلها بعيدة عن الصحة بشكل أكيد، لكن كبار السن يؤمنون بها بشكل مطلق.. إنها تقول إن اليوم الذي سيطلق فيه الجبل حممه ويلتهم نصف الجزيرة، سيكون هو اليوم الذي سيخرج فيه شاب من شبابها يملك مقدرة غير عادية على مواجهة هذا الخطر، وسـ........."
استمعت له رنيم بكل اهتمام وشغف.. كانت تحب قراءة الحكايات التي تحكي عن مناطق لم ترها من قبل في هذا العالم الواسع.. والآن، مع استماعها لمجد، فإن شعوراً مشابهاً قد راودها وهي تنصت له بكل اهتمام.. ورغم التعب الذي نال مجد من الرحلة في هذا اليوم، فإنه لم يتنصل من هذا الحديث مع رؤية اللهفة في عينيها وهي تستمع له.. ومع مرور الدقائق بسرعة كبيرة حتى قارب الفجر على الانبلاج، فإن رنيم لم تترك أي جزء من رحلات مجد في أرجاء مملكة بني فارس لم تسأله عنها.. وعندما طالبها أخيراً بالعودة لغرفتها لنيل بعض الراحة، غادرت رنيم عائدة لغرفتها وقد زال عنها شعور الضيق والكآبة اللذين استعمراها منذ تلك الحادثة.. بدأت تدرك أن مجد، رغم صرامته ورغم تصرفاته التي ضايقتها أحياناً، فإنه شخص طيب ولطيف معها.. والأهم من ذلك يملك الكثير من الحكايا التي أمتعتها وأنستها همومها ولو بشكل مؤقت..
وشيئاً ما، شعرت أن ذلك الرجل الذي يقارب في عمره عمر عمها الثاني، قد أصبح أقرب إليها بحكاياته وبلطفه الذي أظهره بشكل باغتها.. وأصبحت ترى أن رحلتها تلك ستغدو أكثر إمتاعاً وثراء مما ظنت بكثير..

*********************

عالم خيال 13-12-15 03:08 PM

رد: على جناح تنين..
 
هذه الرواية كما قلت لكم هي رواية خيالية بالدرجة الأولى..
مكونة من خمسة عشر فصلاً، بالإضافة لفصلين إضافيين..
أرجو أن تبلغوني لو كنتم تريدون تغيير نوع الخط أو لونه أو حجمه ليناسب القراءة..
وأتمنى أن تعجبكم أحداث الفصول حتى الآن..
وغداً موعدنا مع فصل جديد بإذن الله تعالى..

برد المشاعر 13-12-15 04:59 PM

رد: على جناح تنين..
 
يا هلا بيك في صرح ليلاس أختي الغالية عالم خيال وأتمنى تكملي الرواية دون توقف ‏عرفت من العنوان إنها بتكون خيالة وحسيت خلال قرائتها وكأني أشوف مسلسل تاريخي قديم ‏لغتك العربية جدا نظيفة وسلسة الصراحة أهنيك على خلو نصوصك من الشوائب والأخطاء وبشكل كامل تقريبا ‏في انتظار وصول رنيم لمملكة فارس وللزهراء ويا خوفي من ولي العهد كيف بيكون هذا لو وصلت طبعا ‏شكرا عزيزتي على الرواية ذات الطابع المختلف ولك كل ودي ‏

عالم خيال 13-12-15 08:26 PM

رد: على جناح تنين..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة برد المشاعر (المشاركة 3581232)
يا هلا بيك في صرح ليلاس أختي الغالية عالم خيال وأتمنى تكملي الرواية دون توقف ‏عرفت من العنوان إنها بتكون خيالة وحسيت خلال قرائتها وكأني أشوف مسلسل تاريخي قديم ‏لغتك العربية جدا نظيفة وسلسة الصراحة أهنيك على خلو نصوصك من الشوائب والأخطاء وبشكل كامل تقريبا ‏في انتظار وصول رنيم لمملكة فارس وللزهراء ويا خوفي من ولي العهد كيف بيكون هذا لو وصلت طبعا ‏شكرا عزيزتي على الرواية ذات الطابع المختلف ولك كل ودي ‏

أهلاً بك يا أختي..
سعيدة بوجودي هنا..
يمكنك مناداتي (خيال) فقط فهو اسمي الرمزي
لكني لم استطع اختياره عند الاشتراك في المنتدى لأنه غير متوفر
سعيدة برأيك بالرواية وقراءتك لها..
كما قلت هي كاملة، وقد عرضتها على المنتدى سابقاً
لذا لن أتأخر في عرضها إلا لو طرأ طارئ
أتمنى أن تعجبك الرواية للنهاية
وثقي أنها ستحمل لك مفاجأة في وقت ما..

برد المشاعر 13-12-15 08:49 PM

رد: على جناح تنين..
 
شكرا غاليتي خيال ومتشوقة للقادم ويا خوفي تكون المفاجأة إن مجد لو الاسم صح هوا العريس هههه أو يكون اختارها بس لأنها طايشة وبايعة الدنيا ‏

عالم خيال 13-12-15 10:06 PM

رد: على جناح تنين..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة برد المشاعر (المشاركة 3581306)
شكرا غاليتي خيال ومتشوقة للقادم ويا خوفي تكون المفاجأة إن مجد لو الاسم صح هوا العريس هههه أو يكون اختارها بس لأنها طايشة وبايعة الدنيا ‏

ربما..
وربما يفوق الأمر توقعاتك..
انتظريني بالفصل القادم غداً بإذن الله..

همسة تفاؤل 13-12-15 11:50 PM

رد: على جناح تنين..
 
حيا الله خيال ومرحبا فيكي بينا

من زمان عن قراءة الروايات الخيالية

جذبني اسم الرواية جناح التنين وحتى الان ما عرفنا قصته والغرض من الاسم وما وراءه

ما شاء الله لغتك جميلة وسلسة ووصفك مبهر للأماكن والاحداث مع اني مو متذكرة نص المناطق الي ذكرتيها بس مو مشكلة اهم شي قوة القصة


اتوقع ان رنيم ستحصل خلال رحلتها على المغامرة التي لطالما حلمت بها ومجد سيكون رفيقها في المغامرة

فماذا خبأت لنا غاليتي

تقبلي ودي

برد المشاعر 14-12-15 03:24 AM

رد: على جناح تنين..
 
شكله في شخص ثاني غير مجد وابيطلع ولي العهد وربك يستر ما تقول قدامه إنها رافضه الزواج هههه ‏

حمستيني خيال شكل المفاجأآت ما بدئت للآن ‏

ومرحبا بيك أمونة معانا تشاركينا الرحلة لبلاد فارس ‏

فيت المشاكسه 14-12-15 05:26 AM

رد: على جناح تنين..
 
واو روعه تحمست لجو قصص شهرزاد وسندريلا رنيم شخصيه حلوه اعشق نمط هذه الشخصيات في انتظارك غاليتي خيال موفقه

ميرنا عمرر 14-12-15 08:16 AM

رد: على جناح تنين..
 
موفقه اختى روايه باين من اولها روعه باانتظارك فى الفصول الجايه وشكررررر من القلب

عالم خيال 14-12-15 01:22 PM

رد: على جناح تنين..
 
سعيدة بوجودك في موضوعي يا أختي همسة تفاؤل
وسعيدة بوجودي معكم
أتمنى أن تستمتعي بهذه الرواية الخيالية بكافة أحداثها
العنوان لن يتوضح مغزاه إلا في وقت متأخر من الرواية
أما الآن فأتركه لخيالكم
ليس المهم أن تذكري كل الأماكن المهم أن تعيشي فيها وقتها
أنتظر رأيك بالرواية مع الفصول القادمة بإذن الله


***

يبدو أنك متحمسة للمفاجآت يا أختي برد المشاعر
البداية ستكون هادئة قليلاً لكنها لن تخلو من المفاجآت في الجزء الثاني منها


***

شاكرة لك حماسك لجو الرواية يا أختي فيت
أتمنى أن تتابعي رنيم مع رحلتها الطويلة لتغيير شخصيتها وعالمها كله
وأرجو أن ينال التغيير إعجابك


***

شكراً لك أختي ميرنا على حماسك وتشجيعك لي
سأنشر الفصل الجديد بعد قليل وأتمنى أن ينال إعجابك

عالم خيال 14-12-15 01:29 PM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الثالث: الجانب المظلم للقمر


عندما وصل الموكب الملكي إلى العاصمة (الزهراء)، عاصمة مملكة بني فارس، فإن رنيم لم تملك نفسها من الانبهار بها وهي فارغة فاهها بدهشة تامة.. كانت عاصمة مملكة بني غياث لا توازي (الزهراء) بأي حال من الأحوال رغم كل جهود أبيها الدؤوبة.. ومساحتها الصغيرة التي تحدها الجبال من كل جهة لا تقارن بمساحة (الزهراء) الشاسعة والتي بنيت وسط سهل واسع يمتد على مدّ البصر يقطعه نهر عريض يخترق جانباً من المدينة الكبيرة.. وقد بدت لها المدينة بغاية الجمال والأناقة دون بهرجة رغم أنها لا ترى أي علامات على إعدادات مسبقة للاحتفال بوصولها..
وفوق موقع مرتفع وسط المدينة، ارتفع القصر الملكي بأبراجه العالية وبواباته الذهبية والتماثيل التي تحمل شعار المملكة موزعة في شرفاته وفي مواقع مدروسة من أسواره بحيث تبدو للناظر إلى القصر من بعيد.. وعلى الأبراج رفرفت الأعلام الحمراء الخاصة بالمملكة.. كان منظر القصر بديعاً جعل رنيم تحدق فيه بانبهار تام.. رغم رفضها لفكرة العيش في ظل أسوار القصور، لكن هذا القصر البديع قد جذب انتباهها رغماً عنها.. وشيئاً ما، راودها خاطر أن لا يكون الأمر بالسوء الذي توقعته منذ أسابيع مضت.. لا يمكن أن يكون صاحب هذا القصر الجميل قاسي القلب، كما لا يمكن لحياتها هنا أن تكون سيئة.. عليها أن تتحلى ببعض الأمل، فهو لا يضرّ أحداً..
بعد أن تجاوز الموكب بوابات القصر، وسار لمسافة طويلة بين حدائقه التي ازدانت بعدد لا يحصى من الأشجار ذات الأزهار الزاهية التي حمل النسيم الدافئ شذاها الذي يخلب الألباب.. وبعد بعض الوقت، وجدت رنيم أن العربة قد توقفت أمام سلالم القصر حيث رأت جمعاً من الأشخاص من ذوي المناصب في القصر وبعض الخدم قد استعدوا لاستقبالها، وزيّن الموقع بباقات ورد ضخمة بديعة المنظر..
لاحظت رنيم مجد الذي تقدم من العربة وفتح بابها قائلاً "يسعدني الترحيب بك في العاصمة (الزهراء) وفي قصر مولاي الملك عبّاد.. واعذريني لأي تقصير بدر مني أو من رجالي أثناء تلك الرحلة الطويلة.."
ابتسمت رنيم برقة ملاحظة حديثه بلهجة رسمية، مخالفاً ما كان يفعله في الأيام الأخيرة من رحلتهما تلك.. فأجابته قائلة "شاكرة لك جهودك يا مجد.. أنت لم تدّخر وسعاً في حمايتي طوال الرحلة.."
وتناولت يده ليعينها على الهبوط من العربة بعد أن ظهر عليها التوتر الشديد للأعين التي تحدق بها من لجنة الاستقبال تلك.. ولما استقرت أرضاً، عدّلت رنيم ثيابها بشيء من التوتر وهي تبتسم لمن حولها، قبل أن تستدير إلى مجد متسائلة بصوت خافت "ألن أراك بعد اليوم؟"
ابتسم مجد معلقاً "أنا أعيش في هذا القصر، وأنا كما تعلمين قائد الحرس هنا.. لذلك، سنرى بعضنا بعضاً بكل تأكيد.."
ابتسمت رنيم براحة لهذا الخبر، فيما أحنى مجد رأسه لها باحترام قبل أن يتراجع.. ثم سمعت رنيم صوتاً خلفها يقول "مرحباً بك في (الزهراء) يا مولاتي.. اتبعيني رجاءً.."
استدارت رنيم تابعة المتحدث دون أن تعلم هويته، ملاحظة أن أحداً من أصحاب القصر لم يأتِ لملاقاتها.. لكن ربما كان هذا للأفضل، فلا بد أنها بهيئة بشعة بعد هذه الرحلة وبعد الإرهاق الذي نالها خلالها.. لذلك فهي سترحب ببعض الراحة قبل أن تقابل زوجها المستقبلي، وقبل أن ترى الملك والملكة وتحاول نيل رضاهم عنها بأي شكل من الأشكال..
أول ما لحظته رنيم لدى عبورها بوابة القصر الضخمة، هي الرائحة العطرة التي تشبه رائحة الصندل ممزوجة بعبير بعض الزهور الشذية والذي نبع من نافورة ضخمة تتوسط بهو القصر.. اقتربت رنيم من النافورة التي تبدو على شكل عدة أسود ينبع الماء من حلقها وأحدها يرتدي التاج الملكي، ولما بللت يدها بالماء تمكنت من شمّ الرائحة بوضوح من أصابعها.. لكن الرجل الذي اصطحبها بدا نافذ الصبر مما جعل رنيم تتجاهل ما تراه وهي تتقدم خلفه قاطعة البهو الواسع الذي ملئ لوحات فخمة وزخارف بهيجة المنظر.. ومن البهو إلى رواق واسع بدا يتسع لعربة كبيرة الحجم للمرور عبره بسهولة دون أن ترتطم بالجدران ذات الأعمدة المنقوشة ومجموعة التحف الثمينة التي صفّت على طوله بشكل متناسق..
تبعت رنيم الرجل عبر عدة أروقة وقاعات واسعة حتى قادها إلى جناح يتوسط القصر بدا مخصصاً لها وعلى بابه وقفت خادمة من خدم القصر منحنية لها باحترام.. وبينما جالت رنيم في أرجاء الجناح، فإن الرجل قال لها بلهجة رسمية "مولاتي الملكة ستقابلك عند انتصاف هذا النهار.. وسيأتي شخص لاصطحابك في الموعد المحدد.. أتمنى لك الراحة في جناحك يا مولاتي.."
شكرته رنيم وهي تدير بصرها في الجناح الواسع.. ثم توجهت رأساً للسرير الفخم ورمت نفسها عليه قائلة بتعب "أخيراً.. سرير مريح يمكنني أن أستلقي عليه.."
قالت صفية التي تبعتها وهي تتفحص الجناح بدورها "سأتركك لتنالي قسطاً من الراحة يا مولاتي.. وسآتي قبل موعد مقابلتك مع الملكة لتستعدي لها بشكل ملائم.."
لم تعلق رنيم وهي تغمض عينيها بصمت.. لقد أنهكتها الرحلة الطويلة التي تخوضها للمرة الأولى في حياتها.. لا يمكن لمن عاش حياته حبيس منزل أو قصر أن يرتحل مثل هذه المسافة دون أن يصاب بإنهاك شديد وتعب بالغ.. كل ما تريده الآن هو بعض الراحة، قبل أن تبدأ حياتها الجديدة في هذه المدينة..
وبعد بضع ساعات، سارت رنيم خلف أحد الخدم للقاء الملكة في إحدى القاعات الواسعة للقصر، وهي القاعة الزرقاء التي تزهو بجدران ذات لون أزرق بزرقة البحر وكراسٍ سماوية وأرضية بيضاء تبرز زرقة المكان بشكل أكبر.. وفي جانب تلك القاعة، جلست الملكة على كرسي فخم وثير بانتظار ضيفتها..
من اللحظة الأولى، أدركت رنيم أن المقابلة لن تكون ممتعة بحال.. فمع النظرات الباردة التي رمقتها بها الملكة ومع شفتيها المزمومتين وهي تتفحص رنيم بعينٍ غير راضية، أدركت رنيم أن مجهوداً كبيراً يستلزمها لنيل رضى الملكة.. كانت الملكة سليمة تتجاوز الخامسة والأربعين من عمرها، بوجه طويل نحيف وأنف طويل يوحي بالقسوة، وعينين بنيتين تخلوان من أي مشاعر.. شعرها بني أشقر خالطه بياض لا يكاد يبدو لتقاربه من لون شعرها السابق، وهي نحيفة وتبدو بطول يفوق رنيم رغم جلوسها..
انحنت رنيم للملكة بتوتر وهي تقول "سعيدة للقائك يا مولاتي، وسعيدة لتشريفكم لي بهذا الزواج.."
بدا أن الملكة كانت ستعلق على هذا القول، لكنها عزفت عن ذلك وهي تشير لرنيم لتجلس على كرسي قريب.. فجلست رنيم بتوتر بالغ وهي تعدل ثوبها وتدير الخاتم في إصبعها بشكل متكرر.. وبينما ظلت الملكة تتفحصها بشكل صريح ووقت طويل، فإن رنيم ظلت على صمتها بانتظار أن يسمح لها بالحديث.. تخشى إن حاولت التحدث دون إذن ألا تنال رضى الملكة وأن تظهر بمظهر يسيء إليها.. وبعد بعض الوقت، قالت الملكة "اسمك رنيم.. أليس كذلك؟.. يبدو الاسم جميلاً بشدة، ولا يناسبك شيئاً ما.."
نظرت لها رنيم بصمت ودهشة.. أهي تسخر من هيئتها؟.. ثم غمغمت وهي تخفض رأسها "شاكرة لك يا مولاتي.."
كانت أصول اللياقة تقتضي منها أن تتقبل كل ما يقال لها مهما كان جارحاً، بل وتشكر قائله بحرارة وكأنه أسدى لها معروفاً، ما دام القائل يفوقها منصباً ومكانة.. ألم يكن الأحرى بالمتحدث أن يمتلك بعض التهذيب على الأقل؟..
قالت الملكة بابتسامة جانبية "هل أذهلتك (الزهراء)؟.. سمعت أن (بارقة) عاصمة مملكتكم صغيرة جداً وذات شوارع ضيقة.. لا أظن أن الموقع يسمح بإنشاء قصر ضخم ومهيب يناسب ملك مملكة.. أليس كذلك؟"
غمغمت رنيم بحلق جاف "هو كذلك يا مولاتي.."
تساءلت الملكة "هل يملك ولي العهد قصراً خاصاً به؟.. لابد أنه كذلك بالنظر لمكانته في مملكة أبيه.."
قالت رنيم "لا.. لا يملك غياث قصراً خاصاً به.."
رفعت الملكة حاجباً معلقة "سمعت أنه متزوج.. كيف لا يملك ولي العهد قصراً خاصاً به بعد زواجه؟.. الأمير زياد له قصر خاص في جانب (الزهراء)، وسينتقل للسكنى فيه بعد زواجه.. ظننت هذا ما هو متبع في بقية الممالك.."
غمغمت رنيم بخفوت "لست أدري عن ذلك شيئاً يا مولاتي.."
أضافت الملكة وهي تدير وجهها جانباً بابتسامة متسعة "لا أدري حقاً لمَ تسمى تلك مملكة.. المفترض أن تكون مجرد ولاية تابعة للممالك الأكبر حجماً والأكثر تأثيراً في هذا العالم.."
كانت الابتسامة قد غابت عن شفتي رنيم وهي تستمع لتلك الكلمات المهينة وتغمغم بلا انقطاع "هو كذلك يا مولاتي.."
بدت لها الملكة وكأنها تتعمد ترديد تلك الإهانات مقللة من شأن رنيم بكل وضوح.. ما الذي يعنيه هذا؟.. في النهاية، عجزت رنيم عن التعليق وظلت صامتة خافضة وجهها الذي بدا شاحباً بشدة.. عندها قالت الملكة بابتسامة جانبية "أتمنى ألا تكون تعليقاتي قد ضايقتك يا فتاة.. إنها المرة الأولى التي نستقبل فيها أحداً من مملكة بني غياث.. لذلك غلبني بعض الفضول فيما يخص مملكتكم القصيّة.. لا تأخذي كلماتي على محمل الجد يا عزيزتي.."
فضول؟.. بدت لها الكلمات تجريحاً متعمداً واستهانة بها أكثر من كونه مجرد فضول.. لكن رنيم لم تعلق وهي تقول بابتسامة "لا تقلقي يا مولاتي.. لا يمكن أن أسيء الظن بأي شيء تقولينه.. فنحن سنصبح عائلة واحدة قريباً.."
بدا أن جملة رنيم قد أساءت للملكة التي غابت الابتسامة عن شفتيها وهي ترمق رنيم قائلة ببرود "حقاً.. سنصبح كذلك.. لكن، من يدري؟"
ثم لوحت بيدها منهية المقابلة بقولها "لا بأس.. استعدي للقاء الملك والأمير زياد غداً.."
نهضت رنيم وانحنت للملكة باحترام، دون أن تلتفت الملكة إليها.. وقبل أن تستدير مغادرة سمعت الملكة تقول بابتسامة "سنرى إن كنتِ ستنالين إعجاب الأمير زياد غداً.."
لم تعلق رنيم وهي تستدير مغادرة بصمت.. ترى، ما الذي يعنيه هذا؟.. لمَ تعاملها الملكة بهذه العدائية والبرود المتعمد؟.. هل أخطأت رنيم الظن أن الملكة كارهة لارتباطها بابنها الأمير زياد؟.. هذا شيء لم تتوقعه رنيم بتاتاً..

*********************

في اليوم التالي، استعدت رنيم للقاء الملك والأمير زياد في وقت مبكر.. ورغم أنها لم تحضَ بنوم طويل بعد أن أصابها أرق شديد وهي تعيد كلمات الملكة مراراً وتكراراً بقلق، إلا أن التوتر لم يسمح لها بالخمول والراحة لوقت طويل.. وعندما جاء أحد الخدم لاصطحابها لمقابلة الملك، فإنها زفرت بشدة لإفراغ توترها وهي تستدير لتتبعه، بينما همست لها صفية قبل أن تغادر "كوني واثقة من نفسك يا مولاتي.. أنت أجمل مما قد يتمنى الأمير زياد.."
لم تعلق رنيم على قولها الذي بدا خالياً من الصحة، بل سارت خلف الخادم متخذة طريقاً لم تسلكه من قبل في القصر وهي تلتزم الصمت التام.. كان منظر الحدائق التي يطل عليها القصر بهيجاً، لكن رنيم التي ألقت عليها نظرة عابرة لم تكن ببالٍ يسمح لها بالتفكير في جمالها.. كل ما تطمح إليه هو أن تمضي الساعة القادمة على خير، ففي هذه الساعة سيتحدد مصيرها في الأيام والشهور وربما السنوات القادمة..
وصلت رنيم إلى رواق يؤدي لبوابة ذهبية ضخمة وقد نحت نصف وجه الأسد، وهو شعار المملكة بتاجه الملكي، على كل جانب من البوابة بحيث يكتمل الوجه عند إغلاقها.. كان الشعار يدل بوضوح أن البوابة تؤدي لقاعة العرش الخاصة بالملك عبّاد، وقرب البوابة، استطاعت رنيم أن تلمح مجد الذي وقف يتحدث مع بعض الحراس..
ابتسمت رنيم بتوتر لدى رؤيته، بينما اقترب منها مجد قائلاً "سعيد برؤيتك مجدداً يا مولاتي.. هل أتيتِ لمقابلة الملك والأمير زياد؟"
هزت رنيم رأسها إيجاباً، فقال مجد "إذن لابد أنك قد قابلت الملكة سابقاً.. فكيف جرى ذلك اللقاء؟.."
انثنى فم رنيم بابتسامة مرتبكة وهي تخفض بصرها بصمت، وقبل أن تفتح فمها بكلمة، سمعت مجد يقول زافراً "لا بأس.. لا حاجة بك لقول شيء.. يمكنني توقع ما جرى مع شخصية كالملكة سليمة.. لابد أنها أحالت تلك الدقائق لجحيم بالنسبة لك.."
لم تعلق رنيم وهي تتذكر استقبال الملكة البارد لها وتعليقاتها التي لم تخلُ من استهزاء بها وبمملكة بني غياث عموماً.. وهذا جعلها تتساءل حقاً عن سبب قدومها لهذا القصر لو كان أصحابه غير مرحبين بها.. ولدى هذا الخاطر فإنها شعرت بتوترها يزداد أضعافاً مضاعفة ويربكها.. فقالت لمجد القريب منها بصوت حمل توترها وقلقها "ألن تتمنى لي حظاً موفقاً؟.. أنا على أبواب نقطة فاصلة في حياتي، وبحاجة لحظ كبير كي أوفّق فيها.."
لم تسمع من مجد استجابة إلا زفرة بيّنت لها ضيقاً شديداً يشعر به.. فالتفتت إليه بابتسامة متوترة وعلقت "لا تقل لي إنك قد وقعت في غرامي وتشعر بضيق لزواجي من الأمير؟.."
لكن ملامح مجد الصامتة لم تبدُ مرحبة بهذا التعليق الساخر، فعادت ببصرها للبوابة التي بدأت تفتح مضيفة "لو كنت واقعاً في غرامي حقاً، فما رأيك بأن تختطفني من هذا القصر وتذهب بي لموقع بعيد لا يصل إليه أحد؟.. أشعر برغبة شديدة في الهروب من هذا المكان.."
رغم أن رنيم كانت تمزح بهذا القول في محاولة منها لإزالة التوتر الذي تشعر به، لكنها شعرت لوهلة أنها سترحب بهذا الحل بشدة لو حاول مجد تنفيذه.. لكنها شعرت بمجد يدفعها بخفة لتسير نحو القاعة معلقاً "أنت بالفعل لا تستحقين هذه الزيجة.."
لم تدرِ رنيم إن كان ذلك التعليق موجهاً نحوها أم نحو الأمير زياد.. من الذي لا يستحق الآخر؟.. سيتضح ذلك بعد لحظات عندما تقابله، وتدرك نوع الحياة التي ستحياها بعد الآن انطلاقاً من تلك اللحظة..
سارت رنيم في قاعة العرش نحو نهايتها وهي تخفض بصرها.. ولما وقفت في الموقع المحدد لها كما تقتضي الأعراف انحنت بكل لباقة تملكها قائلة "يسعدني ويشرفني المثول أمامك يا مولاي الملك.. قدومي لهذا القصر هو شرف لي ولمملكة بني غياث.. ومساندتك لأبي الملك جميلٌ لن ينساه لك مدى الحياة.."
أتاها صوت الملك الهادئ وهو يقول "ارفعي رأسك يا فتاة.. اسمك رنيم، أليس كذلك؟"
أجابت رنيم وهي ترفع بصرها للملك "أجل.. هو كذلك يا مولاي.."
كان الملك لا يكبر أباها بكثير، إنما أكثر سمنة وبلحية أطول خالطها البياض حتى لم يبقَ فيها إلا لمحة من سواد قديم.. عيناه الضيقتان ترمقانها بشيء من عدم الاهتمام، وكأنه يستقبلها لأنه أمر واجب منه لا غير، ولو خيّر لفضّل القيام بأعمال أخرى أكثر أهمية من مقابلة خطيبة ولي عهده.. ثم سمعته يقول بعد لحظة صمت "أتمنى أن تكوني عند حسن ظني بك، وأن تتأقلمي في هذا القصر بأسرع ما يمكن.. سيتم زفافك بعد قدوم الملك قصيّ وعائلته، وسيكون الزفاف مشرّفاً وفخماً كأفضل ما يكون.. لذلك، وحتى ذلك الوقت، أتمنى ألا أواجه أي صدام بينك وبين الملكة، وهو أمر حتمي مع رفضها السابق لزواج زياد منك بسبب صِغَر مملكة أبيك.."
دهشت رنيم لتصريح الملك بذلك رغم أنها أدركته في اليوم السابق من الملكة نفسها، لكنها انحنت قائلة "لا تخشَ شيئاً يا مولاي.. أنا رهن إشارتكم وسأكون كما تحبّون وكما تحب الملكة بالتأكيد.."
وبعد حوار بسيط، انتبهت رنيم للصوت الذي أعن عن قدوم الأمير زياد ولي عهد المملكة.. فتوترت بشدة وهي تشد جسدها لتمنحه طولاً واستقامة أجمل وتعدل زينة شعرها بأصابع مرتجفة.. إن هي إلا لحظات ويتحدد مصيرها ومستقبلها.. صحيح أنها جاءت بدعوة شخصية من الملك وولي عهده، لكن لو لم ترُق للأمير فلا تظن أن يتم هذا الزواج حتى لو كانت توابع هذا الرفض كبيرة في العلاقة بين المملكتين.. فالأمير من مملكة أقوى ولا يخشى عواقب أفعاله فلابد أن أباه الملك سيسانده رغم كل شيء..
أمسكت رنيم جانب ثوبها الزاهي بقبضتها واعتصرته بتوتر.. تودّ لو تمكنت من رؤية وجهها في المرآة قبل لقاء ولي العهد.. بودها لو عرفت ما الذي سينال رضاه وما الذي لن يروق له.. لمَ يجب أن يكون الأمر عسيراً هكذا على النساء؟.. سمعت عدة خطوات تقترب من موقعها، فخفضت وجهها وبصرها، ولما لمحت طرف الحذاء اللامع الذي وقف أمامها سمعت صوتاً يقول "أهذه هي العروس المنشودة؟.."
انحنت رنيم بخفة وهي تقول بصوت هامس "لي الشرف بمثولي أمامك وباختيارك لي يا مولاي.. والدي الملك يرسل لك عميق شكره.........."
قاطعها الشاب قائلاً بضجر "أعرف كل ذلك.. كفّي عن اللغو وارفعي رأسك.."
رغم صدمتها، إلا أنها لم تظهر ذلك في ملامحها وهي تعتدل بعد انحناءتها ونظرت للأمير الذي وقف أمامها بصمت.. ورغم توترها، لم تمنع نفسها من تفحص الأمير الذي نظر لها متفحصاً بدوره.. ورغم الملابس الثمينة والأنيقة التي يرتديها، فإن جلّ ما يملكه ولي العهد هو منصبه وشبابه، وهو كما علمت لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.. فوجهه لا يلفت النظر وملامحه عادية، فلا يملك وسامة قد تبهرها أو حتى جاذبية قد تستميلها.. لكنه لم يكن بشع الهيئة على الأقل.. بوجه نحيف وطويل، وشعر بني قصير، وعينين ضيقتين تنظران لها بنظرات بها شيء من خيبة الأمل، ولحية خفيفة مشذبة بعناية.. وهو يقاربها في الطول مما جعل رنيم تدرك أن عليها الكف عن ارتداء أحذيتها ذات الكعب العالي لئلا يبدو الأمير أقصر من اللازم.. هذا لو كانت قد راقت له لدرجة إتمام الزواج، ونوعاً ما أدركت أن هذا لم يحدث من نظراته المستاءة وهو يلتفت إلى أبيه معلقاً "لقد رفضت أميرات أجمل منها في السابق يا أبي.. فلمَ هذه بالذات؟.."
احتقن وجه رنيم شيئاً ما وهي تقف في موقعها بصمت مندهشة من تعليق الأمير الخالي من التهذيب، بينما قال الملك "لقد اتفقنا على هذا الأمر سابقاً، وأنت أعلنت عن رضاك بهذه الزيجة بعد اجتماعك بالوزير حارث"
قال الأمير بحنق "لكن ذلك الرجل الخَرِف قد بالغ في مدح جمالها حتى ظننت أنني سأرى حورية من الجنة.."
تزايد احمرار وجه رنيم وهي تشعر بشعور كريه لم يسبق لها الإحساس به، ولم تتمكن من إطلاق اسم على تلك المشاعر بينما قال الملك بصرامة "زياد... ألا تملك وسيلة أخرى للتعبير عن سرورك برؤية زوجتك المستقبلية؟.."
زفر زياد للحظة، ثم التفت إلى رنيم بابتسامة جانبية وقال "أرحب بك طبعاً في مدينتنا الرائعة.. بغضّ النظر عن شعوري لرؤية (زوجتي المستقبلية)، فلابد أنك بقمة السعادة لرؤية هذه المدينة العظيمة مقارنة بقريتكم الصغيرة التي تطلقون عليها اسم (عاصمة).."
لم تجد رنيم ما تقوله على هذا الاستهزاء، إلا أنها تجاوزت هذا بعزيمة قوية وهي تنحني قائلة بخفوت "إن العاصمة أجمل مما تخيلت بكثير.. وأنا بقمة السعادة لرؤيتها ولنيل شرف مقابلتكم يا مولاي.."
بغض النظر عن صحة الجزء الأول فقط من جملتها، وبغض النظر عن خيبتها الشديدة بتصرفات الأمير زياد التي تبدو لها خالية من أي تهذيب، فإن على رنيم أن تتجاوز هذا وتبتلع غصتها بصمت.. فهي لا تنسى وصايا أبيها التي لاحقتها ليل نهار في كل مرة رآها فيها منذ وصل موكب الوزير لمدينتهم لأول مرة، ولا وعيد أمها لو فكرت بالعودة لقصر أبيها دون إتمام ذلك الزواج..
سمعت الملك يقول لها "عودي لجناحك يا سمو الأميرة.. سنقيم حفل استقبال لك خلال الأيام القادمة، عليك أن تكوني مستعدة لتبهري الحضور.."
سمعت الأمير يطلق ضحكة هازئة وهو يغمغم "(تبهر) الحضور..؟!!"
لم تعلق من جديد وهي تخفض رأسها قائلة بهدوء "كما يأمر مولاي.."
واستدارت مغادرة بينما وصل لسمعها صوت الأمير بوضوح قائلاً "الجارية التي اشتريتها الشهر الماضي تفوق هذه (الأميرة) جمالاً بعشرات المرات.. لا أدري لمَ تفرض عليّ الزواج بأميرة!.."
قال الملك بحنق "هل تريد أن يتولى وراثة عرشي من بعدك ابن جارية؟.. إن للحمق حدوداً.. كما أن لمملكة بني غياث موقع استراتيجي سيفيدنا في تعزيز أمن مملكتنا قبل أن تشتعل الحروب بيننا وبين مملكة كشميت، وهو أمر لا أستبعده كثيراً.."
عضّت رنيم شفتها السفلى بمزيج الحنق والمرارة دون أن تشعر بأي راحة لجواب الملك.. حافظت على هدوء خطواتها خارجة من القاعة وهي تحاول لملمة مشاعرها المبعثرة.. الآن عثرت على اسم مناسب لما شعرت به وهي تقف أمام ولي العهد.. الدونيّة.. هذا الشعور الكريه الذي سحقها وأشعرها أنها لا تفوق أي خادمة في القصر مكانة..
بعد أن أغلقت أبواب القاعة خلفها، انتبهت رنيم لوجود مجد قرب إحدى النوافذ التي تتوزع على طول ذلك الرواق.. فاقترب منها عند خروجها متسائلاً "كيف جرى الأمر؟"
تعلق بصرها به قائلة بمرارة "أحقاً لا تفكر باختطافي؟.. قد أرحب بذلك بشدة الآن.."
جذبها بعيداً عن مسامع الحراس القريبين حتى وقفا قرب النافذة ورنيم تشد على يديها بضيق وكآبة.. فقال مجد "هل كان الأمر سيئاً لهذا الحد؟"
غمغمت بصوت يحمل غصة واضحة في حلقها "بل أسوأ مما ظننت.. ظللت أوهم نفسي طوال الشهر الماضي أن الأمير قد يحوز على إعجابي، أو أنه قد يكون شخصاً طيباً يمكنني التفاهم معه.. لكن آمالي تبددت لحظة رؤيتي له.. ولا أعلم أي مستقبل قد أرجو لو أصبحت زوجته.."
غمغم مجد "كنت أثق أن الأمير زياد لا يستحقك.. إنه يستحق فتاة فارغة العقل مثله.. لكنه أمر لا يمكنني التدخل فيه.."
خفضت رنيم بصرها بمرارة، ومجد يتأملها بصمت، ثم علق قائلاً "لا تحزني.. قد يأتي الرفض من الأمير زياد وبهذا تتنصّلين من هذا الزواج دون عواقب.."
قالت رنيم بصوت متهدج "بل إن هذا قد يكون له أسوأ الأثر.. لقد هددني أبي بأنه لن يستقبلني مجدداً في قصره لو تسببت في إفساد هذا الزواج.."
بدا الإشفاق في عيني مجد وهو ينظر لملامحها المضطربة، لكنه قبل أن يعلق سمع صوت الأمير زياد يقول بشيء من الحدة "ما الأمر؟.. ما الذي تريده (سمو الأميرة) منك يا مجد؟"
لم يفت رنيم رنة السخرية في صوت الأمير زياد، لكنها لم تعلق أو ترفع وجهها وهي تنحني له، بينما أجاب مجد "لا شيء.. إنها تتساءل عن سبب اختفاء بعض أمتعتها التي أحضرتها معها.."
قال الأمير بصلافة "دعك منها.. وأعدّ بعض الرجال لمرافقتي.. سأخرج بعد قليل.."
وغادر دون أن يبادل رنيم كلمة واحدة، بينما ربت مجد على كتفها هامساً "تحلّي ببعض الصبر.."
ثم غادر لينفذ أوامر الأمير بينما همست رنيم لنفسها "الأمل هو ما أحتاج إليه في هذه الأيام.."
وغادرت بخطوات سريعة وهي ترفع أطراف ثوبها لئلا تتعثر به.. منعت الكآبة من أن تعتمر صدرها بصعوبة وهي تتجه لجناحها عندما رأت آخر شخص تتمنى رؤيته.. وكانت تلك الملكة الأم التي قابلتها بامتعاض قائلة "ما الأمر يا فتاتي؟.. تبدين على وشك البكاء.."
ابتسمت رنيم ابتسامة حاولت إتقانها قدر ما تستطيع وهي تقول "هي دموع سعادة يا مولاتي.. لم أتخيل في أحلامي أنني سأقابل الأمير زياد ولا أن يوافق على الزواج بي.. لذلك سعادتي اليوم بعد لقائه أكبر من أن تصفها الكلمات.."
مطّت الملكة شفتيها بضيق واضح، ثم قالت ببرود "طبعاً لن تحلمي بهذا، فهذا أكبر من مستواك ويفوق ما تستحقينه بكثير.."
لم تخفت ابتسامة رنيم وهي تنظر للملكة بصمت.. فقالت الملكة بابتسامة جانبية "حظاً موفقاً يا عزيزتي.. فأنتِ تحتاجينه بشدة.."
وابتعدت مع حاشيتها من الأميرات وبعض الوصيفات، واللواتي صدرت منهن بعض الضحكات في استهزاء واضح، بينما اضطرت رنيم للبقاء منحنية بانتظار مرور الملكة وابتعادها كما تقتضي منها اللياقة.. ولما تمكنت من الابتعاد أخيراً، سارت بخطوات سريعة عائدة لجناحها دون أن تتمكن من تمالك دموعها هذه المرة.. فرمت نفسها على السرير الوثير وهي تقبض على الوسادة بشدة حتى آلمتها أصابعها.. إنها لا تروق للأمير ولا للملكة.. والملك لا يعبأ لأمرها إلا بقدر ما يفيد مصلحته.. فأي حياة ترجوها في هذا القصر؟.. أي تعاسة ستشهد طوال الأيام الباقية من عمرها؟.. ما الذي جاء بها لهذا المكان حقاً؟..

*********************

بعد لقائها بالأمير زياد، فإن رنيم قضت عدة أيام في قصر الملك دون أن تراه مجدداً مما ساعدها على استعادة هدوئها والتفكير ملياً في مستقبلها في هذا القصر.. رغم الرفض الذي واجهته من الملكة ومن الأمير زياد، فإن الملك على الأقل بيّن لها أنه عازم على إكمال هذا الزواج.. هذا يهدؤها على الأقل ويطمئنها أنها لن تعود لقصر أبيها خائبة، ولن تواجه غضبه العارم لذلك..
كانت رنيم تتحاشى لقاء الملكة بأي شكل كان لئلا تواجه تعليقاً قاسياً منها، وفي الوقت ذاته كانت تجد عسراً في لقاء مجد وتبادل الحديث معه لانشغاله أغلب الأوقات وخروجه من القصر لبعض الأعمال في أحياء العاصمة.. لذلك ظلت رنيم وحيدة في القصر الضخم لا تكاد تجد من تحادثه سوى صفية وصيفتها الأمينة.. وبعد يومين، في وقت مبكر من ذلك الصباح، وجدت رنيم أحد الخدم يطرق باب جناحها ويبلغها بحضور الأميرة نوران، وهو اسم جهلته رنيم تماماً ودهشت لأن شخصاً يهتم بلقائها من العائلة المالكة بعد كل هذه الأيام..
وبعد وقت قصير، فوجئت رنيم برؤية فتاة لا تكبرها إلا بسنة أو اثنتين تدخل جناحها بصخب.. أكثر ما يلفت النظر في الفتاة هو شعرها الأشقر الناعم الذي ينسدل بطول ظهرها، ووجهها الصغير الرقيق بعينيها الزرقاوين الجميلتين وأنفها المستقيم وشفتيها الحمراوين المكتنزتين.. تملك جسداً مشابهاً لرنيم في الحجم، لكن بانحناءات أكثر أنوثة ويمنحها جمالاً يدير الرؤوس، وثيابها الأنيقة تزيدها جمالاً وهي تهرع نحو رنيم مادة ذراعيها هاتفة "يا إلهي.. وأخيراً تمكنت من رؤيتك.."
وقفت رنيم في موقعها متجمدة والفتاة تحتضنها بقوة وعاطفة واضحة، قبل أن تبتعد خطوة وهي تقول بابتسامة ملائكية "سعيدة جداً لتعرفي عليك يا رنيم.. أنا نوران.. ابنة الملك الصغرى.."
تمتمت رنيم بكلمات لا معنى لها بعد أن فاجأتها تصرفات الأميرة العاطفية، بينما نوران تضيف بلهفة "لم أتوقع أن تكون خطيبة أخي فتاة بهذه الرقة.. الأميرة التي جاءت للقصر قبلك كانت متعجرفة لم أحبها أبداً منذ رأيتها.. أنا سعيدة لأنني أتيت للزهراء فور وصول الدعوة من أبي لزفاف زياد القريب.."
تمالكت رنيم نفسها وهي تبتسم ابتسامة واسعة وتقول "سعيدة أنا بلقائك يا مولاتي.."
جذبتها نوران من يدها قائلة "لا تخاطبيني بمولاتي.. يكفيني أن تناديني باسمي فأنا أكره التعامل بهذه الألقاب.. لنذهب.. لقد أعددت موقعاً ملائماً لجلستنا هذه.."
تبعتها رنيم دون اعتراض حتى وصلتا لإحدى شرفات القصر الواسعة والتي تطل على الحديقة الزاهية الخاصة بالقصر.. وهناك، جلستا على كرسيين معدنيين بوسائد حريرية ذهبية، وأمامهما طاولة مزخرفة ازدانت بباقة ورد جميلة وغطاء موشّى وامتلأت بأطباق الحلوى والفطائر الشهية.. فقالت نوران فور جلوسها باهتمام "إذن.. كيف رأيت (الزهراء)؟.. هل أعجبتك؟"
ابتسمت رنيم معلقة "إنها مذهلة.."
فقالت نوران مبتسمة بدورها "وكيف هو زياد؟.. أتمنى ألا يكون قد خيّب آمالك.."
لم يكن قول نوران يجانب الحقيقة، لكن رنيم قالت بلباقة "إنني سعيدة جداً لانضمامي لقصر الملك عبّاد، ويشرفني الزواج من الأمير زياد.."
قالت نوران معترضة "هيا.. لا تحدثيني بهذا الأسلوب المهذب كما يفعل مجد عندما يتهرب من إجابتي.. أريد رأيك الحقيقي.."
قبل أن تعلق رنيم بكلمة على قولها، سمعتا صوت مجد يقترب قائلاً "هل تتحدثان عني من وراء ظهري؟"
استدارت نوران هاتفة بلهفة واضحة "هل جئت أخيراً يا مجد؟.. انتظرتك لوقت طويل حتى يئست من قدومك.."
نهضت نوران وركضت نحو مجد فرمت نفسها عليه وهي تعانقه بقوة كما فعلت مع رنيم وتقول بسعادة "اشتقت لك كثيراً.. كيف تتركني أنتظر بهذه الصورة؟"
استدارت رنيم بدهشة لما تراه وللألفة الواضحة بينهما ومجد يعلق وهو يبعد نوران خطوة "لأنني أدرك أنك بغير عمل طوال النهار.. لذلك لا يضيرك انتظاري لساعة أو اثنتان حتى أنجز ما عليّ من أعمال ثم أتفرغ لحديثك الفارغ.."
ضحكت نوران دون أن يبدو عليها استياء لما قاله، ونظرت لرنيم قائلة "لا تستنكري أسلوبه في الحديث يا رنيم، فهو طيب القلب رغم لسانه السليط.."
ابتسم مجد شيئاً ما و رنيم تعلق بابتسامة بدورها "أصبحت أعرفه بشكل يكفي لكيلا أنخدع بكلماته.."
جذبت نوران مجد نحو مجلسهما وهي تقول لرنيم بابتسامة متسعة "أنا أعرف مجد منذ طفولتي، فقد كان يرافقني بشكل دائم بطلب من أبي وكنت متعلقة به جداً.."
وأضافت بضحكة صغيرة "لقد توسلت لأبي الملك أياماً طويلة أن يسمح لي بالزواج من مجد عندما كنت في الخامسة عشر، لكنه رفض بشدة.. وأصر على تزويجي من سلطان (نجم الجنوب)، وهي سلطنة ذات نفوذ كما تعلمين ويرغب أبي بتوطيد أواصر العلاقات معها.. وبعد دموع غزيرة ذرفتها دون فائدة، وافقت أخيراً على الزواج من عمران وهو زوجي الحالي.."
ظلت رنيم تستمع لما يقال بدهشة متعاظمة لتعامل نوران مع مجد بهذه العاطفة وتصريحها بحبها له بلا أدنى حرج، وتتعجب عدم اهتمامهما بوجود رنيم كشخص غريب بشكل تام.. سمعت مجد يعلق "هل استدعيتني لتتفاخري بماضيك أمام ضيفتك؟.. لدي الكثير من الأعمال التي طلبها مني الأمير زياد، ولا وقت لديّ لتضييعه في أحاديث نسائية.."
هتفت نوران "لا يمكنك الذهاب.. أريد البقاء معك والتحدث عما جرى أثناء غيابي.. لم أرك منذ شهور عديدة.. كيف تعاملني بهذا البرود؟.."
ظلت رنيم تراقب حديث نوران وهي غير قادرة على ملاحقة انفعالاتها الواضحة وحديثها السريع.. بدت نوران مناقضة لها بشكل كامل.. وليس شكلياً فقط.. فشخصيتها واضحة وصريحة وإن كان ذلك في إظهار عاطفتها بكل صراحة.. بينما عاشت رنيم تكبت انفعالاتها ومشاعرها بصمت عن عائلتها لإدراكها أن أحداً لن يعبأ لأمرها..
تملص مجد بعد هذا الحديث منهما متعللاً بمشاغله.. عندها التفتت نوران إلى رنيم قائلة بلهفة "الليلة سيقام حفل لتعريفك بالعائلة المالكة وبالطبقة العليا في (الزهراء).. لذلك أتيت خصيصاً لحضور الحفل.. فكوني مستعدة لإبهار الحضور.."
ابتسمت رنيم ابتسامة مجاملة.. كان هذا آخر ما تتمناه.. في السابق، كان بإمكانها التنصل من مثل تلك الاحتفالات التي لا تخصّها لا من قريب ولا من بعيد.. لكن كيف تتنصّل من احتفال أقيم خصيصاً لها؟..

*********************

عندما عادت رنيم لجناحها، رمت نفسها على كرسي قرب النافذة وهي تزفر بحدة.. كانت تشعر بضيق شديد لمجرد التفكير في ذلك الاحتفال الذي ستحضره الليلة.. كيف لها أن تقف في قاعة واسعة وسط أشخاص لا تعرف أحداً منهم لساعات طوال؟.. هل يمكنها حتى أن تغادر الحفل بعد حضورها بوقت قصير؟.. إنها تعرف استحالة ذلك هذه المرة..
تلفتت حولها ملاحظة غياب صفية، فنادتها بشيء من الضيق "صفية.. أين أنت؟.. تعالي ساعديني لخلع هذا الثوب البغيض.."
وضعت يدها على عينيها محاولة التخلص من الضيق الذي تشعر به، عندما شعرت بتلك الخطوات التي اقتربت منها.. فرفعت يدها قائلة "أين اختفيت يا..........؟"
قطعت قولها وهي تحدق في تلك الفتاة التي وقفت أمامها، والتي لا تشبه صفية بأي حال.. كانت فتاة لا تتجاوز رنيم في العمر كثيراً.. على شيء من الطول ببشرة ذهبية جميلة وجسد نحيف بأطراف صغيرة.. شعرها أسود قصير لا يكاد يتجاوز أذنيها، ووجهها صغير بحاجبين طويلين وعينان واسعتان سوداوان وأنف صغير يعتلي فماً أصغر.. كانت ملامحها تدلّ بوضوح على كونها غريبة عن العاصمة، لكن ملابس الخدم التي ترتديها دلت على هويتها وهي تنحني أمام رنيم بملامح جامدة ودون أي انفعال..
اعتدلت رنيم متطلعة للفتاة وقالت "من أنت؟.. وأين صفية؟"
تحدثت الفتاة بهدوء ولكنة غريبة التقطتها رنيم بسهولة "مولاتي الملكة قد عينتني لخدمتك منذ اليوم.. لذلك يمكنك أن تعتمدي عليّ في أمورك كلها...."
قالت رنيم مقطبة "أين صفية؟.. هي وصيفتي وهي من يعتني بأموري.."
قالت الفتاة "ما علمته أن الملكة قد استبعدتها من خدمتك واستبدلتها بي.."
نهضت رنيم صائحة بعصبية "لا يحق لأي شخص استبعاد وصيفتي.. استدعها حالاً.."
لم تغادر الفتاة موقعها وهي تعلق "لا يمكنني ذلك يا مولاتي.."
وإزاء استنكار رنيم لهذا الرد، أضافت الفتاة "ما علمته أن الملكة قد هيأت لرحيل وصيفتك مع بقية الخدم الذين جاؤوا برفقتك منذ الصباح الباكر.. لم يعد أيهم موجوداً في (الزهراء).."
ظلت رنيم رافعة حاجبيها باستنكار شديد.. وراودتها رغبة بالتوجه للملكة والشكوى مما فعلته، لكنها أدركت عدم جدوى ذلك.. بعد أن تصرفت الملكة في أمر يخصها دون الرجوع إليها، فهذا يعني أنها لا تقيم لها أي وزن، وشكواها أو تذمرها لن يكون له أي أهمية تذكر..
حاولت رنيم تجاوز ضيقها الشديد بقوة وهي متفاجئة لتدخل الملكة في أمورها بهذا الشكل السافر، فقالت بضيق شديد "ما الذي فعلته أيضاً الملكة؟.. يبدو أنني لا أملك رأياً في أي شيء يخصني.."
رغم أنها لم تتوقع أي إجابة على سؤالها، لكنها سمعت الخادمة تضيف بهدوء "لقد أرسلت الملكة مع خدمك جميع ما لا تحتاجينه من أغراض.."
اتسعت عينا رنيم وهي تفكر للحظة.. لم تحضر معها من قصر أبيها إلا ما تحتاج إليه من ملابس، فما الذي استبعدته الملكة؟.. دفعت الخادمة بعيداً وأسرع لخزانة قريبة كانت قد استخدمتها لحفظ الكتب التي أحضرتها معها.. لقد اعتنت رنيم بانتقاء بعض الكتب من مكتبة أبيها وأحضرتهم معها مالئة حقيبة كاملة بها، والآن تجد الخزانة فارغة تماماً من أي أثر لها.. فصاحت رنيم بهياج للمرة الأولى في حياتها "أين كتبي؟.."
قالت الخادمة بهدوء "أرسلتها الملكة الأم مع........"
قاطعتها رنيم صائحة "أين كتبي؟.. أين أغراضي؟.. لمَ ليس لي الحق في الاحتفاظ بشيء يخصني بعيداً عن عين الملكة؟.."
وقفت الخادمة بهدوء في موقعها دون تعليق، بينما لطمت رنيم كرسياً قريباً ورمت بمحتويات الطاولة أرضاً.. كانت تشعر بهياج وغضب شديدين، ومن يراها يظن أن الأمر لن ينتهي قبل أن تثير زوبعة في القصر للتدخل السافر في أمورها.. لكن الخادمة لم تقلق لثورة رنيم وهي تقول "أنا آسفة.. لكن أوامر الملكة لا يمكن رفضها يا مولاتي.."
وقفت رنيم وسط الجناح وهي تقبض على يديها بشدة.. كتمت غصّة كبيرة تسدّ حلقها، ثم قالت بصوت حانق "أعلم ذلك.. بالتأكيد أعرف أن رأيي وقراراتي لا يعتدّ بها.. لا في هذا القصر ولا في أي مكان آخر من هذا العالم.."
ثم ألقت بنفسها على الكرسي وهي تضيف بصوت مختنق "لست واثقة إن كان لوجودي نفسه أي معنى في هذا العالم بالفعل.."
وزفرت بضيق ومرارة شديدة.. مع احتمالها لكلمات الملكة القاسية، ولإهانات الأمير الواضحة، ومع شعورها بأنها غير مرغوب بها في هذا القصر، ومع افتقادها لوصيفتها الطيبة التي اعتادت عليها كثيراً، عليها الآن أن تتخلى عن تسليتها الوحيدة وألا تتذمر لافتقادها كتبها العزيزة عليها..
لكن لماذا تفعل الملكة كل هذا؟.. لماذا تتصرف معها بهذه الطريقة الدونية؟.. ألأنها رافضة لهذا الزواج؟.. لو كان الأمر كذلك فبإمكان الملكة إعلان رفضها له بكل صراحة أمام الملك.. فلمَ هذه الألاعيب الساذجة التي لا تفهم رنيم لها سبباً؟.. لمَ عليها أن تجعل واقع رنيم أسوأ مما هو بالفعل؟..

*********************

عالم خيال 14-12-15 02:03 PM

رد: على جناح تنين..
 
**ملحوظة هامة**

نظراً لذكائي الخارق، نسيت أن أضع في المقدمة الخارطة التي جهزتها سابقاً لهذا العالم
يمكنكم رؤيتها من الوصلة تحت غلاف الرواية
وهي ستوضح لكم الكثير من الأماكن الهامة في هذا العالم
وأعتذر عن هذا السهو مني..

برد المشاعر 14-12-15 03:12 PM

رد: على جناح تنين..
 
يعطيك العافية خيال على الفصل الرائع ‏‏

وأخيرا وصلت رنيم للزهراء لقائها بالملكة ومن ثم الملك فالأمير كانت لقاءات سيئة ومخيبة للآمال وربي يصبرك يا رنيم عيله مجنونة نوران الطيبة فيهم متزوجة ‏

الصراحة كرهت زياد أكثر حتى من أمه ولو تهرب رنيم مع مجد أفضل منتظره بشوق باقي الأحداث وبما انه باقي أكثر من ‏13‏ فصل يعني إنه في جعبتك لينا الكثير ‏

تسلم أناملك حبيبتي وفي انتظارك غدا ‏

عالم خيال 14-12-15 09:51 PM

رد: على جناح تنين..
 
سعيدة بمتابعتك وإعجابك بالفصل
ربما يكون من النمطية أن نجعل عائلة بهذه المكانة أن تتصرف بهذه الحقارة والخسة
لكن لو كانت الحياة التي تنتظر رنيم في الزهراء وردية لكانت نمطية وتقليدية أكثر
ولما وجدت رنيم دافعاً للسعي وراء طموح أكبر، أليس كذلك؟
بإذن الله أنشر غداً فصلين معاً

فيت المشاكسه 15-12-15 12:10 AM

رد: على جناح تنين..
 
يسلمو بارت رائع رنيم وماينتظرها وسط هالقصر المزعج هل ستستطيع التأثير في الامير ام هيا من ستغير مجد عسول عنده اخلاق يجب يكون هو الامير زياد وامه يرفعو الضغط ربي ايعينها عليهم شكرا حبيبتي في انتظارك

برد المشاعر 15-12-15 01:31 AM

رد: على جناح تنين..
 
وااااو فصلين يسلموا الكريمين ‏‏في انتظارك خيال وأكيد لو كانت عائلتهم طيبة لما كان فيه قصة لكن كان يكفي زياد عن العيلة كلها هههه ‏

عالم خيال 15-12-15 08:43 AM

رد: على جناح تنين..
 
سعيدة بإعجابك بالفصل يا أختي فيت
أنا معك في رأيك بالعائلة الحاكمة
سنرى إن كانت رنيم ستتغير أم لا.. وربما كان التغيير محموداً
بالنسبة لمجد، هو بالفعل خسارة أن لا يكون أميراً
لكن ربما لو كان كذلك، لما تحلى بصفاته الجميلة هذه


****

تسلمي يا عزيزتي برد المشاعر
أظن أن زياد سيثير إعجابك أكثر فأكثر في الفصول القادمة ^ــ^
سأعود قريباً مع الفصلين التاليين

عالم خيال 15-12-15 08:49 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الرابع: لماذا أدفن رأسي في التراب؟


في تلك الليلة، وبعد أن خضعت رنيم لإعداد طويل ومرهق للاحتفال الملكي الذي بدأت أصداؤه مع غروب شمس ذلك اليوم، فإن رنيم سارت تتبع إحدى الخادمات عبر أروقة القصر نحو موقع الاحتفال.. كانت رنيم ترتدي ثوباً ذهبياً طويل الأكمام وبرقبة عالية منشّاة وتبطنها طبقات من الدانتيلا الناعمة والتي تبدو أيضاً من أسفل أكمامها المشقوقة.. وفيما كانت تسير بخطوات وئيدة مرتدية حذاءً ذهبياً مزين بمجموعة من الأحجار الكريمة اللامعة، فإنها كانت تتلمس زينة شعرها الذهبية وتتأكد من انتظام تموجات شعرها المنسدل على كتفيها ومن القرطين الماسيين المتدليين من أذنيها.. كانت تنوء بما ترتديه وما تحمله على رأسها من زينة، ومن الأصباغ التي غطّت وجهها بحيث شعرت بعجزها عن الابتسام خشية أن تفسد شكلها الذي أمضت ساعات لإعداده.. ولما نظرت لوجهها في المرآة قبل مغادرة جناحها، راودتها رغبة شديدة في إزالة كل ما عبث بملامحها وأظهرها بشكل آخر لا يشبهها لا من قريب ولا من بعيد.. كيف يمكن للآخرين أن يسعدوا برؤيتها بشكل يخالف حقيقتها بهذه الصورة؟.. هذا لغز لم تفهمه حتى الآن..
ولدى وصولها للباب المخصص لدخول العائلة المالكة، والذي يختلف عن الباب الذي دخل منه ضيوف الاحتفال المميزين، سمعت نداء يتعالى باسمها ولقبها كخطيبة لولي العهد.. تضاعف توترها أضعافاً وهي ترى الباب يفتح بصوت عالٍ، عندها لم يكن أمامها مناص من التقدم بخطوات ثابتة وهي تمسك جانب ثوبها بحركة بدت أنيقة ولكنها تخفي قلقها وانفعالها الشديدين..
لاحظت أن الحضور تجمدوا في مواقعهم وهم يرمقونها بفضول كبير، ولم تفتها الهمسات التي اندلعت من بعض الحاضرات كبيرات السن.. لكنها حاولت تجاهل كل هذا وهي تبتسم لمن تلتقي عيناها بعينيه وتسير قدماً دون أن تعرف أين تذهب في هذه القاعة الواسعة التي غصّت بحضورها من جميع الأعمار.. رأت بعض النسوة يتقدمن منها مرحبات ومهنئات بهذه الزيجة، فشكرتهن بابتسامة دون أن تغفل عن تفحصهن المكثف لملامحها والابتسامة التي حملت جانباً هازئاً لم تحاول إحداهن إخفاءه..
بعد سير قصير دون هدف، لاحظت رنيم الأمير زياد الذي كان يضحك مع إحدى الأميرات المتصنعات غير عابئ بوجودها في الحفل.. لكنها لم تحاول الاقتراب منه وهي تدير وجهها جانباً تتأمل رعايا (الزهراء) من ذوي الطبقة العالية والأصول العريقة.. شعرت بغربة تامة، وكأنها وسط حقل مليء بالأشواك لا تجرؤ أن تخطو خطوة فيه دون أن تؤذي نفسها.. وبعد بعض الوقت، وجدت نوران تقترب منها قائلة بسرور "انظري إليك.. تبدين أجمل من المعتاد بكثير.."
ابتسمت رنيم بصمت وهي مدركة أن أي قول تقوله نوران ينطبق عليها هي بصورة أكبر بعشرات المرات.. كانت نوران تزهو بثوب طويل بلون خمري جميل يظهر بياض بشرتها وشعرها الذهبي، ورغم اقتناعها بقليل من الزينة وظهورها بمظهر طبيعي خالٍ من التبرج المبالغ به، إلا أنها بدت كحورية من قصة خرافية.. ألهذا السبب تشعر رنيم بتضاؤل شديد لوقوفها جوار نوران وكأنها برغوثة بشعة المنظر؟..
وجدت نوران تجذبها قائلة بابتسامة "لابد أنك لم تقابلي زياد.. لنذهب إليه.."
وغمزت بعينها مضيفة "ولابد أن زياد سيذهل لرؤية جمالك الأخاذ هذا.."
شعرت رنيم بشحوب ونوران تجذبها تجاه ذلك الشخص الذي تخشى مواجهته بشدة.. تخشى أن يعلق تعليقاً هازئاً لرؤيتها فيسبب لها الحرج أمام تلك الجماعة من الأميرات اللواتي تحلقن حوله..
قبل أن تصلا لموقع الأمير زياد الذي انشغل عنها ساهياً أو متعمداً منذ وصولها للحفل، جذبت رنيم ذراعها من يد نوران قائلة بارتباك "مهلاً.. أريد شرب بعض الماء.. أشعر بجفاف شديد في حلقي.."
نظرت لها نوران قائلة "وماذا عن زياد؟.. لا يمكن أن نتركه ينتظرنا.."
لم يبدُ أن الأمير ينتظرهما بحال وهو لاهٍ بحديثه الضاحك ذاك، فقالت رنيم بابتسامة مرتبكة "سأعود بعد لحظات معدودة وآتي للقاء الأمير من فوري.."
واستدارت مبتعدة تشق طريقها بين الحضور، حتى وصلت لمائدة صفّت عليها أنواع الشراب والماء البارد وبعض الحلويات.. فشربت رنيم بعض الماء وهي تحاول تمالك انفعالها.. ثم عادت ببصرها نحو الموقع الذي يقف فيه زياد، ولوهلة خايلها أن تلك الابتسامات والضحكات التي تتبادلها الأميرات معه هي نتيجة سخريته منها..
أشاحت رنيم بوجهها وغادرت نحو مخرج القاعة الذي يؤدي لشرفة واسعة خارجية ومنها للحديقة التي ظلت جوانبها مظلمة رغم المصابيح والمشاعل الموزعة في جوانبها بدقة.. شعرت بشيء من التعب وضيق تنفس جعلها تكره وقوفها في تلك القاعة الملأى بغرباء لا تعرف معظمهم.. والأدهى أن الأمير، زوجها المستقبلي، لم يلقِ عليها نظرة واحدة منذ دخلت القاعة.. ولم يحاول حتى تعريف الآخرين بها كخطيبته، وكأن وجودها لا معنى له..
اختارت رنيم جانباً مظلماً من الحديقة وجلست على كرسي طويل حجري بأرجل مزخرفة وتحيط به أشجار الياسمين ذات الرائحة العطرة.. حاولت أن تفرغ عوطفها ومشاعرها مما اكتسبته طوال هذا النهار من انفعالات عصفت بها.. إنها تشعر بشؤم شديد منذ وصولها للزهراء، ويتزايد هذا الشعور مع كل يومٍ يمضي.. لكن هل سيغير شعورها هذا شيئاً من واقعها؟..
ظلت رنيم في موقعها بصمت، رغم أن العطش سبب لها جفافاً في حلقها ورغم القشعريرة التي أثارتها في جسدها نسمة باردة هبّت على المكان.. لكنها لم تعبأ للأمر وهي متجمدة في موقعها دون حراك.. إنها تكاد تجزم أن من سيراها الآن سيظنها تمثالاً من التماثيل الموزعة في أرجاء الحديقة..
طال الاحتفال مدة طويلة، وكلما حاولت رنيم دفع نفسها للعودة للآخرين، شعرت بضيق من جديد وعزفت عن الحراك مستسلمة له.. هل الأفضل لها أن تعود لجناحها؟.. قد يعدّ الأمير ذلك سوء أخلاق، وهذا الاحتفال مقام احتفاءً بخطبتهما.. لكن، مع بقائها هنا، يمكنها أن تتذرع بحاجتها لبعض الهواء وشعورها بالاختناق في القاعة، وهو أمر لم يجانب الصواب كثيراً..
بعد وقت طويل، لاحظت رنيم خفوت الأصوات والأضواء القادمة من القاعة، فاقتنعت أن الاحتفال قد خفتت حدته، وقد يكون الحضور قد انتقلوا لموقع آخر من القصر كما يحدث في مثل تلك الحفلات.. فنهضت رنيم بهدوء وسارت بشيء من التردد وهي تتنهد.. لابد أن نوران ستثير زوبعة في اليوم التالي لغيابها عن هذا الحفل الذي أقيم خصيصاً لها..
سمعت صوت خطوات تقترب من خلفها، ثم أتاها صوت يزفر قائلاً "أخيراً عثرت عليك.."
انتفضت رنيم وهي تلتفت خلفها لترى مجد يقترب منها قائلاً بتقطيبة "ما بك؟.. لقد اختفيت منذ بدء الاحتفال، ونوران بحثت عنك طوال الساعات الماضية عبثاً.. لقد تضخمت أذناي لكثرة ما صبّتْ فيهما من الوساوس، ولولا خشيتها من إثارة بلبلة بين الحضور لأعلنت للجميع أنك اختُطِفْت من القصر.."
لم تجبه رنيم وهي تدير وجهها جانباً بصمت، فقال مجد وهو يقترب منها "أأنت على ما يرام؟.. بدوت شاحبة الوجه نوعاً ما في الاحتفال بشكل يثير القلق.."
لم تعلق وهي تدمدم "لا شيء.. أنا بخير.."
قال مجد "هل تمزحين؟.. ملامحك لا تدل على هذا بتاتاً.."
عادت رنيم للجلوس على الكرسي القريب وهي مطرقة.. فجلس مجد بدوره قائلاً "أخبريني بما حل بك.. قد أتمكن من معاونتك بأي شكل من الأشكال.."
قالت رنيم بعد لحظة صمت "أريد الرحيل.."
وإزاء صمت مجد أضافت بصوت مرير "أريد المغادرة لأبعد مكان ممكن.. لكن لا يمكنني التنصل من هذا الزواج لئلا ألقى غضب أبي وثورة أمي.. لكني حقاً أريد الرحيل فلم أعد أطيق رؤية شخص في هذا القصر.."
غمغم مجد وهو يتطلع للسماء "لا ألومك على هذا.."
أضافت وهي تدفن وجهها بين ذراعيها المستندتين على ركبتيها "الأمير زياد، زوجي المستقبلي، يعاملي بكل برود.. بل إنه يتعمد تحقيري ومعاملتي بكل دونية.. كما أن الملكة الأم تعاملني بكره واضح، وتتدخل بأموري بشكل سافر.. فما الذي جنيته لأستحق هذا؟.. ألم آتِ للزهراء بدعوة من الملك؟.."
ربت مجد على رأسها بخفة قائلاً "أدرك ما تشعرين به.. لكن لا يمكنك التنصل من هذا الزواج الآن.. لمَ لمْ ترفضي هذا المصير قبل أن يرسلك الملك قصيّ للزهراء؟.. كان عليك أن تكوني حاسمة في قرارك منذ البدء.."
قالت رنيم بمرارة "لا أحد يعيرني أي اهتمام ولا يُعتدّ برأيي أبداً.. رفضي لا يعني لأبي الملك شيئاً.. ثم إنني ظننت أن الأمور ستكون في (الزهراء) أفضل حالاً من (بارقة).. ظننت أنني سأبدأ حياة جديدة، وقد أتمكن من تغيير واقعي شيئاً ما.. قد أتمكن من أن أصبح بشخصية أقوى وأكثر حزماً في التعامل مع الآخرين.."
ابتسم مجد معلقاً "هل كنت تعوّلين على تغيير حياتك لتبدئي بداية جديدة؟.. هذا أمر صعب لو لم تبدئي بتغيير شخصيتك ذاتها.."
غمغمت رنيم "أدرك ذلك الآن.. لكني بدأت أفقد صبري حقاً.. أشعر بالحلقة تضيق على عنقي مع كل يوم يمضي، ولست أدري متى سأفقد القدرة على الاستمرار.."
قال مجد بحزم "لن يطول ذلك كثيراً ما لم تتمكني من تمالك نفسك بصورة أفضل.. تجاهلي ما يجري حولك، ولا تضعي آمالاً على الأمير زياد.. نحن لسنا في حكاية عاطفية، ولن تجدي الحب الذي قد تتأملينه من زوجك في المستقبل.."
غمغمت رنيم بمرارة "ليس هذا ما كنت أطمح إليه حقاً.. كل ما تمنيته هو بعض الحرية، والتخلص من بعض القيود التي تقيدني.."
نظر لها مجد بصمت وتعجب، ثم علق قائلاً "هذه نقطة أخرى لم أتوقعها فيك.. أغلب الفتيات، والأميرات منهن، يسعين للحصول على الحب الذي حلمن به سنين طويلة، مهما كان الأمر يقيّدهن ويجبرهن على التنازل.. ففي سبيل الحب، يمكن للفتاة أن تتنازل عن كل ما تملك من شخصية وكرامة وعزة نفس.. وهذا ما يشعرني أنهن لا يقدّرن أنفسهن حقاً.."
نظرت له رنيم متسائلة بتردد "أتظنني أقدّر نفسي حق قدرها بالفعل؟"
زفر مجد وهو يتطلع لوجهها المتردد، ثم قال "أنت تملكين الكثير من الصفات الرائعة يا أميرتي.. لكن كل هذا يزول لدى رؤية ملامح الخضوع والتردد البادية على وجهك.. كل جمال تملكينه، سواء أكان ظاهرياً أم داخلياً، يبهت عندما تخفضين رأسك وتخضعين لمن حولك.. ما الذي يدعوك لهذا الاستسلام الذي أقل ما يوصف به أنه مخزٍ لفتاة في منصبك؟"
خفضت رنيم وجهها المحتقن بصمت.. كان قوله كفيلاً بأن يجرحها بشدة، لكنه كان مصيباً ودقيقاً في كل ما ذكره.. ثم إنها، رغم قِصَر معرفتها بمجد، قد تآلفت معه وشعرت به كشخص موثوق يمكنها أن تطمئن إليه.. لذلك لم تستنكر قوله رغم قسوته بل استنكرت أن يكون خضوعها واستسلامها بهذا السوء.. ربما كانت تجمّل واقعها بأنها بهذا التصرف تشتري هناء بالها.. لكن مجد قد أزال كل ما دارَتْ به ضعفها وأبرزه أمام عينيها بشكل أثار خجلها مما تراه.. أهي بهذا السوء حقاً؟..
ولدى صمتها واحتقان وجهها، قال مجد بشيء من اللطف "أرجوك ألا تسيئي فهمي يا فتاة.. لا أعني تجريحك بقدر ما أرغب بإيقاظك من الغفلة التي تعيشين فيها.. حتى متى ستدفنين رأسك في التراب؟.. من هي مثلك حريّ بها أن تكون أكثر نباهة وفطنة وأشد يقظة لما يدور حولها.."
غمغمت رنيم بكآبة "أدرك ذلك.. فلا تقلق.. ما يسبب لي الضيق حقاً هو إدراكي مدى سوء واقعي بعيداً عن التجمّل الذي كنت أداري به ضعفي.. ما يسوؤني أن أرى أنني لست بالكمال الذي ظننت نفسي عليه.."
ربت مجد على رأسها مجدداً قائلاً "الاعتراف بهذا ليس سيئاً.. الأهم أن تقتنعي بتغيير ما ترينه.."
تنهدت رنيم للحظة، ثم نهضت مغمغمة "ربما كنت على حق.. لكن، من يدري إن كنت أقدر على ذلك؟.."
واستدارت بخطوات بطيئة عائدة لجناحها.. كانت تريد الخلوّ لنفسها والتفكير في ما عرفته هذه الليلة.. بينما وقف مجد يراقبها للحظات بصمت، قبل أن يستدير ويتجه بخطوات سريعة لشجيرة ورد قريبة.. وهناك، استطاع أن يرى تلك الخادمة التي أولته ظهرها وغادرت بخطوات سريعة مرتبكة.. لكن مجد لحق بالخادمة الهاربة حتى قبض على ذراعها بشدة وأوقف ركضها.. فالتفتت الخادمة إليه بفزع قائلة "ما الأمر يا سيدي؟.. أطلقني.."
لاحظ مجد أنها إحدى الخدم التي رآها عدة مرات ضمن حاشية الملكة، فقال مقطباً "أنت تعملين لدى الملكة، ألست كذلك؟.. أكنت تنوين الهرب والوشاية بما سمعته لها؟.."
هتفت الخادمة "لا يا سيدي.. أنا لا أتدخل فيما لا يعنيني.."
لكن مجد اعتصر ذراعها بشكل مؤلم بقبضته وهو يقول "أتظنين أنني لا أعرف عنكن شيئاً؟.. هل كنت تتلصصين بنفسك أم أن الملكة هي من أرسلتك؟.."
اتسعت عينا الخادمة شيئاً ما وهي تقول بقلق "لا يا سيدي.. لقد مررت من ذلك الموقع بالصدفة ولم........"
شدّ مجد على ذراعها بقوة فقالت بألم "أطلقني أرجوك يا سيدي.."
قال مجد بصرامة "لو لم تقولي الحقيقة، سألفق لك تهمة الخيانة وسيتم طردك من القصر.. لن ينفعك أي شخص عندها، ولا حتى الملكة الأم.."
بدا الارتياع على وجه الخادمة التي سرعان ما صاحت "لا تفعل هذا يا سيدي.. سأخبرك الحقيقة.. إنها أوامر الملكة.."
نظر لها مجد مقطباً وهي تضيف بارتباك "أنا أنفذ ما أمرتني به الملكة فقط.."
فسألها بحدة "وبمَ أمرتك بالتحديد؟.."
قالت الخادمة "أمرتني أن ألاحق الأميرة رنيم لعلّي أجد عليها ممسكاً أو زلة.. وتريدني أن أبلغها بكل ما أراه صغيراً كان أو كبيراً.."
تخلى مجد عن ذراع الخادمة وهو يفكر بما سمعه مقطباً، فتراجعت الخادمة خطوة وهي تضيف "هذا كل ما أوصتني به.. وأنا أنفذ أمرها فقط.."
لم يكن صعباً على مجد إدراك أن الملكة تبحث عن سبب لرفض هذا الزواج وطرد رنيم من القصر، فهي قد أبدت رفضها له سابقاً بكل صراحة.. فنظر مجد للخادمة بحزم قائلاً "لا بأس.. استمري فيما كنت تفعلينه.."
نظرت له الخادمة بدهشة، فأضاف بسرعة "لكنك لن تشي بأي شيء مما رأيته للملكة.. لن تنقلي عن الأميرة رنيم إلا ما يسرّني سماعه.. أفهمت؟.."
غمغمت الخادمة بقلق "ماذا لو أدركت الملكة الأم أنني خدعتها؟.. ستعاقبني بشدة على ذلك.."
قال مجد بصرامة "عقابها لن يكون أسوأ من عقابي لو علمت أنك أبلغت الملكة بخبر سيئ عن رنيم.. فكوني حذرة وتخيّري كلماتك بدقة.."
نظرت الخادمة بقلق لعينيه الحادتين، ثم أحنت رأسها قائلة بارتباك "سأفعل ذلك يا سيدي.. ثق بي.."
وتراجعت مبتعدة بخطوات سريعة، بينما زفر مجد بحدة وهو يغمغم "تباً.. ظننت أنني معتاد على تصرفات أهل القصر المتّسمة بالخسة والحقارة.. لكن لمَ يغلي دمي لمثل هذا التصرف وهو موجه لرنيم؟.. إنها لا تستحق شيئاً من هذا.."
ثم غادر بخطوات واسعة وشيء من الضيق عائداً لعمله وتفكيره منشغل بالفتاة التي تبدو شاذة في هذا القصر الفخم البهيج..

*********************

في اليوم التالي، تذرعت رنيم بمرضها لئلا تخرج من جناحها.. لم تكن معتادة على سجن نفسها في جناح أو غرفة لأي سبب من الأسباب، لكن كلمات مجد في الليلة الماضية أخذت تدوّي في رأسها وأبعدت النوم من عينيها لساعات طوال.. حتى عجزت عن العثور على إرادة لمغادرة سريرها بعد ليلة أنهكها التفكير وتحليل مجريات حياتها منذ البدء.. لكن هل تملك حقاً الإرادة على تغيير حياتها؟.. هل تقدر على أن تبدأ حملة تغيير شاملة تنطلق من أعماق نفسها الضعيفة؟.. ومع التفكير الطويل، فإن رنيم قد بدت لمن يراها كمن وقعت أسيرة لمرض شديد بالفعل..
وكان التعليق الذي قالته نوران فور دخول جناحها هو "يا إلهي.. إنك مريضة جداً.. كيف حدث ذلك؟"
غمغمت رنيم بكلمات مبهمة، بينما اقتربت نوران من سريرها ووضعت يدها على جبين رنيم قبل أن تقول "حرارتك طبيعية تقريباً، لكن وجهك شاحب بشدة.. ما الذي تشعرين به؟"
غمغمت رنيم مبتسمة "لا تقلقي.. هو مجرد إرهاق وتعب.. سيزولان بعد بعض الراحة.."
قالت نوران وهي تجلس جانباً "ألهذا السبب اختفيتِ من الاحتفال البارحة؟.. لقد أمضيت وقتي في البحث عنك دون فائدة.. ولم أهدأ حتى طمأنني مجد أنك في جناحك.."
قالت رنيم دون أن تواجه عينيها "لقد خرجت لاستنشاق بعض الهواء بعد شعوري بشيء من الضيق والدوار.. ولما لم أتمكن من العودة للاحتفال لتعب ألمّ بي، عدت لجناحي لأرتاح.."
ثم نظرت لنوران بشيء من التردد متسائلة "هل سأل عني الأمير زياد؟"
نظرت لها نوران بصمت، ثم نهضت وتقدمت من النافذة قائلة "هل تخشين من غضبه لاختفائك؟.. لا تقلقي.. لن يفعل.."
خفضت رنيم بصرها وهي مدركة أن نوران تقصد عدم اهتمام الأمير بها بتاتاً، لكنها صاغت جملتها بشكل أقل جرحاً لمشاعرها..
استدارت إليها نوران بابتسامة متسعة وهي تقول "عليك أن تنهضي من هذا الفراش.. أريد قضاء بعض الوقت معك قبل اضطراري للرحيل، وهو أمر لم أتوقع حدوثه بهذه السرعة.."
راقبت رنيم الابتسامة السعيدة على شفتي نوران رغم حديثها عن اضطرارها للرحيل، ثم غمغمت "تبدين في غاية السعادة.. ما الذي جرى؟"
دارت نوران حول نفسها بضحكة عالية، ثم قالت "ألا أبدو كذلك؟.. يمكن رؤية السعادة في ملامحي بوضوح.."
وإزاء نظرات الدهشة من رنيم، قالت نوران وهي تقترب منها وتقبض على يدها بشدة "وصلني خبر أسعدني الليلة الماضية.. زوجي، السلطان عمران، سيصل في وقت لاحق من هذا اليوم.."
رفعت رنيم حاجبيها بدهشة وابتسامة نوران تتسع بسعادة قائلة "لم أتوقع أن يكون قد لحق بي بهذه السرعة.. لم أره منذ شهر كامل فقد كان في رحلة هامة طارئة.. لكنه قطع تلك الرحلة فجأة ولحق بي.. قال في إحدى رسائله أنه اشتاق إليّ، لذلك سيصل للزهراء وسيبقى فيها بضع أيام في القصر الخاص به قبل أن يصطحبني معه في رحلته تلك.."
نظرت رنيم لملامح البهجة الواضحة في وجه نوران، والتي ظلت تثرثر لوقت طويل عن زوجها وعن شغفه بها بينما سرحت رنيم في أفكارها.. ثم قالت لنوران بشيء من التردد "ماذا عن مجد؟.."
تساءلت نوران باهتمام "ماذا عنه؟"
قالت رنيم بتردد أكبر "ظننت أنك تحبينه.. كيف تنازلتِ عن حبك له وحلمك بالزواج منه ورضيتِ بما خططه الملك لك؟.. كيف أمكنك أن تكوني سعيدة بحياة لم تختاريها لنفسك؟.."
كان ذلك السؤال ذاته الذي تطرحه رنيم دائماً على نفسها منذ قرر الملك قصيّ مصيرها دون الرجوع إليها.. وتمنت لو تمنحها نوران في تلك اللحظة جواباً شافياً لحيرتها تلك، فضحكت نوران للحظة ولوحت بيدها قائلة "لا أنكر أنني أحببته بشدة.. لكنه كان حب مراهقة.. كنت أشعر أنه عالمي كله، ولم أدرك أن العالم سيغدو أكثر بهجة لي بعد زواجي من عمران وتقربي منه.."
ثم أضافت وهي تقترب من النافذة "كنت مستاءة من زواجي الذي رتّبه أبي رغم إرادتي، وشعرت أنني سأدفن نفسي في حياة لا مشاعر فيها.. لكني لم أكن أعلم أن زوجي كان يحبني بالفعل قبل أن يتقدم لخطبتي.. ولم أكن أدرك أن مشاعري ستميل تجاهه بعد أن غمرني بحبه وعطفه الكبيرين.."
ثم استدارت إلى رنيم قائلة "الكل يعرف بأمر مشاعري التي كنت أحملها لمجد، حتى زوجي.. ورغم غيرته، إلا أنه يصدق أنها مشاعر طفولية انتهت منذ زمن طويل.."
ظلت رنيم تستمع لها بدهشة وشيء من الأمل.. أيمكن أن تشعر هي بشيء مماثل كالذي شعرت به نوران بعد زواجها الذي كان بترتيب من الملك رغم إرادتها؟.. أيمكن أن يتضح لها أن الأمير زياد ليس بالسوء الذي تتخيله عليه وأنها ستجده أفضل لو تعرفت عليه أكثر؟.. لكن لا.. بدا لها واضحاً أن الأمير زياد لا يمكن أن يحوي شخصية أعمق مما تراها عليه بالفعل.. هو لا يحب إلا نفسه ولا يعشق إلا ذاته.. مثل هؤلاء الأشخاص لا يحبون إلا من يخدمهم ويسعدهم.. ولو لم تتمكن من إسعاده فهي لن تنال إلا على احتقاره ومعاملته الدونيّة كما فعل منذ اللحظة الأولى التي وقعت عيناه عليها..
ثم إنها لطالما حلمت بزواج يبتعد بها عن القصور والأسوار وينطلق بها لعالم مجهول أكثر رحابة من هذا العالم الكئيب.. لم تفكر بالحب قط، لكنها أمِلَتْ أن يربطها الزواج برجل قوي يسبغ عليها حمايته ويحيطها بعطفه.. رجل يفك قيودها التي تغلّها لحياة كئيبة لا روح فيها.. رجل قلباً وقالباً لا كالأمير زياد الذي يشمئز من لطخة صغيرة لطخت حذاءه اللامع ويصبّ سخطه على الخدم لذلك دون رحمة..

*********************

في وقت لاحق من ذلك النهار، كانت رنيم لا تزال منطوية على نفسها في جناحها.. كانت تراقب عمل الخادمة الصامتة التي علمت أن اسمها كاينا، وتتذكر وصيفتها صفية التي اختفت من القصر بأمر من الملكة سليمة.. في هذا الوقت بالذات، افتقدت رنيم وصيفتها الثرثارة طيبة القلب.. ورغم أن كاينا طيبة ومسالمة كذلك، لكن صمتها كان يثير حفيظة رنيم بشكل كبير، خاصة مع بقائها وحيدة لساعات طوال لسبب أو لآخر.. بينما لا تتوانى صفية عن الاستماع إليها وتقديم النصح لها بما يخفف عن رنيم ما تشعر به.. ولكم تفتقد رنيم هذا بشدة الآن..
راقبت كاينا التي كانت تهيئ سريرها لتلك الليلة وتعتني بجناحها وبكل ما تحتاج إليه.. رغم ثورتها في البدء، إلا أن رنيم لا تنكر أن كاينا تخدمها بكل إخلاص وتفانٍ أدهشاها.. تذكرت أنها حملت تساؤلاتها عن هاته الخادمات اللواتي رأتهن في أرجاء القصر ممن يشابهون خادمتها الجديدة في الصفات الخارجية وفي اللكنة الغريبة، وذلك في الأيام الأولى لوجودها في القصر.. في ذلك الوقت، استنكرت رنيم رؤية هاته الخادمات اللواتي لا ينتمين للزهراء ولا يتحدثن العربية إلا بلكنة غريبة واضحة، ويمكن رؤيتهن يؤدين أعمالهن بصمت وسكون ودون أي تدخل في شؤون سكان القصر كما تفعل بقية الخادمات عادة.. وإزاء تساؤلاتها، أجابها مجد "إنهم من شعب يعيش في الجزء الشمالي من المملكة.. إنهم لا يتحدثون لغتنا ويخالفوننا في الكثير من العادات والتقاليد.. إنهم أشبه بالغجر الرحّل الذين جابوا أجزاء عديدة من القارة، لكنهم استقروا في ذلك الجزء الخالي من المملكة منذ عدة عقود.. ومنذ استقرارهم، والمناوشات بينهم وبين جنود المملكة تكاد لا تهدأ.."
تساءلت رنيم بدهشة "لماذا؟.. ما سبب هذا العداء بينكم وبينهم؟"
أجاب مجد "أسباب عديدة.. ربما كان الاختلاف بيننا في أسلوب الحياة والمعيشة هو السبب الأكبر، كما أنهم يرفضون الخضوع للملك بشكل كامل ويعتزّون بهويتهم وتفردهم عن البقية.. كما أنهم أقل تحضراً منا بمراحل، ولا يعرفون القراءة والكتابة.. لذلك يطلق عليهم شعب المملكة الرعاع.."
كانت رنيم تستمع بمزيج التعجب والشغف لتلك الحكاية، ثم تساءلت وهي ترمق إحدى تلك الخادمات التي سارت حاملة دورقاً من العصير الطازج بصمت ودون اهتمام بما حولها "لكن ما الداعي لاستخدام هؤلاء كخادمات في القصر؟.. رغم وجود كفاية من الخدم والخادمات من أهل (الزهراء).. كما أن الملكة حرصت على استبعاد وصيفتي وخدمي واستبدلتها بإحدى تلك الخادمات.. فما السبب؟"
قال مجد بضيق "مزيج من الاستعباد والتظاهر.. الملك أسر عدداً من فتيات الرعاع لا يقل عن عشرين فتاة وجلبهن للزهراء بعد انتصاره في إحدى المعارك عليهم.. حجته بذلك أن وجود الفتيات في العاصمة سيكسر شوكة الرعاع ويقطع أجنحتهم.. ولن يجرؤوا على التهجم على القوافل التجارية أو التناوش مع جنود المملكة خشية على الفتيات من أن يصيبهن مكروه جراء ذلك.."
شعرت رنيم بإشفاق على الفتيات لما مررن به وهي تحاول تخيّل ما جرى لهن، بينما أضاف مجد "وجدتها الملكة فرصة سانحة لاستبدال بعض الخادمات في القصر بخادمات من الشمال، مدّعية أنهن أفضل في الخدمة وأكثر طاعة.. لكن ما تريده حقاً هو أن تلمح الدهشة في أعين ضيوفها لدى رؤيتهم لهاته الفتيات الغريبات بملامحهن الغريبة ولكنتهن الأغرب.. هذا كل ما هنالك.."
تساءلت رنيم بإشفاق "ألم يحاول ذلك الشعب استعادة هؤلاء الفتيات؟.. لا يحق للملك استعبادهن دون سبب.."
علق مجد "ليس المهم اعتبار ما يحق للملك وما لا يحق.. المهم هو قدرة الملك على ذلك أم عدم قدرته، والملك لا يترك فرصة ليثبت لخصومه أنه قادر على أي شيء.."
لم تدرِ رنيم بمَ شعرت به كاينا منذ أن اختطفت من موطنها وأسرها غرباء قساة حرموها من عائلتها وأحبابها وعاملوها معاملة العبيد.. شعرت بإشفاق شديد تجاهها وهي تراقب عملها الصامت، مما دفعها لتسألها "كاينا.. لمَ لمْ تحاولي الهرب قط؟.."
اتسعت عينا كاينا بدهشة، إنما التزمت الصمت على هذا السؤال وهي مستمرة بعملها، فقالت رنيم بإلحاح أكبر "لماذا رضيتِ بهذه العبودية رغماً عنك؟.. ألا تملكين تقرير مصيرك بنفسك؟.."
غمغمت كاينا "وهل يمكنني هذا حقاً؟"
قالت رنيم "أنا متعجبة من هذا الاستسلام البادي عليكن لهذه العبودية المفروضة عليكن بحد السيف.. أنتن لستن جواري، فكيف يتم استعبادكن بهذه السهولة؟"
أدارت كاينا بصرها بعيداً وقالت "لسنا مستسلمين لهذه العبودية ولا نرضى بها.. لكننا لا نريد أن نغامر بالهرب ونحن في وسط المملكة فهذا الهروب لن يطول كثيراً.. وعقابنا سيكون قاسياً على يد الملك فهو لا يسامح من يعصي أي أمر منه أبداً.."
دمدمت رنيم "هذا ليس سبباً.. لو كنت مكانك، لما ترددت في الهرب في أقرب فرصة.."
ابتسمت كاينا ابتسامة جانبية مغمغمة "ربما.. من يدري ما تحمله لنا الأيام؟"
صمتت رنيم وهي تتطلع لملامح كاينا المسترخية وتفكر في حالها.. لم يبدُ على كاينا أنها تحمل همّ هذه العبودية التي تعيشها، ولم يبدُ عليها أنها بائسة أو متعجلة للهرب بأي شكل كان.. فما الذي تخفيه ملامحها الهادئة الصامتة يا ترى؟..
لو كانت رنيم في موقعها، لهربت منذ اليوم الأول، وهو ما كانت تود فعله منذ زمن بعيد.. كيف لشخص يمتلك حريته وحياته الطليقة أن يرضى بهذه العبودية ويستكين لها؟..

*********************

بعد عدة أيام من ذلك الاحتفال، وبعد رحيل نوران بيوم وخلوّ القصر ممن يمكن لرنيم أن تتحدث معه بكل بساطة ودون تكلف، فإن الملكة قد استدعت رنيم لمقابلتها دون أن تفصح عن السبب.. وبالطبع، فإن رنيم لم تملك التعليق على ذلك وهي تتوجه لمقابلتها محاولة رسم ابتسامة على شفتيها.. رغم محاولات رنيم المتكررة لفرض رأيها بشكل أو بآخر خلال اليومين الماضيين، فإنها تخضع لمن يفوقونها منصباً ومكانة بسرعة قبل أن تنطق حرفاً واحداً مما يدور في عقلها.. ويبدو أنها ستلجأ للاستسلام عما قريب وتتخلى عن تلك الفكرة من الأساس.. فهي لا تناسبها ولا تناسب شخصيتها الحقيقية بتاتاً..
قادتها إحدى الخادمات لموقع الملكة في إحدى شرفات القصر الواسعة، والتي رصفت برخام ثمين بلون أخضر تتخلله عروق بيضاء.. وفي جوانب الشرفة وضعت أصصٌ لعدد متنوع من شجيرات الورد الزاهرة ورائحة أزهارها تخلب الألباب.. ووسط الشرفة جلست الملكة على كرسي حديدي قرب طاولة بيضاء عليها صحاف مذهبة بعدد متنوع من الأطعمة الخفيفة وأكواب ماء ودورق شاي معطر ببتلات ورد..
انتاب رنيم توتر كبير لم تتمالكه وهي تقترب من موقع الملكة التي لم تستدر تجاهها ولو للحظة وكأنها تعرف هوية المتقدم منها تمام العلم.. فلا يجرؤ شخص على الاقتراب من الملكة دون استئذان ودون المرور بحاشيتها التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم..
وقفت رنيم أمام الملكة وانحنت باحترام قائلة "سعدتِ صباحاً يا مولاتي.."
قالت الملكة بجفاف "كفّي عن هذا التمثيل واجلسي.."
ابتلعت رنيم ما كانت تريد قوله وهي تطيعها بصمت، بينما ظلت الملكة صامتة وهي تطرق بأصابعها على الطاولة القريبة دون أن تدعو رنيم لتناول شيء مما ازدحمت به الطاولة ولو من باب اللياقة.. ثم قالت "هل أنت سعيدة هنا؟.."
فوجئت رنيم بهذا السؤال الذي جهلت معناه، فقالت بابتسامة متوترة "طبعاً أنا سعيدة يا مولاتي.. هذه المدينة، وهذا القصر، فاقا أحلامي وتوقعاتي.. والعيش فيهما يحقق آمال أي فتاة في العالم.."
قطبت الملكة شيئاً ما معلقة "لم أسألك عن (الزهراء) وعن القصر، فهما مطمح أي امرأة أو رجل في هذا العالم بالفعل.. ما أسألك عنه هو هذا الزواج.. أأنت سعيدة به؟.. هل تودين إتمامه بالفعل؟"
حافظت رنيم على ابتسامتها بصعوبة وهي تتساءل "ولم لا يكون ذلك يا مولاتي؟.. أهناك من لا تطمح للزواج من الأمير زياد؟"
مالت الملكة نحوها قائلة "حتى لو عاملك الأمير زياد بتعالٍ وفوقية؟.. ألا تشعرين بالسوء لاضطرارك احتمال تصرفاته المتعجرفة هذه؟"
ما زالت رنيم حائرة من مناورات الملكة اللفظية.. ما الذي تهدف إليه هذه المرأة بالضبط؟.. وبعد أن بحثت عن رد مناسب لمثل ذلك القول غير المتوقع، قالت رنيم بتهذيب "يحق للأمير التعامل بهذه الطريقة فهو ولي عهد عرش أعظم مملكة في عالمنا هذا.. لو كان الأمراء الأقل شأناً منه يفخرون بما يملكونه، فكيف لا يفعل ذلك الأمير زياد وهو من هو؟"
يبدو أن ردها أثار استياء الملكة التي قالت بضيق "وهل أحضرتك هنا لتشرحي لي مميزات الأمير زياد؟"
ظلت رنيم تنظر لها بغير فهم، فقالت الملكة بتقطيبة "اسمعي يا فتاة.. لابد أنك لاحظت أن الأمير زياد غير راغب بك، ولا يريد إتمام هذا الزواج.. لا يمكن لفتاة ألا تلحظ هذا من كلماته وتعليقاته.. لذلك أريد منك أمراً واحداً.."
ومالت نحو رنيم قائلة "أريدك أن تعلني رفضك لهذا الزواج.. اطلبي مقابلة الملك، وعندما تمثُلين أمامه أعلني عن عدم رضاك الارتباط بالأمير ورغبتك العودة لمملكة أبيك.."
رفعت رنيم عينيها بدهشة وصدمة، ثم قالت باضطراب "ولمَ لا يرفض الأمير هذا الزواج؟.. لابد أن كلمته مقبولة أكثر مني في هذا الشأن.."
قالت الملكة بحدة "الأمير لن يفعل ذلك.. فافعلي ما يطلب منك.. أستطيع أن أرى على وجهك الكئيب هذا أنك غير مسرورة ببقائك في القصر.. فلا تتعسي نفسك بهذا الأمر وأعلني رفضك بكل صراحة.."
خفضت رنيم رأسها مفكرة للحظة.. بدا لها واضحاً أن الملكة تخشى من رفض هذا الزواج أمام الملك، ويبدو أن الأمير زياد يخشى ذلك أيضاً.. فقد بدا لها بوضوح إصرار الملك على تزويج الأمير منها كما سمعت في اللقاء الوحيد الذي كان لها معه.. ألهذا تريد الملكة أن يأتي الرفض منها هي؟..
لم ترفع رنيم بصرها وهي تقول بصوت مرتبك "اعذريني يا مولاتي.. هذا أمر مستحيل بالنسبة لي.."
قطبت الملكة بشدة وهي تقول محتدة "ماذا تعنين؟"
التقطت رنيم نفساً قوياً لتشد عزمها، ثم قالت وهي تفرك يديها بشدة "لا أستطيع رفض الزواج من الأمير والعودة لقصر أبي.. هذا سيجلب عليّ نقمة الجميع، وستتضرر مصالح مملكة بني غياث بهذا كثيراً.."
ظلت الملكة تحدج رنيم بغضب.. كان رفضها فجائياً ولم يدر بخلد الملكة قط وهي تستدعيها لهذا اللقاء سابقاً.. كانت تظن أن رنيم ستذعن للأمر كعادتها منذ قدومها للقصر، فهي لا تملك الإرادة الكافية لمواجهة الملكة، كما أن عرضاً كهذا كفيل بإراحة رنيم التي بدت كارهة لوجودها في هذا القصر منذ البدء.. لكن ما لا تعلمه الملكة أن رنيم تخشى عودتها لقصر أبيها بشدة.. تخشى ما سيعلق به أبواها على هذا الأمر، وتخشى من نقمة المملكة عليها بعد أن ينقطع الخيط الذي كان سيُعقد بين المملكتين ولمدة طويلة..
انتبهت رنيم في تلك اللحظة لخطوات تقترب من طاولة الملكة دون استئذان كما يحدث عادة، ثم تعالى صوت الأمير زياد وهو يقول بعجرفة معتادة "ما الذي تفعلينه هنا؟"
انتبهت رنيم أنه يعنيها بهذا التساؤل.. وبينما لم تعلق الملكة على حديثه الخالي من اللياقة، فإن رنيم نهضت وأحنت رأسها له قائلة بصوت مبحوح "مولاتي الملكة قد استدعتني للحديث......"
قاطعها الأمير بنفاذ صبر وهو يجلس في كرسيها ملوحاً بيده "ارحلي من هنا.. أريد الحديث مع الملكة منفرداً.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تنحني لهما من جديد وتستدير مغادرة بهدوء.. كانت تشعر براحة لانقطاع حديثها مع الملكة، لكن تصرف الأمير الذي تلى حديث الملكة القاسي كان كلطمة موجهة لوجهها جعلت قلبها يغوص في جوفها.. لكنها لم تظهر هذا وهي تخرج من الشرفة بصمت..
بعد مغادرة رنيم، وكاينا تتبعها كالمعتاد بصمت، انتبهت الأخيرة لتأفف الأمير زياد وهو يجلس جوار أمه قائلاً بحنق "متى سأتخلص من هذه التافهة؟"
لا تدري كاينا لمَ شعرت بالقلق لقوله، رغم أنها متأكدة أنه لم يحاول إخفاء تأففه وضيقه عن رنيم.. لكنها تحركت على الفور وطلبت من رنيم الممتقعة أن تمنحها مهلة صغيرة لأداء عمل مهم.. ثم هرعت تعبر ذلك الرواق وخرجت من أحد الأبواب الزجاجية التي تفضي للحديقة ومنها عبر سلالم حجرية يقف على جانبيها تمثالان لفتاتين تحملان جرتين.. وخلف أحد التمثالين، فإن كاينا انزوت وهي متأكدة أن موقعها يقع تحت تلك الشرفة العالية التي جلست فيها الملكة الأم.. تظاهرت كاينا بأنها تعالج حذاءها وهي تنصت بكل حواسها مدركة أن من في الشرفة لا يمكنهم لمحها.. لكن لا يزال خطر رؤيتها من جوانب أخرى من الحديقة قائماً..
في تلك اللحظة سمعت صوت الأمير زياد يقول "حتى متى؟.. لقد طلبتِ مني الصبر مدة طويلة.. لكني سئمت ذلك.. لماذا يفرض عليّ الملك الزواج من بلهاء تسكن قرية لا أهمية لها حتى لو كان والدها ملكاً؟.. هذه سخافة.."
أتاها صوت الملكة الأم وهي تقول بصرامة "أخبرتك أن تتعامل معها بشكل ينفّرها منك، لكن جهودك كانت بلا طائل فها هي ترفض الانصياع لطلبي.. الآن علينا البحث عن وسيلة جديدة أكثر فائدة.."
قال الأمير زياد باشمئزاز "أنا لم أعُد أطيق النظر لوجهها.. سأبلغ أبي رفضي لهذا الزواج جملة وتفصيلاً.. أنا رجل، ولن يمكنه أبداً أن يجبرني......."
ضربت الملكة مقبض الكرسي بقوة وهي تقول "بل سيفعل.. سيجبرك على الزواج منها فهو لن يكسر وعده أمام ملك بني غياث.. لذلك من الخير لنا العثور على وسيلة ملائمة للتخلص منها دون أن نقع في عواقب لا نريدها.."
قال الأمير زياد باهتمام "ما رأيك بأن ندسّ من يقتلها؟.. سنخرج بها من القصر وهناك سنرسل من يتخلص منها.. ثم ندّعي أن اللصوص قد قتلوها بغية الحصول على ما ترتديه من جواهر.."
قالت الملكة بضيق "ما هذه الخطة التافهة؟.. أنسيت وجود مجد؟.. لن يسمح لها بمغادرة القصر دون حراسة مشددة.. ثم إن موضوع اللصوص هذا لا يصل لحد القتل في (الزهراء).. مدينتنا من أأمن المدن في جميع الممالك.. كيف تتوقع من الملك أن يصدق كذبة رخيصة كهذه دون أن يشك بالأمر؟.."
قال الأمير زياد باعتراض "لكني أراها مقنعة.. لمَ لا نحاول تنفيذها؟.. دعي أمر مجد عليّ.. يمكنني شغله بأفضل الطرق.."
صمتت الملكة للحظات، ثم قالت بابتسامة جانبية "لا.. لازلت مقتنعة بتفاهة خطتك.. لكن جانب الشخص المدسوس عليها قد أعجبني.. لكن يمكنني استخدامه بوسيلة أفضل وأكثر فاعلية.."
نظر لها الأمير زياد بغير فهم، فمالت نحوه قائلة باهتمام "استمع لما أقوله جيداً.. وتأكد أنك لن تفشي سرّ ما سأفعله لأي شخص، حتى للجارية التي تقضي الساعات برفقتها كل ليلة.."
مال الأمير زياد تجاهها باهتمام شديد، بينما تلاعبت ابتسامة خبيثة على شفتي الملكة الأم وهي تضيف "خطة بسيطة هي، لكنها لن تفشل بالتأكيد.."
قطبت كاينا باهتمام بالغ وهي تقبض على يديها بشدة.. ومع كل كلمة تتفوه بها الملكة، فإن كاينا تتأكد لحظة بعد لحظة أن إحساس البغض الذي شعرت به منذ رؤيتها للملكة لم يكن خائباً أبداً..

*********************

سارت كاينا بخطوات سريعة عبر الرواق الذي يؤدي لجناح رنيم وهي تفكر بشكل محموم.. ما سمعته خطير جداً، وله عواقب وخيمة بالنسبة لرنيم.. لذلك لم تقدر على البقاء صامتة وتتعامل مع الأمر بحيادية.. هي عادة لا تتدخل في أي أمر، ولا تهتم لأمر أي شخص في هذا القصر ما عدا ما يخصّ الخادمات الأخريات من ذوات جنسها.. لكن لا تستطيع تجاهل ما يخططه هذان الإثنان لرنيم.. تلك الفتاة التي تجدها على شيء من الطيبة بشكل لم تشهده من قبل في القصر، قد أذابت حواجز كثيرة بينها وبين كاينا منذ عملها معها رغم قِصَر تلك المدة.. لأول مرة تجد كاينا من يتعامل معها كإنسان، وكفتاة، لا كمجرد خادمة لا أهمية لها ويمكن استبدالها في أي لحظة.. ربما لهذا السبب استاءت كاينا لما سمعته.. لهذا السبب ركضت عائدة للجناح لتنذر رنيم مما يحاك ضدها بكل دناءة من أشخاص لا تنقصهم الأموال ولا المناصب ولا الهيبة.. أشخاص استكثروا على الفتاة أن تعيش حياتها بصمت وسكينة.. وفور اقتحامها للجناح، وجدت رنيم تجلس في جانب المكان دون أن تستبدل ملابسها وهي منطوية على نفسها تحدق من النافذة بصمت.. انتابت كاينا شفقة على هذه الفتاة المسالمة والتي ترى في عينيها براءة وطيبة قد يجدها الآخرون سلبية وضعفاً..
التفتت رنيم عندما انتبهت لدخول كاينا، وقالت "هل أنهيتِ ما ذهبت لإنجازه؟"
اندفعت كاينا إليها بعد أن تأكدت من إغلاق باب الجناح، وقالت بصوت متعجل "بل كشفت أمراً حرصت الملكة الأم على إخفائه عن الآخرين.. لذلك جئت لتحذيرك قبل أن يتم تنفيذ ما خططت له الملكة مع الأمير زياد.."
واندفعت تغلق النافذة خشية وجود متلصص أسفلها، بينما نهضت رنيم واقتربت منها قائلة بحيرة "لا أفهم ما ترمين إليه يا كاينا.. ما الذي جرى في اللحظات التي غبتِ فيها عني؟"
قالت كاينا باندفاع "لقد شككت أن الأمير زياد يريد التحدث مع الملكة الأم لشأن يخصّك، وتوجست من ذلك الحديث خيفة.. لذلك اختبأت في موقع قريب وتنصّت على حديثهما.."
رفعت رنيم حاجبيها معلقة "هذا سوء تصرف يا كاينا.. لمَ تلجأ الخادمات للتنصت دائماً؟"
قالت كاينا منفعلة "أهذا ما يهم الآن؟.. ألا يهمك أن تعرفي ما تحدث فيه الإثنان بما يخصك؟"
أدارت رنيم وجهها جانباً للحظات، ثم قالت بتوتر "لا.. لا أريد معرفة ذلك، فهو لن يسرّني بحال.."
واستدارت مبتعدة، لكن كاينا أمسكت ذراعها لتوقفها قائلة "تجاهل الأمر لن يمنعه من الحدوث يا مولاتي.. الأمير زياد يخطط مع الملكة للتخلص منك.."
نظرت لها رنيم بشيء من الصدمة، ثم قالت بغير تصديق "ربما أسأتِ فهم حديثهما.."
قالت كاينا بعصبية "لا.. لقد تباحثا في أفضل الخطط للتخلص منك دون أن ينالهما غضب الملك.. سيلصقان بك تهمة تجعل الملك يطردك من قصره ويعيدك لأبيك دون أن يتمّ هذا الزواج.."
اتسعت عينا رنيم وهي تهمس بصدمة "ماذا تقولين؟"
قالت كاينا وهي تقبض على ذراعي رنيم وتشدّ عليهما "سيحاولان دسّ أحد الحراس الشباب في جناحك بعد أن يغرياه بالكثير من العطايا المجزية.. فإن لم يتمكن من إغوائك فلن يتردد في الاعتداء عليك بالقوة.. وعندها سيكشفان كونك غير عذراء للملك، وسيدّعيان وجود عشيق لك من بين الحراس في القصر.. وحتى لو اتهمتِ الحارس بما فعله فهو بعد أن ينجز مهمته سيُطرد من القصر ومن العاصمة بأكملها، ولن يمكنك إثبات أن ما حدث لم يكن برضاك.. عندها لن يجد الملك بداً من إعادتك لمملكة بني غياث بعد أن تتناقل الألسن ما سيحدث لك وتصبح فضيحة في أرجاء القصر والعاصمة بأكملها، وهو ما ستتأكد الملكة من حدوثه بأكبر صدىً ممكن.."
شحبت رنيم بشدة وهي تستمع لما يقال.. غلبتها نفضة شديدة والخادمة تقول بانفعال "عليك أن تفعلي شيئاً قبل أن يحدث ذلك.. غادري القصر قبل أن ينفذوا مخططهم القذر هذا، فلو لجأتِ للملك طالبة عونه لن يتردد الإثنان في تنفيذ خطة أخرى لا نعلم عنها شيئاً.."
تهاوت رنيم على كرسي جانبي في جناحها، وبدت مع شحوبها الشديد كأن الحياة قد فارقتها بالفعل.. فاقتربت كاينا منها قائلة بإلحاح "يجب أن نفعل هذا فور مغيب شمس هذه الليلة.. يمكنني تدبير كل الأمور لوحدي.. سأعثر على وسيلة لإخراجك من هذه المدينة وسأوفر بعض الحراس لحمايتك.. عليك فقط أن تجزلي لهم العطاء عند وصولك إلى........"
قاطعتها رنيم بيأس وصوت مرتجف "إلى أين؟.. أين سأذهب بالله عليك؟"
نظرت لها كاينا بدهشة، ثم قالت "ستعودين إلى قصر أبيك.. أليس هذا بديهياً؟"
أطلقت رنيم ضحكة مبتورة قبل أن تقول بعينين زائغتين "أبي سيقتلني بنفسه لو عدت إليه خائبة الوفاض ودون زوج.. هدفي من وجودي في الحياة هو في الزواج من ولي عهد مملكة بني فارس.. ولو لم يحدث ذلك، فأنا لا جدوى لي.. وموتي أفضل بالنسبة له من عودتي لقصره وتحمّل خذلاني له بهذه الطريقة المخزية.."
ثم وضعت رأسها على راحتي يديها هامسة بصوت يرتجف "أنا ضائعة تماماً.. فإلى أين أذهب؟"
ركعت كاينا قربها وهزتها قائلة "أليس لك أي رأي فيما يجري لك؟.. ألا تقدرين على مواجهة أبيك وإخباره بما انتوى الأمير زياد وأمه فعله بك؟.. قد يتفهم.. لا يمكن للملك أن يقبل بهذا على ابنته.."
غمغمت رنيم بمرارة "أنت متعاطفة معي أكثر مما قد يفعل أبي في حياته كلها.. عودتي لقصر أبي هو حكم عليّ بالموت.."
قالت كاينا بغير تصديق "هذه مبالغة.."
لم تعلق رنيم ودمعة تسيل من عينها وتسقط على ثوبها وهي تحدق بالنقوش الزاهية في السجادة تحت قدميها.. لقد وصلت لنقطة مسدودة ولم تعد قادرة على معرفة ما يمكنها فعله.. لطالما عاشت حياتها مسيّرة كما يشاء والدها الملك أو كما تحبّ أمها الملكة الثانية.. بل إن الملكة الأولى كان لها يد أيضاً في تسيير حياتها واتخاذ قراراتها عنها بينما لم تملك رنيم سوى الإذعان وتنفيذ خيارات لم تتخذها ولا تناسبها لكنها لم تعترض بكلمة يوماً.. وحتى إن اعترضت فإن الآخرين كانوا لا يأبهون لاعتراضها.. لذلك كان جلّ ما تملكه هو الهرب بخيالها.. لم تكن تهرب فقط من كآبة القصر وجدرانه الصماء.. بل كانت تهرب من ضعفها ومن خنوعها المخجلين.. تهرب لتحلم بأنها أكثر قوة وشجاعة مما هي بالفعل.. تحلم بأن تكون ذات شخصية جميلة تجذب الآخرين وتبهرهم.. أن تكون كصبيحة، الزوجة الثانية للملك قصيّ الأول جدها الأكبر، وهي امرأة عُرفت بقوتها وحكمتها وطيبتها الشديدة.. كانت فارسة لا يشق لها غبار في تلك الأوقات المضطربة التي صاحبت إنشاء مملكة بني غياث، وفي الآن ذاته كانت أماً رؤوماً اعتنت بصبي وفتاة يتيمين ليسا من صلبها بعد أن أدركت أنها لا تنجب.. لقد اشتهرت سيرتها واهتم كثير من الكتاب والمؤرخين بتدوينها مازجينها أحياناً ببعض المبالغات والخرافات التي تزيد حكايتها جمالاً وإبهاراً في عيني رنيم.. ولا تزال اللوحة التي تحمل صورتها، بدرع لامع فضي حاملة علم المملكة مرفرفاً وشعرها الأشقر يتطاير في الهواء، لا تزال تلك اللوحة معلقة في أهم قاعات قصر أبيها جوار لوحات تخص ملوك المملكة السابقين.. لكن للأسف، فإن رنيم لم تستطع أن تكون مثلها ولا تستطيع المحاولة حتى.. كل ما كانت تأمله أن تمضي حياتها دون أن تضطر للصدام مع أشخاص يفوقونها قوة وإصراراً.. وهو ما يكاد يحدث الآن في قصر الملك عبّاد..
تساقطت الدموع من عيني رنيم متتابعة وكاينا تقول "عليك اتخاذ القرار.. هل ستبقين في هذا القصر وتنتظرين غدر الأمير زياد؟.. أتظنين أن حالك سيكون أفضل بعد أن يلصق الأمير تهمته عليك وتعودين مكللة بالعار لقصر أبيك؟.. كوني قوية واتخذي قرارك بنفسك.."
لكن هذا مستحيل.. هكذا رددت رنيم لنفسها وهي تنهض متعثرة وتسير لسريرها العريض فترمي نفسها عليه وتدفن وجهها في وسائده بصمت.. من المحال أن تتخذ رنيم خطوة كبيرة كهذه.. من المحال أن تجد الشجاعة للهرب ومواجهة أبيها حتى لو كانت مظلومة.. دفنت وجهها في وسادة ناعمة الملمس، ورغم الرائحة العطرة التي تضوع من سريرها عادة، إلا أنها شعرت بغثيان شديد من كل ما تراه وتشمّه في هذا القصر.. أغمضت عينيها محاولة الهرب من واقعها الذي لطمها بشدة.. وشعرت بجدران القصر تكاد تطبق عليها، ولم يكن لها مهرب من هذه الكآبة التي حلّقت فوق رأسها..
شعرت بكاينا تقف قرب سريرها متنهدة بضيق لهذا الخنوع الذي أبدته رنيم، ثم دمدمت "ربما تنقلب حياتك رأساً على عقب هذه الليلة.. لنأمل أن تملكي الإرادة لاتخاذ التصرف الصحيح عندها.."
وغادرت بصمت مغلقة باب الجناح خلفها.. ورغم أن جملة كاينا كانت غامضة وأشعلت عدة تساؤلات في نفس رنيم، إلا أن صدمتها لما يخطط لها كانت حاضرة بقوة ومهيمنة عليها وهي تسلك السبيل الوحيد لتنسى هذه الصدمة.. ومهربها الوحيد كان في استغراقها في أحلام اليقظة وتناسي واقعها المؤلم الذي يزداد كآبة مع كل يوم يمضي..

*********************

عالم خيال 15-12-15 08:57 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الخامس: مجرد أحلام


عمّ الظلام شبه الدامس تلك الليلة على القصر المنيف الذي يتجاوز حجمه حجم قرية صغيرة من القرى الفقيرة في المملكة.. ورغم مضيّ ساعات تلك الليلة وخلود أغلب سكانه للنوم، فإن بضع مواقع فيه ظلت ساهرة لشأن أو لآخر.. مثل تلك القاعة التي اجتمع فيها الأمير زياد مع نخبة من أصدقائه لا يقلّون عنه خبثاً وصفاقة، ودارت بينهم الكؤوس في جلسة ستطول عدة ساعات قبل أن يغرق بعضهم في النوم في مكانه بينما يغادر الأمير زياد لجناحه برفقة أحد الخدم وهو يترنح ويضحك لأقل كلمة.. وفي جانب آخر فإن الملك ظل ساهراً بدوره برفقة بعض وزرائه يتناقشون أمر الهجمات التي طالت قوافل تجارية خرجت من (الزهراء) نحو أحد الجوانب القصيّة من المملكة.. ومغزى مثل تلك الهجمات المتكررة في طريق اشتهر بأنه آمنٌ يسلكه التجار كل عام لتسويق بضائعهم..
في تلك الليلة، لم تكن رنيم قد غادرت سريرها سوى بعد المغيب لاستبدال ملابسها ولتناول بعض الطعام بعد أن أجبرتها كاينا على ذلك.. فمنذ صدمتها لما يخططه الأمير زياد لها، وهي محبطة ومكتئبة بحيث لا تملك الإرادة للجلوس ناهيك عن الخروج من جناحها أو مقابلة أي شخص من القصر.. وبالطبع لم يعبأ شخص لأمرها بعد رحيل نوران وهي الوحيدة التي أبدت اهتماماً صادقاً تجاهها، ومع انشغال مجد وعدم تمكنه من الاقتراب من جناحها لئلا يثير تصرفه الأقاويل في شأنها وشأنه..
ظلت رنيم منطوية على نفسها في سريرها وهي تجبر عقلها على أن يتوه في عوالم أخرى بعيدة عن القصر وعن (الزهراء) وعن المملكة كلها.. بعد أن فقدت كتبها، فإنها فقدت وسيلتها الوحيدة للهرب من الخيبات التي تحاصرها.. لذلك لجأت لخيالها الذي اتسع وتمدد مع الحكايات والكتب التي أدمنت قراءتها لسنوات طوال.. سرحت في عالم تكون فيه طليقة.. وربما تكون كإحدى تلك الكائنات ذوات الأجنحة تحلق في السماء بكل حرية دون أن يقيدها شيء للتراب.. استرسلت في خيالها حتى غرقت في النوم بالفعل ليتمدد خيالها في حلم طويل وجدت نفسها فيه..
كانت في الحلم كائناً يغزو الريش اللامع الأخضر جسده، بذيل طويل جميل وجناحان يلتمع ريشهما تحت ضوء الشمس.. كانت تحلق بكل سلاسة ونعومة، وترى (الزهراء) من تحتها كأنها رقعة صغيرة لا تتجاوز متراً واحداً ولا تكاد تلمح بشرياً من سكانها لعلوّها في السماء.. أدارت رنيم بصرها عن الأرض التي باتت تمقتها وحوّلت بصرها للغيوم التي تعلو رأسها وهي تحاول جاهدة الارتفاع فوقها.. رفرفت بجناحيها بقوة ودفعت نفسها حتى اخترقت جانباً من الغيوم وارتفعت فوقها لتبدو لها الشمس الوليدة في الأفق أشد لمعاناً من أي وقت مضى..
اتسعت ابتسامة رنيم كما لم تفعل من قبل، ولم تلبث أن تحولت إلى ضحكة عالية مليئة بسعادة لم تذقها منذ زمن.. رغم أنها مدركة أن هذا لا يعدو كونه حلماً، لكنه كان أجمل من أن تتمنى انتهاءه.. تمنت لو سجنت نفسها في هذا الحلم للأبد ولم تعُدْ لواقعها القاسي.. فليس في حياتها ما يدعوها للتلهف عليه أو البكاء على فقدانه..
قطعت ضحكتها عندما لمحت ظلاً أسود يعلوها.. وعندما رفعت رأسها بدهشة فوجئت بذلك النسر الضخم الذي انقض عليها بقوة.. تلقائياً، رفرفت رنيم بجناحيها جزعة وهي تدير نفسها جانباً محاولة الهرب دون أن تدرك السبب.. من أين ظهر هذا النسر الضخم بشكل المرعب؟.. أهو ينوي اصطيادها؟.. لكنها وجدت مخالبه الحادة تنغرس في كتفيها قبل أن تتمكن من الهرب وهو يجثم بثقله عليها، ومع ثقله، بدأت رنيم تهوي بقوة من ذلك الارتفاع والأرض تقترب منها بسرعة شديدة.. أطلقت صيحة فزع والمدينة في الأسفل تتقارب منها بسرعة وشدة حتى بدت لها المنازل والأبراج واضحة أشد الوضوح.. ورغم محاولاتها، لم تتمكن من الإفلات من النسر الذي زاد من ثقله عليها وكأنه يدفعها عامداً للأسفل.. وكأنه ينتوي إجبارها على السقوط والارتطام بالأرض بأعنف ما يمكن.. ورغم صرخاتها، إلا أن رنيم أدركت أن نهايتها قادمة لا محالة..
وقبل أن تلامس الأرض، استيقظت جزعة وقلبها يدق بقوة.. واستغرق الأمر منها بضع لحظات لتدرك أنها لا تزال في جناحها المظلم في القصر.. فهمست لنفسها وهي تتأمل الظلام الدامس من حولها "يا له من حلم مقبض.. ما الذي يعنيه يا ترى؟.."
مسحت قطرات عرق احتشدت على جبينها عندما سمعت صوتاً خافتاً قرب سريرها.. رفعت بصرها بشيء من الدهشة بعد أن اعتادت عيناها على الظلام لترى خيالاً أسود طويلاً يقف وسط الجناح عند قدم سريرها.. لوهلة ظنت أنها لا تزال غارقة في ذلك الحلم الكئيب، لكن حركة حادة من ذلك الظل نحوها وهو يدفع يده تجاهها بشيء ما جعلتها تتراجع بحدة حتى ارتطم رأسها بالإطار الخشبي المذهب للسرير بأطرافه البارزة الحادة.. ومع الألم الذي نبض من مؤخرة رأسها، ومع التماعة ذلك السيف العريض الذي وجّهه الظل ناحيتها وكاد يلامس طرف أنفها، فإن رنيم انتبهت من نومها بشكل كامل وندت عنها صرخة حادة عالية حملت رعباً عارماً في ثناياها.. ومع صراخها، كان من المفترض أن تقضّ مضجع القصر الساكن في عتمة تلك الليلة.. لكن ذلك لم يحدث البتة ولم يبدُ أن أحداً سيهبّ لنجدتها، بينما بدرت من الظل الطويل كلمات حانقة بصوت عميق أثار فزعها أكثر قبل أن يمد يده ويزيح الستار الذي يحجب نور القمر الباهت عن المكان.. ومع النور الخفيف الذي أضاء أرجاء المكان، فإن ارتجافة رنيم قد تحولت نفضة عارمة وهي ترى بوضوح هوية ذلك الظل، وتتبين فيه رجلاً لم تره من قبل في القصر.. ثم سمعته يقول بصوت خشن ولكنة ثقيلة زادتها رعباً "أين جايا؟.."
رفعت بصرها له برعب بالعة ريقها بصعوبة.. كان الظل لرجل طويل عريض الكتفين بجسد ممشوق ووجه لوّحته الشمس بشدة.. ملامحه جافة وعيناه حادتان زادتاها رعباً وحاجباه المنخفضان ألقيا ظلالهما على عينيه السوداوين بحيث بدت نظراته مبهمة غامضة.. بوجهه غير حليق بينما أرسل شعره الأسود الطويل في ظفيرة على ظهره.. وثيابه هي مزيج من قماش قطني بلون داكن وسترة جلدية وحذائين من جلد مدبوغ بلون بني يصل لأعلى ساقيه وقد لفّ فوقهما شرائط من قماش سميك ثبتهما على قدميه بإحكام..
عاد الرجل يكرر السؤال على رنيم التي لم تتمالك ذهولها من هذا الهجوم على جناحها الواقع وسط القصر بغفلة من حراسه، ولما لم يجد إجابة لتساؤله عاد يلوح بسيفه العريض نحوها صائحاً بشيء من الحدة "أين جايا؟.. أجيبي.."
انتفضت رنيم واقفة بذعر وهزت رأسها بشدة دلالة عدم المعرفة أو عدم الفهم.. هل يبحث عن شخص ما أم عن شيء ما يسمى جايا؟..
في تلك اللحظة سمعت كلمات بصوت متوتر صدرت من باب جناحها، ثم رأت كاينا خادمتها الوفية وهي تهرع نحو الرجل وتجادله بشيء من العصبية.. ظلت رنيم تراقبها بذهول وعدم استيعاب.. مع هيئة ذلك الرجل الغريبة والمرعبة، ومع وجوده الأشد غرابة في هذا الوقت وهذا المكان، فإن خادمتها لم تظهر دهشة للأمر ولا خوفاً من ذلك الغريب، بالإضافة لتحدثهما بلغة واحدة لم تفقه رنيم منها حرفاً..
لاحظت أن الرجل ألقى عليها بنظرة حانقة بينما استمرت كاينا تحدثه بعصبية.. لكنه ألقى عدة كلمات حازمة عليها قبل أن يجذب رنيم من ذراعها بشدة متجهاً لباب جناحها.. جذبت رنيم ذراعها بقوة وهي تهتف برعب "أطلقني.."
حدجها الرجل بنظرة سبّبت لها نفضة قوية وشدد قبضته على ذراعها قائلاً بحنق "اصمتي.."
عاد يجذبها خلفه من جديد دون أن تُجدي مقاومتها المستمرة في منعه من ذلك، بينما سارعت كاينا تتبعها قائلة "لا تقلقي.. إنه لا ينوي لك شراً.."
التفتت إليها رنيم قائلة بنبرة مرتعبة "أتعرفين هذا المتهجم؟.. كيف دخل القصر وسط الحراسة المشددة؟.."
لم تكد تتم جملتها عند مغادرتهم جناحها حتى رأت في الرواق الواسع ما سبب لها صدمة شديدة.. فعلى ضوء المصابيح المتناثرة بشكل مدروس في الرواق القريب، رأت رنيم عدداً من الأجساد الملقاة أرضاً والدماء التي لطخت الجدران والأرضية دليل واضح لما جرى بغفلة منها.. غطت رنيم فمها بيد وهي تهمس "هل قتلتهم جميعاً؟.."
أسرعت كاينا تقول "ليسوا موتى.. فلا تقلقي.. أغلبهم نجا من الموت بأعجوبة.."
انتبهت في تلك اللحظة للأنين الصادر من بعض تلك الأجساد، وبدا لها أن إصاباتهم لا تبدو قاتلة، لكنها كافية لتعطيلهم.. زادت رنيم من مقاومتها لمختطفها على أمل أن يهبّ أحد الحراس لنجدتها، وصاحت بصوتٍ عالٍ وهي تجذب ذراعها "أنقذوني.. ليساعدني أحدكم.."
لكن من رأته يقترب من مختطفها من الجهة الأخرى للرواق لم يكن حارساً جلّ همه إنقاذها، بل رجلان لا يختلفان كثيراً عن مختطفها في الشكل والزي والسيف العريض الذي يخلو من أي زينة أو غمد.. قلّبت رنيم بصرها فيمن حولها بصدمة وهي تسمع الحوار الذي دار بين الثلاثة، وقد بدأت تدرك أبعاد ما جرى في القصر في غفلة من الجميع.. لم يكن ذلك تسللٌ قام به رجل واحد، بل هجوم قامت به جماعة لا تعلم رنيم عدد أفرادها.. جماعة نجحت في التغلب على تحصينات القصر وأسواره بوسيلة ما وتخلصت ممن يواجهها من الحراس والآن قد تمكنت من القبض عليها لسبب لا تفهمه..
التفتت رنيم إلى كاينا القريبة قائلة بصدمة وغضب "أأنت سبب كل هذا؟.. هل سهّلت لهؤلاء المتوحشين التسلل للقصر والتنكيل بمن فيه بكل حقارة؟.."
رفعت كاينا رأسها قائلة "لست أنا الحقيرة وأنا التي اختُطفت وأُجبرت على الخضوع لأصحاب هذا القصر بكل ذِلّة.."
قالت رنيم بنظرات قلقة "وهؤلاء؟.. أهم من الرعاع أيضاً؟.."
رمقها الرجال الثلاثة بشيء من الحدة بينما قالت كاينا بحزم "أنتم من أطلق علينا هذا اللقب.. لكننا لسنا رعاع.. نحن الهوت ونفخر بذلك.."
استدار الرجل الأول إليها مشدداً قبضته عليها وقال بحدة "كفى جدالاً.. لن أطلقك حتى أعرف ما فعلتموه بجايا.. أين هي؟.."
قالت رنيم بقلق "لكني لا أعلم من هي جايا ولا أين هي.. أطلقني أرجوك فلا شأن لي بأي شيء.."
سارعت كاينا تقول "هي بالفعل لا تعلم شيئاً.. لقد جاءت للقصر منذ وقت قصير ولا تدري بأي شيء جرى فيه سابقاً.."
صاح الرجل بكاينا بغلظة "كيف لا تعلمين أنتِ من أمر جايا شيئاً؟.. ما الذي كنت تفعلينه في الأشهر الماضية؟.."
قالت كاينا بتوتر "لقد فقدتُ أثرها منذ أيامٍ عدة.. وحريّ بسؤالي عنها أن يجذب الأنظار إليّ.. لكني لم أتوانَ عن البحث عنها بكل ما أملك دون أن أكشف من أمرنا شيئاً.."
وإزاء نظرات الرجل الحادة أضافت بسرعة "كل ما يمكنني تأكيده أن آخر من خدمته كان الأمير زياد.."
غمغم الرجل بحنق "زياد؟.. ذلك الوغد.. لن يفلت من يدي مهما اختبأ أو هرب.."
نقلت رنيم بصرها بينهم ثم قالت بتوسل "ها أنت تدرك ألا علاقة لي بهذا الأمر.. فأطلقني أرجوك.."
قبل أن يجيبها الرجل سمعا صياحاً من رجل آخر بتلك اللغة الخاصة بالهوت توتر لها الرجال جميعاً.. وصاحب ذلك صوت بعض البنادق يندلع في أرجاء أخرى من القصر.. وسرعان ما بدأ الرجال يتراجعون رغم الحنق على وجوههم، وبالمثل تبعتهم كاينا دون تردد.. عندها وجدتها رنيم فرصة للهرب من قبضة ذلك الرجل الذي انشغل عنها للحظات، فجذبت ذراعها بقوة واستدارت هاربة بأسرع ما تستطيع.. لكنها لم تكد تبتعد حتى فوجئت به يلحقها بخطوات واسعة ويضربها بقوة على ظهرها أسقطتها أرضاً.. عندها سارع للوي ذراعيها خلف ظهرها ثم قيّد يديها بشدة بحزام ثوبها القطني.. صاحت رنيم وهي تقاومه "ما الذي تبغيه مني؟.. ماذا تنوي فعله بي؟.."
قال الرجل وهو ينهضها واقفة "أنت زوجة زياد.. ألستِ كذلك؟"
اتسعت عينا رنيم بقلق محاولة إدراك مغزى قوله، لكنها فوجئت به يحملها ويضعها على كتفه بخفة كأي جوال قمح، وسرعان ما لحق بالبقية دون إبطاء.. فصاحت رنيم وقاومت بشدة وهي تحاول الإفلات من قبضته القوية ومن مصير تخشاه بشدة.. كانت تجد أنها تتعرض للاختطاف وسط القصر وعلى مرأى من حراسه دون أن تجد من يمد يده لمعاونتها.. فأين اختفت الخادمات وبقية الحرس؟.. وأين الأمير زياد، زوجها المستقبلي؟.. بل أين اختفى مجد الذي كان عوناً لها منذ قدومها ووعدها أنه سيحميها دائماً؟..
وجدت أن الجمع الصغير قد اتجه لأبواب زجاجية تؤدي لشرفة واسعة مرتفعة تتجاوز حجم الشرفات العادية.. ووسطها، وعلى ضوء القمر، لاحظت رنيم تلك الأعين الملتمعة كأعين الهررة بلونها الأخضر المشع بينما تدلى اللسان الطويل من الفم الواسع بأنيابه الحادة.. شهقت رنيم بشدة وهي ترى تلك الكائنات رأي العين للمرة الأولى، فرغم معرفتها بها إلا أنها لم ترها سابقاً إلا في بضع لوحات مرسومة متناثرة في عدد من أروقة القصر.. لم تكن تلك الكائنات التي انتصبت وسط الشرفة، وعددها لا يقل عن خمس، إلا تنانين على شيء من الضخامة.. وقد التمع جسدها على نور القمر الشحيح وبعضها مغطىً بحراشف سميكة، بينما فردت أجنحتها العريضة التي تشبه أجنحة الخفافيش وحركتها بقوة دافعة الهواء بصوت واضح أيقظ رنيم من ذهولها..
ركلت رنيم وصرخت بشدة لدى رؤيتها تلك التنانين التي وقفت بتململ وهي تصدر فحيحاً من أفواهها بتهديد واضح.. لم تكن تحلم بلقاء هذه الكائنات يوماً، ولم تكن تعرف عنها إلا ما قرأته في متون الكتب في مكتبة أبيها الضخمة، وكل ما عرفته أنها تعيش في الجانب الشمالي من القارة العظمى حيث الجو أكثر برودة، وحيث تؤمن لها الجبال العالية مأوىً يناسب طبيعتها المتوحشة.. والآن تراها وتقترب منها في هذه الظروف الصادمة وفي لحظة اختطافها قسراً من أشخاص لا تعرفهم ولسبب تجهله تماماً.. لكن الرجل الذي يحملها شدّد قبضته عليها وهو يقترب من أحد أشرس التنانين مظهراً بلون أبيض وأطراف حمراء، جلده ثخين يكاد يخلو من الحراشف التي كست أجساد بعض التنانين الأخرى، وعيناه خضراوان لامعتان فوق أنف طويل ينتهي بفم مدبب بأسنان صفراء حادة.. لاحظت رنيم نوعاً من اللجام البدائي في فم التنين وسرج غريب الشكل على ظهره، ويعلو طرفا السرج الأمامي والخلفي أكثر من المعتاد ليمنحا الراكب ثباتاً أكبر.. تلفتت رنيم حولها برعب وارتباك بحثاً عمن ينقذها، لكن القصر بقي هادئاً بشكل مريب، بينما امتطى الرجال الذين سبقوهما ظهور التنانين الأخرى وكل منهم يردف خلفه إحدى الخادمات اللواتي ينتمين للهوت.. وانتبهت رنيم لعدد آخر من تلك الكائنات تحلق في الجو ولا يكشفها إلا نور القمر الشاحب..
سمعوا في تلك اللحظة خطوات راكضة من خلفهم لعدد من الأشخاص، وسرعان ما ظهر عدد من الحراس من بوابة تلك الشرفة حاملين بنادقهم بتأهب يتقدمهم مجد الذي صاح "قفوا واستسلموا حالاً.. الحراس يحاصرونكم من جميع الجهات.."
تلفتت كاينا بتوتر لتلاحظ جمعاً آخر من الحراس يقف في جوانب الحديقة وفي الشرفات الأخرى موجهين بنادقهم تجاه الدخلاء بتحذير واضح.. ولدى رؤية مجد، صاحت رنيم بهستيرية "أين كنت يا مجد؟.. كيف يتم اختطافي بكل بساطة من القصر وأنت موجود؟.."
قال مجد بحزم وهو يتقدم "لم أكن لأسمح بذلك.. كنت فقط أؤمّن الملك وعائلته قبل قدومي إليك.."
شعرت رنيم بشيء من المرارة لقوله.. طبعاً الملك وأفراد عائلته أهم منها، وما سيجري لها سيحتل المرتبة الثانية من اهتمامات مجد وحراس القصر.. لماذا لا تشعر بأي صدمة لهذا؟..
توقف مجد عن تقدمه فجأة عندما أنزل المختطف رنيم من على كتفه بعنف ووجّه سيفه العريض إلى عنقها بتهديد واضح.. دار مجد ببصره في الرجال والخادمات أمامه للحظة، ثم قال بحزم "لو حاولتم الهرب فلن نتردد في إطلاق رصاصات بنادقنا عليكم.."
قال الرجل بسخرية "ألا يهمك أمر الفتاة؟.."
قطب مجد بينما أضاف الرجل بصرامة "لو أردت استعادتها فأعد جايا إلينا.. هذا هو شرطنا الوحيد.."
كان دور مجد لتنتابه الحيرة وهو يتساءل "ماذا تعني؟.. من هي جايا؟.."
صاح الرجل بحدة "لا تتظاهر بالغباء.. فهذا لن يجعلني أكثر تسامحاً في معاملة هذه الفتاة.."
سمعوا أحد رجال الهوت يجادل الأول بشيء من العصبية، دون أن يخفف الأول نظراته الحادة والحازمة التي وجهها لمجد وحراس القصر.. وقبل أن يتصرف أحد الحرس بحركة، أصدر أحد التنانين زمجرة قوية نحو الحراس صاحبها فحيح من آخر أثار الفزع في قلوبهم وجعلهم يتراجعون خطوات تاركين مجد يقف في موقعه بمفرده.. ولم يكد الحراس يستعيدون ثباتهم حتى فوجئوا بالرجل يرمي رنيم على ظهر التنين القريب ويقفز خلفها بدوره جاذباً العنان بقوة، لينطلق التنين على الفور بعد أن زمجر بتحذير شديد.. ووسط صراخ رنيم المرتعبة، فإن مجد الذي كان الأسرع حراكاً ركض بسرعة متجاوزاً المسافة البسيطة التي تفصله عن الدخلاء، ثم قفز بأقوى ما يملك ليتعلق بساق التنين الذي يحمل الفتاة.. وبينما أطلق التنين صيحة غاضبة وهو يواصل ارتفاعه، فإن مجد زاد من تشبثه بالتنين وهو يحاول رفع جسده عالياً.. لكن الرجل سارع لركل مجد بغير ترفق حتى أسقطه من ذلك الارتفاع الذي لا يقل عن خمسة أمتار وسط نظرات رنيم المرتعبة..
سقط مجد سقطة مؤلمة رغم محاولته تخفيف سقطته تلك، وقبل أن يعتدل سمع أحد الحراس يصيح بالبقية "أطلقوا الرصاص على التنانين.. امنعوها من الهرب.."
بدأ الحراس في إطلاق رصاصات بنادقهم على التنانين بتوتر كبير بينما نهض مجد قابضاً على ذراعه اليمنى التي اشتعلت بألم حارق، وصاح في رجاله "حاذروا من إصابة الأميرة.."
كانت الرصاصات غير مجدية في التصدي للتنانين التي نجح جلدها السميك المغطى بالحراشف في تخفيف تأثير الرصاصات وصدّها في بعض الأحيان.. وبينما حاول راكبوها تفادي ذلك السيل المنهمر من كل الاتجاهات، فإنهم فوجئوا بصوت مدفع يدوي من جانب القصر قبل أن يلمحوا طلقة مشتعلة تطير تجاههم شاقة السماء المظلمة.. تفادت التنانين تلك الطلقة بصعوبة ليجدوا أن طلقات أخرى بدأت تتبعها بغزارة وقد أضاءت جانباً من الظلام المهيمن على القصر والسماء..
صاح الرجل الذي اختطف رنيم بالبقية وهو يناور طلقة كادت ترتطم بصدر التنين "يكفينا هذا.. لنتراجع في الوقت الحالي.."
وجذب العنان في يده ليرتفع بالتنين بسرعة فائقة وحركة بدت مجنونة لرنيم التي صرخت بشدة وهي لا تصدق ما يجري لها.. ووسط شهقاتها المرتعبة، فإن الأرض تضاءلت أمام عينيها بسرعة كبيرة بينما الطلقات المشتعلة ما تزال تشق السماء نحوهم.. ومع طيران التنين بحركات خطرة، تزايد شعور رنيم بأن جسدها يكاد يفقد توازنه حيث ألقاها الرجل على بطنها فوق التنين دون أن يفك قيد يديها ليسمح لها بالتشبث بالسرج.. وإزاء منظر كهذا، وانفعالات عنيفة كالتي مرت بها، لم تجد رنيم ما تفعله أفضل من أن تفقد وعيها في محاولة للهروب من ليلة أثارت رعبها بلا حدود..

*********************

بعد وقت طويل، والأمير زياد قد استنفذ كل الصبر عنده حيث اختبأ مع بعض الحرس في أحد الأجنحة القصيّة من القصر، رأى مجد يدلف الجناح بذراع مجبرة بشكل بسيط ومعلقة في عنقه برباط قوي.. فقال زياد بتقطيبة "ما الذي جرى؟.. هل نجحت في التخلص من أولئك الدخلاء؟"
زفر مجد قائلاً "لقد غادروا بالفعل.. لكنهم قد استعادوا جميع الفتيات اللواتي جلبهن الملك من الهوت.."
قال زياد بحنق "كيف يحدث هذا في قصر أعظم ملك في الدنيا؟.. هذه وصمة عار علينا، وعليك أنت بالذات وأنت المكلف بحراسة هذا القصر وأصحابه.."
قال مجد خافضاً رأسه "أعلم ذلك يا مولاي.. لكنني أشدد الحراسة على القصر كل ليلة لتفادي أي هجوم من الخارج.. ولم أتوقع يوماً أن يبدأ الهجوم من الداخل، بواسطة هاته الفتيات اللواتي يعلمن مداخل القصر ومخارجه.. كما أنني لم أتوقع يوماً أن يتركز الهجوم على القصر من الأعلى.."
قال زياد بحدة "هذا لن يعفيك من العقاب بتاتاً.. نحن في حالٍ يرثى لها بسببك.."
قال مجد دون أن يقابل عيني زياد بعينيه "هناك أمر آخر يا مولاي.."
سأله زياد بجفاء "ما هو؟.. هل سرق أولئك الرعاع شيئاً من القصر؟.. سيكون ذلك متوقعاً.."
أجاب مجد بتوتر "لا.. لكن أحدهم قام باختطاف مولاتي رنيم.."
نظر له زياد مقطباً، بينما أضاف مجد "لقد تحدث المختطف عن فتاة اسمها جايا.. وطالب بإعادتها.."
قال زياد رافعاً حاجبيه "آه.. تلك الفتاة؟.. لقد اختفت منذ مدة طويلة.."
فقال مجد "عليّ أخذ فرقة من الجنود واللحاق بهم قبل أن يبتعدوا عن (الزهراء) كثيراً.. ربما أستطيع إجبارهم على الهبوط بتلك التنانين بوسيلة ما، وعندها......."
قال زياد بجفاء "لا تتعب نفسك.. لا يهمني ما يجري لتلك الفتاة.."
نظر له مجد بدهشة وعدم استيعاب، ثم قال "مولاي.. إن مولاتي رنيم....."
قال زياد بحدة "أخبرتك أن تنسى أمرها.. ألا تفهم؟.. سلامتي وسلامة الملك أهم من تلك التافهة.."
ثم استدار مبتعداً وهو يدمدم "هذه فرصة أتتني من السماء للخلاص منها.. والآن يتوقعون مني أن أحاول جهدي لاستعادتها؟.. هذا أمر مضحك.."
تبعه مجد قائلاً بإلحاح "مولاي.. لا يمكنني التخلي عن مولاتي رنيم.. عليّ استعادتها قبل أن يفعل بها أولئك الرعاع شيئاً.. لو أصابها أي مكروه، فإن الملك قصيّ لن يصمت على هذا.."
قال زياد باستهزاء "الملك قصيّ؟.. وما الذي يمكن أن يفعله ذلك التافه تجاه مملكتنا العظيمة؟"
ثم أضاف ضاحكاً "أراهنك أنه سيسارع لإرسال ابنة أخرى لاستبدال تلك التي فشلت.. فلا يمكنه أن يفرّط في علاقات مملكته البائسة بنا بسهولة لأجل فتاة.."
لم يكن رد فعل الأمير زياد مفاجئاً لمجد، ولم يكن توقعه عن رد فعل الملك قصيّ بمستغرب.. فكما قالت رنيم مراراً، أهمية وجودها في الحياة هو في نجاحها فيما سيقت له.. وفشلها يجعلها لا تستحق اهتماماً من أحد.. أيمكن لحياتها أن تكون أكثر جفافاً وقسوة رغم ما يحيط بها من نعيم؟..
وقف مجد وسط الجناح مقطباً بشدة، ثم قال بلهجة حازمة "عذراً يا مولاي.. بعد أن أتأكد من تخلصنا من الدخلاء، سأذهب على رأس فرقة صغيرة من الجنود لاستعادة مولاتي رنيم.. هذا واجبي، وما حدث لها كان بسبب تهاوني.. لذلك......"
قاطعه صياح زياد بغضب "ماذا تعني؟.. أتعصي أوامري؟"
قبل أن يعترض مجد بكلمة، جاءه صوت الملكة سليمة وهي تقول بصرامة "عصيان أوامر الملك أو ولي عهده كفيل بجعلك في مصاف الخونة يا مجد....."
نظر مجد للملكة التي اقتربت منهما بتقطيبة وهي تضيف بصرامة "وأنت تعلم عقوبة الخيانة جيداً.. أليس كذلك؟"
قال مجد بضيق "وهل الحفاظ على سلامة أحد أفراد العائلة المالكة يحسب خيانة؟"
أطلق الأمير زياد ضحكة ساخرة والملكة تضيف بابتسامة جانبية "تلك الفتاة لم تكن، ولن تكون جزءاً من العائلة المالكة.. وبعد ما جرى لها الليلة، فإنها لم تعد بمكانة تسمح لها بالتشرف للانضمام لعائلة الملك عبّاد.. لذلك لا تتعب رأسك بأمرها كثيراً.."
خفض مجد رأسه بضيق شديد، أهو ذنبها أنها اختطفت من قصر الملك وسط الحراسة المشددة؟.. ثم قال محاولاً الثبات على موقفه "مع احترامي لك ولولي العهد يا مولاتي، لا يمكنني بتاتاً أن........"
قاطعه صياح من جانب الجناح وأحد الخدم يقترب مسرعاً من الملكة صائحاً "مولاتي.. مولاي.."
التفتت إليه الملكة قائلة بضيق "ما الأمر؟.. لمَ هذا الصياح المزعج؟"
قال الخادم وهو يشير خلفه بفزع ظاهر "مولاي الملك عبّاد.. إنه.... إنه......."
لم يكن الأمر بحاجة لتفصيل ومجد يركض دون إبطاء نحو الغرفة الداخلية في الجناح حيث الملك، ولم يلبث الأمير زياد والملكة أن تبعاه بتوتر كبير.. يبدو أن هذه الليلة لن تنتهي برحيل الدخلاء واستتباب الأمن في قصر الملك الواسع..

*********************

عندما استيقظت رنيم، بعد وقت لا تعلمه، وجدت نفسها راقدة على أرض عشبية باردة مبللة بالندى الذي تسلل لثياب نومها القطنية.. وأول ما رأته، بعد أن فتحت عينيها، هو ذلك الوجه الضخم بأنيابه البارزة الغارقة بالدماء والعينان الخضراوان الملتمعتان.. شهقت رنيم بذعر كبير وهي تنهض مفزوعة لذلك المنظر، وقبل أن تطلق صرخة ذعر لمرأى ذلك التنين قريباً منها، اقتربت منها كاينا بسرعة قائلة "لا تخافي.. إنه لن يؤذيك.."
صاحت رنيم برعب وهي تتراجع زاحفة "ألا ترينه؟.. ألا ترين الدم الذي يسيل من شدقيه؟"
قالت كاينا مبتسمة "لقد تناول وجبته قبل قليل.. لذلك لن يفكر بإيذائك ما لم تفزعيه بصراخك.. لم أتوقعك بهذا الجبن يا رنيم.."
نظرت رنيم للتنين بتوتر كبير، ثم نظرت لكاينا بدهشة لدى سماع اسمها.. فأكدت كاينا قولها معلقة "لم أعد أعمل في القصر ولستِ سيدتي.. لذلك يحق لي أن أناديك باسمك.. أليس كذلك؟"
قالت رنيم بصوت مرتجف "كيف؟.. كيف تفعلين هذا بي؟.. أنا لم أسئ إليك قط، ولم أعاملك كما يفعل الآخرون.. فلماذا تعاقبيني بهذه الطريقة؟"
قالت كاينا بأسف "لم أهدف لعقابك، ولم أكن أتمنى أن يحدث هذا لك.. لكن بعد أن عجزنا عن العثور على جايا، فإن ذلك الرجل خشي أن ينتقم الملك منها بسبب هروبنا.. لذلك كان اختطافك ضماناً لئلا يصيب جايا أي ضرر، وليتمكن من مبادلتك بها عندما يحاول الملك استعادتك.."
دارت رنيم ببصرها في المجموعة حولها من الرجال ومن الفتيات اللواتي كن يخدمن في قصر الملك.. ثم قالت بصوت مرتجف "ومن هي جايا؟"
نظرت كاينا للرجل الذي اقترب منهما قائلاً بحزم "أهذا وقت تفسير الأمور؟.. علينا الرحيل.. فرقة من الجنود تقترب من موقعنا.."
نهضت كاينا بتوتر، بينما راود رنيم شيء من الأمل أن تتمكن من التحرر من مختطفيها هؤلاء.. لابد أن يكون مجد على رأس تلك الفرقة من الجنود بحثاً عنها، فلا تشك أنه الوحيد الذي سيسعى خلفها من (الزهراء) كلها..
اقتربت كاينا من الرجل قائلة بلغة الهوت "ما الذي ستفعله الآن بعد هذه الحماقة التي ارتكبتها؟.. هل ستأخذ الفتاة للقرية حقاً؟"
قال الرجل مقطباً "هذا كل ما يمكنني فعله.. لا يمكنني البقاء معها في العراء ولا أضمن ألا يستعيدها الجنود قسراً مني.. عليّ أن أستعيد جايا مهما كانت الوسيلة.."
قالت كاينا محتدة "ليس بهذا الأسلوب.. ألا تعرف حقاً ما سيفعله أهل القرية عند رؤيتها؟.. أنت لا تستطيع ضمان سلامتها في القرية أكثر من أي موقع آخر.."
قال بشيء من الضجر "لا داعي لهذا التذمر.. أخبرتك أنني واثق مما أفعله.."
لوحت كاينا بإصبعها في وجهه قائلة بصرامة "هذه الفتاة الطيبة لا تستحق أي شيء مما جرى لها.. ولو أصيبت بأي مكروه، فلن أسامحك على ذلك بتاتاً.."
لم يعلق الرجل على قولها وهو يقترب من رنيم ويجذب ذراعها قائلاً "هيا بنا.. سنغادر في الحال.."
جذبت رنيم ذراعها وهي تقول بصوت متوسل "استمع إليّ.. أنا لن أفيدك بشيء.. الأمير زياد يرغب بالتخلص مني ولن يهتم لأمري بتاتاً.. أخطأت بخطفي أنا من بين جميع من في القصر.."
قال الرجل بتقطيبة "أتظنين أنك ستخدعينني بهذا القول؟.."
صاحت وهو يجبرها على النهوض "أنا لا أكذب.. استمع إليّ.. لا تعوّل على أهميتي لدى الملك أو الأمير زياد.. فأنت ستكون الخاسر في النهاية.."
لكن الرجل لم يعبأ لاعتراضها وهو يقترب بها من التنين الذي لعق بلسانه الطويل ما سال على فكه من دماء، وبدت لها أنيابه الصفراء ضخمة وواضحة أشد الوضوح.. حاولت رنيم التنصل من قبضة الرجل وهي تهز رأسها بقوة صائحة "أرجوك.. لا تفعل هذا.. ستندم على هذا.."
جذبها الرجل بشدة وهو ينظر لها بغضب قائلاً "أتهددينني؟"
هزت رأسها بقوة وذعر من نظراته الحادة، فيما قال بحدة "أتظنين أنك في موقع يسمح لك بتهديدي؟.. أنت بلهاء.."
غمغمت رنيم بتوسل "لم أعنِ ذلك.. عنيت أنك لن تستفيد من هذا الذي تفعله.."
لكنه جذبها رغم توسلاتها ورفعها عنوة ليضعها فوق السرج على ظهر التنين، ثم امتطى ظهر التنين بدوره خلفها بينما انكمشت هي بشدة وهي تتلفت حولها بحثاً عمن يمكن أن يقف في صفها، وتقلب بصرها في الأفق ترقباً لقدوم فرقة الجنود.. لكن كاينا، كما كانت بقية الفتيات، كن قد تجاهلنها بشكل تام وكأن ذعرها وثورتها بغير سبب مفهوم.. بينما لم يبدُ لجنود الملك أي أثر في أي موقع قريب..
وبكلمة واحدة، حذرها الرجل بحزم "تمسكي.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تتشبث برأس السرج العالي أمامها، وبحركة حادة ارتفع التنين بقوة مرفرفراً بجناحيه والهواء يندفع بقوة حولها بحيث أغمضت عينيها بذعر مستسلمة للانفعالات التي عصفت بها..
التفت الرجل حوله للحظات، ثم قال لرفاقه الذين تبعوه على التنانين الأخرى "لنذهب قبل قدوم الجنود.. لن نتوقف قبل الوصول للقرية.."
لم يعترض أحدهم بكلمة وهم يدفعون التنانين للتحليق متخذين وجهة واحدة يعرفونها تمام المعرفة.. رغم أن الهوت يوصفون بالرعاع من بقية شعوب العالم، ورغم ما يبدو عليهم من عدم تحضر وجهل، إلا أنهم يملكون وسائلهم الخاصة في ترحالهم وفي تطويع تلك الحيوانات التي عجزت شعوب العالم عن الاقتراب منها.. ولم يكونوا بحاجة لآلات معقدة وحسابات طويلة لتحديد وجهتهم نحو موطنهم، بل يسيرون إليه بسلاسة ودون أخطاء كما ينجذب رأس البوصلة للشمال بدقة في كل مرة..
ظلت رنيم في موقعها منكمشة على نفسها بشدة وهي تتشبث بالجزء المرتفع من السرج أمامها وتغمض عينيها بقوة.. كانت تكفيها الحركات القوية التي يقوم بها التنين كي تصاب بدوار وتشعر بنفضة شديدة في جسدها.. ترى ما سيكون شعورها عندما تفلت السرج وتسقط من على ظهر التنين هاوية للأرض من هذا الارتفاع الشاهق؟.. هل ستفقد وعيها من الذعر أم أنها ستحتفظ بحواسها وهي تراقب اقتراب الأرض منها بشكل متسارع ومفزع؟.. تذكرت ما انتهى عليه حلمها المفزع، ولم يكن هذا ليهدئ روعها بحال..
شعرت بالتنين يهوي شيئاً ما قبل أن يميل جانباً بقوة، فأطلقت صيحة ذعر وانكمشت أكثر وهي تحاول تمالك ذعرها وتتمنى لو تفقد الوعي من جديد لكي ترتاح من هذا الخوف المفزع.. لكن الرجل خلفها قال بشيء من الحدة "لا تنطوي بهذه الطريقة فوق ظهر التنين.. خوفك يصيبه بتوتر فهو يشعر برجفة جسدك الواضحة.. افتحي عينيك وكفي عن هذا الخوف.."
قالت رنيم بصوت متهدج وذعر واضح "محال.. أنزلني على الأرض فوراً.. لا أطيق البقاء على ظهر هذا الحيوان أكثر من هذا.."
قال الرجل بحنق "ألا تنسين أنك أميرة حتى وأنت بعيدة عن القصر؟.. قلت لك افتحي عينيك وكفي عن التشبث بالأرض لهذه الدرجة.. ألا تطيقين الابتعاد عن التراب للحظة واحدة؟.."
شيء ما في قوله جعلها تقاوم ذعرها وتفتح عينيها ببطء لتسمح لنفسها بالنظر لما حولها.. كانت التنانين الأخرى تطير حولهم بشكل متماوج، ترتفع وتنخفض بتناغم واضح وهي ترفرف بأجنحتها الضخمة بحركات هادئة.. وفي الأفق، بدأت الشمس تعلن عن وجودها بنور ذهبي قوي دحر ظلمة تلك الليلة وأكسب الغيوم القريبة لمعة وإشراقاً غير معهودين..
بدأت عينا رنيم تتسعان وهي تنظر للغيوم التي تقترب منهم فيخترقها التنين بقوة واندفاع دون أدنى تردد، لتجد رنيم أن الغيوم الرطبة قد لمست وجهها بخفة مثيرة برودة شديدة في بشرتها وهي تشمّ رائحة منعشة لم يسبق لها أن شمّتها من قبل..
شيئاً ما، تناست رنيم موقفها الحالي، وتناست التنين الشرس الذي تمتطي ظهره، وكل فكرها منشغل بالأفق الذهبي الذي تبدّى بقوة بعد الظلمة الكئيبة لتلك الليلة التي لم يتسنّ لنور القمر الشحيح أن يخفف منها.. كانت المشاعر القوية التي تعصف بها، ممتزجة مع الأفق المنير، وانعكاس الضوء الوليد على الغيوم من جهة بينما تتشبث الزرقة بها من الجهة الأخرى بإصرار، والرياح التي حملت برودة رغم شدتها إلا أنها كانت منعشة نوعاً ما، واللون الأزرق البهيج الذي تبدّى من تحتهم وهم يعبرون إحدى البحيرات الكبيرة التي عكست بعض أشعة الشمس مع بدء هذا النهار.. كل هذا جعل رنيم تصمت مذهولة وهي تراقب ما يجري.. شعرت أنها في عالم آخر بالفعل.. في عالم لم تعرفه إلا من صفحات الكتب، ومن مخيلتها الواسعة التي لم تجمح لتنقل لها هذه الصورة التي تراها الآن..
هل كانت رنيم تتخيل وهي تمسك أحد تلك الكتب التي يعلوها الغبار وتحلم وهي مسندة رأسها إلى الأرفف الخشبية القاسية أنها ستنتقل لعالم آخر رغماً عنها في غمضة عين؟.. أكانت تتخيل أن تعيش هذه اللحظة التي بدت لها مستحيلة وجدران القصر السميكة تخنقها ومن خلفها أسوار المدينة العالية؟..
رغم أنها مدركة أن عواقب ما تمر به ستكون وخيمة عليها.. ورغم قلقها مما سيفعله بها هؤلاء الرعاع، ورد فعل أبيها الملك والملك عبّاد على ما جرى لها، إلا أنها تناست واقعها في لحظة وهي تستغرق فيما تراه بكل مشاعرها..
سمعت الرجل يعلق من خلفها "يبدو أنك تناسيتِ خوفك في لحظة.."
عاد لها واقعها بسرعة، فعادت تتشبث بالسرج بقوة وهي تقول بصوت مرتجف "أرجوك.. أطلقني.. أنا لا ذنب لي فيما جرى لمن تبحث عنها.."
قال الرجل بحزم "لم أقل إن لك ذنباً فيما جرى.. لكنك وسيلتي لاستعادتها، ولضمان سلامتها من غدر الملك.."
خفضت رنيم عينيها قائلة بصوت مرير "لكن.. لمَ أنا؟.. لمَ لمْ تختطف الملكة أو تختطف الأمير زياد نفسه؟.. لمْ استهدفت شخصاً بغير أهمية مثلي؟"
علق الرجل "كفي عن التقليل من شأنك بهذه الصورة.. واتركي الملك والأمير زياد يقرران أهميتك عندما أتفاوض معهما.."
راقبت رنيم الغيوم المتسارعة حولهما وهي منشغلة بأفكارها المريرة.. كيف حدث ما حدث؟.. كيف انقلب واقعها بهذه الصورة؟.. وما ذنبها ليحدث كل هذا لها؟..

*********************

تدافعت دموع الملكة سليمة غزيرة وهي تقف قرب نافذة زجاجية ضخمة تطل على حدائق القصر في قلب (الزهراء) متأملة الشمس التي ارتفعت سريعاً شاقة السماء.. كانت تقف وحيدة في إحدى القاعات، تستمع للصمت من حولها دون أن تتمكن من إيقاف دموعها أو رجفة شفتيها..
بعد وقت قصير، سمعت صوت باب القاعة يفتح وصوت حذائي الأمير زياد الواضحين يقتربان منها قبل أن يقول بضيق "أمازلت تبكين يا أماه؟.. أأنت حزينة حقاً لما جرى؟"
قالت بشيء من الحدة "لست حزينة على ما جرى قدر هلعي مما سيجري.. فحريّ بشابٍ أحمق مثلك أن يجهل تبعات ما حدث هذا اليوم.."
زفر زياد بضيق واضح والملكة تدور في الموقع مدمدمة بغيظ وهي تمسح دموعها المتدافعه بمنديل في يدها "الملك مات.. من كان يتخيل أن يموت الملك العظيم عبّاد بسبب سمّ دسّته له إحدى الخادمات الملعونات قبل فرارهن؟.. هذا شيء لم أتوقعه في أحلامي.."
هز زياد كتفيه معلقاً "وماذا في ذلك؟.. سأتولى أنا الحكم وستبقين أنت الملكة الأم في مملكة بني فارس.. لن يتغير شيء بتاتاً.."
نظرت له مقطبة بعين غير راضية، ثم قالت بجفاء "أتظن أن شاباً خليعاً مثلك يقدر على الحفاظ على مملكة هائلة كهذه؟.."
ودارت في موقعها من جديد قائلة "الويل لي لو تفككت هذه المملكة على يد ابني.. كيف يمكننا تفادي مثل ذلك؟.."
قال زياد وهو يرمي جسده على كرسي قريب باسترخاء "أنت تبالغين يا عجوز.."
نظرت له بتقطيبة شديدة، ثم تقدمت منه وقبضت على مجمع ثوبه ورفعته حتى واجهت عيناه بعينيها قائلة "أنسيت أنك لا تقابل بترحيب من أغلب القيادات في (الزهراء)؟.. قائد الجيش فِراق بالذات لا يطيق النظر لوجهك.. كيف تتوقع منه أن يقسم بالولاء لك؟"
قطب زياد وقد انتقل قلق الملكة إليه، بينما تخلت عنه الملكة وهي تقول بحزم "عليك أن تتصرف بسرعة.. يجب أن تدعّم مُلكك بأشخاص يدينون بالولاء لك، وتحسم أمر خصومك قبل أن يفيقوا لأمرك.."
غمغم زياد "لم يمضِ على موت الملك ساعات معدودة.."
شدّت الملكة جسدها ووقفت وسط القاعة باستقامة وهي تقول بحزم صارم "عليك أن تحسم الأمر الآن، أو تفرّ من القصر قبل أن تعامل كملك مخلوع.. وصدقني لن تكون معاملة تليق بك أبداً بالنظر لكل ما ارتكبته في سني حياتك القصيرة هذه.."
نظر لها زياد بتوتر شديد، ثم اعتدل باهتمام قائلاً "ما الذي عليّ فعله؟.. سأطيعك في كل أمر، فهل تملكين خطة معينة؟"
ابتسمت الملكة ابتسامة جانبية ماسحة آخر دمعة سالت من عينها، ثم قالت بحزم "طبعاً.. وهل يخلو عقلي من الخطط الناجحة؟.."
وجلست على كرسي قريب متطلعة لزياد الذي أولاها اهتمامه الكامل مضيفة "في البدء، عليك التخلص من فِراق، فهو لن يكون معك بتاتاً.."
قال زياد بحماس "سأطرده من منصبه.."
نظرت له الملكة بحنق قائلة "حقاً؟.. كيف تتوقع أن تملك مملكة عظيمة كهذه وأنت قصير النظر بهذه الصورة؟.. أتظن أن فِراق سيستسلم لطرده؟.. كما أن أغلب قيادات الجيش وألويتها معه ويطيعونه.. سيطيح بك بإشارة من إصبعه.."
ومالت تجاهه متممة حديثها بفحيح "عليك أن ترسل من يغتاله.. في هذه الساعة.."
قال زياد بقلق "من يمكنه أن يفعل ذلك بهذه السرعة؟.."
اعتدلت الملكة قائلة "لا تقلق.. لقد فكرت في هذا الأمر بالفعل.. الجارية التي يملكها ولا يكاد يطيق فراقها تدين لي بالكثير.. وستفعل ما أشاء لو ضمنت لها مكاناً عالياً في هذا القصر.."
فقال زياد باهتمام "وماذا عن مجد؟.. هل نتخلص منه هو أيضاً؟"
نظرت له الملكة شذراً قائلة "يا لك من أحمق.. مجد هو ورقة رابحة في يدك.."
نظر لها بحيرة مغمغماً "حقاً؟"
قالت بحزم "افهمني أيها الغرّ الساذج.. مجد، رغم أنه لا يواليك ولاءً تاماً، لكنه كان أميناً وموالياً للملك الراحل.. وستمنعه أمانته من خيانة ذكرى الملك والتخلص من ولي عهده.. باستخدام مجد، وباستغلال مثاليته وموالاته للملك الراحل، يمكننا أن نحكم قبضتنا على الجيش بسهولة.. أقترح عليك أن تقوم بترقيته ليتولى منصب قائد الجيش، فهذا سيسهّل علينا الحصول على طاعة بقية الفرق والألوية دون عسر.."
ثم لوّحت بإصبع مثقل بخاتم ذهبي قائلة "هذه مجرد البداية.. بعد ذلك سنلتفت للقيادات الأصغر والأقل تأثيراً.. لو أحكمت سيطرتك على الجيش وألويته، فستكون بخير.."
ووضعت يدها على كتف الأمير زياد قائلة بابتسامة واثقة "ستكون بخير يا بنيّ.. ستظل كذلك ما دمت تطيعني.. ثق بي ونفذ كل ما أقوله حرفياً دون جدال.."
قال زياد بحماس "سأطيعك.. طبعاً سأفعل كل ما توصِني به.. المهم ألا ينتقل هذا العرش لغيري.."
قالت الملكة بابتسامة جانبية "لا تقلق.. لا يمكن أن أسمح بذلك بتاتاً.."

*********************

بعد رحلة طويلة أرهقت رنيم كثيراً لطول جلوسها دون حراك، لاحظت معالم تلك البيوت الصغيرة التي امتدت لمسافة معقولة وسط تضاريس جبلية قاسية .. كانت تلك قرية صغيرة تفترش وادياً ضيقاً وسط جبال عالية قممها بيضاء ثلجية، ولا تكاد ترتبط ببقية العالم إلا عبر طريق ضيق ووعر.. أهذه قرية من قرى الهوت؟.. وعند اقترابهم من تلك القرية، بدأت التنانين الهبوط نحو ساحة صغيرة تتوسط ذلك المكان..
انتاب رنيم توتر لا محدود لدى اقترابهم من هدفهم، ولرؤيتها ذلك الجمع الذي بدأ يحتشد قرب الساحة بانتظار القادمين.. بدا أن القرية كلها كانت بانتظار عودة فرقة التنانين تلك، ولم يبدُ على أحدهم أي ذعر لمرآها لاعتيادهم عليها.. ولما هبط التنين الذي حمل رنيم على ظهره، فإن الرجل خلفها قد هبط بسهولة ونشاط، بينما تجمدت رنيم في موقعها متيبسة الأطراف.. ومع كل تنين يهبط، فإن الفتيات الأسيرات يسارعن للهبوط ولقيا عوائلهن بعد فراق طال.. سمعت رنيم عدة صيحات فرح وضحكات تندلع هنا وهناك، بالإضافة لبكاء ودموع بعض النسوة الأكبر سناً..
انتبهت رنيم من تأمل ما حولها على تململ التنين تحتها، بينما قال مختطفها "يحسن بك أن تهبطي قبل أن يرمي بك التنين أرضاً.."
قالت رنيم برعب "كيف أفعل ذلك؟.."
رفع الرجل يده قائلاً "سأسندك عند الهبوط.."
ترددت رنيم للحظات، وقبل أن تتحرك بالفعل كان صبر التنين قد نفذ وهو ينتفض بقوة ويرميها من على ظهره، فوجدت نفسها تسقط على الأرض بشيء من العنف.. وبينما ارتفع التنين طائراً بسرعة مثيراً الغبار في الموقع، فإن الرجل قد اقترب وعاون رنيم على النهوض قائلاً "أخبرتك أن عليك الإسراع.."
نهضت رنيم بساقين ترتجفان ورأس يدوّي بألم وعينين غشيتهما الدموع.. وقبل أن تتضح لها الرؤية من جديد، انتبهت لصمت ساد الموقع بعد تلك الضجة التي أثارها لقاء الهوت بفتياتهم المختطفات.. تلفتت رنيم حولها بدهشة لهذا الصمت بينما قطب مختطفها شيئاً ما.. ولم يلبث أحد رجال القرية أن تقدم قائلاً بلغة الهوت التي لا تفهمهما رنيم "أهذه فتاة من المدينة؟.. ما الذي جاء بها؟"
قالت إحدى الفتيات التي كانت تعمل خادمة في قصر الملك "هذه أميرة وخطيبة للأمير زياد.."
اتسعت الأعين بصدمة واستنكار، بينما قال الرجل من جديد بحدة "ما الذي جاء بها معكم؟"
قال مختطفها "لم نعثر على جايا.. فأحضرت هذه الفتاة لنقايضها بجايا عندما نحاول استعادتها.."
صاح الرجل "هذه حماقة.."
تبعته صيحات مؤيدة من عدد من أفراد القبيلة، بينما انكمشت رنيم شيئاً ما وهي تلاحظ الغضب في الأعين المحدقة بها.. بدا لها واضحاً أن وجودها غير مرحب به، فما الذي ينتوون فعله بها؟..
قال مختطفها بحزم "مهما كان رأيكم بالأمر، كان لابد لي من الحصول على ضمان لئلا يمس الملك جايا بضرر نتيجة هرب بقية الفتيات.."
صاحت امرأة كبيرة من العمر بغضب "أنت ستجلب الوبال على هذه القرية.. زوجة الأمير؟.. هل تريد أن يحرّك الملك جيوشه ليسحق هذه القرية تماماً؟"
كان الغضب قد بدأ يظهر بوضوح في الوجوه المحيطة بهما وآخر يصيح "نحن لم ننسَ بعد ما جرى قبل شهور.. هل تريد تكرار هذا مرة أخرى؟"
وصاح رجل من الجهة الأخرى "يجب أن تدفع هذه الفتاة ثمن ما فعله الملك بقريتنا.. يجب أن يذوق بعض ما ذقناه لاختطافه بناتنا دون وجه حق.."
انكمشت رنيم أكثر وهي ترى بعض الرجال يتقدمون منها بأعين تنطق شراً.. رباه.. ما الذي ينتوون فعله بها؟.. قلّبت بصرها بذعر بينهم وبين مختطفها الذي قطب بشدة وصاح بصرامة "لن يمسّها شخص بسوء.. كما قلت لكم، سلامة جايا مرهونة بسلامة هذه الفتاة.. ومهما فعل الملك في السابق، فإن إيذاء هذه الفتاة لن يعيد شيئاً مما جرى.."
انبرت كاينا بين الجموع تقول "أجل.. هذه الفتاة لا ذنب لها، وهي ليست من عائلة الملك.. إنها من مملكة بعيدة.. فكيف تعاقبونها على ما جرى؟"
قال أحدهم بحنق "يكفي أنها زوجة ابن الملك.. هذا كافٍ ليشعل قلوبنا بنار لا تخمد.."
بدأ بضع رجال منهم يتقدمون منها غير عابئين بتهديد مختطفها، وبدأت أيديهم بالتطاول عليها وهي تشعر بمن يشدّ شعرها بقوة.. صاحت رنيم مرتعبة وهي تحاول الإفلات دون أن تدرك وسيلة للتخلص من الجموع التي تكاثرت حولها، عندما وجدت مختطفها يبعد الآخرين عنها ويحميها بذراعه بينما رفع سيفه العريض باليد الأخرى صائحاً "لو تجرأ أحدكم على الاقتراب منها، فلن أرحمه بتاتاً.."
صاحت امرأة من بعيد "اطردها من هذه القرية.. لا نريد أن نواجه جيش الملك من جديد.."
تعالت الصيحات الغاضبة من الجموع المحيطة بهما، بينما جذب الرجل رنيم المرتعبة بشدة وقادها عبر طريق حجري نحو جانب القرية.. وبينما استمر الصياح الغاضب من خلفهما، فإن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب ولمسها بسوء والرجل يحجز بينها وبينهم.. تلفتت رنيم حولها مذهولة للنظرات الغاضبة والصياح الذي صمّ أذنيها، وقد أمكنها أن تفهم مغزى الحديث الذي دار حولها رغم أنها لم تفهم كلمة واحدة مما قيل.. بينما دفعها الرجل أمامه حتى وصلا منزلاً في جانب القرية لا يختلف عن غيره الكثير، ففتح بابه ودفعها لتدخل مغلقاً الباب بشدة خلفه..
نظرت رنيم للرجل بقلق قائلة "ما الذي ستفعله بي؟.."
لم تملك رجفة صوتها وهي تسأله بعد أن واجهت الغضب الواضح من أفراد القرية هذه.. فما سيكون مصيرها في مكان كهذا؟..
جذبها الرجل دون أن يجيبها حتى أدخلها غرفة جانبية بأثاث قليل، ثم خرج وأغلق الباب خلفه ورنيم تسمع دوران المفتاح في قفله.. أخيراً، تهاوت رنيم على سرير في جانب الغرفة وهي تحدق في الأرض الخشبية تحت قدميها الحافيتين.. حتى الآن، لا تصدق أنها اختُطفت من قصر الملك عبّاد ووصلت مع مختطفيها لأقصى هذا العالم.. رحلة قد تستغرق أياماً طويلة على الأرض لم تحتج التنانين إلا لنهار وليلة لقطعها متجاوزين كل المعوقات والتضاريس المختلفة على الأرض برفّة جناح.. لكن لا يمكن أن يكون هذا حلماً.. لا يمكن لحلم أن يكون بهذه الدقة والواقعية.. ولا يمكن له أن يستثير فيها هذه المشاعر الغريبة المتعاكسة وهي على ظهر ذلك التنين.. فما الذي سيحدث لها الآن بعد كل هذا؟.. عودتها (للزهراء) لن تحدث ببساطة ودون عواقب.. فهل ستعود حقاً لذلك المكان؟..
تذكرت رنيم الثورة التي قام بها الهوت لدى رؤيتها، وتذكرت ما سمعته من كاينا في القصر قبل تلك الليلة المشؤومة.. فانطوت على نفسها وهي تشعر بمرارة شديدة وحزن عارم..
لو راجعت رنيم حياتها منذ البدء، للاحظت حوادث مشابهة تتكرر بشكل دائم ولا يمكن تأويلها بشكل خاطئٍ بتاتاً.. فهي في قصر أبيها تواجه تأففاته الدائمة لتأخرها بالزواج عما يحدث لقريناتها من الأميرات.. بينما تتذمر أمها بشكل دائم وتصرّح في كل لحظة وحين برغبتها الشديدة في التخلص من ابنتها التي كادت تصبح عانساً..
ومع ظهور ذلك الزوج الأسطوري، سرّ أبويها أشد السرور لخلاصهم منها ومن همّها الدائم، وكررا عليها تحذيراً شديد اللهجة في حال فشلها وعودتها لهم خائبة.. أما كان المفترض بهم أن يطمئنوها أن أبواب قصر أبيها مفتوحة لها في كل وقت؟.. أما كان من المفترض أن يبقى قصر أبيها واحة أمان تعود إليها لو تعسّرت حياتها في المدينة الغريبة عليها؟..
وفي جزء لاحق من حياتها، واجهها رفض صريح من الملكة في (الزهراء) ومن زوجها المفترض، الأمير زياد، وتطور الأمر ليخططا لطردها بطريقة مخزية ستصمها بعار أبدي..
ومع التطور الأخير والفجائي الذي حدث لها مع المتسللين من الهوت، فإنها اختطفت عنوة لعالم غريب لم يسبق لها رؤيته، ورغم ذلك جابهت ثورة من الهوت ترفض وجودها بينهم وتطالب بطردها في اللحظة التي وطأت فيها قدماها تراب القرية..
هل هي مكروهة لهذه الدرجة؟.. أما من مكان يؤويها؟.. أما من مكان يسعد أصحابه لوجودها فيه حتى لو لم يرتبط ذلك بمصالحهم الشخصية؟.. ما الذي فعلته لتجني مثل تلك الكراهية؟.. وإلى أين يمكنها أن تلجأ دون أن تواجه مثل تلك المشاعر البغيضة التي تلاحقها طوال سني حياتها؟..
غلبتها مشاعرها وملامحها تنقبض بأسىً واضح، ثم وجدت دموعها تسيل رغماً عنها وهي تجهش ببكاء مرير.. ذرفت دموعاً غزيرة وهي لا تملك التوقف عن البكاء لوقت طويل.. تداعت مشاعرها مع دموعها وغلبها الحزن على حياتها التي لم يعد لها أي معنى.. لم تتمكن من الحصول على السعادة التي كانت ترجوها وتطمح إليها، ولم تتمكن من إرضاء أبويها، ولم تحصل حتى على رضى زوجها المستقبلي وأبويه.. ما الذي عليها أن تتوقعه من حياتها القادمة؟.. ما الذي عليها أن تسعى إليه؟.. لا شيء.. لم تعُد تدرك أو تتوقع شيئاً من أيامها القادمة ومن حياتها التي صارت بلا هدف ولا معنى..


عالم خيال 15-12-15 09:00 AM

رد: على جناح تنين..
 
أتمنى لكم المتعة مع الفصلين الجديدين
هل حجم الخط الآن أفضل؟
وسؤال آخر.. لمَ لا أستطيع تعديل موضوعي؟
أريد إضافة الفصول الجديدة للموضوع الرئيسي، لكن خاصية التعديل اختفت فجأة
فما الحل؟؟؟؟

bluemay 15-12-15 09:39 AM

رد: على جناح تنين..
 
اهلا ومرحبا بك عزيزتي خيال

واعتذر عن تأخر ردي بسبب انشغالي

ولكن راقت لي روايتك جدا


احببت رنيم ومتشوقةةلمتابعة الفصول المتبقية فما زلت في البداية ولكن احبب ان اخط اعجابي بما قرأته حتى اﻵن


عزيزتي انا مشرفة على هذا القسم وانا مستعدة لتقديم اي مساعدة

الخاصية تعديل تختفي بعد 24 ساعة من انشاء اي موضوع
فأتمنى ان تضعي اي ملاحظة او تعديل عى الموضوع وسأنفذه إن شاء الله

لك خالص ودي

MaYa

عالم خيال 15-12-15 10:55 AM

رد: على جناح تنين..
 
سعيدة بوجودك معي يا أختي بلومي وردك على الرواية
وسعيدة أكثر أن أحداثها أعجبتك حتى الآن
توقعي الكثير والكثير من المفاجآت حتى النهاية

ليست لي ملاحظات أو طلبات، لكني كنت أريد إضافة وصلات الفصول في صفحة الموضوع الأولى
لتسهيل القراءة على من يقرأ بدل تقليب صفحات الموضوع كلها
لكن يمكنك، رجاءً لا أمراً، إضافة وصلات الفصول كلها في الصفحة الأولى بعد انتهاء الرواية
يمكنك إضافة الفصول دفعة واحدة في النهاية
شاكرة لك جهودك يا عزيزتي..

bluemay 15-12-15 11:29 AM

رد: على جناح تنين..
 
عن جد حزنتني رنيم وشعورها بالنبذ من كل من حولها

زياد بغيض يا رب يلقى مصير اسود متله هو امه عجوز النحس


عندي شعور انه مجد ممكن يسود المملكة وتتحقق نبوءة اﻹسطورة اللي حكاها لرنيم


يسلمو ايديك خيال

متشوقة للجاي كتير


الخط كبييير لووول

بس في قراء بفضلوه هيك

انا كنت بفضل حجم الخط في الفصول السابقة


تقبلي مروري وخالص ودي

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 15-12-15 01:06 PM

رد: على جناح تنين..
 
لا تحزني على رنيم
فكما يقال، ربما تكون المصائب باباً للفرج
وحياتها القاسية أو الكئيبة كما تراها قد طالت،
لذا رنيم بحاجة لدفعة قوية لكي تسعى للتغيير
فهل ترين أنها ستتغير فعلاً؟

أنا أرى أن الخط سابقاً كان صغيراً والآن هو كبير جداً
لذا أظنني سأبقى مع حجم الخط السابق
شاكرة لك تفاعلك معي يا عزيزتي
غداً موعدنا مع فصل جديد بإذن الله تعالى

bluemay 15-12-15 01:38 PM

رد: على جناح تنين..
 
بإنتظارك بشوووق كبير


والعفو انتي رائعة وتستحقي اﻷفضل بدون شك


أمممم رنيم شخصية تخالف ما اعتدنا عليه من قوة الشخصية للبطلة والعناد والشجاعة .. فهي مسالمة وخانعة ولكن هل ستتحمل كل هذا الضغط

ان انها ستنفجر وتكتشف أنها ورثت بعض صفات تلك الجدة اﻷبية التي كانت رمزا يحتذى به في نظرها ؟!

في الحقيقة اتوقع ان تبهريني .. فهذا ما استشففته من قراتي لهذه الفصول انه لا يمكن التنبؤ بما سيحدث.

هناك ايضا موضوع الخاطف .. انتي لم تتطرقي لوصفه بنظر رنيم فهل سيكون الشريك المنتظر لها ام انه سيكون مثل مجد مجرد نقطة للعبور؟!!


سلمت يداك وبالتوفيق إن شاء الله

عالم خيال 15-12-15 02:09 PM

رد: على جناح تنين..
 
شاكرة لك كلماتك الجميلة يا عزيزتي

رنيم مختلفة بالفعل، وأنا لم أكتب قط عن فتاة مسالمة وخانعة
لذا أتمنى أن يكون التغيير، إن حدث، منطقياً ومقنعاً بالنسبة لكم
وأتمنى أن تبهرك الأحداث القادمة بالفعل

لقد قمت بوصف الخاطف بالفعل في البداية
وفي النسخة الأصلية كنت أضع رسماً يمثل بعض أحداث الفصل لتقريب الصورة لكم
وقد أضفت الرسم في الفصل الخامس بالفعل (ليس رسمي قطعاً لكني آخذه من النت)
لذا ستجدين صورة للخاطف في الفصل القادم

bluemay 15-12-15 02:46 PM

رد: على جناح تنين..
 
نعم انتبهت للوصف الأولي ولكن لم تعطه انطباع مثل زياد مثلا انه ملامحه عادية وليس وسيما او جذاب

وعليه فأنا في حيرة من امري هل يمكن ان تنجذب رنيم له كونه حاميها اﻵن وربما تتبدل نظرتها له عندما تتعرف عليه وتعرف قصة جايا التي قد تكون شقيقته او حبيبته


لم ارى الرسم بعد وبالتاكيد سيساعدني لفهمه اكثر


مسرورة بالتنقاش معك ومستمتعة للغاية باحجاث روايتك الرئعة

وكلي شووووق للقادم


تقبلي خالص ودي

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

bluemay 15-12-15 02:54 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عالم خيال (المشاركة 3581754)
سعيدة بوجودك معي يا أختي بلومي وردك على الرواية
وسعيدة أكثر أن أحداثها أعجبتك حتى الآن
توقعي الكثير والكثير من المفاجآت حتى النهاية

ليست لي ملاحظات أو طلبات، لكني كنت أريد إضافة وصلات الفصول في صفحة الموضوع الأولى
لتسهيل القراءة على من يقرأ بدل تقليب صفحات الموضوع كلها
لكن يمكنك، رجاءً لا أمراً، إضافة وصلات الفصول كلها في الصفحة الأولى بعد انتهاء الرواية
يمكنك إضافة الفصول دفعة واحدة في النهاية
شاكرة لك جهودك يا عزيزتي..


آسفة ما شفت ردك هذا إلا اﻵن

وبالتاكيد سيتم وضعها إن شاء الله باتزامن مع نزول الفصول

وقد وضعت مسبقا الوصلتين للفصلين اﻷخيرين


انتي تؤمري


ولو بتحبي اعدل عالعنوان واحط فيه رقم الفصل كمان خبريني


وفعلا رسمة التنين معبرة عن ما تخيلته

مشكوورة


مع خالص ودي

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

سارونه1 15-12-15 03:42 PM

رد: على جناح تنين..
 
الرواية مشوقة جدا وأرى أنك متمكنة جدا من الكتابة ولي طلب بسيط نزلي بارت نكمل وش صار وياليت تخبرينا ايش هي الأيام اللي تنزلين فيها البارت

عالم خيال 15-12-15 04:17 PM

رد: على جناح تنين..
 
شاكرة لك يا بلومي على جهودك
ربما من الأفضل وضعها في النهاية كي لي تضطري للتعديل مع كل فصل
أما العنوان فلا أحبذ كتابة الفصل فيه
يكفي ما يعرض في المقدمة

بإذن الله ستعرفين الكثير عن الخاطف وعلاقته برنيم مع الفصل القادم
وسيبقى موضوع أهميته من عدمها أتركها للفصول اللاحقة


****

سعيدة بوجودك في موضوعي يا أختي سارونة
شاكرة رأيك بكتاباتي وبروايتي
أنا أنزل فصلاً جديداً كل يوم
لذا يمكنك قراءة بقية أحداث هذا الفصل غداً بإذن الله..
لذا الرواية كاملة ستنتهي خلال أسبوع على الأكثر..
أتمنى منك المتابعة وأتمنى لك الاستمتاع بما تقرئين

bluemay 15-12-15 05:24 PM

رد: على جناح تنين..
 
ولا يهمك يا الغلاا

انا متعودة على التعديل شبه يوميا وإضافة الوصلات للفصول

وتعبك راااحة انتي اؤمري بس


آآآه متى يجي بكرة

الله يوفقك ويقدرك تنزليها كاملة ونتوجها بالمكتملة إن شاء الله


العفو حبيبتي وانا بالخدمة


مع خالص ودي

عالم خيال 15-12-15 08:25 PM

رد: على جناح تنين..
 
وفقك الله يا عزيزتي..
بإذن الله سأكملها حتى النهاية..
وستكون بمستوى توقعاتك منها..

عالم خيال 16-12-15 08:19 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل السادس: عهد جديد وملك جديد


مع شروق الشمس، التي لم تتمكن من تخفيف البرودة الشديدة في الجو، اعتدلت رنيم جالسة وهي تضمّ الدثار الصوفي الذي وجدته على السرير حول جسدها.. كانت ثيابها القطنية غير قادرة على تدفئة جسدها البارد أو تخفيف البرودة القارسة في الغرفة الخشبية.. تأملت الموقع حولها بصمت، كانت الغرفة التي آوتها في الليلة الماضية صغيرة الحجم جداً مقارنة بأصغر جناح تعرفه، بأثاث بسيط دون زخارف، عليه فراش صوفي سميك ذو رائحة رطبة ودثار صوفي خشن أزعجها طوال الليلة الماضية، وفي جانبه باب صغير يؤدي لدار الخلاء..
لاحظت رنيم أن المدفأة الحجرية في جانب الغرفة كانت تضمّ حطباً مشتعلاً متوهجاً، فنهضت واقتربت منها لتنعم ببعض الدفء وهي تفرك يديها بقوة.. كان البرد في هذا الموقع شديداً وقارساً بشكل لم تعهده في مملكة أبيها الجنوبية حيث الدفء سمة عامة إلا في المناطق المرتفعة منها، ولم تعهده في (الزهراء) التي لا يكاد الطقس الربيعي فيها يتغير طوال السنة..
لاحظت وجود طاولة جانبية عليها بعض الأطعمة، والتي بدت طازجة.. وبالإضافة للمدفأة المشتعلة، فإن رنيم أدركت أن مختطفها قد دخل الغرفة وهي نائمة.. متى حدث ذلك؟.. ضمّت الدثار حول جسدها أكثر وهي تتوتر متلفتة حولها.. لقد نامت منهكة كجثة طوال تلك الليلة بعد أن أتعبها البكاء وهدّها التفكير والقلق، لكن هذا ليس عذراً لها لتغفل عن أمر مختطفها الذي لن يكون بالتهذيب الذي تتوقعه.. عليها أن تكون أكثر حذراً بعد هذا، ولا تغفل عن تصرفاته أبداً.. إنها لم تعد في ربوع القصر الآمنة، ولم يعد حراس القصر يقفون بتحفز عند أبواب جناحها، رغم أن وقوفهم لم يأتِ بالنتيجة المرجوّة عندما واجهت خطراً حقيقياً..
سارت نحو النافذة التي كساها شيء من الضباب للدفء في الغرفة مقارنة بالبرودة الشديدة خارجها.. وبالنور الضعيف الذي بدأ ينبلج من الأفق، كانت حدود القرية الصغيرة تبدو لها واضحة شيئاً فشيئاً.. كانت قرية صغيرة، تشبه بعض اللوحات المرسومة للقرى النائية التي وجدتها في بعض الكتب.. بيوتها خشبية ذات طابق واحد على الأغلب، جدرانها الخشبية بلون أبيض والعوارض بقيت بلونها البني القاتم.. أما أسقفها فهي متنوعة بعضها خشبية وبعضها من القش الذي ثبت بالحبال وعليه صخور لئلا تطيّره الرياح القوية.. ووسط القرية ممر حجري بدائي لا يتمتع بأي جمال كما كانت الطرقات الحجرية في (الزهراء) أو في (بارقة).. ولا تزهو القرية بأي زينة أو أشجار غير تلك التي زرعتها الطبيعة في جوانبها..
انتبهت من أفكارها على صوت باب الغرفة يفتح، وظهر من خلفه مختطفها الذي وقف قرب الباب قائلاً "ألم تتناولي إفطارك؟"
خفضت رأسها وهي تهز رأسها نفياً، ثم قالت بصوت مبحوح "ما الذي تريده مني؟"
زفر قائلاً "عدنا لهذا؟.. حتى متى سترددين هذا السؤال؟"
قالت برجاء "أعدني (للزهراء)، وأنا سأبحث عن تلك المدعوة جايا بنفسي.. سأسأل الملكة، وسأسأل الملك عبّاد نفسه لو أردت.. لن تحقق شيئاً بسجني في هذا المكان البعيد.."
قال الرجل بهزء "حقاً؟.. وتتوقعين مني تصديق ذلك؟"
هتفت بإلحاح "ولمَ أكذب عليك؟.. اسأل كاينا عني، وهي ستخبرك إن كنت سأخدعك أم لا.."
نظر لها الرجل بغير اقتناع، بينما تعالى صوت من جانب آخر من المنزل.. التفت الإثنان لمدخل الغرفة ليجدا رجلاً لا يقل عمره عن الستين، بملابس لا تختلف عن بقية القرويين الذين رأتهم رنيم، وبشعر ولحية بيضاوين وبشرة على شيء من السمرة لتعرضه للفحات البرد القارسة.. ورغم أنه لا يبدو مختلفاً عن البقية، إلا أن الاحترام الذي بدا على وجه مختطفها وهو يحادثه جعل رنيم تدرك أن لذلك الرجل أهمية في القرية.. أهو رئيسها؟.. هل سيجيب مطلبها لو طلبت منه إطلاق سراحها؟.. لكن هل يفهم لغتها كما يفعل الرجل وكما تفعل كاينا؟..
ظلت تراقب حديثهما بقلق ملاحظة الغضب على وجه الرجل قابله ضيق وحدة على وجه مختطفها.. وبينما كانت لا تفقه كلمة مما يقولان، فإنها أدركت أنهما يتحدثان عنها بالتأكيد..
فور دخول ذلك الرجل للغرفة، أدرك الأول أنه يريد التحدث بخصوص رنيم، فقال بشيء من الضيق "أعرف ما ستطلبه مني يا أرنيف.. لكن يجب أن تمهلني بعض الوقت لـ...."
قاطعه الرجل الأشيب بشيء من الحدة قائلاً "لا أفهم دوافعك يا آرجان فكيف تطلب مني الصبر على هذا؟.. لقد أفسدت خطتنا الطويلة لإنقاذ فتيات القرية باختطافك لهذه الفتاة وإحضارها لهذا المكان.. الآن جنود الملك كلهم سيكونون في أعقابكم وستعاني القرية من ويلات معركة مثل هذه.."
قال آرجان "ليس هذا ما أبغيه، وليس هذا ما سيحدث.. لديّ خطة للتفاهم مع الملك لاسترداد جايا.. هذه الفتاة مقابل خادمة من خدم قصره.. لمن تظن الملك سينحاز؟.. هذه هي زوجة ولي عهده ولن يفرط فيها الملك أبداً.. لذلك......."
قال أرنيف محتداً "لكن ليس في هذه القرية.. وليس بعد كل ما جرى لنا على أيديهم.. أنسيت بهذه السرعة آخر مرة تواجهنا فيها مع الجنود؟.. عشرات الرجال قتلوا، وما لا يقل عن عشرين فتاة من الهوت تم اختطافهن ومعاملتهن كأسرى وكخدم في قصر الملك لشهور طوال.. هل تريد تكرار هذا من جديد؟"
قال آرجان بتقطيبة شديدة "لا.. قطعاً لا.."
فقال أرنيف بحزم "إذن تخرج الفتاة من القرية اليوم.. لا نريد مزيداً من النحس بسبب هذه الأميرة.."
ظل آرجان مطرقاً بينما ألقى أرنيف نظرة كارهة على رنيم لم تفُتها، ثم استدار مغادراً عندما استوقفه آرجان قائلاً بحزم "هذا ما لا يمكنني فعله يا أرنيف.. واعذر وقاحتي هذه.."
نظر له أرنيف بتقطيبة شديدة رسمت خطوطاً سميكة على جبينه، بينما وقف آرجان في مواجهته قائلاً "لن أعيد الفتاة قبل أن أستعيد جايا.. لقد خططت للأمر جيداً، ولن تفشل خطتي بتاتاً.."
عبس أرنيف بشدة وهو يقول "أتعصي أمري يا آرجان؟.. لم أتوقع منك هذا التهور.."
قال آرجان بسرعة "ليس تهوراً.. سأشرح لك خطتي فلا تتعجل بإطلاق الأحكام عليها.. ولا تترك غضب أهل القرية يؤثر في حكمك، فأنا المتضرر الوحيد في كل ما جرى.."
نظر أرنيف لرنيم المنكمشة بصمت حتى خايل آرجان أنه سيرفض الأمر بشكل قاطع، لكن أرنيف قال بحزم "أنتظرك في منزلي، فلا تضيع وقتي رجاءً.."
وغادر بصمت تاركاً آرجان يزفر بحدة.. وبعد بعض الصمت تجرأت رنيم على أن تتساءل هامسة "ما الذي جرى؟.. أهذا رئيس قريتكم؟"
نظر لها آرجان بصمت، فقالت بشيء من الأمل "هو غاضب لإحضاري لهذه القرية كما البقية.. أليس كذلك؟.. لمَ لا تطيعه وتعيدني للزهراء؟.. هذا خير لك ولي.."
قال آرجان "أرنيف لا يهمه أن تعودي للزهراء، جلّ همه أن تغادري هذه القرية.. فهل هذا ما تريدين مني فعله؟"
امتقع وجه رنيم وهي تفكر في الأمر.. أينوي رميها خارج القرية في موقع منقطع كهذا؟.. ما الذي يمكنها فعله وحيدة وهي على هذا البعد من (الزهراء) ومن أي مدينة مأهولة بالسكان؟..
وإزاء صمتها قال آرجان وهو يغادر "لا تأملي أن يتمّ ما بذهنك قبل أن أستعيد جايا.. التزمي الصمت واصبري.."
وخرج ورنيم تتساءل بانفعال "ومن هي جايا هذه؟.. لماذا عليّ أن أتحمل أخطاء غيري؟"
لكنها لم تجد إجابة إلا من باب غرفتها الذي أغلق تاركاً إياها حبيسة لمدة لا يعلمها إلا الله تعالى..

*********************

في وقت متأخر من ذلك النهار، وجدت رنيم الباب يفتح ووجه كاينا يطل عبره قائلة "مرحباً.. جئت لأطمئن عليك.."
قالت رنيم بكآبة من موقعها الذي لا تغيّره فوق سريرها "تطمئنين أنني لم أهرب بعد؟.. لا تخافي، ذلك الرجل يتأكد من هذا بكل حزم.."
ابتسمت كاينا وهي تقترب منها حاملة إناءً يحوي بعض الفطائر الطازجة قائلة "لا بأس.. لن يطول بك هذا السجن طويلاً.. كما أن القرية ليست بهذا السوء رغم استقبالهم الحافل لك البارحة"
نظرت رنيم لكاينا بتقطيبة لترى إن كانت تمزح بقولها هذا.. كيف يمكن لأمرها ألا يكون بهذا السوء حقاً؟.. ثم زفرت وهي تدير رأسها جانباً بصمت.. عندها جلست كاينا على السرير قائلة "أكنتِ تفضّلين أن تبقي في ذلك القصر حتى يتهمك الأمير زياد في شرفك ويردّك لقصر أبيك مكللة بالعار؟.. أهذا ما كان سيسعدك حقاً؟"
قالت رنيم بغضب "أتجدين أنني أفضل حالاً الآن؟.. اختطافي لن يمرّ مرور الكرام، وعودتي ستكون مكللة بعار لن أمحوه ما حييت.. أتظنين أن الأمير زياد سيرضى بي زوجة بعدها حقاً؟"
نظرت لها كاينا بشيء من الاستنكار، ثم علقت "أأنت تتمنين الزواج من ذلك الشاب البغيض حقاً يا رنيم؟.. أأقصى أحلامك أن تصبحي أدنى من جارية في قصر خانق وتحت إمرة امرأة متكبرة قاسية وشخص متعجرف لا يستحق بأن يوصف بأنه رجل؟"
نظرت لها رنيم بمرارة وكاينا تسألها بإلحاح "أحقاً لا يتجاوز طموحك أكثر من هذا؟"
دفنت رنيم وجهها بين ذراعيها قائلة "ما أطمح له لا يمكن تحقيقه، وقد يئست من الحصول عليه أبداً.."
قالت كاينا بإصرار "ما الذي يجبرك على العودة لذلك القصر؟.. ما الذي يجبرك على تقمص حياة لا تريدينها والعيش وفق قوانين لا تحبينها؟.. أنت حرة في اختيار ما تريدينه.. أليس كذلك؟"
نظرت لها رنيم متسائلة بمرارة "أنا حرة؟"
أجابت كاينا بسرعة "لن يطول هذا السجن بك كما قلت لك سابقاً.. إن هي إلا أيام معدودة ونطلق سراحك بعدها.. عندها، يمكنك اختيار ما تريدين فعله بحياتك بعيداً عن سلطة أبيك أو غيره.."
عادت رنيم تدفن وجهها بصمت، ثم غمغمت بشيء من الانكسار "هذه لست أنا.. لا يمكنني فعل ما أشاء دون أن أخشى رد فعل أبي والآخرين على ذلك.."
زفرت كاينا بحدة لاستسلام رنيم بشكل متكرر، ثم نهضت قائلة "لو كنتِ تعتبرين هذا سجناً، فأنت عشتِ في سجن أكبر منه طوال حياتك.. وللمرة الأولى أرى سجينة تعود لسجّانها وترجوه تقييد حريتها من جديد.."
تركت الإناء على طاولة قريبة وغادرت ليعود الصمت ويلفّ رنيم من جديد.. صمت لا يكاد يغطي على الصخب الذي يدور في رأسها والأفكار تصطرع فيه بشكل محموم ومتكرر..

*********************

عندما امتثل مجد لاستدعاء الملكة سليمة والأمير زياد، الذي لم يتم تنصيبه كملك بعد، كانت الأخبار قد وصلته بالفعل عن موت قائد الجيش فِراق في حادث مؤسف.. لم يكن بحاجة لذكاء كبير ليعلم أنه تم التخلص منه بسبب رفضه السابق تولّي زياد ولاية عهد المملكة وادعائه بأنه أضعف من أن يحكمها.. لذلك لم يكن من المدهش موته في ذلك الحادث في هذا الوقت بالذات..
انحنى مجد أمام الملكة والأمير وذراعه المكسورة معلقة لعنقه قائلاً "هل طلبت لقائي يا مولاي؟"
رأى الأمير زياد ينهض ويقترب منه قائلاً بصرامة "مجد.. أنت حارس هذا القصر، وأنت المسؤول عن سلامة من فيه.. فكيف يحدث ما حدث للملك في وجودك ووجود حراسك؟.. هذا أمر لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام.."
قال مجد عاقداً حاجبيه "لم يكن هذا في نطاق عملي.. يمكنني حراسة الملك من أي هجوم متوقع، لكن كيف أتأكد أن الخادمات اللواتي يتسللن في جوانب القصر قد عمدن لتسميم طعامه انتقاماً لما جرى لهن؟.."
قال زياد محتداً "هذا ليس عذراً.. كان عليك أن تحذر هذا أيضاً وتتصرف بما يلزم لسلامة الملك.."
خفض مجد رأسه دون اعتراض قائلاً "ربما كان قولك محقاً يا مولاي.. لا يمكنني أبداً الاعتذار عما جرى، ولا يمكنني التكفير عن مثل هذا الذنب.. لذلك، لا يسعني إلا أن أستقيل من هذا المنصب الذي لا أستحقه.."
قال زياد بحزم "أنت بالفعل لا تستحقه.."
سمع مجد صوت الملكة وهي تقول بهدوء "مهلاً يا زياد.. مجد قد قام بكل ما يمكنه فعله بالفعل.. لقد تخلص من أولئك الدخلاء دون أن يطالنا أي أذى.. كما أنه كان مخلصاً طوال سني عمله الطويلة مع الملك الراحل.."
نظر لها مجد بشيء من الدهشة لم تبدُ على ملامحه.. من المحال أن تُثني الملكة على شخص ما لم يكن ذلك يصبّ في صالحها.. فما الذي تهدف إليه فعلاً؟.. بدا على الأمير زياد تفكير مفتعل ثم غمغم "هذا حق.. لا يمكنني نكران جهودك يا مجد طوال السنوات السابقة.."
ظل مجد يراقب مسرحيتهما المفتعلة بانتظار ما ستسفر عنه، عندما قال الأمير زياد بابتسامة جانبية "ربما وجب عليّ مكافأتك بدل إقالتك من منصبك هذا.. أنت تستحق الأفضل بكل تأكيد.."
ووضع يده على كتف مجد مضيفاً "حسناً.. سأولّيك منصب قائد الجيش.. أنت شخص كفؤ ولن أجد من يتولى هذا المنصب خيراً منك.."
انتابت مجد دهشة عميقة لهذا، بينما ربت زياد على كتفه قائلاً بابتسامة "هنيئاً لك هذا المنصب يا مجد.."
تدخلت الملكة في تلك اللحظة قائلة بحزم "في البدء، على مجد أن يعلن ولاءه لك، وأنت ملك البلاد القادم، ويتعهد بمعاونتك في السنوات القادمة دون خيانة.."
نظر زياد لمجد بترقب، بينما فكر مجد بصمت للحظة.. لم يكن هذا ما يسعى إليه، ولا يسعده ذلك بحال.. التعامل مع الملك عبّاد يختلف تماماً عن العمل مع الأمير زياد.. فالأمير زياد لا يتمتع بالصراحة والوضوح التي امتلكها الملك عبّاد، والعمل معه لن يخلو من الانغماس في الوحل أكثر فأكثر مع كل يوم يمضي.. وفوق ذلك هذا المنصب سيربطه أكثر بالعاصمة مع هذه الأيام التي تنذر بتقلبات كبيرة، ولن يجد الحجة الملائمة ليرحل بحثاً عن رنيم..
كان لا يزال يشعر بالسوء لما جرى لها، ويغمره استياء كلما تذكر أنها اختطفت بسبب تهاونه في حمايتها واهتمامه بالعائلة المالكة قبلها..
وبعد تفكير، قال مجد باحترام "مع شكري لهذا العرض الرائع، إلا أنني أتمنى إعفائي من هذا المنصب الذي لا يليق بي.."
نظر له زياد باستنكار صائحاً "ما معني هذا؟"
بينما قالت الملكة مقطبة "أترفض منصباً كهذا لن تناله أبداً حتى في أحلامك؟.. لماذا؟"
قال مجد "هذا منصب كبير ومسؤولية أكبر لا يمكنني حملها.. لذلك، سأرضى بأي منصب آخر وسأقسم بالولاء للأمير زياد في أي موقع كنت.."
قالت الملكة وهي تنهض بحدة "أتدرك معنى هذا يا مجد؟.. أنت ترفض طلباً لملكك القادم، ألا يسمى هذا خيانة؟"
مرة أخرى مع هذه التهمة؟.. كان يدرك أن الملكة يحلو لها التلويح بهذه التهمة لنيل ما تريده، لكنه قال بثبات "الأمير زياد يدرك تمام الإدراك أنني بعيد عن هذه التهمة يا مولاتي.."
قال زياد بعصبية "هذا شأن آخر.. أنا أريدك معي، وأريدك أن تساعد في تثبيت حكمي.. أنت مدرك أن الكثير من الشخصيات المعروفة في (الزهراء) قد يرفضون مبايعتي بالحكم.. وأريد شخصاً أميناً موثوقاً به لمساندتي.. فكيف ترفض ذلك؟"
ثم أضاف بحدة "لو لم تفعل ما آمرك به، فسأقوم بسجنك على الفور.."
قطب مجد وهو يرى الحدة في وجهي الملكة والأمير زياد، بينما أضافت الملكة "هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنك بها التكفير عن ذنبك بموت الملك السابق يا مجد.. فكُن حصيفاً وفكر فيما يضمن لك مستقبلاً عالياً في هذه المملكة.."
خفض مجد رأسه مفكراً للحظات دون أن تزول تقطيبة حاجبيه، ثم زفر أخيراً وركع أرضاً بيد واحدة وقال "أتعهد بالولاء للملك زياد، ملك مملكة بني فارس ووريث عرشها.. وأضع نفسي في تصرفه في أي وقت ومكان وبأي صورة كانت.."
بدا الرضا على وجه الأمير زياد، بينما قالت الملكة بابتسامة "رائع.. أنت تثبت ولاءك لهذه المملكة في كل يوم يا مجد.. ستصبح ذا مكانة مشهودة في هذه المدينة وفي المملكة كلها.."
لوّح زياد بيده قائلاً "انهض يا مجد واستلم منصبك منذ اللحظة.. أريدك أن تجتمع بقادة الألوية والكتائب المختلفة في الجيش وتتأكد من أنهم يقسمون بالولاء لي.. ومن لا يفعل، فتخلص منه بسرعة.."
قال مجد بحزم وهو يقف "مع احترامي لك يا مولاي، لا يمكنني قتل أي شخص لا يدين لك بالولاء.."
قال زياد بغيظ "لا يهم.. اطرده من منصبه ومن المدينة كلها.. المهم ألا يثير أي بلبلة في المدينة حتى يتم تنصيبي وأصبح الملك فعلياً على هذه المملكة.."
هز مجد رأسه موافقاً، ثم استأذن للرحيل وغادر بعد أن أدى التحية للأمير زياد.. لم يكن انصياع مجد لمطالب زياد والملكة ضعفاً أو خشية على ما قد يحدث له.. لكنه بالفعل يشعر بشيء من الذنب لما جرى للملك.. ويشعر بأنه مدين للملك عبّاد الذي أأتمنه على حياته وعلى قصره.. لذلك، فالمعاونة على تثبيت المملكة في هذه المرحلة القادمة أقل ما على مجد فعله للوفاء بعهده للملك عبّاد.. وبعد أن يتم ذلك، وتستقيم أمور المملكة في عهدها الجديد، فلكل حادث حديث..

*********************

مع اقتراب ذلك المساء، كانت رنيم مستلقية على سريرها بعد أن تعبت من ذلك السجن الخانق الذي هي فيه.. النافذة مغلقة بإحكام ولا يمكنها فتحها، والباب مغلق كذلك.. الغرفة ضيقة ولا تحوي إلا سريراً صغيراً وطاولة جانبية، والمدفأة التي كانت تمنحها بعض الدفء قد استهلكت الأخشاب التي بقلبها وانطفأت منذ وقت طويل.. لا تدري رنيم حتى متى ستبقى بهذه الصورة، ولا حتى متى ستظل بهذا الاستسلام.. لقد يئست حقاً من تغيير نفسها، وجلّ ما تريده هو العيش بسلام بعيداً عن أي صراع.. فلمَ يستكثرون عليها هذا؟..
انتبهت في تلك اللحظة لصوت المفتاح يدار في قفله، فاعتدلت جالسة بتوتر لترى آرجان يدخل الغرفة حاملاً بعض الطعام ودورق ماء وهو يقول لها "أكنتِ نائمة؟.. ألم تشعري بالجوع بعد هذا النهار الطويل؟"
لم تعلق رنيم رغم اصطراع معدتها بجوع شديد مع رائحة الطعام، لكنها لم تظهر ذلك وهي ترى آرجان يضع الطعام جانباً ثم يتقدم منها.. انتاب رنيم شيء من التوتر والقلق وهي تقول منكمشة "ما... ما الذي تريده مني؟"
مد يده إليها فوجدته يحمل بعض الأوراق وريشة كتابة بالإضافة لمحبرة.. نظرت للأوراق بدهشة وهو يقول لها "أريدك أن تكتبي رسالة للملك.. وعليك أن تحسني كتابتها دون خداع.. لو سارت الأمور كما أتوقع، فستحصلين على حريتك قريباً جداً.."
لم تكن رنيم واثقة من هذا الأمر، لكنها لم تعترض وهي تحمل الأوراق والمحبرة للطاولة القريبة.. فأزاحت الطعام جانباً وجلست على كرسي بتأهب لكتابة ما يطلب منها.. فقال آرجان وهو منشغل بتنظيف المدفأة وتعبئتها بمزيد من الأخشاب "وجّهي الرسالة للملك عبّاد، واسأليه عن إحدى الخادمات التي لم نعثر عليها معهن.. اسمها جايا، وقد أسرها الملك مع الباقيات وأخذها للزهراء لكنها اختفت بعد وقت وجيز.."
تساءلت رنيم بفضول لم تملكه "ومن تكون جايا هذه؟"
نظر لها آرجان بتقطيبة قائلاً "هلّا فعلت ما يطلب منك؟.. أخبري الملك أنني أحتجزك عندي رهينة، ولن أطلق سراحك حتى يعيد إلينا جايا.. أخبريه أنني لن أتردد في الاقتصاص منكِ لو أصاب جايا أي مكروه أو لمس شخص شعرة من رأسها.."
نظرت له رنيم بارتجافة وقالت بعينين متسعتين "هل ستفعل هذا حقاً؟"
قال بابتسامة جانبية "لا.. لكن لا يضيرك أن تكتبي هذا لإقلاق الملك وليتصرف بسرعة أكبر.. أليس كذلك؟"
صمتت رنيم وهي تغمس الريشة في المحبرة، ثم تنقلها على الورق كاتبة رسالتها بخط جميل أنيق، فانسابت الكلمات على الورقة بسرعة ورنيم تحمّلها مشاعرها المتوترة.. على الملك عبّاد أن يتصرف بسرعة.. عليه أن ينقذها قبل أن تواجه غضبة الهوت العارمة، أو تواجه انتقام مختطفها الذي بدا عازماً على الوصول لمراده مهما كلفه ذلك.. عليه أن يعيدها لحياتها السابقة الهادئة رغم كآبتها وضيقها..
وبعد أن أنهت رسالتها، رفعت رأسها نحو آرجان الذي نجح في إشعال الحطب في المدفأة ليعيد الدفء للغرفة، ثم توجه إليها وتناول الرسالة منها يتأملها بصمت.. قبل أن يسألها بشيء من الشك "هل كتبتِ ما طلبته منك بالضبط؟"
بدا لها بوضوح أنه لا يحسن القراءة كما لا يحسن الكتابة، ويبدو أنه لا يعرف إلا التحدث بهذه اللغة فقط.. فأجابت رنيم بتوتر "بلى.. فعلت ذلك.."
هز رأسه باستحسان ورنيم تقول "هل تملك مغلفاً يمكنني أن أضعها فيه؟"
علق آرجان بهزء "مغلف؟.. لا نتمتع برقيّ كهذا.. سيتم ربط هذه الرسالة في سهم وسيرمى السهم في قصر الملك ذاته.. لا تقلقي لهذا الأمر واستمتعي بوقتك حتى نحصل على رد ملائم.."
تستمتع بوقتها؟.. شعرت رنيم بضيق وانفعال يكاد ينفجر له رأسها.. كانت الجدران في هذه الغرفة الضيقة تطبق على أنفاسها، وتزيدها بؤساً فوق ما تشعر به لاختطافها.. لكنها كالعادة لا تستطيع الاعتراض، ولا تستطيع تغيير واقعها قيد أنملة..

*********************

في اليوم التالي، دهشت رنيم لرؤية كاينا تحمل لها إفطارها في وقت مبكر.. فقالت "هل أصبحت تعملين خادمة عند هذا الرجل الآن؟"
ابتسمت كاينا معلقة "لستُ خادمة عند أحد هنا.. الكل في القرية يتعاونون عند الحاجة ولا نعامل بعضنا كخدم أبداً.."
ثم وضعت الطعام على الطاولة مضيفة "ثم إن من تعنينه غير موجود حالياً.."
نظرت لها رنيم بدهشة، بينما لوّحت كاينا بإصبعها قائلة "ولا يخايلك أنك ستقدرين على الهرب مني.. لن أكون أقل في حراستك منه، ولن أتهاون معك لو حاولت الهرب أبداً.."
قالت رنيم بضيق "أهرب لأضيع في هذا المكان المنقطع بلا وسيلة للترحال؟.. لست حمقاء لهذه الدرجة.."
عاد لها فضولها فتساءلت "وأين ذهب ذلك الرجل في هذا الوقت؟"
أجابت كاينا "عاد للزهراء ليحصل على رد قاطع من الملك.."
شعرت رنيم بلهفة شديدة وهي تقول "حقاً؟.. كم يوماً سيطول غيابه؟"
ابتسمت كاينا قائلة "تحلّي ببعض الصبر وكلي طعامك.. لابد أن يعود قريباً، ولابد أن سجنك هذا سينتهي بعودته.. فلا تقلقي.."
في الليلة التالية، وبينما كانت رنيم تتقلب في فراشها بتململ بانتظار ما سيسفر عنه الخطاب الذي وجهته للملك دون أن تعلم بما حل في (الزهراء) من بعد رحيلها، فإن مجد كان في الوقت ذاته يسير عابراً أحد الممرات المكشوفة ذات السقف المزخرف والأعمدة المتوازية.. كان ذلك الممر يقوده بشكل محاذٍ للقصر نحو مبنى جانبي لا يقل عن القصر أبهة وإن كان أصغر حجماً بكثير.. كان ذلك حتى وقت قريب منزل قائد الجيش فِراق الذي لم يتردد زياد في التخلص منه بعد ساعات معدودة من موت أبيه.. ومع تولّي مجد هذا المنصب كان محتماً عليه أن يسكن في القصر ذاته ليكون قريباً من الملك في أي وقت يحتاج إليه..
زفر مجد وهو يفكر بالأحداث القليلة الماضية التي اشتعلت مع اختطاف رنيم.. رغم أن ذلك التسلل من قِبَل جماعة الهوت كان ضئيلاً ولم يسفر إلا عن مقتل بضع أفراد من الحراس وجرح آخرين وتهريب الأسيرات من الهوت، إلا أن قتل الملك عبّاد وحده له تبعات جمّة على هذه المملكة قد تؤدي مع بعض الوقت لتفككها لو لم يحسن زياد إحكام قبضته عليها.. يكفي ما يصلهم من أخبار عن تحركات مشبوهة لدى مملكة كشميت وتجمعات من السفن الحربية التي تخوض عباب بحر السلام في وقت كهذا..
فهل يحق لمجد، مع كل هذه الأحداث الهامة، أن يشغل تفكيره برنيم وهي فرد واحد مقابل مملكة كبيرة كهذه؟.. هل يحق له أن يتخلى عن واجبه تجاه هذه المملكة ويسعى خلف رنيم مدفوعاً بشعور الذنب الذي يؤرقه كل ليلة؟..
قطع تفكيره صفير خافت وشيء مرق أمامه بشكل خاطف.. توقف مجد عن الحركة وهو يحدق في ذلك السهم الذي سقط على بعد خطوة واحدة منه.. فتوتر بشدة وهو يبحث عن مصدر هذا السهم.. هل كان المتسلل الذي أطلقه قد وجهه بنيّة قتل مجد بعد أن أصبح قائداً للجيش؟.. وهل ستتبعه سهام أخرى؟..
انتبه في تلك اللحظة لتلك الورقة المربوطة أعلى السهم، فتقدم منها ونزع السهم ساحباً الورقة برفق لئلا يتلفها.. ونظر حوله بحيرة ملاحظاً الصمت التام في الموقع، قبل أن يفضّ الورقة ويقرأها بسرعة.. تراكضت عيناه على الكلمات وأدرك من الوهلة الأولى هوية كاتبته.. عندها انتفض وهو يستدير قابضاً على الرسالة بشدة وصاح متلفتاً حوله "أين أنت؟.. أعلم أنك هنا.. فأظهِر نفسك وواجهني.."
جاوبه الصمت المطلق، فعاد يصيح "أعطيك كلمتي أن سوءاً لن يلحق بك حتى أتحدث معك.."
أتاه الصوت من موقع علوي يقول ببرود "لست أخشاك لو ظننت هذا للحظة.."
رفع مجد بصره للأعلى ليجد فوق شجرة وارفة قريبة من هذا الممر جسداً مظلماً لا يبدو واضحاً في هذه الليلة السوداء.. وخلال لحظة، كان الجسد قد اعتدل واقفاً وقفز دون وجل من ذلك الموقع ليستقر أمام مجد.. قطب مجد وهو يرى المشاعل القريبة تلقي بضوئها على الرجل بحيث بدت ملامحه واضحة شيئاً ما.. عندها قال بغيظ "أهو أنت؟.. أنت من اختطف رنيم.. ما الذي فعلته بها؟"
قال آرجان الذي وقف أمامه ممسكاً بسيفه العريض في يده "هي بخير.. فلا تقلق.. لكن الأمر مرهون باستجابتكم لما طلبته في هذه الرسالة.. أريد منك تسليمها للملك عبّاد وسأنتظر الرد خلال يوم واحد.. ومع مغيب شمس يوم الغد، لو تم تجاهل مطالبي، فسوف.........."
قاطعه مجد مقطباً "الملك عبّاد قد مات.."
قطع آرجان قوله وهو يحدق في وجه مجد بصمت وصدمة، فأضاف الأخير "قامت إحدى الفتيات اللواتي هربن معكم بتسميمه قبل رحيلها، ولم نتمكن من إنقاذه.. هل نسيتم هذا بهذه السرعة؟"
عقد آرجان حاجبيه وقال "لا.. لم أكن أعلم بهذا.. ولم نأتِ المرة الماضية للانتقام منه لو دار ذلك بخلدك.. لقد قامت تلك الفتاة بذلك التصرف بشكل فردي ولم تبلغ به أحداً منا.."
ثم قال بحزم "هذا لا يغيّر من الواقع شيئاً.. الفتاة ستظل سجينة عندي حتى أستعيد جايا.. أبلغ الأمير زياد بذلك، واطلب منه تحقيق مطالبي بأسرع ما يمكن لضمان سلامة الفتاة.."
زفر مجد بحدة وقال "بل هذا يغير كل شيء.. الأمير زياد لا يعبأ لأمر الفتاة، ولن يحرك إصبعاً لإنقاذها.. أما بالنسبة لتلك المسماة جايا، فقد بحثت عنها في أرجاء القصر منذ تلك الليلة.. حاولت العثور عليها لكي أتمكن من استعادة رنيم، لكني لم أعثر لها على أثر.. وبسؤال الملكة التي كانت تدير أمور هاته الفتيات أخبرتني أن تلك الفتاة قد تمكنت من الهرب قبل وقت طويل، عندما كنتُ غائباً لاصطحاب الأميرة من مملكة أخرى.."
غمغم آرجان بحنق "لو هربت لعادت للهوت بالتأكيد...."
قال مجد بتقطيبة "لكن الملكة قالت إن الفتاة قد سرقت كنزاً غالياً من كنوز الملك، ولا أحد يعلم في أي اتجاه هربت.. ربما هربت لمملكة أخرى لتتمكن من بيع ذلك الكنز والاستفادة مما سيعود به عليها.."
صاح آرجان بغضب "هذا كذب.. كذب.. جايا لن تسرق ولن تلمس شيئاً لا تملكه.. كفّ عن هذه الأكاذيب وسلمني إياها.."
سمعا صيحة تعلو من جانب الحديقة، ولاحظا تدافع عدد من الحراس بعد أن انتبهوا لوجود شخص غريب مع مجد.. أدرك آرجان عندها أن فرصة نجاته من هذا الموقف ضئيلة لو لم يبادر بالابتعاد في هذه اللحظة.. استدار إليه مجد ملاحظاً تلفت آرجان حوله وقال بحدة "أين الفتاة؟.. عليك إعادتها فنحن لا نعلم إلى أين رحلت تلك المدعوة جايا.."
لكن آرجان تجاهله وأطلق صفيراً طويلاً ومجد يصيح به "أين الفتاة؟.. أين هي أيها الجبان؟"
قطع قوله مع هبوط جسم قريب بشيء من العنف مثيراً عاصفة قربه، ولما انتبه مجد لذلك الجسم كان آرجان قد امتطى ظهر التنين الذي استجاب لندائه وقال بصوت واضح "لا أصدق حرفاً مما قلته لي.. أبلغ زياد أن الفتاة لن تعود حتى تعود فتاة الهوت التي اختفت.. واحدة مقابل أخرى.. وما سيصيب فتاة الهوت من ضرر، سيصيب فتاتكم أيضاً.."
وبتربيتة على عنقه، فإن التنين أقلع بسرعة وارتفع في السماء ليغيّبه الظلام في قلبه بينما سمع مجد صوت أقدام الحرس تقترب منه وأحدهم يصيح "هل يتعرض القصر لهجوم آخر يا سيدي؟"
قال مجد بتقطيبة "لا.. ليس هجوماً هذه المرة.."
وزفر بحدة مغمغماً "تباً لهذا الصفيق.. أرجو ألا تكون رنيم قد قضت نحبها ذعراً لما جرى لها.."
نظر للرسالة في يده، وزفر من جديد مفكراً في أمر تلك المدعوة جايا.. لو استعادها، فقد يتمكن من إنقاذ رنيم بشكل أسرع.. لكن بدا أن تلك الفتاة قد ذابت ولم يعد لها أثر في القصر كله.. لمَ تلك الفتاة بالذات؟.. وكيف اختفت بصورة لا يعرفها أحد في القصر كله؟..

*********************

بعد أربعة أيام من اختفائه، وبعد أن فاض الصبر برنيم وكادت تجن في انتظاره، انتبهت لصوت مختطفها الواضح يصلها عبر الباب المغلق.. جلست في سريرها بشيء من اللهفة بانتظار أن يفتح باب الغرفة.. لابد أنه تمكن من إيصال رسالتها، ولابد أن شخصاً ما في (الزهراء) سيستجيب لمطالبه.. هل جاء بهم لهذا المكان؟.. أم سيأخذها إليهم على ظهر تنينه؟..
في تلك الأثناء، كانت كاينا تحدث آرجان المتجهم قائلة بحدة "ما الذي ستفعله الآن؟.. لقد باءت مخططاتك بالفشل والوحيد الذي سيتحمل تبعات ذلك هي رنيم.. فما ذنبها؟"
قال آرجان بحدة "اصمتي.. أتظنين أنني لا أدرك ذلك؟"
ظلت كاينا تراقبه مقطبة وهو يدور في منزله بعصبية، ثم عادت تسأله "قل لي أنك تملك خطة أخرى على الأقل.."
زفر بحدة وقال "سأبحث عن جايا في قرى الهوت الأخرى.. ربما لجأت لإحداها ومنعها أمر ما من العودة إلينا.. وبعد أن يرتاح كاجا من عناء هذه الرحلة، سأعود به للزهراء، عسى أن يكون الملك، أو ذلك الرجل الذي يدعى مجد، قد استوعبا ما نطلبه منهما وحاولا البحث عن جايا بجدية أكبر.."
غمغمت كاينا وهي تغادر "وستظل هذه المسكينة حبيسة دارك حتى يقررا ذلك؟.. كان عليك أن تطيعني عندما طلبتُ منك تركها في الزهراء.."
وخرجت صافقة الباب خلفها بقوة، بينما جزّ آرجان على أسنانه بغضب.. لا يمكن أن تختفي جايا بهذه الصورة.. لا يمكن أن يكون ذلك الرجل صادقاً في كل ما قاله عنها.. لمَ هي دوناً عن بقية الفتيات؟..
طال انتظار رنيم وهي تسمع حديث آرجان مع شخص آخر بلغته دون أن تتبين ما يقال.. ثم بعد وقت طال، ساد الصمت في المنزل بشكل لم تتوقعه.. توترت لهذا وهي تتقدم من الباب وتطرقه بشيء من الحدة.. وبعد بعض الصمت، وجدت الباب يفتح ووجه آرجان يبدو من خلفه بعبوس واضح.. لا تدري لم خفق قلب رنيم لمرأى عبوسه وقد أدركت ما يحمله من أخبار، لكنها تساءلت رغم ذلك "حسناً.. ما الذي جرى مع الملك؟"
زفر آرجان بحدة، ثم قال بشيء من الجفاء "لم يحدث ما يمكنك التلهف عليه.. ما تزال الأمور كما هي وما تزالين حبيسة هذا المكان.. فاهدئي ولا تثيري غضبي.."
وغادر مغلقاً الباب خلفه بينما وقفت رنيم في موقعها ذاهلة.. ثم ركضت للباب وضربته بحدة بقبضتيها وهي تصيح "ماذا تعني بهذا؟.. ألم تصل رسالتي إلى الملك؟.. ألم يرسل أحداً لإنقاذي؟.. افتح بالله عليك ولا تتركني هكذا.."
لكن الباب ظل صامتاً والمنزل ساكناً ورنيم تتهاوى في موقعها واضعة يداً مرتجفة على جبينها.. ما الذي جرى؟.. لمَ لمْ يهرع شخص لإنقاذها مما هي فيه؟.. كيف يتخلون عنها بهذه البساطة؟.. هذا مستحيل.. مستحيل تماماً..

*********************

في اليوم التالي، وبعد انقضاء معظم ذلك النهار، وجدت رنيم المنطوية على نفسها في جانب المكان أن كاينا قد أتت لرؤيتها كعادتها.. وما إن جلست قربها حتى سألتها رنيم برجاء "كاينا.. أخبريني بما جرى بالرسالة التي أرسلها ذلك الرجل للملك.. ما كان رد الملك عليها؟.. ولمَ لمْ يأتِ أحد لإخراجي من هذا المكان؟"
نظرت لها كاينا بشيء من الشفقة، ثم قالت "حدثت أمور كثيرة منذ غيابك عن (الزهراء) يا رنيم.."
سألتها رنيم وقد هوى قلبها عند قدميها "أمور كثيرة؟.. ما الذي جرى؟"
أجابت كاينا بعد لحظة صمت "الملك عبّاد قد مات.."
اتسعت عينا رنيم بذعر وكاينا تضيف "إحدى الفتيات قد قامت بتسميمه تلك الليلة التي هربنا فيها، لكنها لم تخبر أحداً بذلك.. يبدو أن الملك قد أساء إليها بشكل ما، ولذلك لجأت للانتقام قبل رحيلها.. ولم يدرك أحد ما جرى للملك حتى مات بالفعل، لذلك لم يتمكن طبيب القصر من إنقاذه.."
هتفت رنيم وهي تتشبث بكاينا "ما الذي سيجري لي إذاً؟.. بعد موت الملك، من سيعبأ لأمري ويأتي لإنقاذي؟"
قالت كاينا محاولة تهوين الأمر "لقد استطاع آرجان التحدث مع مجد بغفلة عن بقية الحراس.. وقد كان مجد قلقاً لأمرك بشدة.. لابد أنه سيسعى لاستعادتك بشتى الطرق.."
نظرت لها رنيم بمزيج الأمل واليأس، وهما مزيجان متناقضان بشدة لم تشعر بمثلهما من قبل.. يحدوها الأمل أن مجد يهتم لأمرها، وسيأتي لنجدتها بالتأكيد.. ويأس لأنه لم يأتِ بعد رغم مرور كل هذه الأيام.. فما معنى هذا؟.. أهو بسبب موت الملك؟.. أم بسبب رفض زياد السماح له بذلك وهو قد أصبح حاكم المملكة ورئيس مجد؟..
أمسكت كاينا كتفيها قائلة "اسمعيني يا فتاة.. لن تستفيدي شيئاً من هذا البؤس.. سواء أأتى شخص لإنقاذك أم لا.. أهناك فارق؟"
غمغمت رنيم بمرارة "ألا ترين أن هناك فارقاً في هذا؟"
قالت كاينا "لا.. أنا واثقة أن ذلك لن يختلف بالنسبة لك.. ثقي بي يا فتاة.. نحن لا ننوي إيذاءك، ولا ننوي الانتقام لك لما جرى ولأي شيء سيجري.. اعتبري أننا نستضيفك لبعض الوقت، رغم أن هذا جرى بغير إرادتك.. صدقيني لم أكن أتمنى أن يحدث هذا، لكن الآن أرى أنه لا يصنع فارقاً حقاً بالنظر لما كان سيجري لك على يد الملكة والأمير زياد.."
قالت رنيم بصوت متهدج "لقد دُمرت حياتي يا كاينا.."
رفعت كاينا حاجباً وقالت "أتظنين ذلك؟.. وهل أنت آسفة على تلك الحياة حقاً؟"
صمتت رنيم دون إجابة.. لم تكن آسفة على حياة كرهتها، لكنها كانت شيئاً مفهوماً على الأقل.. الآن هي تمر بأيام لا تدري إلى أين ستأخذها أو ما الذي سينتج عنها بعد ذلك.. وهي حبيسة في غرفة بعد أن كانت حبيسة قصر واسع، وتعيش وسط أناس يكرهون النظر لوجهها بأي شكل كما كانت في القصر تماماً.. فما الذي تغيّر حقاً؟..
قضت رنيم ذلك اليوم غارقة في كآبتها، وقد غاب عنها آرجان طوال اليوم بعد أن بدا متعباً بشدة في اللحظة التي رأته فيها في الليلة السابقة.. ومع مغيب شمس ذلك اليوم، وجدته يدخل الغرفة حاملاً بعض الطعام وبعض الأخشاب لإشعال النار في المدفأة اتقاءً لبرد تلك الليلة.. ولما رأته رنيم التزمت الصمت وهي تراقب عمله للحظات.. ثم قالت بصوت لم تملك تهدجه "ما الذي سيجري لي بعد الآن؟"
أجاب دون أن ينظر إليها "لا شيء.. سيظل الحال على ما هو عليه.. لنأمل أن يمتلك ذلك الرجل بعض الحماسة للسعي خلفك وإعادة جايا لنا.."
قالت بمرارة خافتة "أما من أمل في إعادتي للزهراء؟"
صمت للحظات وهو يمارس عمله، ثم قال باقتضاب "ليس في الوقت الحالي.."
زمّت رنيم شفتيها بضيق ومرارة.. لو كان ينوي احتجازها لوقت غير محدد، فهل سيبقيها حبيسة هذه الغرفة حقاً؟.. إنها لم تكد ترَ نور الشمس منذ أيام عدة إلا من نافذة غرفتها الصغيرة، ولا تكاد تقدر على أن تشمّ هواءً نقياً بسبب إقفاله للنافذة.. فهل ستظل على هذه الحال مدة أطول؟..
ودّت لو تخبره بحقيقة ما يعتمل في صدرها، لكنها لم تجرؤ يوماً على ذلك أمام والديها ومن بعدهما زوجها المستقبلي، فكيف تفعل ذلك أمام مختطفها الجلف؟.. لابد أنه سينتقم منها بشدة لو فعلت.. كما أنه لم يعبأ بها عندما طالبته بإعادتها للزهراء.. فهل سيعبأ بضيقها من هذه الغرفة؟..
بعد أن انتهى من عمله، وبدأت المدفأة تنشر بعض الدفء في الغرفة الصقيعية، توجه للمخرج ورنيم جالسة بإطراق وهي تفرك كفيها باستمرار.. لكنها وجدته يقف وسط الغرفة متسائلاً "ما بك؟.. لو كان هناك ما تريدين قوله، فإليّ به.."
خفضت رنيم بصرها بصمت، فسمعته يقول ونظراته الحادة منصبّة على رأسها "عليك التحدث لو كان هناك ما لا يعجبك.. أكره تلك النظرات التي تظهر ما يخفيه لسانك.."
لم تجبه رنيم وشيء من التوتر يغزوها.. ما الذي يبغيه منها بالضبط؟.. وجدته يتقدم فيضرب الجدار خلفها براحة يده وهو يميل نحوها قائلاً بحدة "لا تبتلعي لسانك هكذا.. ألا تملكين رأياً في الأمر؟.."
هزت رنيم رأسها نفياً بسرعة وقلبها يغوص في صدرها.. لابد أنها أثارت غضبه.. فما الذي سيفعله بها الآن؟.. سمعته يزفر بحدة قبل أن يقول "أنت أسوأ مما ظننت.. أحقاً أنت أميرة وأنت منعدمة الشخصية بهذه الصورة؟.. أم أن ما تفلحين بفعله حقاً هو التسلط على الخادمات والحرس في قصر أبيك؟.."
ثم استدار مغادراً معلقاً "بئس الحال.. هذا ممل جداً.."
رفعت رنيم رأسها وقد شعرت بسوء وحنق كبيرين، ثم قالت قبل أن يغلق باب الغرفة "لكني........"
رغم أن صوتها كان ضعيفاً بسبب ارتباكها، إلا أنه توقف ونظر إليها بشيء من التعجب.. استجمعت رنيم شجاعتها وقالت بصوت أكثر وضوحاً دون أن تواجهه بعينيها "أنا أريد الخروج.. لا يحق لك سجني في غرفة واحدة بعد أن اختطفتني عنوة.. كما ليس عليك أن تخشى هروبي فذلك مستحيل تماماً..........."
حلّت ابتسامة ساخرة على شفتي آرجان محل ذلك التعجب، ثم سمعته يقول "هذا أفضل دون شك.. التعامل مع شخصية سلبية كشخصيتك ممل بالتأكيد.. ورغم ذلك، فطلبك مرفوض تماماً.. لا يمكنك مغادرة الغرفة لئلا تواجهي غضب أهل القرية.."
وغادر مغلقاً الباب خلفه، بينما احتقن وجه رنيم بغضب.. لقد خدعها.. فما هدفه من ذلك حقاً؟.. مادام سيرفض طلبها دون نقاش، فلمَ شجعها على طلبه؟.. أهو يتسلى بها؟.. أم أنه أمر آخر؟..

*********************

نهضت رنيم في وقت باكر من صباح اليوم التالي على بعض الضجة في جانب من جوانب المنزل.. لم يكن الفجر قد انبلج بعد وبدت السماء سوداء من نافذتها عندما فوجئت بآرجان يفتح باب غرفتها قائلاً "اغسلي وجهك واستعدي.. ستغادرين هذا المكان لعمل قصير.."
قالت رنيم بتوترها الدائم "أي عمل؟.. ولمَ في هذا الوقت بالذات؟.."
أجابها وهو يرمي شيئاً على سريرها "استبدلي ملابسك بهذه.. لقد طلبت من كاينا جلبها لك.. من المحال خروجك بهذه الملابس الخفيفة في هذا الجو القارس.."
تساءلت بقلق أكبر "لماذا؟.. ما الذي سأفعله بالتحديد؟"
أجاب آرجان بملل "نفذي ما أقوله بصمت.. لا نملك الكثير من الوقت.."
وغادر تاركاً الباب خلفه مفتوحاً ورنيم مشدوهة مما جرى.. لم يسبق له أن فعل أمراً كهذا منذ وصولها لهذه القرية، فما الذي يعنيه هذا؟.. راودها خاطر أن يكون هذا بسبب ما قالته في اليوم السابق، هل ينتوي عقابها على تجرؤها بذاك الطلب؟..
أسرعت بارتباك تغسل وجهها بالماء الذي وضع في آنية في جانب الغرفة.. تذكرت الأواني الفضية ذات النقوش المنمنمة التي تجدها في كل جناح في قصر أبيها وقد ملئت بماء صافٍ مزج بماء الورد.. ولم تكن هذه الآنية تقارن بتلك بأي حال..
نظرت للثياب التي كانت من قماش صوفي بلون أصفرٍ باهتٍ ونقوش بأشكال هندسية على الحزام الذي يخصها، ثم استبدلت ملابسها بعد أن أغلقت باب غرفتها من جديد بإحكام.. لم تكن معتادة على استبدال ملابسها بنفسها، وقد عانت أشد المعاناة من البقاء بالثوب ذاته لعدة أيام.. لكن كيف يمكنها التذمر وهي سجينة لدى هذا الرجل الغريب؟..
بعد ارتدائها لتلك الثياب التي تكونت من قميص بأكمام واسعة تصل لمنتصف ذراعها وبنطال فضفاض طويل، فإنها شعرت بتوتر كبير وهي تنظر لنفسها بقلق.. كيف يمكنها ارتداء مثل هذه الثياب التي لم تعتدْ عليها من قبل؟.. إنها لا تختلف عن ثياب الرجال كثيراً، وتشبه ثياب الخادمات في قصر (الزهراء) وإن كانت تنقصه الزينة التي على ثياب الخدم وتختلف عن قماشها الناعم الجميل.. لكن هل تجرؤ على الرفض؟..
أخيراً، بعد أن استسلمت دون اعتراض كعادتها، سرّحت شعرها المموج وعقصته، وارتدت حذاءً بسيطاً وجدته قرب الباب، ثم تقدمت من باب الغرفة بتوتر وأطلت منه نحو بقية المنزل الذي لم تره منذ قدومها.. كان المنزل الصغير مزدحماً بعدد من الأدوات التي كوّمت في جوانبه، بينما رأت عدداً من الدروع والأسلحة التي علقت في أحد حوائطه.. نافذته التي تحتل جانباً عريضاً من المنزل لا تغطيها أي ستائر، وأثاث المنزل الخشبي البسيط الذي يكاد يخلو من أي زخارف وتغطيه أغطية ملونة زاهية بنقوش وتطريزات لم ترَ مثلها من قبل.. ووسط المكان، رأت آرجان يقف قرب طاولة قريبة يتناول طعامه منها بسرعة..
وبعد تردد، تساءلت رنيم بصوت مبحوح "إلى أين تنوي أخذي؟.. ولأي عمل؟"
قال وهو يشير لإناء قريب "ألا تكفّين عن هذه الأسئلة؟.. تناولي فطورك بسرعة فسنغادر حالاً.. وارتدي هذه لكيلا تتجمدي من البرد.."
تقدمت رنيم من الطاولة متطلعة لذلك الإناء الذي حوى فطورها البسيط.. ورغم جوعها، إلا أنها لم تجد في نفسها أي شهية لتناول الطعام والقلق يعتمرها مما سيجرّها إليه ذلك الرجل الغريب.. ما مصيرها بعد أن تغادر هذا المنزل برفقته؟..
عندما فتح آرجان الباب وخرج منه، وقفت رنيم قرب الباب تتأمل الموقع خارجه بعد أن ارتدت سترة من جلد مدبوغ مبطن بفرو سميك لتمنحها الدفء في هذا الوقت المبكر.. كانت منازل القرية الصغيرة ممتدة أمام ناظريها، مغلفة بظلام شبه تام بحيث أيقنت رنيم أن الفجر لا يزال بعيداً.. ربما لن يغمر نور الشمس الموقع إلا بعد ساعة أو يزيد، وهذا ما نبأتها به زقزقات بعض العصافير المبكرة والتي لم تتمكن من رؤيتها.. نظرت لآرجان الذي حمل بعض الأدوات القريبة ثم تساءلت بقلق "ما الذي سأفعله بالضبط؟.."
قال لها بسرعة "ألم أخبرك؟.. إنه عمل ضروري.. وأحتاج عونك فيه.."
قالت رنيم بقلق متزايد "وما هو هذا العمل الذي لا ينتظر طلوع الشمس؟.."
لم يجبها وهو يحمل بعض تلك الأدوات ودلواً فارغاً، فأضافت "ألست تنوي الخلاص مني؟.."
قال آرجان بنفاذ صبر "وهل أنوي الخلاص منك بدلو فارغ وبعض الأدوات؟.. كفي عن هذه الخيالات واتبعيني.."
وغادر خلف المنزل مبتعداً نحو موقعٍ يعلو عن موقع بقية القرية، فتبعته رنيم بعد شيء من التردد.. لاحظت أنه يستطيع السير في ذلك الموقع المظلم بسهولة دون الحاجة لأي إنارة، بينما تتعثر هي بالحجارة بين خطوة وأخرى وتلحقه بصعوبة تامة، بالإضافة إلى أنها بدأت تلهث بعد مسافة قصيرة وهي لا تكاد تتمتع بأي لياقة.. انتبهت في تلك اللحظة إلى أنه فضّل حمل كل الأدوات بنفسه رغم أنه طلب عونها، فتعجبت لأمره شيئاً ما مما دفعها لتقول "يا سيد.. إلى أين نحن ذاهبان حقاً؟.."
قال لها دون أن يلتفت إليها "اسمي آرجان.."
فقالت "يا سيد آرجان.. إلى أين....؟"
قاطعها قائلاً بضيق "لا أحب أن تناديني بذاك اللقب.. الهوت لا يحبون الألقاب.. أنا هو أنا دون أن أكون سيداً لأحد.."
كان دور رنيم لتقول بنفاذ صبر "إلى أين تأخذني حقاً؟.. لمَ تتنصل من إجابتي بهذه الصورة؟.."
نظر لها قائلاً بابتسامة جانبية "ممّ أنت خائفة؟.. لاشيء يضطرني لاقتيادك كل هذه المسافة لارتكاب أي جرم بحقك.. اتبعيني بصمت فما يزال الهوت نائمون، ولا نريد إيقاظ أحد منهم بعد.."
تلفتت رنيم حولها بشيء من القلق، لكنها لم تتمكن من رؤية شيء مع الظلام الشديد من حولها.. ثم توقفت فجأة عن السير عندما سمعت زمجرة خافتة ولفحتها أنفاس دافئة جعلتها ترفع بصرها وتفتح عينيها على اتساعهما.. فأمامها، وعلى بعد متر أو أقل قليلاً، استطاعت رؤية تينك العينين اللامعتين بلون أخضرٍ زاهٍ، والتي التمعت في الظلام كأعين القطط وإن كانت تفوقها حجماً بعدد من المرات.. تراجعت رنيم خطوة بذعر بينما صدر فحيح من ذلك الجسد الذي تململ وهو يزمجر بتحذير واضح.. لكن آرجان قذف بشيء ما نحوها قائلاً "لا تفرّي مذعورة، فسيلحق بك وسيطؤك بقدمه دون شك.."
انتفضت رنيم بذعر وهي تلتقط ذلك الشيء، لتجد أنه تفاحة حمراء بحجم كف يدها.. ولم تكد تلتقطها حتى وجدت التنين الذي كان أمامها يندفع نحوها بسرعة صرخت لها رنيم فزعة وهي تتعثر فتسقط أرضاً.. أغمضت عينيها بشدة وفزع وهي تنتظر اللحظة التي ستشعر فيها بالألم عندما ينشب التنين أنيابه في جسدها، لكنها عوضاً عن ذلك شعرت بلفحات أنفاسه الحارة وهو يتشممها ويزوم بشيء من الحنق..
أخيراً تجرأت رنيم على فتح عينيها لترى تلك العين الخضراء قريبة منها وهو يبحث بأنفه تحت ذراعها التي ضمّتها لجسدها عند سقوطها.. وقبل أن تفهم ما يفعله سمعت آرجان يقول "إنه يبحث عن مكافأته، وأنت تخبئينها.. لا تستثيري غضبه رجاء.."
أسرعت رنيم تمد يدها بالتفاحة نحو ذلك الفم العريض، ورغماً عنها أغمضت عينيها خشية أن يلتهم نصف ذراعها مع التفاحة بفمه العريض وأنيابه الحادة.. لكنها شعرت بلسانه الرطب وهو يلتقط التفاحة بمهارة ويرميها عالياً قبل أن ينقض عليها ويلتهمها بقضمة واحدة.. ثم استدار وهجم على آرجان الذي أطلق صيحة أفزعت رنيم، فنهضت بسرعة واقتربت من جسده الذي سقط أرضاً وهي تشعر بدقات قلبها تتعالى.. لو أن التنين قد هجم على صاحبه، فهي التالية بالتأكيد.. فكيف لها أن تفرّ من مصير كهذا؟..
لكنها بعد لحظة سمعت ضحكة تصدر من آرجان والتنين يزوم بحنق، ثم قال آرجان مربتاً على خطمه "لم يعد لديّ المزيد.. ألم نتفق على أن أجلب لك تفاحة واحدة كل صباح؟"
نظرت له رنيم بدهشة وهي تراه يحدث التنين كصديق قديم، ثم وجدته يعتدل مزيحاً الحيوان الضخم من فوقه وهو يقول لها "هل فزعت من تصرفاته؟.. التنين لا يختلف عن غيره من الحيوانات، ولا يجب أن يثير الفزع في نفسك.. فكما استطاعت بعض القبائل والممالك ترويض النمور والأسود الشرسة، فإن شعبنا قد استطاع التعامل مع التنانين وتسييرها لمصلحتنا.."
أدارت رنيم رأسها جانباً بصمت.. من المحال عليها في هذه الظروف أن تتأقلم مع رؤية هذه الكائنات المرعبة.. ربما لو كانت في القصر ومحاطة بجمع من الجنود، لكان الأمر أفضل بكثير.. لكن أن تتعامل مع هذا الكائن وهي أسيرة لصاحبه، فهذا مما لا يطمئنها بأي حال..
سمعته يقول وهو ينهض نافضاً ثيابه "احملي هذا الدلو وتوجهي للجدول القريب.. أمامنا عمل كثير في إزالة هذه القذارة عن هذا الكسول.."
بعد تردد كبير، أطاعته وهي تتقدم من جدول قريب لا تكاد تراه، إنما مهتدية بصوته السلس الذي أشعرها ببعض الراحة.. وبعد ممانعة كبيرة، تقدم التنين ليقف قريباً من الجدول ليبدأ آرجان في غسل جلده والعناية به.. بدا لها أن آرجان يعتني عناية فائقة بهذا التنين ويعامله برفق شديد وكأنه مجرد طفل لا حيوان ضخم يفوقهما حجماً.. فتساءلت بعد تردد وبعد أن وجدت أنه يستفرد بمعظم ذلك العمل "كيف تمكن الهوت من ترويض هذه الكائنات المعروفة بشراستها؟.. ما علمته أن التخلص منها، وترويضها بصورة أكبر، عمل مستحيل لم يتمكن أي شعب مع كل علومه من تحقيقه.. فكيف يمكن للهوت المعروفين بـ......"
ترددت للحظة فقاطعها قائلاً بابتسامة جانبية حملت سخرية واضحة "معروفين بماذا؟.. بجهلنا وكوننا أقرب للرعاع منا للبشر المتحضرين؟.. هذه مغالطة كبيرة.."
غمغمت رنيم "ربما كنتَ محقاً بهذا، من وجة نظرك أنت.. لكن هذا ليس سبباً كافياً لتفسير علاقتكم الغريبة بالتنانين.. فكيف تفعلون ذلك حقاً؟"
سمعته يقول وهو منهمك في عمله "نحن لم نروّض التنانين ولم نجبرها على الانصياع لنا.. لا يمكن لبشري أن يفعل ذلك مع كائن ذو كبرياء كهذا التنين.. كل ما هنالك أننا تمكنا من تطويعها بما نقدمه لها من خدمات ومن طعام وخلافه، بينما يصرّ بقية البشر على تطويعها بالقوة وهو ما ترفضه هذه الكائنات.."
استمعت له رنيم بدهشة وهو يضيف "ولذلك، هي بحاجة لرعاية وعناية كبيرة لكي تبقى في خدمتنا.."
تساءلت رنيم وهي تربت على أنف التنين المسترخِ جانباً بعد شيء من التردد "لكن، لمَ كان علينا القدوم في مثل هذا الوقت المبكر للعناية بها؟.. أهناك ما يمنع انتظار النهار؟"
قال آرجان "لا شيء يمنع ذلك.. لكن أنسيتِ أن الهوت يكرهون رؤيتك؟.. لو شاهدوك خارج منزلي فلن أقدر على منعهم عنك.."
صمتت رنيم للحظات، ثم عادت تتساءل "ومن الذي يعاونك في أعمالك هذه عادة؟"
قال آرجان "لا أحد.. أفعل هذا بنفسي عادة.."
استمعت له رنيم بشيء من الدهشة.. هل اضطر للنهوض في وقت أبكر من المعتاد ليخرجها من المنزل قبل استيقاظ بقية من في القرية؟.. ما الذي يدفعه لذلك رغم أنه يقوم بالأعمال ذاتها وحيداً في العادة؟.. هل فعل هذا بسبب طلبها الخروج من المنزل؟.. تنهدت وهي تحك جانب رقبة التنين الذي بدا مستمتعاً بهذا أكثر من أي شيء آخر.. إنها لم تعُد تفهمه.. كيف يهتم بما تريده وهو مختطفها؟..
وبعد بعض الوقت قضته في العناية بهذا الكائن الخرافي، ومعاونة آرجان بما يمكنها عمله رغم تفرده بكل الأعمال المهمة، فإن آرجان توقف فجأة وتلفت حوله للحظات قبل أن يقول "يكفي هذا.. يستحسن أن تعودي لمنزلي قبل استيقاظ الآخرين.."
توترت رنيم شيئاً ما متلفتة حولها، ثم رأت آرجان يتقدمها وهو يشير لها لتتبعه.. فلم تتوانَ عن ذلك وهي تسرع في خطواتها بعد أن بدأ نور خفيف يزيح الظلمة السابقة واستطاعت رنيم أن ترى موضع قدمها بوضوح.. كان من المدهش عودة رنيم لمحبسها طواعية، فما الذي منعها من الهرب في هذه اللحظة؟.. في الواقع، لهذا أسباب عديدة.. منها أنها تخشى مواجهة بقية الهوت.. ويأسها من إمكانية عودتها إلى (الزهراء) أو حتى لـ(بارقة) وحيدة دون معاونة.. ثم إن موقع القرية الغريب يجعل من الصعب عليها، وهي التي قضت حياتها في القصور، من تخطي تلك السلسلة الجبلية والوصول للسهول القريبة ومنها لأقرب قرية..
لكن.. كم من الوقت سيمضي قبل أن يقتنع آرجان أن انتظاره سيطول دون فائدة؟.. هل سيطول الأمر لأسبوع؟.. أسبوعان؟.. أم يستلزمه الأمر شهراً للتأكد أن أحداً لن يأتي بحثاً عنها لإنقاذها؟.. يبدو أن لقب (زوجة ولي العهد) كان أكبر منها كالثوب الفضفاض الذي يبدو عليها بشعاً وغير ملائمٍ بالمرة..
تنهدت رنيم بحدة لم تلحظها وهي تحدق في موضع خطواتها وتتبع آرجان بآلية.. فسمعته يقول "يا للبؤس.. أكل هذا الضيق بسبب عودتك لتلك الغرفة؟.. إذن ما الذي ستفعلينه لو حبسك الهوت في سجونهم الضيقة كريهة الرائحة؟"
نظرت له رنيم بقلق متسائلة "أهي حقاً كذلك؟"
ابتسم بجانب فمه بصمت للحظات، ثم قال وهو ينظر للقرية الساكنة عند قدميهما "لا.. الهوت لا يملكون سجوناً البتة.. هذه عقوبة لا توجد في شرائعنا ولا نطبقها على أي شخص كان.."
تساءلت رنيم بدهشة "كيف ذلك؟.. وما الذي تفعلونه بمن يرتكب خطأ أو إثماً من الهوت؟"
أجاب هازاً كتفيه "هناك عقوبات أخرى أكثر نفعاً للطرفين، وهي تتمحور بالأساس حول القيام بخدمات مجانية للطرف المتضرر.. لكن إن كان الجرم أكبر من أن يُغتفر، فالعقوبة القصوى بالنسبة للهوت هي النفي.. مغادرة القرية دون رجعة هي أشد عقوبة يمكن إيقاعها على أي مجرم من القرية.."
غمغمت رنيم "أنتم متهاونون كثيراً.."
قال آرجان "ربما.. لكن لاحظي أننا نعيش حياة أكثر أمناً مما تعيشونه أنتم في العاصمة.. ثم إن أي رجل أو امرأة من الهوت يضطر للرحيل عن قريته سيعيش حياة عسيرة جداً خارجها.. فالهوت غير مرحب بهم في أي مكان كما تعرفين، لذلك يكون هذا هو العقاب الأشد وقعاً على أي شخص من هذه القرية.."
ظلت رنيم تستمع له بتعجب.. ما سمعته وعرفته عن الهوت صوّر لها أنه شعب جلف متوحش يعيش بصورة أدنى عن بقية البشر.. ظنت أنهم همج لا قانون لديهم ولا ثقافة ولا يختلفون عن الحيوانات بشيء.. ورغم أنها تعرفت على كاينا في القصر وتآلفت معها شيئاً ما، إلا أن ذلك الشعور لم يفارقها بتاتاً حتى رأت قرى الهوت بنفسها.. وبدأت تعرف أي نوع من البشر هم بعيداً عن الادعاءات والأساطير التي تشاع عنهم.. وبعيداً عن نظرة الشعوب الأخرى الضيقة لهذا الشعب المعتزل..

*********************

bluemay 16-12-15 09:41 AM

رد: على جناح تنين..
 
رائع .. اخيرا اكتشفنا انه آجان انسان مو سيء ولو انه الظروف اجبرته على خطفها
إلا انه ما وفر جهد لراحتها حسب قدرته.

حبيت كيف عصب عليها وطالبها انه تتخلى عن خنوعها وتتكلم عن اللي بنفسها.

واكتشاف رنيم انه طلعها استجابة لرغبتها اكيد رح تكون نقطة لصالحه.



مجد مغيوظة منه بس معه حق شو طالع بيده وهو مجرد عبد مامور للحثالة وامه.
ومكبل بالإمتنان للملك الراحل عباد.


عندي توقع انه لو لقت فرصة رنيم ف رح تقدر تتقرب من الهوت ويحبوها
لما يعرفوا انها مش متعجرفة وانها متواضعة وبتحب الحيوانات ومش متكبرة

اكيد لو طولت معهم فمصيرها تختلط معهم وتتعرف عليهم عن قرب ويتعرفوا عليها .


متشوقة للي رح يصير مع رنيم.

سلمت يداك

مع خالص ودي


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

سارونه1 16-12-15 10:33 AM

رد: على جناح تنين..
 
لي عودة بعد القراءة

سوسو سوسيتا 16-12-15 11:13 AM

رد: على جناح تنين..
 
( ͡o ͜ʖ ͡o)

عالم خيال 16-12-15 04:00 PM

رد: على جناح تنين..
 
ستعرفي حكاية آرجان في وقت ما..
وعندها قد تعذرينه على ما فعله..
عموماً لا ننسى أن الهوت قد قاسوا من اختطاف فتياتهم لعدد من الشهور وأخذهن للزهراء للعمل كخادمات
لذا كما يقال (البادي أظلم)
غداً موعدنا مع فصلان بإذن الله تعالى لأنهما يكملان بعضهما البعض
وفيها ستعرفين المزيد عن حكاية رنيم مع الهوت..


****

بانتظار رأيكما يا سارونة وسوسو
أتمنى أن تعجبكما الرواية حتى الآن

bluemay 16-12-15 04:06 PM

رد: على جناح تنين..
 
متشووووقة كثيرا للآتي

سلمت يداك عزيزتي خيال


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 17-12-15 05:45 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل السابع: عودة للسماء الرحبة


في ذلك اليوم، وبعد عدة أيام من موت الملك عبّاد ودفنه في مقابر الملوك التي تقع قريبة من القصر الملكي، ازدانت المدينة كاملة استعداداً للاحتفال الكبير الذي لم تشهد مثله منذ عقود.. حفل تنصيب زياد ملكاً على عرش مملكة بني فارس العريقة..
كان زياد قد أمر بتجهيز حفل باذخ شديد الفخامة، ودعا إليه عدداً كبيراً من ملوك وأمراء الممالك الموالية لمملكة بني فارس.. كانت (الزهراء) تبدو أجمل مما هي عليه في العادة أضعافاً مضاعفة، ورائحتها تزهو بمئات اللترات من العطور التي رشّت في جوانبها مع بداية ذلك النهار..
وقد ظهر زياد في قاعة العرش مرتدياً زيّاً ذهبي اللون بتطريزات تمثل الأسد وهو شعار هذه المملكة، وهو يزهو بثيابه وبالتاج الذي قام رئيس الوزراء بوضعه على رأسه في احتفالية خاصة وبالطقوس التي مارسها الملوك السابقون نفسها.. بينما تنافس الأمراء ومبعوثي الممالك الموالية لتهنئته والمباركة ببدء هذا العهد الجديد للمملكة.. ولم يكن أسعد من زياد، إلا الملكة سليمة التي جلست على كرسيها قرب كرسي العرش وهي تبتسم بفخر واعتزاز وكأن الاحتفال كان لها هي.. ولم يعكر صفوها إلا رؤية نوران التي وقفت في جانب القاعة دامعة العينين بعد أن بلغتها أنباء اختطاف رنيم عند وصولها للزهراء لحضور الاحتفال.. ما الذي يجعل تلك الحمقاء تبكي على فتاة مثل رنيم؟.. كان عليها أن تظهر سعادتها وحبورها في يوم كهذا..
وبعد عدة ساعات، وقد انفضت أغلب الجموع التي شهدت حفل التنصيب، اقترب الوزير حارث من زياد مهنئاً.. ثم بعد بعض التردد قال بصوت خفيض "مولاي.. ما الذي يمكننا إبلاغه للملك قصيّ بشأن ابنته التي اختفت من القصر؟"
لوّح زياد بيده قائلاً "غير مهم.. لا تقل له أي شيء.."
قال حارث بحيرة "كيف يمكنني ذلك؟.. لابد أن يعلم بما جرى فهي ابنته وهو قد أمّننا إياها.. لو علم بأن الهوت قد اختطفوها فسوف......."
قال زياد بحدة "أأنت مجنون؟.. أتريد أن تعلم الممالك كلها أن أولئك التافهين قد تمكنوا من التسلل للقصر واختطاف أميرة منه والهرب دون أن نتمكن من القبض عليهم؟.. ستسقط هيبة مملكتنا، وسنجد أن الممالك كلها قد أرسلت من يقتحم قصرنا هذا دون وجل.."
قال حارث بضيق وحيرة "أدرك ذلك طبعاً يا مولاي.. لكن مملكة بني غياث قد أرسلت مبعوثاً لتهنئتكم بجلوسكم على العرش.. ألن يثير اختفاء ابنة قصيّ من القصر ريبته؟"
تراجع زياد في كرسيه قائلاً بصرامة "لا عليك من هذا الأمر.. سأتولى أنا صياغة رسالة خاصة موجهة للملك قصيّ وسأرسلها مع مبعوثه.. وسأشرح فيها كل شيء.."
تساءل حارث بشيء من القلق "إذن، كيف ستفسر غياب الأميرة رنيم من قصركم يا مولاي؟"
ابتسم زياد ابتسامة ساخرة وقال "سأبلغه أن ابنته المصون قد هربت من القصر مع أحد الحرس.. هذا هو التفسير الوحيد الذي سيحفظ ماء وجهنا وسيجنّب المملكة مغبّة معرفته بالحقيقة.. هكذا، لن يسعى الملك خلف تلك الفتاة ولن يستنكر اختفاءها من القصر أو يتهمنا بالتهاون في حمايتها.."
لم يعترض حارث وهو مدرك أن ذلك لن يجدي نفعاً، بل انحنى مهنئاً للمرة الثانية، واستدار مبتعداً تاركاً زياد يبتسم ابتسامة واسعة وهو يتأمل أصابعه ذات الخواتم الذهبية التي لا تقدر بثمن.. لقد جاءته هجمة الهوت من حيث لا يحتسب، ومنحته أجمل تغيير تمناه في حياته.. تخلص من تلك الفتاة التافهة، وأصبح الملك في غمضة عين.. كيف يمكن للحياة أن تكون أفضل من هذا؟..

*********************

أمضت رنيم عدة أيام وهي تغادر مع آرجان قرب الفجر للعناية بالتنين.. في الواقع، لم يسمح لها آرجان إلا بالقيام بالقليل التافه من الأعمال، ولم يكن يعترض حتى عندما تتركه وتجول في المنطقة متفحصة بصمت.. بدأت تتآلف بعض الشيء مع التنين، الذي يطلق عليه آرجان اسم كاجا ويعني السماء بلغة الهوت، وبدأت تقترب منه دون خوف أو ذعر وهي تربت على رأسه وتمسح رقبته بشيء من الألفة.. على الأقل، في هذا الوقت القصير الذي تنشغل فيه بهذا العمل، ينشغل عقلها عن أفكاره البائسة وعن الحسرة والندم الذي يلاحقها في كل لحظة وحين.. ماذا لو أنها قبلت عرض كاينا في ذلك اليوم ورحلت قبل مغيب شمسه وقبل بدء تلك الليلة المشؤومة؟.. ماذا لو.......؟.. لكنها سرعان ما تطرح تلك الفكرة من عقلها وتحاول التفكير في أي أمر آخر..
ومع كل لحظة تمضي، تكتشف رنيم أن التنانين لا تختلف كثيراً عن أي حيوان أليف آخر.. لها مظهر مرعب، ولها تصرفات تثير ذعر الآخرين، لكنها تستجيب للطف البشر بسهولة تامة ويمكن كسبها بتفاحة صغيرة..
لاحظت أيضاً أن آرجان يشبه التنين الذي يملكه شبهاً تاماً.. له مظهر مرعب، ويثير ذعرها بصوته الخشن، لكنه يخفي لطفاً واهتماماً بها وبالآخرين خلف مظهره الجلف هذا.. لقد دأب على النهوض أبكر من المعتاد والخروج في هذا البرد القارس للعناية بالتنين لتستغل رنيم الفرصة للخروج من سجنها الخانق دون أن تواجه غضب أهل القرية.. وهي تشكر له مراعاته تلك رغم أنها لا تنسى أنه مختطفها.. لكن ما يهمها أنه لم يسيء إليها بقول أو فعل منذ اختطفها، وهذا يدل على أنه لا يحمل نوايا خبيثة تجاهها..
بعد تلك الأيام، فإن آرجان قد تركها تعود للمنزل وحيدة دون رقابة بثقة تامة لم تتعجب لها.. فكما أدركت رنيم أن هربها مستحيل، كان آرجان واثقاً من ذلك ثقة تامة.. ولولا خشيته من رد فعل الهوت لرؤيتها لتركها تجول بحرية في القرية..
وبعد عودتها، فإنها تبقى طليقة في المنزل لكن وحيدة مع اختفاء آرجان أغلب ساعات النهار.. ومما علمته من كاينا أنه يغادر لقرى الهوت الأخرى بشكل شبه يومي دون أن تفصح لها عن سبب ذلك..
وفي أحد الأيام، وفيما كانت رنيم تهمّ بالعودة لمنزل آرجان قبل انبلاج الفجر بقليل، سمعته يقول للتنين "هيا بنا يا صاحبي.. علينا الرحيل باكراً هذه المرة فالطريق طويل.."
استدارت رنيم باهتمام ووقفت تراقبهما وآرجان يثبت السرج على ظهر التنين بإحكام ويضع الشكيمة المعدنية في فمه بعد شيء من الممانعة من جانب كاجا.. ولما انتبه آرجان لرنيم التي تراقبه عن كثب، تساءل بدهشة "ما الذي يبقيك هنا حتى الآن؟.."
فركت رنيم كفيها دون أن تجيبه.. فقال وهو يتأكد من ثبات السرج "أخبرتك ألا تكتمي ما برأسك من......"
اندفعت تقول قبل أن يتم حديثه "هل تسمح لي بالركوب معك في جولة قصيرة؟.."
قال آرجان بدهشة "لماذا؟.."
قالت بارتباك "أحب تجربة ذلك مرة أخرى.. في المرة الماضية أعجزني خوفي عن الاستمتاع بتجربة استثنائية كهذه.. وقد لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى.."
غمغم بابتسامة "ألا تخططين لأي أمر آخر؟.."
هتفت بإخلاص "قطعاً لا.."
ضحك آرجان لردها المنفعل، ثم قال "حسناً.. أعتقد أنك تستحقين ذلك.."
امتطى ظهر التنين المرتفع بكل مهارة، ثم انحنى ومد يده لها فتقدمت بعد شيء من التردد وتمسكت بيده لتجده يرفعها بكل سهولة.. وعوضاً عن أن يردفها خلفه، أجلسها أمامه ومد يده باللجام إليها قائلاً "ما رأيك بأن تتولي توجيه كاجا بنفسك؟"
نظرت له رنيم بدهشة وهتفت "هل ستسمح لي بذلك؟"
لوّح بإصبعه مجيباً "لمرة واحدة فقط.."
أمسكت رنيم اللجام بيدين ترتجفان لشدة انفعالها، وشعرت بتململ التنين وهو يحرك جناحيه ويطوّح ذيله بانتظار أمر منها.. وقبل أن تتجرأ على جذب العنان والسماح للتنين بالطيران عالياً، فإنها مدت يدها وربتت على رقبته القريبة منها هامسة "سأكون تحت رحمتك في اللحظات القادمة.. فكن رفيقاً بي يا كاجا.. اتفقنا؟"
هز كاجا رأسه بقوة وهو يرفع بصره للسماء، عندها هزت رنيم اللجام ولكزت التنين في بطنه متبعة تعليمات آرجان.. وبخفة، إنما بقوة وسرعة، ارتفع كاجا نحو السماء مرفرفاً بجناحيه بقوة بينما تحاول رنيم توجيهه بشيء من الصعوبة.. لم تكن تستطيع الإمساك باللجام وتسيير التنين دون التشبث بالسرج، ولولا أن آرجان قام بتثبيتها بإمساك كتفها بيده، لسقطت من فوق ظهر التنين من اللحظة الأولى مع حركته العنيفة..
سمعت آرجان يقول لها "لو شعرتِ ببرد شديد أخبريني لكي أعيدك للأرض.."
لكنها لم تجبه وهي منشغلة بما تمر به.. ولشدة انفعالها فإنها شعرت بلهيب في أعماقها ولم تكد تشعر بالبرد القارس الذي لسع خديها.. كان التنين يرتفع بكل سلاسة وسرعة متجاوزاً قمة جبل قريب قبل أن يرتفع عالياً في دورة واسعة حول القرية معتمداً على الرياح القوية ومكتفياً برفة جناح بين فينة وأخرى.. نظرت رنيم للموقع الذي بدأ الظلام يهرب منه مع تزايد النور في الأفق، بينما التهبت الألوان بشدة في ذلك الموقع دليلاً على قرب شروق الشمس.. كانت الرياح القوية تحمل لها رائحة منعشة رغم برودتها الشديدة، وبينما مال التنين متفادياً بعض جوانب الجبل القريب، فإن رنيم أخذت نفساً عميقاً وهي تشعر بالهواء يضرب خديها بقوة.. وبمعاونة صغيرة من آرجان الذي استمر في تعليمها كيفية التحكم بالتنين دون أن تسمح له بالطيران برعونة قد تسقطهما من على ظهره، فإن رنيم قادت التنين عبر القمم القريبة بشيء من الانطلاق رغم أن هذه هي محاولتها الأولى..
وبعد عدة دقائق من الطيران بكل حرية، فإن آرجان ربت على كتفها قائلاً "لنعد للأرض.. ستتجمدين من البرد.."
غمغمت رنيم بشيء من الإحباط "لن يحدث هذا.."
فقال وهو يشد عنان التنين "بل أنا من سيتجمد من البرد.. والآن، وجّهي التنين للهبوط واضغطي على بطنه بقدميك برفق.."
فعلت رنيم ما طلبه منها والتنين يهبط بهما بدورة واسعة حتى عاد لموقعه السابق في جانب من ذلك الجبل.. وبعد هبوطهم بسلاسة، بقيت رنيم في موقعها وهي تلهث بشدة وكأنها بذلت مجهوداً عنيفاً.. إنما كانت تلك مشاعر قوية غمرتها وجعلتها مشدوهة منفعلة بشدة بحيث عجزت عن التعبير عما تحسّ به في تلك اللحظات.. وإزاء صمتها، قال آرجان وهو يترجل "يبدو أن ما رأيته كان صدمة لك.. أتمنى ألا تراودك الكوابيس مع كل هذا الانفعال.."
وساعدها على الترجل بدورها، وفور أن لامست الأرض بدا أن العقدة التي كانت تربط لسانها قد انفكّت وهي تهتف "أأنت تمزح؟.. هذا أجمل من أي حلم حلمت به في حياتي.."
نظر لعينيها اللامعتين رافعاً حاجبيه بتعجب، بينما ابتسمت رنيم ابتسامة مشرقة وهي تقول بانفعال "أشكرك كثيراً على هذه الفرصة التي أتحتها لي.. رغم كل ما جرى، لن أنسى ما رأيته اليوم بقية حياتي.."
أدار آرجان بصره للتنين القريب هارباً من انفعالاتها الغامرة، ثم قال وقد انتبه لشروق الشمس الذي بدا واضحاً في الأفق "عليكِ الرحيل بسرعة.. أخشى أن يراك أحد الرجال ويحدث ما لا نرغب به.."
لم تعترض رنيم على ذلك وهي تستدير للتنين الذي أخذ يفتش عن مكافأته بعد رحلة كهذه.. فاقتربت منه رنيم دون وجل وأحاطت رأسه بذراعيها وهي تقول بابتسامة "شكراً لك يا كاجا.. أنت كائن رائع حقاً.."
دهش آرجان لرؤية كاجا مستسلماً لانفعالاتها وهو يمسح رأسه بذراعيها.. فقالت رنيم وهي تبتعد خطوات "سأحضر لك مكافأتك في المرة القادمة.. فانتظرني.."
واستدارت مبتعدة بخطوات خفيفة غاب عنها ارتباكها المعهود وتوترها الدائم.. ربت آرجان على رأس كاجا الذي أخذ يزوم معترضاً على تجاهله، وراقب رنيم في ابتعادها مغمغماً "يبدو أننا قابلنا فتاة غير اعتيادية يا رفيقي.. إنها خيالية فوق ما يلزم.."
دفعه كاجا بشيء من الحنق لتجاهله حتى أسقطه في الجدول البارد القريب التي غمرته بمياهها الصقيعية مما جعل آرجان ينتفض بصدمة وهو يصيح "ما بك يا أحمق؟.. هل تريد قتلي؟"
أما رنيم، فقد سارت بخفة هابطة من ذلك الجانب من الجبل نحو منزل آرجان وابتسامة متسعة تتبدى على شفتيها.. شمّت الهواء البارد بعمق مستمتعة برائحة القرية القريبة، وتنهدت وهي ترفع بصرها للسماء.. من الصعب تصديق ما شعرت به وهي في الأعلى.. للمرة الأولى تشعر وتتيقن أن ذلك المكان الواسع هو موطنها.. هو المكان الذي لطالما حلمت به في خيالاتها وتمنت أن تكون فيه.. لو كان للبشر أن يعيشوا فوق الغيوم، فهي ستكون أول من يفعل ذلك بكل حماس.. وهي سعيدة لأنها قامت بهذه التجربة التي ستستعيد ذكراها بمتعة وحنين عند عودتها لذلك القصر البارد..
توقفت رنيم فجأة وهي تفكر بصمت.. تعود لذلك القصر؟.. لماذا؟.. ما الذي يجبرها على ذلك فعلاً؟.. عائلتها؟.. زوجها الذي لم تتزوجه بعد؟.. ما السبب الذي يجعلها تلحّ وتبكي للعودة لذلك القصر حقاً؟..
نفضت رنيم تلك الأفكار بشيء من القلق وهي تخطو خطوة نحو منزل آرجان، عندما توقفت من جديد لدى سماعها ذلك الأنين الخافت.. بدا خافتاً لدرجة أنها لم تسمعه إلا عندما توقفت عن السير.. تلفتت رنيم حولها بشيء من الدهشة، ثم سارت نحو ذلك الموقع الأقرب للصوت.. وهناك عند حافة عالية في ذلك المنحدر ومن فوق الصخور التي تميل بحدة نحو هاوية على شيء من الانخفاض، رأت رنيم ثوباً أزرق ملقىً على صخرة بارزة تعلو تلك الهاوية.. ولما دققت النظر فيه انتبهت لتلك اليدين اللتين برزتا من الثوب متشبثة بالصخرة وذلك الرأس بالشعر الأشقر الذي يصدر أنيناً خافتاً..
توترت رنيم لذلك المنظر وهي تصيح بصاحبه "أأنت بخير؟"
ثم انتبهت لحديثها بالعربية وهو ما لن يفهمه ذلك الصبي الذي لم يرفع رأسه تجاهها.. وقفت رنيم تتلفت بقلق شديد بحثاً عن آرجان، لكنه كان بعيداً عنها ولن يسمع نداءها لو فكرت بالاستعانة به.. كما أن الموقع حولها كان خالياً من أي بشري، فهل تترك الموقع وتذهب لمناداة آرجان؟.. لكنها لا تثق أن الصبي سيتمكن من الثبات على الصخرة لوقت طويل.. عندها غامرت رنيم بالشيء الوحيد الذي تستطيع فعله، فأسرعت تحلّ رباط ثوبها الذي كان على شيء من الطول وربطت طرفه في شجرة قريبة.. ثم حاولت أن تتدلى من الصخرة ونحو المنحدر ببطء متشبثة بالرباط.. أخذت تنقل خطواتها شيئاً فشيئاً ببطء شديد وقلق أشد.. لم تكن قد تجاوزت الصخرة بشكل مباشر عندما عجزت قدماها عن الثبات على الصخرة الملساء فانزلقت وهي تطلق صيحة فزع.. تشبثت بالرباط بكلتي يديها وهي تحاول الارتفاع من جديد دون نجاح يذكر، عندما شعرت بيد قوية وباردة كالصقيع ترفعها بسهولة حتى جلست على الأرض المستوية..
نظرت لآرجان الذي قال لها بحنق "ما الذي تفعلينه؟.. هل تنوين الانتحار؟"
غمغمت بشيء من الارتباك "هناك.. صبي.. في الأسفل.."
قال بضيق "لقد رأيته بالفعل.. لكن لمَ لمْ تناديني لأرفعه بنفسي؟.. سقوطك أنت سيكون أسوأ منه.."
قام بالهبوط بنفسه مستخدماً رباط ثوبها الذي لم يكن بالطول الكافي، لكن آرجان مد ذراعه الأخرى متشبثاً بالرباط بيد واحدة، وجذب الصبي من ملابسه حتى أحاطه بذراعه بقوة.. ثم هزه قائلاً "أيها الصبي.. أأنت مستيقظ؟.. تشبث بي كي أتمكن من الارتفاع بك للأعلى.."
ظل الصبي ساكناً للحظات، ولما هزه آرجان بشدة أكبر فتح الصبي عينيه، وقام بما طلبه أرجان وهو يتشبث بعنقه بكل ما يملك.. عندها عاد آرجان يرتفع حاملاً الصبي على ظهره وينقل خطواته بكل حذر حتى وصل لموضع رنيم التي حاولت مساعدته وجذبت الصبي من على ظهره..
وبينما جلس آرجان جانباً بشيء من التعب، فإن الصبي قد أغمض عينيه من جديد وبدا أنه قد غرق في غيبوبة ربما كانت ناتجة عن سقوطه العنيف.. نظرت رنيم لآرجان قائلة "شكراً لك.. كاد يلقى حتفه لو سقط في هذا المنحدر.."
انتبهت أن آرجان كان مغموراً بالمياه شديدة البرودة، فتساءلت بتعجب "هل ذهبت للاستحمام في هذا الجو الصقيعي؟"
قال آرجان بضيق وحنق "كفي عن هذه الملاحظات الساخرة.. سأذهب لاستبدال ملابسي.. يستحسن أن نحضر الصبي أيضاً للمنزل ولا يبقى في العراء.."
حمل الصبي عائداً للمنزل القريب مدمدماً "يبدو أن رحلة اليوم قد ألغيت مع كل هذا التأخير.."
تبعته رنيم بخطوات سريعة كاتمة ابتسامة وهي تراه يعطس باستمرار.. وفي المنزل، وضع آرجان الصبي على أحد المقاعد العريضة وسطه وغادر لاستبدال ملابسه بعد أن تجمدت أطرافه من البرد، بينما اقتربت رنيم مشفقة من الصبي وتفحصته محاولة معرفة إن كان قد أصيب بجرح خطير أو كسر في أحد عظامه.. لكنه كان سليماً مما جعلها تتنهد وتجلس بقربه بعد أن غطته بدثار جلبته من غرفتها..
بدا لها أن الصبي لم يتجاوز التاسعة من عمره، بملامح بريئة وجسد ضئيل وقصير.. وبعد بعض الوقت، عندما فتح الصبي عيناه، قفز جالساً في موقعه قبل أن ينثني بألم ممسكاً خاصرته.. فقالت رنيم "اهدأ.. كانت سقطتك عنيفة وسيؤلمك جسدك لبعض الوقت.. لكنك خالٍ من أي كسور أو جراح والحمدلله.."
كانت واثقة أن ذلك الصبي لن يفهم ما تقوله، لكنها حاولت تطمينه بابتسامتها وبإشارة من يديها.. فنظر لها الفتى بتوجس، ثم قال "ما الذي فعلته بي؟"
رفعت رنيم حاجبيها وهي تسمعه يتحدث العربية بشيء من التشويه وإن كانت كلماته مفهومة.. فقالت بابتسامة "أنت تتحدث لغتي؟.. هذا رائع.. لكن، ما الذي تظن أنني فعلته بك؟.. لقد أنقذت حياتك.."
قطب الصبي بحدة وقال "أنقذت حياتي؟.. هراء.."
نظرت له بتعجب للغضب البادي على وجهه، ثم سمعته يقول بعد لحظة صمت وبحدة أكبر "حتى لو أنقذت حياتي، فلا يمكنني شكرك أبداً.. أنت ستجلبين الوبال على قريتنا هذه.."
ضحكت رنيم لقوله وعلقت قائلة "ممن سمعت هذا القول؟.. لا تردد كل ما تسمعه كالببغاء.."
وربتت على رأسه عابثة بشعره قليلاً.. فلوح بذراعيه ليبعد يدها وهو يقول بحنق "أتهزئين بي؟"
لم تملك رنيم ابتسامتها وهي ترى تلك التصرفات المتكبرة من ذلك الصبي الضئيل، فسألته بلطف "ما هو اسمك؟.."
نظر لها بحدة تتجاوز عمره، ثم قال بكبرياء "الأسماء مقدسة لدى الهوت، لذلك لا يفشونها للغرباء بتاتاً.."
تظاهرت رنيم بالتفكير للحظة ثم قالت "هذا غريب.. أنا واثقة أن اسم كاينا هو اسمها الحقيقي.. كما أن آرجان لم يتردد في إخباري باسمه دون أن أسأله.."
نظر لها الصبي بمزيج الحدة والضيق، ثم قال باستنكار "أنا لست ضعيف الشخصية مثلهما.. لن أخبرك باسمي مهما حصل.."
سمعت رنيم في تلك اللحظة صوت طفلة تنادي "توما.. توما......"
بدا شيء من الغيظ على ملامح الصبي بينما تكرر النداء بإلحاح، مما أكد لرنيم أن الطفلة تنادي هذا الصبي بالتحديد.. ثم رأته يقفز واقفاً واستدار مغادراً بوجه محتقن محاولاً ألا يعرج في سيره بينما هتفت رنيم خلفه بابتسامة "إلى اللقاء يا توما.."
رأته يركض نحو طفلة لا تتعدى الخامسة من عمرها ووقف يجادلها بحنق، ثم لكمها على رأسها بيده المضمومة لكمة آلمتها وغادر وهي تتبعه باكية.. بينما ضحكت رنيم لتصرفاته وغمغمت بتعجب "حتى الأطفال يكرهون وجودي هنا؟.. يبدو أنني أتفوق على نفسي.."
كان لمثل تلك المحادثة أن تسبب ضيقاً في نفسها وكآبة شديدة في العادة، لكنها هذه المرة كانت رائقة المزاج وصدرها يفيض سعادة وحبوراً بحيث ترى كل شيء ممتعاً ويرسم الابتسامة على شفتيها.. تنهدت وهي تجلس على سريرها وتنظر عبر النافذة الضيقة في الغرفة للسماء التي بدأت تكتسب لوناً أزرقاً جميلاً.. ليت الحياة كانت جميلة كما رأتها من الأعلى.. ليت المصاعب والمشاكل التي تلاحقها بدت صغيرة ضئيلة بشكل تافه كما بدت منازل القرية من ذلك الارتفاع.. وليتها تملك الحرية والانطلاق اللذين شعرت بهما وهي على ظهر ذلك التنين الذي شقّ السماء بكل سلاسة ونعومة..

*********************

في اليوم التالي، وبعد أن عادت رنيم من العناية بالتنين وبقيت جالسة وحيدة في المنزل، شعرت بصوت خافت قرب باب المنزل دهشت له.. اقتربت من الباب وفتحته ظناً منها أنه آرجان وقد عاد بعد أن أتمّ ما عليه من مهام كالعادة، لكنها فوجئت بتوما الذي كان منحنياً يضع شيئاً في يده قرب عتبة المنزل.. ولما رآها استدار بسرعة هارباً، لكنها قبضت على عنق ثوبه بسرعة وقالت "إلى أين؟"
صاح توما وهو يقاومها "اتركيني.."
لكنه كان ضئيل الجسد بحيث لم يتمكن من الفكاك من قبضتها، بينما نظرت رنيم للإناء الذي وضعه توما قرب الباب وحوى بعض الخبز الساخن.. نظرت لتوما الغاضب بدهشة وقالت "أهذا لي؟.. أم لآرجان؟"
قال بحدة "لكما أنتما الإثنان.. أنا لا أحب أن أحمل جميلاً لأحد، وبهذا الإناء أكون قد رددت جميلك لإنقاذ حياتي.."
ابتسمت رنيم معلقة "حياتك تساوي بضع أقراص من الخبز؟.. هي حياة بخسة إذاً.."
وجذبته حاملة الإناء لداخل المنزل وهو يصيح معترضاً "أطلقيني.. ما الذي تبغينه بعد؟"
قالت بعد أن أغلقت الباب "اسمع.. أنا أبقى وحيدة معظم اليوم في المنزل.. ما رأيك بأن تجلس معي وتحدثني قليلاً؟"
قال بجفاء "لماذا؟.. ما الذي سأستفيده من البقاء مع غريبة مثلك؟"
قالت "سأحدثك عن (الزهراء) التي لم ترَ مثلها من قبل، وبالمقابل ستحدثني عن الهوت وعن هذه القرية.."
قال توما بحدة وسرعة "أنا لن أفعل ذلك.. الهوت لا يفشون أسرار القرية بتاتاً.."
جلست رنيم جانباً وقالت "لا بأس.. يكفي أن تستمع إليّ وأنا من سيتحدث.. ألا تحب أن تعرف شيئاً عن (الزهراء)؟"
غلب فضول توما حنقه، فسار بعد تردد حتى جلس على كرسي آخر وهو ينظر لها مضيقاً عينيه بجفاء.. لكن رنيم لم تعبأ بهذا وهي تحدثه عن كل ما رأته في (الزهراء) وعن جمال طرقاتها وبناياتها وقصورها.. كانت واثقة أن حديثاً كهذا سيجذب انتباه توما وسيُسقط الحواجز التي يضعها حول نفسه بسهولة.. لقد سئمت رنيم من البقاء وحيدة في هذا المنزل، وفضولها الذي لا يخفت عن الهوت لا يعبأ به آرجان الذي لا يجيب عن أغلب أسئلتها إلا بإجابات مقتضبة..
ورغم أن توما غادر في ذلك اليوم قائلاً بحدة أنه لن يعود مرة أخرى، فإن رنيم وجدته في اليوم التالي عائداً حاملاً بعض الفطائر بحجة أنها زائدة عن حاجة عائلته.. ابتسمت رنيم دون تعليق وهي تجذبه للمنزل وتجلس معه محاولة دفعه للحديث عن عائلته وعن القرية والتنانين الأخرى التي لم ترها رنيم.. وقد سألته باهتمام "كيف تعلمت الحديث باللغة العربية؟.. أغلب الهوت لا يعرفونها كما لاحظت عند قدومي.."
قطب توما وكأنه أهين بقولها هذا وقال بحدة "بل كل الهوت يعرفون التحدث بالعربية، لكنهم يأبون إلا التحدث بلغتهم.. نحن نفخر بلغتنا، نفخر بهويتنا، ولا ننوي بتاتاً الذوبان في مملكة بني فارس كما فعلت الشعوب الأخرى حتى ضاعت هويتها ونُسي تاريخها.."
قالت رنيم بابتسامة "هذا رائع.. مثابرتكم هذه أثارت إعجابي.. وماذا عن.....؟"
قال لها توما مضيّقاً عينيه "لمَ تكثرين من الأسئلة عن الهوت؟.. أأنت جاسوسة من الملك؟.. لابد أنه أرسلك لتقصّي أخبار الهوت تحضيراً لهجمة جديدة على قُرانا.. أليس كذلك؟"
ضحكت رنيم لقوله وعلقت "جاسوسة؟.. لم أكن لآتي لهذه القرى لو لم يختطفني آرجان بالقوة.. لكني أحب القراءة وقد قرأت الكثير من الكتب عن شعوب العالم.. قرأت كل ما يمكن قراءته، لكني لم أجد إلا قلة من المعلومات عن الهوت.. فهم لا يملكون تاريخاً مكتوباً ولا يشاركون خبراتهم وتاريخهم مع أحد، بل لا يخالطون أحداً بتاتاً مهما استدعت الحاجة لذلك إلا في نطاق ضيّق.."
قال توما باهتمام شديد "أأنت تعرفين القراءة؟"
هزت رأسها إيجاباً، فاعتدل في جلسته متسائلاً "وهل تعرفين الكتابة أيضاً؟"
قالت رنيم "القراءة والكتابة لا ينفصلان أبداً.."
عندها قفز توما قائلاً بلهفة "هل تعلمينني إياهما؟"
نظرت له رنيم بدهشة، لكنها فوجئت به يغادر الموقع راكضاً وهي تناديه دون أن يستجيب لندائها، ثم لم يلبث أن عاد حاملاً كتاباً أوراقه عتيقة وغلافه مهترئ.. فوضعه أمامها قائلاً بلهفة "علميني قراءة هذا الكتاب.."
تناولت رنيم الكتاب بدهشة متسائلة "من أين حصلت عليه؟"
أجابها "هازر قد ورث بعض الكتب من أبيه الذي كان يحب جمعها ويتقن القراءة والكتابة.. للأسف كان قد عميَ عندما بدأت أهتم بالكتب ولم أتمكن من التعلم على يديه.."
صمتت وتأملت غلافه فلم تتمكن من قراءة ما كتب عليه لشدة ما كانت مطموسة، ففتحته وتصفحته بشيء من الدهشة والاهتمام.. لقد افتقدت هذا الشعور منذ زمن.. افتقدت ملمس الأوراق ورائحتها، وافتقدت جمال الحروف المكتوبة وافتقدت ذلك العالم الذي تحلق إليه بخيالها.. كان الكتاب عن حروب القرن الأخير قبل توحد مملكة بني فارس.. وقد أدرجت فيه خرائط وخطط خاصة بتلك الحروب وبنتائجها وبما قادت إليه من قيام المملكة ومن توحد معظم أقطار القارة العظمى تحت لوائها..
انتبهت لنظرات توما المتلهفة وهو يراقبها، فقالت بابتسامة "عليك أن تكون صبوراً.. أريد قراءة هذا الكتاب هذه الليلة، وسأعلمك القراءة والكتابة منذ الغد.. اتفقنا؟"
قال بإلحاح "علميني البداية على الأقل.. أي حرف أو أي كلمة.. هذا ليس عدلاً.."
هزت رنيم رأسها موافقة، وفتحت أولى صفحات الكتاب وهي تشير للحروف وتشرح لتوما كيفية كتابتها وقراءتها في مواضع مختلفة من الكلمة.. لم يكن توما يملك دواة وريشة للكتابة، فاكتفت بشرح شفوي على أمل أن يستفيد من هذا رغم كل شيء.. كان شغف توما يتزايد مع كل لحظة تمضي، ولم ينتبه الإثنان إلى آرجان عند دخوله للمنزل حتى سمعاه يقول "يبدو أن توما قد أصبح أحد أفراد هذا المنزل.. ما الذي تفعله هنا كل يوم يا فتى؟"
قال توما بحنق وهو يشعر بأن آرجان يعامله بشيء من التصغير "ليس لك الحق في التدخل فيما يخصني.."
قال آرجان بتعجب "حتى لو كان ذلك في منزلي؟.."
ثم لوح بيده قائلاً "هيا غادر يا فتى.. لا أريد أحد أفراد عائلتك أن يبحث عنك ويكتشفوا أنك تختبئ في منزلي لتحادث الفتاة الغريبة.."
نظر له توما بغيظ، وقد كان مستمتعاً بتعلم قراءة الكتاب مع رنيم، لكنه غادر بصمت خشية أن يطرده آرجان ويمنعه من دخول المنزل، وترك الكتاب مع رنيم مع وعد بالعودة في يوم آخر..
ولما غادر نظر آرجان بتعجب لرنيم، فغمغمت بابتسامة "إنه فتىً طيب.."
علق آرجان وهو يضع ما يحمله بيده في جانب المنزل "لا تجعليه يقضي أوقاتاً طويله هنا، فأنا لا أريد أي مشاكل مع أهل القرية.."
قالت رنيم باعتراض "لكني وعدته بتعليمه القراءة والكتابة.. يبدو لي أن توما شغوف بالتعلم والقراءة، واحتفاظه بهذا الكتاب أكبر دليل على هذا.."
ثم غمغمت وهي تنظر للكتاب بين يديها "يذكرني هذا بأزمان قديمة جداً.. عندما كنت أتلهف لتعلم القراءة كي أتمكن من التسلل لمكتبة أبي الضخمة وأطالع الكتب التي تجذبني بأغلفتها الزاهية وعناوينها المذهبة.."
قال بسخرية "أزمانٍ قديمة؟.. من يسمعك يظنك تجاوزت المائة من عمرك.."
قالت مقطبة "لكني أكاد أبلغ العشرين من عمري.. وهذا عمر ليس بقليل.."
ضحك آرجان معلقاً "عشرين؟.. لازلتِ غرّة ساذجة.. أنت بحاجة لعشر سنوات على الأقل قبل أن تعدّي نفسك بالغة.."
فقالت بضيق "وكم عمرك أنت؟.. لا أظنك تكبرني بكثير.."
أجاب بابتسامة جانبية "لقد تجاوزت الرابعة والثلاثين.. وهو فارق كبير كما ترين.."
علقت بشيء من الحنق "هذا لا يبيح لك الاستهزاء بي.."
فقال دون أن تخفت ابتسامته "لم أستهزئ بك بتاتاً.. إنما كانت تلك حقيقة.."
لم يهدئ ذلك ضيقها وهي تدير بصرها جانباً بصمت.. ثم تساءلت "لمَ تعيش وحيداً في هذا المنزل؟.. أين بقية أهلك؟.. ولمَ لست متزوجاً حتى الآن؟"
قال رافعاً حاجبيه "وما شأنك أنت؟.. هل تسألين هذه الأسئلة بحثاً عن وسيلة للفرار من قبضتي؟"
غمغمت وهي تدير بصرها جانباً "من يدري؟.."
فقال آرجان وهو يدلف غرفته "كما يحلو لك.. الأبواب مفتوحة لك في أي وقت.."
ابتسمت رنيم وهي مدركة أنها لن تفعل ذلك.. آرجان أيضاً يدرك أن رنيم لا تملك القدرة على الرحيل وحيدة، لذلك لم يعد يغلق بابها بالمفتاح كل ليلة.. ورغم تطاول الأيام، فإن رنيم لم تعد تسأله عما ينوي فعله بها، وعن نيته بإطلاق سراحها.. لم تعد تعبأ بعدّ الأيام للعودة للزهراء، ولم تعد تسأل عما جرى فيها..
غادرت للغرفة التي كانت محبسها في الأساس، لكنها أصبحت غرفتها نوعاً ما بعد أن طال وجودها في هذه القرية، وهذا المنزل، دون أن يكون لها سبيل للرحيل.. وفي هذه اللحظات، كانت رنيم ترحّب بالخلوة بشدة وبين يديها هذا الكتاب الذي أثار شغفها للقراءة من جديد.. وهي التي تعشق قراءة التاريخ بكل أشكاله الممكنة..

*********************

كم يوماً قضته رنيم سجينة في قرية الهوت، لا تكاد تخالط أحداً ولا ترى أحداً عدا الثلاثة الذين تعرفهم وهم كاينا وآرجان وتوما؟.. لا تعرف الجواب.. وبعد كل تلك الأوقات، نسيت رنيم أو تناست أمر عودتها للزهراء تماماً.. أصبح الموضوع لا يشغل تفكيرها ولا يسبب لها الضيق إلا اضطرارها للبقاء طوال اليوم في المنزل دون أن تخطو خطوة خارجه وحيدة.. والوقت الوحيد الذي أصبح متنفساً لها من هذا السجن هو في العناية بالتنين الذي لم تتخلّ عن القيام به كل فجر رغم أن آرجان حاول إقناعها بالكف عن ذلك.. لكن كيف تكف عن الخروج من هذا السجن واستنشاق رائحة الفجر في هذه الجبال الباردة والالتقاء بالتنين كاجا الذي أصبح مع مرور الوقت يقفز نحوها كلما رآها لينال جائزته التي تحملها معها في كل مرة..
ورغم أن آرجان كرر رفضه اصطحابها في جولاته في مرات ثانية، لكنها لم تتذمر وهي تكتفي بالعناية بالتنين بكل صبر..
وبعد تلك الأيام، بعد مضيّ ساعات قليلة على بدء ذلك النهار، وبينما كانت رنيم جالسة في المنزل بانتظار قدوم توما الذي دأب على الجلوس معها وتعلم الكتابة والقراءة منها بمثابرة، سمعت صوتاً يتحدث قرب الباب بنبرة أثارت انتباهها.. أدركت أن ذلك الصوت هو صوت آرجان، لكن الثاني كان صوت رجل آخر من أهل القرية.. ورغم أن رنيم حاولت الإنصات عبر الباب المغلق، لكنها لن تقدر على فهم لغة الهوت مهما حاولت.. على الرغم من أنها سعت لتعلمها من توما في الأيام الماضية مدفوعة برغبة غير مسبوقة لفهم حديثهم دون ترجمة، لكن الأمر لا يتعدى بضع عشرات من الكلمات وبعض الجمل البسيطة..
توجهت رنيم للنافذة القريبة وأطلّت عبرها محاولة ألا تظهر نفسها للرجل الغريب.. وهناك رأت آرجان يتحدث مع الغريب بسرعة وانفعال واضح.. بدا أن الموضوع هام جداً لآرجان وأثارلهفته بشدة، ولم يلبث الرجل بعدها أن ابتعد بينما اندفع آرجان للمنزل وفتح بابه بشيء من الضجة..
نظرت رنيم لوجهه المنفعل بدهشة، بينما بادلها آرجان النظرات بصمت وكأنه لا يعرف ما يقول.. وأخيراً زفر بشدة واقترب منها قائلاً "لديّ بعض الأخبار.."
سألته دون أن تملك قلقها "أهي تخصني؟.."
أدار آرجان بصره جانباً قائلاً "نوعاً ما.."
خفق قلب رنيم بقلق متزايد.. أهو خبر من (الزهراء)؟.. رأته يجلس جانباً مطرقاً قبل أن يقول "وصلتني أخبار شبه مؤكدة عن جايا.."
رفعت رنيم حاجبيها وقد زال قلقها هاتفة "حقاً؟.. هل عثروا عليها؟.. أين هي؟.."
أجاب آرجان "لقد هربت من (الزهراء) بالفعل كما قال ذلك الرجل، لكن عوضاً عن العودة لقرى الهوت فإنها شوهدت في ميناء (مارِج).."
نظرت له بحيرة، ففسر الأمر قائلاً "إنها مدينة تقع خلف سهول الأكاشي، في الجانب الغربي القصي من القارة العظمى.."
تساءلت بدهشة "ما الذي دعاها للذهاب إلى هناك؟.."
زفر آرجان مجيباً "ليتني أعرف ذلك.. لا يمكن أن يكون ذهابها لذلك المكان اعتباطاً.. لابد من سبب قوي.."
سألته من جديد "لكن كيف علمت أنها موجودة هناك؟.. وما الذي يؤكد لك أنها هي بالتحديد؟"
قال بشيء من الضيق "تلك قضية أخرى.."
وغمغم مطرقاً دون أن يلاقي عينيها بعينيه "هكذا ترين أنني أخطأت بما فعلته بك.. فجايا لم تكن في (الزهراء) بالفعل.."
صمتت رنيم دون أن تعلق أو تشعر بأسى لما جرى لها دون ذنب ودون سبب حقيقي.. وبعد أن طال الصمت بينهما، غمغمت رنيم "وما الذي ستفعله الآن؟"
نظر لها قائلاً بتوتر كبير "سألحق بها بالطبع.. بأسرع ما يمكنني.."
ونهض يجمع أغراضه ويدور في المنزل ليعدّ العدة لرحيله ويضع أغراضه في حقيبة جلدية، وتتضمن في الأغلب بعض الأسلحة اليدوية والخناجر، وما يلزمه لرحلة طويلة لا يعلم كم ستستغرقه.. وبعد بعض الصمت، غمغمت رنيم "ماذا عني؟"
نظر لها آرجان بصمت وتوتر للحظات، ثم قال "سأطلب من كاينا وأحد الرجال إعادتك لموقع قريب من (الزهراء)، فقد انتفى الغرض من إبقائك في هذه القرية.. لهذا العمل خطورة بالغة عليهما بعد هجومنا السابق على القصر، لكن ما باليد حيلة.."
صمتت رنيم دون أن تعلق على هذا القول.. أهي تريد الرحيل حقاً؟.. أهذا ما سيسعدها ويختم هذا الفصل الغريب من حياتها؟.. وكما قالت لها كاينا في أول يوم لها في القرية، ما الذي يجبرها على العودة لذلك السجن حقاً؟..
نظرت لآرجان بصمت من جديد وهو منهمك في ارتداء حذائه طويل الرقبة.. وكأنه انتبه لنظراتها دون أن يلتفت إليها فعلق قائلاً "أخبرتك سابقاً.. لو كان لديك ما تقولينه فقوليه الآن.. لا أحب اعتراضك الصامت هذا أبداً.."
ابتسمت رنيم بجانب فمها لتعليقه، ثم قالت وهي تدير بصرها جانباً "لماذا أعود؟"
نظر لها آرجان بدهشة، فقالت بعد لحظة صمت "حقاً.. هذا سؤال كان يدور بذهني منذ زمن.. لماذا أعود؟.. وما الذي أعنيه لسكان (الزهراء) ولمن في قصر الملك؟.. بل ما الذي يعنيه وجودي لأبي وأمي؟.. أيرغب أحدهم باستعادتي حقاً بعد فشلي في تحقيق ما أمِلوه مني؟"
ظل آرجان صامتاً للحظات بدهشة تامة، ثم وجدته يتقدم منها فيقف في مواجهتها قائلاً بحزم "ما الذي تريدين فعله إذاً؟.. أخبريني بما تريدينه وسأحققه لك ما دام في وسعي ذلك.."
تساءلت رنيم بدهشة "لمَ عليك فعل ذلك؟"
أجاب "ربما كنت مديناً لك بذلك.. لقد أفسدت حياتك باختطافي لك دون ذنب ارتكبتيه، فلم يكن لك دخل فيما حلّ بجايا.."
قالت رنيم ببساطة "ربما كان العكس هو الصحيح.. أنت لم تفسد حياتي، بل أصلحتها.."
صمت آرجان وهو يتأمل ملامحها بدهشة، بينما خفضت رنيم بصرها محاولة استجماع مشاعرها وشدّ عزمها.. كانت تعرف بالضبط ما تريده.. هو حلم لطالما حلمت به منذ استوعبت أبعاد حياتها التي كانت تراها كئيبة.. كانت واثقة من رغباتها، لكن لم تكن تملك الثقة الكافية لاتخاذ قرارات توافق تلك الرغبات.. وأبعدها عجزها عن مسار حياتها الذي لطالما تمنته..
كل ما تريده رنيم هو بعض الحرية.. أن تطير.. أن تحلق بلا قيود..
اختطاف آرجان لها قد خفف ضغط السلاسل التي كانت تقيد روحها، وبدأت رنيم تتململ بحثاً عن تلك الحرية المنشودة.. وها هي تقف أمامها وليس على رنيم سوى أن ترفع رأسها فتراها بكل وضوح..
رفعت رأسها تتطلع لآرجان الذي يراقبها بصمت، ثم قالت بهدوء "أريد الرحيل معك.."
صمت آرجان بصدمة للحظات، ثم قال بعدم فهم "ترحلين؟.. لأين؟"
ابتسمت رنيم مجيبة "حيثما ذهبْت.."
اتسعت عينا آرجان بدهشة وهو حائر في مغزى كلماتها.. ثم قال "أيتها الأميرة.. رحلة كالتي أنوي الذهاب فيها ليست ممتعة ولن تسير بالسلاسة التي تتوقعينها.. لا تقارنيها بتاتاً برحلة تقومين بها وسط حراسة مشددة وفي عربة مريحة في ربوع مملكة أبيك الآمنة.."
لم تعلق رنيم على مناداته لها بالأميرة في سخرية واضحة، لكنها قالت "أدرك كل ذلك.. وهذا بالتحديد ما أسعى إليه.. لا أريد أي شيء من حياتي السابقة.. ولست أطمح للحصول على متعة أو مغامرة أحكيها عند عودتي للقصر الآمن.."
تساءل آرجان بحيرة "إذن ما الذي تريدينه؟"
نهضت رنيم وواجهته بحزم للمرة الأولى في حياتها قائلة "أريد الرحيل.. أريد نسيان من أكون ونسيان الحياة التي عشتها حتى الآن.. أريد أن أكون جزءاً من هذا العالم الذي لم أره إلا من نافذة قصر أبي.. لست أملك وسيلة للترحال، وليس أمامي إلا الانضمام إليك في هذه الرحلة.. أنت ستبحث عن جايا وأنا سأحقق حلمي الوحيد.."
غمغم آرجان وهو يتراجع "أنت تهذين.."
وحمل حقيبته قائلاً "سأترك أمرك لكاينا.. وهي ستعود بك لقصر زوجك في الأيام القادمة.."
أسرعت رنيم واعترضت طريقه قائلة "ألم يقنعك قولي؟.. لا أريد العودة.. أفضل البقاء سجينة في هذا المنزل عن العودة لعالم قاسٍ لا يعبأ بي قيد شعرة.."
قطب آرجان بغير اقتناع، فأمسكت رنيم يديه بيديها قائلة بتوسل "لن أعطلك في هذه الرحلة أبداً.. أدرك أن قول هذا سهل، لكني سأفعل ما بوسعي لمعاونتك ولن أزعجك بتاتاً.. فلا ترفض هذا دون سبب"
قال آرجان باستنكار "دون سبب؟.. أنت لا تدركين ما أنت مقدمة عليه.."
ضربت رنيم الأرض بقدمها قائلة بحنق "أنت طلبت مني التعبير عما أريد قوله بصراحة.. فلماذا تستنكر ذلك الآن؟.. لا أريد العودة لذلك القصر.. ألا يمكنك فهم ذلك؟"
قال آرجان بحدة "وماذا عن زوجك؟.. ماذا عن حياتك؟.. ماذا عن ذلك النعيم الذي كنت ترفلين فيه؟"
قالت رنيم بانفعال شديد "زوجي نبذني قبل أن يتزوجني.. حياتي تلك كانت موتاً محتوماً.. وذلك النعيم كان كالأشواك في حلقي.. أنت لا تعرفني، ولا تعرف ما أريده حقاً.. لماذا لا تصدق أنني مختلفة عن كل أولئك الفتيات اللواتي يتلهفن لحياة القصور الزاهية؟.."
ظل آرجان يحدق في عينيها بحيرة ودهشة، بينما واجهته رنيم بحزم وانفعال واضحين.. كانت مصرّة، وموقنة أن هذا هو الخيار الأمثل الذي سيقودها في الطريق الذي لطالما تلهفت إليه.. جنون؟.. ربما.. لكن ما هي موقنة منه أن الجنون خيرٌ من البؤس..
قطع صمتهما صوت توما الذي دخل من الباب المفتوح بغفلة منهما قائلاً بحزم "سأذهب معكما.."
نظرا له بدهشة، ثم قالت رنيم "تذهب معنا؟.. لماذا؟"
قال توما "لا لسبب.. لكني أريد الذهاب.."
علق آرجان بضجر "هذا ما كان ينقصني.."
فقال توما بحدة "لا شأن لك.. سأذهب معكما سواء أعجبك هذا أم لم يعجبك.."
اقتربت منه رنيم وأمسكت كتفيه قائلة "توما.. نحن لن نذهب لنلهو، ولن نعود بعد أيام قليلة.. هذه رحلة ستطول، ولا نعلم علامَ ستنتهي.."
قال توما بسخرية "كان آرجان يقنعك بالأمر ذاته.. لكنك لم تقتنعي.."
نظرت له رنيم بصمت وحيرة بينما قال آرجان بحزم "مستحيل.. لمْ أوافق على اصطحاب فتاة ولن أوافق بالتأكيد على اصطحاب طفل.."
احتقن وجه توما للإهانة، وقبل أن يجد رداً لاذعاً يرد به على آرجان، سمع الثلاثة صياحاً من بعيد، ولم يلبث أحد رجال القرية أن هرع إلى آرجان منفعلاً.. ولما لمح الرجل رنيم، بدت تقطيبة واضحة على وجهه وهو يقول لآرجان بلغة الهوت "آرجان.. إنهم الجنود......"
لم تغِبْ نظراته الكارهة عن عيني رنيم التي أدارت بصرها جانباً، بينما نظر آرجان وتوما للرجل بدهشة وهو يضيف بانفعال "جنود الملك عند حدود القرية.. لقد علمَ أرنيف بذلك قبل قليل.."
بدا شيء من القلق في عيني توما بينما قال آرجان بدهشة "أأنت واثق؟"
قال الرجل بحدة "واثق طبعاً.. لقد اشتبك معهم بضع رجال منا، بينما عاد أحدهم لينذر القرية.."
لم يتأخر آرجان في اللحاق بالرجل متجهين إلى موقع أرنيف، بينما قبضت رنيم على ذراع توما وهي تسأله بقلق "ما الأمر؟.. ما الذي أراده الرجل في مثل هذا الوقت؟"
نظر لها توما بشيء من التوتر، ثم قال "إنه يحذرنا من هجوم جنود الملك على القرية.. فرقة منهم تقترب من حدودها بالفعل.."
اتسعت عينا رنيم بدهشة ممتزجة بالاستنكار، ثم قالت بقلق "ما الذي جاء بهم لهذا الموقع؟.. أأنتم معتادون على هجمات الجنود على قريتكم؟"
هز توما رأسه نفياً، ثم نظر لعيني رنيم قائلاً "أغلب الظن أنهم جاؤوا لأجلك أنت.."
رغم أن هذا ما تمنته رنيم عندما تم اختطافها، لكن حدوثه في مثل هذا الوقت قد أصابها بصدمة شديدة.. أيمكن أن يكون الملك قد أرسل جنوده لاستعادتها؟.. لماذا الآن؟.. لمَ حدث هذا بعد أن اتخذت عزمها على نسيان حياتها السابقة والسير في طريق آخر تختاره بكل حرية؟..
لكن ما هي متأكدة منه أن الجنود لن يترفقوا في التعامل مع القرية وسكانها.. لابد أنهم سيسببون أشكالاً من الدمار ويقتلون عدداً من القرويين الذين لن يستسلموا بسهولة.. فما الذي يمكنها فعله لإيقاف هذا الأمر؟.. ما الذي يمكن لرنيم فعله لكي لا تعود لحياتها السابقة رغماً عنها؟..

*********************

عالم خيال 17-12-15 05:50 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الثامن: لماذا أعود؟


بأمر من أرنيف، زعيم قرية الهوت التي تقع وسط السلسلة الجبلية تلك وفي وادٍ ضيق منها، انطلق عدد من الرجال على ظهور التنانين متجهين نحو الممر الجبلي الضيق الذي يربط القرية بالعالم الخارجي.. وعند اقترابهم من جانب الجبل الذي يلقي بظلاله على القرية، رأوا في ذلك الطريق فرقة من الجنود لا يزيد تعدادها عن خمسين رجلاً تتقدم من القرية بثبات وبتسليح خفيف.. فصاح أحد الرجال برفاقه "إنهم قلّة.. لن يُعجزنا التخلص منهم.."
اقتربت التنانين بأصحابها لتبدأ هجومها على فرقة الجنود تلك، ورغم أن الجنود بادروا بإطلاق رصاصاتهم بغزارة، لكن التنانين كانت تناور بسرعتها الكبيرة بينما يهاجم الرجال برماحهم وسهامهم التي انهمرت على الجنود بتصويب محكم فجندلت عدداً منهم بينما صدّها الآخر ن بما يحملونه من دروع.. ورغم أن الهوت لا يتعاملون بالأسلحة الحديثة في ذلك العالم مكتفين بالسيوف والرماح والسهام، لكنهم يملكون نوعاً خاصاً من القنابل المصنوعة يدوياً باستخدام البارود ومساحيق خاصة يستخرجونها من الطبيعة حولهم.. وسرعان ما انهمرت بضع قنابل على فرقة الجنود التي حاولت الاختباء في جانب الجبل من ذلك الهجوم والتقدم ببطء شديد.. ومع انفجار القنابل الذي كان ضعيفاً ولم يسبب الضرر للجنود، فإن سحابة كثيفة صفراء اللون انتشرت في الموقع مسببة السعال والدموع تنهمر من أعين الجنود بالإضافة لغثيان شديد أعجزهم عن الحراك، وفي الآن ذاته بدأ الهوت باقتناصهم دون أن يهبطوا من على ظهور تنانينهم بتاتاً..
وبينما تخبط الجنود في موقعهم، صاح قائدهم "ليتقدم حَملة المدافع ويُسقطوا تلك الطيور اللعينة بسرعة.."
تقدم عدد من الجنود حاملين مدافع صغيرة الحجم ومطورة بحيث تمتاز بالخفة والقوة في الإطلاق.. وبعد تعبئتها بالقنابل، قام الجنود بالتصويب بسرعة وإحكام على التنانين وإطلاق القنابل قبل أن يبتعد الهدف من موقعه..
فوجئ الهوت بالقذائف التي تطايرت نحوهم، ورغم أن أغلبهم تمكن من تفاديها بشيء من الصعوبة، لكن هجومهم أصبح أكثر عسراً من السابق واضطروا للارتفاع والابتعاد عن مرمى قذائف الجنود، ولم تفلح قنابلهم في إحداث أي تأثير في الجنود الذين استمروا في سيرهم ببطء مدروس.. ولما طارت الأنباء إلى أرنيف بتطورات هذا الهجوم، وبعد أن أدرك الجميع أن الجنود سيصلون للقرية خلال وقت قصير، قال أحد الرجال "علينا أولاً أن نبتعد عن هذه القرية.. علينا تأمين النساء والأطفال قبل أن نهجم عليهم هجمة رجل واحد.. لا نريد تكرار ما جرى في السابق، ولن نحقق شيئاً ما لم نباغتهم ونلتحم بهم مباشرة.."
قال آخر بغضب "هذا ما جناه آرجان علينا باختطاف تلك الفتاة.. الآن ستقع القرية كلها تحت طائلة أفعاله.."
لم يعلق آرجان الواقف جانباً بينما صاح آخر به "ما الذي يمكنك فعله لتعويض الأهالي عما سيجري لنا هذا اليوم؟.."
فقال أرنيف "عوضاً عن إلقاء الاتهامات بلا طائل، علينا أن نتضافر لصدّ هذا الهجوم بأي وسيلة كانت.. حتى لو اضطررنا لحرق هذه القرية والانتقال لموضع آخر.."
ونظر للرجال من حوله مضيفاً بحزم "لن نسمح لجندي باختطاف شخص منا هذا اليوم أبداً.."
وفي جانب آخر، استمعت رنيم للحوار الدائر من مخبئها خلف أحد المنازل بعد أن عجزت عن البقاء في مخبئها وسط تلك الأحداث، ونظرت لتوما الشاحب حيث وقف قربها متسائلة بقلق "ما الذي جرى يا توما؟.."
لخّص لها توما الموقف بكلمات مقتضبة، ثم ختم قوله بصوت يرتجف "أبي خرج مع الفرقة التي تقاتل الجنود الآن.. ولا أعلم ما جرى له.."
عضّت رنيم شفتها السفلى بقلق ومرارة واضحة.. ها هي تتسبب في كارثة لهذه القرية المسالمة، رغم أن هذا لم يكن ذنبها حقاً.. لكن لولا وجودها هنا، لما وصل الجنود للقرية وهاجموا سكانها دون رحمة..
نظرت حولها وهي تفكر بسرعة بحثاً عن حل لهذا المأزق.. رجال القرية قد يُقتلون عند محاولتهم صدّ هذا الهجوم.. وآرجان لن يكون أفضل حالاً منهم.. عندها، ما سيكون مصير توما وكاينا وبقية من في القرية؟..
عندها نظرت للأعلى وفكرة واحدة تختمر في عقلها.. يجب أن تخرج بنفسها للقاء جنود الملك.. مهما كان الأمر، هي الوحيدة التي تقدر على منع كارثة كهذه بأخف ضرر ممكن.. وعليها، فوق كل ذلك، أن تصل لموقع الهجوم بأسرع وأسهل وسيلة ممكنة لتفادي مصائب جديدة..
التفتت إلى توما القلق، ثم قالت وهي تربت على رأسه "لا تقلق يا فتى.. ستنتهي الأمور على ما يرام، وسيكون أباك بخير بإذن الله تعالى.."
نظر لها توما بعدم اقتناع، بينما استدارت رنيم راكضة نحو منزل آرجان، وبعد لحظة قصيرة قضتها فيه، خرجت من المنزل ثم تجاوزته لموضع أعلى في جانب ذلك الجبل دون أن تخفف خطواتها رغم شعورها بالتعب.. وهناك، رأت كاجا الذي يتسكع في تلك المواقع في المعتاد ما لم يغلبه جوعه ويدفعه للرحيل بحثاً عن طريدة يصطادها.. اقتربت رنيم من التنين الذي أقعى جانباً بصمت، ولما رآها نهض واقفاً وتقدم نحوها خطوة.. فوجدت السرج على ظهره بتأهب، ويبدو أن آرجان قد وضعه في وقت سابق مما أراحها بشدة.. ربتت على خطم كاجا قائلة "أأنت مستعد يا صديقي؟.. أريد منك خدمة سريعة.."
وجدته يتشمم ملابسها بشيء من اللهفة، فقالت بتوتر "ليس الآن يا كاجا.. عندما نعود بإذن الله تعالى.."
وبشيء من المشقة، اعتلت ظهر التنين الذي لم يُظهر ممانعة لذلك وأمسكت بلجامه وهي تشعر بيديها متعرقتان لشدة توترها.. وقبل أن تشد العنان بالفعل، سمعت صيحة من بعيد ورأت آرجان يتقدم منها راكضاً.. ولما وصل لموقعها اقترب قائلاً بحنق "ما أنت فاعلة؟.. لو لم يبلغني توما بما جرى لما وصلت قبل أن ترتكبي هذه الحماقة.. كيف تتصرفين بهذه الصورة ودون استشارتي؟"
قالت رنيم بسرعة "يجب أن أفعل شيئاً لإيقاف هجوم الجنود على القرية.."
قال آرجان بعبوس "نحن من سيفعل ذلك.. ترجلي بسرعة ولا تقومي بأي تصرف متهور.."
قالت رنيم وهي تجذب العنان "لا.. يجب أن أذهب.. الهجوم على القرية لن يتوقف حتى أظهر للجنود.."
وأضافت معتذرة "سأتحمل أي عقاب تقرره عليّ بعد عودتي.. لكن الآن لا يمكنني الاستجابة لك.."
وجذبت العنان دون تردد وهي تضغط على بطن التنين، بينما قفز آرجان نحوها صائحًا "لا تفعلي هذا.."
لكن التنين كان قد استجاب لها وارتفع بسرعة تاركاً آرجان على الأرض ينظر لهما بصدمة مغمغماً "تباً.. ليس مع كاجا.. ليس مع كاجا يا حمقاء.."
لكن رنيم لم تسمعه وهي تدير التنين ليطير نحو الموقع الذي تعالت منه الأصوات العالية في جانب القرية.. كانت تلك المرة الأولى التي تطير فيها مع كاجا وحيدة ودون معاونة آرجان.. في الواقع هذه هي ثاني مرة تطير فيها مع أي تنين في حياتها كلها.. لكنها لم تتردد رغم أن بعض القلق قد ساورها لقدرتها على التحكم بهذا الكائن المعروف بشدّته.. لكن ما غلب تفكيرها في تلك اللحظات هو إيقاف ذلك الهجوم على القرية ومنع كارثة جديدة من أن تحدث لأهلها وتزيد نقمتهم عليها وعلى المملكة..
دار التنين دورة حول الموقع ورنيم تتشبث به جيداً.. بينما كانت بقية التنانين تطير على مسافة آمنة تراقب فرقة الجنود التي تقدمت بثبات، وتحاول إعاقتها دون أن تخاطر بإسقاط التنانين بضربة غاشمة.. ووسط ذلك، شقّ كاجا طريقه بسرعة وقوة بينها أثارت دهشة بقية الرجال قبل أن ينتبهوا أن الراكب على ظهره لم يكن آرجان، بل كان فتاة يتطاير شعرها الطويل المتماوج في الهواء.. ولما اقتربت رنيم من موقع الجنود، لاحظت على الفور توترهم الشديد لرؤية التنين المندفع نحوهم وهم يرفعون البنادق نحوها متأهبين.. ربتت رنيم على رقبة التنين قائلة "حاول ألا تصاب بأسلحتهم يا عزيزي.."
زمجر التنين وهو يحلق قريباً من الجنود دون أن يخفف تقدمه، بينما رفعت رنيم رأسها لتبدو واضحة وهي تصيح "توقفوا أرجوكم.. لا تطلقوا النار.."
لم يسمع الجنود كلمة مما قالتها ورصاصاتهم تتطاير نحو التنين الذي استدار بحدة وهو يرفّ بجناحيه ويرتفع قليلاً.. فجذبت رنيم العنان ليدور حول الموقع وهي تصيح بصوت أعلى "توقفوا.. لا داعي لإطلاق النيران.."
ضاع صوتها من جديد مع تلك القذيفة التي انطلقت من أحد المدافع نحوها محاولة إسقاطها.. تجاوز كاجا القذيفة بمهارة تامة بينما اتسعت عينا رنيم بقلق خشية أن يصاب التنين بسبب تهورها، فصاحت بصوت أعلى مع استدارة التنين في الموقع "توقفوا باسم الملك.."
كان هذا ما دار في ذهنها لجذب انتباههم، ورغم ذلك ما كاد التنين يقترب من الجموع حتى عادت الرصاصات تتطاير بغزارة والتوتر الشديد بادٍ على أوجه الجنود.. لم تستطع رنيم لومهم، فهي نفسها كادت تموت ذعراً عندما رأت هذا الكائن المهيب للمرة الأولى، ولا يمكن لمن يراه دون أن يكون معتاداً على التعامل معه إلا أن يصاب بالتوتر والقلق الشديد.. لكن كيف السبيل للتفاهم مع الجنود وإجبارهم على التوقف عن الهجوم على القرية؟..
أخيراً، قررت رنيم القيام بمخاطرة كبيرة، فجذبت عنان التنين وهي توجهه للهبوط على شيء من المبعدة من الموقع في جزء شبه منبسط من الوادي.. كانت فرصتها ضعيفة في أن تقنع الجنود بالاستماع إليها، لكنه كان السبيل الوحيد.. ورغم اعتراضه، فإن التنين قد أطاعها وهبط بحدة وقوة في جانب المكان، فأسرعت رنيم تهبط من على ظهره وهي تسمعه يطلق زمجرة عصبية.. ربتت على كتفه مهدئة، ثم استدارت مواجهة الجنود الذين استداروا إليها بتحفز وهي ترفع ذراعيها عالياً وتصيح "توقفوا أرجوكم باسم الملك.."
لكن الرصاصات تطايرت نحوها وأصابت الأرض عند قدميها بشيء من الغزارة دفع رنيم للتراجع بسرعة وشيء من الفزع حتى سقطت أرضاً، بينما أطلق التنين صيحة غاضبة وهو يكشر عن أنيابه بتهديد واضح.. لكن رنيم صاحت به "كاجا.. توقف.."
زمجر التنين باعتراض إنما لم يملك إلا أن يطيعها، في نفس الوقت الذي سمعت فيه رنيم صياحاً جهورياً يطلب من الجنود الكف عن إطلاق النيران.. ولم تلبث أن رأت رجلاً من الجنود يتقدم منها قائلاً بدهشة "رنيم.. أهذه أنت؟"
نظرت رنيم بذهول لمجد الذي اقترب منها وأمسك بيدها ليساعدها على الوقوف.. كان هذا آخر شخص تتوقع رؤيته بين الجنود هؤلاء، وبدا لها مختلفاً قليلاً بشكل لم تستطع تحديده في البدء.. لكن أدركت بعد ذلك أنه يبدو متعباً مهموماً بشكل بدا بوضوح في ملامحه.. لكنه ابتسم لها ابتسامته المعهودة قائلاً "حمداً لله على سلامتك يا فتاة.. لقد خشيت ألا أعثر عليك أبداً.."
تشبثت بذراعيه هاتفة "أين كنت؟.. لقد يئست من انتظارك طوال تلك الأيام.. لقد تيقنت بعدها أنك... أن......."
وخفضت بصرها مضيفة بصوت مرتجف "تيقنت أنني لا أعني لك، ولا لأحد في هذا العالم، شيئاً.."
قال مجد "هذا ليس صحيحاً.."
فقالت بشيء من المرارة "كيف يمكنني أن أصدق غير ذلك؟.. لقد تم اختطافي من القصر بكل سهولة.. ولم يلاحق المختطفين أي جندي من جنود مملكة بني فارس.. ورغم مرور الأيام والأسابيع فإن أحداً لم يحاول الوصول إليّ.. فما الذي يعنيه هذا؟"
زفر مجد للحظات بصمت، ثم قال "ما حدث بعد رحيلك منعني من الوصول إليك بالسرعة التي أرجوها.. وإنني أقدم اعتذاري لك يا رنيم.."
لم ترفع رنيم بصرها وهي تشعر بدموعها وشيكة الهطول.. رغم أن بقاءها مع الهوت لم يكن بالسوء الذي توقعته، ورغم أنها شدّت عزمها على عدم العودة لذلك العالم، لكن ما أحزنها أن وجودها غير مهم في مملكة بني فارس وفي قصر الملك.. وأكثر ما أساء إليها أن تشعر أنها لا تحتل من اهتمامات مجد أي جزء يذكر، وهو شخص تحمل له معزة خاصة في قلبها..
وجدت مجد يركع على ركبته ويمسك يدها شادّاً عليها وقال وهو ينظر في عينيها "أرجوك اقبلي اعتذاري.. لا يمكن أن أغفر لنفسي ما جرى لك لو لم تسامحيني.."
شعرت رنيم بدموعها تسيل على وجنتيها وهي تقول بصوت متهدج "لماذا؟.. لماذا جئت الآن؟.."
شدّ على يدها قائلاً "عندما حدث الهجوم، ظننا أنهم سيستهدفون الملك أو ولي العهد.. لذلك لم أعتقد ولو للحظة أن أحدهم قد يلجأ لاختطافك.. لذلك هرعت مع من معي من حرس القصر لتأمين الملك والملكة والأمير زياد.. وحاولنا القضاء على الدخلاء بأسرع ما نستطيع.. لكن اكتشفت أنهم بمساعدة من الفتيات اللواتي جلبهن الملك من الهوت، فإن الدخلاء تمكنوا من التسلل في ممرات القصر وأروقته متجنبين أي صدام سيؤخرهم عما جاؤوا لأجله.. وبعد أن تمكنت من تتبع أثرهم فوجئت باختطاف ذلك الرجل لك.."
لم تعلق رنيم وهي تمسح دموعها بينما أضاف مجد "لقد كسرت ذراعي بعد سقوطي وأنا أحاول إنقاذك.. وهذا ما تسبب في تأخيري عن اللحاق بك وإنقاذك من يدهم تلك الليلة.. ورغم أنني أرسلت بعض الرجال لتتبع فوج التنانين الطائرة، لكنهم لم يتمكنوا من اللحاق بهم لأنها كانت أسرع ولا تعترضها أي عواقب في طيرانها في السماء.. ثم حدث ما لم يكن بالحسبان.."
عاد يزفر بشيء من الحدة ورنيم تستمع له بصمت، قبل أن يقول "لم تمضِ ساعات معدودة على ذلك الهجوم حتى فوجئنا بأن الملك عبّاد قد أصيب بمرض شديد لم نجد له تفسيراً، ولم ندرك أنه تم تسميمه بواسطة إحدى الفتيات قبل هربهن إلا بعد موته بالفعل.."
غمغمت رنيم "لقد سمعت بذلك.."
أدرك مجد أنها سمعت به من ذلك الرجل من الهوت الذي جاء للقائه بعد اختطافها بعدة أيام.. فقال دون تعليق "حصلت معمعة في المملكة وفي (الزهراء) بالتحديد لموت الملك المفاجئ.. ورغم أن الأمير زياد قد تولى الحكم بسرعة لتلافي أي انهيار يصيب المملكة بعد موت ملكها القوي، وعيّنني قائد جيشه لأساعده في تثبيت حكمه، إلا أن الأمير زياد أضعف من أن يستطيع إحكام قبضته على المملكة حتى بمساعدة أمه الملكة.."
لم تدرِ رنيم بمَ تعلق على ذلك ومجد يقول "وخلال أيام، وصلتنا أنباءٌ أن مملكة كشميت المعادية تستعد لإنهاء الصراع الذي طال بينها وبين مملكة بني فارس مستغلة عدم استقرار أحوال مملكتنا.. وهذا جعلني مقيداً وغير قادر على التحرك بعيداً عن (الزهراء).. ولقد شدد الأمير زياد عليّ بأن حمايته وحماية مُلكه أهم بكثير من البحث عنك وإنقاذك.."
لم تشعر رنيم بحزن لهذا، فهو كان متوقعاً من شخص كالأمير زياد.. ومع ما قاله مجد، فإن حزن رنيم بدأ يخفت وهي تتفهم ما مرّ به خلال الأيام الماضية.. فكيف لها أن تحزن على نفسها بينما عانى مجد الأمرّين في هذه الأوقات المضطربة؟.. انتبهت لمجد الذي قال "هل تغفرين لي تقصيري فيما جرى لك يا مولاتي؟"
ابتسمت رنيم شيئاً ما وهي تمسح دموعها قائلة "بالطبع.. لا يمكنني أن أغضب مما جرى وأنا أدرك أي ظروف مررت بها في الأيام الماضية.."
فنهض مجد واقفاً وقال "شكراً لك.. أعدك ألا أسمح بتكرار أمر كهذا ما حييت.."
نظرت له رنيم متسائلة "كيف سمح لك الأمير زياد.. أعني.. الملك زياد بالقدوم إليّ وإنقاذي الآن؟"
أجاب مجد "بعد استقرار الأمور في المملكة وبعد أن تكرر رفض الملك طلبي الرحيل للبحث عنك، تقدمت باستقالتي متخلياً عن منصبي.. ومع صدمته، فإن الملك رفض هذا بإصرار.. لذلك استسلم أخيراً وسمح لي بالرحيل مع فرقة صغيرة من الجنود للبحث عنك مع وعد بالتنازل عن تلك الاستقالة والعودة بأسرع ما أستطيع.."
ابتسمت رنيم معلقة "بالطبع، فالملك لن يجد شخصاً موثوقاً أكثر منك لحمايته.. خاصة بعدما جرى مع الملك السابق.."
ثم أمسكت يدي مجد قائلة "أنا شاكرة لك ما فعلته لأجلي يا مجد.. تخلّيك عن منصبك قرار كبير، وتضحية كبيرة لا أستحقها منك.. لذلك أنا سعيدة أن الملك رفض طلبك بإصرار.."
دمدم مجد بضيق "من قال إنك لا تستحقين ذلك؟........"
قاطعته قائلة "وما يحزنني أكثر أن جهودك قد تكون بلا طائل.."
نظر لها مجد بدهشة، ثم قال "ماذا تعنين يا رنيم؟.. أهناك ما يمنع عودتك إلى (الزهراء)؟.."
ضحكت رنيم بشيء من السخرية وقالت "(الزهراء)؟.. أتظنني سأكون محلّ ترحيب هناك بعد كل ما جرى؟"
أسرع مجد يقول "لازلتِ خطيبة الملك.. فهو لم يعلن حلّ ذلك الارتباط رسمياً بعد.."
قالت رنيم بابتسامة "لأنه لم يجد داعياً لذلك مع اختفائي.. أتعلم أن زياد والملكة كانا يخططان لاتهامي في عِرضي والتخلص مني بطريقة مخزية قبل أن يحدث ما حدث تلك الليلة؟.."
نظر لها مجد باستنكار، ورنيم تضيف "أتظن أن أحداً منهما سيكون مسروراً بعودتي بعد ذلك؟.. لقد جاءتهما الفرصة للتخلص مني على طبق من ذهب، فمن يمكنه أن يلومهما على ذلك؟.."
زفر مجد بضيق لقولها الذي لم يخالف الحقيقة بتاتاً، ثم قال "إذن، من الواجب عليّ أن أصطحبك إلى مملكة بني غياث وأطمئن لسلامتك.. هذا أقل ما عليّ فعله.."
قالت رنيم وهي تدير بصرها جانباً "أتظن أن قصر أبي سيكون أكثر ترحيباً بي من قصر الملك زياد؟"
نظر لها مجد بدهشة، فنظرت في عينيه قائلة "أنا غير مُرَحَّب بي في أي مكان على هذه الأرض.. لا في قصر أبي ولا في قصر زوجي المزعوم.. لقد فقدت هويتي التي ألصقت بي رغم إرادتي.. وفقدت معها الانتماء الذي يعيدني لأكون سجينة تلك القصور.."
هتف مجد "هذا غير صحيح.. كيف يمكنك أن تجزمي بكل ذلك؟"
قالت رنيم بحزم "أنا أثق بما أقول ثقة مطلقة.. لقد أراد مني الجميع أن أكون شخصاً آخر.. أن أكون أي شيء غير ما أنا عليه حقيقة.. تعذبت لسنوات طوال وأنا أخفض رأسي وأحاول مجاراتهم لأنال رضاهم الذي كان صعب المنال.. لكن رغم ذلك، لم أهنأ بأي شيء من هذا، ولم يتردد أحدهم في التخلص مني عند أدنى بادرة.. فهل تريد مني العودة لكل هذا من جديد؟.."
قال مجد بدهشة "إذن ما الذي تنوين فعله؟"
نظرت رنيم للسماء التي ازدهت بزرقة جميلة وغيوم متماوجة عكست نور الشمس القوية، ثم قالت بابتسامة "الآن، يمكنني أن أكون كما أنا حقيقة، وأن أبقى في الموضع الذي يناسبني كما أنا دون تغيير.."
صاح مجد بغير تصديق "ستبقين مع الرعاع الذين اختطفوك؟"
نظرت له رنيم قائلة بشيء من التأنيب "ليسوا رعاعاً كما تطلقون عليهم.. إنهم أناسٌ يعيشون حياتهم بحرية تفتقدها شعوب الأرض أجمعين.. فلماذا تستنكرون عليهم هذه الحرية التي عشتُ حياتي شوقاً إليها؟"
ظل مجد ينظر لها بغير تصديق، ملاحظاً للمرة الأولى الابتسامة التي تفيض سعادة على شفتيها.. ابتسامة لا تشوبها شائبة كما كان يراها سابقاً.. وبدا في عينيها الجميلتين تصميم وعزم لم يره فيهما من قبل.. ورغم أنها هي رنيم التي يعرفها، لكنها بدت الآن شخصاً آخر.. شعر بروحها متوهجة وجميلة وتختلف عن ذلك الخيال الميت الذي كانت عليه في (الزهراء)..
عاد يجادلها بشيء من العناد "ما الذي تنوين فعله مع الهوت حقاً؟.. بضع أسابيع تختلف تمام الاختلاف عن الشهور والسنوات القادمة.. ما تحملته وأعجبت به في الأيام الماضية، سيصبح قاسياً مع مرور الشهور والسنوات.. لكن عندها ستكون عودتك لعالمك السابق مستحيلة تماماً.."
قالت رنيم دون أن تبدو عليها لمحة قلق لذلك "أدرك ذلك طبعاً.. لكن عودتي لما كنت عليه من آخر الأشياء التي قد أتمناها في حياتي.. لو استعصى عليّ البقاء مع الهوت، سأبحث لي عن سبيل آخر ومكان آخر أعيش فيه بحرية.. ومهما كانت الحياة شاقة وتعيسة هنا، فهي ليست أتعس من حياة تغيب عنها أشعة الشمس وسط الجدران العالية المذهبة المحيطة بالقصر.."
ونظرت له بتصميم قائلة "صدقني.. أنا أدرك ما أريده من حياتي بالتحديد.. وأتخذ قراراً نيابة عن نفسي للمرة الأولى.. فلا تنزع الأجنحة التي نبتت لي بعد طول شقاء، خاصة أنك كنت أول من شجعني على اتخاذ طريقي بنفسي.."
زفر مجد بضيق وهو تائه بين رغبته في استعادة رنيم وحمايتها وبين رغبته في سعادتها.. وهذان الاثنان لا يجتمعان بتاتاً.. رآها تتقدم منه خطوة وتمسك يديه بيديها قائلة "أنا راحلة يا مجد.. شكراً لك على كل شيء.. لكن لا تنْسَني أرجوك.."
ابتسم مجد رغماً عنه معلقاً "لا أظنني بقادرٍ على ذلك مهما حاولت.."
ثم نظر في عينيها قائلاً بحزم "لا يمكنني الاعتراض على ما تريدينه يا رنيم لو كنتِ واثقة مما تفعلينه حقاً.. لكن كل ما أقدر على فعله هو أن أدعو لك بالتوفيق.. ولا تترددي في العودة إليّ في أي وقت كان.."
ابتسمت له رنيم ابتسامة متسعة، ثم استدارت مبتعدة دون تردد.. ولأول مرة في حياتها لا يخالجها أي تردد في اتخاذ قرار يخصها.. لأول مرة تكون سعيدة بامتلاكها زمام أمورها دون أن تنتظر من الآخرين تسيير حياتها كيفما يشاؤون.. تسارعت خطواتها وهي تبتعد مستشعرة انطلاق ساقيها وخفة جسدها مقارنة بالسابق.. ثم توقفت فجأة واستدارت متطلعة إلى مجد الذي ظل في موقعه ناظراً إليها.. لوهلة ساورها قلق أن ترى ملامح خيبة الأمل على وجهه، وهو أمر كانت تخشى رؤيته من الجميع لذلك لم تكن تجرؤ على مقاومة ما يُفرض عليها.. لكن الآن، لم تكن تريد رؤية هذه الملامح.. وليس من مجد بالذات..
لكن مجد كان ينظر لها بثبات وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه.. ابتسامة بدت لها سعيدة.. لا تدري لمَ شعرت بنظراته تحمل فخراً بما حققتْه، وكأنه أبٌ فخور بابنته التي شبّت عن الطوق بعد طول انتكاسٍ.. ابتسمت رنيم بدورها ووضعت يديها حول فمها ليصل إليه صوتها وصاحت "أتعلم؟.. لو كنتَ أصغر بعشرين سنة لأعجبت بك بكل تأكيد.."
اتسعت ابتسامة مجد وهو يعلق بصوت واضح "لو كنتُ أصغر بعشرين سنة لكنت سعيداً بذلك بالتأكيد.."
لوحت له رنيم بيدها ثم استدارت منطلقة بعد أن تقطعت الخيوط التي كانت تربطها بماضيها وبحياتها السابقة وبكل ما كانت تكرهه.. شعرت بنفسها حرة.. شعرت بنفسها كمولود جديد لا يعلم ما تخبئ له الأيام، لكنها ستكون أكثر رحابة مما سبقها بكل تأكيد..
الآن، خدشت رنيم الطبقة القاسية التي كانت تغلف روحها، وخرجت من ذلك الظلام كطائر وليد يسعى بحثاً عن النور رغم أنه لا يبصر شيئاً بعد.. بحثاً عن الحياة التي ليس لها معنى دون حرية تزيدها إشراقاً وبهجة..
وبينما انطلقت رنيم براحة شديدة، فإن مجد راقبها وهي تتقدم من ذلك التنين الضخم دون خوف فتربت على أنفه بكل ألفة، ثم تمتطيه بسهولة ليرفرف التنين بجناحيه العريضين للحظات.. وفي غمضة عين، كان قد ارتفع بسرعة نحو السماء وفوقه تلك الفتاة التي يتطاير شعرها المموج خلفها وهي ترفع بصرها عالياً.. راقب مجد كل هذا بصمت ودهشة، ثم غمغم بابتسامة جانبية "لشدّ ما تغيرت هذه الفتاة خلال أيام قليلة.."
اقترب أحد جنوده قائلاً بقلق "سيدي.. لماذا تركت مولاتي رنيم تغادر؟.. المفترض أن نعيدها لمولاي الملك بأسرع ما نستطيع.."
قال مجد وهو يراقب التنين الذي انطلق مبتعداً "الملك لا يعبأ لأمر رنيم قيد شعرة.. ولا يريد استعادتها أبداً.. لذلك سيكون أسعد الناس بفشل مهمتنا هذه.."
ثم نظر للجندي قائلاً "اجمعوا عتادكم.. سنغادر إلى (الزهراء) في الحال.."
رغم دهشته، إلا أن الجندي لم يعترض وهي يؤدي التحية ويغادر مسرعاً نحو البقية.. بينما اتسعت ابتسامة مجد وهو يغمغم "هذه المرة، ربما كان عدم اهتمام الملك برنيم من حسن حظها بالفعل.. ترى، إلى أين ستأخذك الرياح معها يا فتاة؟.."

*********************

بعد أن توقف الهجوم، وخفتت الضوضاء الصادرة عن التنانين الثائرة وهي تحلق في السماء بغضب، فإن أهل القرية قد اجتمعوا في جانب منها بقلق وصمت بانتظار ما ستسفر عنه الأمور.. وبينما بقي الرجال على ظهور التنانين لمراقبة ما تفعله فرقة الجنود التي لملمت عتادها وشرعت في العودة عبر ذلك الطريق الضيق، فإن آرجان قد وقف في الساحة وسط القرية والقلق يمتزج بالغضب على وجهه وهو يحدق بالأفق.. لم يتوقع لوهلة أن تتصرف تلك الفتاة الخانعة بهذه الطريقة، ولم يتوقع أن تواجهه بحزم وتعصي ما طلبه منها دون أن يرف لها جفن.. ألم تجد سوى كاجا لتغامر بالرحيل معه؟.. ذلك تنين شرس، وهو يسيطر عليه بصعوبة، فكيف تمكنت من تطويعه في فترة زمنية قصيرة؟..
سمع عدة صيحات من أهل القرية ورآهم يشيرون لموقع في السماء.. وبنظرة لذلك الموقع، أدرك أن تلك النقطة البيضاء هي لكاجا الذي يحلق نحوهم بشكل حثيث.. ظل آرجان يراقب التنين بقلق شديد بحثاً عن أثر لرنيم.. لو كان السرج على ظهر كاجا خالياً، فهذا معناه أنه تخلص من الفتاة في مرحلة ما.. وكاجا عنيف عندما يسيطر عليه الغضب.. زفر آرجان بحدة وتوما القريب يسأله بقلق "أتظن أن رنيم على ظهره؟"
لم يجبه آرجان وبصره معلق بذلك التنين الذي اقترب منهم بسرعته الكبيرة.. ولما تبيّن ذلك الشعر المتموج الذي تطيّره الرياح، تنهد براحة شديدة بينما صاح توما بلهفة "أستطيع رؤيتها على ظهره.."
لم يعلق آرجان من جديد والتنين يقترب ويهبط بسلاسة وسط أهالي القرية مثيراً عاصفة من الهواء القوي.. فتقدم آرجان منه دون وجل وأسرع نحو الفتاة التي هبطت من على ظهره بابتسامة واسعة على شفتيها.. ولما رأته يتقدم منها قالت براحة "لقد انتهى كل شيء.. الجنود سيرحلون دون إيذاء من........"
وجدت آرجان يقبض على ذراعها بشدة قائلاً بغضب "كيف تفعلين هذا؟"
نظرت له بدهشة وهو يضيف بحدة "ألا تدركين مع من تتعاملين؟.. كان بإمكان كاجا أن يسقطك من على ظهره من ذلك العلو.. إنه تنين شرس ولا يطيع شخصاً غيري.. فكيف.......؟"
قالت رنيم وهي تزيح يده عن ذراعها "لكنني فعلت ذلك دون أن أثير غضب كاجا.. ثم إن لي وسيلة خاصة للتعامل مع الحيوانات.."
رآها تخرج من ثوبها تفاحة حمراء ألقتها نحو كاجا الذي التقطها بفمه وابتلعها دفعة واحدة بتلذذ، ثم دفع أنفه وهو يبحث عن أخرى في يدي رنيم التي ربتت على خطمه بابتسامة متسعة.. أما آرجان، فقد ظل ينظر لها بدهشة وشيء من الحنق.. لم يكن الأمر متعلقاً بتفاحة، فهي وسيلة تافهة لاستمالة تنين بهذه القوة.. ولم يكن تجاوب كاجا معها لأنه مرغم على هذا، بل لأنها تمكنت من استمالته بوسيلة دفعته لإطاعتها بعرض بسيط كهذا.. فما السر في ذلك حقاً؟..
ومن بين أهل القرية الذين وقفوا يراقبون رنيم بصمت ودهشة، تقدم أرنيف قائلاً لآرجان "ما الذي جرى يا آرجان؟.. رجالي يبلغونني عن استعداد الجنود للرحيل.. فما الذي جرى بحق السماء؟"
التفت آرجان إلى رنيم متسائلاً "ما الذي جرى للجنود؟.. كيف تمكنت من إقناعهم بالرحيل؟"
ابتسمت رنيم وأخبرته بما حدث لها مع مجد بينما استمع إليها أرنيف دون حاجة لترجمة، وقربه وقفت كاينا تستمع لما يقال.. وأخيراً، بعد أن أنهت رنيم حديثها وطمأنت الجميع أن الجنود لن يعاودوا مهاجمة القرية في الوقت الحالي، فإن آرجان تساءل بشيء من الدهشة "ولماذا عدتِ أنت؟.. لمَ لمْ تغادري معهم وهي فرصتك الوحيدة لذلك؟"
هزت رنيم كتفيها معلقة "لم أعد أرغب بالعودة.. هذا كل ما هنالك.."
ارتفع حاجبا آرجان بدهشة، قبل أن يقطب من جديد قائلاً بحدة "رغم كل ما جرى، لم يكن يحق لك التصرف بكاجا كما تحبين.. وإياك أن تفكري بامتطائه وحيدة دوني، هذا لو لم ترغبي بأن يتهشم جسدك على هذه الصخور القاسية.."
وابتعد جاذباً كاجا الذي أخذ يزوم باعتراض باحثاً في ملابس آرجان عن مكافأة أخرى.. بينما قال أرنيف مقطباً عبر كاينا "نحن شاكرون لك ما فعلته للقرية، رغم أن هذا كان بسببك في الأساس.."
تعجبت رنيم من حاجته لمن يترجم قوله رغم أنه استمع لها دون ترجمان، ثم تذكرت قول توما من رفض الهوت التحدث بغير لغتهم عدا قلة منهم.. بينما أضاف أرنيف "لذلك، لا يسعنا إلا أن نطلب منك الرحيل عن هذه القرية.."
نظرت له رنيم بدهشة، بينما بدا القلق في عيني كاينا وهي تترجم قوله.. ثم استجمعت رنيم شجاعتها قائلة "أتفهم ذلك.. سأغادر بعد أن......"
قاطعها أرنيف قائلاً بصرامة "ترحلين الآن.. في التو واللحظة.. أنتِ غير مرحّب بك في القرية ولا لثانية أخرى.."
نظرت رنيم بشيء من الدهشة لأرنيف ولبقية الهوت الذين رمقوها بحنق وغضب.. كان تصرفهم متوقعاً بعد ذلك الهجوم، لكن لمَ يطردونها الآن بالذات؟.. أهم يخشون هجوماً جديداً من الجنود؟..
لم تتمكن من الاعتراض هذه المرة.. ليس خنوعاً منها كالعادة، بل لأنها لم تُرِد أن تسبب المزيد من الأذى لهذه القرية.. رغم معاملتهم الخشنة لها، فهي كانت تتفهم دوافعهم وتدرك أن ما جرى لهم لم يكن شيئاً يمكن نسيانه بسهولة.. لذلك تغاضت عن كراهيتهم الواضحة وهي تقول ببساطة "حسناً.. لا يمكنني الاعتراض على ذلك.."
نظر لها توما بقلق بينما بدت ملامح الإشفاق على وجه كاينا.. فقالت رنيم وهي تخفض وجهها "أعتذر لكل ما سببه الجنود لكم من قلق وذعر اليوم.. وأتمنى لكم حياة هانئة بعيداً عن سطوة الملك.."
فقال لها أرنيف من خلال كاينا التي تترجم حديثه "رغم أن كل ما جرى لك كان بسبب أحد رجالي، لكن لا يمكنني الاعتذار عن ذلك.. تذكري أن ما فعله ملككم بفتياتنا كان أسوأ وأكثر خسّة.."
قالت رنيم بهدوء "لا أطلب منكم اعتذاراً.. وأنا شاكرة لكم على كل شيء.."
لم تخفت النظرات الغاضبة من الوجوه حولها، فانحنت لهم رنيم انحناءة خفيفة ممسكة جانب قميصها، ثم استدارت مغادرة بصمت وتوما يلحقها بقلق واضح.. ثم سمعته يقول "رنيم.. لا ترحلي.."
ربتت رنيم على رأسه قائلة "لماذا؟.. ما الذي يمكنني فعله في مكان لا يطيق وجودي فيه؟"
قال توما بانفعال "لكن هذا سيتغير.. مع بعض الوقت سينسى أهل القرية ما جرى لهم وسيعتادون وجودك.. فلا ترحلي بهذه البساطة.."
هزت رنيم رأسها قائلة "بل يجب أن أفعل.."
نظر لها توما بشيء من الصدمة، بينما تعالى صوت كاينا من خلفها وهي تقول "هل ستلحقين بالجنود قبل رحيلهم؟"
التفتت إليها رنيم قائلة "يبدو أنني سأفعل ذلك.. فهي الوسيلة الوحيدة لي للعودة.."
قالت كاينا بإشفاق "هل ستعودين لذلك القصر حقاً؟"
هزت رنيم كتفيها بقلة حيلة دون أن تختفي الابتسامة من شفتيها، فعانقتها كاينا هامسة "سامحيني يا عزيزتي.. وددتُ لو لم أكن السبب في كل ما جرى لك.."
ربتت رنيم على كتفها قائلة "لا داعي للاعتذار.. أنا موقنة أن ما جرى لي كان للأفضل.."
ثم نظرت لوجه كاينا مضيفة "اعتني بنفسك وحاذري من السقوط في أيدي الجنود من جديد.."
ابتسمت كاينا وقبّلت رنيم في وجنتها بعاطفة.. وقبل أن تبتعد رنيم، تساءلت متلفتة حولها "أين ذهب آرجان؟.. لقد اختفى مع كاجا منذ بعض الوقت.."
قالت كاينا "لقد عاد لمنزله.. أظنه يعدّ العدة لرحيله أيضاً.."
غمغمت رنيم بخيبة أمل "كنت أود توديع كاجا.. لكن الهوت لن يسمحوا لي بالبقاء مدة أطول في هذه القرية حتى أذهب بحثاً عنه.."
ثم انخفضت في موقعها قريبة من توما الذي وقف مطرقاً بحاجبين معقودين، فقالت له "حسناً أيها الرجل الصغير.. سأودعك فلا أظنني سألقاك بعدها مرة أخرى.."
قال توما بحنق "لماذا عليك الرحيل؟.."
قبلته رنيم في وجنتيه وقالت "هذا هو قدري يا فتى.. ولا يحق لأحدنا الاعتراض عليه.."
فقال توما بانفعال "سأذهب معك.."
لكمته كاينا بقبضتها معلقة "من تظن سيسمح لك بذلك؟"
أمسك توما موضع الضربة بألم وهو يصيح "لمَ تتدخلين في أموري أيتها الحمقاء؟"
وغادر راكضاً بانفعال شديد، بينما نهضت رنيم وتأملت الثياب التي ترتديها والحذاء البسيط الذي تنتعله معلقة "وددت لو أستطيع إعادة هذه الملابس لك يا كاينا، لكن لا يمكنني الترحال بملابسي السابقة.. سيكون ذلك مذلاً بشدة.."
قالت كاينا "لا عليك.. احتفظي بهذه الملابس واذكريني كلما رأيتها.."
استدارت رنيم أخيراً مغادرة القرية بعد أن نفذ صبر الهوت الذين وقفوا يراقبون ابتعادها.. مرة أخرى، تشعر رنيم أن رحيلها يثير راحة لدى الجميع وتكاد تسمعهم يتنفسون الصعداء مع مرأى ابتعادها.. أهي حقاً بهذا السوء كما يُشعرونها؟..
لكن هذه المرة لم تبكِ رنيم ولم تشعر بمرارة لكل ما جرى.. رغم قِصَر المدة التي قضتها في هذه القرية، إلا أن احتكاكها ببعض أصحابها، والأحداث القليلة التي جرت فيها بعيداً عن تسلط وسطوة أبيها والآخرين لكل ما تفعله، فإن رنيم شعرت بتغيير كبير وتدريجي لم تنتبه له في البدء..
ربما لم يكن التغيير كبيراً وحاسماً، ولم يجعلها شخصية رائعة كما تمنّت دوماً، لكنها على الأقل بدأت تمتلك بعض الثقة لاتخاذ قراراتها بنفسها، وأصبحت لا تشعر بتلك المشاعر المتكررة من الإشفاق على نفسها وعلى ما يجري لها ولوم الآخرين لكل ما يحدث لها.. أليس هذا تغييراً كافياً بالنسبة لها؟..

*********************

تنهدت رنيم بقوة وهي تجلس على صخرة متوسطة الحجم بعد أن ابتعدت عن قرية الهوت وغابت عن أعين أفرادها.. ظلت في موقعها صامتة وهي تسند ذراعيها على ركبتيها وتضع وجهها على راحتي يديها.. كانت معدتها تطلق أصواتاً مرحة تدلّ على جوعها الشديد، بينما حاولت رنيم تجاهلها لفترة طويلة.. لماذا تخلّت عن تناول إفطارها في هذا اليوم بالذات؟.. رغم أن طعام آرجان لا يمتلك لذة في الطعم ولا جمالاً في الشكل، لكنه يملأ معدتها على الأقل ويدفئها في هذا البرد الشديد..
عادت تتنهد وهي ترمق الأفق بصمت.. كانت موقنة أن مجد وجنود الملك قد ابتعدوا كثيراً عن موقعها.. لكنها في الواقع لم تكن تنوي اللحاق بهم، ولم تكن تنوي العودة للزهراء ولذلك القصر الكئيب.. لقد أثمر فيها حديث كاينا واعتراضها الدائم على استسلامها لما يجري لها.. للمرة الأولى في حياتها تقرر أنها ستعيش كما تحب ودون أي اعتبار لأي شخص كان..
لكن هذه البداية صعبة جداً.. إنها في موضع مقفر، وقرية الهوت القريبة لا تنوي معاونتها بأي شكل من الأشكال، وأقرب الأشخاص إليها هم الجنود الذين لا ترغب برؤيتهم ولا مرافقتهم بأي حال.. ودّت لو كانت قد طلبت من كاينا بعض الزاد لرحلتها هذه، لكن هذا لم يكن معتاداً بالنسبة لها وشعرت بالحرج من القيام به.. كما أنه قد يوحي لكاينا بما عزمت على فعله، وسيملأ ذلك تلك الفتاة الطيبة بقلق لا محدود على مصير رنيم.. وهو أمر لا ترغب به البتة.. تنهدت للمرة العاشرة وهي تضغط على معدتها مغمغمة "كفاك مرحاً أيتها الحمقاء.. جوعنا سيطول كثيراً وستنهكينني بسرعة.."
خيّل إليها أن صوت معدتها كان أعلى من المعتاد، ثم انتبهت في تلك اللحظة أن ذلك الصوت أتى من موقع يعلو رأسها.. استدارت متطلعة للسماء لترى ذلك الظل الذي خيّم عليها لوهلة قبل أن يعلو صوت الهبوط المدوّي قريباً منها.. وبينما اندفع الهواء بقوة بحيث أجبر رنيم على إدارة وجهها بعيداً وإغماض عينيها، فإنها شعرت بذلك الخطم القاسي الذي عبث بملابسها والصوت الخشن يزوم بشيء من اللهفة.. وقبل أن تتمكن من رؤية ما يجري حقاً، فإنها أدركت هوية ذلك الشيء الذي اقترب منها واندفعت تعانقه بذراعيها هاتفة "كاجا.. لقد تمنيت أن أتمكن من توديعك قبل رحيلي.. ويبدو أن أمنياتي تتحقق بسرعة هذه الأيام.."
سمعت صوت آرجان الذي تقدم منها بعد أن ترجل من على ظهر التنين قائلاً "ظننت أنك ستتمكنين من اللحاق بالجنود نظراً للوقت الذي مضى.. هل أُنهكتِ بعد هذه المسافة البسيطة؟"
التفتت إليه قائلة "لم يمضِ إلا وقت قليل.. وخُذ بالاعتبار أنني قضيت حياتي لا أبذل مجهوداً كبيراً كهذا بتاتاً.."
وقف قريباً يتأمل القرية خلفه وقال "يمكن لأي شخص من الهوت أن يقطع أربع أضعاف هذه المسافة في هذا الوقت القصير.."
ابتسمت رنيم وهي تربت على خطم التنين القريب معلقة "على ظهر تنين طبعاً.."
تأملها بصمت للحظات، ثم قال "هيا.. سأنقلك لموضع قريب من جنود الملك.. أشعر بسوء لاضطرار أميرة منعّمة مثلك لقطع هذه المسافة سيراً على الأقدام.."
قالت رنيم دون أن تنظر إليه "شكراً.. لستَ بحاجة لفعل ذلك.."
قال بتبرير "بل عليّ فعل ذلك.. أنا أخطأت بما قمت به معك، وبجرّك لهذا الموقع البعيد دون وجه حق.. هذا أقل ما أفعله اعتذاراً لما جرى.."
قالت رنيم بخفوت "لست بحاجة لفعل ذلك حقاً.. فأنا لا أنوي الانضمام للجنود بتاتاً.."
قال آرجان بتقطيبة "أين تنوين الذهاب إذاً؟.. هل ستجربين حظك في قرى الهوت الأخرى؟.. لا تفكري بذلك بتاتاً.."
صمتت للحظات وهي تتأمل كاجا الذي أقعى في جانب المكان يمرر لسانه على إحدى يديه، ثم قالت ببساطة "عرضتُ عليك عرضاً في السابق، لكنك تجاهلتني بشكل تام.. فلمَ تهتم لأمري الآن؟"
صمت آرجان وهو يقلّب الأمر في عقله، بينما نظرت إليه رنيم مضيفة "لو أردت رفضي، فعليك أن تكون حازماً بشكل قاطع.. لا يمكنك أن تمنحني بعض الأمل ولو كان صغيراً، فسأتشبث به بكل إصرار.. وعودتك لأجلي هي ما سيمنحني هذا الأمل الخافت.."
نظر آرجان لملامحها الهادئة وابتسامتها الخفيفة، ثم قال بابتسامة جانبية "ولم لا؟.. لا أظن أن بعض الأمل يضير أحداً.."
نظرت له رنيم بدهشة، بينما اقترب آرجان من كاجا وامتطاه بسهولة.. ثم مدّ يده لرنيم بدعوة واضحة.. لكن رنيم قالت وهي تتراجع خطوة "أخبرتك أنني لا أريد العودة للجنود.."
قال آرجان بسرعة "ومن قال إننا سنلحق بهم؟.. وجهتنا هي ميناء (مارِج) كما أظن.. أليس كذلك؟"
نظرت له رنيم بعينين متسعتان، ثم قالت بفرح "هل ستأخذني معك لأرى العالم حقاً؟"
قال آرجان بابتسامة "بل لنبحث عن جايا.. أنسيتِ بهذه السرعة؟.."
لم تكذب رنيم خبراً وهي تتقدم بوثبة سريعة ليلتقط آرجان يدها ويجذبها بقوة خلفه.. ولما استقرت على السرج، قال "تمسكي جيداً يا فتاة.."
لكنها أمسكت ذراعه قبل أن يجذب العنان قائلة "مهلاً.. أنا جائعة.."
ضحك آرجان لقولها "منذ الآن؟.. يبدو أن مواردنا ستنفذ بسرعة.."
وناولها جراب زاده القليل وهو يضيف "ولكن هذا لا يمنع أن تتشبثي لئلا تسقطي فنغادر بدونك.."
تمسكت به رنيم بإحكام وكاجا يرتفع برفّات سريعة من جناحيه، ودار دورة واسعة حول المكان قبل أن ينطلق نحو الغرب مواجهاً الرياح المندفعة بقوة وثبات دون أن يهتز أو يفقد توازنه.. وبينما ملأت رنيم فمها ببعض الفطائر المحشوة والتي تخلو من أي طعم أو رائحة، فإنها نظرت للأرض تحتها ولفرقة الجنود التي بدت كنقاط سوداء تزحف على الأرض.. وبعد أن تجاوزاها بسرعة فائقة، فإن رنيم حوّلت بصرها عن الأرض نحو الأفق الذي سدّته الجبال العالية بقممها الثلجية.. وبينما راقبت الغيوم التي تتسارع مبتعدة عنهما، فإنها قالت لآرجان "لكن.. من هي جايا حقاً؟.. ما زلت لا أعرف إجابة هذا السؤال.."
غمغم آرجان بابتسامة "أمازلتِ تسألين السؤال ذاته؟"
قالت بانفعال "لأن أحداً لا يجيبني على هذا السؤال.. لن أندهش لو علمت أن جايا كانت مجرد خنجر صغير استلبه الجنود منك في السابق.."
ضحك آرجان لتعليقها دون أن يجيبها كعادته.. وجذب العنان بيده اليمنى ليدفع التنين لتجاوز قمة منخفضة لجبل قريب.. وبرفرفة جناحين، وبسرعة تشق الغيوم القريبة، بدأت رنيم رحلتها التي كانت مجرد أحلام تحلم بها وهي نائمة ومستيقظة.. تحلم بها وهي تمسك دفتي كتاب وتسرح في سطوره.. تحلم بها وهي تخشى من التصريح بهذا الحلم وتخشى من أخذه بعين الاعتبار.. والآن، بعد أن أصبح الحلم واقعاً، فإن رنيم كانت أشد انفعالاً ولهفة من أن تصدق هذا فعلاً..

*********************


bluemay 17-12-15 09:09 AM

رد: على جناح تنين..
 
راااااائعة جدا


أحببت خروج الروح المنطلقة من جنبات رنيم

ولو انني حزنت لطرد الهوت لها من قريتهم ..

ولكني متأكدة بأنها بحاجة لمد جناحيها بعيدا عن اي حدود ضيق..

بصراحة انا منصدمة من تغير آجان واللطف الواضح في التعامل معها وان خالطتها قسوة احيانا

توما كان نقطة مضيئة وساعدها في استعادة بعض المرح في حياتها


مجد ولو انه تاخر ولكنه معذور وقد قام بما في وسعه لمساعدتها


اﻵن ستنطلق للقارة العظمى فماذا بإنتظارها يا ترى ؟!



سلمت يداك ايتهاالمبدعة


وبإنتظارك بشوق كبير


تقبلي مروري وخالص ودي


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 17-12-15 02:38 PM

رد: على جناح تنين..
 
سعيدة برأيك بالتغيرات الأخيرة

تكاثرت الضغوط على رنيم، وفي الآن ذاته ابتعدت عن تلك البيئة بشكل يسمح لها بالتفكير دون ضغط وبحرية تامة
فكانت هذه هي البداية وكان هجوم الجنود على القرية هي الشعلة التي بدأت ذلك التغيير
رحيل رنيم عن القرية منطقي، فهي لم تغادر القصر لتحبس نفسها في قرية
وسترين إلى أين ستصل في رحلتها هذه
فما يزال أمامي الكثير من المفاجآت لكم

برد المشاعر 17-12-15 04:47 PM

رد: على جناح تنين..
 
نزلو الفصلين الجدد وانا ما علقت عالفصول السابقة ‏>‏‏> فيس يبكي ‏

رنيم طارت على جناح التنين أحداث ما كانت في مخيلتي أبدا إيجا من تكون هل هي أخت الهوتي أو زوجته أو حبيبته ‏؟؟ ‏زياد على قولتك حبيته بزيادة الله يقلعه هوا وأمه وأشك فترة حكمه بتطول أكثر من أسبوع ‏طيب مادام الهوت عندهم ثنانين ليش دايما خسرانين ‏؟؟؟ بس حبيت طريقتهم في ترويض هالمخلوقات المخيفة ‏مجد تلحلح يا رجل عندي احساس إنك من بيحكم المملكة ‏تسلم إيديك خيال ولي عودة بعد قراءة الفصلين ‏8‏ ‏،‏ ‏9

عالم خيال 17-12-15 07:22 PM

رد: على جناح تنين..
 
شاكرة لك عودتك وردك حتى ولو جاء متأخراً
كنت متشوقة لمعرفة رأيك بالتطورات الأخيرة
الحمدلله أن هذه التطورات أعجبتك (أنتظر رأيك بالفصلين الأخيرين)
بالطبع يظل فارق القوة كبيرة بين جيوش جرارة وبضع رجال على ظهور التنانين حتى لو كانت طائرة
سترين ما سيحل بباقي شخصيات الرواية مع الفصول القادمة بإذن الله تعالى

فيت المشاكسه 17-12-15 11:19 PM

رد: على جناح تنين..
 
روعه أحداث شيقه رنيم بدأت حياتها من هنا حبيبتي خيال بليز نبي جوله علي ظهر التنين

عالم خيال 18-12-15 10:05 AM

رد: على جناح تنين..
 
حاضر يا عزيزتي فيت ^ــ^
ستحصلين على ما تتمنينه بالتأكيد
حياة رنيم قد بدأت بالفعل، لكن لا نتوقع منها أن تكون حياة وردية خالية من المشاكل
فأي مصير ستحصل عليه رنيم في هذه الحياة؟

سأبدأ نشر فصلين معاً كل يوم حتى أنهي الرواية..
فانتظروني مع الفصلين الجديدين..

عالم خيال 18-12-15 10:27 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل التاسع: نحو الأفق حيث تميل الشمس


في جانب بعيد من السلسة الجبلية التي تقطع شمال القارة العظمى من أقصاها إلى أقصاها، والتي سميت بجبال الأنهار المائة نسبة لكثرة الأنهار المتدفقة منها.. وفي سفح أحد جبال تلك السلسلة، وقرب ضفة نهر عريض من الأنهار التي تقطع السهول القريبة، هبط التنين براكبيه لينال قسطاً من الراحة بعد يوم طويل قضاه في الطيران دون توقف تقريباً حتى قاربت الشمس مغيبها وصبغت العالم بألوانها الحمراء.. وبينما أخذ التنين يعبّ الماء العذب، قام آرجان بخلع السرج من على ظهره ليمنحه بعض الراحة من ذلك الثقل.. عندها وجد رنيم تقف أمامه قائلة بحزم "هذه المرة لن أتركك تتهرب من إجابتي.. منذ رأيتك للمرة الأولى وأنت تطوّح اسم جايا يميناً ويساراً.. فمن هي حقاً؟.. ولم أنت مصرّ على بذل كل هذا الجهد للحاق بها؟.."
وإزاء نظرات التعجب من آرجان، قالت بشيء من الفضول "أهي خطيبتك؟.. حبيبتك؟.. أم عائلتك؟.."
قال آرجان بكبرياء مصطنع "الهوت لا يتحدثون عن أسرارهم العائلية.."
ضحكت رنيم معلقة "أنت أيضاً؟.. الآن عرفت لمَ رفض توما إخباري باسمه في أول لقاء لي به.."
ابتسم آرجان بدوره وهو مستمر في عمله حتى يئست رنيم من استجابته.. ولما كادت تبتعد وجدته يقول "في الواقع، جايا هي شقيقتي الصغرى.."
نظرت له رنيم باهتمام وهو يضيف "بعد فقداننا لأمنا في سن صغيرة، فإن أبي أوصاني بها قبل موته بسبب جرح أصابه به تنين.. والآن، أنا الوحيد المسؤول عنها، وأشعر أنني خذلتها بعد أن أسرها الملك عبّاد مع بقية الفتيات.. كنت يومها في قرية أخرى من قرى الهوت حاملاً رسالة شفوية من أرنيف خاصة بالحرب التي نشعر بها وشيكة مع الملك، ولم أدرك أن الحرب قد اشتعلت بالفعل وراح ضحيتها العشرات إلا بعد عودتي.. ولم أتخيل بتاتاً أنني سأعود لأجد شقيقتي الوحيدة قد أسرت واختطفت لمدينة بعيدة دون أن أتمكن من منع ذلك.."
تساءلت بفضول "لكن، كيف عرفت أنها في ميناء (مارِج) حقاً؟.. هذا الموقع بعيد جداً عن قرى الهوت وعن (الزهراء) أيضاً.. فكيف....؟"
أجابها "أحد رجالنا ممن كان مرسلاً لقرية أخرى من قرى الهوت، قد التقاه رجل من رجالها وسأله عن فتاة بمواصفات تشبه مواصفات جايا.. وعند سؤاله عن سبب معرفته بجايا والموقع الذي رآها فيه، فإن الرجل حكى له حكاية سببت لي، ولبقية أهل القرية، صدمة شديدة.."
جلست رنيم جانباً تستمع له باهتمام، فقال "هذا الرجل، الذي ينتمي لتلك القرية، كان قد وقع في الأسر في رحلته نحو إحدى المدن لمبادلة بعض البضائع.. وهو حدث غير معتاد بتاتاً بالنسبة للهوت .."
قالت رنيم بدهشة "كيف حدث ذلك وهو يرتحل باستخدام التنين؟.."
هز آرجان رأسه معلقاً "بسبب حمولته، كان يرتحل بعربة تجرها الأحصنة عوضاً عن الطيران على ظهر تنين.. وفي موقع ناءٍ عن القرى القريبة، فوجئ بجماعة من قطاع الطرق يهجمون عليه.. فقاتلهم ظناً منه أنهم يريدون استلاب ما لديه، لكنهم رموا بضاعته أرضاً وقيدوه بإحكام واقتادوه معهم.. لم يحاول أحدهم محادثته أو تفسير الأمر له، حتى وصلوا به لميناء (مارِج)، وهناك حاولوا بيعه لسفينة غريبة الشكل ولرجل يتحدث العربية بصعوبة تامة.."
كانت دهشة رنيم تتزايد مع كل كلمة تسمعها، ثم قالت بانفعال "وأين جايا من هذا كله؟.."
قال آرجان زافراً "بعد أن اقتادوا الرجل الأسير لعمق السفينة، فوجئ برؤية ما لا يقل عن سبع من رجال الهوت أسرى في عمقها، ودهش لرؤية فتاة بينهم.. وبعد أن أقلعت السفينة، وقبل أن تغادر ذلك الخليج بالفعل، تضافر الرجال لفك أسرهم والهرب بالقفز في المياه.. تمكنوا من ذلك بمعجزة، لكنهم تفرقوا في الخليج الثائر بتياراته القوية.. ولم يقلق الرجل لأمر بقية الرجال قدر قلقه على الفتاة التي تبدو في العشرين من عمرها.. لذلك هو يسأل عنها عدداً من قرى الهوت، والوحيد الذي تعرّف عليها هو رجل من قريتنا كما قلتُ سابقاً.."
سألته بدهشة "متى حدث كل ذلك؟"
قال زافراً "منذ عشرة أيام على الأقل.."
غمغمت بقلق "لكن هل ستتمكن من العثور عليها بعد كل هذا الوقت؟"
أجاب آرجان بإصرار "سأفعل.. سأبذل ما بجهدي للوصول إليها.."
ظلت رنيم تفكر فيما سمعته، بينما قال آرجان بغيظ "ربما كان هذا بتصرف من الأمير زياد، وهو آخر من عملت جايا في خدمته.. أيمكن أن يكون قد باعها لشخص ما نكاية بها؟.. حديثهم عن هربها من (الزهراء) كذبة.. والأسوأ أنهم يتهمونها بأنها سرقت كنزاً من كنوز الملك.."
نظرت له رنيم بدهشة، فأسرع يقول بحزم "لكنها لم تفعل.. جايا لا يمكن أن تفعل هذا بتاتاً.. أنا أعرفها أكثر مما أعرف نفسي.."
ونظر لرنيم مضيفاً "لهذا تدركين غضبي من الملك ومن زياد بالذات، وتعرفين ما الذي دفعني لاختطافك لظني أنك مهمة لهما ولن يتخليا عنك.."
قالت رنيم وهي تدير وجهها جانباً "ولكم كان حظك سيئاً بهذا الظن.."
قال آرجان وهو يتأمل ملامحها "أليس حظك أنت أسوأ؟.. لقد انقلبت حياتك رأساً على عقب منذ تلك الليلة ولن تعود كما كانت أبداً.."
فعلقت رنيم بابتسامة واسعة "أتراني تعيسة بهذا؟.. لن تصدق لو علمت كم أنا محظوظة لأنك اخترتني من بين سكان القصر كلهم لتختطفه، وكم أنا كارهة لفكرة عودتي لما كنتُ عليه قبل تلك الليلة.."
رأيا التنين يدور متأهباً للانطلاق، ثم انطلق بسرعة تاركاً إياهما على الأرض دون أن يلتفت للوراء.. فقفزت رنيم واقفة وهي تصيح "إلى أين يذهب ويتركنا؟.. هل هرب؟.."
ضحك آرجان معلقاً "لا.. إنه موعد طعامه، وهو ذاهب لاصطياده بنفسه.."
التفتت إليه بعينين متسعتين متسائلة "وهل يأكل البشر؟.."
قال آرجان بابتسامة جانبية "لو كانت التنانين تأكل البشر لما نجى الهوت منها.. إنها تأكل الحيوانات، وتكتفي بوجبة في الصباح وأخرى في المساء.. وهي ليست شرهة.. لذلك نحرص عند الترحال معها أن نخيّم في مواقع تبتعد عن البشر لئلا تسطو على حيواناتهم.."
وأشار للأفق الغربي قائلاً "لابد أنه سيبحث عما يسدّ جوعه في الغابة القريبة.."
بدا الاهتمام على وجه رنيم بشغف لمعرفة المزيد عن هذه الكائنات المذهلة، لكن آرجان اكتفى بهذا القدر وهو يجلس بدوره قائلاً "ومن حسن الحظ أنني لم أتخلّ عن جراب طعامنا، وإلا بقينا نتضور جوعاً حتى عودته.."
جلست رنيم صامتة في موقع قريب وتناولت حصتها بصمت متأملة الموقع حولهما.. ثم تساءلت "كيف وافقت على رحيلي معك في هذه الرحلة؟.. ألا ترى أنني سأثقل عليك بأي صورة؟"
أجاب آرجان "لا.. لكن لم أتمكن من تجاهلك وأنا أراك وحيدة في تلك البقعة المعزولة.. عندما غادرتِ القرية، ساورني شك بأنك لن تلحقي بالجنود كما قالت كاينا.. فلحقت بك لأعرف ما تنتوين فعله، ولم يخالف ذلك توقعاتي أبداً.."
ثم نظر لها متسائلاً "لكن ما تعجبت له بشدة هو عرضك عليّ الرحيل معي في رحلة غريبة وغير اعتيادية بالنسبة لأميرة مرفهة مثلك.. ما الذي يجعلك تثقين بي؟.. لماذا غامرت بالرحيل معي وأنتِ لا تعرفينني حقاً؟.. بالإضافة لأن بداية علاقتنا كانت سيئة حقاً باختطافي لك.."
فكرت رنيم للحظات، ثم قالت ببساطة "لو كنتَ شخصاً سيئاً لآذيتني وأنا سجينة عندك لا حول لي ولا قوة ولن تجد من يعترض على ذلك بكلمة.. ولما سعيت لحمايتي من أن يمسّني أهل القرية بسوء عند وصولي.."
غمغم آرجان بشيء من عدم الاقتناع "هذا عذرك فقط؟.. أنت ساذجة.."
علقت رنيم "هذا يكفيني.."
قال بتعجب "أتعجب لثقتك الكبيرة هذه بشخص غريب.. أين كنت تعيشين قبل هذا؟"
غمغت رنيم "بين دفتي كتاب.."
نظرلها آرجان بدهشة، ثم وجدته يعتدل فجأة وهو يقول عاقداً حاجبيه "أرجو ألا يصدمك البشر في هذه الرحلة صدمة شديدة حقاً.."
التفتت لتنظر لما يراه، فوجدت بقعة سوداء تقترب من موقعهما بشكل حثيث.. وبعد بعض الوقت تأكد لها أن تلك البقعة هي لبضع رجال يتقدمون منهما بسرعة وحزم، ولكن ما أشعل قلقها هو رؤية الرماح والسيوف التي يحملونها في أيديهم بمغزىً واضح لم يغِب عنها بتاتاً..
نظرت لآرجان قائلة بقلق "ما الذي سنفعله؟"
وقف آرجان قائلاً "وما الذي يمكننا فعله؟.. سننتظر ونرى ما يريدونه منا.."
دهشت لهدوئه في موقف كهذا، ورغم سيفه العريض المتدلي من حزامه، لكن ذلك لم يبعث في نفسها أي راحة.. فما هو إلا شخص واحد يمكنهم التغلب عليه بسهولة مهما كانت قوته وبسالته.. سمعته يقول وهو يضع يده على مقبض سيفه دون أن يسحبه "لا تنطقي بأي كلمة.. سيدركون بسرعة أنني من الهوت، أما لو علموا أنك عربية فسيتهمونني بأنني قد اختطفتك.. ولن يصدقوا أي قول آخر.."
أطبقت رنيم شفتيها دون اعتراض وهي تقف قريبة تتأمل الوجوه العابسة والحواجب المعقودة والشفاه المزمومة.. وعند اقترابهم، بادر الأول منهم قائلاً لآرجان "هيه أنت.. من أنت؟.. وما الذي تفعله في هذه الأرجاء؟"
تساءل آرجان وهو يقلب بصره بينهم "ولمن هذه الأرض؟.. أهي لأمير أم لوزير أم لتاجر من التجار؟"
قال الرجل بضيق "بل هي مُلكٌ لملك مملكة بني فارس.. ما الذي تفعله أنت هنا؟.. ألست من الهوت؟"
أجاب آرجان بشيء من السماجة "ظننت أن قرى الهوت تدخل ضمن نطاق مملكة بني فارس.. فما العجيب في رؤية رجل منها في هذه الأنحاء؟"
قال الرجل بغضب "أنتم لصوص، وتثيرون شغباً دائماً في الجبال القريبة من قراكم.. حتى الملك لم يسلم من المصائب التي أثرتموها لجنوده.. لذلك أنتم غير مرحب بكم في أي مكان.."
صمتت رنيم وهي تستمع للحوار بقلق، بينما قال آرجان بتقطيبة "وكيف علمتم بوجودي هنا؟.. هل تراقبون كل من يعبر هذه الأماكن؟.. أم أن هذا موقع هام يفرض عليكم حمايته بشكل دائم؟.. إن أقرب قرية تبعد عنا بضعة أميال.."
أشار الرجل لما خلفه قائلاً بحنق "نحن نسكن الغابة القريبة، وهذه السهول تحوي حقولنا التي نعيش عليها.. لقد رأيناكما تصلان على ظهر تنين، لكن وجودكما هنا غير مرحّب به، فغادرا حالاً.."
تراجعت رنيم خطوة متأهبة للرحيل مع مرأى الأسلحة التي جلبها الرجال معهم، لكن آرجان قال بسماجة تامة "سنفعل ذلك بعد أن نستريح من عناء السفر.."
توترت رنيم لقوله وهمّت بالاعتراض، لكنها تذكرت نصيحته فالتزمت الصمت، بينما صاح الرجل بحنق "عليك الرحيل الآن.. هل تريد أن نجبرك على ذلك؟"
فوجئ الجمع بهبوط التنين خلف آرجان ورنيم بشيء من العنف وهو يزمجر بتحذير واضح.. وازداد ارتعابهم لرؤية ذلك الغزال الصغير الذي أسقطه التنين من أنيابه التي تقطر دماً.. تعالت بضع شهقات من حلوقهم بينما نظرت رنيم للغزال بصدمة ظاهرة.. أما آرجان، فقد وقف بكل ثقة قائلاً "كما ترون، هذا التنين على وشك تناول وجبته.. ولو لمْ تكن كافية، لا أعلم كيف سأتمكن من ردعه من الهجوم عليكم.. التنانين كما تعلمون تحب أكل البشر.."
صاح رجل وهو يتراجع خطوة "أنت تكذب.. ولماذا لا يتغذى التنين عليك أنت؟"
ابتسم آرجان ابتسامة جانبية معلقاً "وهل يتغذى التنين على سيده بينما هناك بدائل أخرى؟"
قطب بعض الرجال بينما تراجع آخرون بقلق شديد.. ولما زمجر التنين منزعجاً من تجمهر الغرباء أثناء تناوله طعامه، فإن أغلبهم سارع للهرب مبتعدين بينما تراجع الأول صائحاً "إنني أحذرك.. لا تمسّ أحداً من رجالنا.. غادر هذا الموقع قبل أن نطردك منه.."
وتراجع عدة خطوات قبل أن يدير لهم ظهره ويبتعد بسرعة.. فغمغم آرجان "فلنرَ كيف ستفعلون ذلك.."
غمغمت رنيم وهي تبتعد عن كاجا الذي غمس أنيابه في ضحيته باستمتاع كبير "لقد كذبت عليهم بوضوح.. ألم تقل إن التنين لا يأكل البشر؟"
أجاب آرجان وهو يسترخي جانباً "كان عليّ بث الرعب في قلوبهم ليتركونا بسلام.. لا يمكن لكاجا الطيران بمعدة مثقلة.. هو بحاجة لساعة على الأقل قبل أن يتمكن من حملنا على ظهره واستئناف رحلتنا.. كما أننا متعبان وبحاجة للراحة قبل أن نواصل سيرنا.."
نظرت رنيم لفلول الرجال الذين ابتعدوا وغمغمت "يبدو أن الهوت مكروهون فعلاً في هذا العالم.. ما السبب؟"
تمتم آرجان "من يدري؟"
فقالت رنيم وهي تتلفت حولها إلى الحقول القريبة "ربما علينا أن نبتعد عن هذه الحقول لئلا نثير غضبهم.."
قال آرجان وهو يستلقي أرضاً "لا تقلقي، لن يجرؤوا على الاقتراب مع وجود كاجا.."
أبعدت رنيم بصرها عن كاجا وعن منظر الدماء الذي أثار في نفسها شيئاً من الذعر بدورها.. هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها كاجا يتناول طعامه.. كان يبدو كائناً جميلاً وهو يتناول تلك التفاحة التي تحملها له كل يوم وتستمتع برؤية لهفته عليها، ولم تدرِ كيف بإمكانه أن يبدو شرساً والدماء تغرق أنيابه التي تمزق لحم الضحية في لحظات معدودة..
شعرت بالتنين يلعق أنيابه من الدماء دون أن تجرؤ على النظر إليه، ولما اقترب منها أدارت وجهها بعيداً متفادية رؤية وجهه أو لمسه وجسدها يقشعر لمنظره.. فسمعت آرجان يعلق بعد أن راقبها بطرف عينه "لا تظهري اشمئزازك من التنين، فهذا يجرحه وقد يغضبه بشدة.. لو كنت تريدين التآلف معه، فعليك تقبله بكل أحواله.."
أدركت خطأها تجاه التنين الذي لم يبتعد عنها، فأجبرت نفسها على النظر إليه وهي تمسح عنقه مغمغة بابتسامة "آسفة لذلك يا صاحبي.."
ابتسم آرجان بدوره دون أن يعلق وهو يستدير جانباً، فوجدت رنيم نفسها مجبرة على النوم بدورها على الأرض الترابية دون تذمر.. ولما شعرت بالصمت يحيط بهما، عاد تفكيرها لهذه الرحلة التي لا تصّدِق حتى الآن أنها تخوضها بالفعل..
لقد قطعا جانباً كبيراً من هذه الجبال في ساعات معدودة.. ولن يطول بهما الوقت قبل أن يصلا لوجهتهما في الجانب القصيّ من القارة.. ربما بعد يوم ونصف يكونان قد وصلا هناك بالفعل.. فما الذي سيجري لهما هناك؟.. هل سيتمكنان من العثور على جايا، أو أي أثر عنها، بالفعل كما يأمل آرجان؟.. وما الذي تنوي رنيم فعله بعد أن يحدث ذلك؟..

*********************

في تلك الليلة، وبعد أن تجاوز الوقت منتصف الليل، شعرت رنيم بحركة قربها مما دفعها لتفتح عينيها وتزيح السترة التي كانت تدفئها مغمغمة "ماذا هناك؟.."
رأت التنين ينتصب قربها وهو يزمجر بخفوت وتوجس محدقاً في الفراغ مما جعلها تنتبه وهي تعتدل جالسة وتنظر حولها.. كان الظلام الحالك يسود المكان بحيث وجدت عسراً في رؤية شيء عدا عيني كاجا اللامعتين..
وبعد أن استمر الصمت وقتاً طويلاً مدت يدها وربتت على ساق كاجا قائلة "اهدأ.. ما الذي أزعجك؟.."
لكنه بدل أن يهدأ، فإنه وقف بتوتر أكبر وهو يتشمم بصوتٍ واضح مما جعلها تلتفت للمكان من جديد قائلة بخفوت "هل رأيت شيئاً ما؟.."
لم تكد تتم قولها حتى رأت وهجاً صغيراً على مبعدة من موقعها.. ضيقت عينيها محاولة معرفة كنه ذلك الوهج، وقبل أن تمضِ لحظات رأته يشتد ويتزايد والهواء يحمل لها رائحته المميزة.. اتسعت عينا رنيم وهي ترى تلك النار التي اتسعت وأضاءت ظلام تلك الليلة بوضوح، فهبت نحو آرجان وهزته قائلة "استيقظ يا آرجان.. هناك حريق في الحقول القريبة.."
نهض آرجان بسرعة وتطلع لذلك الموقع، ثم زفر قائلاً "إنه في الجانب الآخر من النهر.. لقد أفزعتني.."
قالت بإلحاح "أهذا يدعو للارتياح؟.. ألست قلقاً لما سيصيب حقول القرويين مع هذه النار القوية؟.."
حك آرجان شعره قائلاً "هل نسيتِ أن أولئك القرويون قد كادوا يفتكون بنا قبل ساعات قليلة؟.."
هزت رأسها قائلة "مهما يكن ما فعلوه، فإن هذه النار قد تمتد للغابة القريبة وللقرية الغافلة عنها.."
وأضافت بتوسل "لنقمْ بتحذيرهم على الأقل.."
زفر آرجان ونظر لكاجا المتوتر، ثم قال "حسناً أيتها الأميرة اللحوحة.. يبدو أنني لن أحظى بنوم هادئ الليلة بتاتاً.."
وعلى ظهر كاجا، تجاوزا النهر القريب وهبطا على الجانب الآخر منه حيث المساحات الزراعية التي استغلت السهل بين النهر والغابة.. ووسطها، في موقع خالٍ من البشر عادة، كانت النار تلتهم المحاصيل الخضراء بشراهة وسرعة كبيرتين..
غمغمت رنيم بقلق كبير "رباه.. ما الذي يمكننا فعله؟.. ستصبح هذه الحقول صريماً لا حياة فيه خلال وقت قصير.."
نظر آرجان للغابة القريبة، ثم أشار إليها قائلاً لرنيم "ها هي بيوت تلك القرية واضحة من هنا.. اذهبي إليها وأنذري أهلها من هذا الحريق.. سأرى ما يمكنني فعله مع كاجا حتى قدومهم.."
أسرعت رنيم تنفذ أمره وهي تتقدم من الغابة والقرية الواقعة عند طرفها.. وبينما كانت النار تلقي بنورها على البيوت الساكنة، فإن رنيم تعجبت من صمت القرية التام إزاء مثل هذا الحدث.. اقتربت من أقرب البيوت وطرقت بابه بعنف وهي تصيح "أيها الناس.. هناك حريق في الحقول.. أسرعوا لإطفائه.."
وذهبت لآخر فطرقت بابه، ثم لآخر وآخر حتى بدأ أهل القرية بالخروج من منازلهم بدهشة تحولت لصدمة ثم ذعر مع مرأى النيران التي تحصد محاصيلهم.. تقدم رجل ضخم من رنيم فأمسكها من مجمع ملابسها وهو يقول بغلّ "هل أنتما من فعل هذا؟"
قالت بسرعة "لو كنا فعلناه هل كنتُ سآتي لتحذيركم؟.."
ثم نظرت للبقية مضيفة "أسرعوا بإطفاء تلك النيران قبل أن تلتهم حقولكم كلها.."
قال الرجل بغيظ "لابد أن رفيقك قد فعل هذا لأننا طردناكما.. كان حريّاً بنا إبعادكما عن هذا الموقع وعدم السماح لكما بالبقاء هنا وإثارة الشغب.."
سمعت رنيم صوتاً يقول "أهذا وقت الجدال؟"
التفتت لترى عجوزاً طاعنة في السن، ربما تتجاوز الثمانين من العمر، صغيرة الحجم وضئيلة بشكل لا يصدق وهي تقترب منهما وشعرها الأبيض يلتمع بلهب النار.. فقالت مواجهة الرجل "أليس الأفضل لكم إطفاء الحريق بدل هذا الحديث الفارغ؟.."
ثم نظرت لرنيم مضيفة "ثم إن الفتاة ليست من الهوت كما تدّعون.. إن لها ملامح عربية خالصة.. ألم تلحظ هذا؟"
نظر لها الرجال بدهشة، لكن أحدهم لم يعلق وهم يتدافعون لموقع الحريق حاملين بضع دلاء وما يمكنهم إطفاء النار به.. وقفت رنيم تراقبهم بينما قالت المرأة العجوز "ما الذي يدفع فتاة عربية للترحال مع رجل من الهوت؟.. أهناك ما يرغمك على ذلك؟"
تراجعت رنيم خطوة وهي قلقة من كشف هويتها ومن تبعات ذلك على آرجان، فقالت باندفاع "بل أنا من الهوت حقاً.."
ابتسمت العجوز معلقة "لكنك لا تملكين لكنتهم.. ولا ملامحهم رغم ارتدائك لرداء مشابه لهم.."
توترت رنيم أكثر وهي تواجه النظرة الثاقبة لتلك العجوز، لكنها لم تعلق وهي تستدير وتغادر عائدة لموقع آرجان والبقية.. فضّلت مقاومة النار مع البقية عن مواجهة العجوز وما قد يتبع ذلك من كشف نفسها وهويتها.. ولما وصلت للحقول، دارت ببصرها بحثاً عن آرجان والتنين دون أن تعثر لهما على أثر.. بينما حاول الرجال إطفاء النار باستخدام مياه النهر القريب رغم بُعد المسافة وصعوبة نقل المياه ببضع دلاء..
بحثت رنيم عن وسيلة لإطفاء النيران بأسرع ما يمكن، دون أن يسعفها عقلها بأي فكرة.. فتلفتت حولها مغمغمة "أين اختفى آرجان في مثل هذا الوقت؟.."
لم تكد تتمّ قولها حتى لمحت كاجا عائداً لموقعهما وعلى ظهره آرجان.. وبينما رفع الرجال أبصارهم للتنين بمزيج الذعر والبغض، فإن رنيم لاحظت أن التنين يحمل شيئاً بقدميه.. لكنه أكبر من أن يكون مجرد شيء.. وقبل هبوطه، رمى كاجا ما يحمله أرضاً وسط الرجال، ثم هبط في جانب المكان..
حدقت رنيم، والرجال، بدهشة في الشخصين اللذين سقطا أرضاً بعنف.. ورغم أن الرجلين لم يكونا مصابين، إلا أنهما أطلقا صيحات رعب وهما يزحفان بعيداً عن التنين.. فصاح آرجان "قيدوا هذين الرجلين قبل أن يهربا.."
وإزاء نظرات الاستنكار من البقية وضّح الأمر قائلاً "وجدت هذين يتسللان من الجانب الآخر من الحقول حاملين مشعلان.. هما من أشعلا النيران في هذه الحقول.."
وبينما انقض رجلان على المتسلليْن وقاما بتقييدهما، قال آرجان "ألا تملكون حاوية أكبر من هذه الدلاء؟.. يمكن للتنين المعاونة في إطفاء النيران بشكل أسرع.."
أسرع أحد الرجال يدلّه على برميل كبير مصنوع من أخشاب رصّت بشكل محكم ودهنت بنوع من الدهن الحيواني لمنع تسرب المياه منه، وهي تستخدم لنقل الزيوت وغيرها من السوائل تمهيداً لبيعها في القرى الأخرى..
وبتربيتة من آرجان، حمل كاجا البرميل وطار به نحو النهر القريب، فدلّاه في المياه ليعبئه قبل أن يعود به فوق النار المشتعلة ويرشها بالماء.. كان عملاً طويلاً ومرهقاً، وتقارب الحقول وكثافة المزروعات فيها كان يبطئ عملهم ويثير النار بسرعة أكبر.. لكن، مع انبلاج الفجر واتضاح الرؤية شيئاً ما، كانت النيران قد أطفئت بشكل كامل مخلفةً ربع الحقول الممتدة سوداء خرِبة..
وقف رجال ونساء القرية مغمورين بالماء والعرق والرماد وهم يتأملون خسائرهم في تلك المحاصيل التي تساوي أكثر من حياة أبنائهم، ثم دارت الأبصار للرجلين المرتعبين الذين قيّدا لشجرة قريبة وتحت حراسة أحد شباب القرية.. فتقدم رجل منهما قائلاً بغضب "ما الذي دفعكما لفعل ما فعلتماه؟.. أتظنان أن ذلك يمكن أن يمر مرور الكرام؟.."
نظر الرجلان لبعضهما البعض بصمت، ولما تلقى الأول منهما لكمة قوية على وجهه من أحد الشباب، فإن هذا كان كافياً ليدفع الآخر للصياح "لا تنتقموا منا.. نحن لسنا مسؤولان عما جرى هنا.."
فقال الشاب مكوّراً قبضته بشدة "أتمزح يا هذا؟"
أسرع المتسلل يقول "لا.. صدقني لم نأتِ هنا إلا بطلب من يسار التاجر"
نظر القرويون لبعضهم البعض بوجوه مكفهرة، بينما تساءل آرجان "أتعرفون من هو؟"
قال أحد الرجال بجفاء "أجل.. وهذا أمر لا يخصّ دخيلاً عن القرية.."
فقال آرجان بسخرية "أهذه وسيلة لشكرنا على مساعدتكم في إطفاء الحريق؟"
تعالى صوت العجوز من بين الجمع قائلة "نحن بالفعل نشكركما على هذا.. لو لم تحذرانا من هذه النار، وتعاونانا على إطفائها، لربما فقدنا المحاصيل والحقول كلها.."
ونظرت للرجل المقطب بنظرة حادة مضيفة "وهذا كفيل بتدمير القرية نهائياً.."
أدار الرجل وجهه جانباً بضيق، بينما قالت العجوز "عودوا بهذين المتسللين للقرية.. وهناك سنرى ما سنفعله بهما، وبالتاجر يسار.."
أطاعها الرجال بصمت وهم ينسحبون عائدين للقرية بعد ليلة منهكة وطويلة.. فيما تساءلت رنيم بدهشة "من يكون ذلك التاجر الذي يأمر رجاله بإحراق حقولكم؟.. ما السبب الذي يدفعه لفعلٍ بغيضٍ كهذا؟"
قالت العجوز وهي تتأمل الحقول السوداء "هو من أكبر تجار هذه المناطق.. وهو يحاول منذ مدة أن يشتري منا محاصيلنا بثمن بخس ليقوم ببيعها بمبلغ مضاعفٍ عشر مراتٍ على الأقل.. وعندما رفضنا، وقمنا ببيعها في السوق لحسابنا الشخصي، هددنا بأنه لن يسمح لنا بتجاوز حدودنا، وأن رفض طلبه سيكلفنا غالياً.. ولم يدرك أحدنا أنه سيكون بهذه الخسّة حقاً.."
استمعت لها رنيم بإشفاق للقسوة التي يتحلى بها شخص يملك كل شيء مقابل أشخاص لا يعيشون إلا على الكفاف، ويكفيهم ذلك..
التفتت العجوز إلى رنيم الواقفة جانباً بصمت وتساءلت "أنتِ لم تجيبي على سؤالي السابق يا فتاة.. هل تنوين التهرب من هذا السؤال للأبد؟"
توترت رنيم والعجوز تقلب بصرها بينها وبين آرجان متسائلة "ما الذي يجبرك على مصاحبته في رحلته هذه؟.. أهو يغصبك على ذلك؟"
التفتت رنيم لآرجان بقلق، فقال بشيء الصرامة "شأن الفتاة لا يخصّ الغرباء أيضاً.. لنذهب، فقد أضعنا ساعات طويلة في عمل بلا فائدة.."
تراجعت رنيم خطوات بتوتر، ثم استدارت وتعلقت بيد آرجان الذي ساعدها على امتطاء كاجا، فعلقت العجوز "هذا العمل قد أنقذ أرواحاً عديدة أيها الشاب.."
لم يعلق آرجان بينما ارتفع التنين دون إبطاء متجاوزاً المزارع المتفحمة والقرية الصغيرة التي تقع عند أطراف الغابة.. وبينما بدأت الشمس بالشروق من خلفهما، فإن آرجان دمدم بضيق "لقد أضعنا ساعات راحة ثمينة بسبب ذلك الحريق.."
غمغمت رنيم "أنا آسفة.. لقد أجبرتك على معاونة القرية رغم سوء معاملتهم لك.."
قال آرجان "لم تجبريني.. لو لم أكن أريد المعاونة لما فعلت ذلك.. الآن، سنتجاوز هذه الغابة ونهبط في الجانب الآخر منها.. وبينما يحصل كاجا على طعامه، سنحاول اقتناص بعض الراحة لساعة أو اثنتين.."
لم تعلق رنيم وهي تحدق في الغابة من تحتهم والأشجار المتراكضة بكثافة لا تصدق.. من المفيد وجود التنين معهم، فأي مشكلة يمران بها يمكن أن تنتهي فور امتطائهم لظهر كاجا والطيران بعيداً.. هذا حلٌ عملي لأغلب مشاكلهم على الأرض.. تتمنى فقط ألا يعكر صفو رحلتهما أمر آخر حتى يصلا لميناء (مارِج)..

*********************

بعد عدة ساعات من الراحة، عاد الثلاثة لاستئناف رحلتهم دون إبطاء.. كان عليهم قطع أطول مسافة ممكنة قبل مغيب الشمس وقبل أن يحين موعد وجبة كاجا التالية، فهو سيرفض الحراك تماماً حتى يحصل على طعامه.. كانوا في البدء يطيرون بجوار السلسلة الجبلية الممتدة من شرق القارة حتى غربها لتقف عند أطراف السهول الممتدة خلفها والتي سميّت سهول الأكاشي نسبة للقبائل التي تتمركز في ذلك الموقع دوناً عن العالم كله.. ولما وصلوا للجانب الغربي من القارة، كانت الجبال تشكل سدّاً منيعاً أمامهم، لكن أي حاجز مهما كان علوه وضخامته يمكن الطيران فوقه بكل يُسر.. وهكذا وجدت رنيم أنهم قد ارتفعوا متجاوزين الجبال ومتفادين قممها الثلجية التي تنعكس عليها أشعة الشمس وتعشي أعينهم لوهجها..
شعرت رنيم بالبرودة تتزايد من حولها مع وصولهم لذلك الموقع، فقالت لآرجان "ألا يستحسن بنا الوقوف للراحة قليلاً؟.. أمضينا عدة ساعات في الطيران، وربما كان كاجا متعباً.."
علق آرجان "كاجا يمكنه الطيران حتى غروب الشمس، وعندها سيحتم علينا الوقوف مهما كان موقعنا.. يجب أن نجتاز هذه الجبال قبل المغيب لنهبط في موقع منبسط وأكثر أمناً.."
قالت باعتراض "أنت لا تراعي تعب كاجا وتنهكه في طيران طويل دون توقف.. لمَ أنت قاسٍ معه هكذا؟"
ألقى آرجان على كاجا نظرة قائلاً "أترينني قاسياً الآن؟.. كيف تعرفين أن كاجا متعب بشكل بالغ؟"
أجابت مشيرة إليه "يمكنني إدراك ذلك من تذبذبه في الطيران.. لم يعد يطير بالسلاسة ذاتها كما كان في بداية هذا النهار.."
قال آرجان "لا تقلقي.. سيكون بخير حتى نصل السهول خلف هذه الجبال.."
غمغمت رنيم رغماً عنها "أنت متجبر.."
فتنهد آرجان وهو يدير بصره جانباً قائلاً "تباً.. لقد اشتقت لتلك الفتاة الهادئة الصامتة التي كانت حبيسة داري.. وهي لا تقارن بهذه التي تتذمر في كل حين ولحظة.."
احتقن وجه رنيم شيئاً ما، ثم هتفت "أنا لا أتذمر.. لكني أريدك أن تستمع لرأيي.. أنت من شجعني لفعل ذلك منذ البدء، أليس كذلك؟"
قال رافعاً حاجبيه "لم أعنِ أن تضجّي بالشكوى في كل وقت وحين!.."
فقالت بضيق " لمَ أنت متعجرف هكذا؟"
قال بسخرية "هل أنت نادمة على مرافقتي في هذه الرحلة الآن؟"
أدارت وجهها جانباً بصمت لوهلة، ثم قالت بخفوت "لا.. لم أندم على ذلك.."
ضحك آرجان لقولها، فأسرعت تضيف "بعد.... لم أندم على ذلك بعد.. من يدري......."
قطعت قولها مع زمجرة قوية من التنين الذي دار برأسه بتوتر واضح.. فنظرت حولها لتعرف سبب ضيقه بينما غمغم آرجان "يبدو أننا نثير اهتمام بعض سكان هذه الجبال.."
نظرت رنيم للأرض تحتها بشيء من القلق.. بدا التوتر على آرجان بالفعل وهو يرى جمعاً من الرجال يرتدون فراء الذئاب للتورية وهم يحدقون بالتنين الذي يقطع السماء بسرعة كبيرة.. كانوا متناثرين على منطقة واسعة من تلك الجبال ولم يكونوا متجمعين في منطقة واحدة يمكن تجاوزها.. تمتمت رنيم لنفسها وهي تراقبهم يلوّحون بسيوفهم "أتظن أنهم يستطيعون إيذاءنا بأي وسيلة كانت؟.."
غمغم آرجان عاقداً حاجبيه "ربما لا يملكون الوقت الكافي لفعل ذلك.. إن هي إلا لحظات فقط، وسيعبر كاجا هذه السلسلة الجبلية بسرعته الكبيرة.. فلا تقلقي.."
لا تدري كيف يطمئنها والقلق واضح على وجهه، لكنها لم تعلق وهي تراقب الأرض تحتها بصمت وكاجا يميل جانباً متفادياً جانباً مرتفعاً من تلك الجبال.. بعد لحظات، دهشت رنيم لصوت صفير يقطع الصمت بمروره قريباً منها.. فتلفتت حولها متسائلة "ما هذا الصوت؟"
تكرر الصوت من جديد في ناحية أخرى، وانتبهت رنيم لذلك الجسم الدقيق الذي مرق قربها وكاد يصيب ذراعها.. وقبل أن تستوعب ما جرى سمعت آرجان يقول ضاغطاً على أسنانه "اللعنة.. إنهم يطلقون سهامهم نحونا.. تشبثي جيداً.."
دارت رنيم ببصرها حولهم وهي تتمسك بكتفي آرجان بقوة.. ولاحظت عدة سهام أصغر حجماً من المعتاد تتطاير في الموقع وكاجا يزمجر بغيظ شديد وهو يميل بشدة محاولاً تفادي ذلك الهجوم.. بدا أن سكان تلك الجبال عازمون على إيقاع التنين بإصرار، ولا تعلم رنيم سبب ذلك.. لكن آرجان لم يعبأ لذلك الهجوم وهو يميل بكاجا يميناً ويساراً ويحاول الارتفاع به عن مرمى تلك السهام.. ورغم تعبه من الطيران المستمر، فإن كاجا بذل جهده في تفادي السهام وهو يرفرف مرتفعاً في السماء قبل أن يضمّ جناحيه لجانبه ويميل للأسفل مخترقاً الفضاء كرصاصة.. وبحركات بهلوانية، تمكن من تجاوز ذلك الهجوم وابتعد عن السلسلة الجبلية لتنكشف أمامهم سهول شاسعة ومرتفعات ذات انحناءات سلسة بلون أخضر جميل..
تنهدت رنيم وهي تراقب الجبال من خلفهم وتغمغم "الحمدلله.. مضى الأمر على خير.."
ربت آرجان على عنق كاجا قائلاً "أحسنت عملاً يا كاجا.. أنت بارع.."
سمعا كاجا يطلق زمجرة غير راضية وهو يميل في طيرانه، فتساءل آرجان بقلق "ما الأمر؟.. هل أصبت؟"
زمجر كاجا من جديد بصوت لمحت فيه رنيم بعض الألم.. لا تدري لماذا، لكنه بدا لها كمن يتألم بشدة.. هل أصيب بتلك السهام؟.. قبل أن تنقل شكوكها لآرجان، فوجئا بالتنين يتمايل بشكل خطر كاد يوقع رنيم من على ظهره، فتمسكت بوسط آرجان وهي تهتف "لقد أصيب كاجا بتلك السهام.. هل سنسقط؟.."
لكن آرجان انشغل عنها بالتنين وهو يجذب العنان بقوة صائحاً "كاجا.. اهبط بهدوء.."
لكن كاجا دار دورة حول نفسه وهوى بشدة جاعلاً رنيم تصرخ بفزع "نحن نسقط......."
حاول آرجان دفع كاجا للارتفاع والتخفيف من سقوطه السريع، لكن كاجا كان عاجزاً عن فرد جناحيه من جديد والأرض تقترب منه بسرعة شديدة.. صاح آرجان وهو يضرب صفحة عنق التنين لتنبيهه براحة يده "هيا يا كاجا.. عد لوعيك.. إن سقطتَ لن تفيق بعدها أبداً.."
لكن لم يصدر من التنين إلا صوت خافت والأرض تتقارب منهما بشدة حتى أغمضت رنيم عينيها بقوة وقلبها يغوض في صدرها.. وفي لحظة، استعاد كاجا تحكمه بجناحيه وهو يرفرف بقوة فجأة ويرفع نفسه بسرعة قبل أن يهبط على قدميه بشيء من العنف، ولم يلبث أن تهاوى بجسده أرضاً بعدها.. ومع هبوطه العنيف، ارتمت رنيم أرضاً بقوة وتدحرجت حتى تكومت في جانب المكان..
هبط آرجان بقفزة واحدة واندفع نحو رنيم، فعاونها على النهوض متسائلاً "أأنت بخير؟.."
غمغمت بألم وهي تجلس "الحمدلله، لم أكسر عظامي بعد.."
لمحت القلق في عيني آرجان، فقالت بابتسامة "أنا بخير.."
ونظرت خلفه متسائلة بقلق "وكيف هو كاجا؟.. ما الذي حل به؟.."
قال آرجان وهو ينهض "سنرى حالاً.."
واقترب من كاجا الذي تململ في موقعه دون أن يقوى على النهوض، فدار آرجان حوله متفحصاً وهو يربت عليه مهدئاً.. وفي جانبه الأيسر، قرب فخذه، رأى سهمين متباعدين من تلك السهام الدقيقة قد اخترقت جلده الثخين وغاصت في لحمه حتى لم يبقَ منها إلا جزءٌ صغير.. زفر آرجان وهو ينظر للتنين الذي رمى رأسه جانباً وهو يزوم بتعب، ثم غمغم وهو يمسك السهمين بيديه "اهدأ يا رفيقي.. اهدأ واسترخِ وكل شيء سيكون على ما يرام.."
كان يدرك أن عليه أن يسحب السهمين معاً لأن التنين لن يمنحه فرصة ثانية.. وبكل قواه، جذب السهمين في آن واحد رغم سماكة جلد التنين الذي جعل الأمر أكثر صعوبة.. وللألم الذي ثار بقوة، أطلق كاجا صيحة متألمة ممتزجة بالغضب، وطوّح ذيله بقوة ليضرب آرجان في صدره ويرميه عدة أمتار للوراء.. ثم قفز نحوه بسرعة وتوحش حتى جثم على صدره والغضب يبدو من ملامحه المنقبضة وهو يزمجر بوعيد..
شهقت رنيم التي كانت تراقب ما يجري وصاحت وهي تقفز واقفة "كاجا.. توقف.."
واندفعت نحوه قبل أن ينشب أنيابه في جسد آرجان.. لكن الأخير صاح بها "لا تقتربي لئلا تثيري غضبه أكثر من هذا.."
توقفت رنيم على مبعدة وهي تضم قبضتيها بقلق شديد، بينما نظر آرجان لكاجا وهو يقول بصوت هادئ "لا تغضب يا رفيقي.. كان هذا لصالحك.. اهدأ الآن.."
ومد يده بحذر نحو خطم التنين الذي زمجر بغضب، وقبل أن ينجح في تهدئته فوجئ بالتنين يترنح للحظات والزبد يتدفق من فمه.. تراجع خطوتان وهو يتخبط بشدة فيما أسرعت إليه رنيم قائلة بارتعاب "ما الذي يجري لك يا كاجا؟.."
نهض آرجان والتقط السهمين اللذين سقطا منه أرضاً، وبلمحة سريعة تمكن من رؤية تلك الصبغة البرتقالية التي صبغت السهمين الخشبيين.. فقال عاقداً حاجبيه بشدة "هذه السهام تحوي سماً.."
نظرت له رنيم بصدمة، بينما اقترب منهما آرجان مضيفاً "لقد تم غمس هذه السهام الخشبية في مادة سامة قبل استخدامها بوقت طويل حتى تشربت تلك المادة.. ولا نعلم أي نوع من السموم هو.."
تدافعت الدموع من عيني رنيم وهي تصيح متشبثة بالتنين "كاجا... لا.. رباه، ما الذي يمكننا فعله؟.."
لم يتوقف الزبد من التدفق من شفتي التنين وهو يصدر أنيناً بألم وينهض ليتخبط فيسقط من جديد.. فصاحت رنيم وهي تحاول التحكم به "كف عن الحراك لئلا تؤذي نفسك.."
والتفتت إلى آرجان صائحة "افعل شيئاً يا آرجان.. سيموت كاجا بهذه الطريقة.."
قال آرجان بتقطيبة "وهل نملك ما نفعله له في هذا العراء؟.."
نظرت رنيم لكاجا بعينين تدمعان وهي تقول بصوت يرتجف "لكنه سيموت.."
مسحت على وجهه وهي تراقبه بأسى، عندما فوجئت به ينتفض واقفاً ثم يندفع في السماء بحركة سريعة شهقت لها رنيم.. تخبط التنين قليلاً في طيرانه، ثم ابتعد بسرعة فائقة دون تردد ودون أن يلتفت للإثنين اللذين بقيا يراقبانه على الأرض.. التفتت رنيم إلى آرجان المقطب هاتفة "أين سيذهب كاجا وهو مريض بهذه الصورة؟.."
غمغم آرجان "إن التنانين تعرف كيف تتولى أمر نفسها في حالة المرض، وأتمنى أن يكون كاجا يعرف ما يفعله.."
وزفر بشدة ورنيم تغمغم بصوت يرتجف "أتمنى أن يكون بخير.."
لم يعلق آرجان وهو يدور ببصره فيما حولهما من سهول شاسعة قائلاً "لقد تركنا كاجا في أسوأ موقع ممكن.. لا يمكننا عبور هذه الجبال عائدين من حيث أتينا.."
ونظر لها مضيفاً "و(مارِج) بعيدة عنا ولن نستطيع التوجه إليها سيراً على الأقدام.."
مسحت رنيم دموعها وبصرها معلق بالسماء.. غاب كاجا عن بصرها ولم تعد تراه لسرعته الفائقة.. فهل رحل بحثاً عن علاج، لو كانت التنانين تعرف علاجاً لسمّ كهذا؟.. أم أنه رحل ليموت بعيداً ولن تراه مرة أخرى؟..
التفتت إلى آرجان وقد خايلتها دهشة من عدم انفعاله لما جرى، فرأته يحدق في السهول أمامهما بتقطيبة وعبوس وهو صامت بجدية غريبة عليه.. اقتربت منه متسائلة "ما الأمر؟.. ألا يقلقك ما جرى لكاجا؟"
قال آرجان دون أن تزول تقطيبة جبينه "بل أنا أثق به وأدرك أنه سيعود فور أن يصبح أفضل.. لكن ما يقلقني الآن هي هذه السهول التي علينا أن نعبرها سيراً على الأقدام.."
تساءلت رنيم بدهشة "لماذا؟.. أتخشى أن نضيع فيها أم تخشى أن تنفذ مواردنا قبل الوصول لأقرب مدينة أو مخيم؟"
قال بعبوس "بل أخشى الأكاشي.."
قالت رنيم "أهم القبائل التي تعيش في هذه السهول؟"
هز آرجان رأسه إيجاباً، ثم قال بملامح لا تشي بأي راحة "الأكاشي شعب مكون من بدو رحّل، لا يستقرون في موقع ولا يعمرون مدينة.. تسير قوافلهم حيث سارت ماشيتهم وحيث ينمو العشب على تلالهم.. لكنهم، رغم أنهم يتحدثون لغتكم، لا يشبهون شعوبكم في أي شيء آخر.. هم قساة، قتلة، لا يعبؤون بالأرواح ولا يهمهم إلا فرض السيطرة على هذه المناطق الشاسعة.. ورغم أن هذه المناطق تعتبر جزءاً من مملكة بني فارس، إلا أنها لا تملك أي سلطة على أي جزء من أجزائها، ولولا وجود هذه السلسلة الجبلية العالية التي تحجز هذه السهول عن بقية المملكة، لتمددت سلطة الأكاشي لمناطق أكبر منها ولعجز الملك عن صدّهم تماماً.."
شحب وجه رنيم شيئاً ما وهي تغمغم "يا إلهي.. ما الذي جاء بنا لهذه البقاع إذاً؟.."
نظر آرجان لوجهها الشاحب معلقاً "أرى حماسك وشغفك للترحال في أرجاء هذا العالم قد خفت مع ذكر شراسة قبائل الأكاشي.. هل أصبحت تخشين على نفسك الآن؟"
غمغمت وهي تخفض وجهها "التعامل مع تلك القبائل لن يكون سهلاً كما كنا سنفعل لو كنا على ظهر كاجا.. من الطبيعي أن أقلق ونحن وحيدين لو اضطررنا لمواجهة جماعة منهم.."
علق آرجان بزفرة "لن أسمح لأحد بأن يمسّك بأذى.. لكني بالفعل أتمنى ألا نتواجه مع أحدهم أبداً طوال سيرنا هذا.."
ثم مدّ يده وأمسك خصلة من شعرها الطويل قائلاً "علينا التخلص من هذا الشعر.. لا نريد أن يبدو شكلك جذاباً فيغري أحد أولئك الرجال بالتطاول عليك.. وأنا لن أكفي لحمايتك منهم.."
هتفت رنيم باحتجاج "شكلي لا يبدو جـ.. جذاباً بالشعر الطويل كما تقول.. كلامك لا يقنع أحداً.."
جذب آرجان الخصلة بخفة آلمتها وهو يقول بحزم "عليك أن تطيعيني فأنا أكثر خبرة منك.."
وخلال وقت قصير، كانت رنيم تجلس على صخرة محنية الكتفين وآرجان يقص خصلاتها بخنجر حاد صغير يملكه.. وبينما تتهاوى الخصلات المتموجة في حجرها، فإن رنيم قالت دامعة العينين "هذا ظلم.. لماذا عليّ أن أتخلص من شعري بينما تحتفظ أنت بشعرك الطويل هذا؟.."
علق آرجان بسخرية "وهل أبدو لعينيك جذاباً كالنساء بهذا الشعر الطويل؟.."
دمدمت رنيم بضيق "ستطلب مني بعد ذلك التنكر بهيئة رجل.. أليس كذلك؟.."
قال آرجان "أود ذلك.. لكن تنكرك لن يقنع أحداً بملامحك الناعمة هذه.."
خفضت رنيم رأسها وهي تقول بخدين حمراوين "ملامحي ليست ناعمة.. لا تحاول تملقي بكلماتك هذه.."
عبث آرجان بشعرها القصير للحظة دون أن يعلق، ثم أعاد خنجره للجراب الذي يحمله على كتفه عادة قائلاً "لنذهب.. أمامنا طريق طويل.."
نهضت رنيم وتوجهت لجدول قريب يقطع هذه السهول، وتطلعت لهيئتها الجديدة.. لم تكن تبدو بشعة كما كانت تتوقع، ورغم أن قطع الشعر بالخنجر لا يمنحه مظهراً جميلاً، لكن شعور رنيم بالخفة والطلاقة مع هذه الخصلات القصيرة قد خفف من حزنها على ما فقدته.. كما أن الشعر القصير يمحو بعض الكآبة التي كانت تجدها تخيّم على ملامحها في السابق.. وبعد أن غسلت وجهها بالماء، وشربت بعضه تحسباً للطريق الطويل الذي عليهما قطعه، أسرعت خلف آرجان قائلة "كم من الزمن تعتقد يلزمنا حتى نصل لـ(مارِج)؟"
هز آرجان كتفيه مجيباً "من يعلم؟.. لو سرنا على الأقدام، فلن نصل قبل مرور أسبوع أو أكثر.. وأشك أن نفعل ذلك.. لذلك كل أملنا أن نلتقي بقافلة من القوافل التجارية التي تقطع هذه السهول فنرحل معها.."
لم تعلق رنيم وهي تتنفس بعمق.. إنها لم تكن يوماً تمتلك نشاطاً وقوة لقطع مسافات طويلة، وينهكها مجرد السير لمدة قصيرة.. ولم يكن ذلك لاعتيادها على الدعة والراحة، قدر ما كان لاضطرارها البقاء في مواضع محدودة من قصر أبيها.. والآن هي تلاقي تبعات تلك الحياة الخاملة التي عاشتها بين جدران القصر..
وكما كان آرجان يقسو قليلاً على كاجا ليقطع مسافات طويلة دون راحة، فهو قد فعل الشيء ذاته مع رنيم رافضاً منحها أي راحة بين فترة وأخرى.. وإن وافق على ذلك لا تتجاوز راحتها دقائق معدودة، كما أنه كان يرفض منحها بعض الماء لتشربه عندما يراها تلهث بتعب متحججاً بأن ذلك سيضرّها أكثر مما ينفعها.. أهو محق بذلك؟.. وبعد بضع ساعات من السير والإرهاق الشديد، تهاوت رنيم أرضاً وهي تقول لاهثة "يجب أن نتوقف.. أكاد لا أشعر بساقيّ لكثرة ما سرنا دون راحة.."
قال آرجان بانزعاج "ما الذي تقولينه؟.. مازالت الجبال قريبة منا، ومازلنا في أول الطريق.. هل تريدين أن نمضي الشهر كله في السير البطيء هذا؟"
قالت باعتراض "وما الذي يمكنني فعله؟.. أنا لا أملك طاقة لبذل جهد أكثر مما فعلت.."
قطع قولها صيحة عالية اندلعت من موقع ما أمامهما.. فتوتر آرجان وهو يصيخ السمع ورنيم تتحامل لتقف من جديد وقد عاد إليها قلقها.. ومع بعض الإنصات، تمكنا من ملاحظة أصوات بدت خافتة لهما وهي صوت صياح وصراخ يمتزج بصوت صليل المعادن وهي ترتطم ببعضها البعض..
نظرت رنيم لآرجان متسائلة بقلق، بينما نظر آرجان إليها مغمغماً "عسى ألا يكون هذا ما أتوقعه.. فسنكون عندها في مأزق.."
تراجعت رنيم خطوة قائلة بقلق "ما معنى هذا؟.. أهم الأكاشي؟"
قال آرجان "علينا استطلاع الأمر، ومن ثمّ اتخاذ التصرف الملائم.."
وسار بخفة متقدماً من مصدر الصوت متجاوزاً عدداً من التلال، ورنيم تلحق به بأسرع ما تستطيع.. ولما اقتربا من الصوت الذي غدا أكثر وضوحاً وإزعاجاً خلف تلة قريبة منهما، صعد آرجان تلك التلة ليرى ما خلفها دون أن يُظهر نفسه.. وفي الجانب الآخر منها، وعلى مساحة واسعة، كان عدد لا يقل على مائة رجل مكوّنين فريقين يتقاتلان بعنف ووحشية بينما الجثث تكوّمت أرضاً والدماء سالت منها ملونة السهول الخضراء بلونٍ أحمر قانٍ.. كان الفريق الأول لأولئك الرجال ذوي فراء الذئاب، وهم سكان الجبال القريبة منهم.. أما الفريق الثاني، فكان لرجال ضخام شديدي البأس يرتدون ثياباً جلدية مبطنة بالفرو وعلى رؤوسهم خوذات حديدية بقرون عالية تظهر من الجنبين.. سمر البشرة بينما بدا من تحت الخوذات شعر أشقر تفاوت في لونه وفي طوله، بحيث بدا متناقضاً مع البشرة السمراء بشدة.. واكتست الوجوه بشوارب ولحىً فاتحة اللون تماثل شعر الرأس شقرة..
قبعت رنيم قرب آرجان وهي تقول بانتفاضة "ما الذي يجري؟.. من هؤلاء؟"
همس آرجان "هؤلاء هم سكان الجبال.. ويبدو أنهم قد جاؤوا في محاولة لفرض سيطرتهم على هذه المناطق القريبة.. أما أولئك....."
وأشار لذوي القرون الذين يقاتلون بحماس ووحشية قائلاً بتقطيبة "هؤلاء هم الأكاشي.. ذوي القرون.."
ورغماً عنها، غلبتها انتفاضة قوية وهي ترى المعركة الشرسة التي تدور على بعد أقدام منهما، ولا يبدو أن نتيجتها ستكون في صالحهما مهما كان الغالب فيها من هذين الفريقين..

*********************

عالم خيال 18-12-15 10:37 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل العاشر: سهول دموية


كان المنظر الذي شهدته رنيم أمامها يماثل ما قد تراه مرسوماً في لوحات في القصر الملكي أو مطبوعاً في إحدى صفحات الكتب.. الفرسان المقاتلون بسيوفهم اللامعة والجثث التي ارتمت أرضاً والدماء التي لطخت كل شيء.. لكن اللوحات التي كانت تتأملها بشيء من الشغف كانت تختلف تمام الاختلاف عن ذلك الواقع الذي تراه الآن.. فمشهد الجثث بالأطراف المقطوعة والرأس المفصول تبدو أكثر قسوة من رؤيتها مرسومة، وما يزيد الأمر واقعية هو تلك الأصوات العالية والصليل الذي يصمّ الآذان والرائحة الكريهة التي تنبعث من كل شيء أمامها.. ولكل ذلك، فقد قبعت في موقعها تراقب ما يجري ذاهلة ومصدومة بشكل يفوق التصور.. ولم تدرِ أنها كانت تئن بألم لما تراه حتى شعرت بآرجان يخفض رأسها بيده وهو يهمس "كفي عن هذا الانفعال واصمتي.. نحن في وضع حرج جداً.."
سمع صوتاً في تلك اللحظة من خلفه يقول "حسناً.. من هذان الفأران المختبئان هنا؟"
استدار آرجان بسرعة نحو الرجل الذي وقف خلفهما بضحكة ساخرة على وجهه، ومن ملابسه وهيئته بدا لرنيم أنه من الأكاشي بالذات، فطوّح آرجان سيفه نحو الرجل محاولاً التخلص منه والهرب قبل قدوم الآخرين.. تصدى الرجل للضربة بسهولة لكن آرجان عاجله بضربة جانبية ثم أخرى، وفي كل مرة يصد الرجل الضربة بسيفه بشكل سريع.. وفي غفلة من غريمه، استخرج آرجان خنجراً من طيّات ثيابه وطوّح يده اليسرى به في ضربة سريعة للجانب الآخر.. انتبه الرجل للضربة في اللحظة الأخيرة فصدّها بدرعه الخشبي وهو يقول بابتسامة وحشية "رائع.. أنت قادر على الصمود أمامي لدقائق.."
وطوّح درعه بقوة هاتفاً "سنرى كم سيدوم ذلك.."
أصاب الدرع سيف آرجان الذي طار بعيداً بعد أن أفلته لقوة الضربة، بينما أدار سيفه بحركة خاطفة جردت آرجان من خنجره.. عندها اتسعت ابتسامة الرجل وهو يقول بهزء "والآن، أنت عارٍ تماماً.."
تراجع آرجان خطوة مغطياً رنيم بجسده وهو يراقب غريمه، فرآه يرفع السيف عالياً بينما تأهب آرجان لتفادي الضربة والهجوم على الرجل بجسده.. لكن قبل أن يهوي السيف بقوة، فوجئ الإثنان برنيم تقفز أمام آرجان مادة ذراعيها وهي تصيح بصوت مرتجف "لا تفعل هذا.."
تجمدت يد الرجل في الهواء وهو ينظر لرنيم بتعجب لهذه الجرأة المفاجئة، بينما قالت رنيم بإلحاح "لا تقتله أرجوك.. سنعطيك كل ما نملك.. لكن لا تؤذنا.."
هتف آرجان بحنق وهو يزيحها "ما الذي تفعلينه يا حمقاء؟"
لكن رنيم مدت يدها وانتزعت قلادة ذهبية احتفظت بها مما كانت تملكه سابقاً وخبأتها بين طيات ثيابها، فمدت يداً مرتجفة بها للرجل القريب قائلة "هذه قلادة من ذهب خالص.. هي غالية الثمن وستعود عليك بفائدة كبيرة.."
اختطف الرجل القلادة وتأملها بتفحص بينما سمعا صوت رجل آخر يقول من خلفهما "ما الذي يجري هنا يا باكين؟"
لوّح الرجل بيده قائلاً "هذه الفتاة تمتلك بعض الذهب.."
اعترضت رنيم بارتجافة "لا.. هذا كل ما أملك.."
لكن الرجل لم يعبأ بقولها وهو يجذبها خلفه عنوة نحو البقية، بينما دفع سيفه في ظهر آرجان ليجبره على السير أمامه.. وعند تجاوز تلك التلة انتبهت رنيم أن المعركة التي كانت دائرة قد حسمت بشكل سريع وواضح لصالح الأكاشي، بينما تساقطت جثث سكان الجبال أرضاً وبركة من الدماء تسيل من أجسادهم فتشربها الأرض بشراهة.. ووسط جماعة الأكاشي المنتصرة، وقف زعيمهم الضخم بعضلاته الواضحة وشكله الشرس وبالجرح الذي يزين ما ظهر من ذراعه اليمنى.. بلحية شقراء وشعر أشقر يصل لكتفيه وعينين زرقاوين غريبتين في سواد وجهه الواضح..
ولما اقتربا منه قال موجهاً حديثه لآرجان "من أنت يا رجل؟.. لقد صمدت أمام باكين للحظاتٍ معدودة، وهذا يحسب لك بالتأكيد.."
قال آرجان مقطباً وهو يدور ببصره بين البقية "أنا آرجان.. رجل من الهوت.."
رفع الزعيم حاجبيه بدهشة كما تبدّت الدهشة في الرجال القريبين، ثم قال "سمعت أن الهوت لا يجولون في هذه المناطق، ولا يرتحلون إلا على ظهور تنانينهم.. فأين تنينك؟"
قال آرجان بضيق "لست أملك واحداً.."
نظر له الزعيم بصمت لوقت طويل، بينما دارت رنيم ببصرها في الرجال من حولهما بارتباك وقلق شديدين.. لو لم يعجب رد آرجان الزعيم فسيتخلصون منهما في لحظات معدودة.. لا يمكنهما بتاتاً الهرب من بين هؤلاء الرجال الأشداء دون كاجا..
سمعت الزعيم يقول وهو يحدق في وجه آرجان "أنت بارع بما فيه الكفاية لكيلا تستحق القتل.. لكنك لو لم تكن ذكياً كفاية وحاولت الهرب، فلن يختلف مصيرك عن هؤلاء.."
وأشار للجثث المرتمية عند قدميه.. فقال آرجان مقطباً "ما الذي ستفعلونه بنا إذاً؟"
ابتسم الزعيم بجانب فمه قائلاً "سنرى أيها الغريب.."
رأياه يتقدم من جثة قائد سكان الجبال والذي قاتل ببسالة حتى النهاية.. فانحنى عليها واستخرج خنجراً من جراب مربوط حول فخذه، ودون تردد بدأ يقطع جزءاً من ملابس الجثة ليكشف صدرها قبل أن يبدأ بتمزيق الجلد واللحم دون ذرة تردد.. استغرق في عمله لحظات معدودة كانت كافية ليستخرج القلب الدامي من موضعه ويرفعه عالياً.. ودون تردد، وسط صيحات بقية الرجال الحماسية، دفع تلك القطعة الدامية لفمه واقتطع منها قطعة كبيرة بشكل وحشي.. ظل آرجان ينظر لما يجري بصمت ودون انفعال ظاهر رغم صدمته لما يراه.. الكل يعلم أن (الأكاشي) الملقبين (ذوي القرون) بسبب خوذاتهم ذات القرون العالية، هم أكلة لحوم بشر، وإن كان أكلهم لا يتعدى اقتطاع أجزاء من جثث ضحاياهم وأكلها نيئة مؤمنين بأن هذا يمنحهم قوة أكبر ويضمن لهم هزيمة أي عدو يواجههم..
وكأن ما فعله الزعيم كان إشارة البدء، إذ اندفع بقية الرجال نحو الجثث الباقية وبدؤوا يقتطعون أجزاء منها باستمتاع واضح، دون أن يحاول أحدهم انتزاع قلب الجثة تاركين هذه الميزة للزعيم فقط.. ظل آرجان يراقبهم وهو يفكر بالخطوة التالية، ولما حانت منه نظرة إلى رنيم رآها شاحبة شيئاً ما وإن بقي جسدها يرتجف بقوة رغم محاولتها للتماسك.. إنها لم ترَ، ولم تسمع قط، عن قسوة كهذه.. عن وحشية كهذه.. عن متعة يتخذها المرء من تشويه جثة والعبث بأحشائها.. أي حياة تحياها هذه القبائل؟..
انتبه آرجان لجثة شاب لا يكبر رنيم بكثير ترمى عند قدميه، والزعيم يرمي بخنجره عند قدميه بصمت.. نظر آرجان للزعيم الذي وقف بابتسامة جانبية، بينما توقف الرجال عما كانوا يفعلونه وهم يرقبون ما يجري بدهشة ممتزجة بصدمة.. ثم قال الزعيم بوجه تقطر الدماء منه "حسناً.. ألن تشاركنا هذه المتعة؟"
بدت الدهشة على وجه آرجان لهذا الطلب، بينما تقدم أحد رجال الأكاشي قائلاً باعتراض "كيف تفعل ذلك يا كابور؟.. إنه ليس من الأكاشي.. أنت تعلم ما يعنيه فعل ذلك.."
قال كابور بجفاء "أعلم ذلك.. لكن لا شيء يمنعني من ذلك.."
ثم نظر لآرجان قائلاً بابتسامة "هذه فرصة لا يمكن تعويضها بالنسبة لك.. لو نفذت ما أطلبه منك، ستكون منا، وستحظى بحمايتنا طوال بقائك بيننا.. ألن يكون ذلك رائعاً؟"
قال الرجل باستنكار "لماذا تفعل ذلك أيها الزعيم؟"
واجهه كابور قائلاً بصرامة "يحق لي فعل ما أريده.. أم أن لديك اعتراضاً على ذلك يا قالان؟"
ظل المدعو قالان يحدق في وجه كابور باعتراض صريح، لكنه خفض بصره بعدها وتراجع بصمت.. لم يعلق آرجان بكلمة على ما قيل وهو يوازن خياراته.. الرفض معناه إهانة كابور وإعلان رفضه التعاون معهم، وهذا يعني قتله دون هوادة، وقتل رنيم بالتبعية.. فهل يملك إلا القبول؟.. كيف له أن يتنصل من الأمر دون أن يثير غضبهم منه؟..
شعر آرجان بيد رنيم تمسك يده بقوة وكأنها تحاول منعه من ذلك، لكنه جذب يده من يدها وجثا قرب الجثة بهدوء متناولاً الخنجر القريب.. ودون تردد، متجنباً النظر لوجه الفتى، مزق الملابس من العنق حتى السرّة، ثم أحدث شقاً في جسد الفتى قبل أن يستخرج الكبد بحركة سريعة.. شعر بنظرات الرجال من حوله تتركز عليه وهم ينظرون له، ولرنيم الشاحبة، باستمتاع..
سمع آرجان همس رنيم الضعيف وهي تقول برجاء "لا تفعل.."
لكنه تجاهلها للمرة الثانية وهو يدفع الكبد إلى فمه ويقتطع قطعة كبيرة رغم طعم الدماء الصدئ الذي ثار في حلقه.. ثم ابتلع تلك القطعة دون أن يبدو على وجهه أي انفعال، ونظر للزعيم الذي عقد ذراعيه على صدره ينظر له بحدة.. عندها قال كابور بابتسامة جانبية "عليك أن تنهي ما بدأته.. لا تُهِن غريمك برمي بقاياه في التراب.."
نظر آرجان لما بقي من الكبد في يده، والدماء تسيل من بين أصابعه لزجة غزيرة، ثم استمر في قضم قطعٍ منها وبلعها بصمت ودون تذمر.. لا يدري كيف تجمدت مشاعره في تلك اللحظات وهو يرتكب ما لم يفكر يوماً بأنه سيقدم عليه.. لكن عقله الآن لم يكن يعي إلا أمراً واحداً.. عليه مسايرتهم حتى ينجو مع رنيم من هذه الجماعة.. عليه الانتظار بصبر، وألا يستثير غضبهم بأي شكل من الأشكال..
بعد أن انتهى، وقف في موقعه دون أن يمسح الدماء التي تصببت من فكه وغمرت يده وذراعه اليمنى.. لكن بدل أن يغادر كابور أو أحد رجاله، سمعه آرجان يتساءل بلهجة استمتاع واضحة "وماذا عن الفتاة؟.. ألن تنال نصيبها من هذا؟"
ارتجفت رنيم بوضوح دون أن تتحرك من موقعها حيث اختبأت خلف آرجان وكأنها تتمنى أن لا يلاحظ وجودها أحد، فقال آرجان "لكنها فتاة.. فما شأنها بعمل كهذا؟.."
قال كابور مزمجراً "الأكاشي يمارسون الطقوس نفسها، رجالاً ونساءً، دون أن يشذّ أحدهم عن القاعدة.. لا تعاملها بخنوع مادمت ستنضمّ إلينا.."
خفضت رنيم وجهها محاولة تجنب النظر لمن حولها وهي تهمس لنفسها "أريد الرحيل.. أريد الرحيل.."
لكنها أمنية لم تجد حظها من التحقيق، بل وجدت يد آرجان تمتدّ إليها بالخنجر الدامي في دعوة واضحة.. لكنها أبعدت يديها عن الخنجر ودارتهما خلف جسدها وهي تنظر لآرجان بعينين متسعتين.. كان وجهه يحمل الجدية ذاتها التي رأتها عليه في أول يوم التقيا فيه، وأثارت رعبها في ذلك اليوم بلا حدود.. أحقاً يطلب منها القيام بشيء كهذا؟..
ولما طال صمتها، وجدته يسحب الخنجر فيعود للجثة موسّعاً الشق السابق وسط ارتعاب رنيم.. ثم وجدته يستخرج إحدى كليتيه ويمد يده بها نحو فمها.. هزت رنيم رأسها بعنف وهي تتراجع خطوة، لكن مع نظرة كابور غير الراضية، قام آرجان بإمساك رنيم وجذبها نحوه.. ارتعبت رنيم وهي تشعر بقبضة آرجان القاسية على ذراعها وبلزوجة الدماء التي غطت يده تلك وهي تلامس جلدها.. ثم وجدته يمسك فكها بأصابعه القوية ليجبرها على أن تفتح فمها بينما جزّت رنيم أسنانها بقوة محاولة الخلاص من قبضته وهي تغرز أظافرها في ذراعه.. ورغم استماتتها، لم تتمكن رنيم من الخلاص منه وهي مرتعبة لقسوته في التعامل معها.. ولما أفلح بإجبارها على فتح فمها، وضع القطعة الدامية بقوة في فمها وأجبرها على إغلاقه بيده.. لكن الأمر لم يدُم طويلاً ورنيم تقذف ما بفمها وتتقيأ كل ما حوته معدتها أرضاً..
أطلق الرجال من حولهما ضحكات سخرية بينما قال كابور ضاحكاً "كان هذا عرضاً مذهلاً.. يبدو أنكما ثنائي ممتع، ولست نادماً على إبقائي على حياتيكما.."
وابتعد قائلاً لرفاقه "هيا.. سنعود للمخيّم بعد قليل.."
تفرق الرجال في الموقع منهم من يعدّ العدة للرحيل على ظهور الخيول القريبة، ومنهم من يستولي على الأسلحة التي خلفتها الجثث ويقوم بتنظيفها مما لوثها من الدماء..
بقي آرجان جاثياً قرب رنيم التي انتهت من نوبة القيء لتنخرط في نوبة بكاء قوية.. ثم سمع صوت أحد الرجال يقول له من موقع قريب "حسناً فعلت بعدم إثارة غضب كابور.. فهذا سينعكس علينا كلنا بالتأكيد.."
التفت آرجان خلفه ليجد رجلاً من الأكاشي يرمي بقربة ماء إليه، وأضاف "سنذهب بعد قليل للمخيم الذي لا يبعد عنا الكثير.. لكن أشك أن يمنحكما أحد الرجال حصاناً لتركبا عليه.. عليكما أن تسيرا إليه مع البقية على الأقدام.. لكن لا تفكرا للحظة واحدة بالهرب، إذ الرجال مخوّلون بقتلكما في أي لحظة دون إبداء أي سبب مقبول.."
لم يعلق آرجان على هذا، بينما حمل الرجل بضع خناجر وسيوفاً من الأرض مضيفاً بابتسامة "لا أصدق أنك أجبرت الفتاة حقاً على تناول اللحم النيئ.. يبدو أنك عازم على نيل رضى كابور، وهذا يعجبه بكل تأكيد.."
تساءل آرجان مقطباً "ألم يطلب مني ذلك بنفسه؟.. قال إن الأكاشي يفعلون ذلك بالجميع.."
ضحك الرجل معلقاً "بل كان يمزح بطلبه هذا.. رجال الأكاشي لا يجبرون النسوة على فعل هذا، فهن لسن بحاجة للقوة ولا الشجاعة التي نكتسبها بما نفعله.. ربما كان هذا اختباراً لك، وأنت قد نجحت فيه بكل تأكيد.."
ورحل حاملاً غنيمته، بينما قطب آرجان بشدة وهو ينظر لرنيم المنهارة قريباً وهي لا تكاد ترى ما حولها بسبب دموعها الغزيرة.. عندها مسح آرجان على رأسها وهمس "سامحيني يا فتاة.. لكن ثقي أن ذاك الرجل الذي عبث بأعصابك بهذه الصورة هو أول من سأقطع رأسه قبل أن نغادر هذا المكان.."
لكن لم يكن قوله يثير أي هدوء أو سعادة في نفس رنيم التي بكت بحرقة..

*********************

مضت عدة ساعات وآرجان جالس مع رنيم في جانب المخيم وحيدين صامتين دون أن يتبادلا أي حديث.. كان المخيم الذي وصلاه بعد سير طويل ومرهق عبارة عن عشر خيم متفاوتة الأحجام تضمّ تلك الجماعة من الأكاشي لسبب لا يعلمانه.. فهو يخلو من النسوة ومن الأطفال ومن أي ماشية عدا الخيول التي ربطت في جانبه.. وبعد بعض الوقت، أحضر أحد الرجال بعض الطعام والماء لهما قائلاً "كونا شاكرين للزعيم.. لقد أعجب بك حقاً، لذلك قرر أنه لا داعي لأن تقضيا نحبيكما جوعاً.."
لم يعلق آرجان وهو يتناول الطعام، الذي لم يكن يتجاوز بضع أرغفة خبز وقطعة صغيرة من لحم مشوي، وقرّبه من رنيم التي جلست صامتة على صخرة قريبة.. لكنها أشاحت بوجهها وهي تنطوي على نفسها.. بعد وقت قصير قضته باكية، فإنها التزمت الصمت التام وانطوت على نفسها.. لم يكن تصرفها غريباً مع الصدمة بما جرى لها، لكنها كما لاحظها ترفض الحديث معه أو النظر إليه.. بعد أن تجاهلته مرة أخرى، قرّب آرجان الطعام منها قائلاً "أعرف أنك تشعرين بالاشمئزاز، لكن يجب أن تتناولي القليل من الطعام.. أنت لم تذوقي شيئاً يذكر منذ عدة ساعات.."
لم تجبه وهي تدير وجهها بعيداً، فقال بشيء من التقطيب "أتتجاهلينني؟"
ساد الصمت من جديد للحظات بينهما، فوضع آرجان الطعام جانباً وهو يتنهد قبل أن يقول "لا ألومك على ذلك، لكن أريدك أن تتأكدي أنني لم أتعمد القسوة معك.. لم أفعل ما فعلته إلا خوفاً عليك.."
سمعها أخيراً تقول بشيء من الهزء "حقاً؟.."
فقال بحدة "كانوا سيقتلونك بعد أن يقتلوني لو رفضت طلبهم.. أظننتني سعيد بما فعلته؟.. عليك أن تكوني شاكرة لأنك حية حتى هذه اللحظة"
قالت بصوت مرتجف "وما المقابل؟.. لو كان المقابل أن أصبح في مرتبة أقرب للحيوانات، فأنا كنت أفضل الموت.."
علق آرجان مقطباً "هل تتمنين الموت حقاً لسبب كهذا؟"
قالت رنيم بعصبية "لكن ما جرى أكبر من طاقتي على الاحتمال.."
غمغم آرجان وهو يستلقي جانباً "يا لك من جاحدة.. أليس هذا ما سعيتِ إليه بهذه الرحلة؟.."
وبينما حاول الاستغراق في النوم دون أن يمسّ الطعام بدوره، فإن رنيم التزمت الصمت بمرارة.. كان هذا ما سعت إليه بالفعل، لكن لم تكن تهدف للمرور بتجربة قاسية ومؤلمة كهذه.. لم تكن تسعى لرؤية قبح هذه القبائل والمشاركة في أعمالها الوحشية.. من أين لها، وهي حبيسة القصور، أن تدرك أي قسوة يحويه هذا العالم؟..
بعد بعض الصمت، قاطعتهما خطوات اقتربت منهما، ففتح آرجان عينيه ليجد رجلاً يقترب منه قائلاً "الزعيم يريدك حالاً.."
نهض آرجان دون اعتراض، ولما التفت إلى رنيم سمع الرجل يقول "لا داعي لاصطحاب الفتاة، كابور يريدك وحدك.."
قطب آرجان شيئاً ما وهو يغادر بصمت وإن لاحظ نظرات رنيم القلقة التي لاحقته.. رغم أن كابور منحهما أماناً مؤقتاً، لكنه لا يشعر بالراحة لترك رنيم وحيدة وبعيدة عن بصره في هذا المخيم المعادي.. سار آرجان خلف الرجل إلى خيمة كابور التي لا يجهل شخص في المخيم هوية صاحبها.. كانت أكبر خيمة وأكثرها زخرفة، ورجلان من أشد الرجال قوة يحرسان مدخلها.. دخل آرجان الخيمة بدعوة من الرجل، وأزاح الستار الذي غطى المدخل ليهبّ عليه هواء دافئ مقارنة بالبرودة خارجها.. كانت الخيمة واسعة، بنار وسطها تدفئ أصحابها، وفراش في جانبها عبارة عن بضع بطائن من صوف الخراف الوثيرة ووسائد محشوة ومطرزة بأشكال وألوان متزاحمة يغلب عليها اللونان الأحمر والأسود.. ووسط الخيمة وضع كرسي خشبي زانته نقوش عديدة وقرنان ضخمان برزا من جانبي ظهره، وقد تم تبطينه بقماش أحمر زاهي اللون..
ورغم فخامة الخيمة ومحتوياتها، إلا أن الهواء فيها كان قاتماً مثيراً للانقباض ورائحته تثير الغثيان..
رأى آرجان كابور يجلس على الكرسي وفي يده كأس خمر مترعة.. ابتسم كابور فور رؤيته ابتسامة أثارت توجساً في نفس الأخير، ثم قال له "والآن أيها الغريب، ألن تخبرني بالذي جاء بك مع هذه الفتاة لهذه البقاع التي يخشاها الجميع؟"
لم يجب آرجان السؤال إنما علق قائلاً "لماذا تناديني بالغريب بعد أن نفذت كل ما طلبته مني؟.. ألستُ واحداً منكم الآن؟.. اسمي آرجان ولا أحب أن أُنادى بغيره.."
ضحك كابور بسخرية واضحة قبل أن يقول "اعذرني.. فلم أعتد بعد على مناداتك إلا بهذا اللقب.. إذن، يا آرجان، ألن تخبرني بوجهتك الحقيقية؟"
لم يكن آرجان ليخسر شيئاً بإخباره بالحقيقة، فقال "أبحث عن فتاة من الهوت اختفت منذ بضع أسابيع، وعلمت أنها شوهدت في ميناء (مارِج).. لذلك أتيت سعياً للبحث عنها.."
مسّد كابور لحيته الشقراء قائلاً "لكن لمَ ترتحل على الأقدام؟.. ألا تملك تنيناً كما بقية الهوت؟"
بدا شغف واضح في عيني كابور وهو يتحدث عن التنين، فقال آرجان "لقد أصيب بسهم مسموم عند عبورنا الجبال.. وقد مات من فوره بعد أن كاد يسقطنا من علوٍ كبير.."
غمغم كابور "هذه خسارة كبرى.. لطالما تمنيت أن أمتلك حيواناً يتفوق على بقية ما يملكه زعماء القبائل.. لو امتلكت تنيناً، فلا شك أنني أستطيع التغلب على بقية القبائل وأصبح زعيم الأكاشي بلا منازع.."
غمغم آرجان لنفسه (هذا مربط الفرس).. بدا له واضحاً أن كابور مهتم بأمر التنين أكثر من اهتمامه بآرجان أو حتى برنيم.. وربما لهذا السبب حافظ على حياته بعد أن علم هويته.. ولهذا السبب حاول ضمّه للأكاشي رغم اعتراض رجاله، سعياً وراء ولائه حتى لو كان مرغماً..
رآه يميل للأمام قائلاً باهتمام "كيف يمكنكم تطويع تلك التنانين بهذه السهولة؟.. وكيف يمكنني الحصول على أحدها؟.."
لم يكن آرجان يقدر على التنصل من إجابة هذا السؤال، فحاول جعل الأمر يبدو عسيراً وهو يقول "هذا طريق طويل.. عليك في البدء الحصول على بيضة تنين وانتظار أن تفقس ويخرج التنين الصغير منها.. عليك رعايته سنوات حتى يصبح قادراً على الطيران وعلى حملك على ظهره، وعليك تدريبه لكي يصبح مطيعاً لك ووفياً لئلا ينقلب عليك وينتقم منك في يوم من الأيام.. هذا وحده قد يستغرق عدة سنوات.."
لم يكن ما قاله آرجان صحيحاً بشكل كامل، لكنه حاول جهده لتثبيط همّة كابور عن هذا الأمر.. فمط كابور شفتيه وغمغم "لكني لا أملك الصبر الكافي لفعل ذلك.."
شعر آرجان بشيء من الراحة لهذا القول، فلوّح كابور بيده قائلاً "لا بأس.. سنكمل حديثنا في الصباح.. لابد من وسيلة أخرى للحصول على تنين بالغ وتدريبه على طاعتي في أقصر وقت ممكن.."
ونظر لآرجان بحدة قائلاً بابتسامة جانبية "أليس كذلك؟"
لم يكن أمام آرجان مناص من الموافقة على قول كهذا، فأجاب "بالطبع.. سأفعل ما تريده بالطبع.."
اتسعت ابتسامة كابور بينما تبدّت في عينيه نظرة تدلّ على انعدام ثقته بما يسمعه.. لكنه لم يعلق وهو يصرف آرجان الذي خرج بصمت بدوره.. وقد تيقن لحظتها أن بقاءهما مع الأكاشي يتعسر في كل لحظة تمضي..

*********************

ظلت رنيم قلقة وهي تحدق في ظهر آرجان وهو يبتعد خلف ذلك الرجل.. لم يكن وجودهما في العراء في مثل ذلك الوقت بأكثر خطراً من بقائهما في هذا المخيم، حيث الأعين تترصد لهما في كل حين ولحظة، وحيث تخشى اللحظة التي يبتعد فيها آرجان فلا يعود إليها مرة أخرى.. انتفضت لمثل تلك الفكرة وهي تندس في موقعها بحثاً عن بعض الدفء، وتعد اللحظات بانتظار عودة آرجان وعودة الأمان معه.. لقد مرّت بتجربة صادمة بالنسبة لها، ورغم محاولتها التماسك فإنها تشعر بالغثيان من مجرد تذكر طعم الدماء الصدئ ورائحتها على يد آرجان وهو يجبرها على وضع تلك القطعة الدامية في حلقها.. كان شيئاً تودّ لو يمحى من ذاكرتها بكل ما أوتيت من قوة.. وما يسبب لها الألم أكثر تخيّل ما كان عليه الشاب قبل موته ووقوع جسده في يد الأكاشي.. لابد أنه كان مفعماً بالنشاط وبأحلام كثيرة.. لابد أنه كان يتلهف للعودة لعائلته المحبة وربما لزوجة تنتظره بلهفة.. وربما...... أخفت رنيم وجهها بين يديها وهي تشعر بالدموع تتجمع في مآقيها ونفضة عارمة تجتاح جسدها.. إنها تحطم نفسها بهذا التفكير.. وعليها تناسي كل ما شهدته في تلك اللحظات بأي صورة كانت..
انتبهت بعد لحظات لحديث خافت في موقع على شيء من المبعدة، وقد حملته الرياح الخفيفة أبعد مما توقع المتحدثان.. في البدء لم تميّز كلمة من حديثهما الخافت، ثم انتبهت عندما سمعت كلمة (الهوت) تتردد عدة مرات على لسانيهما.. نظرت رنيم من موقعها بحثاً عن المتحدثيْن فلحِظت تلك النار التي اشتعلت في موقع متطرف من المخيم ولم يجلس حولها إلا اثنان، أحدهما هو ذلك الذي قبض عليهما عند لقائهما بالأكاشي في ساحة المعركة تلك..
تلفتت رنيم ملاحظة خلو الموقع من حولها، ثم تقدمت متسللة من ذلك الجزء محاذرة أن يراها الرجلان.. وربضت خلف خيمة قريبة وظلت تستمع لما يقال بصمت.. فسمعت الرجل الذي يدعى باكين يقول "ما الذي سنفعله إذاً؟.."
قال الآخر قالباً كفيه "وما الذي يمكننا فعله حقاً؟.."
اعترض الأول قائلاً "إنه من الهوت.. الهوت يا قالان.. أتفهم معني ذلك؟"
أجاب قالان بضيق "طبعاً أدرك ذلك.. لكن يداي مكتوفتان بوجود كابور.. فهو لن يسمح بحدوث شيء دون أن يكون له نصيب فيه.. وهذا سيجعل موقفنا أضعف بمراحل.."
غمغم باكين "بودّي لو نتمكن من التخلص من كابور.. إنه متجبر وطاغية.. ربما لو كنتَ أنت الزعيم لكانت الأمور أفضل بالنسبة لنا.."
تنهد قالان قائلاً "علينا أن ننتظر ونرى.. من يدري ما سيحدث في الأيام القادمة؟.."
لم تفهم رنيم ما يخططه هؤلاء الإثنان، ولم تفهم ما دخل آرجان بكل هذا.. كل ما لاحظته أن الأكاشي يكنون كراهية لزعيمهم رغم طاعتهم العمياء له، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن علاقة الهوت بزعيمهم التي يسودها الاحترام والطاعة المصحوبة برفق المعاملة.. وشتان بين الإثنين..
سمعت في تلك اللحظة صوت آرجان يناديها بقلق، فتراجعت بسرعة قبل أن يفطن الرجلان لموقعها وعادت لآرجان الذي هتف فور أن رآها "أين كنتِ...؟"
وضعت يدها على فمه ليصمت وهي تلتفت للخلف، ثم همست "لا ترفع صوتك.. هناك بضع رجال من الأكاشي وهم....."
قاطعهما صوت من خلفهما يقول "هل كل شيء على ما يرام؟"
التفتا ليريا قالان يتقدم منهما وهو يحدجهما بنظرة مقطبة، فقال آرجان "لم يحدث شيء.. كنت أبحث عن الفتاة بعد أن غابت عن موقعها وأقلقتني.."
خفضت رنيم بصرها وهي تشعر بالارتباك والعرق البارد يسيل على ظهرها، ثم قالت "لقد كنت أبحث عنك.. استبطأت عودتك وذهبت للاطمئنان عليك.."
وضغطت بيدها على ذراع آرجان لكي لا يطيل الحديث في هذا الموضوع، بينما قال قالان "يستحسن أن تخفضا أصواتكما في المخيم.. كابور لا يحب الضجيج في وقت راحته، والرجال كذلك.. لو غضب كابور منكما، فلن يمنع الرجال عنكما أبداً.."
هز آرجان رأسه موافقاً بصمت، فابتعد قالان تاركاً رنيم خافضة البصر وآرجان يراقبه.. ولما أصبحا وحيدين، أمسك كتفي رنيم سائلاً بقلق "ما الذي جرى يا رنيم؟.. هل فعل ذلك الرجل بك شيئاً؟"
هزت رنيم رأسها نفياً وقالت بصوت خافت "لا.. لكني سمعت طرفاً من محادثة بين هذا الرجل ورجل آخر.. كانا يتحدثان عنك، لكني لم أفهم شيئاً مما قالاه.."
زفر آرجان معلقاً "لقد أفزعتني بتصرفاتك تلك.."
وجلس جانباً بتعب بينما جلست رنيم قربه متسائلة "ألا يقلقك ما جرى؟"
لوح بيده قائلاً "كما أخبرتك، الشعوب الأخرى تكره الهوت.. لابد أن هذين الاثنين يكرهان وجودي ويتمنيا الخلاص مني.. لكن لا يقدران على عصيان أوامر زعيمهم.."
صمتت رنيم بغير اقتناع محاولة إيجاد تفسير آخر لتلك المحادثة، ولما عجزت عن ذلك التفتت إلى آرجان قائلة بتوسل "لنهرب هذه الليلة يا آرجان.."
قطب آرجان قائلاً "كيف؟.."
قالت وهي تتلفت حولها "لنأخذ أحد خيولهم ونهرب به لأقرب مدينة.."
غمغم آرجان بغير اقتناع "أتشجعينني على السرقة؟"
اعترضت قائلة "لا.. سنطلق الحصان عند اقترابنا من المدينة، وهو سيعود لصاحبه بعدها بالتأكيد.. لكن لا نضمن سلامتنا في هذا المكان أبداً مهما حاول زعيمهم إقناعنا بذلك.."
هز آرجان رأسه قائلاً "ليس أبغض للأكاشي من هزيمتهم إلا سرقة خيولهم.. سنجد جحافلهم تتبعنا وسيقتلوننا بلا شفقة ولا رحمة، وهم لا يعرفون الرحمة أصلاً.."
قالت بصوت ينتفض "إذن هل نستسلم لوضعنا هذا؟"
زفر قائلاً "لو أنك لم تتسرعي في منح ذلك الرجل قلادتك الذهبية، لتمكنا من شراء أحد الأحصنة بها من الأكاشي.. لكنك ضيّعت فرصتنا الأخيرة.."
خفضت رنيم بصرها وقالت بشيء من المرارة لانتقاده الصريح "كان همّي أن أنقذ حياتك.."
شعر آرجان أنه قسى في انتقاده لها، فاعتدل قائلاً وهو يربت على رأسها "أدرك ذلك.. وأنا مدين لك بحياتي.."
ثم قال متطلعاً للسماء السوداء "كل ما يمكننا فعله الآن هو انتظار عودة كاجا ليخرجنا من هذا الجحيم.."
تساءلت رنيم بدهشة "كيف تثق أنه سيعود؟.. ربما قتله السمّ حقاً.."
هز رأسه قائلاً "لا.. لو كان سيموت لما بذل جهداً للطيران بحثاً عن علاج.. لابد أنه سيعود عندما يصبح قادراً على الطيران من جديد.."
تمتمت رنيم وهي تسند رأسها لذراعيها "أتمنى ذلك.. فلقد اشتقت إليه حقاً.."
لم يعلق آرجان وهو يستلقي بحثاً عن بعض الراحة.. رغم أن قلقه وتوتره من البقاء في معسكر الأكاشي، ووجود رنيم معه بالذات، يجعل النعاس يهرب من عينيه بمثابرة كبيرة.. وزاده حديث كابور عن التنين توتراً وتوجساً كبيراً..

*********************

في اليوم التالي، وقف آرجان في جانب المخيّم يدور ببصره في رجال الأكاشي من حوله.. كان يبحث عن وسيلة لمغادرة المخيّم دون أن يثير غضب البقية ودون أن يدفعهم لملاحقته بلا هوادة.. جال ببصره في المكان وهو يفكر بالوسيلة الأنسب لذلك دون فائدة، حتى رأى قالان يجلس منفرداً في أحد المواقع منشغلاً بشحذ سيفه.. وبعد تردد، تقدم آرجان منه وهو يفكر في وسيلة للاستفادة منه.. ربما شعر أن قالان لا يبغضه حقاً بعد أن وجّه له النصيحة في الليلة السابقة، وربما يمكنه الحصول على معلومات أكثر ببعض الحديث..
اقترب من قالان وقال "هل تريد بعض المساعدة؟"
نظر له قالان قبل أن يقول بسخرية "الأكاشي لا يحتاجون عوناً للعناية بأسلحتهم"
وطوّح سيفه في الهواء مضيفاً "ولا في قتل أعدائهم.."
صمت آرجان دون تعليق وهو يراقب الرجل في عمله.. ثم تساءل "أتعلم ما ينويه زعيمكم لنا؟.. هل ينوي إطلاق سراحنا في وقت ما؟"
حدجه قالان بنظرة صامتة، فأضاف آرجان "لقد أتيت لسهول الأكاشي بحثاً عن أختي التي اختطفت.. وعليّ الرحيل بأسرع ما يمكنني للبحث عنها في (مارِج).. وجودي هنا سيعطلني كثيراً.."
قال قالان بعدم اهتمام "لا يمكنك إجبار الزعيم على إطلاق سراحك.. ولا يمكنك الهرب طبعاً لأن الرجال سيمزقونك.."
زفر آرجان معلقاً "أدرك ذلك.."
ثم تساءل بشيء من الاهتمام "أما من وسيلة للحصول على موافقة الزعيم على رحيلنا؟.. ولشراء حصان من أحد الرجال هنا فالترحال على الأقدام سيكون صعباً؟.."
قال قالان بسرعة "شراء حصان مستحيل تماماً.. فهي أغلى من أرواحنا في سهول الأكاشي.. ولا يمكننا بيعها ولا مقايضتها بأي شكل من الأشكال.. أما الحصول على موافقة الزعيم فهذا أمر آخر، لكنه ليس أقل صعوبة.."
ثم أضاف ضاحكاً "في الواقع، قتل الزعيم والتهام قلبه، وبالتالي الوصول لزعامة هذه الجماعة من الأكاشي سيكون أسهل بالنسبة لك من الحصول على موافقة الزعيم على إطلاقكما دون قيد أو شرط.."
قال آرجان بضيق"أهذا وقت المزاح؟.."
ابتسم قالان وهو يتأمل سيفه معلقاً "لا تتحلّ بالأمل كثيراً هنا يا رجل.. اخضع لما يقوله لك الزعيم بصمت ودون اعتراض.. فهذا خير لك من أن تفقد حياتك بكل وحشية.."
نظر له آرجان بتقطيب، ثم غادر بصمت.. حديثه مع قالان لم يسهّل له الأمور بل جعلها أسوأ بالتأكيد.. وبينما دار آرجان ببصره في السماء ببعض الأمل، فإنه أدرك أن هربهما من جماعة الأكاشي لن تصبح أكثر سهولة ويسراً في أي يوم يمضي..

*********************

مضى يومان منذ تلك المحادثة انشغل فيهما الزعيم بإرسال رجاله لملاحقة بضع فلولٍ من أعدائهم والتخلص منهم، فظن آرجان أن ذلك الحديث عن التنين قد مُحي من ذاكرة كابور، وهذا بعث في نفسه شيئاً من الراحة.. وبينما بقيت رنيم منطوية في جانب المخيم محاولة ألا تلفت الانتباه إليها وهي تشعر بجلدها يقشعرّ من النظرات التي يلقيها عليها الأكاشي كلما عبروا قريباً منها.. فإن بصر آرجان بقي معلقاً في السماء على أمل أن يرى رفيقه الدائم يقترب منهما مرفرفاً بجناحيه العريضين.. لكن السماء الصافية والتي تخلو من أي سحب عابرة قد ظلت كما هي دون تغيير..
لذلك كانت دهشة آرجان عظيمة عندما استدعاه كابور في نهاية اليوم الثاني، قبل مغيب الشمس بقليل.. نظر آرجان لرنيم التي جلست في موقعها تراقبه بقلق، فقال لها "سأعود سريعاً.. فلا تقلقي.."
لكن هذا كان أبعد من أن يسبب لها أي هدوء أو راحة بال.. توجه آرجان لموقع كابور الذي جلس على كرسي وضع وسط الساحة حيث يلتقي برجاله ويعرف آخر أخبار مطارداتهم، وحوله عدد من رجاله لا يتجاوز عشرة رجال.. ولما رأى آرجان قال له بابتسامة "أتمنى أن تكون مستمتعاً ببقائك في مخيمنا هذا.. وأن تكون شاكراً لي حمايتك وتغذيتك طوال اليومين السابقين.."
لم يعلق آرجان على قوله بعد أن قضى اليومين السابقين نائماً في العراء برفقة رنيم دون أن يجرؤ أحدهما على إشعال النار للتدفئة، ومع الوجبات التي يرسلها لهما كابور والتي لا تكاد تكفي إلا شخصاً واحداً.. فأضاف كابور بعد أن لاحظ صمت آرجان "وأتمنى، بعد كل هذا، ألا تكون قد نسيت وعدك لي.."
غمغم آرجان بتقطيبة "أتعني......"
هز كابور رأسه إيجاباً وقال "بلى.. أنت تدرك ما أعنيه.. وهذه هي فرصتك لإثبات حسن نيتك.."
وركل جراباً جلدياً كان عند قدميه مضيفاً "هذا الجراب يحوي قربة ماء وبعض الطعام اللازم لرحلتك هذه.. وسأمنحك فوق كل هذا حصاناً.. سأمنحك عدة أيام للذهاب والعودة بما طلبته، وسيرافقك سيشاك ليتأكد أنك ستعود بالفعل.."
اقترب آرجان من موقع كابور وتناول الجراب وهو يفكر بصمت.. هل يطلقهما الأكاشي حقاً بعد كل ذلك الوقت؟.. هل تغلّب طمع الزعيم على حسن تفكيره بحيث يسمح له بالرحيل برفقة رجل واحد؟.. لن يكون التخلص من ذلك الرجل صعباً حتى لو كان من الأكاشي.. هذه فرصة عليه ألا يفلتها أبداً..
سمع كابور يضيف وهو يستند على الكرسي بذراعه "طبعاً، من الجليّ أن الفتاة ستبقى هنا حتى عودتك.."
نظر له آرجان بدهشة وصدمة، بينما رفع كابور إصبعه في إشارة لأحد رجاله.. ولم يلبث أحدهم أن انطلق نحو جانب المخيّم ليعود بعد قليل برنيم المذعورة وهي تحاول الإفلات صائحة "أطلقني.. ما الذي تبغيه مني؟"
قطب آرجان وهو يقول للزعيم "لا يمكنني ترك الفتاة هنا.. كيف أضمن أنكم لن تمسّوها بأذى؟"
قال كابور بابتسامة "كلمتي هي الضمان الوحيد.. اذهب وعُد بأسرع ما يمكنك إن كنت تخشى عليها حقاً.."
نظر آرجان لرنيم المرتعبة والتي قالت بصوت يرتجف "سترحل؟.. إلى أين؟.. هل ستتركني؟.."
التزم الصمت وهو يفكر في عواقب رفضه ذلك الأمر، بينما فهمت رنيم من صمته أنه عازم على الرحيل حقاً.. فصاحت بانتفاضة "لا تفعل.. لا تتركني يا آرجان.. أرجوك.."
لوى الرجل الذي يمسك بها ذراعها وهو يقول "لا تتعبي نفسك بهذا الصياح.."
فقال آرجان بغضب "أطلق الفتاة يا هذا.."
لم يستجب له الرجل بينما أسقط في يد آرجان في تلك اللحظة.. فأين المخرج من هذه الورطة؟.. حتى لو حاول اختطاف رنيم من بين أيديهم، فهو يعلم، كما يعلم الجميع في هذه السهول، أن الأكاشي هم الأسرع والأمهر في امتطاء الخيول.. كيف يمكنه أن يهرب منهم بحصان يخصهم دون أن يقع في قبضتهم من جديد ودون أن يقع طائلة أفعاله التي تنطوي على إهانة عميقة لزعيمهم؟.. وأي موضع يمكن أن يؤويهم وهذه السهول ملكٌ لهم ولقبائل أخرى مماثلة من الأكاشي والتي ستكون عوناً عليهم فور أن تدرك هويتهم؟..
سمع رنيم تصيح بارتعاب "آرجان.. لا ترحل.."
ضحك كابور وهو يقول "لا داعي لهذا الغضب يا آرجان.. مادام الأمر صادراً مني، فأنت لا تملك إلا التسليم التام.."
ظل آرجان في موقعه وحديث قالان في ذلك اليوم يعود إليه واضحاً بكل تفاصيله، ثم استدار إلى كابور من موقعه القريب مغمغماً "من قال ذلك؟"
وقبل أن يدرك كابور ما يجري، كان آرجان قد استلّ خنجره المخفيّ في ثيابه والذي لا يتخلى عنه بتاتاً.. فهجم على كابور الذي بوغت بما جرى وأغمد الخنجر في صدره، لكن كابور تصرف بسرعة وهو يقبض على عنق آرجان بقوة ويعتصره بيديه.. لكن آرجان دفع الخنجر عميقاً في صدر غريمه وأداره بقوة شهق لها كابور قبل أن يسقط جثة هامدة من على كرسيّه وهو متشبث بآرجان بشدة.. لم يحاول آرجان التنصل من قبضة كابور التي تيبست على ملابسه بل انشغل بجذب خنجره قبل أن يعود به لجسد كابور فيحدث في صدره شقاً بسرعة وسط النظرات الذاهلة لمن انتبه له من الرجال..
وفور أن تمالك بعضهم نفسه، استلّ كل منهم سلاحه متقدمين من آرجان وأحدهم يقول بغضب "أيها الخائن.."
لكن آرجان كان قد رفع يده ليرى الرجال بوضوح قلب زعيمهم المقتول يستقر في راحة يده.. ثم سرعان ما دفع آرجان القطعة إلى فمه وقضم منها قضمة كبيرة تبعها بأخرى حتى انتهى من التهام القلب كاملاً في وقت قصير.. عندها وقف سانداً قدمه على صدر الجثة الهامدة صائحاً بالرجال "حسب تقاليد الأكاشي التي تعرفونها تمام المعرفة، أنا زعيمكم الآن.. ولا يحق لأحدكم الجدال في الأمر.."
تجمد الموقف في المخيم، فصاح آرجان موجهاً حديثه للرجل الممسك برنيم "اترك الفتاة الآن.."
تخلى الرجل عنها بتلقائية، بينما وقفت رنيم بصدمة لمرأى آرجان الذي لطخ الدم وجهه وملابسه وجزءاً كبيراً من ذراعيه.. لكن بإشارة من رأسه، أسرعت إليه متغاضية عن ذلك حتى اختبأت خلفه متشبثة به بقوة..
أما بقية الرجال، فقد تجمدوا وهم يتطلعون لآرجان الذي أمسك خنجره بقوة قائلاً "حسب القوانين، عليكم إطاعتي دون جدال.. أنا الزعيم، وما أقوله هو القانون.."
قال أحد الرجال بسخط "لكنك لست من الأكاشي.."
قال آرجان مقطباً "بل أصبحت منكم قبل وقت قصير.. أم أنكم نسيتم ذلك؟"
علق رجل آخر وهو يمسك سيفه بقوة "لكننا لم نقبلك بيننا قط.. ذلك قرار اتخذه كابور مخالفاً به كل قوانين الأكاشي.. يمكننا أن نقضي عليك في لحظة واحدة فنحن أكثر منك قوة.."
قال آرجان دون أن يطرف لهذا التهديد "إذن ستجلبون لأنفسكم العار لأنكم تخلصتم من زعيمكم بهذه الوسيلة التي لا يستخدمها إلا جبان رعديد.."
تجمد الرجال في مواقعهم متبادلين النظرات، فقد يقبل الأكاشي الموت لكنه لا يقبل الفضيحة ولا العار.. فصاح آرجان بصوت أعلى "إن أردتم إزاحتي، عليكم مبارزتي واحداً لواحد.. الشخص الذي سيتمكن من قتلي على مرأى من الجميع وينتزع قلبي من موضعه، سيكون جديراً بأن يصبح زعيم الأكاشي.. وحتى ذلك الحين، عليكم التسليم لي دون جدال.."
تقدم قالان، وهو اليد اليمنى للزعيم السابق، قائلاً "إن سلمّنا لك بالرئاسة، عليك أن تكون جديراً بها.. لو أدرت ظهرك للقبيلة، فلن يرضى رجالها بأقل من حياتك، ولن يكون قتلك بالسهولة التي قد تتخيلها.. ستتمنى الموت ألف مرة قبل أن تحصل عليه بالفعل.."
قال آرجان بحزم "أدرك ذلك طبعاً.."
نظر الرجال لبعضهم البعض، بينما أغمضت رنيم عينيها بذعر شديد وهي تتنتظر اللحظة التي سيستلّ الرجال فيها أسلحتهم ويغمدونها في صدر آرجان.. فما الذي سيحلّ بها بعد ذلك؟.. لكنها سمعت الرجال يقولون بصوت واحد "الطاعة والولاء لزعيم الأكاشي آرجان ذا القرن، طاعة وولاءً غير مشروطين ولا متذبذبين.. والموت للخائن منا.."
نظرت رنيم بدهشة لترى الرجال من حولهما راكعين أرضاً وخافضي رؤوسهم بتسليم لآرجان الذي وقف باعتداد ينظر لمن حوله.. ولما ألقى الرجال العهد، ومن عادتهم إطلاق لقب (ذو القرن) على أي زعيم جديد، قال آرجان بصوت عالٍ وواضح "أنا زعيم الأكاشي منذ اللحظة.. والويل لمن يحاول خيانتي.."
لم يعلق الرجال بكلمة وهم ينهضون بصمت، فقال آرجان لقالان "احملوا جثة زعيمكم السابق وادفنوها بشكل لائق.."
غمغم قالان وهو يشير للرجال من حوله "لا يوجد دفن لائق لجثة.. إنه سيوضع في حفرة ويهال عليه التراب كما نفعل بجميع الجثث التي ندفنها.. في الموت الكل يصبح سواءً.. هذا هو مذهب الأكاشي.."
لم يعلق آرجان بكلمة والرجال يتفرقون من حوله بصمت وتسليم، وإن رأى في الوجوه عدم رضىً وسخط واضح، لكنه اكتفى بالصمت دون أن يعلق بكلمة.. وبعد أن خلا الموقع من البقية، جذب آرجان رنيم التي ظلت مختبئة خلفه دون أن يخفت ذعرها.. فوضع آرجان يديه على كتفيها وواجه عينيها متسائلاً "أأنت بخير؟"
تدافعت دموعها وهي تنتفض بشدة قائلة "كيف فعلت ذلك؟.. سيقتلونك يا آرجان.. سيقتلونك.."
أحاط آرجان وجهها بيديه وهو يهمس "لا تخافي يا فتاتي.. كل الأمور ستكون على ما يرام.."
لم تتوقف دموعها عن الانحدار ومشاعرها تتداعى بشدة، فجذبها خلفه عبر المخيم نحو خيمة الزعيم بثقة دون أن يجد اعتراضاً ممن مر به من الرجال، ولما دخل الخيمة شعرت رنيم بدفء لم تشعر بمثله منذ وصلا لهذه السهول، بعد أن قضيا الأيام والليالي السابقة في العراء تلفحهما البرودة التي لا تطاق.. وجدت آرجان يجلسها على الفراش الوثير في الخيمة، فانطوت في موقعها مولية ظهرها له بينما جلس هو على طرف الفراش بصمت.. كانت لا تقدر على النظر في عينيه، فمنذ وصولهما لسهول الأكاشي وهو يتصرف بغرابة تامة.. بدا متوحشاً أكثر من الأكاشي أنفسهم، رغم أنه حاول تبرير أفعاله بأنه يسعى لحمايتها وحماية نفسه من الأكاشي.. والآن مع رائحة الدماء الواضحة التي تزكم أنفاسها والمنبعثة منه، فإن رجفة تصيبها في صميم أعماقها.. ولا يهدؤها المنظر الذي رأته سابقاً حيث وقف مسنداً قدمه لصدر جثة كابور حاملاً قلبه بيد وخنجراً دامياً في اليد الأخرى..
شعرت بلمسة أصابعه الحانية على شعرها، وهمس بخفوت "رنيم.."
لكنها عزفت عن إجابته وهي تغمض عينيها بقوة.. مع كل لحظة تمضي وهي في هذه السهول، تتزايد المشاهد والخبرات التي تودّ لو لم ترها قط.. وتودّ لو تتمكن من نسيانها بلمسة ساحر..
سمعت آرجان يقول زافراً "لا تفزعي مما رأيته يا رنيم.. كان عليّ أن أفعل ذلك لأنقذك.. لو حاولت المقاومة، ولو اكتفيت بقتل زعيمهم دون أن أحصل على منصبه، كان جمع الرجال أولئك سينقضّ عليّ وينهش جسدي في لحظات معدودة.. ولو لم أفعل كل هذا، لكانوا أجبروني على الرحيل، وبقيتِ وحيدة في هذا المخيم حتى أعود.. أظننت أنهم سيحفظون وعدهم لي بعدم لمسك؟.."
قالت رنيم بمرارة "لكنهم سيقتلونك.. لقد أعطيتهم سببباً أكبر ليفعلوا ذلك.."
ربت على كتفها قائلاً "لا تقلقي.. لن يصلوا إليّ بسهولة.. ستكونين بأمان معي.. الآن كل ما علينا فعله هو انتهاز الفرصة الملائمة للرحيل.."
لم تجبه رنيم وهي تشعر بذعرها وتوجسها يتزايدان مع كل لحظة تقضيها في هذا المخيم.. وبعد مضي بعض الوقت، ومع الدفء والفراش الوثير ولمسات آرجان الحانية التي تخللت شعرها، غرقت رنيم في نوم عميق بعد أن قضت لياليها السابقة في المخيم مسهدة تراقب ما حولها وترقب آرجان من طرف خفي خشية أن يصيبه مكروه..
وبعد أن استغرقت رنيم في النوم، شعر آرجان بحركة قرب مدخل الخيمة.. فنهض من موقعه واقترب من المدخل بحذر ويده على الخنجر.. لكنه رأى قالان يدخل الخيمة دون إذن فيلقي نظرة على رنيم النائمة قبل أن يقول لآرجان "والآن، بعد أن أصبحت زعيم الأكاشي، ما الذي تنوي فعله؟"
قال آرجان وهو يتوجه نحو الكرسي الفخم وسط الخيمة "وما الذي تتوقع مني فعله؟"
رآه قالان يجلس على الكرسي بكل هدوء وكأن الكرسي، والمنصب، حق طبيعي له.. فقال قالان محذراً "لا تغترّ بالعهد الذي ألقاه الرجال أمامك.. لا يزالون قادرين على انتزاع هذا المنصب المهم منك.. وولاؤهم لزعيمهم السابق لا ينطبق عليك بحال.."
قال آرجان بهدوء "لا يخيفني ذلك.. المحاولات الفردية لا تثير قلقي بتاتاً.. أما خيانة جماعة منهم لي فهذا أمر آخر.."
ثم تفحص قالان معلقاً "وماذا عنك؟.. ألن تنتهز فرصة كهذه؟"
قال قالان مديراً بصره بعيداً "لست بهذا الحمق.. سأكتفي بما أنا عليه الآن.."
صمت آرجان للحظات، فتقدم قالان ليجلس على كرسي قريب وهو يقول "استمع إليّ.. أنا أعرف السبب الذي دعاك لما فعلته، وأعلم أنك تنوي الرحيل في أقرب فرصة.."
ونظر نحو الفتاة النائمة مضيفاً "لا ألومك على ذلك، ولا أدري ما جاء بكما لهذه الأنحاء، لكنك رجل.. عليك أن تتحمل القرارات التي تتخذها مهما كانت.."
فقال آرجان "لستُ بحاجة لنصائح من أحد.. سأفعل ما أفعله دون حاجة لتوجيه من أحد.."
ونظر لقالان مضيفاً بابتسامة "فأنا الزعيم الآن.. أليس كذلك؟"
بدت نظرات قالان جامدة لا تشي بما يعتمل في صدره، لكنه قال بعد لحظة صمت وهو ينهض واقفاً "عليك أن تأخذ نصائحي بجدية.. فأنا أعلم منك بالأكاشي وبقوانينهم.."
وتوجه نحو مدخل الخيمة مضيفاً "الأفضل أن تغتسل وتستبدل ملابسك الغارقة بالدماء.. رائحتك كفيلة بإطاحة الفتاة مغمىً عليها.. وربما كان من حسن حظها أنها نائمة.."
نظر آرجان لملابسه الرثة والتي زادتها الدماء سوءاً، وألقى نظرة على رنيم التي استغرقت في نوم عميق، ثم زفر وهو ينهض ويغادر الخيمة بصمت.. عليه أن يكف عن القلق في الوقت الحالي، فبمنصبه الجديد، لا يجرؤ رجل على إلحاق الأذى برنيم.. أما هو، فأمر آخر بكل تأكيد..
وفي جانب المخيم، حيث يضع الأكاشي مخزون المياه الخاص بهم في بضع جرار تجرها الخيول في إحدى العربات عادة، قام بنزع قميصه الغارق بالدماء محتفظاً ببنطاله.. ورغم البرد الشديد الذي بدأ يتزايد مع بدء تلك الليلة القارسة كعادة كل ليلة في هذه السهول، فإن آرجان مسح وجهه وجسده بالمياه الباردة كالثلج وغسل يديه من الدماء التي صبغت أصابعه بلونٍ أحمر قانٍ.. شرب الكثير من المياه محاولاً أن يغسل طعم الدماء الذي يشعر به يزكم أنفه ويلتصق بجدار حلقه بشكل يسبب له الغثيان..
رغم تفرده في ذلك الموقع وحيداً بوجود بقية الأكاشي حول النار وسط المخيّم، إلا أنه لم يكن يخشى هجوم أي رجل من الأكاشي عليه.. فبدون شهود، لا يمكن لأحدهم انتزاع الزعامة منه فهم لا يتسللون ويقتلون زعيمهم غيلة أبداً، ومن يفعل يُقتل دون هوادة.. لذلك ظل آرجان يغتسل دون حذر حتى سمع تلك الخطوات التي تسللت من خلفه، ولما استدار فوجئ بتلك الضربة التي أصابت رأسه بقوة كانت كافية لتسقطه فاقد الوعي على الفور بينما انبثقت الدماء من رأسه.. بينما غمغم المهاجم بمقت "زعيم؟.. هذه مزحة سخيفة أيها الحقير.."
جاءه صوت رجل من خلفه يقول بقلق "هل مات؟.. لقد نصحتك أن تخفف هجومك وتكتفي بإفقاده توازنه، وبعدها نقيده فلا يقدر على الهرب أبداً.."
قال الأول وهو يرمي وتداً خشبياً ثقيلاً من يده "لا.. لو لم يفقد وعيه، فستكون مقاومته شرسة.. لننتهِ مما نفعله قبل حضور آخرين.."
لم يعترض الثاني وهو يتقدم حاملاً حبلاً غليظاً في يده ويقلب آرجان على وجهه مقيداً يديه خلف ظهره بإحكام شديد..

*********************

انتبهت رنيم من نومها فجأة بتوجس شديد.. لم تدرِ كم ساعة مرت عليها وهي نائمة بإنهاك، لكن بدا واضحاً من النور الخافت الذي أضاء جوانب الخيمة أن النهار في بدايته.. تلفتت حولها في الخيمة الخالية ملاحظة غياب آرجان، وبذعر شديد، وتوجس أشد من معنى غيابه هذا، قفزت واقفة وخرجت من الخيمة لا تلوي على شيء.. وخارجها، كان أول ما لفت انتباهها هو تجمع عدد كبير من الرجال في جانب المخيم والعبوس يبدو بوضوح على وجوههم.. تلفتت رنيم حولها بحثاً عن أثر لآرجان، لكنها لم تعثر له على أثر..
ضمّت يديها لصدرها بقوة وهي تهمس لنفسها "أيكون هذا التجمع لسبب يخص آرجان؟.."
ترددت بين اللجوء للخيمة الآمنة، لو صح القول، وبين التقدم للجمع والبحث عن سبب اختفاء آرجان.. ظلت على ترددها عندما رأت قالان يتقدم من جانب المخيّم، فهرع إليه بعض الرجال وأحدهم يقول "لقد اختفى.. بحثنا عنه في كل مكان، ولم نعثر له على أثر.. من المؤكد أنه لم يغادر المخيم سيراً على الأقدام.."
تساءل قالان "والخيول؟.."
أجابه آخر "كاملة العدد.. لم يسرق أحدها ويهرب بها.. لم يختفِ إلا باكين الذي أرسلته أنت لإحدى القبائل القريبة.."
فقال الأول "ثم إن الفتاة لا تزال هنا.. فكيف يهرب ويتركها وحيدة وقد كان أشد الحرص عليها؟.."
غمر الارتياع رنيم وهي تدرك أن الحديث يدور عن آرجان.. أهو مختفٍ من المخيم؟.. متى؟.. كان موجوداً حتى غابت في نوم عميق قبل ساعات معدودة.. فما الذي جرى في غيابها؟..
حاولت أن تتذكر حديثه قبل نومها لعله لمّح لما ينوي فعله.. لكن كل ما دار بينهما لا يوحي بأنه ينوي الهرب وتركها وحيدة في هذا المكان..
لاحظت أن قالان التفت ينظر إليها بعبوس، بينما قال أحد الرجال "بالحديث عن الفتاة.. ألا تظنون أنها قد تعرف شيئاً عن اختفاء ذلك اللعين؟.."
وافقه الرجال بهز رؤوسهم مطالبين باستجوابها، فهربت رنيم عائدة للخيمة وقلقها يتضاعف بشدة.. تمنّت لو أتى قالان ليسألها عن الأمر وحيداً، لكن تجمهر كل هؤلاء الرجال حولها أشد من أن تطيقه..
لكن أمنيتها لم تتحقق كما أملت رنيم، فسرعان ما رأت قالان يدلف الخيمة يتبعه عدد من الرجال لم تتمكن من إحصائهم.. تراجعت رنيم للجانب البعيد من الخيمة وقالان يسألها "أين آرجان؟.. لقد اختفى من المعسكر دون سبب مفهوم.. فهل تعلمين أين ذهب؟.."
هزت رنيم رأسها بذعر وهي تنكمش بشدة.. فقال قالان عابساً "لا يمكن أن يتبخر بهذه الصورة.. ألم يخبرك بأي شيء في آخر ساعة رأيته بها؟.."
هزت رأسها من جديد بقوة، ثم بصوت يرتجف أخبرته بآخر ساعة رأت آرجان فيها وما دار بينهما من حديث.. وأثناء ذلك، كانت تضمّ ذراعيها لجسدها منكمشة وراودتها رغبة شديدة بالاختباء من عشرات الأعين المتطفلة التي تسللت إليها من كل اتجاه.. لكنها تجنبت أن تلاقي تلك الأعين بعينيها وكأنها بذلك تتناسى وجود الرجال من حولها.. ولما أنهت حديثها، صمت قالان مفكراً بجبين مقطب، بينما قال أحد الرجال بشيء من الاعتراض "ألا ترون أنها تكذب؟.. لابد أنها تخفي أمر آرجان عنا.."
قال آخر بسخرية "وربما هرب ذلك الجبان متخلياً عن امرأته بكل خسة.."
لم ترفع رنيم بصرها فيمن حولها وهي تفكر بذعر.. لا يمكن أن يكون آرجان قد هرب.. لا يمكن أن يكون قد ضاق بوجودها وأتعبه عبء رعايتها فقرر التخلص منها للأبد.. آرجان ليس بهذه الخسة، أليس كذلك؟..
سمعت رجلاً آخر يقول بهزء "لو استجوبنا هذه الفتاة، فلابد أن نحصل على بعض الحقائق.. لابد أنها تخفي ما لم تظهره لنا، أليس كذلك؟.."
اتسعت عينا رنيم بذعر وثالث يقول بضحكة خبيثة "أجل.. لمَ لا نفعل ذلك؟.."
سرت رجفة في جسد رنيم وهي ترفع بصرها فيمن حولها.. ولما رأت الشرر ينبع من الأعين الغريبة، ولما بدأت ابتسامة خبيثة ترتسم على الشفاه، أدركت رنيم في أي مأزق وقعت وهي وحيدة في هذه السهول البعيدة عن أي أراضٍ مأهولة بالسكان.. وحيث الكلمة الأخيرة للأكاشي الذين لا تعرف قلوبهم رحمة أو شفقة..

*********************

bluemay 18-12-15 02:07 PM

رد: على جناح تنين..
 
ييي عالوحشية ..!!!


فعلا طريقها مش مفروش بالورود

عن جد قشعر بدني من بشاعة اﻷكاشي وقسوتهم

وآرجان كانه ما بتعرفو بس ما بلومو كان مجبور انه يتوحش ليحمي رنيم..


كاجا إمتى رح يرجع ؟!!

ورنيم هل ممكن يصيرلها شي من هدول الوحوش ؟!


عندي شعور انه ممكن كاجا يوصلها ﻷنه آرجان مش ممكن يفك قيوده ويغلب عاللي غدروا فيه

عندي شعور انهم قالان وبركان مدري شو سمه اللي سمعتهم رنيم هديكت اليوم وهم بحكو ع آرجان



يسلمو ايديك حبيبتي


ابدددعتي بروعة الوصف والسرد اللي عيشنا اﻷجواء معهم


متشوققة للجاي

تقبلي مروري وخالص ودي


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 18-12-15 04:11 PM

رد: على جناح تنين..
 
تفاعلك هذا مع الرواية يسعدني
لأنه يدلني على اندماجك بها وبأحداثها
رغم كل الوحشية ^ــ^
آرجان ربما كان مختلفاً، لكني لم أحب جعله رقيقاً وطيباً أكثر من اللازم
قسوته هذه دائماً تكون لصالح رنيم
المهم أنها تتفهم ذلك رغم كل شيء
الفصلين القادمين سيجيبان على أسئلتك هذه بخصوص مصير رنيم مع الأكاشي

{{على فكرة.. روايتي القادمة تتحدث عن هؤلاء الأكاشي بالذات ^ــ^
لذا أتمنى أن تستمتعوا بها كاستمتاعكم بهذه الرواية
سيكون لها طابع مختلف، وستكون بطلتها مختلفة كذلك
وسأبدأ نشرها بعد هذه الرواية بإذن الله}}

bluemay 18-12-15 04:22 PM

رد: على جناح تنين..
 
أحلى خبررررر

الله يسعدك فرحتيني كتير


وانتي تستاهلي التفاعل ﻷنك مبدعة واخدتيني لعوالم خيالية رائعة

الله يستر من هدول اﻷكاشي

خايفة ومتوترة منهم طباعهم قاسية ووحشية كتير

بس اكيد متابعتك إن شاء الله


تقبلي مروري وخالص ودي

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 18-12-15 07:48 PM

رد: على جناح تنين..
 
http://orig13.deviantart.net/54ff/f/...on-d6me1r8.gif
يسعدني ذلك
توقعت أن لا يعجبكم الأمر نظراً لتعلقه بهذه القبائل الوحشية
لكن ثقي أن الرواية ستكون ذات طابع مختلف ولن تركز على هذه التصرفات الوحشية بشكل كبير
سترون وجهة نظر مختلفة وستعيشون معهم وتتآلفون مع حياتهم
شكراً لكلماتك الجميلة وتشجيعك لي
لن أتأخر طويلاً بعد إنهاء هذه الرواية في نشر الرواية القادمة بإذن الله..

فيت المشاكسه 19-12-15 02:57 AM

رد: على جناح تنين..
 
سلمت يداك شكرا على البارتين واكيد رنيم حياتها مابتكون ورديه بس ماتوقعت يلي وصلوله لدرجه يظطرو ياكلو قلب بشر شخصيه ارجان حبيتها شهم وعنده حكمه بس الله يعينه على رقه رنيم وتهورها لانه حيقاسي كثير ليحميها في انتظارك حبيبتي

عالم خيال 19-12-15 08:32 AM

رد: على جناح تنين..
 
لا تخشي شيئاً يا عزيزتي فيت
ستكون هذه القبائل هي أقسى ما ستمر به رنيم في رحلتها هذه (ربما؟)
يسعدني أن تكوني متعاطفة مع آرجان ^ــ^ فهو بالفعل طيب رغم أنه يتعامل مع الأمور بطريقة قاسية نوعاً ما
وبعد نهاية الفصل السابق، سنرى إن كان آرجان هو من سيحمي رنيم أم أن الأمور ستنقلب على رأسها بالفعل

عالم خيال 19-12-15 08:37 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الحادي عشر: طوقا وما خلفها


عندما فتح آرجان عينيه، بعد مدة طويلة قضاها في غيبوبة بعد تلك الضربة التي أصابت رأسه، لاحظ على الفور القيود التي تغلّ يديه وقدميه بإحكام، بينما تم وضعه في عربة خشبية تجرها بعض الأحصنة بالإضافة لأمتعة وصناديق عديدة بحيث لا تمنحه إلا جزءاً ضئيلاً ليجلس فيه.. نظر آرجان لما حوله بشيء من الدهشة، ملاحظاً أن تلك العربة كانت جزءاً من قافلة متوسطة الحجم تسير على طريق من الطرق التجارية التي تقطع سهول الأكاشي.. ظل بصدمة لما يراه وهو يحاول تذكر ما جرى له.. لقد كان على وشك الانتهاء من غسل جسده من الدماء التي غمرته، والآن هو مقيدٌ في عربة خشبية بجذعٍ عارٍ ورأسٍ مضمدٍ بإهمال وصداعٍ شديد.. فما الذي جرى؟.. وأين رنيم؟.. أين رنيم؟..
تململ محاولاً التخلص من قيوده وشيء من التوجس يملأ صدره، عندما سمع صوتاً مرحاً يقول "هل استيقظت أخيراً يا زعيم؟.."
التفت لمصدر الصوت ليرى ذلك المدعو باكين يسير قرب العربة على ظهر حصانه وهو يضيف "جيد أنك قضيت الوقت كله نائماً، فلم أكن أرغب بأي متاعب.. نحن على وشك الوصول لوجهتنا، وعندها سأتخلص منك كما ستتخلص مني بالتأكيد.."
فقال آرجان بحدة "ما معنى هذا؟"
قال باكين بابتسامة ساخرة "معناه أنني اختطفتك من المخيم وأنت الآن على بعد عدة أميال منه.. ولديك موعد هام مع قدرك، وقدري، في ميناء (طوقا).."
صاح آرجان "لماذا؟.. ما هدفك من هذا كله؟.. وأين الفتاة؟"
أجاب باكين ضاحكاً "الفتاة؟.. لا تزال في المخيم مع جماعة الأكاشي اللطيفة تلك.. وبعد اختفائك، فإن طائلة ذلك ستقع عليها هي.. فلا تقلق لشأنها بتاتاً.."
أصاب آرجان غضب شديد لما يسمعه وارتياع لكل ما جرى.. لكن مهما حاول التخلص من قيوده فإن جهوده باءت بالفشل.. فقد تم مدّ ذراعيه متعاكستان على جذعه، وربطهما بحبل قوي يحيط بجسده من الخلف، بينما قيّدت قدماه بإحكام بحيث لا يقدر على تحريكهما أبداً.. فكفّ عن المقاومة التي تنهكه وهو يفكر بوجهتهم.. لمَ فعل هذا الرجل ما فعل؟.. ولمَ يذهب به لذلك الميناء؟.. لو كان يريد قتله لفعل ذلك في المخيم.. فما الداعي لاصطحابه هذه المسافة كلها؟.. سمع باكين يعلق على نظرات القلق التي تبدت في عينيه "لا تتعب نفسك بالتفكير.. ستعرف كل شيء خلال ساعة على الأكثر.."
ولكز حصانه ليتقدم من قائد تلك القافلة ويحثه على الإسراع في سيره.. بينما زفر آرجان وهو يرفع بصره بمرارة شديدة للسماء فوقه، وللسهول التي امتدت حولهم على امتداد البصر.. ترى، ما الذي جرى لرنيم الآن؟.. وأي مصير تواجهه في هذه اللحظات دون أن يتمكن من العودة إليها بأي شكل من الأشكال؟..

*********************

عندما بدأت رنيم رحلاتها هذه، كانت تدرك أن الحياة لن تكون جميلة وسلسة كما كانت في قصر أبيها.. كانت تدرك أن الشقاء والبؤس قد يعكران صفوها، وكانت واثقة أنها ستعاني الكثير لتمضي الأيام دون أن تهزمها المصائب.. لكن ما حملها لاتخاذ هذه الخطوة، هو وجود آرجان كعونٍ لها، ووجود كاجا كوسيلة أكثر أمناً للترحال بعيداً عن المخاطر على الأرض.. لكنها في أيام معدودة فقدت هذين الإثنين، وأصبحت بلا حماية وبلا معين فيما تواجهه.. وما تواجهه الآن قد يكون أقسى من أي شيء تخيلته في حياتها، هذا لو بقيت على قيد الحياة بعدها.. فلا تزال الجثث التي افترشت الأرض في موقع غير بعيد عن هذا المكان حاضرة في ذهنها في تلك اللحظة..
وفي تلك الخيمة التي منحتها الأمان والدفء لليلة واحدة، ووسط جمع من الرجال خبيثي الشكل والرائحة والأفكار، وفي اللحظة التي التقت عينا رنيم بقالان، أدركت أنه لن يكون في عونها أبداً.. العبوس الواضح في ملامحه يخبرهـا بمدى غضبه لاختفاء آرجان، وصمتـه لما قاله الرجـال بدا موافقة ضمنية لهذه الاقتراحات.. لذلك لم تتأخر رنيم ثانية في اتخاذ التصرف الوحيد للنجاة من هذا الموقف، إذ استدارت ورفعت جانب الخيمة خلفها وانسلت منها بأسرع ما تستطيع قبل أن يفطن أي من الرجال لما تفعله.. وبينما أطلقت ساقيها بالركض وسط المخيم، سمعت الصياح الذي اندلع من الخيمة، وأدركت أنهم سيكونون على إثرها في لحظات معدودة..
لكن أين يمكنها الهرب في مخيم مفتوح كهذا؟.. وجّهت نفسها نحو الحل الأمثل، وهو مربط الخيول الواقع في جانب المكان، لكن كيف ستهرب بإحداها وهي لا تملك القدرة على امتطائها؟.. هل يشبه ركوب التنانين ركوب الخيول بأي شكل من الأشكال؟.. لم تملك ترف البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة وهي تسمع الصياح يتعالى من خلفها والأقدام تدك الأرض بشدة.. وبعد برهة قصيرة وجدت تلك اليد التي شدتها من ملابسها غير عابئة بصراخها وأسقطتها أرضاً بعنف، وظهر أمامها وجه أحد الرجال وهو يصيح بابتسامة وحشية "لديك الصفاقة الكافية للهرب يا ضئيلة.."
شعرت رنيم بقلبها يقفز عند حلقها لقوة دقاته وهي تنظر للرجل بعينين متسعتين، ثم حاولت أن تركله أو تعضه لتهرب قبل وصول آخرين، لكنه صفعها بقوة وثبتها في موقعها بيد واحدة.. ثم وجدت عدداً آخر من الرجال يحيط بها والأيدي تمتد إليها بلا تمييز.. انكمشت رنيم بذعر مميت وهي تحاول المقاومة وتسمع أحد الرجال يقول ضاحكاً "ليت ذلك الجبان هنا ليشهد ما يحل بامرأته.. ستكون رؤية انفعالاته ممتعة حقاً.."
قال آخر "أيها الأحمق، لو كان مهتماً بها لما هرب وتركها.."
دوّت كلمته في رأس رنيم وهي منكمشة على نفسها وقلبها يكاد يتوقف من الذعر والدموع تطفر من عينيها.. ومن بين صراخها المذعور، ومن بين الضحكات المقيتة، سمعت صرخة ذعر جمّدت الرجال من حولها للحظات ودفعت رنيم لتفتح عينيها بقلب واجف.. فكان كل ما رأته، من بين جمع الرجال من حولها، هو جسد أحد الرجال الذي طار في الهواء ليرتمي جانباً.. وبينما التفت الآخرون لما حولهم بدهشة، فوجئوا بآخر يرتفع عالياً مطلقاً صيحة مرتعبة قبل أن يطير بدوره أمتاراً عدة ويسقط أرضاً بكل عنف..
التفتت رنيم، كما فعل الرجال، لذلك الظل الذي هيمن عليهم، عندها فوجئوا برؤية ذلك التنين أبيض اللون الذي أطلق صيحة مزمجرة في وجوههم وهو يضرب رجلاً بيده ذات المخالب ويلطم آخر بذيله بعيداً..
تصايح الرجال بذعر لمرأى التنين الذي لم يروا مثله في تلك الأنحاء، وسرعان ما انفضّ الجمع من حولها والرجال يتراكضون مبتعدين بحثاً عن أسلحتهم.. عندها لم تكذب رنيم خبراً وهي تقفز واقفة وتندفع نحو التنين الهائج بساقين ترتجفان وقلبها يدق بقوة.. لم تصدق أن النجدة ستأتيها في لحظة يائسة كهذه، ولم تصدق أنها ستكون عبر كاجا الذي ظنت أنها لن تراه مرة أخرى.. أطلق التنين صيحة غاضبة أخرى نحو الأكاشي المتجمدين برعب لم يشهدوه من قبل، ومما زاد ذهولهم رؤية رنيم التي اندفعت نحو التنين غير عابئة بصياحه، فأسرعت تمتطيه بشيء من الجهد قبل أن تربت على عنقه وهي تقول "يكفي هذا يا كاجا.. لنرحل.."
كان الأكاشي قد تمالكوا أنفسهم بعد أن أدركوا نيّة رنيم للهرب، وتقدم بعضهم حاملاً سيفاً وهو يطلق صيحة قتالية.. لكن التنين ارتفع بقفزة واحدة وأثار الغبار في الموقع بجناحيه قبل أن ينطلق بسرعة مرتفعاً في السماء..
أطلقت رنيم زفرة قوية وهي لا تكاد تملك جسدها من الارتجاف.. كيف يمكنها أن تتناسى موقفاً قاسياً كالذي مرت به؟.. كيف تنسى ما شعرت به في اللحظات القصيرة تلك من ذعر ورجفة وخوف؟.. نظرت للمخيّم الذي بدا صغيراً وتافهاً من الأعلى.. لم تكن تعرف كم تبدو المشاكل هينة تافهة من بعيد، وكم تبدو الأرض جميلة سهلة من الأعلى.. لكن الاقتراب منها يظهر قسوتها وعسر تضاريسها وقسوة أهلها وظلمهم لبعضهم البعض..
ندت منها التفاتة لجانب المخيّم فرأت قالان يقف منعزلاً عن البقية الذين تجمهروا في الوسط يراقبون ذلك التنين الطائر بدهشة وتعجب.. فتذكرت رنيم ذلك الحديث الذي سمعته خلسة من مخبئها في جانب المخيّم في أول ليلة لها فيه.. عندها ربّتت رنيم على عنق التنين قائلة "بقدر سروري لعودتك حيّاً يا كاجا، بقدر ما أنا متوجسة من اختفاء رفيقك المفاجئ.. ويبدو أننا يجب أن نتصرف وحدنا للعثور عليه.. لذلك أتمنى أن تطيعني لو كنت تفهمني حقاً يا صديقي.."
وفي المخيم، حيث الرجال يراقبون التنين الطائر، صاح أحدهم وهو يشير إليه "إنه يعود.. حاذروا.."
قال آخر "لابد أن الفتاة ستحاول الانتقام منا لما فعلناه.. لكن، كيف يمكنها أن تتحكم بهذا التنين بهذه الطريقة؟"
هتف آخر وهو يلتفت حوله "ليناولني أحدكم سهماً وقوساً.. سأسقط هذا الشرس بضربة واحدة.."
لكن التنين مرق من فوقهم بسرعة متجهاً لجانب المخيم على ارتفاع منخفض.. وقبل أن يتدارك قالان الأمر، فوجئ بالتنين يمرّ به بسرعة خاطفة، ومخالبه تنغرز في كتفيه ليجد نفسه ينجذب بعنف ويرتفع عالياً والمخيم يتضاءل من تحته بسرعة.. صرخ قالان بألم وذعر لم يملكه وهو يجد ساقيه معلقتان في الهواء بينما المخالب الحادة تثير في كتفيه آلاماً لا تصدق.. وبينما خلّف التنين مخيم الأكاشي خلفه وهو يرتفع شاقاً السماء بكل سلاسة، فإن رنيم صاحت لقالان بصوت عالٍ ليصل صوتها إليه من بين صراخه "استمع إليّ.. أريدك أن تخبرني بما جرى لآرجان.. ما الذي فعلتم به؟"
قال قالان متألماً "لو كنا نعلم ما جرى له لما استجوبناك.. أأنت تفعلين هذا انتقاماً منا؟"
قالت مقطبة "أنا لا أحب الانتقام ولا أسعى إليه.. أريد معرفة ما تعلمه عن آرجان.. والكذب لن يفيدك.. لقد سمعت حوارك مع ذلك المدعو باكين.. لقد كنتما تخططان لفعل حقير، فلا داعي للإنكار الآن.."
صاح قالان وهو يتشبث بقدمي التنين بذراعيه للتخفيف من آلامه "لست أدري عن هذا شيئاً، ولست أفقه ما تتحدثين عنه.."
عندها قالت رنيم بحزم "يمكنني أن أطلب من التنين إفلاتك من هذا الارتفاع.. صدقني لن يكون هذا شعوراً محبباً للنفس.."
نظر قالان للأرض بذعر وهو يتشبث أكثر بالتنين صائحاً "حتى لو أخبرتك بما جرى له، فأنت ستلجئين للانتقام مني بالتأكيد.."
قالت رنيم بسرعة "أخبرتك أنني لا أحب هذه الفكرة.. لك كلمة مني أنك ستهبط على الأرض بسلام بعد أن أعرف ما جرى لآرجان.."
ثم تساءلت بشيء من التردد وكثير من القلق "هل.... هل قتلته؟.."
قال قالان بسرعة "لا.. لم أفعل ذلك.. لن أستفيد شيئاً من قتله بغفلة من الآخرين.."
ثم أضاف وهو ينظر للأرض "أطلبي من التنين الهبوط أرضاً.. يكاد كتفاي ينخلعا بمخالبه القاسية هذه.."
ربتت رنيم على ظهر التنين لتهدئته، ثم جذبت العنان لتقوده للهبوط في موقع بعيد عن المخيم.. وعند اقترابهم من الأرض، أفلت التنين قالان الذي سقط أرضاً والدماء تتصبب من موضع الإصابة في كتفيه، بينما هبط التنين على شيء من المبعدة عنه ورنيم تظل في موقعها على ظهره استعداداً للهرب به في أي لحظة.. لم تكن تأمن قالان حتى وهو جريح وبعيد عنها، فربما كان ينتوي خداعها بهبوطهم أرضاً.. فقالت له وهو يعتدل جالساً بألم واضح "حاذر من خداعي.. هذا التنين قادرٌ على فصل رأسك من جسدك بلحظة خاطفة.. والآن أخبرني أين آرجان.. ما الذي فعلت به؟"
أجاب قالان وهو حائر في كيفية إيقاف الدماء المتصببة من جرحي كتفيه "هل سمعتِ عن الكشميت؟.."
قالت رنيم "ومن لا يعرفهم؟.. هذه مملكة أكبر من أن تكون مجهولة.."
قال وهو يعبس لشدة الألم "لا أعني المملكة هذه، لكني أعني بعض جواسيس الكشميت اللذين انتشروا في هذه السهول وفي أجزاء أخرى من الممالك القريبة.. لقد دأبوا منذ عدد من الشهور على البحث عن الهوت وبذل الكثير من الأموال لمن يقبض على رجل منهم.."
تذكرت رنيم حكاية ذلك الرجل الذي هرب من الأسر في خليج (مارِج)، فتساءلت بدهشة "لمَ الهوت بالذات؟.."
أجابها "لا أحد يعلم الجواب، وهم لا يفصحون عن السبب أبداً.. مطالبهم هي القبض على أي رجل من الهوت ونقله لميناء (طوقا) أو (مارِج) بسرية ودون أن يشعر ملك بني فارس بأي شيء، ومن هناك يرحل بسفينة من سفنهم متخفية كسفينة بضائع ولا نعلم ما يجري له بعدها شيئاً.."
علقت رنيم "لكن قرى الهوت معروفة وليس صعباً الوصول إليها، فلمَ اللجوء لهذه الأساليب؟.. وما هدفها؟.."
قال قالان وهو يحاول الوقوف بعسر "وقوع قرى الهوت في الجانب البعيد من القارة ووسط تضاريس طبيعية عسيرة يجعل من الصعب التسلل إليها دون لفت الانتباه.. كما أن من الصعوبة بمكان اختطاف أحدهم من قريته ومواجهة رجال القرية مجتمعين لما عُرِف عنهم من بأس شديد وبسالة كبيرة.. كما أن الهوت لا يغادرون قراهم ولا يخالطون بقية الشعوب إلا فيما ندر.. لذلك تدركين أي فرصة أتيحت لي بوجود هذا الرجل بعيداً عن قريته ووحيداً.. لذلك لم أتردد في استغلالها عندما تيسّر لي الأمر.."
أنهى جملته وهو يطوّح ذراعه بقوة بخنجر في يده، لكن رنيم التي لاحظت يده المتسللة بين طيات ثيابه سعياً وراء الخنجر كانت قد دفعت التنين للقفز قبلها بلحظة.. فوجد قالان خنجره ينغرس أرضاً بينما انقض التنين عليه وجثم على صدره بعد أن رماه أرضاً.. زمجر التنين بحدة ولعابه يسيل على وجه قالان المرتعب، فقالت رنيم مقطبة "لا تحاول هذا مرة أخرى.. لقد حذرتك.."
عبس قالان وهو يشعر بألم مضاعف في صدره من ثقل التنين ومخالبه التي تخدشه، بينما قالت رنيم بصرامة "هل قمتَ ببيع آرجان؟.. لمَ الآن دوناً عن باقي الأيام؟.. ولمَ لمْ تفعل هذا منذ البدء؟.."
أجاب قالان بعسر شديد في التنفس بسبب ثقل التنين عليه "في البدء خشيت من غضب كابور، والذي سيستلب الأموال لنفسه ولن يمنحنا شيئاً منها، ولم يكن التخلص من الزعيم بشيء يسير عليّ.. أما رجل الهوت هذا، فقد قدّم لي عوناً كبيراً بتخلصه من كابور، وباختفائه، يغدو وصولي لزعامة الأكاشي ميسّراً وسهلاً جداً.."
كانت رنيم تشعر بالضيق مع كل كلمة يقولها قالان، لكنها كتمت غيظها وهو يضيف لاهثاً "لقد أخذته قافلة معها إلى (طوقا).. وخلال بضع ساعات سيبلغ ميناءها ويتم تسليمه لجواسيس الكشميت ومن ثم ترحيله عبر إحدى سفنهم المتخفية، بينما نحصل نحن على الأموال من الكشميت.."
تساءلت بتقطيبة "وأين (طوقا) هذه؟"
أجابها قالان مشيراً بيده "في الجنوب من هذه السهول.."
زفرت رنيم مقطبة، ثم لكزت بطن التنين الذي أطاعها على الفور وهو يرتفع بقفزة كبيرة تاركاً قالان ملقى على الأرض العشبية يلهث بشدة والعرق يغمره ممتزجاً بدمائه..
انطلقت رنيم بالتنين في السماء وقلبها يخفق بقوة وتسارع.. لم يمضِ على نومها هذه الليلة سوى ساعات قليلة، لكنها استيقظت لتجد أن كل شيء قد تغيّر بضربة واحدة.. آرجان اختفى، والأكاشي حاولوا الانتقام منها والتعدّي عليها، ولم ينقذها إلا عودة كاجا بعد أن نجا بمعجزة ما، والآن هي تسعى خلف القافلة التي اختطفت آرجان لمقايضته بما يملكه الكشميت من أموال.. فكيف حدث هذا كله؟..
نظرت للتنين الذي بدا لعينيها منهكاً ولم يتعافَ بعد مما أصابه، فمسحت على جسده قائلة بعطف "حمداً لله على عودتك يا كاجا.. ما الذي فعلته لتنجو من ذلك السم؟.. أم أنه لم يكن كافياً لقتل حيوان ضخم مثلك؟.."
أصدر التنين صوتاً خفيفاً من حلقه تجاوباً معها وهو يرفرف بجناحيه بقوة، بينما تذكرت رنيم ما قرأته في بعض الكتب عن تصرف الحيوانات عند تعرضها للتسمم بواسطة بعض النباتات الطبيعية السامة.. فمنها ما يلجأ لمضغ أعشاب تحمل دواءً واقياً في جذورها أو أوراقها، ومنها ما يكثر من شرب المياه المالحة مثل مياه البحار أو الينابيع التي يتركز فيها الملح بشكل كبير، وتقيؤ ما تناوله من سموم عن طريق الفم.. فهل تفعل التنانين الأمر ذاته؟.. هذا لحسن حظها بالتأكيد..
نظرت رنيم للأفق المظلم بصمت وتنهيدة طويلة.. كان افتراقها عن آرجان متوقعاً منذ بداية الرحلة.. لكن لم تتوقعه بهذه السرعة وقبل أن تحقق الهدف المرجو منها.. وبالأخص قبل أن تتأقلم رنيم على العيش وحيدة ودون حماية ورعاية.. لكن هل يمكن لرنيم أن تصمد وحيدة في هذا العالم دون وجود كاجا لجوارها على الأقل؟.. يبدو هذا عسيراً جداً بالنظر لكونها فتاة.. فحياة الفتاة، دون عون ودون حماية، قاسية جداً.. أقسى مما تخيلته في حياتها كلها..

*********************

لم يمضِ الكثير على استيقاظ آرجان عندما وصلت القافلة لمدينة (طوقا)، والتي اتسعت على مساحة واسعة من جانب السهول التي تنتهي بمنحدر صخري حادٍ نحو الخليج الواسع التي تطلّ عليه.. وفي وسط ذلك المنحدر، انخفضت الأرض لتشكل سهلاً على شيء من الاتساع احتلته المدينة بشكل كامل واستخدمت الموقع الذي يصل السهل بالبحر كميناء حيوي يعدّ من أشهر الموانئ في الجانب الشمالي الغربي للقارة..
وقبل أن تجتاز القافلة طرقات المدينة، اقترب باكين من آرجان قائلاً بانزعاج واضح "ألن تكف عن هذا الصفير المستمر؟.. لقد أصبتني بصداع.."
قال آرجان وهو ينظر للسماء دون أن يلتفت إليه "وهل عليّ أن أهتم حقاً بجعل حياتك سلسةً رائعة؟"
وعاد يطلق صفيراً حاداً طويلاً.. فلطمه باكين بشدة على رأسه قائلاً "ما رأيك بالصداع الذي ينتج عن ضربة على رأسك الجريحة هذه؟.. هذا ما أسميه أمراً ممتعاً.."
لم يتفوه آرجان بحرف وهو يقطب بشدة.. كان قيده المحكم يمنعه من الرد على ذلك الرجل بما يناسب أفعاله، وبحثه عن كاجا الذي استمر لمدة طويلة وهو يناديه بصفير حاد لم يثمر أي نتيجة أبداً.. كان يحاول التشبث بأي أمل أن يكون كاجا قد عاد بحثاً عنه، وعندها لن يفوته سماع ذلك الصفير بأذنيه الحادتين المرهفتين.. لكن ربما كان آرجان يتشبث بأملٍ واهٍ جداً..
بدأت القافلة تتفرق في طرقات المدينة، وبدأت العربة التي تحمل آرجان تسير شاقة طريقاً مستقيماً نحو الميناء في الجانب الآخر منها.. لم يكن منظر آرجان يثير أي تعجب في المدينة التي اعتادت رؤية العبيد والجواري أثناء نقلهم من وإلى السفن ونحو جوانب أخرى من هذه القارة.. لذلك سارت العربة بكل سلاسة حتى وصلت للميناء ووقفت في جانبه القصيّ.. عندها قفز باكين من على ظهر حصانه وتقدم من رجل يقف جانباً فتبادل معه حديثاً والابتسامة تشيع على وجهه.. تقدم الرجل من آرجان وتأمله باهتمام، بينما قال باكين "كما ترى.. هو من الهوت بلا جدال.. ملامحه لا يمكن إنكارها.."
فقال الرجل وهو يرمي بصرّة ثقيلة نحو باكين "حسناً.. هذا يوم سعدك ولا شك.."
تحسس باكين الصرة بشغف وهو يزنها بيده، ثم قال ملوحاً لآرجان "استمتع بوقتك يا زعيم.. كان لي الشرف بخدمتك بإخلاص.."
وأطلق ضحكة على النكتة التي ألقاها وهو يمتطي حصانه من جديد مغادراً الميناء دون إبطاء.. فوجد آرجان أن الرجل القريب يشير لرجلين آخرين لإنزاله وهو يقول له "يحسن بك أن تكون مطيعاً.. لا أريد أن تتلقى ضربة جديدة على رأسك.. قد لا يشتريك أحد عندها.."
قال آرجان بحدة مقطباً "لماذا يريد الكشميت شراء الهوت بالذات؟"
تلفت الرجل على الفور حوله بتوتر، ثم قال لآرجان بحنق وهو يقبض على خنجر في يده "أتريد أن أقطع لسانك يا هذا؟.. كف عن الحديث واستسلم لما نطلبه منك.. لم ندفع تلك الأموال الطائلة فيك لنرميك في عمق البحر بعدها.."
جذب الرجلان آرجان بعد أن فكا قدميه، فحاول آرجان الإفلات منهما وهو يدفع قدمه بركلة لأحدهما في بطنه، ثم ارتطم بكتفه بالآخر وهو يستدير ليركض في الاتجاه المعاكس.. لكن الضربة التي أصابته في رأسه من جديد أسقطته أرضاً بعنف ودوار قوي يغلف وعيه، بينما حمله الرجلان من ذراعيه المقيدتين وسحباه على الرصيف وفوق الجسر الذي يؤدي بهم إلى ظهر تلك السفينة.. وهناك، رأى رجلاً غريب الهيئة في هذه البقاع وقد وقف وسط السفينة وقال بلكنة شديدة السوء "أهذا هو الأخير؟"
أجاب الرجل الذي اشترى آرجان "بلى.. لا أظننا سنعثر على آخر في وقت قريب.."
فقال الرجل الغريب يلقي بصرتين متضخمتين نحو الرجل "هذا نظير خدماتك.. عليك أن تحتفظ بما تعرفه سراً، وسنعود للتعامل معك مرة أخرى.."
أخذ الرجل يلهج بالشكر العميق وهو يختطف الصرتين، ثم أسرع لمغادرة السفينة بينما قال الغريب للبحارة القريبين وهو يعود لغرفته "فلننطلق بالسفينة حالاً.."
وجد آرجان نفسه، دون مقاومة، يُحمل إلى قاع السفينة دون أن يفك أحد قيد يديه.. وهناك، رمي في أسفل السفينة في قفص حديدي بدا مهيأً ليكون محبسه طوال تلك الرحلة التي لا يعلم كم ستطول بالتحديد.. وبعد رحيل الرجلين، اعتدل آرجان زافراً بحدة وهو يلمس مؤخرة رأسه ليجد المزيد من الدماء قد بدأت تسيل من موضع جرحه السابق..
قطع الصمت صوت مفاجئ يقول "أأنت بخير؟"
التفت جانباً بدهشة متعاظمة، بعد أن أدرك أن السؤال قيل بلغة الهوت التي لا يعرفها سواهم.. وعلى الضوء الخافت الذي يتسلل من كوّة علوية في المكان، أمكنه رؤية بضع أقفاص أخرى صفّت بين صناديق البضائع متفاوتة الأحجام.. وفي تلك الأقفاص، رأى عدداً من الرجال لا يتجاوزون الخمس، وهو سادسهم.. ومن ملامحهم التي لا يمكن إغفالها تيقن أنهم ينتمون للهوت، وإن لم يكونوا من قريته بل من قرىً أخرى..
اعتدل آرجان جالساً ببعض الدوار وتساءل بلغة الهوت "كيف قبضوا عليكم؟.. وكم عددكم حقاً؟.."
قال الرجل الأقرب إليه "كل منا له حكاية مختلفة.. أنا قبض عليّ بخديعة من أحد التجار الذين أتعامل معهم لصالح قريتنا.. ماذا عنك أنت؟.."
زفر آرجان بضيق وقصّ عليهم حكايته بكلمات سريعة.. فعلق أحدهم "الفتاة التي تبحث عنها.. جايا.. هل اختفت بالطريقة ذاتها؟.."
هز رأسه إيجاباً، فقال آخر بحنق "لقد دأبوا على نعتنا بأبشع الأوصاف وتوارثوا كرهنا جيلاً بعد جيل.. والآن يعاملونـنا بكل حقارة ويختطفون فتياتنا ويبيعوننا كالعبيد.. فمن هو الأشبه بتلك النعوت والأوصاف؟.."
علق آخر "قولك لن يغيّر من واقعنا شيئاً.."
تساءل الأول "هل تعرف لمَ يسعى الكشميت لشراء الهوت؟.. لا أظنه مجرد هوس ببني جنسنا دوناً عن غيرهم من الممالك.."
قال آرجان "لا أعلم.. هذا لغز لم أجد له معنىً بعد.. ولا أتمنى أن أكمل هذه الرحلة لنهايتها لأعرف المغزى من هذا كله.."
فقال الأول "هناك سرٌ ما.. سر يتجاوز مجرد اختطاف بضع أفراد لا أهمية لهم ولا معنى لاختفائهم.. سرٌ أكاد أجزم أنه يتعلق بتلك الحرب التي لا تكاد تهدأ حتى تشتعل من جديد.."
غمغم آرجان بضيق وهو يستند إلى القفص الحديدي بظهره "أتمنى فقط ألا تكون جايا منغمسة في هذا كله.. أتمنى أن يخيب ظني وأن تكون قد هربت مع بقية الرجال وهي في طريقها للقرية الآن.."
ثم نظر لرفاقه مضيفاً "علينا، قبل كل شيء، أن نسعى للفرار من هذه السفينة قبل أن تخرج من الخليج وتصل للبحر المفتوح.."
قال أحد الرجال بهزء "حاولنا ذلك بالفعل في الأيام الماضية دون نجاح يذكر.."
فقال آرجان بإلحاح "علينا أن نحاول مرة بعد أخر ى.. علينا أن نتضافر لنفعل ذلك.."
لم يعلق أحد الرجال بكلمة وإن وَشَت نظراتهم بعدم اقتناعهم بقوله.. بينما كان آرجان يشعر أن الحياة لن تكون بهذه السلاسة والسهولة بتاتاً.. ولن تتحقق أمانيه فقط لأنه تمناها..

*********************

عندما وصلت رنيم بكاجا إلى ميناء (طوقا)، كانت قد أدركت أنها تأخرت كثيراً.. فطوال الطريق كانت تبحث عن أي أثر لقافلة تسلك الطريق الوحيد الذي يؤدي للمدينة، لكن الموقع كان خالياً تماماً.. مما أكد لرنيم أمراً من اثنان.. إما أنها تأخرت وقد أصبح آرجان في الميناء، وربما على ظهر إحدى السفن بالفعل.. وإما كان قالان يكذب عليها بكل صفاقة.. هل كانت حمقاء لتصديقه دون أي إثبات؟.. كان عليها إحضاره معها لتطمئن أنه لم يكن يخدعها.. لكن لم يعد لهذا الحديث أي فائدة..
دفعت كاجا للهبوط في موقع بعيد من المدينة شيئاً ما لئلا تلفت الأنظار، ووقفت قربه ترمق المكان بصمت.. ثم ربتت على ظهر التنين وقالت له "سأستدعيك متى ما احتجتك يا كاجا.. فكن قريباً لكن حاذر من السقوط في أيدي البشر.."
أخذ كاجا يتشمم ملابسها ويزوم باعتراض، فربتت على خطمه قائلة بابتسامة "لست أملك أي مكافأة لك يا صاحبي.. لكني سأتأكد من الحصول على واحدة في المدينة، رغم أني لا أملك أي مال.."
واستدارت متجهة للمدينة بخطوات سريعة، بينما وقف كاجا يراقبها بتململ، ثم ارتفع دون إبطاء في السماء ودار دورة واسعة قبل أن يبتعد دون أن تتمكن رنيم من رؤيته.. راودها خاطر أنه لن يعود لو حاولت استدعاءه، فكيف ستتمكن من الالتقاء به مجدداً؟.. لكنها، نوعاً ما، كانت تثق به.. فسارت وتفكيرها منحصر بالمدينة الكبيرة أمامها، وبرفيقها الذي اختفى بين ليلة وضحاها..
كانت تلك المرة الأولى التي تسير فيها رنيم في مدينة كبيرة كهذه وحدها على الأقدام، ودون رفقة أي من حرس أبيها.. لذلك كان توترها كبيراً وهي تسير متلفتة حولها وتشعر كأنها مجردة من الثياب لشدة ما لفتت الأنظار في سيرها.. لكن ربما كان ذلك راجعاً للحال البائس الذي بدت فيه، بحيث ظنها سكان المدينة مشردة بلا هوية..
ظلت رنيم تسير في طرقات المدينة وهي تبحث عن الميناء حيث يمكنها الوصول للسفينة التي ستحمل آرجان على ظهرها.. وببعض السؤال، تمكنت من الوصول للميناء العامر بعدد كبير من السفن وحركة دؤوبة وفي جانبه سوق شعبي صغير أقيم في أحد الأزقة لاستقبال الوافدين إلى المدينة عبر البحر.. سارت رنيم بتوتر متلفتة حولها.. لم تتوقع أن الميناء سيكون عامراً بهذه الوفرة، بحيث عجزت عن معرفة الوسيلة الملائمة للبحث عن آرجان.. ظلت تسير في أرجائه ذهاباً وإياباً، وتحدق في جماعات العبيد التي تمرّ بهم والذين وفدوا للمدينة من أنحاء أخرى من العالم، حتى وجدت رجلاً يزجرها لتبتعد عنهم..
زفرت رنيم وهي تشعر بساقيها تؤلمانها بعد كل ذلك السير، وبمعدتها تتضور جوعاً وتطلق اعتراضات متتالية.. لكن دون مال لا يمكنها الحصول حتى على شربة ماء.. فعادت لدورانها في الميناء وهي تتساءل إن كانت قد فقدت فرصتها في اللحاق بآرجان مرة أخرى.. كم ساعة قد مضت على اختفائه؟.. هل رحلت السفينة التي تحمله على ظهرها بالفعل؟.. أم أنه تمكن من الهرب ورحل بعيداً دون أن تعرف عنه شيئاً؟..
غمغمت لنفسها وهي تحدق في البشر من حولها "لن أعرف جواب أي سؤال ما لم أسأل.."
استجمعت شجاعتها وهي تتلفت حولها.. لابد لمن يحاول شراء رجل من الهوت دون علم جنود مملكة بني فارس أن يفعل ذلك متخفياً.. وبعد بعض البحث، استقر أمرها على رجل وجدته يقف في جانب المكان بلا عمل ويبدو من ملامحه الحادة أنه ينتظر أمراً ما.. فتقدمت منه بشيء من التردد، ثم همست عندما رأته يقطب وهو يلاحظها "اسمع.. أتعرف شخصاً يشتري رجال الهوت من الكشميت؟.."
زمجر الرجل وهو يطردها بعيداً، فتراجعت بسرعة وبحثت عن شخص آخر لتسأله.. لابد أن الأمر سيستغرق بعض الوقت قبل أن تصل لمرادها.. فاتجهت لآخر جلس على أحد الصناديق منشغلاً بعدّ ما لديه من نقود، وكررت عليه السؤال ذاته بهمس متلفتة حولها.. فحصلت على رد الفعل ذاته..
لكنها لم تيأس وهي تبحث في جوانب الميناء دون كلل.. لا يمكن أن تكون قد تأخرت أكثر من اللازم.. لا يمكن أن تفقد فرصتها الأخيرة لإنقاذ آرجان..
وبينما زفرت بحدة وهي تجلس على صندوق صغير في جانب الميناء، وقد أعجزها الجوع والدوار عن إكمال بحثها، فإنها فوجئت بيد تمسك ذراعها وتجذبها لزقاق جانبي بعيد عن الأعين.. التفتت رنيم لصاحب اليد بشيء من الذعر لم تملكه، بعد كل ما جرى لها في مخيّم الأكاشي، فرأت أحد الرجال ممن سألتهم سابقاً قد وقف مقطباً وهو يسألها بخفوت وشيء من الحدة "ما الذي تفعلينه؟.. أنت تعلنين للجميع عما نفعله هنا.. أتريدين أن يقبض عليك جنود الملك؟"
قالت بارتباك "لا.. لكني سمعت عمن يشتري رجال الهوت، وأنا أعرف واحداً.. لذلك أتيت للسؤال عن ذلك الشخص للوصول لاتفاق معه.."
فهم الرجل من قولها أنها تنوي بيع رجل من الهوت، فجذبها خلفه قائلاً "اتبعيني بصمت.."
لم تعترض رنيم وهي تراه يقودها لسفينة تقف في جانب الميناء، متوسطة الحجم بحالة جيدة ويبدو من الصناديق المحملة على ظهرها أنها سفينة بضائع.. قادها الرجل في السفينة لغرفة وحيدة على سطحها حيث رأت رجلاً غريب الهيئة بشعر أشقر يقارب البياض وبشرة بيضاء وعينين زرقاوين.. ولما رآهما قال للرجل بلكنة غريبة ولغة سيئة جداً لم تكد رنيم تفقه حرفاً منها إلا بصعوبة "ما الذي أتى بك الآن والسفينة على وشك الرحيل؟"
قال الرجل مشيراً إليها "هذه الفتاة تريد بيع رجل من الهوت.."
نظر لها الرجل الثاني بشيء من الحدة، فأدركت رنيم أنه ينتظر منها إخباره عن الرجل الذي تنوي بيعه، لكنها قالت بحلق جاف "في الواقع، لست هنا لأبيع، بل لأستعيد رجلاً تم بيعه هذا اليوم.."
لم تدرِ رنيم كم أثارت حنق الرجلين إلا عندما وجدت نفسها ملقاة على رصيف الميناء الخشبي والرجل الذي أحضرها يقول بغيظ "لا تستهزئي بنا يا فتاة.. ارحلي خيراً لك.."
نظرت له رنيم وقالت بحدة "سأبلغ الجنود بما تفعلونه لو لم تعيدوا الرجل إليّ.."
تقدم منها الرجل بعين تنطق شراً بينما لاحظت أن الجسر الذي يصل السفينة بالرصيف قد تم رفعه والسفينة بدأت تعدّ عدّتها للرحيل.. عندها قفزت رنيم واقفة وأطلقت صفيراً طويلاً وهي ترفع بصرها للسماء.. بينما اقترب الرجل منها قائلاً بغلّ "أتجرؤين على تهديدي أيتها الحقيرة؟"
عادت رنيم تكرر صفيرها بإلحاح دون أن تجد أي استجابة، وكان هذا يحقق مخاوفها عندما رأت التنين يرحل بعيداً.. لكن لم يكن الوقت مناسباً للإصابة بالذعر، فاستدارت وركضت مبتعدة وهي تشعر بخطوات الرجل تلحق بها بسرعة.. عبرت رنيم عدة أزقة وهي ترفع بصرها للسماء بين لحظة وأخرى وتطلق صفيراً حاداً بشيء من اليأس.. ولما صاح الرجل خلفها بغضب، وجدت رنيم عدداً من الرجال حولها يتدافعون للإمساك بها وقد ظنوها لصّة سرقت شيئاً ثميناً من ذلك الرجل، ولم تكن هيئتها تشفع لها بأي حال..
حاولت رنيم الإفلات منهم وهي تتخذ زقاقاً جانبياً مظلماً محاولة الهرب لطريق آخر.. لمْ تدرِ لمَ يلاحقها ذلك الرجل بهذا الإلحاح.. ألأنها هددته بإبلاغ الجنود؟.. عضّت شفتها السفلى مغمغمة بحنق "حمقاء.. أنا حمقاء لأتصرف بهذه الطريقة.."
لم يكن الوقت وقت ندم، فتجاوزت الزقاق بأسرع ما تقدر رغم ألم ساقيها.. وفي الطريق المقابل الذي كان أصغر من الطرقات الأخرى استدارت رنيم محاولة الهرب عبر زقاق آخر، لكن مع استدارتها فإن تشنج ساقها اليمنى قد جعلها تتعثر وهي تسقط على وجهها سقطة عنيفة.. ولم تكد ترفع رأسها حتى وجدت الرجل يجذبها من ملابسها بغير رفق ويوقفها قائلاً بغضب "سنرى ما الذي ستفعلينه الآن أيتها المتشردة.."
حاولت رنيم الإفلات من قبضته، لكن وجود عدد آخر من الرجال جعل الوضع أكثر عسراً وهي تصيح بحدة "أطلقني.. لمَ تلاحقني؟.. أنا لم أفعل شيئاً.."
جذبها الرجل قائلاً "سنرى ذلك.."
سمعا صيحة عالية في تلك اللحظة، ومَرَق جسد ضخم فوق رؤوسهم ألقى بظلاله على الطريق.. تجمد الرجل للحظة ورنيم ترفع بصرها للسماء بشيء من الأمل.. وعندما سمعت الزمجرة الغاضبة دون أن ترى صاحبها الذي دار فوق الموقع بغضب، أدركت أن كاجا لا يقدر على الهبوط في هذا الطريق الضيق دون أن يؤذي جناحيه.. فاستغلت ذهول الرجل الذي يراقب ذلك الكائن المرعب وأفلتت من قبضته وهي تحاول استغلال بضع صناديق صفّت جانباً للارتفاع عالياً.. انتبه الرجل لمحاولتها الهرب فصاح وهو يلحق بها "عودي أيتها الحقيرة.."
لكنها أسرعت في ارتقاء تلك الصناديق حتى وصلت لأعلاها وأطلقت صفيراً عالياً قبل أن تصيح "أنا هنا يا كاجا.."
اقترب التنين وهو يرفرف بجناحه محاولاً الوصول لموقعها دون الارتطام بالمنازل القريبة، ولما وجدت قدمه المخلبية قربها قفزت وتعلقت بها ليرتفع التنين على الفور مبتعداً عن ذلك الطريق الضيق.. وبشيء من العسر، تسلقت رنيم ظهر كاجا محاذرة من السقوط من ذلك الارتفاع، ولما استقرت على ظهره ربتت على ظهره بسرور قائلة "ظني بك لا يخيب أبداً يا صاحبي.."
ثم شدّت لجامه قائلة بحزم "والآن، لنستعدْ صاحبك قبل أن يتعذر علينا ذلك.."
أطلق كاجا صيحة وهو يندفع في طيرانه بسرعة متجاوزاً المدينة التي توقفت الحركة في طرقاتها مشدوهة من رؤية التنين الطائر، بينما قادت رنيم التنين نحو الميناء الذي لم يهدأ للحظة واحدة والسفن المغادرة والقادمة تملأ الخليج الواسع أمامه.. فتشت رنيم بعينيها بين السفن المغادرة مستثنية الصغيرة منها وهي تحاول معرفة أيها كانت تلك التي التقت فيها بذلك الرجل.. فهو الوحيد الذي استجاب لسؤالها في الميناء، وبدا بوضوح اهتمامه بما قالته ظناً منه أنها تعرف موقع رجل آخر من الهوت بحيث يمكنها مقايضة تلك المعلومات ببعض المال..
انتاب رنيم توتر شديد واللحظات تمر دون أن تتمكن من معرفة السفينة المقصودة، وفيما كانت تدير بصرها بسرعة وقلق، انتبهت لتلك السفينة التي كانت تسير بسرعة أكبر من البقية مبتعدة عن رصيف الميناء وهي تفتح أشرعتها لتسمح للريح بدفعها بشيء من البطء حتى تتجاوز منطقة الصخور فتنطلق بأسرع ما تستطيع بعدها.. ربتت رنيم على رقبة التنين قائلة "يبدو أن هذه هي المقصودة.. لنذهب.."
كان ما تحاول فعله تهوراً.. لكن هل من سبيل آخر؟.. هل تكتفي بملاحقة السفينة حتى تصل لوجهتها وتزداد الحراسة من حولها؟.. لم يكن هذا خياراً متاحاً، فقادت التنين ليقترب من السفينة بسرعة، حتى استطاع أن يهبط بشيء من العسر في المنطقة المفتوحة من سطحها مثيراً بلبلة بين بحارتها ومتسبباً باهتزاز السفينة بعنف مع ثقل التنين الضخم..
تجمع البحارة في جوانب السفينة بعيداً عن التنين الذي زمجر بحدة متلفتاً حوله، بينما صاحت رنيم دون أن تترجل من على ظهره "أريد رجل الهوت الذي قمتم بشرائه اليوم.. أطلقوه حالاً دون مقاومة.."
قطب البحارة بشيء من الحنق وبعضهم يتناول ما يملكه من عصيٍ وخناجر قريبه، لكن كاجا الذي أطلق صيحة مرعبة جمدهم في مواقعهم وهم يتلفتون بذعر.. بينما تقدم رجل من الغرفة التي تقع على سطح السفينة قائلاً بغلظة "ما الذي يجري هنا؟"
كان الرجل يختلف عن الرجل الآخر ذي اللكنة السيئة، فصاحت رنيم "أريد رجل الهوت الذي تخبئونه في السفينة.. أطلقوه حالاً.."
صاح الرجل بحنق "كيف تجرؤين على إحضار هذا الوحش لقلب السفينة؟.. أتريدين تحطيمها؟"
قطبت بحدة صائحة "أريد رجل الـ............"
قاطعها بغلظة "لا أدري ما الذي تتحدثين عنه، ولا نحمل رجالاً معنا سوى البحارة.. هذه سفينة بضائع، وليست سفينة مسافرين أو عبيد.."
تلفتت حولها بتوتر وهي عاجزة عن معرفة الوسيلة المثلى لإجبارهم على إطاعتها.. فصاحت "أين رجل الكشميت الذي يختبئ في تلك الغرفة؟.. أخبره أنني أريده حالاً، وإلا ذهبت لجنود الملك وأبلغتهم بما يجري من تجاوزات في هذا الميناء.."
تبادل البحارة النظرات بينما أشار الرجل للغرفة قائلاً "يمكنك تفتيش الغرفة، والسفينة، كما تشائين.. نحن سفينة بضائع، ولا علاقة لنا بأي شخص من الكشميت كما تدّعين.. غادري فهذا خيرٌ لك.."
قالت رنيم بحيرة "ولكن....."
انتبهت في تلك اللحظة لأمر لم تره من قبل.. كانت هذه السفينة تختلف اختلافاً كبيراً عن السفينة التي رأتها في الميناء.. هذه أكبر حجماً، وتحوي عدداً من الغرف على سطحها بينما لم تملك تلك إلا غرفة وحيدة.. بالإضافة إلى بعض العلامات الأخرى التي تجعلها متيقنة من الخطأ الذي ارتكبته.. شحب وجه رنيم شيئاً ما وهي تتلفت حولها متمتمة "ليست هذه.. ليست هذه.."
زمجر الرجل "حسناً.. ما الذي تنتظرينه؟.."
نظرت إليه وهي تعذره لغضبه، فهي المخطئة فيما فعلته.. فلم تتردد وهي تحني رأسها قليلاً قائلة بصوت يرتجف "سامحني.. لقد أخطأت في السفينة.."
وجذبت اللجام ليرتفع كاجا بسرعة وتعود رنيم للسماء وهي تحدق في السفن التي تقطع الخليج جيئة وذهاباً.. من الأعلى، كانت كل السفن متشابهة، وكلها ذات أشرعة بيضاء ولون واحد.. تختلف الأعلام، لكنها للأسف لم تنتبه للعلم الذي حملته تلك السفينة قبل رحيلها ولم تدرك أن تلك كانت الطريقة الوحيدة لتعرّفها.. والآن هي عاجزة عن العثور على سفينة آرجان، لو كان حقاً في تلك السفينة بالذات.. وعاجزة عن معرفة ما عليها فعله مع ذلك الدوار والتعب الذي تشعر بهما..
بعد أن أصابها اليأس، وجّهت كاجا للهبوط على صخرة مرتفعة ذات رأس مسطح عريض تنتصب وسط الخليج ضمن مجموعة صخور تسبب رعباً وقلقاً دائمين للبحارة عند عبورها.. فهبط التنين على الصخرة، وترجلت رنيم من فوق ظهره والدوار يزداد بشدة مع التعب والجوع اللذين ازدادا حدة بعد ما مرّت به.. ولم تدرك رنيم، وهي تجلس مرغمة على الصخرة جوار التنين، أن وعيها سيغيب عنها لساعات طوال بعدها.. وبعد أن فقدت وعيها حيث جلست، فإن كاجا ظل يزوم وهو يحرك ذراعيها ورأسها محاولاً دفعها للنهوض من جديد.. لكنها لم تشعر به بتاتاً، فاستسلم كاجا وهو يقبع جوارها ويضع رأسه على يديه الممتدتين على الأرض بصمت وسكون..

*********************

استيقظت رنيم بعد وقت طويل قضته في غيبوبة بسبب الإنهاك والجوع.. اعتدلت جالسة وهي بالكاد ترى ما حولها للضباب الذي عمّ الموقع في الساعات الأخيرة من النهار والبرودة تشتدّ مع الرياح القوية في الموقع.. انكمشت رنيم على نفسها وهي تستدير خلفها، فرأت كاجا يقبع قريباً وهو يلتفت إليها مصدراً صوتاً خافتاً.. اقتربت منه واحتضنته محاولة الحصول على بعض الدفء من جسده مغمغمة "هل كنت بانتظاري يا صديقي؟.. يبدو أنني أصبحت بائسة الحال ومنهكة بشدة.."
وجدته ينتفض فينفضها بعيداً عنه شيئاً ما، ولما نظرت إليه بدهشة، وجدته يقفز من الصخرة ويدفع جناحيه بقوة فيرتفع عن سطح الماء ويصعد للسماء ليغيب بين الضباب الكثيف ورنيم تراقبه بصمت.. ثم قالت "لابد أنه جائع.. المسكين لابد أنه ظل ينتظر استيقاظي.."
انطوت رنيم على نفسها وهي تفكر بهذا التنين الذي أصبح أقرب صديق لها.. تذكرت اللحظة التي رأته فيها في شرفة قصر (الزهراء)، والثورة التي أثارتها لتبتعد عنه في ذلك الوقت.. فتعجبت لحالها كيف انقلب بهذه الصورة الكبيرة خلال أسابيع قليلة.. وكيف تغيّرت معاملتها لما حولها.. للهوت.. ولآرجان.. وللتنين.. وللعالم الغريب الذي وجدت نفسها في قلبه بين ليلة وضحاها بعد أن كانت تراقبه من نافذة برج خيالاتها العاجي في قصر أبيها..
طال الوقت ورنيم تحدق في البحر من حولها وفي السفن العابرة والتي لا تراها بسبب الضباب الذي خيّم على الموقع بكثافة.. ما الذي عليها فعله الآن؟.. لقد وصلت لطريق مسدود.. وأمامها خيارات كثيرة عليها أن تختار الأفضل منها وتتحمل عواقبه مهما كانت..
هل تستسلم وتعود أدراجها بعد أن اختفى كل أثر لآرجان؟.. وهل سيرضى كاجا بذلك؟.. لقد صمت خلال الساعات الماضية ولم يعلن احتجاجه عن اختفاء سيده، ولابد أنه أدرك أنها تبحث عنه.. لكن ماذا لو حاولت دفعه للرحيل بعيداً؟.. وهل يستحق آرجان أن تتخلى عنه بهذه الصورة؟..
إذاً ما الذي يمكنها فعله؟.. هل تعود لقرية الهوت وتبلغ أهلها بما جرى له؟.. ربما ببعض العون وبعدد أكبر من التنانين يستطيعون تكثيف البحث بصورة أفضل.. لكن، كيف تعود للقرية بعد أن طردوها بتلك الصورة؟.. لاشيء يضمن لها أنهم سينصتون لها ناهيك عن مد يد المساعدة في بحثها هذا.. ماذا لو أنهم استلبوا منها كاجا وتركوها ترحل خالية الوفاض؟.. لا يبدو هذا الحل مثمراً..
يمكنها أن تذهب للزهراء وتنذر المملكة مما ينتويه الكشميت في هذه الأنحاء.. (الزهراء)؟.. تذكرت ذلك المكان الذي يبدو في خيالها مظلماً وقد بهتت تفاصيله.. يا له من زمن طويل ذاك الذي مضى منذ رحيلها عن (الزهراء)!.. أحقاً يمكنها العودة لذاك المكان بكل ارتياح؟.. وهل يمكن للأمير.. عفواً.. الملك زياد أن يعبأ حقاً لأمر الهوت مهما دلّ ذلك من خطورة على المملكة ذاتها؟.. لا يمكن للكشميت أن يتحركوا في أمر إلا وله دلالة خطيرة في الحرب التي ما خَفَتَ أوارها إلا في السنوات القليلة الماضية.. هذا خيارٌ غير مطروح إذاً..
نظرت للخليج ومن خلفه البحر الواسع وهي تزفر بقوة.. الوسيلة الوحيدة لها هي في الذهاب خلف تلك السفينة.. أن تسعى خلف آرجان بنفسها وتحاول استعادته بأي سبيل ممكن.. هل يقدر كاجا على عبور بحر السلام الشاسع هذا؟.. عليها أن تحاول على الأقل.. بعد أن يعود من رحلته بالطبع..
بعد مرور بعض الوقت، لمحت التنين عائداً بسرعة لموقعها وهبط فوق الصخرة الضيقة بشيء من الحدة والهواء الناتج عن رفرفة جناحيه يدفعها بقوة.. ولما استكان في موقعه، والدماء تخضّب أنيابه وفمه كالعادة، لاحظت شيئاً في فمه رماه عند قدميها وهو يصدر صوتاً خافتاً ويلعق ما لطخ وجهه من دماء.. نظرت لذلك الشيء، فأدركت على الفور أنها فخذ لجدْيٍ متوسط الحجم غارق في دمائه.. ذكّرتها الدماء بذكرى قبيحة لا تزال تستطعم أثرها في فمها، فغلبها غثيان شديد وهي تشيح بوجهها جانباً..
ولما سمعت اعتراضاً من كاجا على الهدية التي جلبها لها، ربتت على خطمه القريب قائلة "شكراً لك يا كاجا.. لم أتوقع أن تحضر هذا لأجلي.."
عادت تفكر بجوعها الشديد.. لا يمكنها التحرك خطوة دون أن تنتهي من هذا الأمر، وعليهم الاستعداد لرحلتهم الطويلة عبر بحر السلام.. عادت ببصرها لكاجا الذي وقف بصمت، ثم قالت مبتسمة "هل يمكنك الطيران الآن يا كاجا؟.. علينا أن نستفيد من هذه الغنيمة التي أحضرتها لي.."
وبعد لحظات قصيرة، وفي جانب من المدينة بعيد عن الميناء، في حيّ تقل فيه المنازل وتخفت حركة البشر عن بقية المواقع في المدينة، فوجئ سكان ذلك الحيّ بتلك الفتاة التي ظهرت في بداية الطريق الذي يقطع المكان وهي تحمل بين ذراعيها فخذ جدْيٍ بحجم كبير والدماء تقطر منه وتلطخ ذراعيها وملابسها بشكل أثار ذعر بعض الصبية في الطريق.. لكن رنيم سارت في الطريق متوترة حتى عثرت على عربة صغيرة تبيع بعض الخضار والفواكه، فتقدمت من صاحبها الذي حدق بها بدهشة كبيرة، وقالت له بتوتر "هل تشتري مني هذا؟.. سأرضى بمبادلته ببعض الفواكه والخضار.."
قطب الرجل وهو يقول "من أين حصلت على هذا؟.. أنتِ لم تصطاديه بالتأكيد.. هل قمت بسرقته؟"
أجابت بثبات "لا.. لقد اصطاده حيواني الأليف.. فهل ستشتريه؟"
نظر الرجل حولها بشيء من الشك، فقالت بإلحاح "أنا أعرض عليك لحماً سيكون أثمن بمراحل من بضع فواكه تمنحني إياها.. فهل ستبادلني أم لن تفعل؟"
ظل الرجل يقلب بصره بين قطعة اللحم كبيرة الحجم وبين ملامحها الثابتة، ورغم ثقته أنها قد سرقت اللحم من شخص ما، إلا أنه لم يتمكن من مقاومة ذلك العرض وهو يقول بابتسامة جانبية "لا بأس.. سأبادلك بكل تأكيد.."
فقالت بسرعة "وأريد أن تضعها في جراب أو ما شابه، فأنا لا أمتلك واحداً.."
لم يمانع الرجل وهو يغيب في منزله القريب، ثم عاد بجِرابٍ قماشي متوسط الحجم وبدأ يضع عدداً من الخضار والفواكه فيها ورنيم تقول "أريد المزيد من التفاح.."
بعد أن ملأ الرجل الجِراب، ناولته رنيم قطعة الفخذ بصمت، وتناولت الجِراب منه بشيء من اللهفة.. فانحنت له شاكرة واستدارت راكضة من حيث أتت، بينما غمغم الرجل وهو يزِنُ اللحم بيديه "يالك من حمقاء..!"
ركضت رنيم حتى غادرت ذلك الحي وأصبحت خارج المدينة.. وفي جانب بعيد منها رأت التنين ينتظرها متململاً، فأسرعت إليه وامتطت ظهره قائلة بابتسامة "لنذهب يا كاجا.."
مدّ كاجا رأسه نحوها، فقالت بإلحاح "فيما بعد أيها الشره.. لنذهب الآن.."
طاوعها كاجا بصمت وهو يطير من فوق ذلك المنحدر العالي الذي تضرب الأمواج جانبه بقوة وعنف.. دارت رنيم معه محاولة رؤية شيء من الضباب الكثيف، ثم قادت التنين لجانب من تلك المنحدرات تنخفض فيه بعيداً عن المدينة لتتلاقى مع البحر مكونة شاطئاً رملياً ضيقاً..
وبينما قبع كاجا على الشاطئ الرملي يعبث ببضع تفاحات وضعتهن رنيم أمامه، فإن رنيم كانت تقف وسط المياه التي تضرب ساقيها بشيء من القوة.. وبينما كانت تحاول التوازن لئلا تجرفها المياه معها، فإنها خلعت ملابسها محتفظة بقميص داخلي قصير مطمئنة لخلو الموقع الذي هم فيه من أي بشري.. انشغلت بغسل ملابسها التي كانت في حالٍ يرثى لها بعد أيام لم تفارق فيها جسدها.. ثم رمت الملابس على صخرة قريبة وبدأت غسل جسدها بالمياه الباردة الصقيعية.. ورغم الرجفة التي غلبت شفتيها، لكنها لم تتوقف عن ذلك وهي تفرك جسدها بقوة محاولة إزالة آثار كل تلك الدماء التي لطختها..
كانت تستطيع رؤية السفن الضخمة كأشباح سوداء وهي تخوض في ذلك الخليج متجهة نحو البحر خارجه، بينما غطى الضباب الموقع بشكل كامل وخفتت الأصوات الصادرة من الميناء بحيث شعرت رنيم أنها في عزلة تامة في ذلك الموقع.. وكأنها وحيدة في هذا العالم ولا وجود لشخص آخر فيه..
وبعد الأيام التي قضتها مرتعبة في سهول الأكاشي، فإن الراحة التي شعرت بها في هذه اللحظات كانت نعيماً لا يصدّق، ولا يعكر صفوها إلا قلقها على ما جرى لآرجان.. كل ما هي مطمئنة له أنه لا يزال حيّاً.. فلا يمكن أن يكلف شخص نفسه نقله كل هذه المسافة إن كان ينوي قتله في الأساس.. لكن ما الهدف الذي سيجنيه الكشميت من خطفه، وخطف الهوت بالتحديد، بهذه الصورة المريبة؟..
عادت رنيم أدراجها وهي ترتجف، فعلقت ملابسها على فرع شجرة قريبة، ثم قبعت قرب كاجا واحتضنته وهي تغمغم بصوت ينتفض "للأسف، لا أعرف كيف أشعل ناراً البتة، لذلك علينا احتمال هذا البرد حتى يخفت الضباب ونتمكن من مواصلة سيرنا بإذن الله تعالى.."
لم يعترض كاجا هذه المرة، وهو يقبع بصمت ورنيم تستشعر دفء جسده القوي وتستمع للصمت من حولها عدا عن ضربات الأمواج الخافتة من البحر القريب..
منذ الغد، ستبدأ رحلتهم الطويلة عبر البحر.. لا يمكنها أن تتخيل كيف سيكون الأمر، لكن ما تدركه أنه لن يكون أسهل مما مرت به بالفعل.. لكن هل تملك خياراً آخر؟..
صبراً يا آرجان.. لابد أن أعثر عليك مهما كلفني الأمر..

*********************
http://www.mediafire.com/convkey/f41...qllwnblvzg.jpg

عالم خيال 19-12-15 08:41 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الثاني عشر: لا تفعل هذا..


كان قرار رنيم بدء تلك الرحلة مع كاجا بعد مغيب الشمس بساعات غريباً، بالنظر للطريق الذي سيسلكانه ولكونهما يجهلان ما سيواجهانه فيه.. فالرحيل فوق الأرض يختلف تمام الاختلاف عن الرحيل فوق البحر الواسع، حتى لو كانا سيحلقان في السماء.. لكن رنيم كانت قد شعرت بالضيق لاضطرارها الانتظار ساعات طويلة وهي وحيدة في العراء، وخشيتها من ابتعاد السفينة بآرجان أكثر فأكثر مع كل ساعة تمضي.. ثم إن السماء صافية والقمر ينير الأفق بشكل يجعلها أكثر اطمئناناً وثقة..
ربتت على كتف كاجا الذي نظر لها بصمت، ثم قالت "فلنرحل بحثاً عن صاحبك الآن يا كاجا.. وأتمنى أن يكلل مسعانا بالنجاح.."
وامتطت ظهره ليبدأ التنين تحليقه على الفور بنشاط.. تجاوزا تلك المنحدرات الصخرية التي تنتهي بها سهول الأكاشي الدموية، وسارا فوق الخليج ونحو البحر الواسع.. نظرت رنيم خلفها لتلك السهول التي بدت قاتمة سوداء في هذه الليلة، ثم زفرت وهي تتذكر كل ما مرت به منذ قدومها إليها.. كم يوماً مضى عليها في هذه السهول؟.. يومان؟.. ثلاثة؟.. لم تعد تذكر.. كل ما بدا لها أن دهراً قد مضى منذ كانت في قرية الهوت وحتى تمكنت من الهرب من الأكاشي على ظهر كاجا.. دهرٌ كامل مضى فيه الكثير، ورأت فيه أكثر من طاقتها على التحمل.. ولولا وجود هدف أمامها الآن لظلت منطوية في موقع منزوٍ وهي سجينة الهواجس التي تراودها والذكريات البشعة التي رأتها..
أما الآن، فاللحاق بآرجان يحتلّ أولوياتها ويطغى على تفكيرها.. ورغم كل التأخير الذي حصل، فإنها واثقة أن التنين يستطيع تجاوز تلك المسافة بأسرع من البرق.. لذلك فإنها وجهته للبحر الذي يبدو أمامها ودفعته للطيران بأسرع ما يستطيع موجّهة نفسها نحو ما قدّرت أنه الجنوب.. كانت رنيم، مع قراءاتها الكثيرة، تستطيع تحديد الاتجاهات بشكل تقريبي فاعتمدت على الموضع الذي غابت منه الشمس لتحدد بقية الاتجاهات.. والآن، فإنها تطير مع كاجا نحو الجنوب الغربي بسرعة متجاوزين الأمواج الفضية التي تعكس نور القمر القوي بينما تمرّ فوقهم الغيوم المتفرقة بسرعة كبيرة..
وبعد ساعة أو يزيد، انتاب رنيم شيء من القلق وهي تتلفت حولها ملاحظة خلو البحر حولها من أي سفينة.. كانت واثقة من مسارها، وواثقة أن السفينة لن تسير في البحر بسرعة تتجاوز سرعة التنين، فأين ذهبت؟.. هل أخطأت؟.. حاولت اتخاذ دورة واسعة في المنطقة بحثاً عن أي أثر لها عند الأفق، ثم عادت لمسارها الأصلي مع كاجا وهي تقول له بقلق "هل أخطأنا في أمر يا كاجا؟.. أين ذهبت تلك السفينة؟.."
بدا لها البحر من هذا الارتفاع أشد اتساعاً وامتداداً مما كان عندما كانت على ظهر تلك السفينة في طريقها للزهراء.. تزايد قلقها مع كل لحظة تمضي وهي تفقد ثقتها السابقة وتراودها الهواجس الكثيرة.. هل أخطأت الطريق؟.. أما أنها تأخرت كثيراً؟.. هل السفينة متجهة لقارة الثنايا، ولمملكة كشميت حقاً؟.. أم أنها اتجهت لموقع آخر؟.. ربما لم يكن آرجان على ظهر تلك السفينة فعلاً.. ربما تمكن من الهرب وعبرت هي مع التنين فوقه أثناء محاولته العودة لمخيّم الأكاشي..
كل تلك الوساوس قد تدافعت في ذهنها وبدأت تصيبها بدوار، بينما استمر التنين في طيرانه نحو الجنوب.. عندها جذبت رنيم لجامه ودفعته للهبوط على سطح المياه وهي تتساءل إن كان التنين قادراً على البقاء فوقها بدون أن يغوص في أعماقها.. لكن التنين هبط بسلاسة مسبباً اختلالاً قوياً في سطح البحر والمياه ترشّه وترش رنيم بغزارة.. ولما استقر على المياه، والأمواج الهادئة ترفع التنين وتهبط به بحركة سلسة، ظلت رنيم تحدق في الأفق المظلم حولها وهي تفكر بالحلّ الأمثل والخطوة الملائمة لهما بعد الآن.. هل تنتظر قدوم إحدى السفن وتتأكد من مسارها؟.. قد يطول انتظارها لأيام فهي ليست متأكدة من مسار السفن المعتاد، وهي لا تملك كل هذا الوقت لتضييعه.. فهل تتقدم نحو مملكة كشميت وهي لا تعلم في أي ميناء سترسو تلك السفينة ولا وجهتها حقاً في قارة كبيرة كتلك؟..
أخيراً، شدّت عزمها على التوجه لقارة الثنايا حيث تحتل مملكة كشميت جانباً كبيراً من الجهة الشرقية فيها.. وخلال الطريق، ستبحث فيما تعثر عليه من السفن عن تلك السفينة التي تذكرها بشكل باهت.. كان موقفها يزداد سوءاً، لكن رنيم لم تتردد لحظة وهي تضغط على بطن التنين وتجذب لجامه لتدفعه للارتفاع.. وبينما غادر كاجا البحر مواجهاً السماء، غمغمت رنيم لنفسها "ما يقلقني الآن هو العثور على جزيرة في الطريق لننال بعض الراحة ونستزيد من المؤن التي نملكها.."
ألقت نظرة على الجِراب الذي علقته على السرج بإحكام، والذي يحوي جزءاً صغيراً من الفاكهة والخضار التي حصلت عليها من ذلك الرجل.. لم تكن تلك تكفي التنين كوجبة كاملة، لكنها لا تزال تأمل في العثور على جزيرة يستريحان فيها ليتمكن كاجا من الحصول على الوجبه التي تسدّ جوعه..
وبعد وقت طويل قضياه يطيران فوق المساحات المائية الشاسعة، عثرا على مجموعة جزر صغيرة الحجم لا تتجاوز حجم قرية من قرى الهوت، صخرية بالكامل ولا ترى فيها أثراً لشجرة ولا أي كائن حيّ.. توقفا على إحدى تلك الجزر ورنيم تتأمل ما حولها بشيء من الإحباط، ثم قالت لكاجا وهي تترجل عن ظهره "سنحاول الحصول على بعض الراحة على الأقل.. مازلنا نملك بعض الطعام.."
بشيء من المشقة، أنزلت السرج عن ظهر كاجا الذي انتفض براحة بعد أن أثقل السرج كاهله لأيام عدة.. ثم ارتفع مغادراً رنيم بحثاً عن طعام في الجزر القريبة.. أما رنيم فقد جلست جانباً وهي تتأمل الجِراب الذي تحمله والذي يحوي على أقل من عشر حبات من الفاكهة.. هذه لن تكفيهما بتاتاً، وكاجا يتضور جوعاً بعد رحلة طويلة كهذه.. فما الذي يمكنها فعله؟.. إنها لم تحسب حساباً لهذا أبداً، وهذا سوء تقدير منها بالتأكيد.. إنها لا تملك أي خبرة في الترحال وما يلزمه من إعداد سواء أكانت وحيدة أم على ظهر تنين.. لكن، كان عليها اتخاذ احتياطاتها فيما يخصّ الطعام على الأقل دون الاعتماد على الحظ..
تنهدت وهي ترى كاجا يعود إليها وهو يصيح بتذمر شديد.. ولما هبط قربها أفرغت الجِراب أمامه ليلتهم ما يحتويه بينما احتفظت لنفسها بحبة فاكهة واحدة فقط.. وماذا عن الماء؟.. لقد فقدا القِربة التي كان يحملها آرجان في مرحلة ما من رحلتهما بعد هبوطهما في سهول الأكاشي.. والآن العطش يستبد بها وبرفيقها رغم المساحات المائية الهائلة المحيطة بهما.. وقد حاولت بالفعل تذوق شيء من مياه البحر رغم معرفتها بملوحته، فهي لم تذُق مياهه من قبل، لكن التجربة لم تكن محببة وتركتها عطشى أكثر من السابق..
وأخيراً، بعد حصولهما على ما يحتاجانه من راحة، أعادت رنيم السرج لظهر كاجا المعترض بشيء من العسر وصعوبة كبيرة.. وبعد جهد شديد، تمكنت أخيراً من تثبيته بإحكام، بعد أن كانت تراقب آرجان في عمله سابقاً في القرية بشغف كبير.. ولما امتطت ظهر كاجا، غمغمت وهي تدقق في أربطة السرج التي تحيط ببطنه "أتمنى ألا ينفك السرج ونحن في عرض السماء.. سيكون هذا مأزقاً مضحكاً.."
وجذبت عنان التنين ليرتفع في السماء مواصلاً رحلته الطويلة نحو الجانب الآخر من بحر السلام..

*********************

بعد عدد من الساعات، والشمس قد ارتفعت في السماء وأصبح وهجها أكثر حدة، فوجئت رنيم بهزيم الرعد والتماعة البرق من الغيوم الكثيفة السوداء التي تغطي الأفق أمامهما.. نظرت رنيم للموقع بقلق بينما شعرت بتوتر كاجا الشديد وهو يدير رأسه جانباً ويصدر أصواتاً معترضة.. كان طيرانهما في هذا الاتجاه مع العاصفة الوشيكة خطراً، فالطيران وسطها مرعب وخطر بينما البقاء على سطح الأمواج التي ستثور مع الرياح القوية والأمطار الغزيرة سيكون أكثر خطراً وصعوبة.. ولا تكاد ترى أي لمحة لجزيرة أو سفينة عابرة حيث يمكنهما الالتجاء ولو مؤقتاً..
كان التعب قد بدأ يحل بكاجا، لكنها قالت وهي تربت على عنقه "عليك أن تحتمل هذا يا كاجا لفترة أطول.. لا أريد أن نواجه هذه العاصفة الآن.."
كانت الغيوم السوداء تمتد لمسافة كبيرة أمامهما، وقد لاحظت أن الأمطار قد بدأت تهطل تحتها بغزارة وبدأت الأمواج ترتفع لمسافات عالية وتغدو أشبه بجبال مصغرة ترتفع ثم ترتطم ببعضها البعض بقوة والرذاذ يتطاير في مساحة كبيرة.. ولاتساع تلك العاصفة، كان الدوران حولها أو تجنبها مستحيلاً، لذلك دفعت رنيم التنين ليرتفع عالياً قبل الولوج في قلب العاصفة قدر استطاعته وهي تحثه على بذل جهده لتجاوز تلك الغيوم والطيران فوقها..
وبشيء من الصعوبة، تمكنت من تجنب العاصفة وارتفعت مع التنين فوقها وإن كان صوت الرعد والتماعة البرق التي تشق الغيوم تصيبها برجفة شديدة وتوتر التنين بقوة.. كانت العاصفة تغطي مساحة واسعة من ذلك البحر، وبدا أنها قد أثارت البحر بشدة وارتفعت أمواجه معها بثورة.. فتساءلت رنيم عن حال السفن في مثل هذه الأوقات، وحمدت الله أنها مع كاجا يتمكنان من تفاديها ولو بصعوبة..
ورغم سرعة كاجا، فإن وقتاً طويلاً قد مر عليهما وهما عاجزان عن تجاوز تلك العاصفة، وعاجزان عن الهبوط على أي جزيرة قد يمران بها.. لاحظت رنيم أن كاجا بعد مرور ذلك الوقت قد بدأ يفقد توازنه، فربتت على عنقه قائلة بإلحاح "قاوم تعبك يا كاجا.. لو اضطررنا للهبوط وسط تلك العاصفة فسنغرق في لحظات.. بقي القليل فقط ونتجاوزها بإذن الله تعالى.."
صاح كاجا بضيق شديد وهو يرفرف بقوة ويدفع نفسه دفعاً للاستمرار بالطيران مدة أطول.. وبعد أن كادت رنيم تيأس من تجاوزهما تلك العاصفة، بدأت الغيوم تخفت وتتفرق، وبدأ البحر الأزرق يبدو من تحتها مشرقاً بنور الشمس القوية.. فتنهدت رنيم وهي تحدق بالغيوم السوداء خلفهما، ثم عادت ببصرها للأفق مغمغمة "الحمدلله أننا تجاوزناها.. الآن لو نتمكن من الوصول لإحدى الجزر التي تنتشر في البحر كله، لكانت الحياة أكثر روعة.."
وبالفعل، بعد وقت قصير، لاحظت وجود جزيرة عند الأفق واللون الأخضر يغطيها وقمة جبل بركاني تنتصب وسطها والمياه حولها تبدو بلونٍ لازورديٍّ جميلٍ وصفاءٍ يخلب الألباب.. وحال الاقتراب من الجزيرة، لاحظت رنيم وجود قرية صغيرة في أحد جوانبها بميناء بسيط وعدد قليل من السفن والقوارب الخاصة بالصيد.. بينما بدت بقية الجزيرة غير مأهولة وتحتل الغابة أغلبها.. فغمغمت رنيم "جيد.. يمكن لك أن تعثر على طريدتك في الغابة بسهولة.. أليس كذلك يا كاجا؟"
فوجئت به ينحدر للأسفل بسرعة وزمجرة حانقة، ووجدته يتجه نحو أقرب موقع من الجزيرة.. عند تلك القرية، وعند شاطئها، وقرب تلك القوارب حيث بعض الصبية ممن هم تحت العاشرة يلعبون بالحجارة ويراقبون التنين بدهشة وذهول..
فوجئت رنيم بهبوط كاجا في ذلك الموقع دون طلب منها، ودهشت لرؤية الإصرار في عينيه وهو ينحدر لذلك الموقع بالذات مزمجراً بغضب أشعرها بتوتر كبير.. فجذبت لجامه بقوة قبل أن يصل للأرض وصاحت "كاجا.. توقف.. ما الذي تفعله؟"
أفلحت جذبتها في لجمه للحظات وهو يهبط على الشاطئ بقوة مثيراً الرمال من حوله، بينما تدافع الصبية مذعورين لذلك المنظر عدا صبيين صغيرين سقطا أرضاً برعب.. وفور هبوطه، اعتدل كاجا بسرعة نافضاً الرمال عنه، ثم تقدم من الصبيين وهو يطلق زمجرة اعتراض بينما جذبت رنيم لجامه بقوة وهي تلكزه محاولة دفعه للرحيل صائحة "ما الذي تفعله يا كاجا؟.. ما الذي تحاول فعله؟.."
لكنها كانت تدرك ذلك بنظرة واحدة لعينيه.. كان الجوع الشديد قد استبدّ بالتنين مع الطيران الطويل ومع العاصفة التي منعتهم من الهبوط لوقت أطول، وتحول جوعه لشراسة لم ترَ مثلها من قبل وتناستها مع الألفة التي شعرت بها تجاهه في الأيام السابقة.. هل ينوي حقاً التهام أحد الصبية لسدّ جوعه الشديد؟.. ولما رفض الانصياع لها وهو يميل برأسه يميناً ويساراً محاولاً التخلص من اللجام الذي يشدّ فمه بعيداً، فإنها سارعت للترجل من على ظهره والوقوف أمام الصبيين عسى أن يسترد إحساسه بما حوله برؤيتها ويعيَ ما يفعله حقاً.. فمدّت ذراعيها وهي تصيح به "كاجا.. استفق لنفسك.. يمكنك أن تتناول ما تشاء من تلك الغابة.. لكن لا تأكل البشر لتسدّ جوعك.."
صاح كاجا في وجهها بغضب شديد بينما بدأ الطفلان بالبكاء وهما يرتجفان.. وفي الآن ذاته تجمهر بعض القرويين في جانب المكان بذعر لمرأى التنين الغاضب وللفتاة الضئيلة التي وقفت أمامه بحزم، وإن لم يجسر أحدهم على التقدم وإنقاذ الصبيين الباكيين.. كانت رنيم واثقة أن كاجا لا يمكن أن يكون بتلك الشراسة، ولا يمكن أن يلجأ للوحشية لسدّ جوعه الشديد.. سيستفيق لنفسه مع صوتها ورؤيتها، وعندها سيطيعها بكل تأكيد.. ورغم ذلك، لم تملك نفضة اعترت جسدها للشراسة التي تراها في ملامحه المنقبضة وعينيه بحيث بدا غريباً عليها..
وعندما مال برأسه مزمجراً محاولاً تجاوزها نحو الصبيين، وقفت في وجهه وهي تمد يدها لتبعده صائحة "استفق يا كاجا.."
لكنها فوجئت به ينقض عليها فيقبض على أعلى ذراعها اليمنى بأسنانه الحادة التي انغرست بقوة مثيرة آلاماً لا تطاق.. لكن رنيم لم تصرخ وهي تعضّ على شفتيها بقوة حتى أدمتها.. خشيت أن يستثير صراخها التنين أكثر، وهي بحاجة لتهدئته الآن أكثر من السابق.. وبينما تراكض الصبيان بعد أن تمالكا نفسيهما، فإن رنيم التي سقطت على ركبتيها لشدة الألم والتنين متشبث بذراعها قد رفعت يدها الأخرى وأحاطت رأسه وهي تضمّه بقوة وتقول بصوت مرتجف "كاجا.. ما الذي جرى لك يا صاحبي؟.. استفق لنفسك وعُدْ كما كنت.. كاجا اللطيف الأليف الذي يعشق التفاح.."
زمجر التنين بغضب للحظات والدماء تسيل من ذراعها وتغرق يدها، ثم وجدته يفتح فمه ويستخرج أسنانه من ذراعها متراجعاً خطوات وهو يزوم بألم.. تململ في وقفته وهو يقلب بصره بينها وبين القرية.. ثم استدار وارتفع بقفزة عالياً ليطير في السماء نحو الغابة القريبة تاركاً رنيم تراقبه بشيء من الألم وكثيٍر من الراحة.. لو التهم كاجا أحد أولئك الصبية، فلن تقدر على رؤيته من جديد ولن تملك الإرادة على نسيان ذلك بتاتاً.. ستضطر للتخلي عن رفيق رحلتها للأبد وهو شيء كانت ستكرهه بشدة..
زفرت بقوة وهي تمسك ذراعها بألم محاولة إيقاف الدماء المتصببة، وسمعت لغطاً بين القرويين بعد أن ابتعد التنين الذي سبب لهم رعباً وأحدهم يقول بحنق لرنيم "من أنت؟.. ولماذا أحضرت هذا الكائن الشرس لجزيرتنا؟"
صاحت إحدى النسوة وهي تضمّ الصبيين الصغيرين "كان سيلتهم الصبيين.. أرأيتموه؟.. لقد انقضّ على صاحبته دون رحمة وكاد يلتهم ذراعها.."
ردد آخر "رحماك يا ربي.. هل سيبقى هذا الكائن في جزيرتنا؟.."
لم تتعجب رنيم للغضب البادي في الوجوه، ولا للكلمات الجارحة التي وصلت لأذنيها.. فهذا ما اعتادته على أي حال.. أليس كذلك؟..
بعد لحظات مرت وهي صامتة تحاول الوقوف على قدميها، شعرت بيد تجذبها لتعينها على الوقوف ورأت رجلاً في الخمسين من عمره بجسد نحيف وطويل، وعينين داكنتين عليهما عوينات بإطار معدني ربطت حول أذنيه بخيط سميك لتثبيتها فوق أنفه، وبشعر أبيض ثائر ولحية صغيرة بيضاء وملابس بسيطة.. نظرت له رنيم بدهشة، فقال لها "تعالي.. سأعالج جرحك.."
تعجبت رنيم من معاونته لها، لكن لم تقوَ على الرفض وهي تتبعه باستسلام ملاحظة النظرات الحانقة من حولها.. بينما قال الرجل للمرأة التي ضمّت الصبيين لها "لقد أنقذت تلك الفتاة الصبيين.. عليكِ أن تكوني شاكرة لها على الأقل.."
قالت المرأة بغضب "هي من جاء بذلك الشرس لجزيرتنا، وعليها تحمّل تبعات عملها ذاك.."
لم تعلق رنيم وهي تتبع الرجل بخطوات سريعة وقطرات من دمها تسيل خلفها على الأرض الرملية البيضاء.. وفي كوخ خشبي قريب من شاطئ البحر، بحجم متوسط وقد ملأته أدوات متنوعة لم تعرف رنيم ماهيتها، فإنها جلست في جانب المكان بصمت تتأمل ما حولها حتى جلب الرجل بضع أربطة قطنية وسائلاً شفافاً.. فمزق كمّ ثوبها الذي أصبح مهلهلاً بالفعل بعد أن عبثت فيه أنياب التنين، وتحته ظهرت آثار الأنياب واضحة في ذراعها التي تشوهت بتلك الجروح العميقة.. فقال الرجل "سيؤلمك هذا.. لكنه ضروري لتنظيف الجرح.."
لم تعلق رنيم والرجل يصبّ على جرحها من ذلك السائل ليعود لها الألم مضاعفاً بشكل جعلها تئن من الألم وتضرب قدمها بالأرض بقوة.. فغمغم الرجل وهو ينظف الدماء من ذراعها بقطعة قماش نظيفة "تحمّلي هذا حتى أنتهي.."
حاولت رنيم التحمل بأقصى ما تستطيع وهي تشعر بصداع عنيف ينبض في رأسها والعرق يحتشد على جبينها.. وبينما انشغل الرجل بربط الجرح بقوة، فإن رنيم عضّت على شفتيها وهي تتمنى أن ينتهي بسرعة لعلّ الألم يخفت بعدها.. وبعد أن انتهى، نظر الرجل لرنيم قائلاً "يمكنك أن ترتاحي قليلاً حتى يزول هذا الألم.. للأسف لا أملك مكاناً مريحاً يمكنك الاستلقاء عليه، لذلك عليكِ الاكتفاء بهذا الكرسي.."
وأشار لكرسي من القصب بلون بنيّ جميل وعليه بعض الوسائد الوثيرة.. فلم تتذمر رنيم وهي تجلس على الكرسي فتنطوي فيه وهي تسند رأسها لذراعها اليسرى.. كان الألم لا يطاق، وشعرت بحاجة كبيرة للنوم وتناسي ذلك الألم خاصة بعد رحلة طويلة قطعتها مع كاجا مستيقظة.. ألقت نظرة على الرجل الذي تركها وانشغل بغسل يديه وتنظيف ما تلطخ من كوخه بدمائها، ثم أغمضت عينيها بشيء من الاستسلام.. هي لا تعرف هذا الرجل، لكنها نوعاً ما شعرت بشيء من الثقة تجاهه وأدركت أنه لن يمسّها بسوء.. تتمنى فقط ألا يخيّب ظنها فيه..

*********************

عندما استيقظت رنيم، بعد ساعة أو يزيد، وجدت الكوخ خالياً من حولها.. حاولت الجلوس على الكرسي باعتدال مستشعرة الألم الذي ينبض بقوة في موضع الجرح المضمّد.. نظرت لذراعها ملاحظة أن الدماء قد لطخت أجزاء منه، لكن لونها المتغير قد أوحى لها أن الجرح لم يعد ينزف الآن..
تنهدت متطلعة حولها للصمت الذي يعمّ المكان، ثم سمعت صوتاً قوياً يصدر من فوقها ناتجٌ عن سقوط شيء ثقيل.. نظرت للأعلى بدهشة، وتلفتت حولها لتنتبه لوجود درجات خشبية تؤدي لموقع علوي في هذا المنزل.. ببعض التردد، اقتربت من الدرجات وتطلعت من الجزء المفتوح في الأعلى بشيء من الفضول، ولما انتبهت لما تراه من ذلك الجزء المفتوح، صعدت الدرجات بخطوات متسارعة لتجد نفسها في عليّة واسعة باتساع الكوخ كله.. وفي كل جوانب العلية، وعلى الجدران، وعلى الأرضية الخشبية اصطفت عشرات وعشرات الكتب مختلفة الأحجام والألوان.. منها القديم الذي حال لونه أو فقد غلافه وغدا مجرّداً، ومنها الحديث الذي لا يزال عنوانه واضحاً وصفحاته بيضاء نظيفة.. ووسط هذا الموقع، عثرت على مضيفها الذي انحنى يتناول بعض الكتب التي سقطت من يده، ولما انتبه لها قال "أأنت أفضل حالاً الآن؟.."
قالت رنيم بانبهار دون أن تجيب على سؤاله "لا أصدق ما أراه.."
تساءل الرجل بابتسامة "أمِنَ العجيب رؤية الكتب في هذه الجزيرة النائية وهذا الكوخ الحقير أم العجيب اهتمامي بها؟"
قالت هاتفة "الاثنان كما أظن.. أأنت من جمع كل هذه الكتب؟"
قال الرجل وهو يجلس على كرسي منخفض من القصب يخلو من أي مسند لليدين أو للظهر "أجل.. جمعتها في رحلاتي أثناء شبابي.. والآن بعد أن أعجزني العمر عن استكمال تلك الرحلات قمت بوضع يدي على كل ما يمكنني الحصول عليه من السفن العابرة.."
دارت رنيم في الموقع منبهرة وهي تغمغم "منظر لم أكن أتخيّل رؤيته في هذا الموقع بالذات.. لقد مضى زمن طويل منذ آخر مرة قرأت فيها كتاباً.."
سألها الرجل بفضول "أأنت تُحسنين القراءة؟.. من علّمك؟"
ترددت للحظات وهي عازفة عن كشف هويتها رغم الطيبة الظاهرة على وجه الرجل، ثم تذكرت معلمها الذي كان يعمل في قصر أبيها معلماً لإخوتها، والذي رضِيَ بتدريسها خلسة دون علم الملك.. فقالت بابتسامة "علّمني إياها رجل طيب.."
غمغم الرجل وهو يتأمل أحد كتبه "قلّة من الرجال من يوصفون بهذا الوصف.."
قالت "أنت أيضاً رجل طيب.. فأنت لم تعبأ لأمر التنين الذي جئت معه وقمت بعلاجي وإيوائي فوق ذلك.."
نظر لها الرجل متسائلاً "ما حكايتك يا فتاة؟.. أنا لم أرَ تنيناً في حياتي ولم أسمع به إلا في متون الكتب.. لذلك من الغريب أن أرى شابة مثلك ترتحل على ظهره بكل سهولة.."
لم تجد رنيم مانعاً من إخباره بحكايتها، وإن اكتفت بالجزء الأخير منها والخاص برحلتها مع آرجان بحثاً عن جايا وما جرى لها بعد ذلك.. فعلق الرجل بدهشة بعد أن فرغت من حكايتها "هذه رحلة غريبة وصعبة جداً.. ما الذي جمع بين رجلٍ من الهوت وفتاة عربية في رحلة كهذه؟.."
قالت ببساطة "الأقدار فعلت ذلك.."
لم يعلق الرجل وهو ينهض تاركاً ما بيده من كتب جانباً وقال "اسمعي يا فتاة..."
أسرعت تقول "اسمي رنيم.."
فقال بابتسامة "اسمك جميل كهيئتك.."
التمعت في ذهن رنيم ذكرى بعيدة، عندما قابلت الملكة في (الزهراء) وعلقت على اسمها بأنه لا يليق بها.. شتان بين هذين التعليقين، وشتان بين هاتين الحياتين..
استخرجها الرجل من ذكرياتها وهو يقول" اسمعيني يا رنيم.. اعتبري هذه الدار هي دارك.. أنا أسكن هنا، ولا أحتاج إلا لجزء صغير من الكوخ أفرش فيه فراشي وأنام فيه.. لذلك لا يمكنني منحك الكثير.. سأزودك بالطعام ومكان ترتاحين فيه حتى تقرري الرحيل.."
قالت بسرعة "أنا شاكرة لك ذلك.. لكني سأرحل فور عودة التنين.. ألم تره أثناء نومي؟"
هز رأسه نفياً وقال "لا.. لكن على الأقل سأحضر بعض الطعام لك، وهو ليس بالكثير.. لابد أنك جائعة.."
ثم استدار هابطاً الدرجات، فسألته قبل أن يبتعد "وبمَ يمكنني أن أناديك أيها الرجل الطيب؟"
أجاب دون أن يلتفت إليها "اسمي مُزاحِم.. يكفيك أن تناديني بهذا الاسم.."
نظرت رنيم لظهره المحنيّ وهو يهبط الدرجات نحو الجزء السفلي من الكوخ، ثم نظرت للكتب من حولها وهي متعجبة من قدرها الذي ساقها لهذه الجزيرة بالذات، ولهذا الكوخ بالذات، لتعثر على هذا الكنز المخفيّ عن الأعين.. ولولا المهمة التي تسعى إليها، لقَبِلَت عرض الرجل دون تردد واستوطنت هذه العليّة لأيام وأيام حتى تشبع من هذه الكتب العزيزة على قلبها..

*********************

قضت رنيم اليومين التاليين تكاد لا تغادر الكوخ الصغير بتاتاً.. فهي لا تكاد تقطع خلوتها بالكتب في العليّة إلا لتقف عند باب الكوخ ترقب السماء بقلق وتطلق صفيراً عالياً على أمل أن يستجيب لها كاجا.. ظلت على أمل عودته عدة ساعات تحولت ليوم ويومان دون أن يبدو لها عند الأفق.. هل أصابه شيء؟.. أم أنه غضب منها وفضّل الرحيل وحيداً؟.. هل قرر البقاء في الغابة وعدم العودة إليها؟..
وعندما تيأس من رؤيته كانت تعود للكوخ فتعاون مزاحم بما تقدر عليه، وهي التي لا تعرف عمل شيء بنفسها بتاتاً.. وعندما يستغني مزاحم عن خدماتها التي لا تفيد أحداً فإنها تنزوي في العليّة الضيقة تتصفح الكتب وتشمّ رائحتها التي اشتاقت لها أمداً طويلاً.. رغم أن هذه المكتبة البسيطة لا تقارن بمكتبة أبيها الضخمة، لكن الراحة التي تشعر بها هنا لا تقارن بالضيق الذي شعرت به هناك.. ولا يؤرقها في تلك الساعات إلا التفكير في كاجا وفي آرجان.. هل حتّم عليها أن تفقد كل شخص، وشيء، تتقرب منه؟.. هل قدّر لها أن تكون وحيدة الآن في رحلتها هذه، كما كانت وحيدة في ذلك القصر الواسع ووسط عائلتها الكبيرة التي لم تفهمها يوماً؟..
وعندما نقلت هواجسها هذه لمزاحم قال لها وهو يبحث بين الكتب "سيعود.. لو كان أليفاً ومطيعاً كما تخبرينني عنه فلابد سيعود مهما طال الوقت.."
تساءلت رنيم بقلق "لكن، كيف سأبقى هنا بانتظاره؟.. أرأيت كيف غَضِب القرويون لقدومي؟.."
ثم دفنت وجهها في الكتاب أمامها مغمغمة "رغم أنني أواجه الغضب ذاته حيثما ذهبت.."
قال مزاحم "لا أظن الغضب كان موجهاً لك أنت شخصياً.. فنظرة إلى وجهك تجعلهم يدركون أي فتاة لطيفة ومسالمة أنت.. غضب أهل القرية منك كان بسبب الذعر الذي عاشوه وارتبط بقدومك.. لك أن تعذريهم على ذلك، فظهورك المفاجئ ارتبط بتجربة قاسية تتمثل في التهام وشيك لصبيين من صِبْية القرية أمام أعين أهلها.. ولولا لطف الله تعالى لحملتِ إثمهما على كاهلك.."
قالت رنيم "لكني لم أهدف للهبوط في هذه القرية بتاتاً.. لقد فقدت السيطرة على كاجا عندما رأى الجزيرة وأفقده الجوع تركيزه.."
ثم تنهدت وهي تنظر للسقف الخشبي الذي علاه الغبار مغمغمة "ربما كان هذا خطئي بالفعل.. أنا لم أخطط لهذه الرحلة بتاتاً.. ظننت أن هذا البحر يحوي العديد من الجزر التي ستوفر لنا مصدراً آمناً من الطعام وموقعاً للراحة طوال الطريق.."
قال مزاحم باهتمام "ليست الحياة بهذا اليسر يا فتاة.. عليك فعلاً أن تخططي لطريقك بشكل أكبر.."
ونهض متجهاً لجانب من العليّة حيث صفّت أوراقٌ قديمة متفاوتة الأحجام، فاستخرج ورقة كبيرة الحجم وتقدم من طاولة جانبية ففردها أمامه.. تقدمت رنيم بفضول فرأت أمامه خارطة للعالم، تم التركيز فيها على بحر السلام بجزره وموانئه ومسارات السفن المعتادة فيه.. فهتفت رنيم "هذا رائع.. ستفيدني هذه حقاً.."
قال مزاحم منذراً إياها "لا تحلمي بأن أعطيك هذه الخارطة.. عليك تدبّرها جيداً واختيار طريقك الأنسب.. ولو رغبتِ يمكنني تعليمك كيفية تحديد اتجاهك في أي مكان وأي وقت.. وهي وسيلة سهلة ولا تعتمد على أي أدوات خاصة.."
قالت رنيم بامتنان "هذا سيعينني حقاً.. لا أعرف كيف أشكرك على كل هذا يا مزاحم.."
تجاهل مزاحم قولها وهو يشير لجزء من الخارطة قائلاً "أنتِ قدمتِ من مدينة (طوقا).. هذا هو موقعها.. وهذه هي جزيرتنا.. بهذا يكون المسار الذي اتخذتِه بهذا الشكل، بينما مسار السفن المعتاد والتي تتجه نحو قارة الثنايا تتخذ طريقاً آخر مغايراً بعض الشيء.."
استمعت رنيم لشرحه باهتمام شديد وهي تحاول حفظ الطريق في ذاكرتها.. بالنظر للخارطة، فهي في إحدى جزر الأرخبيل الأسود المتطرفة، وهي تقع في منتصف المسافة بين القارتين، وعليها قطع المسافة ذاتها التي قطعتها في قدومها لهذه الجزيرة.. هذا لو كانت حسنة الحظ وعاد إليها كاجا مطيعاً وأليفاً كما كان.. فما الذي يمكنها فعله لو لم يَعُدْ؟..
وبعد هذين اليومين، وبينما كانت تقف خارج الكوخ تتأمل السماء الزرقاء الصافية وتسمع حفيف الأشجار المثمرة القريبة من الكوخ، فإنها صفرت بأعلى ما تملك وهي تدير بصرها فيما حولها.. لا تدري متى ستفقد الأمل حقاً.. لكن ليس اليوم.. بالتأكيد يمكنها أن تتحلى ببعض الصبر لعدة أيام بعد..
وبينما كانت تدير بصرها في الأرجاء، سمعت صوت حفيف الأجنحة القوي الذي تعرفه تمام المعرفة.. فاستدارت بلهفة لترى التنين الأبيض يقترب منها وهو يهبط برفق على الأرض الرملية مثيراً عاصفة من الرمل.. كتمت رنيم صيحة فرح وهي ترى كاجا يقف أمامها بهدوئه المعتاد، واقتربت منه قائلة بابتسامة "عوداً حميداً يا كاجا.. يبدو أنك تحب أن تختفي من ناظريّ بين فترة وأخرى.."
وجدت التنين المتململ يقترب منها بشيء من التردد وهو يزوم ويلمس ذراعها الجريحة بأنفه.. فربتت على رأسه مغمغمة "لا تقلق يا صاحبي.. كل شيء على ما يرام.."
وجدته يلعق وجهها فجأة وهي تتراجع بدهشة.. ثم ضحكت وهو يمسح رأسه في ذراعيها، وضمّته قائلة "أهذه قبلة اعتذار؟.. لقد أخجلتني يا كاجا.."
سمعت مزاحم يقول من خلفها "يبدو أن ذلك التنين يحبك بشدة.."
قالت رنيم بابتسامة وهي تربت على خطم التنين المسترخي أمامها وتحك رقبته "ليس تماماً.. نحن مرتحلان بحثاً عن صاحبه الحقيقي.. وأنا بديلٌ عنه حتى نعثر عليه وننقذه.."
قال مزاحم مبتسماً "بل هو يحبك بالفعل.. ومن قد لا يفعل؟.."
أحرجها قوله فلم تعلق وهي تراقب التنين بابتسامة.. لقد شعرت براحة شديدة لرؤية كاجا يعود لنفسه ويستعيد هدوءه السابق ولطفه الذي لا يمكن أن تغفل عنه.. لا تلومه على ما جرى، فهي قد أجبرته على بذل مجهود أكبر من المعتاد واحتمال الجوع لوقت طويل لم يكن معتاداً عليه.. لذلك هي تتحمل نتائج عدم تقديرها ذاك ولا يمكنها لوم التنين المسكين على هذا..
وقفت رنيم، فوقف التنين بدوره بتأهب وهي تسرع لامتطاء السرج.. ثم نظرت لمزاحم قائلة "شكراً لك على كل شيء يا سيدي.. لن أنسى أنك استضفتني في منزلك اليومين الماضيين وتحملت عبئي بكرم.."
قال مزاحم "انتظريني هنا.."
وغادر عائداً لكوخه ورنيم تراقبه بتعجب، ثم عاد إليها بعد لحظات حاملاً جراباً قماشياً وقربة بيده وناولها إياها قائلاً "هذا يحوي ما تحتاجين إليه من طعام وماء لرحلتك هذه.. ولا تنسي أن تتزودي بالمزيد في أي جزيرة تعبرين قربها لئلا تقعي في الخطأ السابق ذاته.."
نظرت رنيم للجراب والقربة مغمغمة بشيء من الذنب "لقد أسديتَ إليّ خدمة كبيرة يا مزاحم.."
وخفضت رجهها بانحناءة خفيفة مضيفة "سأظل مدينة لك بكل ما قدمته لي طوال عمري.."
فقال وهو يعدل عويناته "عودي إليّ في رحلة عودتك للقارة العظمى.. يمكنك عندها أن تطلعي على ما تشائين من كتب قدر ما تشائين.."
قالت رنيم بابتسامة "سأفعل ذلك بالتأكيد.."
وجذبت لجام التنين الذي اندفع نحو السماء دون تردد، بينما غمغم مزاحم وهو يراقبهما "بالتوفيق يا فتاة.."
وبينما وجّهت رنيم التنين نحو وجهتهما كما علّمها مزاحم، فإنها راقبت الأفق الأزرق بصمت.. لقد تأخرت في طريقها أكثر من اللازم.. هي لا تعرف كم يوماً تستغرق السفن للترحال قاطعة بحر السلام الشاسع هذا.. لكن تتمنى أن تتمكن من الوصول لجانبه الآخر قبل وصول السفينة، وقبل أن يغيب آرجان في قلب مملكة كشميت دون أن تعثر له على أثر..

*********************

مضت ثلاثة أسابيع على آرجان وهو حبيس في قلب تلك السفينة لا يُسمح له بالخروج من القفص الذي بالكاد يتسع له بالقدر الكافي.. ورغم كل محاولاته مع رفاقه في السجن، كان هربهم مستحيلاً إذ شدّد البحارة الحراسة حولهم بعد هرب المجموعة السابقة من الهوت بوسيلة ما.. ولذلك، رغم عدم استسلامه للأمر، لم يملك آرجان إلا الصمت على ما يُساق إليه.. ورغم كل تساؤلاته، لم يجبه أي رجل من البحارة أو رئيسهم من الكشميت عن سبب اختطافهم للهوت وجلبهم لمملكة كشميت.. ظل هذا لغزٌ يؤرقه ويحيره بشدة.. ما الفائدة التي سيجنيها الكشميت من أسر الهوت دوناً عن العالم كله؟..
وبعد ذلك الوقت، وقد بدأت السفينة بالتباطؤ في إبحارها مما جعل آرجان يشك أنها تسير وسط خليج ضيق أو تقترب من ميناء يقع وسط تضاريس صعبة.. بعدها، وجد السفينة ترسو قرب الميناء الذي كانت أصوات الحركة فيه تعلو بوضوح يدلّ على هويته.. وخلال بضع ساعات، بعد أن أتمت السفينة إفراغ صناديقها، جاء عدد من الرجال لإخراج السجناء واصطحابهم للخارج..
تبادل آرجان مع رفاقه النظرات الصامتة.. ولما رأى البحارة وقف باستعداد ليدفعهم لإخراجه هو في البدء.. كانوا خمسة، وكل واحد منهم مكلفٌ برجل من الهوت، ولما فتح البحار القفص وطلب من آرجان التقدم ليوثق رباط يديه، فإن آرجان قفز نحوه وأسقطه أرضاً وهو يلكمه بقوة.. وأثناء ذلك استلب سلسلة المفاتيح الخاصة بالأقفاص ورماها لأحد رفاقه في الأقفاص الأخرى والذي كان بانتظار تلك اللحظة.. وبينما انشغل رفاقه بإخراج أنفسهم من سجونهم، فإن آرجان قد وقف أمام بقية البحارة بعد أن سلب خنجراً من الأول.. ورغم أن البحارة الأربعة قد تدافعوا نحوه بغضب شديد، لكن آرجان لم يتردد وهو يقفز وسطهم ويحاول تعطيلهم بشتى الطرق لئلا يحاولوا القبض على رفاقه قبل نجاحهم في الخروج.. فطوّح خنجره نحو أحد البحارة بضربة أصابت وجهه بجرح عميق بينما دفع ذراعه الأخرى بضربة حمّلها كل قوته نحو صدر آخر شهق لها بقوة وهو يجد عسراً مفاجئاً في التنفس.. تكالب الآخران عليه بينما نهض الأول وهو يصيح برفاقه بغضب ليمنعوا رجال الهوت من الهرب.. وبينما قبض أحد البحارة على آرجان من الخلف محيطاً كتفيه بذراعيه القويتين، فإن الآخر قفز نحوه بضربة قوية موجهة نحو بطنه.. فما كان من آرجان إلا أن يضع ثقله على الرجل خلفه ويرفع قدميه بقوة ليحيط بهما عنق المهاجم ثم يجذبه للأسفل بقوة حتى فقد توازنه وارتطم رأسه بالأرض بعنف.. عندها انثنى آرجان ورمى الرجل الذي يقيّده من فوق ظهره فوق البحار الذي سقط أرضاً.. كان يدرك أن معركته خاسرة بمفرده، لكن لم يكد ينتهي من هذين الرجلين حتى وجد رفاقه يقفون قربه ويهجمون على من بقي من البحارة ببسالة.. وخلال وقت قصير، كان البحارة مكوّمين أرضاً بينما انطلق آرجان يتبعه البقية عبر سلالم السفينة نحو سطحها وهو يقول لهم "سنجد مقاومة كبيرة من بقية البحارة.. علينا أن نحاول اختراقهم بأسرع ما نستطيع.. ولنتجه لحافة السفينة المعاكسة للميناء، فهم لن يسمحوا لنا بالفرار إليه قط.. بعد أن نصل لحافة السفينة، سنقفز في المياه ونشق طريقنا مبتعدين بأسرع ما نستطيع.."
لم يعترض أحد الرجال بكلمة على قوله وهم يتجاوزون عدداً من السلالم حتى وصلوا لسطح السفينة.. وعندما سمعوا تصايح البحارة ممن انتبهوا للأمر وشكلوا سدّاً بينهم وبين مخرج السفينة الوحيد، فإن آرجان ورفاقه استداروا على الفور نحو الجانب الآخر المؤدي بهم للبحر المكشوف.. لكن ما رأوه أمامهم كان عدداً من الرجال برداء جنود الكشميت وهم يقفون صفاً واحداً، وتلقّتهم البنادق الثقيلة في وجوههم بضربات قوية أسقطتهم أرضاً دون حراك.. ومن لم يفقد وعيه منهم، مثلما حدث لآرجان، شعر بالقيود تقيّد يديه خلف ظهره وبجنديين يحملانه من ذراعيه ساحبينه نحو الميناء دون أي شفقة..
وخلال وقت قصير، في بناء واسع قرب الميناء استخدم كمستودع للبضائع، تم وضع الرجال في سجن جانبي وتقييد أيديهم وأرجلهم للحائط خلفهم.. ثم تُركوا هناك وحدهم دون حراسة بثقة كبيرة، وتجمع الجنود في جهة أخرى من ذلك المستودع بانتظار من ينقل هؤلاء السجناء من هذا الميناء، ونحو هدفهم ومصيرهم الأخير..

*********************

bluemay 19-12-15 03:21 PM

رد: على جناح تنين..
 
سلمت يداك


لم اقرأ الفصلين بعد

وبالتأكيد لي عودة بتعليق إن شاء الله بعد القراءة

لم احب ان اقرأهما على عجل فانا استمتع كثيرا واحبان اكون في حالة جيدة بعكسي اﻵن متوعكة وعندي موعد مع الطبيب فالتمس العذر

تقبلي خالص ودي

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

bluemay 19-12-15 05:03 PM

رد: على جناح تنين..
 
عدنااا


رائعة

ولو انه اعتصرني اﻷلم عندما هاجم كاجا رنيم ولكنني ارتحت لعودته لطبيعته لاحقا..

مزاحم رجل طيب داوى جراح رنيم وقدم لها يد العون..



هل وصلو الى كشميت؟!!
اتوقع انهم نزلو في مكان ما قبل القارة العظمى.


صحيح نسيت ان اهنئ نفسي على صحة توقعاتي
فكاجا من انقذ رنيم من الأكاشي

وقالان وباكين هما من غدرا بآرجان


سلمت يداك تقبلي خالص ودي

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

طُعُوْن 19-12-15 05:47 PM

رد: على جناح تنين..
 
مرحبا..

صراحة كنت طفشانة ودخلت الرواية و على آخر صفحة.. قلت اذا
لقيت بارت رح اقرأ واذا تعليقات رح اطلع..

وطحت على اخر بارتين نزلوا.. عجبتني الفكرة حيييييل و أول ما قرأت
كاجا كنت مفكرة انه انسان ماهو تنين😐 ما استوعبت الا بعدين..

الرواية فيها طابع الخيال بنسبة كبيرة بس برضوا تشد القارئ..
يعني بعض الخيال ما يستسيغه العقل بس هذي لقيتني تلقائيًا أكمل
قراءة وما وقفت الا لما انتهى البارت.. اهنئك على موهبتك وبإذن الله توصلين
للنهاية..

استمري و للأفضل بإذن الله.. واذا لقيت لي وقت رح ابدأ فيها من البداية..

..

تقبلي مروري🤗

..

سوهاني 19-12-15 06:49 PM

رد: على جناح تنين..
 
السلام عليكم

دفعني الفضول لأرى محتوى روايتك .. خاصه أنها من النوع الخيالي
لأنني أجد هذا النوع من أصعب أنواع الكتابه إن كان من ابتكارك
لأكتشف سر آخر .. أنها من النوع التاريخي ..
لذا قرأت الفصل الاول ثم الثاني على عجالة ..
صراحه أعجبتني كتابتك العربيه الفصيحه وخيالك .. ماشاء الله !
لا أخفي عليك أنني أصبت بالأحباط كثيراً بسبب الفارق بيني وبينك
وبين كُتـاب آخرون هنا .. لديهم قلم مميز
ينقصني الكثير لأضيفه ولأتعلمه
سأعود لإتمام ما بدأته .. بالتوفيق ^^

عالم خيال 19-12-15 07:31 PM

رد: على جناح تنين..
 
شفاك الله من المرض يا بلومي
سعيدة بعودتك وقراءتك الفصلين

:55: توقعاتك السابقة كلها كانت صحيحة بالفعل
لكني لم أرد ذكر ذلك سابقاً ليبقى لديك ترقب لأحداث هذين الفصلين
ما تزال رنيم في طريقها لمملكة كشميت
هناك فجوة زمنية بين وصول رنيم ووصول آرجان للميناء
وستعرفين ترتيب وصولهم في الفصل القادم بإذن الله


****

صدفة سعيدة هذه التي قادتك إليّ أختي طعون
والحمدلله أنك لم تخرجي من الموضوع دون قراءة بعضه بالفعل
بإذن الله سأكمل الرواية حتى نهايتها
لكن أتمنى أن تجدي الوقت الملائم لقراءتها منذ البداية
لتفهمي أحداثها وتستمتعي بها أكثر
بانتظار رأيك بها


****

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
سعيدة بوجودك معي أختي سوهاني (اسم غريب لكنه جميل)
لا يمكن إطلاق وصف تاريخي على هذه الرواية
وإن كانت البيئة المحيطة ببطلتنا تشبه عهد القرون الوسطى نوعاً ما
وهذا معتاد نوعاً في الروايات الخيالية
شاكرة لك كلماتك الجميلة
وأتمنى أن تكملي الرواية معي للنهاية
لا أحب فكرة الإحباط الذي تشعرين به، لكن إن كان سيدفعك للتقدم في مستواك فهذا أمر جيد
أنا نفسي أشعر بمثل مشاعرك عندما أقرأ لكتاب يفوقونني موهبة
لكني عند الكتابة لا أفكر بهذا كثيراً وأكتب كما تحلو لي الكتابة
فلا تجعلي هذه المشاعر تكون حاجزاً بينك وبين التطور والاستمرار
وستجدين من يغبطك على مستواك في المستقبل بالتأكيد

مملكة الغيوم 19-12-15 08:12 PM

رد: على جناح تنين..
 
مساء الخير عالم خيال
دفعنى الفضول لغرابة العنوان ان اتصفح المحتوى ولكم كانت فرحتى شديده بهذا المحتوى فهذا النوع من الخيال والقصص التاريخيه عمتا تستهوينى فلم اتركها حت قراتها للاخر فصل اهنيكى على سلاسة اللغه وطلاقة الكلمات
فكره جديده وظريفه تنقل البطل او البطله على متن شيى خيالى [التنين] مما اكسب الفكره طابع الاساطير وروايات الف ليله وليله لوكنتى قريتى هذا الكتاب ستجدى افكار مشابه زى بساط الريح والحصان الطائر وهكذا من الخيال الذى ياخذك بعيدا عن الملل والواقع الرتيب الذى نعيشه اهنيكى على الروايه واتمنى لكى خصب الافكار والخيال الجميل
ملحوظ اعلنى حبيبتى عن روايتك لن الكثير يجهل وجودها الجميل ولكى منى كل الود وفى انتظار البقيه بكثير من الشغف :55:

عالم خيال 19-12-15 09:35 PM

رد: على جناح تنين..
 
مرحباً بك بيننا يا أختي مملكة الغيوم
يفرحني فرحك هذا بالرواية ومحتواها
وشاكرة لك كلماتك الجميلة
أحب الابتعاد في رواياتي عن الواقعية
خاصة أن الواقعية هذه الأيام أصبحت مرادفاً للتعاسة والألم وفقدان الأمل
لكن لابد أن تحوي الرواية جانباً من الواقع في مشاعر الشخصيات وصراعهم الداخلي
أتمنى أن تروقك الرواية للنهاية وتستمتعي بخيالها

عالم خيال 20-12-15 08:31 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الثالث عشر: نهاية الطريق


قطعت رنيم برفقة كاجا الجزء الثاني من الرحلة بشكل أسهل وأكثر أماناً من السابق.. فرغم طول المسافة، لكنها حرصت على اتباع الطريق الذي دلّها عليه مزاحم واللجوء لأي جزيرة تمر بها لبعض الراحة والحصول على طعام لكاجا تحسباً لما بقي من الطريق.. وهكذا، فإنها لم تواجه أي مشاكل تذكر حتى وصولها لميناء (سربيل)، وهو الميناء الأشهر في مملكة كشميت..
كانت تعتزم البقاء في هذا الميناء وتراقب السفن لبضع أيام حتى تتأكد أن السفن التي تحمل الهوت تصل لهذا الميناء بالذات.. ولو لم يكن الأمر كذلك، فعليها أن ترحل بحثاً عنه في موانئ أخرى وقد يطول بها الوقت أكثر من اللازم.. لكن ما دفعها للقدوم لهذا الميناء بالذات أن مزاحم ذكر لها أنه الوجهة الرئيسية لسفن الكشميت الهامة نسبة لقربه من العاصمة (كاشتار)..
لم يكن ميناء (سربيل) كما الموانئ التي رأتها سابقاً، بل كان أقرب لثكنة عسكرية مدججة بالجنود الذين لا يخلو منهم طريق ولا زقاق.. وليس ذلك غريباً، فهذه المدينة هي على رأس الخليج الذي يقود إلى عاصمة مملكة كشميت (كاشتار).. لذلك، تم اعتبارها كحصن يحرس العاصمة ويمنع أي هجوم يمكن أن يتخذ من هذا الخليج طريقاً له.. ورغم قلق رنيم من ذلك، فإنها مضت قدماً في خطتها للوصول لذلك الميناء ومراقبة السفن القادمة إليه..
كان يحيط بالمدينة سورٌ حصين يمنع عنها أي هجوم، لذلك جعلت رنيم التنين يتسلل بها إلى المدينة في إحدى الليالي المظلمة، وهبطت على سطح أحد المنازل محاذرة إصدار أي صوت أو لفت انتباه الجنود.. وبينما دفعت التنين للرحيل بعيداً، فإنها وجدت نفسها وحيدة في قلب مدينة معادية تجهل عنها كل شيء.. كل ما تمنته في تلك اللحظات أن تسعفها بديهتها للتعامل مع سكان المدينة دون أن تكشف هويتها، وأن لا تتأخر سفينة الكشميت عن الوصول إلى الميناء..
تلفتت حولها بحثاً عن أي عين قد تلحظها، ثم باستخدام بضع صناديق صفّت في أحد الأزقة، هبطت من سطح ذلك المنزل الذي لا يعلو إلا طابقاً واحداً، ووجدت نفسها وسط الزقاق المظلم وحيدة إلا من بعض القطط الهاربة.. كان الجو أكثر دفئاً مما عهدته في سهول الأكاشي وفي طوقا، لذلك لم تقلق من هذا الأمر إنما قلقها كان منصباً على هيئتها التي لن يغفل عنها أحد مع شروق شمس الغد..
تسللت عبر المكان متلفتة حولها مغمغمة "لن يكون الأمر بالسهولة ذاتها كما في طوقا.. الكشميت لا يتحدثون اللغة العربية بتاتاً، وأنا لا أفقه حرفاً من لغتهم هذه.. فما الذي سأفعله؟"
لاحظت في ذلك الوقت في حديقة أحد المنازل القريبة حبلاً للغسيل وعليه عدد من الملابس تخصّ أصحاب ذلك المنزل.. قبعت في موقعها تراقب المكان للحظات، وتتطلع للملابس بتردد كبير.. لم تكن تملك ترف الاختيار، ولم يكن من السهل عليها الحصول على ملابس مشابهة لأهل المدينة وهي غريبة عنها.. واكتفائها بارتداء ثيابها هذه سيكشف أمرها بسهولة..
أخيراً، حسمت أمرها وتقدمت منحنية من ذلك الجانب من المنزل الذي لا يحيطه أي أسوار، فاختطفت بعض الملابس وعادت أدراجها نحو زقاق مظلم وقلبها يدق بقوة.. ولما تأملت الملابس في يديها، شعرت بسوء بالغ وهي تفكر فيما سيشعر به أصحابها في الغد عندما يكتشفون اختفاءها.. زفرت لتتناسى ذلك وهي تستبدل ملابسها بسرعة مستغلة الظلام في الموقع، وعدم وجود أي مصابيح إنارة قريبة قد تكشفها.. كانت تلك الثياب عبارة عن بنطال واسع مضموم عند القدمين، بلون أصفر باهت، وقميص بلا أكمام.. وفوقها رداء قماشي واسع يصل لقدميها بكمين واسعين ومفتوحٌ من الأمام، وله غطاء للرأس يساعد على إخفاء ملامحها أكثر من السابق.. ولحسن حظها لم تكن فضفاضة عليها بل ملائمة شيئاً ما.. تقوقعت في مكانها زافرة وتوترها يعجزها عن الحصول على بعض النوم قبل شروق الشمس الذي لن يبدأ إلا بعد بضع ساعات..
لكن، مع شروق الشمس وبدء نهار المدينة الصاخب عادة، فإنها نهضت من موقعها دون أن تذوق طعم النوم.. فخرجت من موقعها بتردد كبير وهي ترخي الغطاء على رأسها محاولة إخفاء ملامحها قدر استطاعتها.. لكنها مع رؤية عدد كبير من الأشخاص يعبرون الطريق القريب وملامحهم تدل على أصولهم المختلفة، أدركت أن هذا الميناء، كما كل الموانئ الأخرى، يضمّ خليطاً كبيراً من البشر.. لذلك غمرتها راحة كبيرة وهي تسير في الطريق محاولة معرفة أقربها للميناء الكبير الذي تتمحور المدينة حوله..
ظلت تسير في الطريق بخطوات مترددة وهي تحاول ألا تكثر من التلفت حولها لئلا تثير الانتباه.. لكنها رغماً عنها تغيّر طريقها وتسلك أقرب زقاق حالما ترى إحدى فرق الجنود التي تجوب شوارع المدينة عادة.. وفي كل مرة تتسارع دقات قلبها أكثر مع رؤية أحدهم خشية انكشاف أمرها، وهي تشعر أن كلمة (متسللة) مكتوبة على جبينها بخط واضح..
وبعد اجتيازها عدداً من الأحياء والأزقة، لاحظت تلك النوارس التي تحلق عند رأسها ورأت من بين المنازل القريبة صواري بعض السفن العالية.. تنهدت وهي تسرّع خطواتها نحو الميناء وتتجه إلى الطريق العريض المؤدي إليه.. وفور تجاوزها ذلك الزقاق، ارتطمت بأحد الأشخاص بقوة وهي تتراجع خطوة.. ولما رفعت بصرها شحبت بشدة لرؤية أحد جنود الكشميت يرمقها بامتعاض وهو يصيح بوجهها بحنق.. لم تعرف ما عليها فعله، فأحنت له رأسها باعتذار صامت وهي تتراجع خطوات.. لكنه قبض على ثوبها قبل أن تهرب وهو يتحدث بعبوس شديد.. بدا لها ينظر لها بشك، وربما هيأ لها ارتباكها هذا، لكنها حاولت تفادي شكوكه وهي تلوح بيديها وتشير لأذنيها مصدرة أصواتاً متقطعة بحلقها.. حاولت أن تفهمه أنها بكماء صمّاء لكي تتفادى هذا الموقف وتعللّ به عدم فهمها لما يقول.. فلو حاولت التحدث بأي كلمة، فهذا سيجعل شك الجندي يقيناً وسيلقي بها في قبضة الكشميت حتى لو لم تذنب ذنباً معروفاً..
وبينما حدجها الجندي بنظرات يمتزج فيها الشك والحنق، فإن رفيقاً له جذبه متحدثاً بشيء من الضيق.. رمقها الجندي بحدة، ثم دفعها بعيداً وغادر وهو يدمدم بحنق بكلمات لم تفهمها.. تراجعت رنيم وهي تختبئ في ذلك الزقاق لاهثة، فربضت أرضاً وهي تحاول تمالك أنفاسها المتسارعة وتهمس لنفسها بارتباك "رباه.. ما الذي سأفعله في الأيام القادمة؟.. لست أدري متى ستصل سفينة آرجان، هذا لو كانت ستصل لهذا الميناء بالفعل.. فما الذي سأفعله حتى ذلك الوقت؟.."
بعد أن قضت نحو ساعة مختبئة في موقعها وهي متعجبة لأن الجندي لم يقبض عليها رغم ملامحها العربية الواضحة، لكنها أدركت أن هذه المدينة تغصّ بأنواع كثيرة من البشر بحيث لا يغدو وجودها مثيراً للشكوك.. ورغم ذلك، قررت أن تستمر بادعاء البكم والصمم لكي تتفادى أي أسئلة.. ومع هذه الخواطر، تمالكت نفسها وهي تخرج بهدوء من الزقاق وتسير بخطوات مترددة نحو الميناء القريب.. وبعد أن انفرجت المنازل القريبة سامحة لها برؤية الميناء بشكل واضح، فإن ارتياح رنيم خالطه شيء من القلق لرؤية عدد كبير من الجنود يتفرقون في الموقع الواسع.. لم يكن ذلك مستغرباً، لكن ذلك زاد من سوء موقف رنيم وهي تختبئ خلف أحد المنازل تراقب الطريق الذي يقطع الميناء والحركة الدؤوبة فيه.. وأخيراً، قامت بتشجيع نفسها وسارت بتردد نحو الميناء مخترقة عدداً من البشر الذين تجمعوا على رصيف الميناء منشغلين بالسفن القريبة منه..
لم تكن تذكر كيف كانت تلك السفينة التي حملت آرجان في قلبها بعد مرور كل تلك الأيام، لكنها عوّلت على ذاكرتها شيئاً ما وهي تدقق النظر في السفن القريبة محاولة معرفة إن كانت السفينة المقصودة بينها.. لابد أن تتعرف على السفينة المقصودة لو رأتها عيناً، لكن لو لم ترها فستضطر للتردد والمرابطة في هذا الميناء أوقاتاً طويلة حتى تتأكد من شكوكها.. لكن بعد عدة جولات في الميناء ووسط البشر المتزاحمين، أدركت أن ما تبحث عنها غير موجودة في هذا الميناء، فزفرت وهي تنطوي جانباً على أحد الصناديق بانتظار قدوم سفن أخرى.. كم يوماً مضى منذ اختفى آرجان في سهول الأكاشي؟.. لم تعد تعرف الجواب.. وكم يوماً سيمضي قبل أن تلتقيه مجدداً؟.. لا تعرف جواب هذا السؤال أيضاً.. ولا يسعها إلا الانتظار..

*********************

في تلك الليلة غادرت رنيم يائسة بعد أن عجزت عن تحقيق أي شيء.. فابتعدت عن الميناء الذي يضجّ بالحركة أغلب أوقات اليوم لتتفادى أن يراها شخص ما وهي تحاول الالتقاء بكاجا.. وبعد بعض الوقت، وبعض البحث الدؤوب، عثرت رنيم على منزل بدا لها مهجوراً من نوافذه المظلمة رغم توغل الليل ومن الحديقة الملحقة به والتي أصابها بعض الدمار وبدت أشجارها بحالٍ بائس.. دارت حول المنزل متفحصة، لتجد أنه يحوي بضع سلالم حجرية تقودها لسطحه ملحقة بالمنزل خارجه كما كانت أغلب منازل هذه المدينة.. وهذا نوعاً ما سهّل لها الوصول لسطحه بدون أن تقوم بأي ألعابٍ بهلوانية كما توقعت.. وعلى السطح، تلفتت حولها بحثاً عمن يمكن أن يلاحظ وجودها.. ولما تأكدت أن سكان المدينة قد أخلدوا للراحة في منازلهم، رفعت رأسها وأطلقت صفيراً حاداً مستدعية كاجا الذي غادر المدينة منذ الليلة الماضية..
استمرت رنيم تطلق صفيرها لوقت غير قصير وهي تقلب بصرها في الأفق المظلم، ولما لم تجد استجابة منه زفرت وهي تغمغم "أين ذهبت يا كاجا؟.. أرجو أن تكون بخير.."
سمعت صوتاً من خلفها يقول "ومن هو كاجا؟.."
استدارت بهلع وشيء من الاستنكار لترى الشخص الذي استرق السمع إليها وخاطبها بالعربية وسط ليل المدينة المظلم.. وعلى سطح منزل قريب لا يبعد إلا القليل عن المنزل الذي هي عليه، رأت شابة تقارب الثلاثين من عمرها، ويبدو من ملامحها أنها ليست من الكشميت الذين يمتازون ببشرة بيضاء شاحبة وعينان ملونتان وقامة طويلة نحيفة.. بل كانت الشابة على شيء من السمرة بشعر أسود طويل ضمّته في ضفيرة على صدرها وعينان سوداوان وملامح تحمل جذوراً شبه عربية..
التزمت رنيم الصمت وهي لا تدري ما عليها أن تفعله في هذه الحالة، فعادت الشابة تسألها بابتسامة "كاجا.. اسم غريب وغير معتاد هنا.. هل أنت غريبة عن هذه المدينة؟.."
أشارت رنيم لأذنيها بحركة معتادة لتوحي للشابة بأنها صمّاء لا تسمع، لكن الشابة قالت بضحكة "لقد استدرتِ للتو عندما سمعتِ صوتي.. هل ستنكرين ذلك الآن؟"
تراجعت رنيم بحركة حادة وهي تقطب بشدة لهذا الخطأ.. كانت لا تزال تفتقر للخبرة الكافية للتخفي بشكل آمن في هذه المدينة، وها هو أمرها قد كشف قبل أن يمر يوم واحد على وجودها في هذه المدينة.. تراجعت رنيم خطوات وهي تتلفت حولها وقد راودتها رغبة شديدة بالفرار، فسارعت الشابة تقول بشيء من الخيبة "لا تهربي.. لم أصدق أذناي عندما سمعتك تتحدثين بالعربية، وشعرت أنني محظوظة للقائك هنا في هذه المدينة الغريبة.."
توقفت رنيم في موقعها للحظات، ثم قالت بهمس "من أنتِ؟.."
ابتسمت الشابة قائلة "هذا أفضل بالتأكيد.. أنا لؤلؤة، هذا اسمي الذي لا يعترف به أحد في هذه المدينة.. لكن لا تقلقي، لن أفشي سرّك لأحد بتاتاً.."
قطبت رنيم مغمغمة "سرّي؟!.."
أسرعت لؤلؤة تقول "أعني تسللك لسطح هذا المنزل في غياب أصحابه.. ألهذا حاولتِ الفرار عندما رأيتني؟"
لم تعلق رنيم وهي تقترب منها خطوات، وتقلب بصرها في السماء بحثاً عن كاجا الذي لم يظهر بعد.. عندها قالت لؤلؤة باهتمام "من أنتِ؟.. وما الذي يضطرك للاختباء هنا؟.. هل سرقتِ شيئاً ما؟.. هل يلاحقك الجنود؟"
هزت رنيم رأسها بشدة، وقالت بشيء من التوتر "لا.. أنا غريبة عن هذه المدينة، ولا مكان آوي إليه إلا سطح هذا المنزل الذي بدا لي مهجوراً.. ولا آمن على نفسي لو بقيت في أحد الأزقة.."
قالت لؤلؤة "هذا حق.. هذا المنزل مهجور بالفعل.. فقد رحل أصحابه إلى (كاشتار) منذ مدة قريبة.. لكنه مغلق ولن يمكنك دخوله بتاتاً.."
نظرت رنيم للشابة متسائلة "من أنت؟.. وما الذي جاء بك إلى هذه المدينة؟.. أأنت عربية حقاً؟"
تنهدت لؤلؤة مجيبة "يفترض بي أن أكون كذلك.. لكن للحقيقة لقد قضيت في هذه المدينة أضعاف ما عشته في موطني الأصلي.. لذلك لا أدري من أكون حقاً.."
تساءلت رنيم بدهشة "أين موطنك الأصلي؟.. وما الذي يدعوك للبقاء هنا؟.."
أجابت لؤلؤة "أنا ولدت في إحدى جزر الأرخبيل الأسود، وعشت هناك السنوات العشر الأولى من عمري.. لكن في آخر معركة خاضها الكشميت مع بني فارس، والتي كان موقعها في جزيرتنا بالذات، تم أسري ضمن بضع نساء وفتيات من الجزيرة وعاد بنا الكشميت إلى سربيل لبيعنا كجواري وأسرى حرب.."
تساءلت رنيم بدهشة "ألم تنتهي الحرب الأخيرة بمعاهدة للسلام؟"
ابتسمت لؤلؤة بجانب فمها معلقة "معاهدة السلام لا تشملنا نحن، ولسنا نقع ضمن اهتمامات ملك مملكة بني فارس.. لذلك لم يطالب بنا أحد ولم يحاول استعادتنا أي شخص.. وهكذا ترين أنني قضيت ما يقارب العشرين سنة في هذه المدينة، وأصبحت أتقن لغة أهلها إتقاناً تاماً.. لكني رغم ذلك مجرد جارية لا أهمية لها ولا تملك أي حقوق.."
تساءلت رنيم بضيق "وما الذي يدعوك للاستسلام بهذه الطريقة؟"
هزت لؤلؤة كتفيه "وما الذي سأفعله بهروبي؟.. هل سأعود لتلك الجزيرة وأجد أحداً يستقبلني بترحابٍ بعد كل هذه السنوات؟"
نظرت لها رنيم بغير اقتناع، بينما قالت لؤلؤة باهتمام "الأهم من ذلك.. من أنت حقاً؟.. وما الذي جاء بك لهذه المدينة الغريبة.."
جلست رنيم مستندة للحائط خلفها، ثم غمغمت مطرقة "أتيت بحثاً عن شخص ما.. هو أيضاً تم اختطافه ويبدو أنهم يسوقونه لمملكة كشميت بالذات.. وأنا أبحث عنه في هذا الميناء عسى أن أعثر عليه قريباً.."
قالت لؤلؤة باهتمام أكبر "ومن يكون هو؟.. أهو أحد أفراد عائلتك؟"
قالت رنيم زافرة "لا.. إنه شخص غريب عني، لكني مدينة له بالكثير.. ولذلك أبحث عنه.."
غمغمت لؤلؤة بشيء من الإحباط "فقط؟.. ظننت أنك تحملين حكاية مثيرة قد أستمتع بسماعها.."
سمعت صوت معدة رنيم التي أطلق صوتاً عالياً بوضوح، وبينما ضغطت رنيم على معدتها بحرج وقد احمرت أذناها بشدة، فإن لؤلؤة قالت بضحكة "ألا تملكين ما تسدّين به جوعك؟.. كيف أتيت لهذه المدينة حقاً؟"
لم تعلق رنيم وهي مرتاحة نوعاً ما لغياب كاجا، فلا تريد أن ترى رد فعل لؤلؤة لرؤيته ولا تضمن ألا تشيع خبره لسكان ذلك المنزل ولأهل المدينة.. فقالت لؤلؤة بعد لحظة صمت "سأحضر لك بعض الطعام لو انتظرتني قليلاً.. لقد تهربت من أعبائي ولن أستطيع البقاء أكثر من هذا.. لكن أعدك بالعودة قبل منتصف هذه الليلة عندما يخلد أهل المنزل للنوم.."
غمغمت رنيم بابتسامة "شكراً لك يا لؤلؤة.. سأكون مدينة لك بذلك.."
قالت ملوحة بإصبعها "أنت مدينة للعديد من الأشخاص كما يبدو.. كيف ستعيشين حياتك دون الاعتماد على الآخرين.."
لم تعلق رنيم وهي ترقب السماء المظلمة بصمت.. بالفعل، هي مدينة للكثيرين بكل ما هي فيه الآن.. ولا تعرف كيف ستتمكن من العيش وحيدة دون آرجان ودون كاجا.. تنهدت وهي تغمغم "أتمنى أن تصل سريعاً يا آرجان قبل أن ينفذ صبري فعلاً.."
وبعد غياب لؤلؤة، عادت رنيم تطلق صفيرها الحاد وهي تقلب بصرها في السماء.. لم تعُد تخشى غياب كاجا، فهي قد وثقت به تماماً بعد عدد من المرات أثبت لها أنه يعود إليها مهما طال غيابه.. هي فقط تريد الاطمئنان عليه والتأكد أنه بخير في هذه الأرض الغريبة المعادية.. وبعد وقت قصير، رأته بالفعل هابطاً وقد بدا لها بالكاد عند هبوطه على سطح ذلك المنزل بسبب ظلام تلك الليلة..
اقتربت منه رنيم مربتتة على خطمه وماسحة رقبته وهي تهمس "أأنت بخير يا كاجا؟.. انتبه لنفسك يا صديقي، فلا أريد أن أخسرك أنت أيضاً.."
وجدته يمسح رأسه بذراعها بألفة، فابتسمت وغمغمت "غداً سأحضر لك مكافأة بالتأكيد.. فكن بخيرٍ حتى نلتقي.."
ودفعته للابتعاد قبل أن يلحظه أحد وقبل أن تعود لؤلؤة فتراه معها.. وبعد بعض الممانعة، ارتفع كاجا بصمت كما جاء وغادر المدينة معتلياً أسوارها دون أن يلحظه أحد الجنود للظلام المخيّم على السماء تلك الليلة..
أمضت رنيم أياماً طويلة في المدينة وهي متخفية عن أعين جنود الكشميت المتواجدين في كل موقع منها.. تمضي أيامها واقفة في جانب من جوانب الميناء محاولة عدم لفت الأنظار، وهي تتفحص السفن القادمة واحدة تلو الأخرى ببصرها بحثاً عن هدفها، بينما تنزوي في الليالي فوق سطح ذلك المنزل تلتقي بلؤلؤة أحياناً وتتبادل معها بعض الأحاديث.. ورغم أن لؤلؤة كانت تعينها ببعض الطعام والماء، لكن رنيم شعرت بالسوء لاعتمادها عليها فهذا الطعام تقتطعه من نصيبها كل يوم لتمنحه لرنيم.. ورغم تآلفهما، فإن رنيم لم تفصح لها عن هويتها أو هوية آرجان قط.. فهي لا تريد أن تفشل قبل أن تنجح في تحرير آرجان، ولا تريد أن تزجّ تلك الشابة الطيبة في مشاكل لو أدرك الجنود أنها كانت تتستر على وجودها في المدينة.. كما تفادت أن ترى كاجا قدر استطاعتها وهي تستدعيه قبل الفجر أحياناً لتطمئن عليه..
طالت الأيام برنيم وبدأ اليأس يستعمر قلبها دون أن تجد أثراً من آرجان، ولولا أنها رأت في أحد تلك الأيام سفينة تقف في رصيف الميناء ويهبط منها ثلاثة من الهوت مقيدي الأيدي والأقدام، لشكّت بأنها أخطأت بالقدوم لهذه المدينة.. ما أثار إحباطها في تلك اللحظات، أن آرجان لم يكن مع أولئك الرجال..
لذلك، بعد أن فقدت إحساسها بالأيام وأصابها إنهاك شديد من بقائها في العراء وتجوالها المستمر في الميناء، فإنها صدمت بشدة لما رأت الجنود يسحبون بعض رجال الهوت فاقدي الوعي من إحدى السفن وعبر الجسر المؤدي للرصيف ومنه لموقع آخر من الميناء.. ولما لمحت بوضوح آرجان بين أولئك الرجال وجنديين يسحبانه معهما بغلظة، فإنها كتمت شهقة كادت تصدر منها بصعوبة وهي تضمّ قبضتيها أمام وجهها وعيناها تغرورقان بالدموع.. لم تصدّق أنها ستراه مرة أخرى، ولم تصدق الانفعال الذي شعرت به عند عثورها عليه.. لقد افتقدت وجوده بشدة، وخشيت أنها لن تعثر عليه مهما طال بحثها..
وبينما كانت تتمتم حامدة الله على عثورها عليه بعد صبرها ذاك، زجرها أحد الجنود القريبين بغلظة، فابتعدت وتجاوزت صف البيوت القريبة من الميناء وهي تتبع الهوت متخفية لتعرف أين سيضعونهم.. عليها التفكير في وسيلة فعالة لتخليص آرجان دون كشف نفسها ودون السقوط في أيدي جنود الكشميت بدورها.. وعليها أن تفعل ذلك بأسرع وقت ممكن قبل أن يختفي من ناظريها مرة أخرى..

*********************

بعد أن اطمأنت رنيم للموقع الذي أخفى فيه الكشميت رجال الهوت، هرعت من فورها عائدة للبيت الذي اعتادت البقاء فيه في الأيام الماضية.. وفور وصولها لذلك السطح، رأت لؤلؤة التي جلست على حافة السطح المقابل كما تفعل كلما تهربت من أعبائها وهي تتأمل السماء الغائمة التي التهبت بأنوار الغروب الدانية.. فأسرعت إليها رنيم وقالت بلهفة "لؤلؤة.. لقد عثرت عليه أخيراً.. إنه هنا، في هذه المدينة.."
نظرت لؤلؤة باهتمام لرنيم متسائلة "ذاك الرجل الذي تبحثين عنه؟.. هل وصل على ظهر إحدى السفن؟"
قالت رنيم بانفعال وصوت مرتجف "أجل.. رأيته يصل قبل قليل، لكنه كان في حالٍ يرثى لها.. رباه.. ما الذي فعلوه به في الأيام الماضية؟"
ودارت في موقعها وهي تضمّ قبضتيها وتقول بتوتر "عليّ أن أفعل شيئاً قبل أن يغيب مرة أخرى.. يجب أن أنقذه مما هو فيه ومن الجنود الذين يحيطون به.. لكن كيف سأفعل ذلك؟.."
سألت لؤلؤة بدهشة "ما الذي ستفعلينه وأنت وحيدة؟.. أليس محاطاً بالجنود كما تقولين؟"
هتفت رنيم بانفعال "لكنني يجب أن أفعل شيئاً.. سأفعل أي شيء لإخراجه.."
ابتسمت لؤلؤة لرؤية انفعالها، ثم تساءلت "أتحبينه؟"
نظرت لها رنيم بدهشة للحظات، ثم قالت بارتباك "أحبه؟.. لا.. ليس هذا ما هنالك.. ما الذي أوحى لك بذلك؟"
قالت لؤلؤة ضاحكة "آثار الدموع في عينيك، والانفعال في ملامحك لرؤيته من جديد.. مما عرفته منك أنه شخص غريب لا تربطه بك أي علاقة، فلم هذا الانفعال للقائه مجدداً؟"
قالت رنيم منفعلة "أخبرتك أنني أبحث عنه منذ وقت طويل.. أنا أدين له بالكثير، ولم أتمكن من التخلي عنه بهذه البساطة.."
علقت لؤلؤة بابتسامة "وتتوقعين مني تصديق ذلك؟.."
فقالت رنيم بإصرار "ليس الأمر كما يخيّل إليك.. هذا مؤكد.."
وجلست جانباً بصمت وشيء من الانفعال، بينما مالت لؤلؤة ببصرها إليها متسائلة "أهو وسيم؟.."
نظرت لها رنيم بشيء من الضيق، ولؤلؤة مستمرة في تساؤلاتها "لابد أن يكون كذلك.. أهو رقيقٌ معك؟.. وهل يحبك؟"
قالت رنيم بانفعال "أخبرتك أن الأمر ليس هكذا.."
ضحكت لؤلؤة معلقة "لا بأس يا صغيرتي.. لا داعي لكل هذا الانفعال.."
سادهما الصمت وهي تتأمل السماء الغائمة من جديد، ثم علقت "هل سترحلين بعد أن تلتقي به؟"
نظرت لها رنيم بقلق، ثم غمغمت "هذا لو تمكنت من إخراجه من السجن الذي هو فيه.."
فقالت لؤلؤة بقلق "لا تخاطري بنفسك يا فتاة.. هو رجل، ويمكنه تدبر أموره جيداً.. أما أنتِ، فلو قبضوا عليك فسيسجنونك أو يبيعونك كجارية.. ولن تطيقي ذلك بتاتاً، صدقيني.."
نظرت لها رنيم بشيء من الإشفاق، ثم قالت لها "لمَ لا تهربين معنا يا لؤلؤة؟"
نظرت لها لؤلؤة بدهشة، ثم قالت ضاحكة "وهل أثق بأنك ستتمكنين من الهرب مع ذلك الرجل كي أنضمّ إليك أنا أيضاً؟"
قالت رنيم بلهفة "لكنني أملك وسيلة مضمونة.. تعالي معي، وسأعيدك لموطنك بالتأكيد.."
هزت لؤلؤة رأسها بابتسامة مريرة وقالت "لا أظن ذلك ممكناً.. لم يعد لي مكان هناك، ولا أرغب بتجربة حظي بعد كل تلك السنين.."
ثم اتسعت ابتسامتها شيئاً ما مضيفة "ثم إن لي ابنة في هذا المنزل لا يتجاوز عمرها تسع سنوات.. ولا أريدها أن تخوض تجربة كالتي خضتها مع انتقالي من موطني لوطنٍ غريبٍ عني.. هنا هي مواطنة من الكشميت ولها حقوق ويحترمها الجميع.. لكن هناك، ستظل غريبة مكروهة ومنبوذة من الجميع.."
نظرت لها رنيم بأسىً، ثم مدت يدها عبر المسافة القصيرة التي تفصل الجدارين وقبضت على يدي لؤلؤة بشدة قائلة "سأظل شاكرة لك يا صديقتي لكل ما قدمته لي.. بودّي لو أعدتك لموطنك، لكن لا يمكنني فعل ذلك رغماً عنك.. لكني سأذكرك على الدوام يا لؤلؤة.."
شدّت لؤلؤة على يدها بدورها قائلة "كوني بخير يا صغيرتي.. ولا تخاطري بحياتك فيما لا تقدرين عليه.."
لم تعلق رنيم على ذلك وهي تبتسم لها ابتسامة صادقة، ثم استدارت مغادرة من حيث أتت.. هي مغامرة غير محسوبة العواقب حقاً، ولكن مع كاجا فإن الكثير من الصعاب يتم تذليلها بكل سهولة..

*********************

مضت عدة ساعات وآرجان جالس في ذلك السجن بقيد يقيّد يديه متباعدتين في الحائط بحيث لا يمكنه تحريكهما ولا شدهما بعيداً، ولا يقدر حتى على الوقوف.. لا يدري ما يُراد لهم ولا يدري لأي مكان يُساقون.. الحسنة الوحيدة لوصوله لهذا المكان أنه سيعرف، عندما يصل لنهاية الطريق، السبب الذي لأجله اختُطف هو وبقية الهوت.. السبب الذي لأجله لم تعُد جايا لقريتها ولشقيقها بعد هربها من (الزهراء)..
كان الجنود، بعد أن سجنوهم في هذا المكان، قد اختفوا في جانب آخر منه مطمئنين أن السجناء لن يقدروا على المقاومة والهرب.. ولم يعبأ أحد بحالهم ولا بالذين فقدوا وعيهم بسبب الضربة القوية التي تلقوها على رؤوسهم في السفينة.. وبينما كان آرجان يقاوم لئلا يفقد وعيه لشدة تعبه، بعد أن أوغل الليل وساد الصمت خارجاً، سمع صوتاً خافتاً يأتي من بعيد.. لم يعبأ للأمر في البدء وهو يشعر بغشاوة سوداء تغطي عينيه بشكل شبه تام.. عاد الصوت يتردد بهمس وانتبه بعد لحظة أنه ينادي باسمه.. فزالت الغشاوة على الفور وحواسه تعود له بقوة وهو يرفع رأسه متطلعاً لمصدر الصوت بدهشة.. كان الصوت خافتاً، لكن أن يسمع نداءً باسمه بصوت أنثوي في هذ المكان المحاط بالجنود، فلابد أن يثير ذلك في نفسه تعجباً كبيراً..
رأى عند مدخل المكان جسداً يغلفه الظلام وهو يتقدم متلفتاً حوله.. ثم لم يلبث أن رآه بشيء من الوضوح عندما اقترب منه، عندها تمكن من رؤية ملامحه رغم الظلام السائد وصدم لدى تعرفه على رنيم التي تسارعت خطواتها نحوه وهي تنادي اسمه بلهفة.. اتسعت عيناه بدهشة يغلب عليها الاستنكار وهو واثقٌ أنه يهذي.. أكانت الضربة التي أصابت رأسه بهذا السوء حتى هيأت له تلك الهلاوس البصرية السمعية العجيبة؟.. ظل على استنكاره حتى وجدها تهبّ إليه فتركع قربه وهي تحيط عنقه بذراعيها وجسدها يرتجف.. لقد فوجئت عند رؤيته بالتغيير الذي أصابه حتى أصبح شخصاً آخر لا يشبه آرجان إلا في الصوت فقط.. لقد نَحِل جسمه وبدت ضلوعه بارزة شيئاً ما.. واختفى البريق من عينيه بينما شحب وجهه وأصبح في حالٍ يرثى لها..
كان قيد يدي آرجان يمنعه من تحريكهما نحو رنيم، فاكتفى بأن أدار وجهه نحوها وهو يقول برفق "هذه عاطفة لم أتوقعها منك بتاتاً.. يبدو أنني فعلاً أرى هلاوس لا يصدقها العقل.."
تراجعت رنيم وهي تهمس بعينين دامعتين وصوت متهدج "أنا آسفة يا آرجان.. لم أصدق أنني سأعثر عليك حقاً بعد كل هذا الوقت، لذلك غلبني انفعالي.."
ابتسم آرجان وهو يتأمل ملامحها التي تغيّرت عن آخر مرة رآها فيها، وقال "ليس عليك الأسف لهذا.. فلا أسعد مني اليوم برؤيتك يا رنيم.."
تخضّب وجهها بشيء من الحمرة وهي تتذكر تساؤلات لؤلؤة لدى رؤية انفعالاتها.. هل سيظن بها آرجان الظنون ذاتها مع تصرفها هذا؟.. نفضت تلك الأفكار وتشاغلت بالنظر لقيد يديه قائلة "علينا إخراجك قبل عودة أحدهم.."
واتجهت إلى إحدى يديه محاولة نزع القيد عنها، بينما قال آرجان "كيف تمكنت من الوصول إليّ بعد كل هذا الوقت؟.. بل كيف قطعتِ كل هذه المسافة وحيدة؟"
قالت بسرعة "لم أكن وحيدة.. كاجا معي حتى الآن.."
غمغم وهو يراقبها "يبدو أن ولاء ذلك الشقي قد أصبح لك أكثر مما هو لي.. فهو لم يأتِ إليّ رغم أنني ناديته مراراً في سهول الأكاشي.."
قالت وقد راودها شعور بالذنب "ربما لأنه كان ينقذني من الأكاشي في ذلك الوقت.. لذلك لم يتمكن من اللحاق بك قبل رحيلك على ظهر السفينة.."
تساءل بتعجب "كيف تمكنت من التسلل لهذا المكان دون أن يراك الجنود؟"
قالت بتوتر وهي تحاول التخلص من أحد قيوده دون فائدة "لقد هبط بي كاجا على سطح هذا المبنى.. وعثرت على سلالم جانبية تؤدي لنافذة علوية تسللت منها لهذا المكان دون أن يقابلني أي جندي.. فهم متجمعون في جانب من هذا المبنى بكل إهمال وهم واثقون من عدم قدرتكم على الفرار وعدم وجود من يمكن أن يفكر بتهريبكم.."
ثم نظرت لوجهه المتعب مضيفة "لقد تحايلت كثيراً لأقدر على البقاء في الميناء ومراقبة السفن دون أن أثير الشبهات طوال الأيام الطويلة الماضية.. الحمدلله أن جهودي وانتظاري قد أثمرا في النهاية.."
فقال آرجان بابتسامة متعبة "يبدو أنك قضيت أوقاتاً صعبة في هذه المدينة بانتظاري.. وأنا آسف لذلك بالتأكيد.."
قالت بتوتر "ليس هذا هو المهم الآن.. خلال وقت قصير سيعود الجنود ويكتشفوا وجودي هنا.. علينا الرحيل بك قبل ذلك.. كاجا ينتظرني في موقع قريب وسأناديه فور أن نخرج من هذا المكان.."
قال آرجان بحزم "مهلاً.. لديّ اقتراحٌ أفضل من هذا.."
نظرت له بحيرة، فقال "فلتهربي أنتِ.. عودي إلى كاجا وغادري هذا المكان قبل أن يراك أحد.."
تساءلت رنيم بحيرة مستنكرة "لماذا؟.. هل تريد مني التخلّي عنك؟"
قال بإصرار "لا.. أريدك أن تعاونيني عندما أحتاجك.. ولستُ أحتاجك الآن.. استمعي لما أقوله ونفذيه بسرعة فلا نملك المزيد من الوقت.."
استمعت رنيم له بتوتر لا محدود وهو يستطرد "أريدك أن تتبعيني حيث يقتادني الجنود دون أن تلفتي أنظارهم.. وبعد أن نصل لوجهتنا الأخيرة، ويسمع كاجا إشارتي، سيتدخل ويعينني على الفرار من ذلك المكان مع بقية الهوت الذين تمّ أسرهم من قِبَل الكشميت.."
قالت باعتراض "لماذا؟.. تريد منهم أخذك للموقع الذي يسجنون فيه الهوت؟.. هذه خطوة خطيرة جداً.. قد لا أتمكن من معرفة موقعك وإنقاذك بها.."
قال آرجان بإلحاح "هذا هو السبيل الوحيد لمعرفة سبب كل ما يجري.. أنتِ لديك ميزة تفوّق عليهم بامتلاكك لكاجا.. يمكنك الطيران فوقنا وملاحقة القافلة التي ستحملنا حتى نصل لنهاية الطريق.. ليس هدفهم إبقاؤنا في هذه المدينة وإلا لاصطحبونا إلى موقع أكثر أمناً من هذا الميناء.. إنهم ينتظرون من ينقلنا لموقع آخر، وأغلب ظني أنه في مدينة أخرى.."
دمدمت بغير اقتناع وهي تحاول تحريره "هذه خطة غير موثوق بها.. سأحررك، وبعدها يمكننا أن نلحق بأي قافلة أخرى حتى نصل لموقع الهوت السجناء ونحررهم.."
قال آرجان "أرجوك يا رنيم.. افعلي ما أطلبه منك.. اهربي قبل قدوم الجنود وقبل أن يتم القبض عليك.."
نظرت لوجهه بتوتر وقلق، فقال مشجعاً "ثقي بي.."
اعترى الضيق وجهها لكنها لم تعترض وهي تنهض وتتلفت حولها، ثم قالت له "سأثق بك بكل تأكيد.."
وغادرت بخطوات خافتة وآرجان يراقبها حتى غابت عبر الباب.. عندها سمع صوت أحد الرجال من الهوت ممن كان مستيقظاً يقول له "أأنت أحمق؟.. كيف تضيّع فرصة نادرة للهرب؟.. لن تحصل على فرصة غيرها أبداً.."
قال آرجان زافراً "لم أكن أريدها أن تخاطر ببقائها هنا لوقت أطول، وما من وسيلة لفك قيودنا بالفعل دون مواجهة الجنود.. كما أنني راغب بشدة في معرفة ما يخطط له الكشميت بعد كل هذا.."
نظر له الرجل مقطباً باعتراض صريح، فأضاف آرجان "بعدها، يمكننا أن نهرب بمعاونة كاجا.. هذا شيء لن يكون عسيراً على تنين مثله.."
أطلق الرجل ضحكة هازئة، بينما لم يعلق آرجان على هذا.. هي بالفعل خطة تحفها المخاطر، لكن هل يمكنه أن يتخذ طريقاً آخر؟..
بعد خروجها من ذلك الموقع، تلفتت رنيم حولها في الممر المؤدي لموقع آخر من ذلك المستودع الواسع، ثم عادت أدراجها من حيث أتت نحو الجانب المعاكس للمخرج.. وعبر ذلك الممر، ومنه خرجت من نافذة جانبية لتجد أمامها عدداً من السلالم التي تؤدي لسقف ذلك المستودع.. فركضت عبرها وهي تتلفت حولها بحذر.. وفي الأعلى، استدعت كاجا بصفير من فمها ليسرع إليها ويهبط على السطح قربها.. زفرت رنيم وهي تنظر للمستودع، والميناء الساكن في ذلك الوقت المتأخر من تلك الليلة، ثم امتطت ظهر كاجا وغادرت بهدوء وصمت مستترة بالظلام السائد كما جاءت.. يبدو أن رحلتها الشاقة لن تنتهي بالسهولة والسرعة التي تمنتها..

*********************

في فجر اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس وتنير السماء، وبينما رنيم قابعة فوق سطح منزل قريب من الميناء دون أن يلاحظها سكان المدينة، رأت الجنود يخرجون السجناء ويقتادونهم لعربات وقفت في جانب ذلك الطريق.. كانت عربتان خشبيتان تقودهما الأحصنة وعليها غطاء قماشي يحجب نور الشمس والأعين الفضولية عنها.. وبعد صعودهم إلى العربة، قام جنديان بالصعود خلفهم مجهزين ببنادقهم، وقام آخران بالصعود في مقدمة كل عربة ليقوداها في تلك الرحلة..
أسرعت رنيم تمتطي ظهر التنين الذي قبع قربها على السطح بسكون، ولما بدأت المركبات بالتحرك وابتعدت في طريقها الذي يقطع المدينة نحو أحد بواباتها، دفعت رنيم التنين للطيران والارتفاع بعيداً عن الأعين مستغلة الظلام السائد قبل شروق الشمس وهي تلاحق القافلة الصغيرة.. وسرعان ما رأتها تنضمّ لعربات أخرى حتى تجاوز عددها التسعة، وإن كان بعضها مكشوفاً ومحملاً بصناديق عدة..
خرجت القافلة من بوابة القلعة الجنوبية دون أن تجد أي عسر في تجاوز الجنود، وبدأت سيرها في تلك السهول المحيطة بالقلعة وعلى طول ذلك اللسان الذي اخترق البحر مكوناً خليجاً ضيقاً استعمرت العاصمة (كاشتار) نهايته.. وبعد سير بطيء والشمس قد ارتفعت وسط السماء، بدأت السهول الخضراء بالانحسار وحلّت محلها مساحات صخرية ورملية عظيمة.. بدت تلك المساحات الصفراء لعيني رنيم أشبه ببحر شاسع من الرمال امتد حتى الأفق.. ولولا حرارة الشمس التي أشعرتها بتعب كبير خلال وقت قصير، لكانت رنيم مستمتعة بما تراه للمرة الأولى في حياتها.. هذه خبرة جديدة تراها في رحلتها العجيبة هذه.. بحر من الرمال.. وقمم ثلجية.. أنهارٌ تخترق جبالاً عصيّة.. ومساحات لا نهائية من المياه المالحة.. لقد رأت تنوعاً كبيراً في الطبيعة من حولها بحيث أنها كلما رأت شيئاً جديداً، عاشت الانبهار ذاته وشعرت أنها لن ترى ما يفوقه روعة..
انتبهت رنيم من تأملاتها على صوت كاجا وتململه بشدة.. بدا يعاني عسراً في الطيران في هذه الحرارة التي تزايدت مع كل ساعة تمضي من هذا النهار.. فهو يعيش في جو أشد برودة من هذا، وقد لا يتحمل جلده الثخين هذه الحرارة القاسية.. كما أن اضطرارهما للحاق بالقافلة دون توقف، على مبعدة لئلا يلفتا الأنظار إليهما، جعل حصولهما على بعض الراحة أمراً صعباً..
أخيراً، عقدت رنيم عزمها فجذبت لجام كاجا ودفعته للتحليق بدورة واسعة بعيداً عن القافلة حتى تجاوزاها بمسافة كبيرة.. عندها سمحت للتنين بالهبوط قرب تشكيلٍ صخري ينتصب وسط الرمال ويلقي بظلٍ في مساحة محدودة قربه.. فور هبوطهم، لجأت رنيم للظل وهي تزفر بشدة، بينما دار كاجا بضيق شديد وهو يزمجر.. ولما اقترب منها صبّت بعض الماء في حلقه من القربة التي تحملها مغمغمة "تحمّل قليلاً يا صاحبي.. ستلتقي بصاحبك بعد قليل بإذن الله تعالى.."
لجأ التنين للظل الذي لا يغطي إلا مساحة صغيرة نسبة لارتفاع الشمس في السماء بشكل عمودي، بينما جلست رنيم قربه مستشعرة حرارة الرمال وانعكاس نور الشمس عليها بشكل قوي.. وبعد راحة ساعة أو يزيد قليلاً، عادت مع كاجا للارتفاع والبحث عن القافلة التي لم تتجاوزهم بمسافة كبيرة..
سارت القافلة دون توقف إلا لأوقات قصيرة في كل مرة، متخذة طريقاً بدا واضحاً لعيني رنيم وهو يقطع جانباً من الأرض الصخرية تلك، بينما ارتفعت التلال الرملية في جزء آخر من الصحراء على شكل جبال صغيرة الحجم وهي تبدو من الأعلى كأمواجٍ ثابتة لا تتحرك..
عند نهاية ذلك النهار، انتبهت رنيم في تحليقها لتلك القلعة السوداء التي انتصبت وسط الصحراء وفي جانب صخري منها بحيث تبدو بارزة بشدة مع لونها المعاكس للون الأرض تحتها.. كانت قلعة متوسطة الحجم، من حجارة سوداء وبوابة واحدة هي عبارة عن جسر خشبي مدعم بالحديد يرتفع ليغلق البوابة ويمنع أي هجوم عليها.. ويحيط بالقلعة من الخارج خندق عميق يحوي تشكيلات من الصخور مدببة الأطراف لمنع أي كان من محاولة الوصول لسورها من الخارج.. ورغم ذلك، كان سورها عالياً يتجاوز عشرة أمتار على الأقل، ويحوي خمسة أبراج للمراقبة ترفرف عليها أعلام كشميت الضخمة..
نظرت رنيم للقعلة من بعيد دون أن تجرؤ على الاقتراب مغمغمة "ما بال هذه القلعة الحصينة؟.. إنها غريبة المنظر بشكل يثير في نفسي توجساً كبيراً.."
لاحظت أن القافلة قد اقتربت من القلعة وبدأ الجسر الخشبي بالنزول استعداداً لاستقبالها في قلب القلعة.. فدارت رنيم بكاجا على مبعدة ودفعته للنزول على تشكيل صخري يمكنه أن يسمح لها بمراقبة المكان دون أن يكشف وجودها.. ومع الشمس الغاربة التي تلقي بنورها الأحمر على القلعة، ومع الظلال التي تطاولت وهي تمتد لمسافة طويلة، فإن توجس رنيم ازداد أكثر فأكثر وهي صامتة تراقب المكان الذي غرق في صمته بعد أن أغلق الجسر الخشبي بدويٍ هز المكان..
ربتت رنيم على كتف كاجا قائلة "لنسترح يا كاجا.. سننتظر إشارة من آرجان أو سنحاول التسلل بأنفسنا للقلعة هذه الليلة.."
ناولته جزءاً من الطعام الذي أحضرته معها تحسباً لأي طارئ، لئلا تقع في نفس الخطأ السابق.. لكن كاجا زمجر باعتراض ثم أقلع بحثاً عن طريدته بنفسه رغم الصحراء القاحلة التي تحيط بهما.. أما رنيم، فقد وقفت بتوتر وهي تراقب القلعة الصامتة دون كلل لوقت طويل.. خشيت أن يحاول آرجان استدعاء كاجا في هذا الوقت، فلا يسمعه كاجا لو ابتعد أكثر من هذا.. عندها، ستضطر للتدخل بنفسها محاولة التسلل وإنقاذ آرجان مع بقية الهوت.. وهي مخاطرة كبيرة لتقوم بها وحدها دون أن تملك خبرة كافية..

*********************

عند وصول القافلة لقلب القلعة السوداء، توقفت وسط الساحة الحجرية الواسعة التي تتوسطها.. كانت تلك القلعة الغريبة تتكون من السور العالي الذي يحيط بالمكان كله، ووسط السور ساحة حجرية واسعة استقرت عربات القافلة فيها، بالإضافة لبئر في جانب المكان يوفر للجنود مصدراً دائماً للمياه العذبة.. وفي بضع جوانب منها رأى آرجان عدداً من المباني متوسطة الارتفاع بعضها لا يتجاوز الطابق وبعضها طابقين أو ثلاثة، وفي جانب آخر عدة أكواخ حجرية بدا أنها تستخدم كمستودعات للقلعة..
هبط الجنود الذين صاحبوهم في هذه الرحلة، واقتادوا الهوت المقيدين عبر الساحة إلى مبنىً جانبي يبدو أكبر من البقية وأكثر اتساعاً.. ظل آرجان يتلفت حوله محاولاً تقدير الوقت الملائم لاستدعاء كاجا حتى يتمكن من الهرب وتهريب بقية الهوت من هذه القلعة.. ما الذي يهدف له الكشميت حقاً من حمل الهوت كل هذه المسافة لموقعٍ ناءٍ مثل هذا؟.. ربما عليه الانتظار حتى يعرف السبب، ربما يمكنهم تفادي مثل هذه الحوادث مستقبلاً لو تمكنوا من معرفة سببها..
وصل بهم الجنود لباب ذلك المبنى الخشبي الذي كان يرتفع ارتفاعاً يتجاوز الأبواب العادية.. كان ذلك المبنى من الداخل عبارة عن مستودع كبير عالي السقف، فارغ من أي أدوات أو معدات أو حتى صناديق وأوعية.. وفي وسط المبنى، رأى آرجان ما صدمه بشدة وجعل حاجبيه يرتفعان بدهشة غامرة.. وكما ندّت أصواتٌ مستنكرة من بقية الهوت، فإن آرجان غمغم بانفعال "ما هذا؟.."
ففي وسط ذلك المبنى، رأى الهوت تنيناً بلون أسود والحراشف تغطيه، فمه مدبب ولسانه المشقوق يتدلى منه، بينما جناحاه اللذان يشبهان جناحا الخفاش قد أصيبا بعدد من السجحات والجراح العميقة بسبب محاولاته المتكررة للطيران والإفلات من سجنه على مدى وقت بدا طويلاً لآرجان.. لكن السلاسل الحديدية التي تحيط بعنقه وجسده بشكل محكم لا تمنحه الفرصة لذلك..
أما عينا التنين، فقد كانتا باهتتان وهو مستلقٍ جانباً يصدر صيحاتٍ بصوت ضعيف ويبدو مريضاً بشدة.. مما زاد استنكار آرجان الذي صاح بالجنود القريبين "ما الذي تريدونه من هذا التنين؟.. أنتم ستقتلونه.."
سمع صوتاً من خلفه يجيب "أتظن أننا تكبدّنا مشقة إحضاركم لهذا المكان لكي نقوم بقتل هذا التنين؟"
التفت آرجان بعد أن سمع تلك الجملة بعربية سيئة جداً، فرأى رجلاً أثار توجسه أكثر من بقية الجنود جميعهم.. كان الرجل، كما هم الكشميت ذوي الدماء الأصيلة، ببشرة بيضاء شاحبة وشعر أشقر يميل للبياض بطول يصل للكتفين وقد سرّحه للوراء بإحكام، وحاجبين شقراوين.. بينما عيناه رماديتان باردتان وفمه رفيعٌ قاسٍ وذقنه مدببة.. ملابسه على النقيض منه سوداء منسدلة كعباءة واسعة تغطي جسده كله، ولا يظهر إلا ذراعاه بقميص أبيض وتزين أصابعه العديد من الخواتم الفضية بالأحجار الكريمة..
اقترب الرجل الذي وقف بقية الجنود باحترام لدى وصوله، فوقف أمام الهوت قائلاً وهو يفرد ذراعيه "أرحب بكم في قلعة (جمجات).. هذه القلعة ستكون موطناً لكم لوقت طويل، وحتى تنتفي حاجتنا إليكم.. وأنا أميركم هنا، لذلك أنتم تدينون لي بالطاعة ما حييتم.."
قال أحد رجال الهوت بغلظة "موطننا نعرفه تمام المعرفة، ولا وطن آخر لنا.."
قال الأمير بابتسامة "لم يعُد هذا صحيحاً منذ هذه اللحظة.."
تساءل آرجان مقطباً "ما هي حاجتكم لنا؟.. وما الذي ستفعلونه بنا بعد حصولكم على ما تريدونه؟"
قال الأمير بهدوء "هذا يعتمد على مزاجي عندما يحدث ذلك.. لو كنت أملك مزاجاً رائقاً، فقد أفكر بالإبقاء عليكم.. أما لو كنت بحالٍ أخرى، فلا أحد يدري عندها ما سيجري لكم.."
ثم تقدم خطوة منهم قائلاً "والهدف من وجودكم بسيط جداً.. ولا أظنه يستعسر عليكم أبداً.."
وأشار خلفه مضيفاً "الهدف الوحيد من وجودكم في هذا المكان هو تطويع هذا التنين.. كل ما نريده من الهوت هو معرفة الطريقة الأفضل لتسخير تلك الكائنات وكسب ولائها غير المشروط.."
تزايد استنكار الرجال لهذا الطلب، ثم صاح أحدهم "هذا سُخف.. من قال إننا ننوي إعانتكم على هذا؟"
قال الأمير بهدوء "أنا لم أدفع فيكم مالاً لأحصل على هذه الإجابة.."
فصاح الرجل بحنق أكبر "ونحن لسنا عبيداً لأحد.."
ضحك الأمير وقال "هذا ما قاله من سبقوك إلى هذا المكان.. وها هي أجسادهم تجففها الصحراء في مقابرهم خارج القلعة.."
قطب آرجان بشدة وهو يستمع لما قيل.. هذا يفسد الأمور كلها، ويهدم خطته من الأساس.. لو حاول استدعاء كاجا الآن، فهذا سيمنح جنود هذه القلعة وأميرها فرصة ذهبية للحصول على تنين آخر، وسيفقد آرجان تنينه وصاحبه الذي عرفه منذ سنواتٍ طوال.. لذلك فخطته بأن يعتمد على كاجا في الهرب أصبحت مستحيلة التنفيذ.. عليه أن يبحث عن وسيلة أخرى، وأن يهرب هو والبقية دون الاعتماد على التنين.. لكن من قال إن الهرب من هذه القلعة الحصينة وسط الصحراء وفي قلب مملكة كشميت هو أمر سهلٌ ويسير؟..
سمع أحد الرجال يقول بسخرية "هل عجزت مملكة كشميت بكامل علومها أن تسخّر تنيناً واحداً؟.."
قال الأمير ببرود وهو يتطلع للتنين المريض "لم يكن تنيناً واحداً.. بل ثلاثة.."
نظر له الرجال بصدمة وهو يضيف بابتسامة جانبية "لقد فقدنا اثنان.. وهذا هو الثالث.. ولو لم نحصل على تعاونكم، فلا أظن التنين سيصمد لوقت طويل.. فهو يضعف مع كل يومٍ يمضي عليه هنا.."
نظر الهوت للتنين بشيء من الارتياع والأمير يقول "ولا أظن الهوت يحبون رؤية هذه التنانين تقضي نحبها حبيسة القيود.. أليس كذلك؟.. لو تعاونتم معنا، فسيستعيد هذا التنين حريته.. سيبقى في خدمتنا طبعاً، لكن لن تظل القيود تقيّد جناحيه بهذه الصورة.. هذا سيكون أفضل بالنسبة له.. أليس كذلك؟"
قال آرجان بحنق "أتظن ذلك حقاً؟.. لن يرضى التنين بخدمتكم، وسيموت بكل حال.. فما الذي ستجنونه من هذه الجريمة التي ترتكبونها بحق الجميع؟"
قال الأمير بحزم "لن يحدث ذلك.. قطعاً لن أسمح لهذا المشروع بأن يخسر بسبب عناد تنين أو بضع رجال هم أقرب للرعاع غير المتحضر.. أنتم ستتجاوبون معنا، بإرادتكم أم رغماً عنكم.."
وبإشارة من يده، وجد الهوت الجنود يسحبونهم بعيداً عن المبنى وهم يتبعونهم مصدومون لما رأوه.. وفي الساحة، تطلع آرجان للسماء بمزيج الصدمة والقلق.. لقد أصبح الوضع أعقد مما ظنه عليه.. لم يعد الأمر يتضمن تهريب الهوت من قبضة الكشميت، بل تقويض هذه القاعدة التي سخّرها الكشميت لأسر التنانين وتطويعها رغم إرادتها.. وهو أمر لا يرضى الهوت به أبداً ولا يستسلمون له.. لذلك كان عليهم فعل شيء لإيقاف مثل هذا المشروع وصرف نظر الكشميت عن هذه الفكرة.. فكيف يمكنهم ذلك؟..

*********************

مضت ساعات طويلة على رنيم وهي قابعة في موقعها مع كاجا بانتظار أي إشارة من آرجان.. وكلما تحرك التنين فإن رنيم تنظر له بشيء من اللهفة لترى إن كان نداء آرجان قد وصل لأذنيه الحساستين.. لكنه كان يدور في موقعه بتململ في كل مرة ويبحث في القربة المرمية أرضاً عن مياه يطفئ بها عطشه.. ورغم قلقها من نفاذ مخزونهما من المياه، إلا أنها لا تلبث أن تستسلم لطلباته وتسقيه ما تقدر منها محاولة منعه من القضاء على كل ما يملكانه..
وبعد أن قارب الوقت منتصف الليل، دون أن يتحرك كاجا ملبياً أي نداء ودون أن تبدو أي حركة غريبة في القلعة التي غرقت في هدوئها وسط ظلام تلك الليلة، فإن رنيم أخيراً شدّت عزمها على التدخل والاقتراب من القلعة بحثاً عن آرجان بنفسها.. دارت رنيم بالتنين فوق القلعة مستغلة غياب القمر هذه الليلة وإعتامها بشكل شبه تام.. ورغم المشاعل التي أشعلت في جوانب عديدة من المكان، إلا أن تحليقها في موقع مرتفع يمنع الجنود من رؤيتها في الوقت الحالي.. ظلت رنيم تدقق البصر في تفاصيل القلعة من الأعلى مهتدية بضوء المشاعل بحثاً عن وسيلة لاختراقها وإنقاذ آرجان منها.. لكن مع وجود الأبراج في جميع الجهات على السور، يكون من الصعب على رنيم الهبوط وسط الساحة دون أن تلفت الأنظار.. فكيف يمكنها أن تهتدي لموقع آرجان وتسعى لإنقاذه الآن؟.. تمنّت لو يرسل الإشارة المتفق عليها، وهو الصفير الذي يستدعي به كاجا عادة، لكي تعرف موقعه على الأقل.. بعدها يمكنها بكثير من الحظ أن تصل إليه وتخرجه دون خسائر..
فوجئت في تلك اللحظة بكاجا يطلق صيحة عالية، فنظرت إليه وقالت بتوتر "اصمت يا كاجا.. ستكشفنا بسهولة في سكون هذه الليلة.."
لكن كاجا الذي دار حول القلعة بسرعة أطلق صيحة مزمجرة أخرى بدا لرنيم أنها أعلى من السابق.. وبينما تلفتت في الأسفل بقلق، لاحظت أن الجنود يبحثون عن مصدر الصوت بدهشة وتحفز.. فقالت "اهدأ يا صاحبي.. ما الذي يقلقك هكذا؟"
فوجئت بأن التنين بدأ هبوطه نحو القلعة بسرعة كبيرة، فحاولت جذب لجامه وهي تصيح "ليس الآن يا كاجا.. سيكونون في انتظارنا بعد أن جذبت انتباههم بصياحك.."
لكنه لم يعبأ لاعتراضها وهو يهبط بقوة وسرعة، ثم رفرف بجناحيه قبل وصوله للأرض بلحظات حتى خفف سرعته واستقر وسط الساحة بينما تعالى الصياح من حول القلعة.. تسارعت دقات قلب رنيم وهي تشد لجام كاجا وتتلفت حولها بشيء من الذعر.. بينما بدأ الجنود يتجمعون حول الساحة وهم حاملين أسلحتهم بتحفز ومحاصرين التنين.. لقد فوجئت رنيم بعصيان كاجا لأوامرها، ولا تعلم حتى اللحظة ما الذي وتره وجعله يسارع في اقتحام القلعة.. أهذا راجع لاستدعاء آرجان له؟..
حاولت أن تجبره على الطيران من جديد وقلقها يزداد للبنادق التي يحملها الجنود في أيديهم بتحفز وخشيتها من إصابة كاجا.. لكن كما أن كاجا رفض الانصياع لها من جديد، فإن الجنود رغم تحفزهم لم يحاولوا إطلاق النار عليه، كما لم يظهر عليهم رعب مشابه للذي تراه عادة على وجوه البشر لرؤية التنين، بل بدوا بتحفز كامل وكأن وجود التنين أمر طبيعي لا يثير فيهم أي ذرة خوف أو قلق..
غابت دهشة رنيم مع توترها للصياح الذي تعالى بين بعض الجنود وبعضهم يشير بيده، وكأنهم يبحثون عن وسيلة للإطاحة بهذا الدخيل مما أقلقها أكثر.. حاولت دفع التنين للرحيل وهي تصيح به "كاجا.. اهرب قبل أن يصيبوك ببنادقهم.."
ومع عصيانه مرة ثالثة، وجدته يضرب الأرض بقدمه ثم يتقدم بخطوات سريعة نحو جانب الساحة حيث بناءٌ أكبر من البقية يحتل جانباً من القلعة.. تدافع الجنود من أمام التنين بينما أطلق كاجا صيحة أخرى هزت جوانب القلعة.. وفي سجنه، كان آرجان يستطيع سماع صوت كاجا بوضوح، فاعتدل متلفتاً حوله رغم قيوده التي تمنعه من الوقوف، بينما قال رجل من الهوت ممن كان سجيناً معه "أهذا صوت تنين؟.."
قال آرجان بانفعال "ما الذي أتى بكاجا في هذا الوقت؟.. أنا لم أستدعِه بعد.."
تساءل الرجل بدهشة "أهو تنينك؟.. هذا خطير جداً.. إنه في مأزق الآن.."
قال آرجان بعصبية "هذا حق.. بعد كل ما رأيته هنا، أدركت الخطورة التي قد تحيق بكاجا لو حاول الاقتراب من هذه القلعة.. لذلك لم ألجأ لاستدعائه حتى الآن.."
وجذب قيوده بشدة مدمدماً بحنق "تباً.. وهذه القيود لا يمكن التخلص منها أبداً.."
قال الرجل بقلق "ما الذي ستفعله الآن؟.."
قال آرجان بتوتر "وما الذي يمكنني فعله؟.. ما الذي سيمنع هذه الكارثة الوشيكة؟.."
ورفع بصره للسقف المظلم وهو يدمدم بقلق شديد "لماذا عصيتِ أمري يا رنيم؟.. لماذا؟.."
في تلك الأثناء، كانت رنيم تجذب لجام كاجا بشدة وهو يتقدم من ذلك المبنى بإصرار.. ولما أطلق زمجرة حادة تبعتها صيحة شديدة، انتبهت رنيم لصوتٍ آخر يتجاوب مع صياحه.. بدا لها في البدء أنه صدىً لصوت كاجا، ثم أدركت أن الصوت أضعف وأقل حدة، وأنه يصدر من ذلك المبنى بالذات..
اقترب التنين من المبنى غير عابئٍ بالجنود وتحايل لتجاوز جدرانه الخشبية دون فائدة.. ثم استدار جانباً ولطم المبنى بقوة بجسده لطمة كادت تسقط رنيم من على ظهره.. فصاحت وهي تتشبث بالسرج جيداً "ما الذي تفعله أيها الأحمق؟.."
لم تعرف السبب الذي لأجله ثار كاجا بهذه الصورة، لكنها أدركت أن آرجان ليس في هذا المبنى.. الصوت الذي سمعته لم يكن يدل على وجوده، بل كان صوتاً مغايراً، صوتاً حيوانياً غريباً..
تراجع كاجا خطوتين ثم عاد يضرب الجدار بجسده بقوة، وفي هذه المرة وجدت رنيم نفسها تطير في الهواء لتسقط على الأرض الحجرية بعنف وجسدها يزحف لمسافة قصيرة قبل أن يسكن تماماً.. أنّت رنيم بألم محاولة الاعتدال وصوت الضربات يدوي من جديد، ثم سمعت خطوات الجنود تركض قربها وتتجاوزها، فاعتدلت رنيم جالسة تتطلع لما يجري.. رأت عدداً لا يقل عن خمس جنود يركضون نحو التنين ليتوزعوا حوله، وكل واحد منهم يحمل بندقية غريبة الشكل بفوهة عريضة.. اتسعت عينا رنيم بذعر بينما لم يلتفت التنين للجنود المحيطين به، وبعدما ضرب الجدار القريب من جديد بعنف، أطلق كل من الجنود طلقة من بندقيته نحو موقع يعلو موقعه لتنطلق قذائف كبيرة الحجم بشكل غريب فتنفجر بشكل محدود.. ومنها، ظهرت شباك رفيعة تلتمع خيوطها على ضوء المشاعل مما أوحى لرنيم أنها مصنوعة من معدنٍ خالص.. ولما فوجئ التنين بالشباك الخمس تسقط على رأسه وتقيد جناحيه، فإنه زمجر بغضب وهو يدور في مكانه ويطوّح يديه ويلف رأسه بقوة محاولاً الخلاص منها، لكن الأمر لم يكن هيّناً كما تصوّر..
وقفت رنيم وقد أدركت هدف الجنود من إلقاء الشباك، واندفعت نحو كاجا محاولة مساعدته للهرب قبل أن ينجحوا في القبض عليه.. لكن أقرب جندي إليها قبض على ذراعيها وأوقف اندفاعها وهو يصيح في وجهها بما لم تفهمه.. حاولت الإفلات وهي تصيح "اتركني.. ما الذي تنوونه لكاجا المسكين؟"
لكن الجندي لوى ذراعيها خلف ظهرها بقوة آلمتها وجعلتها تسقط على ركبتيها مرغمة.. ولما رفعت بصرها للتنين الذي صاح بغضب شديد وهياج أشد، فوجئت بأحد الجنود يحمل محقناً كبير الحجم غريب الشكل ويحقن السائل الذي فيه في فخذ كاجا بغفلة منه.. اهتاج كاجا بشدة لما جرى له، وبعد لحظات من الهياج والمقاومة، فإن قدما كاجا قد بدأتا تتعثران وتخبط في وقوفه وهو يطوّح رأسه يميناً ويساراً قبل أن يسقط بدويٍ مرتفع على الأرض الحجرية ويسكن تماماً إلا من أنين خافت يصدر من حلقه..
صاحت رنيم وهي تقاوم الجندي "ما الذي تنوون فعله بالتنين؟.. أطلقوا سراحي.."
لكن الجندي الذي لم يفهم قولها قد أنهضها بقوة وجذبها بعيداً نحو مبنىً آخر في الجانب المعاكس من القلعة، وبينما سارت رنيم معه مرغمة فإنها تلفتت خلفها نحو التنين الذي خفتت حركته بشكل تام.. عندها بدأ الجنود بربطه بسلاسل حديدية وسحبه نحو موقع آخر من القلعة لسبب لا تعلمه رنيم ولم تفهم مغزاه أبداً.. وبينما كان الجندي يشدّها خلفه بقوة، فإن رنيم شعرت بقلبها يغوص في صدرها لشدة قلقها على ما سيجري لكاجا، ولشعورها أنها قادت التنين للأسر بيديها الاثنتين وبقلة خبرتها المريعة..

*********************
http://www.mediafire.com/convkey/e4b...9djr4wtbzg.jpg

عالم خيال 20-12-15 08:33 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الرابع عشر: مقبرة جمجات


بعد أن اقتيدت رنيم نحو ذلك المبنى في جانب القلعة، أدخلها الجندي إلى غرفة في طابق علوي في المبنى ذات نافذة عريضة تطلّ على الساحة وما حولها.. كان المبنى من الداخل أكثر تطوراً وتحضراً مما بدا عليه من الخارج.. فللمرة الأولى ترى رنيم مصابيح غاز بهذا الشكل المتطور وترى بنادق الجنود الغريبة التي تختلف تمام الاختلاف عن البنادق المعتادة في بقية أرجاء العالم.. لاحظت بضع أشياء دلّتها أن حبّ الكشميت للعلوم والتطوير لم يكونا مجرد ادعاءٍ لا معنى له..
ولما دلفت الغرفة مع الجندي، رأت رجلاً يقف في الجهة التي تحتل النافذة العريضة أغلب ذلك الحائط، وقد أدار لها ظهره مراقباً ما يجري في الساحة بصمت.. وبعد أن تبادل الجندي معه بضع كلمات، فإنه أجبر رنيم على الجلوس على أحد الكراسي وقام بتقييد يديها بقيد حديدي وهي تتلفت حولها بقلق ممتزج بشيء من الفزع.. كيف ستتفاهم مع هؤلاء الكشميت؟.. بل الأسوأ من ذلك، كيف ستتخلص منهم وهم على ما هم فيه من كره للعرب ولمملكة بني فارس بالتحديد؟..
رأت ذلك الرجل يلتفت إليها بصمت ويتأملها بملامح جامدة.. فتأملته رنيم بشيء من التوجس، ثم قالت بحيرة "هل.. هل يعرف شخص هنا العربية؟"
ثم دمدمت وهي تتلفت حولها "يا إلهي.. كيف سأتفاهم مع هؤلاء؟.."
أتاها صوته يقول ببرود "هؤلاء.. يعرفون من لغتك ما يكفي لطرح هذا السؤال عليك.. ما الذي تفعله عربية في وسط مملكة كشميت وفي قلب قلعة (جمجات) المرهوبة من الجميع؟"
نظرت له بدهشة وقد فهمت ما يقوله رغم لغته السيئة، فقالت بتردد "أنا.. أنا لست عربية.. أنا من الهوت.."
نظر لها الرجل باشمئزاز قائلاً "وتظنين أنك تستطيعين خداعي؟.. ملامحك البلهاء تدلّ على هويتك بوضوح..كفي عن الكذب وأجيبيني.. ما الذي تفعله فتاة عربية وسط هذه القلعة؟.."
ومال تجاهها قائلاً بصرامة "والأهم من ذلك.. ما الذي تفعله فتاة عربية على ظهر تنين؟"
تذكرت ما فعله الجنود بالتنين، فقالت بتوسل "ما الذي تنوون فعله بالتنين يا سيد..؟.. أطلقوا سراحه رجاءً.."
قال الرجل بأنَفَة "نادني بمولاي الأمير.."
ترددت للحظات، ثم قالت "أنتَ لست مولاي ولن تكون.. أيها الأمير.."
نظر لها بنظرة جامدة لا تظهر الغضب الذي يشعر به، ثم دار حولها معلقاً "التنانين، كما أعرف، لا تطاوع أي شخص سوى الهوت.. لذلك، كانت صدمتي كبيرة عندما عرفت أنك عربية رغم اختراقك لأسوار القلعة على ظهر ذلك التنين.. فكيف تمكنت من تطويعه؟.. ما الذي فعلته لجعله يغضّ البصر عن هويتك الحقيقية؟.."
بدا لها مهتماً لأمر التنين أكثر من اهتمامه بسبب وجودها هنا.. فقالت بتوتر "لن أجيب على سؤال كهذا.. أطلق التنين ودعني أرحل.."
قال الأمير بابتسامة ساخرة "المفترض أن تكفّي عن طلبٍ سخيفٍ كهذا.. أظننت أننا سنعتذر لك بكل تحضر ونطلقكما مع تمنياتنا لكما برحلة موفقة؟.."
لم تتوقع رنيم هذا، لكنها لم تتردد وهي تقول "رغم ذلك.. لن تحصل مني على أي إجابة.. لذلك إطلاقي خيرٌ من سجني بدون أي فائدة.."
نظر لها الأمير ببرود شديد وهي تبادله النظرات متحدية، ثم قال "إن لم أحصل على إجابات لأسئلتي فسأسلمك لرجالي لتقومي بتسليتهم قليلاً.. هذا المعسكر يحوي سبعون جندياً على الأقل.. ستكون أوقاتاً طويلة وممتعة حقاً بالنسبة لك.."
صاحت رنيم بحدة "أهذا كل ما يفلح الرجال بفعله؟.. هل تهديدي والتعدّي علي سيريحكم ويمنحكم نوماً هانئاً هذه الليلة؟.."
قال الأمير بهدوء "لكي تعرفي أنني لن أتوانى عن فعل أي شيء للحصول على إجابات.. ولا يهمني ما سيجري لك قيد شعرة.."
تراجعت رنيم خطوة مقدرة ما ستخسره، فقال لها "ما الذي جاء بك لهذه القلعة بالذات في مثل هذا الوقت؟.. أهو أمرٌ يخصّ الهوت؟.. أم التنين؟.."
نظرت له بدهشة واضحة، ثم اندفعت تقول "أنتم تحتجزون تنيناً لديكم.. أليس كذلك؟"
ظل على صمته وهو يستمع لها، فقالت بجرأة أكبر "لهذا السبب ثار كاجا وبدأ يضرب جدران ذلك المبنى.. لقد سمعت صوت تنينٍ آخر من ذلك المبنى رغم ضعف صوته.. فكيف وضعتم يدكم عليه؟.. وما السبب الذي لأجله تحتجزونه هنا؟"
ثم أضافت باهتمام أكبر "ولهذا السبب أنتم تختطفون الهوت.. أليس كذلك؟"
وجدتـه يقـبض على مجمع ملابسها ويرفعها قائلاً بلهجة باردة حملت شيئاً من الاستنكار "هل تستجوبينني؟"
نظرت له بتوتر لا محدود، فأطلقها بقوة وهو يقول بصرامة "ما الذي جاء بك للقلعة؟.. أأنت جاسوسة لملك بني فارس؟"
قالت بسرعة "لا.. لست كذلك.."
ثم بشيء من التردد قالت "لقد أتيت هنا بحثاً عن رجل.."
نظر لها الأمير رافعاً حاجباً، فأضافت "اسمه آرجان.. لقد تم اختطافه وبيعه لكم في سهول الأكاشي، وأنا أريد إنقاذه بأي صورة كانت.."
مالت شفتا الأمير بابتسامة هازئة وعلق "حقاً؟.. لم أكن أعلم أن من تقف أمامي جندي بأعلى مستوى من مملكة بني فارس.."
قالت رنيم بحزم "لست أنتمي لمملكة بني فارس.."
قال الأمير بشيء من السخرية "إذن لمن؟.. الهوت؟.."
قالت هازة رأسها "لا.. لست أنتمي لأي مملكة.."
ورفعت رأسها مضيفة "السماء هي موطني.. ولا وطن آخر لي.."
طوّح الأمير رأسه بضحكة فاجأتها متخليّاً عن هدوئه المعتاد، وقال من بين ضحكاته "أتحاولين إقناعي بأنك ملاك؟.. وهل الملاك يقع في الأسر بهذه السهولة؟.."
قالت رنيم مقطبة "لست ملاكاً.. إنما أنا فتاة عادية.."
قال الأمير بابتسامة ساخرة "فتاة عادية؟.. أنت تذكرينني بفتاة أخرى تصرّ أنها عادية لا تستحق اهتمامنا، ولم تكن نهايتها تسرّ الأنظار.."
نظرت له رنيم بفضول وشيء من الدهشة، أهو يعني فتاة من الهوت؟.. إنها لم تعرف إلا فتاة واحدة قبض عليها الكشميت، والتي لأجلها بدأت رنيم رحلتها الغريبة والطويلة هذه.. فتساءلت بشيء من الحذر "هل تعرف فتاة اسمها جايا؟.."
رمقها الأمير بنظرة صامتة تخلو من أي انفعال، ثم قال "جايا.. أظنني سمعت اسماً كهذا من قبل.."
ظلت رنيم تنظر له بدهشة.. بدا واضحاً أنه يعرف الاسم، ويعرف صاحبته.. فصاحت "هل تعرفها؟.. أين رأيتها؟.. أهي هنا في القلعة؟.."
تساءل الأمير بسخرية "هل تبحثين عنها هي أيضاً؟"
لم تعلق رنيم وهي تفكر بالأمر مبهوتة.. ربما كان القبض على آرجان واقتياده عبر رحلة طويلة لهذا المكان ليس سيئاً في النهاية.. فهو قاده للموقع الذي سجنت فيه جايا بالذات، وحقق هدفه من هذه الرحلة التي قام بها برفقة رنيم..
علق الأمير بعد صمتها "هذه الفتاة قد قدمت لي خدمة جليلة لن أنساها لها أبداً.."
نظرت له رنيم بدهشة، فقال ضاحكاً "لقد سرقت تنيناً كان الملك عبّاد يحتفظ به في سجن خاص في (الزهراء).."
تساءلت رنيم بدهشة "(الزهراء)؟.. كيف وصل التنين هناك؟"
قال الأمير بسخرية "يبدو أنني لم أكن الوحيد الذي يحاول معرفة طريقة تسخير هذا الحيوانات، بل فكّر الملك عبّاد بالأمر ذاته.. لكن لحماقته فإنه اكتفى بسجن ذلك التنين دون أن يعرف طريقة ملائمة للحصول على ولائه.."
ومال تجاه رنيم مضيفاً بشغف "لكني لست أحمقاً مثله.. باستخدام الهوت، يمكنني أن أحكم سيطرتي على هذا التنين وغيره من التنانين ما إن أضع يدي عليها.."
قالت رنيم بحدة "لماذا تفعل هذا؟.. لمَ تسعى خلف هذه الكائنات بالذات؟"
ضحك الأمير معلقاً "أنت حمقاء أيضاً.. هذا ليس غريباً على عربية.."
ثم أضاف ملوحاً بإصبعه "أتعلمين ما الذي يمكن لتنين أن يفعله في هذه الحرب التي لا يستخدم فيها الطرفان إلا قواتهم البرية والبحرية؟.. عندما يمتلك أحد الطرفان قوة جوية، فإنه يملك نقطة تفوق وفرقاً شاسعاً في القدرات، ويعني حسم الحرب هذه بأسرع الطرق وأسهلها.."
وقال بابتسامة ظافرة "عندها، تخيّلي ما سيجري لمملكة بني فارس عندما يفاجؤون بسربٍ طائر من التنانين التي تحمل جنود الكشميت بكل عتادهم المتطور.. ستسقط (الزهراء) خلال ساعات معدودة بعد أن صمدت أمامنا لمئات السنوات.. وستصبح مملكة كشميت هي الأقوى في هذا العالم.."
شحبت رنيم وهي تفكر فيما يسعى إليه ذلك الأمير المجنون.. رغم اتفاقية السلام الظاهرية بين المملكتين، لا يزال الطرفان يسعيان خلف التفوق واستكمال تلك الحرب رغم كل الخسائر التي حاقت بهم في السابق.. أي متعة يجدها هؤلاء في قتل جنودهم وقتل الأبرياء للحصول على بضعة أميال جديدة تضاف لمملكتهم؟.. أي هناء يشعر به هؤلاء القوم وهم يشعلون محرقة تحرق العدو والحليف في آن واحد؟.. هذا شيء لم تفهمه قط..
أخيراً، بحلق جاف لشدة توترها، تساءلت "ما الذي فعلته بالهوت؟.. ما الذي فعلته بجايا؟"
قطب الأمير شيئاً ما قائلاً "الأحرى بك القلق لما سيجري لك بدل القلق لأمر فتاة أخرى.."
تساءلت بشيء من التوجس "ما الذي تنوي فعله بي؟.."
لم يجبها الأمير وهو يقول "سأمنحك بعض الوقت للتفكير فيما طلبته.. وسأعود لك لأعرف أجوبة أسئلتي.. عليك أن تتوقعي أمراً لا يسرّك لو فكرت بالإصرار على عنادك هذا.."
واستدار مغادراً، فزفرت رنيم بحدة وهي تفكر بكل ما جرى.. الآن تدرك أن وجود جايا هنا ليس مستغرباً أو مستنكراً.. فما دام الكشميت يسعون خلف الهوت، لن يكون مستغرباً أن يكون لهم يد فيما جرى لجايا بعد اختفائها من قصر (الزهراء) ومن السفينة التي انطلقت من ميناء (مارِج).. فهل تمكنوا من القبض عليها قبل أن تتمكن من الفرار فعلاً؟..
عليها أن تصل إلى آرجان بأي طريقة، وعليها أن تبلغه بما اكتشفته.. هل سيكون سعيداً بعثوره على جايا في هذا الموقع بالذات؟..
في تلك الأثناء، كان الأمير يهبط درجات القلعة تاركاً سطح الأرض خلفه ومتعمقاً في طابق أرضي من المكان يمتدّ بحجم القلعة ذاتها ولا تنيره إلا بضع مصابيع تعمل بالغاز.. بالإضافة إلى مراوح ضخمة في جانب المكان تؤمن التهوية الملائمة له عبر بضع أنابيب لها فتحات تؤدي للهواء الطلق.. وقد تم حجز جانب من المكان بأبواب معدنية مصمتة وتقسيمها كسجون ضيقة تقطعها ممرات أكثر ضيقاً..
سار الأمير عبر الممر الضيق محاذراً أن تتسخ ملابسه من الجدران الرطبة المكونة لذلك القبو، حتى وقف أمام باب معدني سارع أحد الجنود بفتحه له بصمت ودون سؤال.. فدلف الأمير عبر الغرفة الضيقة حتى وقف أمام فتاة أجبرت على الوقوف بربط ذراعيها بسلسلة مثبتة في جوانب الغرفة بوضعية الطائر، ورأسها متدلٍ على صدرها بصمت في غيبوبة عميقة.. ولما دخل الأمير ووقف أمامها، سارع الجندي للطمها بقوة ليعود لها وعيها.. ولما انتبهت من غيبوبتها ورأت الواقف أمامها، ابتسمت بجانب فمها قائلة "هل عدنا لهذا من جديد؟.. مرحى.."
قال الأمير بهدوئه الشهير "وسنعود لهذا كل مرة حتى تخضعين لما نطلبه منك.."
غمغمت الفتاة بتعب ورأسها يهوي من جديد دون أن ترفع بصرها "لمَ؟.. لمَ أنا بالذات؟"
قال الأمير بابتسامة جانبية "لأنك صاحبة ذلك التنين.. هذا هو السبب الوحيد.."
ثم مال تجاهها قائلاً بتشفٍ "هذا هو قدرك.. فهل تملكين الاعتراض عليه؟"
لم تجب الفتاة بكلمة ورأسها يهوي على صدرها بصمت.. هل يمكن لأحد تغيير قدره بيديه؟..

*********************

في صباح اليوم التالي، وبعد شروق الشمس بقليل، وجد آرجان من يفك القيد الذي يقيده للحائط ويستعيض عنه بقيد حديدي حول رسغيه.. ثم وجد جندياً من الجنديين اللذين وقفا في زنزانته يجرّه معه خارجاً منها وعبر الدرجات التي تعود بهم لسطح الأرض.. ولما خرج من ذلك المبنى وواجهه نور الشمس القوي، شعر آرجان بألم حارق في عينيه وهو يجد الجندي يجذبه قسراً نحو ذلك المبنى الكبير في جانب الساحة..
وبعد دخوله من باب المبنى، لاحظ وجود ذلك الأمير الذي رآه في اليوم السابق عند قدومه للقلعة.. ورأى التنين ذاته الذي كان حبيساً بالأمس، وهو لم يزددْ إلا ضعفاً ومرضاً في الساعات القليلة الماضية..
الإضافة التي رآها آرجان في هذا الموقع هو كاجا الذي وقف في جانب آخر مقيّدٍ بقيود حديدية أخرى وهو يستعيد وعيه بعد غيبوبة عدة ساعات.. فزفر آرجان بضيق وهو يرى أسوأ توقعاته قد تحقق.. لهذا السبب لم يحاول استدعاء رنيم وكاجا فور دخوله للقلعة.. فلدى رؤيته هذا التنين في سجنه، ومعرفته بمَ يهدف إليه الكشميت من اختطاف الهوت، فإنه أدرك الخطورة التي تحيق بكاجا لو دخل بنفسه لهذه القلعة التي لن يضيّع جنودها فرصة ذهبية كهذه للحصول على تنين آخر..
ولما واجهه الأمير، قال آرجان بحدة "أين الفتاة؟"
ابتسم الأمير بجانب فمه معلقاً "إذن أنت هو بالفعل.. أنت من تبحث عنه الفتاة.."
واستدار إلى كاجا مضيفاً "وأنت صاحب هذا التنين.."
لم يجب آرجان وهو عاقد حاجبيه، بينما أطلق كاجا صيحة متألمة وهو يحاول الإفلات من قيوده التي تتغلغل في جسده بقوة كلما حاول المقاومة أكثر.. فقال الأمير "ألا تتمنى إطلاق سراحك وسراح هذا التنين؟.. سأطلق سراح الهوت جميعاً، لو أنك قد أبلغتني بكل ما أريد معرفته عن هذه التنانين.."
قال آرجان بجفاء "لن أتحدث حتى أرى الفتاة.. أين هي؟"
مال الأمير نحوه قائلاً "أتظن أنك تستطيع إجبارنا على الانصياع لك؟.."
كرر آرجان بتأكيد "لن أتحدث ما لم أرَ الفتاة.."
قال الأمير بهزة من رأسه "لا بأس.. هذا مطلبٌ عادل.."
وجده آرجان يتقدم منه فيمد يده ويقبض على رأسه بقوة، وضغط بأصابعه أسفل جفنيه بشكل مؤلم قائلاً بصرامة "سأحضر الفتاة، لكن في البدء سأخلصك من عينيك حتى لا تراها البتة.."
قال آرجان بحزم "إذاً لن تحصل مني على كلمة.."
قال الأمير وهو يتراجع خطوة "إذن أنت لن تخضع للتهديد.."
واستدار فارداً ذراعيه قائلاً "حقاً.. ما الذي سيجبرك، أو يجبر بني قومك، على الاستجابة لطلباتي؟.. لم يتحلّى شعبك، مع التنانين، بهذا العناد الذي لم أرَ مثله من قبل؟.."
ونظر لآرجان مضيفاً "أنتم شعبٌ أناني.. لمَ يجب على التنانين أن تطيع الهوت فقط ولا تطيع أحداً غيرهم؟.. ما الجريمة التي سنرتكبها باستخدام هذه الكائنات المذهلة؟.."
قال آرجان مقطباً "نحن لم نختر التنانين، بل هي من اختارنا.."
التمعت عينا الأمير وهو يقول "حقاً؟.. وكيف فعلت ذلك؟.. أهناك وسيلة أو خطوات معينة لحدوث ذلك؟"
قال آرجان بسخرية "تظن أنني سأجيبك بكل بساطة؟.."
أجاب الأمير بابتسامة "قطعاً لا.. لكن ماذا عن الفتاة؟"
وبنظرة للخلف، فإن آرجان استدار بدوره ينظر خلفه ليجد جندياً يتقدم منه دافعاً رنيم أمامه مقيدة اليدين.. تقدم آرجان خطوة نحوها وهي تنظر له بعينين متسعتين، لكن الجندي القريب أوقف آرجان رغماً عنه والأمير يقول "وجود هذه الفتاة سيصبّ في صالحي حتماً.. فهي لم تكتفِ بإحضار تنين جديد لي، لكنها منحتني فرصة للضغط عليك بصورة أفضل من أي وسيلة للتعذيب.."
هتف آرجان بحنق "الفتاة لا تعرف أي شيء عما تريد معرفته.."
قال الأمير بابتسامة متسعة "لكن أنت تعرف.. أليس كذلك؟"
قاد الجندي رنيم للموقع الذي ربط فيه كاجا والذي استمر بمحاولته للتخلص من قيوده.. عندها، قام بربط يدي رنيم خلفها في أحد الأعمدة الخشبية التي تنتصب وسط المبنى.. بينما قال الأمير "هذا التنين لم يحضَ بأي طعام منذ الليلة الماضية.. فحتى متى يمكنه الصمود على جوعه ذاك؟.. ولو طغت عليه حاسته الحيوانية، هل سيلتهم الفتاة التي كانت يطيعها بالأمس، أم أنه سيصبر على جوعه لأمدٍ غير مسمّى؟.."
نظرت رنيم بشيء من القلق لوجه كاجا الثائر والغضب العارم في عينيه.. كان، في تلك اللحظة، يبدو لها مخيفاً كما كان في المرات القليلة التي رأته يفقد التحكم بنفسه فيها.. لكنها نوعاً ما تشبثت بأملٍ صغير بأنه لن يفعل ذلك.. هل لها أن تثق بعلاقتها بالتنين بحيث تسلّمه حياتها وهي آمنة؟..
سمعت آرجان يقول للأمير بغضب "أخبرتك أن الفتاة لا ذنب لها.. ضعني مكانها لو كنت تريد اختبار فكرتك هذه.."
نظر الأمير للموقف بابتسامة جانبية معلقاً "هل تقول هذا لأنك غير واثقٍ أن التنين سيقاوم جوعه ذاك؟.. إذن يمكننا أن نصبر قليلاً ونرى ما سيحدث لحيوانك الأليف هذا.."
استدارت رنيم إلى آرجان صائحة بانفعال وهي تحاول تخليص نفسها من قيودها "آرجان.. جايا.. جايا هنا.."
اتسعت عينا آرجان بصدمة ورنيم تصيح "جايا حبيسة في هذه القلعة.."
بهت آرجان لوقت طويل وكلماتها لا تكاد تصل لعقله، بينما ضحك الأمير معلقاً "أهذا الرجل يبحث عن الفتاة أيضاً؟.. هذا ممتع.. ربما سأضعها في مواجهة هذا التنين هي الأخرى.. ولنرَ من منكما سيختار لتكون وجبته الأولى.."
فوجئ بآرجان يغافل الجندي القريب ويقفز عليه فيسقطه أرضاً وهو يجثم على صدره.. فأمسك عنقه بشدة رغم قيود يديه وهو يقول بغضب "أين جايا؟.. ما الذي فعلتموه بها؟.."
ابتسم الأمير بجانب فمه بصمت، بينما تلقى آرجان ضربة على جانب رأسه بقوة رمته أرضاً وسط شهقات رنيم المذعورة.. وبينما صمّ كاجا آذانهم بصياحه المهتاج، فإن الجندي لم يتوقف عن ضرب وركل آرجان الذي لم يتمكن من مقاومته بسبب الدوار الذي ألمّ به.. ثم سحبه الجندي بخشونة نحو جانب المكان فقيّد يديه بدوره في أحد العوارض الخشبية والأمير ينفض ملابسه قائلاً "تعجبني هذه الجرأة التي تتحلّون بها عند قدومكم لهذه القلعة.."
رفع آرجان بصره بتعب للأمير الذي أضاف وهو يحدق فيه "ويعجبني أكثر رؤية تلك الجرأة وذلك العناد يتهاويان على يديّ.."
غمغم آرجان "تباً لك من حقير.."
ابتسم الأمير بجانب فمه، بينما لم يتردد الجندي في ركل آرجان على وجهه ركلة مؤلمة.. ولمدة ساعة تقريباً، جلس الأمير في جانب المكان يتأمل بشغف واضح الضربات واللكمات التي تصيب آرجان من الجندي حتى أصيب الجندي بتعبٍ بالغ، بينم ظل آرجان على صمته وهو يلهث بشدة.. فصاحت رنيم المرتعبة التي أجبرت على رؤية كل ما جرى "أهذه وسيلة لاستجواب سجنائك؟.. هل تنوي قتلهم قبل الحصول على أي كلمة منهم؟"
قال الأمير وهو يسترخي في موقعه "لم يكن هذا استجواباً.. بل عقاباً له على تجرؤه لمسي.. وليشكرني لأنني لم آمر بقطع يديه هاتين لما اقترفتاه بحقي.."
ظلت رنيم تستمع له بارتياع وهي تنقل بصرها بين آرجان الصامت وبين كاجا الذي كان لا يفتأ يحاول تحرير نفسه.. بينما قال الجندي للأمير "يبدو أنه فقد وعيه لشدة الضرب.. هل أوقظه ببعض الماء البارد؟"
قال الأمير باشمئزاز "لا.. لن أضيّع وقتي معه.. سأرى إن كان سيتحدث بعد أن يشاهد حيوانه الأليف يلتهم رفيقته.. عندها أشك أن يكون أكثر عناداً مما هو الآن.."
ونهض نافضاً ملابسه، ثم استدار مغادراً المكان وهو يقول للجندي "ليبقَ جندي حراسة خارج هذا المكان طوال الوقت.. ولتخبرني فور هجوم التنين على الفتاة بلا إبطاء.."
سارع الجندي ليفتح للأمير باب المستودع، ثم يغلقه بعد أن يغادره تاركاً المكان يغرق في ظلام جزئيٍ إلا من بعض النور الذي تسمح نوافذه العلوية بمروره..
تلفتت رنيم حولها بيأس وهي تحاول التخلص من قيودها، ثم صاحت "آرجان.. هل أنت بخير؟.. تحدث إليّ أرجوك.."
سمعته يزفر قبل أن يقول بصوت خافت "لا تقلقي.. أنا بخير.."
قالت وعيناها مغرورقتان بالدموع "كيف يمكنك أن تقول هذا بعد كل ما جرى؟.."
عاد آرجان يزفر للحظات، ثم رفع وجهه بالكدمات التي ظهرت واضحة عليه وسألها "كيف علمتِ بأمر جايا؟.."
أجابت "لقد أخبرني الأمير أنها سرقت هذا التنين من (الزهراء)، ثم تمكن الكشميت من القبض عليها وعلى التنين وإحضارها إلى هنا.."
نظر آرجان للتنين بدهشة وغمغم "أهذا هو الكنز الذي تحدثت عنه تلك الملكة؟.. ذاك الملك وهذا الأمير.. ما الممتع في تعذيب هذه الحيوانات البائسة؟.. تباً لهم.."
تساءلت رنيم وهي ترمق التنين "ما سبب تشبثهم بهذا التنين رغم مرضه؟"
قال آرجان زافراً "لا أظنه مريضاً إلا بسبب هذه القيود.. التنانين تبغض الأسر والقيود، ولو لم تتمكن من الإفلات من سجنها فإنها تمرض وتضعف مع امتناعها عن تناول الطعام والشراب حتى تموت.. حريتها أهم بالنسبة لها من حياتها ذاتها.."
نظرت رنيم للتنين المريض بإشفاق وهي تدرك شعوره تمام الإدراك.. ألم تكن تشعر بالأمر ذاته وهي في سجنها المزخرف ذاك؟.. ثم سمعت آرجان يتسائل بشيء من اللهفة "هل رأيتها؟.. كيف هي؟"
فهمت أنه يعني جايا، فهزت رأسها قائلة "لم أرها.. فقد احتفظ بي الأمير في مبنىً آخر ولم أرَ أحداً من الهوت.."
خفض آرجان رأسه بشيء من اليأس، وقال "لو كانت موجودة حقاً، فكيف سيكون حالها مع هذا الرجل المجنون؟.. كيف سأراها؟.. بل كيف سأنقذها؟.. نحن في أسوأ حالٍ ممكن في هذه القلعة.."
صمتت رنيم دون أن تخبره بما قاله الأمير في نهاية جملته.. لقد قال إن مصير الفتاة لم يكن أمراً يسرّ الأبصار.. فهل يعني ذلك أنها قد قضت نحبها؟.. تفزعها هذه الفكرة، وما قد يشعر به آرجان لو علم ذلك حقاً.. لذلك فضّلت الاحتفاظ بهذه المعلومة لنفسها حالياً وهي تجاهد بإصرار للتخلص من قيودها بأي شكل كان.. بينما التزم آرجان الصمت بتعبٍ شديدٍ وهو يفكر في أمر جايا.. وبينما سكن التنين الضعيف أسود اللون بشكل شبه تام، فإن كاجا قد استسلم لتعبه بدوره وهو يسقط جانباً ويلهث بقوة وقد بدأت بعض السجحات تظهر على جناحيه مع شدة جذبه لهما للتخلص من قيوده المعدنية..
قالت رنيم وهي تراقب تعب التنين "اهدأ يا كاجا.. هيجانك هذا سيزيد من تعبك وألمك وجوعك.. عليك أن تحتفظ بطاقتك حتى نتمكن من إخراجك من هذه القلعة.."
سمعت آرجان يعلق دون أن يرفع بصره "كاجا لن يلتهمك.. فلا تخشي شيئاً.."
لم تكن خائفة من هذا الأمر، لكنها علقت رغماً عنها بتوتر "لقد حاول كاجا التهام صبي على إحدى الجزر التي مررنا بها لما عجز عن تجاوز جوعه.."
قال آرجان بإصرار "كاجا لن يفعل.. أنا أثق به.. وعليك أن تثقي به أنت أيضاً.."
ظلت رنيم تنظر للتنين الذي أخذ يلهث بشدة.. ودّت لو كانت طليقة لتربت على عنقه وتمسح على رأسه.. لو كانت قادرة على إطلاقه من سجنه الذي يبغضه بشدة كما بدا من هيجانه.. لكنهم بحاجة لمعجزة كبيرة ليطلقوا أنفسهم من هذا الأسر.. ولا يمكنها أبداً أن تعوّل على المعجزات في المحنة التي هي فيها الآن..

*********************

مع قرب ذلك المساء، ومع تطاول الساعات على رنيم وآرجان اللذين أنهكهما التعب والقيود التي تغلّ أيديهما، ومع الجوع والعطش الذي استبدّ بهما، فإن الصمت كان يخيّم عليهما بشكل كامل.. ومع اقتراب الشمس من مغيبها، رأت رنيم كاجا ينهض بعسر وغضب وهو يطلق صيحة حانقة ويشدّ السلسلة التي تقيد عنقه للعارضة الخشبية خلفه بقوة دون فائدة..
ظلت رنيم تراقب الهياج الذي كان فيه وهو يطوّح ذيله يميناً ويساراً بحنق شديد، وهي مدركة أن الجوع قد استبد به فوق طاقته.. ولما التفت إليها، ورأت الغضب الشديد في عينيه، فإن رجفة أصابت جسدها رغماً عنها.. من قال إن التنين لا يأكل البشر عندما يستبدّ به الجوع الشديد؟.. لم تكن ترى في عيني كاجا أي تعقل أو لطف مما عهدته سابقاً، بل كانت عيناه الخضراوان تلتمعان بجوعٍ حيواني وهو يزمجر بقوة تهزّ أرجاء المكان ولعابه يسيل من شدقيه.. اتسعت عينا رنيم وهي تنظر لثورته غير المتعقلة، وهمست بارتجافة "كاجا........"
لم تكن عينا كاجا طبيعيتان.. كانتا أقرب لطبيعته الحيوانية مما عهدته طوال حياتها.. لذلك، لم يكن صعباً عليها تخيّل ما قد يفعله التنين الهائج الذي تضوّر جوعاً لساعات طوال بها وهي وسيلته الوحيدة لسدّ ذلك الجوع..
رأته ينقضّ عليها بسرعة مما أفزعها وهي تغمض عينيها بشدة، بينما هتف آرجان بقوة "لا تفعل يا كاجا.."
تردد صدى صوته في المكان الخالي، بينما غاص قلب رنيم في ضلوعها لشدة الفزع.. لكنها شعرت بهزة قوية تهز العمود الذي قيّدت إليه وترجّها بقوة، ولما فتحت عينيها متوجسة رأت كاجا ينشب أنيابه في العمود الخشبي ويشدّه بقوة.. كرر ما يفعله عدة مرات وهو يقضم العمود بكل ما أوتي من قوة ويجذبه بيده ورنيم تراقبه مذهولة.. وبينما زفر آرجان بشيء من الراحة لما رأى ما يفعله كاجا، فإن الأخير لم يتوقف عما يفعله حتى بدأ العمود يتهشم تحت أنيابه الحادة، ولم يطُل به الوقت حتى انفصل عن جزئه العلوي ورنيم تجد نفسها تسقط أرضاً مع الجزء المهشم من العمود وهي تطلق صيحة متألمة.. وبسرعة، حاولت تمالك نفسها وهي تنهض وجذبت قيودها عبر العمود الخشبي حتى أخرجت القيد من الجزء المهشم وغَدَت حرة بشكل جزئي، وإن لم تتمكن من الخلاص من القيود التي تقيّد يديها بشكل كامل..
سمعت التنين يزوم بألم ورأت الدماء تسيل من شدقيه ممتزجة بلعابه، لكنه لم يلمسها وهو يمسح رأسه بذراعيها.. فقالت رنيم متنهدة وهي تمسح الدماء عن فكيه "شكراً لك يا كاجا.. وعذراً لما سببناه لك من شقاء.."
سمعت آرجان يصيح بها وهو يتلفت خلفه "يبدو أن بعض الجنود قادمين بسبب هذه الأصوات العالية.. عليكِ استغلال هذه الفرصة.."
لم تدرِ رنيم ما عليها فعله، لكن كل ما دار بذهنها أنها لن تسمح للجنود بأن يعيدوها للقيود من جديد.. تناولت أقرب أداة معدنية يمكنها استخدامها كسلاح مرتجل، وركضت نحو الباب وهي تسأل آرجان بقلق "هل يمكننا إغلاق هذا الباب حتى نخلّص كاجا من أسره؟"
أجاب آرجان "أظن ذلك.. عليك أن........"
وجدا الباب يفتح وأحد الجنود يدخل المبنى متفحصاً ما جرى فيه، ويبدو أنه لم يتوقع رؤية الفتاة طليقة إذ بقي واقفاً مشدوهاً للحظة كانت كافية لرنيم القريبة لترفع الأداة في يدها وتعاجله بضربة قوية على رأسه بكل ما تملك.. سقط الجندي متألماً بينما صاح آرجان "اجذبيه نحوي.. عليكِ بإغلاق الباب قبل قدوم المزيد منهم.."
استغلت رنيم سقوط الجندي فسحبته من مجمع ثيابه بأقوى ما تستطيع نحو آرجان القريب دون أن تدري من أين واتتها القوة لفعل ذلك.. وقبل أن تصل إليه فوجئت بالجندي يقبض على يديها بقوة وهو يدمدم بغضب شديد.. وحاول الاعتدال ورنيم تجذب يدها لتحاول ضربه من جديد، لكنه لم يكد يعتدل حتى فوجئ بركلة قوية من آرجان الذي كان خلفه أسقطته أرضاً ليفقد وعيه هذه المرة..
ظلت رنيم واقفة ودقات قلبها متسارعة، بينما صاح بها آرجان "الباب يا رنيم.."
استدارت على الفور وعادت للباب فأغلقته، وبنظرة إليه أدركت أنه يغلق باستخدام عارضة خشبية توضع على رأسين حديديين ثبتا في جانبي الباب فيمنع من كان خارجه من فتح الباب مهما حاول.. فحملت العارضة بشيء من المشقة ودفعتها لتسقط في موقعها وهي تلهث بشدة.. ولم تكد تفعل حتى وجدت الباب يهتز بقوة وطرقات تضربه من الخارج من بقية الجنود.. تلفتت رنيم حولها، ثم تقدمت من الجندي فاقد الوعي وفتشت جيوبه بسرعة.. لقد خمّنت أنه المسؤول عن مراقبتهما لأنه كان الأسرع في الوصول إليهما من البقية، لذلك لابد أنه يحتفظ بمفاتيح تلك الأقفال معه.. وبالفعل حصلت على سلسلة بها بضع مفاتيح، فهرعت لآرجان وبحثت عن المفتاح الملائم حتى استطاعت أن تفك قيوده التي سقطت أرضاً مصدرةً صوتاً عالياً..
قال آرجان وهو يفرك يديه "علينا أن نحرر كاجا والتنين الآخر.. ثم نبحث عن جايا بأسرع ما نستطيع.."
تساءلت رنيم وهو يفك قيد يديها بدوره "أين سجنك الجنود مع بقية الرجال؟.."
أجابها بسرعة "هناك سجون كاملة تحت سطح الأرض، في قبوٍ كبير بدا أنه يحتل مساحة تقارب مساحة هذه القلعة.. لذلك لا أشك أن جايا ستكون هناك، لو كانت هنا فعلاً.."
هرع إلى كاجا الذي وقف متململاً بضيق شديد، ولما حاول إطلاق سراحه اكتشف أن القيود التي تقيّده لا يمكن فتحها بالمفاتيح، بل يجب أن يتم خلعها من العارضة الخشبية ذاتها.. ظل الطرق على الباب يتزايد بينما تلفت آرجان حوله بحثاً عن وسيلة لتحرير كاجا، ولما عثر على فأسٍ خشبية مرماة في جانب المبنى مع بضع أدواتٍ أخرى، أسرع يحملها ويعود للعارضة قائلاً "سيستغرق هذا بعض الوقت.. أتمنى أن يعيق الباب المغلق بقية الجنود عن اقتحام المكان.."
نظرت رنيم للباب بقلق، بينما حاول آرجان خلع القيد الذي يقيد كاجا بضربات من الفأس في يده.. ورغم الألم الذي ينتشر في جسده كله بسبب ذلك الجندي، لكن آرجان حاول ما بوسعه إحكام ضرباته واستنفار عضلاته للتخلص من القيود بأسرع ما يمكنه.. بينما تعالت الضربات القوية من الباب والجنود يحاولون الدخول للمبنى دون نجاح كبير..
نظرت رنيم للتنين الآخر الذي ظل ساكناً مدة طويلة رغم أن عيناه مفتوحتان وهو يلهث بخفوت شديد.. فتساءلت رنيم بإشفاق "ما الذي سنفعله بالتنين الآخر؟"
قال آرجان عابساً وهو يكمل عمله "سنفعل ما يجب فعله.."
كان جوابه مبهماً بشدة، فتقدمت رنيم من التنين الذي التزم بالصمت وهو يراقبها بعينيه اللتين خبتت لمعتهما كثيراً وبدا بأسوأ حالٍ ممكن.. وقفت رنيم على بعد مترٍ واحد وهي تتأمله بإشفاق، ثم اقتربت بخفوت لئلا تثير غضبه وهي تهمس "أيها التنين الجميل.. أأنت بخير؟"
مدّت يدها وربتت على خطمه، فبدا أضعف من أن يعترض على ذلك.. وسرعان ما لمس العطف الذي تحمله لمساتها الحانية وهي تقول بخفوت "علينا أن نرحل من هنا.. هل تقدر على النهوض أيها الكائن الرائع؟"
سمعته يئن بألم شديد ويغمض عينيه بصمت، فقالت رنيم لآرجان بارتباك "ما الذي حلّ به؟.. إنه لا يفتح عينيه.."
لم يجبها آرجان وهو مستمر بعمله حتى تمكن من إحداث شقٍ على شيء من الاتساع في العارضة مرقت منها السلسلة التي تقيّد كاجا، فسحبها بسرعة وقام بتحرير التنين بشكل تام ليجده ينتفض بقوة وهو يرفرف بجناحيه في المكان الضيق.. عندها هرع آرجان عائداً للجندي واستلّ خنجراً كان موجوداً في جرابٍ في حزامه، ثم عاد إلى رنيم التي قالت بقلق شديد "كيف سنتمكن من تحرير هذا التنين وهو بهذه الحالة؟.. هل يستطيع كاجا نقله بعيداً؟"
غمغم آرجان مقطباً وهو يتأمل التنين "محال.."
سمعا الباب خلفهما يتهشم بقوة للضربات التي تلقاها، وبدأ الجنود يتدافعون في المبنى بغضب شديد.. لكن كاجا الذي قاسى من حبسه طوال الساعات الماضية بالإضافة لتجويعه، لم يتأنّ في الانتقام من الجنود وهو يصيح فيهم غاضباً ويتقدم منهم بسرعة ليلتقط أحد الجنود بفكيه ويرميه عالياً خارج المبنى.. وبينما تلقى بعض الجنود ضربات بيده وأخرى بذيله الطويل، فإن رنيم قالت بانفعال "كيف سنهرب الآن؟"
لم يجبها آرجان وهو يمسح على رأس التنين الذي يعلو صدره ويهبط بأنفاس ضعيفة.. ثم غمغم بلغة الهوت "سامحني يا صاحبي.. من العسير إنقاذك بعد كل هذا.."
ولما التفتت رنيم إليه، وجدته يقترب من صدر التنين فيرفع خنجره عالياً، وبضربة قوية أخمد الخنجر في صدر التنين حتى نصله بينما انتفض التنين بعنف دون أن يملك القوة للدفاع عن نفسه.. شهقت رنيم بذعر لذلك المنظر وهي ترى الدماء التي انبثقت من الجرح فلطخت التنين وآرجان بقوة قبل أن يسكن جسد التنين الذي لم يطلق أنيناً واحداً طوال تلك اللحظات..
غطت رنيم فمها بكفيها وهي تنظر للتنين القتيل بارتعاب، بينما مسح آرجان الدم عن وجهه ويديه وهو يستعيد خنجره ويغمغم "لنرحل.."
همست رنيم بعينين دامعتين "كيف أمكنك فعل ذلك؟"
نظر لها بصمت للحظات ثم قال "كان هذا خيراً له مما هو فيه.."
رغم رده الجامد، إلا أنها تمكنت من رؤية الأسى واضحاً في عينيه.. فلم تعلق وهي تعرف ما يعنيه التنين بالنسبة للهوت.. أسرع آرجان نحو الباب حيث كاجا يشق طريقه بين الجنود الذين حاولوا عدم إصابته ببنادقهم لئلا يطالهم غضب الأمير، ولما رأى البنادق ذات الفوهة العريضة بأيدي الجنود، صاح بكاجا "ارتفع عالياً يا كاجا.."
قام التنين الذكي بما طلبه منه صاحبه وهو يرفرف بقوة ويرتفع بسرعة خاطفة ليتجاوز المبنى وأسوار القلعة بينما حاول الجنود إسقاطه بشباكهم دون أن يفلحوا بذلك.. ولم يلبث أن عاد لهم بعد أن اتخذ دورة سريعة في الهواء ليضرب مجموعة منهم جانباً بينما قام آخرون بتعبئة بنادقهم بقذائف جديدة تمهيداً لإسقاطه بها..
تلفت آرجان حوله بتوتر مستغلاً انشغال الجنود بكاجا وخوفهم من غضب الأمير لو تمكن من الفرار بالفعل.. كان وجود الجنود قرب الباب يمنعهما من الخروج منه دون أن يسقطا في أيديهم، ثم وجدته رنيم يتناول مشعلاً معلقاً قرب الباب ويعود به إلى مجموعة صناديق وبعض القش الذي وضع جانباً.. فألقى المشعل فيه وتراجع خطوات والنار تلتهم القش وتتعاظم بسرعة لا تصدق..
نظرت له رنيم بدهشة وتساءلت بقلق "لمَ تفعل هذا؟.. كيف سنهرب الآن؟"
أجابها وهو يتراجع خطوات "لنترك الجنود ينشغلون بأمر هذه النار.. ونحن سنهرب من طريق آخر.."
جذبها خلفه وهو يعود لقلب المبنى، وهناك لاحظت رنيم تلك النوافذ التي تقع في موقعٍ مرتفع من حائط المبنى الخشبي.. لم تكن النوافذ مغلقة بل كانت عليها قطعتان خشبيتان متقاطعتان يمكن تهشيمهما بسهولة.. رأت آرجان يقترب من الحائط بحثاً عن طريقه للصعود للنافذة، فقالت بقلق "أنا لن أستطيع صعود هذا الحائط يا آرجان.."
تلفت حوله معلقاً "لا تقلقي.."
راقبت رنيم النار التي اشتدّت بقوة، وصياح الجنود المتعالي خارجاً بعد أن التهمت النيران جانباً كبيراً من هذا المبنى المصنوع من الأخشاب الجافة سريعة الاشتعال.. ثم لاحظت أن آرجان حمل أحد القيود المعدنية ذات السلسلة الطويلة والتي كانت تقيّد كاجا، ثم لفّها حول ذراعه وبدأ صعود المبنى معتمداً على العوارض الخشبية وكل جزء يسهّل عليه تثبيت قدميه أثناء الصعود..
ظلت رنيم تقلب بصرها بينه وبين النار والجنود بقلق، ثم وجدته بعد مشقة يصل للنافذة فيدفع قبضته بضربة قوية تلتها أخرى حتى استطاع تهشيم الخشب الذي يسدّ النافذة، عندها تطلع للخارج محاولاً معرفة الوسيلة الأمثل للنزول دون أن يخاطرا بنفسيهما..
سمع رنيم تقول بقلق "أسرع يا آرجان.."
عندها، دلّى السلسلة المعدنية بالقيد في نهايتها نحو رنيم قائلاً "تشبثي بهذه وسأرفعك.."
قالت بعينين متسعتين "هذا مستحيل.. سأكون ثقيلة جداً عليك.. ألن تسقط مع مجهود كهذا؟"
قال وهو يجلس على النافذة ويلفّ الجانب الآخر من السلسلة حول ساعده "لا تقلقي.. سأبذل جهدي لئلا أفعل.."
بعد شيء من التردد، تقدمت رنيم من السلسلة وتشبثت بها جيداً بيديها، عندها قام آرجان برفعها وهو يسحب السلسلة بذراعيه شيئاً فشيئاً ورنيم تراقبه بقلق كبير.. لكن آرجان استمر بعمله وهو يرفعها بكل ما يملك عندما فوجئ بذلك الجندي الذي ركض إلى رنيم وشدّها من ساقها بقوة.. أفلتت رنيم السلسلة بسبب المفاجأة وسقطت أرضاً بعنف، فصاحت بألم وهي تحاول ركل الجندي بقوة، لكنه جذبها معه وهو يصيح بآرجان بعصبية بلغته.. نظر آرجان للموقف بتوتر، بينما هتفت رنيم به "ارحل يا آرجان.. ارحل واستعد جايا قبل أن يقبضوا عليك مجدداً.."
نظر آرجان للنافذة القريبة، ونظر لرنيم بصمت.. بالفعل هذه هي فرصته الوحيدة لاستعادة جايا قبل أن يمنعه الجنود.. فهل يمكنه أن يفعل؟.. هل يترك رنيم وهو لا يعلم إن كان سيقدر على الوصول إليها من جديد؟.. سمعها تصيح بإلحاح "ارحل يا آرجان.."
ظل الجندي يسحبها مبتعداً وهو يلوّح لآرجان بتهديدٍ واضح، لكن آرجان شدّ عزمه وانسلّ من النافذة بصمت ليهرب من المبنى، بينما رنيم تراقبه بمزيج الراحة وشيء قليل من الإحباط.. ربما كانت في دخيلة نفسها تتمنى لو عاد لها.. تتمنى لو تعرف أنه يهتم بها بقدرٍ كافٍ لئلا يتركها في أيدي الجنود، بعد أن قطعت نصف العالم بحثاً عنه دون يأس..

*********************
http://www.mediafire.com/convkey/35e...3yccz4dezg.jpg

عالم خيال 20-12-15 08:39 AM

رد: على جناح تنين..
 
بهذا.. يبقى لنا الفصل الأخير وفصلان إضافيان كذلك..
ونكون قد أنهينا هذه الرواية بإذن الله

bluemay 20-12-15 06:11 PM

رد: على جناح تنين..
 
يا الله

فصلين مؤثرين كتير

حزنت كتير ع تفرقهم مرة تانية

بس عندي امل انه ينقذ جايا معه

ويرجع لرنيم


ولو اني اتخيل هاﻷمير المعتوه ما رح يرحمها ورح يفرغ احباطه فيها


مسكينة رنيم شو منتظرها كمان ؟!!


يسلمو ايديك

كل ما لي بتعلق بروايتك اكتر


تقبلي مروري وخالص ودي


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

مملكة الغيوم 20-12-15 11:30 PM

رد: على جناح تنين..
 
فصلين رائعين خيال
بزلت فيهم رنيم مشقه كبيره هى وكاجا للعثور على ارجان ولما وجدته فرقتهم الظروف مره تانيه خوفى عليها من الامير المجنون الاول كان عاوز اجا ياكلها عشان التنين دلوقت عحيعمل ايه بعدموت التنين الا سود وهل ارجان حيعرف ينقذها وينقذ جايا
استمتعت جدا بالفصلين وفى انتظار الباقى بكل شوق وياريت تخليها سلسله من الروايات على نفس النمط
دمتى بود ولكى حبى:55::55::55::55:

عالم خيال 21-12-15 07:20 AM

رد: على جناح تنين..
 
للأسف لم يبقَ الكثير على نهاية الرواية
لكني أتمنى أن تكوني قد استمتعت بها للنهاية يا بلومي
بالفعل هذه الرحلة قد فاقت توقعات رنيم
لكن سنرى في النهاية إن كانت ستندم على قرارها هذا أم أنها ستزيدها قوة


****

سعيدة بإعجابك بهذين الفصلين يا مملكة الغيوم
بالفعل راودتني رغبة بعمل عدة روايات في ذات العالم
لكني اكتفيت برواية أخرى لنفس العالم لكن بشخصيات مختلفة
وسأبدأ نشرها بعد هذه الرواية بإذن الله تعالى

عالم خيال 21-12-15 07:26 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الخامس عشر: حلم جايا


عندما وصل الأمير بعد الضجة التي أثيرت في القلعة ومنبعها المبنى الذي يحتفظ الجنود فيه بالتنين، فإنه وقف قرب المبنى المحترق يراقب التنين الميت والذي بدأ يتفحم وهو عابسٌ بشدة ويقول بغضب "كنت أظن أن سبعون جندياً يكفون لإيقاف رجلٍ وفتاة عن ارتكاب مثل هذه الجريمة.. رجل وفتاة تمكنوا من تخليص التنين الثاني وقتلوا الأول وأنتم تتفرجون على ما يجري بصمت؟"
ثم التفت إلى جنوده صائحاً بغضب "اقبضوا عليهما وأحضروهما إليّ.. واقبضوا على هذا التنين قبل أن يفلت، وإلا رؤؤسكم هي ما سيفلت من أجسادكم.."
تراكض الجنود القريبون لتنفيذ أوامره، بينما استدار الأمير رافعاً بصره للسماء قائلاً بغلٍّ "تباً للهوت.. شرذمة منهم تفسد خطتي بهذا الشكل؟.. أم أنها تلك الفتاة العربية؟.."
قبل ذلك بوقت قصير، كانت رنيم تجد نفسها تجرّ جراً عبر المبنى والجندي يغادره بسرعة هرباً من النار التي أوشكت على التهام ما بقي من الباب المهشّم مما يعني سجنهم في هذا المكان حتى يحترقوا أحياء.. وفي الخارج، كان كاجا مستمراً في إثارة معمعمة في صفوف الجنود والهرب من شباكهم في الآن ذاته..
صاحت رنيم بشيء من الأمل "إليّ يا كاجا.."
لكنه لم يسمعها مع صياح الجنود الذي شتّت انتباهه، بينما وقف بها الجندي خلفهم وهو يصيح برفاقه بعصبية شديدة..
تلفتت رنيم حولها بحثاً عن وسيلة للفرار، عندما فوجئت بآرجان يهبط أرضاً خلفها ويعاجل الجندي بضربة قوية على رأسه قبل أن ينتبه له.. ثم بضربة أخرى سقط الجندي أرضاً فاقد الوعي بينما صفّر آرجان للتنين بقوة..
قالت له رنيم بانفعال "لمَ لمْ ترحل؟.."
أجابها وهو يتناول بندقية الجندي الذي سقط وينظر للجنود أمامهما "وهل ظننتِ أنني سأتخلى عنك بسهولة؟.."
غمغمت وهي تدير بصرها فيمن حولها "ظننت ذلك لوهلة.."
كان بعض الجنود قد استداروا وتقدموا رافعين بنادقهم نحو آرجان ورنيم بتهديد.. لكن كاجا استدار في الهواء بسرعة وتقدم منهما لاطماً كل من يقف في طريقه من الجنود.. وفور وقوفه قرب آرجان بحدة، فإن الأخير قفز على ظهره بسرعة رغم عدم وجود سرج وجذب رنيم في اللحظة ذاتها التي ارتفع فيها كاجا متفادياً بقية الجنود..
تشبثت رنيم بآرجان بقوة وهتفت "ما الذي سنفعله بالبقية؟.."
لم يجبها وهو يراقب تحركات الجنود، ثم مال بكاجا قائلاً "إنهم يتوقعون أن نهرب.. لذلك تركوا المدخل الذي يؤدي للسجون تحت الأرض خالياً من أي حراسة.."
لم يكن تسيير التنين دون لجام سهلاً، لكن التفاهم بين آرجان وكاجا كان سريعاً والأخير يميل نحو جانب الساحة بينما قال آرجان لرنيم "سأهبط وأحاول تحرير البقية.. حاولي شغل الجنود باستخدام كاجا وحاذري أن يصيبوكما برصاص بنادقهم.."
هتفت رنيم "سأبقى معك لأساعدك.."
قال بسرعة "محال.."
فقالت بعناد "لا يمكنني التراجع الآن، وكاجا سيقوم بتشتيتهم بنفسه.. سأذهب معك.."
زفر آرجان وهو يدفع كاجا للهبوط دون اعتراض.. لم تكن رنيم تخشى على نفسها قدر قلقها على ما سيجري لآرجان.. ولم تكن تملك الصبر الكافي لتنتظره وهي شبه آمنة على ظهر كاجا دون أن يعصف بها ذعرها عليه..
فور هبوط كاجا الحاد الذي كاد يسقط رنيم من على ظهره، فإن آرجان ترجل بقفزة واحدة ورنيم تتبعه، ثم ضرب كاجا على فخذه صائحاً "اشغلهم يا كاجا.."
ارتفع كاجا على الفور بينما ركض الاثنان للمدخل القريب لذلك المبنى واختبآ داخله بعد أن وجداه بالفعل خالياً..
تعالى صياح عدد من الجنود مقتربين من المبنى، فحاول آرجان إغلاق الباب بينه وبينهم، لكن عدة طلقات من بنادق الجنود أجبرته على التراجع خطوات وهو يحتمي مع رنيم خلف طاولة معدنية.. نظر آرجان للجنود قابضاً على بندقيته الوحيدة بشدة، وقال لرنيم بتوتر "يبدو أنني لن أتمكن من التحرك من موقعي، وإلا لحقنا الجنود وقبضوا علينا.. حاولي إخراج السجناء بأسرع ما يمكن قبل قدومهم.. سأحاول تعطيلهم بكل ما أملك.."
قالت رنيم بقلق "هل تعرف استخدام هذه البنادق؟"
أجاب آرجان مقطباً "بالطبع.. لست جاهلاً لهذه الدرجة..’
لم تعلق وهي تتراجع قائلة "حاذر أن يصيبوك.."
غمغم وهو يراقب الجماعة التي تقدمت منه "لا تقلقي وأنجزي ما يمكنك إنجازه بأقل وقت ممكن.."
هزت رأسها موافقة واستدارت مبتعدة بتوتر كبير.. رغم أن كاجا قد أصبح طليقاً، ولم يبقَ الكثير على إطلاق بقية سجناء الهوت، لكن ما الذي سيفعلونه بعدها؟.. كيف يمكنهم تجاوز كل أولئك الجنود والهرب من هذه القلعة الحصينة؟.. القفز من أسوارها ليس خياراً متاحاً مع ارتفاعها ووجود تلك الصخور الحادة في الخندق أسفلها.. وكاجا لن يقدر على حمل أكثر من شخصين.. فما الحل لذلك؟.. لا يمكنهم العودة للسجن والسقوط في يد ذلك الأمير المجنون من جديد..
بعد عدة خطوات وجدت رنيم باباً معدنياً يحجز ذلك الجانب من المبنى بدرجاتٍ حجرية تقود للأسفل، فركضت عبر الدرجات دون تردد.. ومع كل خطوة تخطوها، كانت تسمع ثورة السجناء الذين بدؤوا يطرقون الأبواب بحدة مع رائحة الحريق التي تسللت إليهم من المراوح التي تقوم بتهوية المكان.. لقد ثارت ثائرتهم مع تلك الرائحة والخوف يتسلل إليهم من أن يتم إهمالهم حتى تطالهم النيران ويحترقوا أحياءً في سجونهم.. ولما وصلت لآخر الدرجات، تراجعت خطوة وهي تختبئ لاهثة بعد أن رأت أحد الجنود ممن يحرس المكان وهو يحمل عصاً بيده ويضرب الأبواب ليدفع السجناء للصمت والتزام الهدوء..
كانت رنيم لا تملك أي أسلحة تهدد بها الجندي، ولم يكن من السهل عليها مغافلته وهو يتحرك بتوتر شديد في ذلك الممر الضيق بين السجون بينما دخان الحريق يفعم المكان بقوة.. ظلت رنيم تراقبه من موقع خفيّ للحظات وهي تشعر بدقات قلبها تتسارع.. كل لحظة تمضي تجبر آرجان على الصمود أمام الجنود وتقلل فرصهم للنجاح.. لكن ما الذي يمكنها فعله؟..
راقبت الجندي المنشغل بضجيج السجناء وهو يذرع الممر جيئة وذهابًا، ولما أولاها ظهره وهو يضرب على أحد الأبواب بعصاه، عندها أسرعت رنيم تحمل الكرسي الخشبي الصغير الذي يجلس عليه عادة واندفعت إلى الجندي فضربته بالكرسي على رأسه بكل ما تملك..
لم تتوقع أن تكون ضربتها بهذه القوة وساق الكرسي تتهشم على رأس الجندي فيسقط أرضاً دون حراك.. وقفت رنيم تلهث للحظة لفرط انفعالها، ثم استولت على سلسلة المفاتيح التي عثرت عليها معلقة في حزامه، وركضت نحو الأبواب الحديدية التي تحجز الهوت في سجونهم فبدأت بفتح الأبواب وهي تهتف بهم "سارعوا بالهرب.. سيعود الجنود بعد وقت قصير ولن يترددوا في منعكم من الهرب بأي وسيلة كانت.."
سألها أحدهم بدهشة وهو يغادر زنزانته "من أنت؟.."
لاحظت رنيم آثار الاستجواب والتعذيب على أكثر من شخص منهم، لكنها لم تعلق وهي تقول بسرعة "ليس هذا وقت التفسير.. اخرجوا عبر الدرجات المؤدية للأعلى، وهناك ستجدون رجلاً آخر من الهوت وهو سيساعدكم على الهرب.."
لم يتباطأ الرجال الذين استعادوا حريتهم بعد وقت طويل وعسير من انتهاز الفرصة وهم يركضون نحو المخرج ويعينون من لا يقدر على السير منهم.. بينما فتحت رنيم الباب الأخير في الممر واندفعت داخله لتقف فجأة بصدمة تتأمل ما بقلب الزنزانة.. ثم وضعت يدها على فمها وهي تتأمل الفتاة الماثلة أمامها.. كانت تلك الفتاة الوحيدة في المكان، لذلك تيقّنت رنيم أنها جايا، خاصة مع الشبه الواضح بينها وبين آرجان..
كانت الفتاة معلقة في الحائط بسلسلة حديدية بينما تهاوت على ركبتيها دون أن تكون قادرة على الوقوف.. لاحظت رنيم الدماء التي سالت من فمها وأنفها، والكدمات المتفرقة في جسدها تشي بمقدار التعذيب الذي خاضته.. وبينما تجمدت الدماء التي سالت من إحدى عينيها رغم تضميدها، بما يوحي بأنها فقدت تلك العين تماماً، فإن دماءً أخرى قد سالت من جراح أخرى متفرقة في ذراعيها وبدا من تحت الضماد الذي يغطي يديها أنها فقدت إصبعين من أصابعها..
وقفت رنيم تنظر لها مرتعبة دون أن تجرؤ على التقدم.. رباه.. ما الذي سيقوله آرجان عندما يرى منظراً كهذا؟..

*********************

في تلك الأثناء، كان آرجان يطلق رصاصاته بغزارة على الجنود ليبعدهم عن هذا المبنى وهو يختبئ خلف طاولة قريبة قَلَبَها أمامه.. وبينما أطاحت رصاصاته بعض الجنود، فإن كاجا الثائر قد أسقط عدداً آخر منهم وهو يندفع أمامهم في طيرانه وذيله يصيبهم ويلقيهم أمتاراً عدة للوراء..
تلفت آرجان حوله بحثاً عن وسيلة للفرار من هذا المبنى بعد قدوم بقية السجناء، عندما لاحظ الأقدام التي اقتربت منه راكضة.. ولما التفت خلفه، رأى السجناء من الهوت الذين تخلصوا من سجنهم وهم يقتربون منه ويختبئون في جوانب المكان بتحفز وقلق كبيرين.. بينما اقترب الرجل الذي شارك آرجان سجنه واختبأ خلف الطاولة قائلاً "ما الذي سنفعله الآن؟.. ما نزال وسط القلعة وما يزال الجنود محاصريننا.. فكيف الهرب؟"
قال آرجان بحزم "علينا أن نشق طريقنا بينهم.."
علق الرجل بتوتر "سهلٌ عليك ذلك.."
تلفت آرجان خلفه وتساءل "أين الفتاة العربية؟"
أجاب الرجل وهو يراقب تحركات الجنود "ما تزال في الأسفل تساعد بقية السجناء.."
شعر آرجان بتوتر كبير وهو بلهفة للبحث عن جايا بنفسه، فرمى سلاحه للرجل القريب وهو يقول "حاولوا استغلال ارتباك الجنود بهجوم التنين لتهربوا نحو بوابة القلعة.. عليكم أن تشقوا طريقكم بالقوة وإلا أعادوكم لسجونكم تلك لما بقي لكم من العمر.."
واستدار راكضاً والرجل يصيح خلفه "ماذا عنك أنت؟"
لم يجبه آرجان وهو يتجاوز الدرجات الحجرية راكضاً بقلق شديد.. لو طال الوقت برنيم وجايا قبل عودتهما، فهل ستتمكنان من الهرب مع البقية؟.. ما الذي أخرهما حتى الآن؟..
وفي الزنزانة الأخيرة، فتحت الفتاة السجينة عينها الوحيدة عندما انتبهت لوجود رنيم في المكان، فتساءلت بصوت مبحوح بالعربية "من أنتِ؟"
اقتربت رنيم منها متسائلة "أأنت جايا؟"
اتسعت عين الفتاة وقالت "هل تعرفينني؟"
كان جوابها صريحاً على ذلك السؤال.. فأغمضت رنيم عينيها بقوة وهي تشعر بالأسى لما تراه وبالألم لما سيشعر به آرجان عندما يرى أخته على هذه الصورة.. ثم تقدمت من جايا متجاوزة انفعالاتها وهي تقول بتوتر "علينا الخروج من هنا.."
سألتها جايا بإلحاح "كيف تعرفين من أكون؟.. وما الذي تنوينه بإخراجي؟"
قالت رنيم وهي تنظر في وجهها "لقد جئت مع آرجان.."
بدت ملامح الذعر على وجه جايا أكثر من اللهفة لرؤية شقيقها الوحيد، فلم تسألها رنيم عن ذلك وهي تفك قيود يديها وقدميها بمفاتيح عثرت عليها ضمن سلسلة المفاتيح التي استلبتها سابقاً.. وقبل أن تتمكن من تخليصها من القيود بشكل كامل، سمعت آرجان يناديها بإلحاح من الخارج..
تعلق بصر جايا بالباب بينما أكملت رنيم عملها بصمت.. ولما اندفع آرجان من باب الزنزانة، توقف بعد خطوة مصدوماً وهو يحدق بالفتاة التي بادلته النظرات بصمت.. ثم قالت له بصوت ضعيف "ما الذي تفعله هنا يا آرجان؟"
لم يجب تساؤلها وهو يقترب منها قائلاً بصوت لم يملك ارتجافته "ما الذي فعلوه بك؟.. تباً.. من الشقي الذي فعل بك هذا؟"
لم تجبه جايا وهي تخفض بصرها، ولما فكّت رنيم قيد يدها الثانية، تهاوت جايا بتعب فأمسكها آرجان بذراعيه وهو يتمتم بارتعاب "رباه.. ما الذي جرى لك يا فتاتي؟"
قالت رنيم بقلق "علينا الرحيل مع البقية بسرعة قبل قدوم الجنود.."
لم يكذب آرجان خبراً وهو يحمل جايا على ظهره محاذراً إيلامها، لكن رغم أنها لم تصدر أي صوت فإن ملامح الألم بدت صارخة على وجهها.. وبعد أن نهض حاملاً جسد شقيقته الضعيف، حمل خنجره بيده الأخرى لمواجهة أي جندي قد يعترض طريقه وقال لرنيم بتوتر "لنغادر.."
تبعته رنيم بصمت وقلب واجف، بينما همست جايا "ما الذي جاء بك إلى هذا المكان القصيّ؟"
أجاب بسرعة "بحثاً عنك بالطبع.. أظننتِ أنني سأيأس من ذلك؟"
ابتسمت جايا وهي تسند رأسها على كتف آرجان مغمغمة "الآن يمكنني أن أغمض عيني بارتياح.."
فقال آرجان متوتراً "ليس الآن يا جايا.. ليس قبل أن نغادر هذه القلعة الخبيثة ونصل بك لموقع آمن.."
لم تعلق جايا وهي تبتسم بصمت بينما راقبتها رنيم بقلق، لكنها لم تعلق على ما قيل وهي تتبع آرجان عبر الدرجات المؤدية للأعلى.. ولما وصلا للطابق الأرضي، قال آرجان بتوتر "علينا الخروج حتى يتمكن كاجا من الوصول إلينا ونقلنا بعيداً.."
تساءلت رنيم بقلق "ماذا عن بقية السجناء؟.. وماذا عن الجنود؟.. لابد أن الساحة تعجّ بهم الآن.."
قالت جايا دون أن ترفع رأسها "اصعد هذه الدرجات.. ستؤدي بك لسطح هذا المبنى، وهو قريب من سور القلعة.."
نظر لها آرجان بدهشة متسائلاً "كيف تعرفين ذلك؟"
ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تجيب "لقد عبرت هذا المكان من قبل، في محاولتي الوحيدة للفرار والتي فشلت كما لكما أن تتخيلا.."
لم يعلق آرجان وهو يفعل ما طلبته منه ورنيم تتبعه بسرعة، لكن بعد عدة درجات سمعا صوت تصايح الجنود خارج المبنى وأصواتهم تقترب بسرعة مما دلّ على محاولتهم دخول المبنى بحثاً عن بقية السجناء.. تذكرت رنيم تفاصيل المبنى عندما دخلته في وقت سابق، فلم تتردد وهي تستدير عائدة أدراجها بينما هتف فيها آرجان "عودي يا رنيم.. ما الذي ستفعلينه؟"
صاحت به أسفل تلك الدرجات "هناك بوابة حديدية يمكننا غلقها وتفصل بيننا وبين الجنود.. يمكنني غلقها ومنع الجنود من الوصول إلينا.."
صاح آرجان بعصبية "عودي حالاً.. ستقعين في أيديهم دون شك.."
فقالت رنيم بإصرار "ارحل مع جايا يا آرجان.. أنا لا يمكنني مساعدتها، ولا يمكنني ترككما تقعان في أيدي الجنود من جديد.. سأغلق البوابة وألحق بكما بعدها بقليل.."
لم يكن أمام آرجان بدٌ من إكمال طريقه، فصاح بها "لن نرحل بدونك يا رنيم.. أتفهمين؟"
لم تعلق وهي تتجاوز ما بقي من الدرجات قفزاً ثم تعتدل وتركض نحو البوابة المعدنية التي تحجز السجون والسجناء عن باقي المبنى والقلعة من خلفها.. وهناك، رأت بضع جنود يتقدمون من باب المبنى الرئيسي حاملين بنادقهم.. فأسرعت تغلق البوابة المعدنية في وجوههم بينما تدافع الجنود محاولين منعها من ذلك.. ثم اقفلتها بالقفل المعدني المثبت فيها وهي تزفر بتوتر شديد والطرقات القوية تضرب البوابة من الجانب الآخر.. لم تتوانَ رنيم عندها من التراجع بسرعة عائدة لتلك الدرجات التي ستؤدي بها لسطح المبنى آملة ألا يتمكن الجنود من تجاوز هذه البوابة قبل تمكنهم من الهرب..
في الأعلى، وقف آرجان على سطح هذا المبنى يتلفت حوله حتى رأى كاجا الذي تشاغل بمقاتلة بعض الجنود المتجمعين في الساحة.. فصفّر له آرجان بقوة ليستدير التنين على الفور ويرتفع فوق السور قبل أن يهبط على السطح.. ولما وقف أمامهما مثيراً الهواء بقوة، غمغمت جايا بابتسامة "كاجا.. لقد اشتقت لك يا فتى.."
قال آرجان وهو يندفع إلى التنين "أتمنى أن تعود رنيم بسرعة.. أود الرحيل من هنا بأي ثمن.."
رفع جايا بذراعيه فتحاملت على نفسها لتجلس على ظهر التنين وتتشبث به رغم آلامها، بينما تلفت آرجان خلفه بتوتر مغمغماً "أين تلك الفتاة الآن.....؟"
رآها في تلك اللحظة تغادر المبنى راكضة، ثم تتوقف فجأة وتصيح "خلفك يا آرجان.."
نظر بسرعة خلفه ليرى على السور المحيط بالقلعة، والذي لا يبعد عن سطح المبنى الذي هم عليه إلا متراً واحداً ويوازيه في الارتفاع، رأى عدداً من الجنود يقتربون راكضين وأحدهم يطلق طلقة من بندقيته نحو كاجا.. وقبل أن يتفادى كاجا ذلك الفخ، وجد أن الشباك المعدنية قد سقطت على ظهره وقيدت حركته، فزمجر بغضب وهو يهز رأسه ويطوّح ذيله جانباً..
هتف آرجان وهو يحاول إيقاف التنين "مهلاً يا كاجا.. ستسقط جايا.."
تشبثت جايا بالتنين بكل ما تملك رغم صعوبة ذلك دون سرج، بينما التفت آرجان فرأى الجنود يقفزون نحو سطح المبنى متجاوزين المسافة القصيرة، فركض آرجان نحو أقربهم ودفعه بكتفه بقوة ليسقطه من فوق السطح، ثم ركل آخر على ساقه ليتعثر محاولاً إسقاطه بدوره.. وبينما تكالب الجنود الأربعة الباقون على آرجان، فإن رنيم هرعت إلى كاجا وحاولت تخليصه من تلك الشباك بسرعة رغم صعوبة ذلك بسبب حركته المتوترة..
وبعد جهد، استطاعت تخليص جناح واحد من تلك الشباك بينما كاجا يطوّح رأسه بقوة ويزمجر بغضب.. لكن جندياً من الجنود قد اقترب منها وجذبها وهو يلوي ذراعها خلف ظهرها بقوة.. وسمعا صوتاً يقول بغضب "من حسن حظي أنني لحقت بكم قبل هربكم.. كنت سأموت كمداً لو نجحت شرذمة مثلكم بالهرب من قلعة (جمجات) ذاتها.."
التفتا إلى مدخل المبنى ليجدا الأمير يقف مع خمسة من جنوده، مما جعل موقف آرجان ورنيم وجايا أكثر عسراً وصعوبة.. لكن كاجا تحرك في تلك اللحظة بعد أن تمكن من تخليص رأسه من تلك الشباك، فطوّح ذيله تجاه الجنود الذين يحيطون بآرجان بضربة قوية تسببت في سقوط ثلاثة منهم من سطح المبنى بينما هرب الرابع ليقف مع جنود الأمير.. فصاح الأمير وهو يرى آرجان يتقدم من كاجا "إياك أن تتحرك.."
لكن آرجان جذب الشباك بقوة ليخلّص جناح كاجا الثاني ويتخلص من الشباك تماماً، ثم ضربه على فخذه صائحاً "طِرْ يا كاجا.."
لم يتوانَ كاجا عن استغلال هذه الفرصة وهو يقفز عالياً ويرفرف بجناحيه ليدفع جسده للارتفاع بسرعة خاطفة.. فتجاوز سور القلعة بسرعة بينما هتفت رنيم وهي تحاول التخلص من الجندي "لمَ لمْ ترحل معها يا آرجان؟.."
قال آرجان وهو يرى ثلاث جنود يتقدمون منه "أما زلتِ تسألين هذا السؤال؟!.."
شدّ قبضته وهو يلكم أقرب جندي منه بينما تعالى صوت الأمير يقول بغضب شديد "اقبضوا عليه قبل أن يهرب.. لا تدعوا ذلك التنين يفلت من يدي.."
رغم أنه ألقى أمره بلغة الكشميت، لكن ما قاله بدا واضحاً لآرجان ورنيم.. تلفتت رنيم بقلق لتجد جنديين ممن يحملان البنادق ذات الفوهة العريضة يتقدما من السور وهما يصوّبان سلاحيهما نحو التنين الطائر.. ولما أطلق أولهما طلقة من بندقيته، انفجرت القذيفة لتسقط منها شباك أخرى محاولة إسقاط التنين الذي تفاداها وهو يميل جانباً حتى خشيت رنيم من سقوط جايا من على ظهره..
وبسرعة، دار آرجان حول الجندي الذي يواجهه وألقى خنجره بأقوى ما يملك نحو الجنديين اللذين يحاولان إسقاط كاجا.. وبينما أصاب الخنجر أحدهما في ظهره وهو يسقط جانباً بألم، فإن الثاني ارتبك للحظة كانت كافية ليبتعد كاجا عن مرمى قذائفه ويحلق نحو الأفق بأسرع ما يملك..
التفت الجنود إلى أميرهم بقلق، فوجدوه يتميّز غيظاً وهو يراقب ما يجري، ثم صاح برجاله "اتبعوا ذلك التنين واستعيدوه بأي ثمن.. بأي ثمن.."
ركض الجنود منفذين أمره، بينما انشغل اثنان منهم بقتال آرجان الذي لم يستسلم بسهولة وهو يتراجع خطوة ثم خطوتان.. ولما همّ الجندي بضربه بمؤخرة سلاحه، عاجله آرجان بركلة في بطنه بقوة، ثم لكمة أخرى في وجهه وهو يدمدم "بقي واحد.."
لكن ضربة قوية أصابت وجهه بعنف من الجندي الثاني وهو يتراجع خطوة، ثم عاجله الجندي بضربة أخرى بسلاحه فإذا بآرجان يجد نفسه يتعثر ويسقط من فوق سطح المبنى نحو الأرض من ارتفاع عشرة أمتار دون أن يجد ما يشبث به.. صاحت رنيم باسمه بارتياع، بينما قال الأمير للجندي الممسك بها وهو يتقدم منها "نفذ ما طلبته منك.. ولا تهتم بأمر هذه الحقيرة.."
وجدت رنيم الجندي يتركها ويهرع خلف رفاقه مع الجنديين الآخرين بعد أن فرغا من أمر آرجان، فاستدارت رنيم وانحنت من فوق السطح بقلبٍ واجف لترى ما حصل له.. لكنها أطلقت تنهيدة بعد أن وجدته قد أفلح في إيقاف سقوطه العنيف بالتشبث بجزءٍ بارزٍ لإحدى النوافذ في المبنى وهو يحاول الارتفاع والدخول من النافذة.. تلفتت رنيم حولها بحثاً عن وسيلة لمساعدته، عندما سمعت صوت الأمير يقول ببرود "أمازلت حياً أيها القط؟.."
نظرت إليه فوجدته قربها وهو يتناول بندقية قريبة من بنادق الجنود الذين سقطوا ويوجه فوهتها نحو آرجان.. فصاحت رنيم وهي تقفز نحوه "توقف.."
لم يجد آرجان، وهو يرى البندقية مصوبة نحوه، مفراً من السقوط أرضاً للهرب من طلقة مميتة.. وبعد نظرة سريعة للأرض، فإنه ألقى نفسه متجاوزاً الأمتار الباقية بينما طاشت الرصاصة بعد أن قفزت رنيم ودفعت يد الأمير بعيداً..
تمكن آرجان من تخفيف سقوطه عندما هبط على بضع صناديق فارغة رغم ما سببته له من ألم، لكنه نهض بعدها بدون أن يكسر ضلعاً أو يصاب بشجٍ في رأسه.. رفع بصره للأعلى بقلق وهو يسمع صياح الأمير الحانق، فصاح "رنيم.. أأنت بخير؟.."
لم يكن يستطيع رؤيتها، لكن صراخ الأمير بغضب دلّه على عسر موقفها.. تلفت حوله بحثاً عن وسيلة سريعة للوصول إليها، عندما استوقفته صيحة تعالت من السماء.. ولما رأى كاجا الذي اقترب من سور القلعة وهو يزمجر بغضب متوجهاً لرنيم، غمغم آرجان "أتمنى أن تكون قد عاملت جايا برفق يا صاحبي.."
وتلفت حوله مضيفاً "لا أظن رنيم بحاجتي مع وجود كاجا.. بقي الآن أمر بقية رجال الهوت المسجونين في هذه القلعة.."
انحنى متناولاً خنجره الذي سقط من يده، ثم ركض متجاوزاً ذلك المبنى ونحو ساحة القلعة حيث تجمع بقية رجال الهوت والنيران تلقي عليهم بضوئها الأحمر البشع..

*********************

في تلك الأثناء، وبعد أن نجحت رنيم في ضرب يد الأمير لتطيش الطلقة وتسقط البندقية من يده بعيداً، التفت الأمير إليها وقال بملامح مكفهرة "كيف تجرؤين على ذلك؟.. كيف يمكنك تحدّي مملكة كشميت أيتها العربية الحقيرة؟"
قالت مقطبة "أنا لم أتحدى أحداً.. جئت بحثاً عن الهوت الذين لم يجنِ أحدهم ذنباً ليعاقب بهذه الصورة.."
صرخ الأمير في وجهها وهو يستخرج خنجراً من ملابسه "لا يحق لك ذلك.. أتعرفين ما أفسدته بتدخلك في أمور القلعة؟.. كنا على وشك الوصول لكشفٍ هام فيما يخص التنانين.. وكانت مملكتنا ستستفيد من ذلك بشكل كبير.. والآن، ضاع كل ما بذلناه من جهد بسبب فتاة عربية تافهة.."
تراجعت رنيم خطوة وهي تقول بحدة "كشفٌ هام؟.. وهل الكشوف تأتي بتعذيب أبرياء لا ذنب لهم؟.. أهذا هو العلم الذي تسعون لتحصيله؟"
صرخ بقوة "علم؟.. ليس العلم هو المهم.. بل القوة.. السيطرة.. أن نكون الأفضل والأقوى.. أن نكسر خصومنا ونصبح السادة بلا نزاع.."
قالت رنيم بتقطيبة "لا يحق لكم ذلك.."
فوجئت به يصفعها بقوة بيده التي تحمل الخنجر حتى أسقطها أرضاً، فسقطت بعنف على ظهرها على سطح المبنى لقوة الضربة التي أصابت وجهها بينما شعرت بألم حارق في جبينها.. ولم تلبث أن شعرت بالدماء التي سالت من موضع الجرح الذي سببه لها الخنجر مع تلك الصفعة.. وقبل أن تنهض بالفعل، وجدت الأمير يركع فوقها واضعاً ركبتيه على ذراعيها لئلا تقاومه، وأمسك وجهها بيده بقوة بينما لوّح بالخنجر باليد الأخرى نحوها صائحاً بغضب شديد "ستندمين على ذلك.. ستندمين أيتها الحمقاء على تحدي مملكة عظيمة كمملكة كشميت.. نحن سنسود العالم.. سنصبح أسيادكم وسترين ذلك.."
غمغمت رنيم بدون انفعال ودون أن تعبأ بالأمير الذي ثبّتها أرضاً ووضع خنجره في موضع قلبها "كل الممالك تدّعي عظمتها على البقية.. لكن البشر كلهم سواء.. إن كانوا عرباً أم من الهوت أو الكشميت أو غيرهم.. لا أحد أفضل أو أكثر أحقية بسيادة هذا العالم عن الآخر......"
صاح الأمير بانفعال "اصمتي.. أنا لم أسمح لك بالتعليق على ما أقوله.."
سمعا زمجرة قوية تبعتها صيحة غاضبة من فوقهما، ولما رفعا بصريهما رأيا كاجا الذي اقترب بسرعة حتى هبط في موقع قريب والهواء القوي يندفع في المكان.. كان ظهره خالياً، وتساءلت رنيم عن الموقع الذي اختبأت فيه جايا عن أعين الجنود الذين سيلحقون بها.. هل هي بأمان حقاً؟..
نظر الأمير للتنين مقطباً، بينما أطلق كاجا صيحة غاضبة أخرى في وجه الأمير وهو يضرب الأرض بقدمه.. بدا أنه قد عاد باحثاً عن رنيم بعد أن أتمّ مهمته.. لكن الأمير لم يعبأ به وهو يدفع خنجره المنقوش نحو رنيم قائلاً بحنق "أتحاولين إخافتي بهذا الحيوان؟.. أتظنين أنه يقدر على فعل شيء وأنا أضع يدي عليك؟.. سيندم لو فكر بالتقدم خطوة.. وستندمين أنت على كل ما فعلته بحماقة شديدة.."
لكن رنيم كانت مدركة أن كاجا يقدر على أكثر من ذلك.. نظرت للتنين بصمت دون تعليق.. كانت تستطيع إيقاف غضبة كاجا بكلمة منها، لكنها لم تلجأ لذلك وهي تتذكر منظر جايا وهي مقيدة في محبسها.. تتخيّل عذابها في الليالي والأيام السابقة دون بصيص أمل، ويؤلمها مجرد تخيّل ذلك.. وبينما استمر الأمير بالصياح بغضب وانفعال شديدين، فإن رنيم خفضت بصرها بصمت وهي تسمع زمجرة كاجا تتحول لصيحة غاضبة.. وبحركة خاطفة، بعد أن رفض الأمير الانصياع لتحذيرات كاجا، فإنه قفز نحوهما والتقط رأس الأمير بفكيه وجذبه للأعلى بشدة.. وجدت رنيم نفسها ملقاة أرضاً والخنجر اللامع يقع قربها، بينما وقف كاجا قريباً رافعاً الأمير من رأسه والدماء تتصبب بغزارة وتسيل فوق ملابسه النظيفة فتغرقها وتسيل من قدميه المنتفضتين نحو الأرض.. لم ترفع رنيم عينيها ولم تنظر للمنظر الذي يبدو عليه كاجا ويشعرها بالارتعاب عادة، بل اعتدلت جالسة بصمت وهي تضع يدها على جبينها الذي سالت الدماء منه.. ولم يلبث كاجا أن ألقى الجثة جانباً بزمجرة محذرة، ثم مدّ رأسه نحو رنيم وكأنه يطمئن عليها.. مسحت رنيم على خطمه غير عابئة بالدماء التي تغطيه، ثم مدت يدها وتناولت الخنجر تتأمله للحظة متمتمة "سواء أكنت من الكشميت أم من العرب أم من أي جنس آخر.. الكل في الموت سواء.. هذه هي الحقيقة الوحيدة.."
ووضعت الخنجر في حزامها وهي تنهض وترى ما حولها.. كانت القلعة التي اشتعلت بنار لا تهدأ تضيء تلك الليلة بوضوح.. بينما تراكض الجنود في الساحة بين ملاحقة السجناء وبين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من القلعة.. ومن موقعها العلوي فوق سور القلعة، فإن رنيم وقفت واضعة يدها على التنين وهي تراقب ما يجري بصمت.. إنها مدهوشة كيف يمكن لجبروت الإنسان أن يتحطم بهذه السرعة والبساطة، وكيف لكبريائه أن يُمرّغ في التراب مع الجثة التي تفقد روحها وتسقط بلا حول ولا قوة..
رأت في تلك اللحظة جمعاً من الجنود ببنادقهم وهم يحيطون ببقية السجناء الذين لم يتمكنوا من عبور بوابة القلعة المغلقة، وآرجان يقف معهم حاملاً خنجره الذي لن يفيده في شيء أمام البنادق.. كان جنود الكشميت يصيحون في السجناء بعصبية آمرينهم بالاستسلام، وهذا لم يكن بحاجة لمترجم لترجمته بأي لغة، لكن بدا أنهم لم يتلقوا أوامر بإطلاق النيران على الهاربين من أميرهم.. فربتت رنيم على ظهر كاجا قائلة "هيا يا صديقي.. بقي القليل فقط لننقذ صاحبك وبقية الهوت.."
وامتطت ظهر التنين ولكزت بطنه، وفي الوقت ذاته كان رجال الهوت يتراجعون وهم يحملون أي شيء يمكن أن يفيدهم في الدفاع عن أنفسهم.. فؤوس، أخشاب، وبضع أدوات معدنية.. لكن الجنود المسلّحين ببنادقهم كانوا يشكلون طوقاً حولهم وهم يتقدمون بثبات من السجناء الذين منعتهم البوابة المغلقة خلفهم من التراجع أكثر.. فقال أحد رجال الهوت بعصبية "ما الذي استفدناه من الهروب ما لم نتمكن من تجاوز هذه البوابة؟.. سنعاقب على ما فعلناه، هذا لو لم يقرروا قتلنا بأمرٍ من أميرهم.."
قال آرجان بصرامة "قتلنا ونحن نحاول استعادة حريتنا خير من قتلنا ونحن في مخابئنا كالفئران.."
غمغم الأول بحنق "وما الفائدة لو كانت النتيجة موتاً في كل الأحوال؟"
قطعوا حديثهم مع رؤية جسد يسقط أمامهم وأمام الجنود.. تجمد الوضع للحظات بينما هبطت رنيم مع التنين أمام الهوت، ولما دقق الفريقان البصر في ذلك الجسد الهامد، أدركوا أنه جسد الأمير وعنقه يكاد يكون مفصولاً عن جسده.. وبينما غمر الارتياع الجنود لذلك المنظر، ولفقدانهم قائدهم، فإن صيحة غاضبة من التنين بالدماء التي غمرت شدقيه قد أثارت بلبلة قوية في صفوفهم وهم يتراجعون ومنهم من يفرّ لجانب آخر من القلعة رغم وجود البنادق في أيديهم..
تدارك آرجان الأمر فصاح ببعض الرجال من حوله "فليذهب بعضكم ليفتح البوابة.. كاجا سيطمئن أن الجنود لن يحاولوا منعكم من ذلك.."
أسرع ثلاثة من الرجال نحو جانب البوابة حيث الرافعة اليدوية التي تهبط بالبوابة كجسر فوق الخندق الذي أقيم حول القلعة وملأته الصخور المدببة.. بينما قال رجل لرنيم بحيرة "ها أنا أسألك من جديد.. من أنت حقاً؟.. ولمَ تقوم فتاة عربية بإنقاذ الهوت؟"
قالت رنيم بابتسامة محدودة "ليس المهم من أنا.. بل المهم ما أفعله.. أليس كذلك؟"
نظر لها الرجل بحيرة أشد، بينما بدأت البوابة تفتح بصوتٍ قوي حتى هبطت على الجانب الآخر من الخندق.. عندها أسرع الرجال لتجاوزها نحو الجانب الآخر دون تردد بينما وقفت رنيم في موقعها على ظهر كاجا وآرجان قريب وهما يتأملان القلعة المحترقة.. ولما نظر آرجان لرنيم ورأى جرح جبينها، سألها بقلق "أهذا الجرح سببه ذاك الوغد؟"
قالت رنيم بابتسامة "إنه مجرد جرح سطحي.."
وبعد أن اطمأنّا أن السجناء قد ابتعدوا عن قبضة الجنود الذين لم يحاولوا اللحاق بهم بعد موت أميرهم، فإن آرجان امتطى ظهر كاجا قائلاً "لنرحل.. جايا تنتظرنا.."
لم تعلق رنيم وهي تدور ببصرها في المكان، بينما دفع آرجان كاجا ليرتفع متجاوزاً سور القلعة ثم يتّجه حيث ترك جايا في المرتفعات الصخرية التي تنتصب عند الأفق..

*********************

لم يكن الموقع الذي اختبأت فيه جايا بعيداً عن القلعة، لكنه كان وسط مرتفع صخري ينتصب في الصحراء وفيه من المغاور ما يسمح لها بالاختباء عن الأعين.. لم يستغرق منهم الوصول إليها إلا بضع دقائق، وفور هبوط كاجا على موقع مرتفع قرب إحدى المغارات فيه، فإن آرجان قفز من على ظهره وركض حيث كانت جايا مستلقية في جانب من تلك المغارة تراقبهم بصمت.. وعندما ترجلت رنيم بدورها، وجدت كاجا ينطلق طائراً على الفور بحثاً عما يسدّ جوعه الذي اشتدّ بعد كل تلك الأحداث في القلعة.. لم تشعر رنيم بأي قلق لذلك، بل تقدمت من آرجان وجايا بصمت، ولما رأتها أدركت أن حال جايا كان سيئاً بالفعل، بينما ركع آرجان أرضاً قربها وهو يضمّ جسدها إليه بحنوٍ ممزوج بأسىً واضح..
لم تنبس رنيم بكلمة وهي تجلس جانباً بصمت بينما آرجان منشغل كليّة بجايا ولا يكاد يرى غيرها.. فسمعته رنيم وهو يقول بحنق "تباً لهؤلاء الكشميت.. كيف يفعلون هذا بك؟.. كيف يمكنهم أن يستخدموا الهوت للحصول على نقطة تفوق لهم في هذه الحرب؟.. أليس للأبرياء أي حق باختيار مصيرهم؟.."
غمغمت جايا بتعب "لا تحزن لهذا يا أخي.. فلم يعد هذا مهماً.."
نظر لها بأسى، وقال "لمَ فعلت هذا يا جايا؟.. لمَ استسلمتِ لذلك التعذيب ولم تتصرفي لتجنّبه؟.. لو أنك استجبت لهم وأخبرتهم بما يريدون معرفته، لربما كان حالك أفضل مما أنت عليه الآن.."
هزت جايا رأسها رفضاً وقالت "لم أقدر على ذلك.. إنهم لا يملكون إلا تنيناً واحداً.. أتعلم ما يعنيه ذلك؟.. عندما يدركون أن التعامل مع التنين ليس بالصعوبة التي تخيّلوها، فسيسعون لوضع أيديهم على كل من يطالونه من التنانين.. والهوت، الذين لن يصمتوا على ذلك، سيدخلون في حرب مع الكشميت بكل ما أوتوا من قوة.."
ونظرت لآرجان مضيفة "كلما تخيّلت ما قد يجري للهوت على يديّ لو تكلمت، يهون لعيني عذابي وتصبح آلامي أقل حدة وعنفاً.. لا يمكنني أن أحمل ذنب الهوت على كاهلي، ولا أطيق أن أراك تتأذى بسببي يا أخي.."
قال آرجان بصوت مرير "هل صمدتِ أمام كل ذلك التعذيب لأجلي ولأجل الهوت؟.. ألا تظنين أن ذلك سيسبب لي الألم على ما جرى لك؟.."
ابتسمت وقالت "قد أكون أنانية، لكني لا أريد أن أتألم أنا عندما أراك تتأذى على أيدي الكشميت.. وتمنيت حقاً ألا تصل إليّ لترى ما أنا عليه.."
ثم أطلقت ضحكة بشيء من العسر وهمست "الكشميت، رغم كل علومهم وعقولهم، حمقى حقاً.. ألم يدركوا طوال تلك الشهور التي دأبوا فيها على اختطاف الهوت والتنانين ألا وجود لوسيلة خاصة للتعامل مع التنانين؟.. أنها بحاجة لبعض العطف والرعاية، وفوق ذلك بحاجة للحرية؟.. لم يدركوا مع كل ذلك التعذيب الذي طالني وطال بقية الرفاق أن التنين يعاملك كصديق أولاً قبل أن تكون سيداً عليه.. ورغم ذلك، كل ما حاولوا فعله هو إجبارها على إطاعتهم بكل قسوة وعنف.. وهذا ما أثمر نتائج عكسية.."
لم يحوّل آرجان بصره عنها وهو يقول بقلق "جايا.. هل يمكنك تحمل رحلة كهذه؟.. سأعود بك للقرية بأسرع ما أستطيع.. ستكونين بخير ببعض العلاج.."
ابتسمت جايا مغمغمة "وما الذي ستفعله بتلك الفتاة؟.. هل ستتخلى عنها؟"
نظر آرجان لرنيم التي جلست جانباً بقلق وتوتر واضحين وهي تستمع لهما دون أن تفهم شيئاً، بينما أضافت جايا "لا تفعل ذلك.. إنها لا تستحق ذلك.."
قال آرجان بتوتر "لم أنتوِ فعل ذلك إطلاقاً.. لكن لا يمكنني التخلي عنك.. لا يمكنني تركك على ما أنت فيه.."
غمغمت جايا "هذا حالٌ ميؤوس منه.."
نظر آرجان لرنيم قائلاً "رنيم.. هل تستطيعين اصطحاب جايا معك عائدة للقرية؟.. يجب أن تفعلي هذا بأسرع ما يمكنك ومع أقل ما يمكن من الراحة.."
همست جايا "لا تفعل هذا.."
علقت رنيم وهي تقف بتوتر "ماذا عنك؟.. ما الذي ستفعله أنت؟"
قال متلفتاً حوله "سأرحل مع البقية نحو أقرب ميناء ومن هناك سنحاول العودة للقارة العظمى.. لا تقلقي لشأني.. المهم أن تصل جايا للقرية لتتمكن الحكيمة من علاجها وإعادة صحتها لها.."
ضحكت جايا بشيء من السخرية المريرة لقوله وعلقت "أي شيء ستعيده لي الحكيمة بأعشابها وأدويتها؟.. ألا ترى ما حلّ بي؟.."
قال آرجان لرنيم متجاهلاً تعليق جايا "عليك الرحيل حالاً يا رنيم.. حتى لو كان كاجا متعباً، فببعض التشجيع يمكنه أن يقطع مسافات طويلة دون راحة...."
مدت جايا يدها وأمسكت ذراع آرجان بقوة قائلة بحزم رغم صوتها الضعيف "آرجان.. ألا تراني حقاً يا أخي؟"
نظر لها آرجان بتوتر، وهو يشعر بيدها التي فقدت بعض أصابعها تضغط على ذراعه بشيء من القوة، فابتسمت مضيفة "ألم ترني حقاً؟.. هل ترى أي حياة في عيني هذه؟"
قال آرجان بحدة "هذا حديث لا معنى له.. أنت متعبة، وببعض الراحة والعناية ستعودين بأفضل مما كنت؟"
نظرت له بثبات وحزم، فأضاف آرجان بلهجة متوسلة "ستكونين بخير يا جايا.. لا تستسلمي.."
زفرت جايا بتعب وهمست "لا تتعبني أكثر مما أنا فيه بالفعل يا أخي.."
ظل ينظر لها بمرارة وأسى وهي تتنفس بشيء من العسر مغمضة عينها، ثم همست "يبدو أن هذا أقصى ما يمكنني الوصول إليه في حياتي هذه.. ولستُ آسفة على شيء قدر أسفي على تركك وحيداً يا أخي الحبيب.."
ثم ضحكت ضحكة صغيرة وهمست "ما يؤلمني أنني لم أسأله عن اسمه قط.. يا للسخرية.."
سألها آرجان "من تعنين؟"
قالت بابتسامة "منقذي الأسطوري.. هو صاحب المحاولة الوحيدة التي قمتُ بها للهرب، وفشلت فشلاً ذريعاً.. والآن، ما عاد لهروبي أي أهمية.."
اعترض آرجان بصوت مرير "لا تستسلمي بهذه الصورة يا جايا.. لقد صمدتِ لأيام وأسابيع طوال.. لن يضيرك الصبر ليوم أو يومان حتى نصل القرية.."
هزت جايا رأسها نفياً، ثم قالت بابتسامة "آرجان.. أريد رؤية السماء.."
كتم آرجان انفعاله بصعوبة وهو يرى ابتسامتها المتعبة، ثم حمل جسدها الضعيف بخفة وسار نحو كاجا الذي عاد قبل وقت قصير وأقعى جانباً بصمت.. فعاونها على الجلوس على ظهره وامتطى ظهر التنين خلفها ثم ارتفع به بسرعة ليحلق في السماء تاركاً رنيم تنظر له بانفعال.. رغم أنها لم تفهم شيئاً من حديثهما، إلا بضع كلمات هنا وهناك، ورغم أن آرجان رحل دون تفسير ودون أن يطمئنها بكلمة، لكنها نوعاً ما أدركت أنه لن يغادر ويتخلى عنها.. لذلك لم تشعر بالقلق لغيابه قدر شعورها بالألم للحال التي عليها جايا وللأسى الذي بدا في عيني آرجان..
وعلى ظهر كاجا، أحاط آرجان جسد جايا الضئيل بذراعه متمسكاً بالتنين بيد واحدة وارتفع به لأقصى موقع يمكنه الوصول إليه.. سمع جايا تتنفس بعسر وشيء من الألم، ثم رفعت بصرها ونظرت حولها بعد أن استقر كاجا في طيرانه، وتنفست بعمق قبل أن تقول بصوت ضعيف "لو كنتُ سأشتاق لأمر، لاشتقت لهذه الحرية.. أعشق هذا الاتساع، وأعشق الشعور بأن السماء تضمّني بقوة ورفق.. كيف لإنسان أن يحتجز إنساناً آخر ويحرمه من أن يرى السماء ويستنشق رائحة الطبيعة التي لا تقاوم؟.."
لم يعلق آرجان وهو يضمها لجسده بقوة، فهمست "اعذرني يا آرجان.. ستمنحك هذه اللحظات ذكرى قاسية ومؤلمة ستبقى معك لوقت طويل.. اعذرني، فلم أتمنّ يوماً أن تأتي لإنقاذي ورؤية ما أصبحت عليه"
غمغم آرجان بصوت متغيّر "لم أكن لأهدأ وأنا لا أعرف في أي أرض أنت ولا ما حلّ بك.. أنت شقيقتي الوحيدة التي لا غنى لي عنها.."
رفعت جايا بصرها إليه، ثم ابتسمت بمرارة قائلة "أرأيت؟.. حزنك وألمك يبدوان بوضوح على وجهك يا آرجان.. هذا ما جنيتُ به عليك، وهو ما لم أكن أود أن أراه أبداً.."
ولمست وجهه بيدها بحنو هامسة "هل ستبكي لأجلي يا أخي؟.. لا تفعل هذا أرجوك.. لا تفعل هذا.."
أمسك آرجان يدها بقوة، ورغماً عنه أفلتت دمعة من عينه سالت على خده، بينما أغمضت جايا عينها باستسلام هامسة "لا تحزن يا أخي.........."
احتضن آرجان جسدها بقوة أكبر وهو ينظر للأفق بصمت.. انحدرت دموعه على خديه دون ممانعة منه وهو يزمّ شفتيه بقوة ومرارة.. سكن جسد جايا بهدوء وصمت، بينما الرياح تعبث بخصلاتها التي تدلّت على جبينها.. رحلت جايا، تاركة قلب آرجان مفعماً بمشاعر لم يشعر بقوتها وبإيلامها له من قبل.. رحلت، والمرارة التي خلفتها في صدر أخيها لم تكن لتهدأ لما بقي له من العمر..

*********************

عندما عاد آرجان للأرض على ظهر كاجا، محيطاً الجسد الضئيل أمامه بذراعه بإحكام وحنو، رأى رنيم تهبّ واقفة وهي تتطلع إليه وفي عينيها أثر للدموع التي ذرفتها وحيدة.. ولما رأت ملامحه القاتمة، ورأت فمه الملتوي بمرارة، سالت دموعها من جديد دون أن تقترب منهما وكأنها تخشى أن تكسر الحاجز اللامرئي الذي أقامه آرجان حوله وحول شقيقته الوحيدة..
هبط آرجان عن ظهر كاجا الذي أخذ يزوم بحزن واضح، ودفع خطمه نحو جسد جايا يتشممه ويدفع ذراعيها اللتين تدلتا دون حراك.. وضع آرجان جسد جايا الساكن أرضاً وسقط على ركبتيه قربها.. ظل خافض الرأس بصمت ويدين معقودتين بشدة، بينما ظلت رنيم بعيدة تراقبه مانحة إياه الفرصة ليخلو بنفسه وحيداً..
أي مشاعر تعتمل في صدر آرجان بعد أن سعى خلف شقيقته عابراً الممالك والبحار لإنقاذها، فقط ليحظى برؤيتها للحظات معدودة قبل أن تسلم روحها ويسكن جسدها الضئيل المثقل بآثار تعذيب قاسية؟..
أي أسىً، وأي مرارة يمكن أن تفيض من روحه في مثل هذه اللحظات؟..
ظلت رنيم تراقبه دون أن تتمكن من إيقاف دموعها المنهمرة.. حزناً على جايا الشجاعة التي لم يكتب لها الفرار من سجنها إلا لتقع أسيرة جسدها المريض.. وحزناً على آرجان الذي جاب العالم بحثاً عن شقيقته ليحميها، ليجد أنها ما عادت تحتاج لحمايته..
حزناً لهذه الحكاية التي كُتب عليها الشقاء حتى النهاية..

*********************

مرّ يومان، قضتهما رنيم في ذلك الموقع الذي يطلّ على قلعة (جمجات) والمقابر القريبة منها، وهي تراقب آرجان الذي التزم الصمت التام وانزوى بعيداً في موقع قرب المقابر تلك.. في هذين اليومين، انشغل كاجا في نقل رجال الهوت على دفعاتٍ نحو أقرب موقع من الساحل ليحاولوا الهرب عبر البحر عائدين للقارة العظمى، بعد أن استعاد الرجال سرجه المخلوع من القلعة.. بينما بقيت رنيم ملتزمة الصمت التام وهي تحدق في الأفق محاولة عدم التفكير فيما يشعر به آرجان في تلك اللحظة..
ورغم كرهه لتلك القلعة التي أصبحت خراباً وهجرها جنودها بعد موت أميرهم، لكن آرجان لم يجد بداً من دفن جايا جوار رجال الهوت الذين قضوا نحبهم قبلها، في المدافن التي تقع خارج أسوار القلعة.. فأن تكون جوارهم خير لها من أن تبقى وحيدة في هذه الأرض الغريبة.. ونقلها للمقابر قرب قرى الهوت صعب جداً لبُعد المسافة ولإشفاقه عليها بعد كل هذا..
حرصت رنيم على أن تبقى بعيدة وقريبة في الآن ذاته من آرجان.. قريبة كي يشعر أنه ليس وحيداً، ويشعر بتعاطفها معه علّ ذلك يخفف حزنه عليها.. وبعيدة كي تمنحه بعض الفسحة ليتمكن من ذرف حزنه وألمه الشديد مع دموعه لكيلا تبقى حبيسة صدره.. كانت تدرك أنه يبكي حينما لا تراه، وحينما يعلم أن أحداً من البشر لن يراه.. تسيل دموعه على خديه، ولا يبقى منها إلا احمرار عينيه عندما تقترب منه لتطمئن عليه..
ورغم هزاله وضعفه، فإنه بالكاد يتناول أي نوع من الطعام أو يشرب أي ماء مما يعود به الرجال من البئر الوحيد في القلعة القريبة.. فبعد أن هجر الجنود القلعة بعد موت أميرهم ولم يحاولوا تتبع أثر الهوت، فإن رجال الهوت قد استولوا على ما بقي من طعام في مخازن القلعة واستفادوا من المياه التي يزخر بها البئر وسط ساحتها..
وبعد هذين اليومين، بعد أن أتمّ كاجا نقل رجال الهوت بعيداً، بقي قريباً يراقب آرجان ورنيم بصمت ولا يغادر إلا للحصول على بعض الطعام من الحيوانات النادرة التي تعيش في هذه الصحراء.. وبعد أن قضى آرجان هذين اليومين يحدق في تراب الأرض بصمت، وجدته رنيم في تلك المرة يحدق في السماء بصمت أيضاً.. فأدركت أن شيئاً ما قد تغيّر.. ربما قد نجح في تجاوز حزنه شيئاً ما واشتاق للسماء من جديد.. هذه بادرة جيدة لم تتمكن رنيم من تجاهلها وقررت استغلالها.. فجلست قربه تتأمل الأفق حيث الشمس مالت لمغيبها، وقالت برفق "كيف أنت الآن؟"
لم يجبها كعادته في الأوقات السابقة، لكنها لم تيأس هذه المرة وهي تقول "ألا تنوي المضيّ قدماً بعد الآن؟.. هل تنوي قضاء ما بقي من حياتك عند قبرها يا آرجان؟"
قال آرجان متنهداً "لا.. لكن قلبي لا يطاوعني على تركها هنا وحيدة في هذه الأرض القاسية الغريبة وأنا أعلم أنني لن أتمكن من العودة إليها أبداً.."
علقت رنيم بابتسامة "لم أتوقعك رقيق القلب هكذا يا آرجان.. أنت تدهشني.."
غمغم آرجان "لو عرفتِها، لأدركتِ أي شيء خسرته بموتها.."
خفضت رنيم بصرها قائلة "بل أدرك خسارتك بالفعل.. رغم أنني لم أرها إلا لوقت قصير، لكنني تمكنت من رؤية أي شخصٍ هي، وما تتميز به ويجعلها تبدو لعينيّ كأشجع وأجمل من أي أسطورة قرأتها.."
لم يعلق آرجان وهو يزفر من جديد بمرارة واضحة.. فصمتت رنيم بدورها وهي تجلس قريبة تتأمل السماء بصمت وسكون تاركة آرجان يغرق في أفكاره دون مقاطعة.. وبعد مرور بعض الوقت وهما على هذا الحال، تساءل آرجان أخيراً وهو يتطلع إليها "ما الذي تنوين فعله بعد الآن؟.. إن كنت ترغبين أن أعيدك لمملكة أبيك فأنا لن أتردد في ذلك.."
هزت رأسها نفياً بشدة، فقال مقطباً "إذن أين تنوين الذهاب؟.. هل تنوين العودة لقرية الهوت؟.. أنت تدركين أنك غير مرحب بك هناك أبداً.."
قالت خافضة وجهها "لا.. لا يمكنني أن أسبب المزيد من الضرر لأهل تلك القرية.. لذلك لن أعود لها أيضاً.."
فقال آرجان بحيرة "وأين تنوين الذهاب إذاً؟.."
نقلت السؤال إليه قائلة "ماذا عنك؟.. هل ستعود للقرية الآن؟"
زفر آرجان وهو يدير بصره جانباً مجيباً "لا.. ليس الآن على الأقل.. لا أريد أن أواجه أي أسئلة، ولا أريد من يذكرني بجايا ليل نهار.. لا أريد بتاتاً رؤية الشفقة في أعينهم عندما أعود وحيداً كما غادرتهم وحيداً.."
فقالت رنيم برجاء "إذن، ألن تأخذني معك؟.. كما اصطحبتني لأول مرة عندما غادرنا قرية الهوت، فأنا أود الذهاب معك هذه المرة أيضاً.. وكما قلت سابقاً، سأحاول ألا أكون عبئاً عليك بتاتاً.."
نظر لها آرجان بغير اقتناع وقال "أبعد كل ما مررتِ به بسببي تريدين الاستمرار في هذه الرحلة؟.. محال.."
قالت بشيء من التوسل "لمَ لا؟.. ما الذي يمنعك من ذلك حقاً؟.. أنا مسؤولة عن نفسي وما سيجري لي سأتحمله بمفردي.."
غمغم آرجان وهو يتطلع للموقع حولهما "وأين تأملين أن نذهب؟.. هذا العالم الواسع لن يسعنا أنت وأنا بالذات.. أنا من الهوت، وغير مرحّب بي في أي مكان كما تعلمين.. وأنت، بما كنتِ عليه قبل كل هذه الأحداث، ستظلين بخوف من أن يعثر عليك أحد من مملكة أبيك ويستعيدك.. والأسوأ من ذلك أن يعاقبوك على كل ما فعلتِه منذ فارقت قصر (الزهراء).."
فقالت رنيم "وما الذي فعلته؟.. هل هي جريمة أن أبحث عن حريتي؟.. أهي جريمة أن أرفض القيود؟.. أهي جريمة أن أعيش حياتي كما أريد أنا لا كما يريد لي الناس؟.."
غمغم آرجان "هي جريمة في أعين بعض البشر حقاً.."
قالت وهي تتطلع للسماء "ولمَ علي أن أعبأ بذلك؟.. لمَ عليك وعلي أن نسير كما يريد لنا الآخرون؟.. هذه حياتنا ولنا الحق في اتخاذ القرار الذي نراه يوافقنا.."
سمعا صيحة أطلقها التنين من موقع قريب وهو عائد من رحلة صيده.. وعوضاً عن الهبوط قربهما فإنه اتخذ دورة واسعة وهو يطير بكل حرية مطلقاً صيحات يتردد صداها في الصحراء الخالية هذه.. نظرت رنيم للتنين بابتسامة وهي تذكر ذكرى بدت لها بعيدة.. ذكرى تلك الليلة التي نامت فيها باكية بؤساً على حالها، واستيقظت مرتعبة لذلك الشبح الذي وقف وسط جناحها يلوّح بسيفه في وجهها.. ولم تدرِ وقتها أي حظ سيسوقها إليه ذلك الشبح الغريب..
غمغمت وهي تتطلع للتنين "أتذكر تلك الليلة التي جررتني فيها من سريري واختطفتني عنوة؟"
زفر آرجان وقال "أذكر ذلك.. ولم أندم على شيء في الأوقات الماضية قدر ندمي لما جررتك إليه.."
نظرت إليه قائلة بعتاب "ألم أقل لك أنك قد غيّرت حياتي؟.. كان ذلك للأفضل، وحقق لي أمنيات كانت محض خيال في ذلك الوقت.."
غمغم آرجان "رغم كل ما مررتِ به؟"
أجابته بخفوت "رغم كل ما مررت به...."
وعادت ببصرها للتنين مضيفة "عندما رأيت كاجا، أصبت برعب لم أشعر بمثله بتاتاً في حياتي.. كان يبدو لعينيّ شرساً، شديداً، لا أكاد أطيق النظر لعينيه ولملامحه التي بدت بغيضة منفرة.."
علق آرجان على قولها "لو سمعك كاجا لأصيب بصدمة كبيرة.."
ابتسمت مكملة "أما الآن، فأنا أراه لطيفاً وأليفاً بشدة.. أصبحت أشتاق إليه كلما غاب عن عينيّ، وأصبح بالنسبة لي أكثر من صديق.."
نظر آرجان لكاجا قائلاً "التنانين لا تقترب ولا تتجاوب مع أي شخص كان ما لم يكن من الهوت.. هذا سرٌّ لم نعرف حتى نحن تفسيره.. وهذا ما حاول الكشميت معرفته وتفسيره دون فائدة.. ربما يعود الأمر لبدء استيطان الهوت تلك البقاع وتعاملها مع التنانين التي تعيش في تلك السلاسل الجبلية دوناً عن باقي العالم.."
ثم نظر لها بابتسامة جانبية مضيفاً "إلا أنت.. حتى الآن لا يمكنني معرفة كيفية تسخيرك لكاجا بكل سهولة وفي زمن قصير جداً.."
قالت رنيم مبررة "لأنك أنت سهّلت هذا الأمر عندما كنت تجرّني قبل الفجر لمعاونتك في العناية به.. ربما وثق بي كاجا بعد الثقة التي أوليتني إياها.."
غمغم آرجان "لا.. هذا ليس عذراً كافياً.."
فابتسمت رنيم وهي ترقب كاجا في طيرانه بكل حرية في السماء قائلة "ربما.. وربما لأن كاجا تنين مميز جداً.."
أمسك آرجان بخصلاتها القصيرة بصمت للحظات، ثم قال "وربما كنتِ أنت شخصية مميزة وغير عادية.. فما رأيته فيك في الشهور الماضية لم أره في أي فتاة قط في حياتي.."
نظرت له رنيم بدهشة لهذه الكلمات، فأضاف وهو يلمس خدها بظاهر إصبعه بخفة "لهذا وجدت نفسي غارقاً في هواك دون أي مقاومة مني.."
اشتعل خدا رنيم وهي تنظر له مبهوتة، وهي التي لم تتوقع تصريحاً منه بذلك ناهيك عن أن يحمل لها مشاعر حقاً.. ثم قالت بصوت مرتبك "ما هذا الذي تقوله.. أهذا وقت مزاح الآن؟.."
قال آرجان بابتسامة صافية "أتظنين أنني أمزح حقاً؟.."
رغم أنها تمنّت في اليومين الماضيين أن ترى ابتسامته هذه، لكنها لم تقدر على النظر إليها في هذه اللحظة فنهضت واقفة بارتباك وقالت "لا أصدق هذا.. من قد يعجب بفتاة سلبية عديمة الشخصية مثلي؟.. أنت تهذي.."
قال آرجان وهو يمسك يدها قبل أن تهرب منه "هذا ما ترينه أنت في نفسك، لا ما يراه الآخرون فيك.. ولولا روحك المتوهجة هذه، لما وافقت على اصطحابك معي في هذه الرحلة.."
ظلت رنيم واقفة بوجه غزاه الاحمرار حتى الأذنين بينما ارتجفـت يدها في يد آرجان بشكل ملحوظ.. ثم جذبت يدها مغالبة انفعالها وهي تتمتم "أنت تهذي.."
وصفّرت لكاجا الذي رفرف بجناحيه قبل أن يهبط بكل سرعته، بينما قال آرجان بشيء من القلق "هل سبب لكِ ما سمعته الضيق؟"
ابتسمت رنيم وهي ترى كاجا يهبط أمامها ويمسح رقبته بذراعها الممدودة، ثم التفتت إلى آرجان وابتسامتها تتسع وتزداد إشراقاً قائلة "أتظن ذلك حقاً؟"
وامتطت ظهر التنين بكل سهولة لينطلق بعدها على الفور شاقاً السماء نحو الغيوم التي بدت بعيدة.. لكنها لم تكن بعيدة بتاتاً عن كائن قوي كالتنين.. وبينما اتسعت ابتسامة آرجان وهو يراقبها، وقد وصله جوابها بليغاً مع ابتسامتها الجميلة تلك، فإن رنيم تشبثت بكاجا بقوة في طيرانه حتى وجدته يخترق الغيوم الأدنى من الأرض ليدور حول نفسه بمهارة ويبدأ بالتحليق بكل سلاسة نحو الأفق الزاهي.. استنشقت رنيم تلك الرائحة التي أصبحت تعشقها، ومسحت على عنق كاجا بحبٍ متمتمة "أنت كائن رائع يا كاجا.. كم أحسدك على جناحيك هذين.."
رغم كل ما واجهته رنيم في رحلة كهذه من أحداث لم تتوقعها، عندما خطت الخطوة الأولى نحو كاجا لتلتقط يد آرجان الممتدة لها بعرض لم تتمكن من تجاهله، فإن رنيم سعيدة وروحها تكاد تطفو في السماء.. مع كل ما يجري، ومع كل ما تواجهه، فإن كل ذلك يُمحى فور أن تشعر بالريح تضرب خديها وجسدها يعلو ويعلو بسرعة لا تصدق لتتجاوز الغيوم وترتفع أعلى من أي قمة على الأرض.. مهما كان ما تمر به قاسياً، فإن ذلك لا يقارن بسعادة تحصل عليها من رحلة خيالية كهذه يحملها كاجا على ظهره طواعيه..
ومهما جرى لها على الأرض.. تظل رنيم مرفوعة الرأس وبصرها معلق بالسماء دون كلل..

*********************
http://www.mediafire.com/convkey/ca5....jpg?size_id=5

الخاتمة: أسطورة بين دفتي كتاب


فوق هضبة عالية تطل على بحر أزرق لامع، وقرب ذلك المنزل البسيط بجدرانه الخشبية التي طليت باللون الأبيض وسقفه القرميدي الأحمر والنوافذ التي وضعت أمامها أصص لزهور زاهية اللون.. وفي جانب منه، حيث يلقي المنزل ظلاً بارداً بينما يلتمع جانبه الآخر بأشعة الشمس الدافئة التي أنارت جزءاً كبيراً من تلك الهضبة العالية، استندت فتاة لا تكاد تتجاوز الثالثة عشر من عمرها بشعر بني متماوج وعينين خضراوين بدتا متناقضتين مع بشرتها الذهبية اللامعة.. وبيديها الصغيرتين، كانت تمسك كتاباً سميكاً ذا غلاف مهترئ لكثرة الاستخدام وهي تقرأ حروفه بلهفة وانغماس شديدين.. ولم تنتبه لذلك النداء الذي تعالى باسمها وهي سارحة بخيالها مع سطور ذلك الكتاب المثير..
لم تنتبه من استغراقها في القراءة إلا عندما وجدت يداً تجذب الكتاب من بين يديها وترفعه عالياً وصوتٌ يقول بشيء من التأنيب "نادين.. ألم تسمعي ندائي المتكرر لك؟.. هل نسيتِ ما عليك من مهام؟"
قالت نادين وهي تنهض محاولة استعادة الكتاب "كنت ذاهبة لإنجاز ما عليّ الآن.. بعد لحظات فقط.."
قالت المرأة التي لا يتجاوز عمرها الأربعين بابتسامة جانبية "حقاً؟.. سمعت هذا القول منذ ساعات.."
ونظرت للكتاب مضيفة "ألا تشبعين من قراءة هذا الكتاب؟.. لقد أتممتِه عشر مرات على الأقل.."
قالت نادين وهي تتطاول لتناول الكتاب "لأنني أحب قراءته.."
واستعادت الكتاب بشيء من العسر فضمّته لصدرها قائلة بتقطيبة "كيف تريدينني أن أملّ حكاية مثيرة كهذه يا أمي؟.."
اتسعت ابتسامة الأم بينما نظرت نادين لغلاف الكتاب حيث بدت كلمات بحروف مذهبة تتوسطه وفوقها رسم جميل لفتاة لا تكاد تتجاوز العشرين بكثير، بشعر بني متموج طويل وعينين خضراوين، ترتدي أحد أردية الهوت البسيطة، وتقف جوار تنين أبيض اللون ينفث اللهب من فمه.. مسحت نادين بيدها على العنوان معلقة "حتى الآن لا يمكنني تصديق الحكايات التي يحكيها هذا الكتاب.."
ونظرت لأمها متسائلة باهتمام شديد "أأنت متأكدة أن هذه الحكايات تخص جدتي الكبرى؟"
أجابت الأم وهي تتأمل الغلاف بدورها "أجل.. أتظنين أنني أجهل ذلك؟.. لقد رأيتها عدة مرات في صغري، ولطالما حدثتني عن مغامراتها بتفصيل، لكني للأسف نسيت أغلبها فقد كنت صغيرة جداً.."
ثم أضافت ضاربة الكتاب بأصابعها "لكني دعيني أؤكد لك، بعض تلك الحكايات مبالغ فيه كعادة الكتّاب.. فجدتي لم تكن تطير، والتنين لم يكن ينفث النار.. كانت امرأة بسيطة بريئة يصعب التصديق بأنها خاضت تلك المغامرات بكل جرأة وشجاعة.."
ثم قرصت خد نادين بلطف قائلة "أنت تشبهينها كثيراً.. لديك الشعر والعينان ذاتهما، ولديك حب القراءة والفضول الشديد ذاته.."
ضمّت نادين الكتاب لصدرها قائلة بلهفة "أتظنين أنني قد أصبح شخصية خرافية كجدتي حقاً؟"
ضحكت الأم معلقة "خرافية؟.. ربما.. هذا يعتمد على شجاعتك وإرادتك.."
ومسحت على شعرها بلطف بينما قالت نادين وهي تحدق في عنوان الكتاب المذهب "أتمنى ذلك حقاً.. أتمنى أن أكون قوية وشجاعة وذات شخصية تخلب الألباب.. تماماً كما كانت جدتي الكبرى رنيم.."
ابتسمت الأم مغمغمة "ستكونين كذلك يا طفلتي.. حتماً ستكونين مثلها تماماً.."
وجذبت نادين معها وهي تسير هابطة من ذلك المرتفع مضيفة "سيكون كتاباً ضخماً ذلك الذي سيحكي عنك.. عنوانه (حكايات نادين.. حفيدة رنيم ابنة قصي الرابع.. أميرة مملكة بني غياث وصاحبة التنين الخرافي كاجا).."
قالت نادين باحتجاج "هذا عنوان طويل جداً.. ثم إنه يتحدث في أغلبه عن جدتي لا عني أنا.."
قالت الأم "ربما.. لكن جدتك شخصية لا يمكن نسيانها.. كانت امرأة مذهلة يصعب تصديق أنها لم تتجاوز التاسعة عشر من عمرها عندما بدأت رحلتها هذه.."
وأضافت مغمغمة وهي تتأمل الأفق الذي يزهو بنور الشمس الدافئة "رحلة مذهلة حول العالم.. على جناح تنين....."

*********************
.: تـمـت :.

عالم خيال 21-12-15 07:29 AM

رد: على جناح تنين..
 
فصل إضافي 1: حكاية جايا والمنقذ الأسطوري


"ألا زلتِ في وعيك؟.."
رفعت جايا بصرها حيث كانت حبيسة الجدران المصمتة والقيود تغلّ يديها بقسوة.. لقد مضت عدة أيام منذ قدومها لهذا المكان، وأمير هذه القلعة يهددها باستجواب قاسٍ لو لم تتعاون معه.. ومن بين هواجسها بهذا الشأن، فإنها فوجئت بهذه الجملة التي ألقيت عليها ودفعتها لترفع بصرها نحو المتحدث.. فرأت ذلك الوجه الذي يتكرر أمامها كل يوم بصمت حتى اعتادت وجوده.. كان ذلك أحد الجنود الذين يحرسون المكان في مناوبات متتالية، ولكن عوضاً عن الصخب والعربدة التي يثيرها أولئك الجنود في غفلة من رؤسائهم، فإن هذا الحارس كان يؤدي مهامه بصمت ولا يتعمد إثارة أعصاب السجناء بصخبه أو يتطاول عليهم بالضرب..
أخيراً نطقت جايا بحلق جاف وبالعربية "ما الذي تبغيه مني؟.."
قال وهو يحمل كرسياً ويضعه وسط زنزانتها "لاشيء.. مجرد تبادل الأحاديث.."
غمغمت "لن تعرف مني ما يريده رؤساؤك بهذا الأسلوب.."
ابتسم معلقاً "لست هنا لاستجوابك.. إنما لتبادل حديث عادي كما يحدث بين أي شخصين.."
قالت بضيق "ولمَ لا تتجه للسجناء الآخرين؟.."
هز كتفيه مجيباً "لا أحصل من بقية السجناء إلا الشتائم واللعنات، وهذا لا يُعدّ حواراً ناجحاً برأيي.."
زفرت وهي تدير بصرها جانباً، فقال وهو يسترخي على كرسيه "لا داعي لكل هذا الجفاء، لن يكون الأمر سيئاً صدقيني.."
فقالت بضيق "ما الذي تبغيه مني بالضبط؟.. محاولة استدراجي للحديث فاشلة بالتأكيد.."
قال باعتراض "كما قلت لك، لا أحاول استدراجك.. أنا لا أكاد أغادر القلعة، ولا أجد من أتحدث معه عادة.. وهذا سيصيبني بالجنون.."
فقالت بهزء "ورفاقك؟.. هل يبادلونك الشتائم واللعنات أيضاً؟.."
أجاب بابتسامة "أجل.. هذا ما يحدث عادة.."
نظرت له بشيء من الحيرة، فقال "ألم تلاحظي أنني الوحيد بين الجنود الذي يتقن العربية؟.."
لم يكن لهذا أي معنىً لديها فظلت تنظر له بالحيرة ذاتها، فقال وهو يستند بظهره على كرسيه "أنا لي بعض الجذور العربية.. جدي لأمي كان عربياً، وقد حرص هو وأمي على أن أكتسب اللغة رغم كوني من كشميت.. لذلك يمكنك تخيّل الكره الذي أواجهه من بقية بني قومي وهم يرون الملامح العربية واضحة في وجهي.. ولهذا السبب لم أحصل على عمل يتجاوز عمل جندي حراسة عادي مهما كنت متفانياً.. فلا أحد يقدّر عملي حتى لو كان ربعي عربياً فقط.."
تساءلت "وما الذي يجبرك على البقاء هنا مادمت تجد معاملة الآخرين ظالمة لك؟.. لمَ لا تذهب للعيش مع أجدادك العرب؟.."
قال بابتسامة "أتظنين أن حالي سيكون أفضل في الممالك العربية؟.. لا تنسي أنني أحمل دماء الكشميت، وهذا سيجلب عليّ نقمة العرب أيضاً.."
لم تستنكر قوله، بالنظر للكره الذي يواجه الهوت في الممالك العربية.. فقالت بعد لحظة صمت "أتتوقع مني تعاطفاً وأنا على هذا الحال؟.."
قال ضاحكاً "لست بائساً لهذه الدرجة.."
زفرت جايا بضيق وهي تنتظر اللحظة التي سيتركها فيه هذا الجندي لتخلو لنفسها ولهواجسها.. لتغرق في قلقها على حال آرجان، وقلقٌ أكبر على حالها هي.. لكن الجندي قاطع أفكارها من جديد قائلاً "الهوت أيضاً منبوذون في مملكة فارس.. أليس كذلك؟.. ما الذي يجبركم على البقاء في الموقع واحتمال ذلك الكره والتطاول من ملك المملكة؟.."
قالت بجفاء "أتتوقع منا أن ننهزم ونولّي الأدبار دون سبب مفهوم؟.. أجدادنا كانوا رحّلاً، لكننا استقررنا في تلك الأرض منذ عشرات العقود.. فلمَ علينا أن نتخلى عن هذه الأرض لأهواء ملك يملك آلاف الأميال من القارة العظمى؟"
غمغم معلقاً "معك حق.."
ثم تلفت خلفه قائلاً "يبدو أن موعد رحيلي قد جاء.."
ونهض حاملاً الكرسي مضيفاً "حسناً.. هذا كان حواراً ممتعاً.. أتمنى أن نكرره مرة أخرى.."
استوقفته جايا قائلة بصوت خفيض "ماء.."
نظر لها بتساؤل، فتجاوزت جفاف حلقها لتقول "على الأقل، اسقني بعض الماء لكي أتمكن من مواصلة الحديث معك.."
لم يجبها الجندي وهو يتلفت حوله، ثم خرج وأغلق الباب خلفه بصمت.. عندها ابتسمت جايا ابتسامة ساخرة وغمغمت "بالطبع لن يعبأ جندي من الكشميت لطلبٍ كهذا.."
وزفرت بحدة وهي تسمع الخطوات التي اعتادت سماعها كل يوم، وتنبئ بأن جلسة استجواب قاسية ستبدأ بعد قليل..

*********************

لا تعلم جايا، وهي حبيسة هذا السجن وسط الصحراء، كيف وصلت لهذا المكان.. ولا يمكنها تحديد كيف بدأ هذا كله، وكيف انهارت حياتها المسالمة في أحضان تلك القرية الجبلية برفقة أخيها الذي تحبه وتفخر به كثيراً..
هل يمكنها أن تحدد البداية بذلك الهجوم الغادر الذي قام به الملك عبّاد على قريتها وقتل عدداً من رجالها لتسقط هي وبقية الفتيات في الأسر؟.. هل بدأ هذا كله عندما تم نقلهن لقصر الملك في (الزهراء) ليعملن في خدمة الملك وحاشيته كأي جواري يمتلكهن؟.. أم عندما فكر الأمير زياد، وهو واقع تحت تأثير الشراب، أن يتفاخر أمامها بما يملكه الملك ويحط من قدر الهوت؟.. عندما أخبرها بلسانٍ مثقلٍ أن الملك قد وضع يده على أحد التنانين، وأنه قد قام بأسره في جانب من قصره بعيداً عن الأعين وينوي ترويضه لإضفاء المزيد من الهيبة والقوة لنفسه، فإنها لم تتمكن من الصبر على كل ما تسمعه.. علاقة الهوت بالتنانين علاقة مقدسة بالنسبة لهم، وتتجاوز علاقة شخص بحيوانه المروّض، بل هي أقرب لأخوّة غير مكتوبة وعلاقة وثيقة لم تتمكن معها من الصمت وترك التنين حبيس سجنه.. فالتنين الذي يطول حبسه يسقط مريضاً ويؤدي به ذلك للموت.. التنانين، كما الهوت، كائنات طليقة، تعشق الحرية وتعشق السماء.. تعشق الانطلاق وتكره القيود بأشكالها..
لذلك، كانت فرصة جايا الوحيدة هي في استجواب الأمير زياد.. فدأبت على مجالسته كل ليلة وصبّ الشراب في كأسه حتى يثقله السُّكر وينطلق لسانه بكل ما تريد معرفته عن ذلك التنين.. وأخيراً، بعد أيام طويلة، تمكنت من التسلل لذلك المبنى الذي سجن فيه التنين حاملة ورقة ممهورة بتوقيع الأمير زياد.. فأطلقت التنين السجين وهربت معه عائدة لقرى الهوت..
لكن، إن لم تكن تلك هي البداية، فهل كانت عندما غافلها بعض قطاع الطرق وأسروها مع التنين الذي كان واهناً بعد سجنه لوقت طويل في (الزهراء)؟.. لا تدري لمَ تم نقلها لميناء (مارِج)، ولمَ تم بيعها لرجل أدركت من النظرة الأولى أنه من الكشميت.. ولا تدري لمَ سيقت لمملكة كشميت ولقلعة (جمجات) بالذات رغم محاولاتها المتكررة للهرب..
لكن هنا، في هذه القلعة المحصّنة، وجدت القيود تطوّق يديها وعنقها، وبدأ أمير القلعة استجوابها بكل صرامة محاولاً الوصول لسرّ الهوت مع التنانين.. لمَ يعشق الجميع أسرَ تلك الكائنات الرائعة بهذه القسوة والعنف؟.. لماذا لا يؤمنون أن التنين لا يتخلّى عن حريته إلا بالموت؟.. لشد ما تجهل سبب ذلك..
واليوم، لم يتوانى الأمير عن استجوابها مستخدماً بعض العنف لإجبارها على إطاعته.. تباً له.. وتباً للكشميت.. وتباً للملك عبّاد وللعالم كله.. متى ستتمكن من الراحة من كل هذا الهمّ؟..
في تلك الليلة، وبعد أن أظلم المكان بشدة وجايا جالسة في موقعها بتعب وإنهاك بعد أن حرمها الأمير من الماء ومن الطعام إلا ما يمنعها من السقوط جثة هامدة، انتبهت لخطوات خافتة تقترب من بابها.. ولما فتح الباب، ورأت وجه الجندي الذي حادثها في ذلك الصباح، قالت بضجر وتعب "ارحل الآن.. لست في مزاج، ولا حالة، تسمح لي بالاستماع لتفاهاتك.."
لكنه لم يغادر وهو يتلفت حوله بحذر، ثم يقترب منها هامساً "عليك أن تقدّري المخاطرة التي أقوم بها بعصيان أوامر الأمير الصارمة.."
رأته يقدم لها كوباً فخارياً بائس المنظر يحوي بعض الماء، فلم تتردد جايا من تناوله وشرب الماء سيئ الطعم حتى الارتواء.. ولما أعادت الكوب إليه، قال بابتسامة جانبية "عليك أن تصبري كل يوم حتى الليل.. لا يمكنني منحك أي شيء في وضح النهار.."
تساءلت "ما هدفك من هذا كله؟"
نهض واقفاً وقال بابتسامة متسعة "كما قلت لك.. مجرد تبادل الأحاديث.."
ذهب ليخفي الكوب عن الأنظار، ثم عاد وجلس جانباً متسائلاً "أخبريني عن قرى الهوت.. كيف هي؟.."
قالت بسرعة "لن أتحدث عن أي شيء يخص الهوت أو التنانين.. اسأل عن أي شيء عدا ذلك.."
زفر مفكراً للحظة ثم قال "إذن ماذا عن (الزهراء)؟.. سمعت أنك كنت أسيرة لدى ملك بني فارس.. فكيف هي؟.. هل تختلف كثيراً عن (كاشتار)؟.."
قالت "لم أرَ (كاشتار) هذه في حياتي.."
فقال الجندي "إنها مدينة كبيرة ومنظمة كثيراً.. لكن ما يعيبها هو كثرة الأسوار حولها.. هناك ثلاث أسوار عالية تحيط بها.. الأول يحيط بقلعة الملك وحاشيته، ويضمّ أيضاً العلماء وأي شخص يمكن أن يساهم في تقدم المملكة وتطورها.. الثاني يحيط بالعامة من الشعب.. والثالث يحيط بالبشر الأكثر فقراً والمهاجرين من المناطق الأخرى.. في الواقع بدأ الكشميت في استيطان المناطق خارج السور أيضاً بحيث تمددت المدينة أكثر مما رُسم لها.."
تساءلت جايا "وفي أي جزء عشت أنت؟"
هز كتفيه قائلاً "أنا لم أكن هناك.. لقد جئت إليها فقط عندما حاولت الانضمام للجيش.."
فسألته جايا بشيء من الفضول "كيف قبلوا بضمّك للجيش رغم كرههم لك وللدماء العربية في عروقك؟.. هذا لا يمكن الاقتناع به.."
ابتسم الجندي مجيباً "لحسن حظي، أو لسوئه، كان أمير هذه القلعة موجوداً عندما تقدمت للانضمام للجيش.. كان في بداية تخطيطه لهذه العملية، وبحاجة لأي معاونة كانت للقبض على التنانين والهوت معهم.. لذلك عندما رآني، ولمح ملامحي العربية الواضحة، طرأت له فكرة ضمّي للجيش واستخدامي كجاسوس له في مملكة بني فارس.. بهذه الصورة، وبإتقاني للعربية، لن يشك أحد في أمري لو جُبتُ أرجاء المملكة بحثاً عن التنانين.."
غمغمت بغير اقتناع "لكنك مجرد جندي حراسة الآن.."
فقال دون أن تخفت ابتسامته "لأنني فشلت في مهمتي من اللحظة الأولى.. أتعرفين السبب؟"
وإزاء نظراتها المتسائلة، ضحك الجندي بقوة قائلاً "لأن العرب قد شكوا بكوني جاسوساً وقبضوا عليّ منذ البدء، وحجتهم بذلك أن ملامح الكشميت واضحة فيّ بشدة.. أرأيت شيئاً أكثر سخرية من هذا؟"
قالت جايا بتعجب "كيف يمكنك أن تهزأ من أمر كهذا؟.. ألا تشعر بالضيق للتناقض الذي تعيش فيه.."
هز كتفيه مجيباً "لا.. بل أراه يدعو للسخرية.. فبعد كل هذه الأعوام، لم تعد هذه الأمور تثير مرارتي وغضبي بتاتاً.."
ثم تلفت خلفه معلقاً "يبدو أنني أنا من قام بكل الحديث هذه الليلة.."
ثم لوّح بإصبعه نحوها مضيفاً "دورك في المرة القادمة أن تحدثيني عن الزهراء.. اتفقنا؟"
وغادر دون أن يحصل على إجابة منها وهي تغمغم "من الذي وافق على ذلك أيها الأبله؟"

*********************

كانت الأمور تزداد سوءاً لجايا يوماً بعد يوم، وبدأ الأمير يستخدم قسوة واضحة لإجبارها على التعاون معه، وكلف جندياً من الجنود للتفنن في تعذيبها لعلّها تتخلى عن عنادها.. ورغم ذلك، دأب الجندي على الجلوس معها بضع ساعات كل مرة والحديث في مواضيع شتى متفادياً التحدث عما لا تحبه.. كانت لا تزال تحتفظ بشكّها فيه، لكن ذلك لم يمنعها من استغلال وجوده لتناسي الحال التي هي فيها والمخاوف التي لا تتناساها لحظة واحدة..
ولما فقدت جايا عينها اليسرى، فقدت الوعي أيضاً لشدة الإنهاك والضعف في جسدها.. ولما استيقظت، وجدت أنهم تركوها حيث هي والجرح في وجهها ينزف دون أن يعبأ شخص لما قد يحدث لها..
أصدرت أنيناً متألماً ويداها المقيدتان متباعدتان عاجزتان عن الوصول للجرح وإيقاف الدماء بأي شكل كان.. لم تدرِ كم من الوقت مرّ عليها، ولما رأت الباب يفتح، أصابها شيء من الارتعاب خشية أن يعود الأمير لاستجوابها وهي في حالة يرثى لها.. لكنه كان ذلك الجندي الذي يصرّ على التحدث معها أثناء مناوبته.. رأته يقترب منها متعجلاً، وبقطعة قماشية وبعض الأدوية قام بتنظيف موضع الجرح وهو يتمتم "اصبري قليلاً.. سيزول الألم بعد أن ننتهي.."
نظرت له مغمغمة "ما الذي تفعله؟.. سيعاقبونك.."
قال بسرعة "لن يفعلوا بالتأكيد.."
نظرت له بحيرة، فقال بتوتر "لقد حملت شكواي إلى الأمير قبل قليل.. أخبرته أن الجندي المكلف باستجوابك سيتسبب بقتلك بسبب سوء تقديره، وأنك مهمة لنجاح التجربة التي يقوم بها، لذلك وافق على أن أقوم بعلاجك متجاوزاً أمره السابق لمرة واحدة.."
قالت بصوت خافت "لمَ تفعل ذلك؟.."
نظر لملامحها المنقبضة بألم مجيباً "الشفقة.. ربما؟.."
ضحكت بهزء معلقة "تشفق عليّ وأنت سجّاني؟.."
قال بتوتر "أنا أطيع الأوامر فقط.. لم أسعَ لما أنتِ فيه ولا يعجبني.. ولا أشارك فيه لو لم تلاحظي ذلك.."
غمغمت "لكنك من الكشميت.."
ربط رباطاً على عينها وحول رأسها قائلاً "كما أخبرتك.. أنا لست من الكشميت.. ولست عربياً كذلك.. في الواقع أنا لا انتماء لي.."
تساءلت "ولمَ لا ترحل؟.."
أجاب وهو يتفحص رباط عينها "إلى أين؟.. لا مكان لي في أي أرض أخرى.. ولا يبقيني في هذا المكان إلا لأنه أفضل من أرض لا أعرفها وبشر لم أرهم قط.."
أمسكت يده بيدها بقوة وقالت "ارحل.."
نظر لعينها التي تبدّى فيها بعض الأمل وهي تقول بشيء من اللهفة "ارحل.. وخذني معك.."
نظر لها بشيء من الاستنكار، فقالت محاولة إقناعه "سآخذك لقريتي.. الهوت لا يكرهون أحداً بسبب هويته.. صحيح أننا منغلقون على أنفسنا في قرانا، لكنهم سيرحبون بك بشدة لو علموا أنك قد أنقذتني.."
قال باعتراض "لا يمكنني خرق الأوامر بهذه الطريقة.."
نظرت له بسخرية قائلة "أوامر من؟.. أتعبأ حقاً بهذه الأوامر وأنت سجين هنا؟.."
نظر لها بدهشة، فقالت بإصرار "بلى.. أنت سجين كما أنا سجينة بالضبط.. وظنُّك أنك تستطيع الرحيل متى شئت هو خدعة بالتأكيد.. قيودك هي الأوامر والتعليمات التي تقيد روحك لهذا المكان ولمدة لا يعلمها أحد.."
ظل يستمع لها بصمت وبعض التفكير، لكن سرعان ما نفض هذا كله وهو يلملم أغراضه ويقف قائلاً بإصرار "مستحيل.. لا يمكنني فعل ذلك.."
وغادر تاركاً جايا تراقبه بضيق، ثم أسندت رأسها للجدار خلفها وهي عاجزة عن الاستلقاء بسبب قيودها القصيرة التي تثبت ذراعيها للجدار.. لوهلة، تناست الألم القوي الذي تشعر به عندما راودها بصيص أمل بأن تتمكن من الخروج من هنا.. لكن ذلك الجندي المستسلم لحياته الشقية قد أزال كل أمل راودها ولو للحظة.. فغمغمت لنفسها زافرة "هذا الجندي يحتاج لدفعة صغيرة، وبعدها سيدرك واقعه بشكل أفضل ويسعى للحرية كما أسعى لها أنا.."

*********************

في الليلة التالية، استدعت جايا سجانها من موقعها الذي لا تكاد تغادره، ولما رأته ينظر لها من كوّة في الباب الحديدي، قالت "أتخشى من دخول زنزانتي هذه المرة؟"
تلفت حوله للحظات، ثم فتح باب الزنزانة متسائلاً "ما الأمر؟.. هل عاد الألم من جديد؟"
قالت بابتسامة شاحبة "لا.. لقد سئمت من بقائي وحيدة هنا وأريد تبادل الحديث معك.. أليس هذا ما طلبته مني سابقاً؟"
نظر لها بتعجب، لكنها لم تعبأ لدهشته وبدأت تحدثه عن كل ما عرفته ورأته في سنواتها الأربع والعشرين.. حدثته عن الجبال العالية التي تحتضن تلك القرية الصغيرة في قلبها.. حدثته عن القرية ومنازلها الجميلة وطرقاتها الحجرية.. حدثته عن شعب الهوت الذي يمتاز باللطف، ما لم يعتدِ عليه أحد، عندها ينقلب الكلب الأليف إلى ذئب شرس لا يتردد في الانتقام ممن تسبب في إيذاء رفاقه.. حدثته عن تاريخ الهوت في ذلك المكان.. حدثته عن كل بقعة رأتها في رحلاتها مع أخيها على ظهور التنانين.. تحدثت غير عابئة بجفاف حلقها وبتعبها وألمها على أمل أن تبث بعض العزيمة في ذلك الجندي.. ولما رأت عيناه تتسعان وهو يستمع لها باهتمام، أدركت أنها كسبت هذه الجولة.. بقي فقط أن تحصل على النتائج التي تمنتها..
ولما ختمت حديثها، مع طلائع الفجر التي لاحت من النافذة الصغيرة في أعلى الجدار خلفها، غمغم الجندي سارحاً "يبدو أنك عشت حياة جميلة وهانئة في أحضان تلك الأرض.."
ظلت تنظر له بشيء من الأمل وهو يفكر بحيرة بكل ما سمعه، ثم رأته ينهض بصمت ويغادر المكان دون أن تبدر منه إشارة لعزمه على الرحيل.. فزفرت جايا بشيء من الضيق، وحاولت الاستسلام للنوم علّ ذلك يهدئ آلام جسدها العديدة.. لكن هيهات أن تحصل على بعض النوم في هذا المكان البائس..
وبعد نهار طويل واستجواب عسير صمدت فيه جايا وكل ما تفكر فيه هي قريتها المسالمة ووجوه أهلها الباسمة، فإنها مع غروب شمس ذلك اليوم استسلمت لضعفها وذرفت الدموع ببؤس وهي مطرقة في سجنها المظلم الكئيب.. سالت دموعها وهي بلا حول ولا قوة، لا تقدر حتى على مسح ما بلّل خديها.. حتى متى عليها أن تصبر على كل هذ؟.. حتى متى عليها أن تقاوم؟.. حتى متى؟..
وبعد بضع ساعات غرقت فيها جايا في البؤس والعذاب، سمعت الباب يفتح وصوت الجندي يسألها بهمس "أأنت بخير؟"
لم تجبه وهي تودّ لو تسخر من هذا السؤال، لكنها لم تكن تملك أي طاقة لذلك، فتقدم منها متسائلاً بقلق "ما الأمر؟.. سمعتك تبكين لبعض الوقت، وأقلقني هذا بشدة، لكني لم أستطع التدخل قبل الآن.."
قالت بمرارة وصوت يرتجف "ألا ترى في حالي ما يبكي؟.. أترى أنني يجب أن أقضي أيام السجن والعذاب هذه ضاحكة؟.."
زفر وهو يتطلع لدموعها التي عادت تنهمر من عينيها، ثم قال لها "هيا بنا.."
رفعت بصرها إليه بدهشة، ففوجئت به يفتح أقفال يديها وقدميها بمفاتيحه، ثم ساعدها على النهوض وهي تسأله بدهشة "ما الذي تنوي فعله؟"
قال بتوتر "ما تطلبينه مني كل يوم.. أن نهرب من هذا المكان.."
نظرت له باستغراب، فقال "لقد فكرت في حديثك طويلاً منذ البارحة.. ولا أجد ما يجبرني على احتمال هذه الصحراء واحتمال قسوة سكانها.. سنرحل، ولنأمل أن تكون الحياة هناك جميلة كما تصورينها.."
وجدت جايا نفسها عاجزة عن الوقوف بتعب بعد أن هزلت ساقاها لقلة الطعام الذي يُمنح لها ولجلوسها دون حراك ساعات طويلة، فوجدته يحملها على ظهره بخفة وهو يقول "لنذهب.. علينا استغلال هذه الفرصة قبل أن تفلت من أيدينا.."
قالت بخفوت وقلق "ماذا عن بقية الجنود؟"
أجاب الجندي "لقد اجتمعوا للاحتفال في جانب القلعة ولم يبقَ، أو يتطوع، غيري لحراسة السجناء.. فاليوم هو يوم توحيد المملكة، والأمير يسمح لهم ببعض التسيّب لبضع ساعات فقط.."
رفعت جايا حاجبيها بدهشة لهذه المصادفة التي ستصبّ في صالحهما بالتأكيد.. بينما سار بها الجندي بقلق وهو يتلفت حوله حتى عبر الممر الضيق بين السجون ووصل للدرجات التي تؤدي للأعلى.. فهمست جايا "ألن ننقذ البقية؟"
قال بسرعة "هل تريدين الإعلان عن هربنا في هذه اللحظة؟.. علينا أن نهرب بأسرع ما نستطيع لنبتعد عن القلعة قبل أن يفطن أحد لغيابنا.. وبعدها، يمكنك أن تبلغي عشيرتك بكل ما يجري هنا وتطلبي منهم إنقاذ هؤلاء البؤساء.."
لم تعترض جايا وهي أضعف من أن تجادل.. لقد كانت قد قررت القرار ذاته عندما هربت بالتنين من قصر الملك عبّاد عازمة على استدعاء بقية الهوت لإنقاذ الفتيات الأسيرات.. ولم تعتبر ما فعلته أنانية أو خسّة منها تجاه الباقيات.. والآن تفعل الأمر ذاته مرغمة مع هؤلاء السجناء..
سار بها الجندي عبر الدرجات الصاعدة، لكنه لم يتوقف عند الطابق الأرضي ويغادر هذا المبنى، بل أكمل سعيه للمواقع العليا منه بخطوات حثيثة.. وفي أعلى موقع تصل بهما هذه الدرجات، رأت جايا أن الباب المفتوح أمامهما يؤدي بهما لسطح المبنى ولموقعٍ قريبٍ من السور المحيط بالقلعة ولا يفصلهما عنه إلا متر واحد يمكنهما تجاوزه قفزاً.. لم يتردد الجندي وهو يطلب منها التشبث به، وركض ليتجاوز بقفزة محدودة تلك المسافة الصغيرة ويصل بها إلى السور الذي يحيط بالقلعة كلها ويطل على مساحات شاسعة من رمال الصحراء.. كتمت جايا تنهيدة وهي تنظر للسماء بشوق واضح، بينما تلفت الجندي حوله قائلاً بقلق "أرجو أن يكونوا مستمرين في عربدتهم لوقت أطول.. وقوفنا هنا سيفضحنا على الفور لو مرّ جندي في ساحة القلعة.."
وتقدم من موقع معين في السور وجايا تسأله "كيف سنهبط الآن؟.. وما الذي سنفعله بعد أن نصبح في الجانب الآخر من القلعة؟"
قال بسرعة "لقد تدبرت الأمر.. جهزت حبلاً أخفيته في جانب السور في موقع غير مرئيّ.. سنهبط بواسطته حتى نصل لموقع هيأته ليعاوننا على تجاوز الخنادق المحيطة بالقلعة.. وهناك سنمتطي حصاناً ينتظرنا في ذلك الجانب سينقلنا لأقرب مدينة يمكننا الاختباء فيها حتى نرحل بواسطة سفينة من السفن.."
فتحت جايا فمها لتعلق على ذلك، عندما تعالى صوت من خلفهما يقول ببرود "ما هذه الخطة الساذجة؟"
استدار الجندي بسرعة وشيء من الارتعاب ليرى الأمير يقف خلفه مع أربعة من جنوده دون أن تبدو على ملامحه الهادئة أي غضب.. فأضاف الأمير "لو كنتَ تفكر بخيانتي، فعليك أن تستخدم خططاً مبتكرة.. بهذا، على الأقل، أشعر بشيء من الإعجاب لجرأتك.. لكن بخطة هزيلة كهذه، ما الذي تأمل بفعله حقاً؟"
تلعثم الجندي وهو يتراجع خطوات متسائلاً "كيف؟.. أنت......"
ابتسم الأمير ابتسامة قاسية وهو يقول "أنا ماذا؟.. أظننت أنني غافل عن أمرك بهذه الصورة؟.. لقد كانت لي شكوكي، وأنت أكدتها عندما توسلت لعلاج الفتاة من ذلك الجرح.. عندها، أدركت أنك ستقوم بتهريبها في أقرب فرصة ممكنة.. ولا يمكن لشخص عاقل أن يقوم بتفويت فرصة كهذه الليلة.."
وبإشارة من يده، قام أحد المرافقين للأمير بالتقدم من الجندي فجذب الفتاة منه بقوة والتي انهارت على الفور أرضاً دون أن تتمكن من الوقوف.. وبينما تقدم الأمير من الجندي الذي تراجع خطوات أخرى، فإن جايا صاحت بصوت مبحوح "كيف يمكنك أن تكون بهذه القسوة؟.. هل ما تتمنى تحقيقه يستحق كل هذا العذاب الذي نمر به؟.. هل يمكنك أن تنام كل ليلة بعد كل الألم الذي تسقيه لسجنائك؟"
نظر إليها ببرود مغمغماً "أمن المفترض أن يحرك هذا القول مشاعري؟"
نظرت جايا له بمرارة وقد أدركت أن هذه قد تكون فرصتها الأخيرة للفرار، ولو كانت تملك بعض القوة في جسدها لنهضت وقفزت من فوق السور نحو الجانب الآخر من القلعة حتى لو عنى ذلك موتها.. ثم رأت الأمير يتقدم من الجندي ويمسك مجمع ملابسه دون أن يقاومه الجندي المرتعب، بينما قال الأمير بقسوة "كنت أدرك أن دماءك القذرة لن تسمح لك بإطاعة الأوامر بشكل كامل.. أنت لست من الكشميت، ولم تكن منهم أبداً.. كان عليك أن ترحل من هذه المملكة التي لا تنتمي إليها.. لكنك فضلت البقاء وفضلت طعني في ظهري بكل صفاقة، أليس كذلك أيها العربي؟.."
فتح الجندي فمه بتلعثم، لكن الأمير لم يتمهل للحظة وهو يدفعه بقوة، ليجد الجندي نفسه يتجاوز السور ويهوي من ذلك الارتفاع الذي يتجاوز عشرة أمتار ليسقط بصمت وسط الحجارة المدببة التي حرص الأمير على أن تحيط سور القلعة من كل الاتجاهات..
صاحت جايا بارتعاب وهي تشهد ما جرى "ما الذي فعلته؟.. أليس هذا جندياً من جنودكم؟"
قال الأمير وهو يتقدم منها فيجذبها بقسوة من ذراعها "لا.. لم يكن كذلك منذ البدء.."
قرّبها من حافة السور وأجبرها على النظر من فوقه قائلاً "انظري.. هذه هي حريتك.. لقد صارت أشلاء لا رجاء منها.. لذلك، عليك أن تستسلمي وتتعاوني معي.."
صمتت جايا بشفتين ترتجفان وهي تحدق رغماً عنها في ذلك المنظر الذي لن تنساه ما بقي لها من العمر.. حاولت أن تتذكره وهو يحدثها مبتسماً في زنزانتها، حاولت تذكر بعض ما كان يقوله لها في تلك الليالي.. لكن كل ذلك كان يختفي مع منظر جسده الساكن وسط الحجارة المدببة والدماء التي أغرقت جانباً كبيراً من تلك الحجارة وملامح وجهه التي غابت عن عينيها من بين الدماء..
وبينما أفلتت دمعة من عين جايا، فإن الأمير قال بسخرية "أتمنى أن يكون هذا المنظر دافعاً معنوياً كبيراً لك لتتجاوبي معي كما أرغب منك.."
لو كان الكشميت يعاملون رجلاً منهم بهذه الصورة، فما الذي سيفعلونه في قرى الهوت عندما يحاولون وضع أيديهم على التنانين؟.. دفعت جايا نفسها لتقول بصوت مرتجف "لن أتحدث.."
ابتسم الأمير وقرّب وجهها منه بأصابع قاسية وهو يقول "ستتحدثين.. صدقيني يا فتاة ستفتحين فمك ولن تغلقيه إلا بعد أن تخبريني بكل ما أبغيه.."
قالت جايا وهي تحاول تخليص وجهها من أصابعه "أتراهن على ذلك؟.."
اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يجيب "أراهنك.. أراهنك على ذلك بحياتي يا فتاة.."
واستدار مبتعداً تاركاً جايا تنظر للجسد الساكن من فوق السور وتغمغم بمرارة "يا للبؤس.. أنا لم أسأله عن اسمه قط..."
وجدت أحد الجنود يسحبها دون رفق عائداً بها لزنزانتها.. وبينما استسلمت جايا ولم تحاول المقاومة، فإنها شعرت بروحها تظلم بشكل تام، وذلك النور الذي كان يبدو لعينها ويتسلل منه الأمل، قد انقطع بشكل تام ولم يبقَ إلا الظلام الحالك الذي ساد كل شيء..

*********************

ورد الخال 21-12-15 07:29 AM

رد: على جناح تنين..
 
شكراً ولك مني أجمل تحية .......

عالم خيال 21-12-15 07:30 AM

رد: على جناح تنين..
 
فصل إضافي 2: حكاية غياث


عندما تردد اسم رنيم على الشفاه وتهامس به الناس في (بارقة)، لم يَغِب هذا الأمر عن أذني غياث الذي قطب جبينه بشدة وهو يقف في إحدى قاعات القصر.. بينما جلست الملكة الأولى على مقربه وهي تقول بهزء "هل سمعت كل هذا؟.. هذه الفتاة جلبت لنا العار كما توقعتُ تماماً.. لقد كنتُ محقةً عندما طلبت من الملك عدم تقديمها للملك الراحل عبّاد كزوجة لولي عهده.. فها هي قد هربت مع عشيقها وجابت الممالك مثيرة الفتن بينها وهي تتفاخر بعلاقتها المحرمة وتمرّغ اسم الملك قصيّ في التراب.."
جزّ غياث على أسنانه وفكه ينقبض بشدة والملكة تقول "ليته استمع لي وزوّج سهى من الأمير زياد.. لكانت الآن ملكة على مملكة بني فارس العظيمة.."
لم يتمكن غياث من الصمت أكثر وهو يقول بسخرية "زياد؟.. أليس هو الذي قام، أول ما تولّى عرش مملكة أبيه، بالزواج من جاريته مجهولة الأصل والهوية؟.. ولما حاولت أمه الملكة الاعتراض على هذا الزواج طردها من القصر لتعيش في قصرها الصيفي في مدينة صوفان؟.. أهذا من رأيته مناسباً للزواج من ابنتك المدللة؟.."
قالت الملكة مبررة "لم يكن ليفعل هذا لو كانت خطيبته ترقى لطموحه وتملأ عينيه وقلبه عن كل من عداها.. هذا أيضاً ما جَنَتْ به تلك التافهة على مملكة بني فارس التي استضافتها بكل رحابة صدر، فلم تتردد في طعن مضيفيها في ظهورهم عند أول بادرة.."
ثم تنهدت بأسىً مغمغمة "الحمدلله أن الملك قصيّ، في غيبوبتة التي سقط فيها بسبب تدهور صحته، لم يعلم بأي شيء من هذا.. لو كان يعلم أمراً من أفعال ابنته المخجلة هذه لمات من فوره.."
تزايد غضب غياث أكثر وهو يستدير مبتعداً تاركاً أمه تهتف به "إلى أين؟.."
وسارت خلفه قائلة بحدة "لمَ عليك أن تهرب في كل مرة حدثتك فيها عن تلك الفتاة؟.. عليك أن تبتّ بأمرها بما أنك ولي العهد والنائب عن الملك حالياً.. أعلِن تبرؤكَ من هذه الخسيسة وأنها لا تنتمي لمملكة بني غياث لا من بعيد ولا من قريب.. عليك أن تتصرف قبل أن تجلب علينا الويلات والمصائب.."
لكن غياث سرّع من خطواته دون أن يرد عليها حتى عجزت عن اللحاق به.. كان يرفض الحديث عن هذا الأمر، ويرفض أن يصدق ما يحاك حول أخته التي يعرفها تمام المعرفة..
رنيم لا يمكن أن تفعل كل هذا.. رنيم الهادئة البسيطة البريئة لا يمكن أن ترتكب أبسط تلك الأفعال دون أن تصاب بذعر.. رنيم تهرب من (الزهراء) مع عشيق؟.. رنيم تمتطي ظهر تنين وتجوب القارتين؟.. والأدهى من ذلك، رنيم تشارك في اغتيال أحد أمراء كشميت وهدم إحدى قلاعهم؟.. لو كان لشخص أن يحوك كذبة فعليه أن يجعلها واقعية أكثر وأقرب للتصديق من هذا التجديف..
في ذلك المساء، وبينما كان غياث يجلس في جناحه مسنداً رأسه للكرسي الوثير بتعب، وأمامه عدد من الأوراق والكتب التي تحتاج منه بعض الجهد لمراجعتها، تلقى طلباً بالإذن لمقابلته من شقيقته الكبرى.. فسمح لها بالدخول دون أن يغيّر موضعه وهو يزفر بحدة.. ولما دخلت صافيناز ورأته على هذه الحال علقت بابتسامة "لابد أن أعمال الملك تُثقل كاهليك.. أليس كذلك؟.. هذا مجرد تدريب لما هو قادم عندما تتولى مُلك هذه المملكة حقاً.."
غمغم غياث وهو يعتدل في جلوسه "ليس الأمر عسيراً حقاً.."
تساءلت وهي تجلس قريبة وتمسح على شعره "إذن ما الأمر؟.. ما الذي سبب كل هذه التنهدات من شقيقي العزيز؟.."
قال غياث بضيق "لقد ضاقت نفسي من كل تلك الاتهامات التي تطال رنيم على ألسنة من في القصر والمدينة والمملكة كلها.. أتصدقين كل ما يقال عنها؟"
صمتت صافيناز وهي تضع يديها في حجرها، بينما أضاف غياث "اختفاء رنيم المفاجئ لا يوحي لي بأنها قد هربت بالفعل.. ثم إن الضجة التي أثارها زياد، بعد هربها بعدة أيام على الأقل، تثير تعجبي.. لماذا لم يبلغنا بالأمر فور حدوثه؟.. كان بإمكانه إبلاغنا به بواسطة الحمام الزاجل.. أكان عليه أن ينتظر كل ذلك الوقت وينتظر موت الملك عبّاد ليخبرنا أنه فقد كل أثر لرنيم؟"
تنهدت صافيناز وقالت "لهذا الأمر بالذات أتيت إليك.. إن أمي تصرّ على أن تصدر قراراً يخص رنيم ويعلن تبرؤ المملكة منها ومن أفعالها.."
نظر لها غياث بعبوس قائلاً "وهل توافقين على أن أفعل ذلك؟.. أهذا ما سيسعدكم ويريح بالكم حقاً؟"
خفضت صافيناز بصرها ثم غمغمت "لا.. بودي لو أرى رنيم في الحال.. بودي لو أعرف ما جرى لها حقاً.."
ثم تنهدت وأضافت "أشعر أن هذه ليست رنيم.. رنيم لا يمكن أن تكون بهذه الصلافة ولا بهذا التهور.. لن تخون اسم أبيها ولن تتصرف بما يخجله.. لكن لست أدري من أين أتت تلك الشائعات.."
زفر غياث وهو يعود لصمته متأملاً النقوش البارزة التي تزيّن سقف جناحه بعقل سرح في أفكاره.. ولم تلبث صافيناز أن غادرت بعد أن يئست من الوصول لاتفاق بينه وبين أمها وردم الفجوة التي بدأت تتسع بينهما..
أما غياث، فبعد أن أسْهِد لساعات طوال ولم يقاربه النوم، نهض ووقف قرب نافذة جناحه يتأمل القمر المضيء الذي تلتمع جدران القصر بنوره.. كان موضوع رنيم يؤرقه، وأخبارها تعكر مزاجه.. لكن أحداً لم يجزم بموقعها في هذه اللحظة ولا يعلم غياث وسيلة للوصول إليها.. فكيف يمكنه استعادتها ومعرفة حقيقة ما جرى منها مباشرة؟..
انتبه في تلك اللحظة لرؤية طائر ضخم يقترب من أحد جوانب القصر حتى هبط على شرفة من شرفاته.. نظر غياث للطائر الذي غلّفه الظلام بشكل كامل بشيء من الاستنكار ملاحظاً أن وجود ذلك الطائر لم يجذب انتباه أحد من الحراس بتاتاً.. ثم لاحظ ما أشعل قلقه أضعافاً عندما رأى ذلك الجسد الصغير الذي انسلّ من فوق الطائر وركض بخفة عبر الشرفة ونحو النافذة القريبة ليتسلل منها إلى القصر..
كان غياث يعرف ذلك الموقع جيداً، ويدرك تمام الإدراك أن تلك الشرفة تؤدي لجناح أبيه، الملك قصيّ، بالذات.. فلم يتوانَ لحظة واحدة وهو يغادر جناحه راكضاً نحو جناح الملك.. لكن شيئاً ما في ذلك الجسد الصغير جعله لا يستدعي الحراس ولا يطلب عوناً من أحد.. وخلال وقت قصير، كان يقتحم الجناح حيث يرقد الملك قصيّ في فراشه غارقاً في غيبوبة منذ بضع أسابيع لم يفلح الأطباء في إيجاد علاج لها..
وفي جانب الفراش، رأى ذلك الجسد الصغير المسربل بمعطف يغطيه وغطاء رأس يلقي ظلاله على وجهه وهو منحنٍ على الجسد الراقد بصمت.. انتبه المتسلل لقدوم غياث وهو ينتفض واقفاً، فقال غياث بحدة "توقف ولا تحاول الهرب.. من أنت؟.. وما الذي تفعله هنا؟"
تلفت المتسلل حوله للحظات، ولما اطمأن لخلو الجناح إلا منه ومن غياث، رفع يده وأزاح غطاء الرأس قائلاً بابتسامة "هذه أنا يا أخي.."
نظر غياث مصعوقاً لرنيم التي وقفت تنظر له بابتسامة، ثم تقدم منها بسرعة مما جعل رنيم تتوتر وهي تظن به ظنوناً شتى.. هل سيقبض عليها؟.. هل سيعاجلها بصفعة على وجهها مع كل تلك الأقاويل التي انتشرت عنها؟.. ما هي ردة فعل غياث، ومَن في القصر، على كل ما قيل عنها؟..
لكنها فوجئت به يجذبها ويعانقها بقوة شديدة بهتت لها رنيم، وقال لها بشيء من اللهفة "أأنت بخير يا رنيم؟.. أهي أنت حقاً؟"
قالت رنيم بابتسامة وهي تستكين بين ذراعيه "هي أنا يا أخي.. أتسرك رؤيتي حقاً؟"
أبعدها للحظات ونظر لوجهها ملاحظاً التغيير فيه.. كانت قد اكتسبت شيئاً من السمرة وبدا شعرها قصيراً جداً بينما ظهر جرح واضح على جبينها.. كانت مختلفة، ولولا عيناها اللامعتان ذاتهما لما عرفها حقاً..
فقال لها بانفعال "ما الذي جرى لك يا رنيم؟.. أأنت بخير حقاً؟"
ابتسمت رنيم قائلة "أنا بخير حقاً.. لقد سمعت بمرض أبي، فلم أتمكن من تجاهل الأمر.."
ونظرت للجسد الغارق في غيبوبة على الفراش القريب مضيفة "أتيت لرؤيته والاطمئنان عليه.. لم أتخيل يوماً أن أرى أبي المتجبر القاسي بهذه الصورة الضعيفة الواهنة.."
علق غياث "هذا طبيعي بالنظر لعمره.. لكن.. كيف تمكنت من الوصول للجناح دون المرور على الحراس؟.."
تذكر رؤية ذلك الطائر، فقال رافعاً حاجبيه بصدمة "هل أتيت على ظهر تنين حقاً؟"
قالت بهدوء "كاجا كائن طيب ورائع حقاً.."
أمسك غياث كتفيها وقال بتقطيبة "ما الذي جرى لك؟.. ولمَ هربت من (الزهراء) حقاً؟.. أريد تفسيراً لكل ما جرى.."
غمغمت رنيم "هل وصلك ما قيل عني؟.. أتمنى ألا تكون قد كرهتني لذلك يا أخي.."
ثم ابتسمت مجيبة "أنا لم أهرب يا غياث، ولم أنتوِ يوماً إذلال أبي وتلطيخ جبينه.. ما جرى حقاً أنني اختطفت من (الزهراء)، ومن وسط قصر الملك.."
نظر لها غياث بصدمة وقال "لكن زياد قال......."
قاطعته قائلة "زياد كان يريد التخلص مني بأي شكل كان لكنه كان يخشى من الملك عبّاد.. ولما جرى ما جرى وجدها فرصة للتخلص مني والتنصل من هذه الزيجة بإطلاق تلك الافتراءات عليّ.."
قال غياث بحنق "لا أتوقع أقل من ذلك من رجل خسيس مثله.."
ثم نظر لها مضيفاً "وماذا عن بقية تلك الإشاعات؟"
قالت بابتسامة "ذلك حديث يطول.."
جذبها لتجلس على كرسي قريب قائلاً بحزم "لن أطلقك حتى أعرف ما جرى لك.. وبكل تفصيل.."
لم تمانع رنيم وهي تجلس جانباً وتبدأ حكايتها الطويلة.. تلك الحكاية التي ابتدأت بمتسلل دخل جناحها بغفلة من حراس القصر واختطفها رغماً عنها.. وليس انتهاءً بتهدم قلعة (جمجات) وهرب الهوت منها..
ظل غياث يستمع إليها بدهشة وشيء من الصدمة.. كان ما ترويه أبعد من أن يتم تصديقه، وما جرى لها في ذلك الوقت القصير بدا مستحيلاً بعد تسعة عشر عاماً قضتها في حياة هادئة لا يعكر صفوها أي شيء.. ولما فرغت من حديثها، أمسك يديها قائلاً "رباه.. هل جرى كل هذا حقاً؟.. لماذا لم تعودي لقصر أبيك فور تحررك من خاطفيك؟"
قالت بهدوء "أتظن أن قصر أبي سيتقبلني بعدما أشاعه عني زياد؟.. أم أنني سأواجه مصيراً أسوأ مما واجهته بالفعل؟"
لم يعلق غياث وهو يتذكر شماتة الملكة الأولى لما سمعته عن رنيم، وما قد يفعله الملك لو كان بوعيه.. فتغاضى عن ذلك وهو يسألها "أأنت واثقة أنك بخير بعد كل ما جرى؟"
قالت رنيم وهي تتأمل ملامحه التي تحمل قلقاً واضحاً لشأنها "لا أريدك أن تقلق لأمري بعد اليوم يا غياث.. سعيدة أنني رأيتك، وسعيدة أكثر أنك لم تخيّب ظني فيك.. لو واجهت أخاً متعصباً غاضباً مما فعلته دون أن يستمع لحججي لشعرت بحزن شديد بالفعل.."
ضغط غياث على يدها بصمت للحظات، ثم قال وهو يقف "لا يمكنني أن أصمت لكل ما جرى.. لابد أن يدفع زياد الثمن على معاملتك بتلك الطريقة الخبيثة متناسياً ابنة من أنت.. سآخذك لجناحك، فهو كما تركته تماماً.. وغداً سيكون لنا حديث آخر.."
وقفت رنيم بدورها قائلة "لا أظن ذلك يا غياث.."
نظر لها بدهشة، فتراجعت خطوة للوراء مضيفة "لم أعد تلك الفتاة التي تنزوي في جناح في جانب القصر.. ولم أعد أميرة من أميرات هذه المملكة.. لا يمكنني العودة لهذه الحياة بتاتاً يا أخي.."
تقدم غياث منها خطوة قائلاً بانفعال "هذا قصر أبيك يا رنيم، وهذه حياتك.. إلى أين تنوين رمي نفسك في هذا العالم؟"
غمغمت بابتسامة "حيث يأخذني التنين.. هذه حياتي، وهذا ما سأفعله لما بقي لي من العمر.. سامحني يا غياث.. قد لا أراك بعد هذا اليوم أبداً.. فلا أنوي العودة لـ(بارقة) بتاتاً.."
ثم أضافت وابتسامتها تتسع "ولن ألومك لو قمت بإعلاني ميتة وشطبي من عالم الأحياء.. فأنا لن أكون من عائلة بني غياث بعد الآن.."
أدرك أنها سمعت الإشاعات التي دارت في (بارقة) مع كل تلك الأخبار المتتالية عنها.. فهتف غياث بانفعال "أنت ابنة قصيّ الرابع وسليلة بني غياث، أحببتِ ذلك أم كرهته يا رنيم.. لكن إلى أين تنوين الذهاب؟.. هل تنوين الهرب مع ذاك الرجل الذي اختطفك عنوة؟"
قالت رنيم ببساطة "ذاك الرجل هو زوجي الآن يا غياث، لذلك ليس عليك أن تقلق لهذا الأمر.."
ظل غياث يستمع إليها مبهوتاً وقد أعجزته الصدمة عن الرد، ثم رآها ترفع الغطاء الذي يغطي رأسها ويخفي هويتها واستدارت مسرعة نحو النافذة القريبة.. فهتف غياث "كيف يمكنك أن تفعلي هذا؟.. أأنت واثقة أنك رنيم حقاً؟.. لستِ أنت الفتاة التي عرفتها طوال سني عمرها.."
ابتسمت رنيم ابتسامة جميلة وهي تقول "ربما كنتَ لا تعرفني حقاً يا أخي.."
وخرجت من النافذة مسرعة نحو الشرفة المتصلة بها، ولما ركض غياث خلفها رآها تمتطي تنيناً أبيض اللون عظيم الهيئة وتمسك بلجامه بيدها بكل بساطة.. ظل غياث يراقب التنين بذهول بينما لوحت له رنيم بيدها.. وبحركة بسيطة، قفز التنين في الهواء ورفرف بجناحيه معتلياً حتى أصبح أعلى من أي برج من أبراج القصر.. ولم يلبث أن صار نقطة سوداء في السماء التي ينيرها القمر الخافت تلك الليلة..
وبينما غابت رنيم مع التنين في الأفق، فإن غياث لم يبارح موقفه وهو مذهول وقد أعجزته الصدمة عن الحديث.. أهذه رنيم؟.. أهذا أخته البريئة التي كان يحبها ويعطف عليها بشدة قبل رحيلها لقصر زوجها الموعود؟.. أهذه حقاً من غادرت قصر أبيها وهي قلقة من مستقبلها وتخشى أن ترفع رأسها وتواجه الآخرين بعينيها؟..
لشدّ ما تغيرت تلك الفتاة في هذه المدة الوجيزة.. لكن ما كان يثق منه غياث، أنه لم يشعر للحظة بالضيق لرؤية هذا التغيير.. ولم يشعر للحظة أنه محرج من تصرفاتها وأنها قد مرّغت رأسه بالتراب.. ورغم كل ما رآه، ما تزال رنيم حاضرة في ذهنه بعينيها البريئتين المعلقتين في السماء دائماً وأبداً..

*********************

عالم خيال 21-12-15 07:34 AM

رد: على جناح تنين..
 
قد تستغربون أو تستنكرون أمر الفصول الإضافية
لكني أحبها عندما تكون الحاجة لتفصيل أمر بعيد عن مسار الرواية
دون الإطالة في أحداث الرواية نفسها
وأحياناً تكون النهاية أكمل بهذه الفصول
رغم أني لا ألجأ إليها إلا قليلاً

وبهذا انتهينا من هذه الرواية
أتمنى أن تكون قد أمتعتكم ونقلتكم لعالم جميل ورحب
وأتمنى أن أعرف رأيكم بها

هذه مدونتي لمن يريد قراءة المزيد من الروايات
فهذه الرواية التي نشرتها كانت ثامن رواية لي
وقد نشرت تسع روايات ولله الحمد
وسيسعدني متابعتكم لي وقراءة تعليقاتكم على هذه الرواية وغيرها من الروايات

http://3.bp.blogspot.com/-1mYX0eznNv...%2Bbanner2.jpg

وحتى نلتقي في رواية جديدة، أتمنى لكم السعادة ولكم مني المحبة

مملكة الغيوم 21-12-15 09:04 AM

رد: على جناح تنين..
 
جميله تسلم ايدك
احزننى ماحدث لجايا من عذاب هى والمساجين
مغامرات رنيم ممتعه واعتراف ارجان لها بوقوعه فى غرامها والحفيده نادين تدل على ارتباطهم بالزواج
احسنتى خيال وفى انتظار جديدك:55:

عالم خيال 21-12-15 02:58 PM

رد: على جناح تنين..
 
شاكرة لك متابعتك للرواية وتعليقك عليها
هل قرأت الفصل الإضافي الثاني؟.. لقد ذكرت رنيم بوضوح أنها قد تزوجت آرجان..
سعيدة أن الرواية أعجبتك كاملة
وبإذن الله لن أتأخر بالجديد..

bluemay 21-12-15 04:44 PM

رد: على جناح تنين..
 
مباااااارك عزيزتي خيال

تستاهلي التقييم والتثبيت

لي عودة بتعليق بعد قراءة الفصول

احببت ان اضع تهنئتي لك اولا


تقبلي مروري وخالص ودي

اختك : MaYa

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 21-12-15 06:34 PM

رد: على جناح تنين..
 
http://orig05.deviantart.net/9a47/f/...on-d6kv9df.gif

http://orig10.deviantart.net/419c/f/...on-d6kvby0.gifhttp://orig10.deviantart.net/419c/f/...on-d6kvby0.gifhttp://orig10.deviantart.net/419c/f/...on-d6kvby0.gif
شاكرة لك يا عزيزتي مايا (هل الاسم صحيح؟)
لقد فوجئت بالأمر وأنا أبحث عن الرواية بين المواضيع
ثم ظننت أنها نقلت لقسم الروايات المكتملة
فكانت المفاجأة هي تثبيتها
لا أعلم كيف أشكرك وأشكر أعضاء هذا المنتدى ممن قرأ الرواية وشجعني
وأنتظر رأيك بها كاملة

مملكة الغيوم 21-12-15 07:22 PM

رد: على جناح تنين..
 
مبارك تثبيت الروايه خيال تستاهلي كل خير
نعم قراءت المصلين الاضافين ولكنى علقت قبل قراءت قصة غيث
وفى انتظار الروايه الجديده

برد المشاعر 22-12-15 02:51 AM

رد: على جناح تنين..
 
أول شي آسفة على تأخري الخارج عن إرادتي ‏

ثانيا مبروك اكتمال الرواية حبيبتي خيال وأهنيك على إبداعك ‏


الصراحة كل شي كان خيال وجميل فوق الخيال عيشتينا الأحداث وكأنها أمامنا والتوتر والخوف والترقب الصراحة لعبتي بأعصابي لعبة شريرة حزنت وبكيت على موت جايا وسعدت بلحظات نجاتهم واعتراف آرجان لرنيم بحبه هههه عاشت رحلة أكبر مما كان في خيالها وطارت على ظهر تنين واتزوجت رجل من الهوت ‏



مبدعة خيال بكل ما تعني الكلمة ويسلم خيالك الخصب ‏


كنت متمنية ألقيتي الضوء على حياة رنيم وآرجان في المستقبل ومتوقعة هالشي وتفاجأت بحفيدتها هههه لا وطالعة لجدتها في كل شي حتى أميتها بعيش مغامرة مخيفة ومختلفة ‏



‏ منتظرة روايتك الجديدة فياريت تذكري اسمها عشان نعرفها في حالة الدخول من الجوال أو اكتبي اسمك مع عنوانها وفي انتطارك دايما المبدعة خيال ‏

برد المشاعر 22-12-15 03:06 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عالم خيال (المشاركة 3583349)
قد تستغربون أو تستنكرون أمر الفصول الإضافية
لكني أحبها عندما تكون الحاجة لتفصيل أمر بعيد عن مسار الرواية
دون الإطالة في أحداث الرواية نفسها
وأحياناً تكون النهاية أكمل بهذه الفصول
رغم أني لا ألجأ إليها إلا قليلاً

وبهذا انتهينا من هذه الرواية
أتمنى أن تكون قد أمتعتكم ونقلتكم لعالم جميل ورحب
وأتمنى أن أعرف رأيكم بها

هذه مدونتي لمن يريد قراءة المزيد من الروايات
فهذه الرواية التي نشرتها كانت ثامن رواية لي
وقد نشرت تسع روايات ولله الحمد
وسيسعدني متابعتكم لي وقراءة تعليقاتكم على هذه الرواية وغيرها من الروايات



وحتى نلتقي في رواية جديدة، أتمنى لكم السعادة ولكم مني المحبة

أتمنى تضعي هنا بين أيدينا جميع روايتك لنقرأها فرابط المدونة لم يظهر ‏

bluemay 22-12-15 07:47 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عالم خيال (المشاركة 3583468)


شاكرة لك يا عزيزتي مايا (هل الاسم صحيح؟)
لقد فوجئت بالأمر وأنا أبحث عن الرواية بين المواضيع
ثم ظننت أنها نقلت لقسم الروايات المكتملة
فكانت المفاجأة هي تثبيتها
لا أعلم كيف أشكرك وأشكر أعضاء هذا المنتدى ممن قرأ الرواية وشجعني
وأنتظر رأيك بها كاملة

نعم صحيح اﻷسم

والعفو يا قمر ... تستاهلي واكتر من هيك كمان .

مبسوطة بهالرحلة الحلوة معك عى جناح تنين .. فعلا حلقنا في عوالم رائعة رغم قسوة بعضها وجفاف اﻵخر

إلا اننا استمتعنا كثيرا بصحبة رنيم التي تحولت بفعل الظروف والمصاعب وخرجت من قشرتها الرقيقة

لتتحول إلى فتاة مقدامة وشجاعة تحدت الصعاب في سبيل من تحب ومن تراهم ابرياء ومظلومين

وبرغم قوة الظلم إلا أنها نجحت وتفوقت عليه.


حزنت كثيرا لنهاية جايا ولكنها منطقية وكيف ستكون حياتها بعد ما فقدته

واﻷكثر هو اسم الجندي المنقذ اﻷسطوري الذي لقي حتفه وهو يساعدها..


اعتراف آرجان كان رائعا ونتيجة متوقعة فكيف بمن يعرف رنيم برقتها وعزيمتها واصرارها الا يحبها ؟!!

من استنالت قلب تنين لن يعجزها قلب رجل مسكين >>> عالقافية لوووول


اشكرك عزيزتي خيال


وعندي طلب مثل برد المشاعر صديقتي ان تنزلي رواياتك هنا


حيث انه يمنع في منتدانا وضع روابط لمواقع اخرى

وتأكدي انك حزت على اعجابنا بروعة ما تكتبين


اتطلع لقراءة روايتك اﻷخرى قريبا


تقبلي مروري وخالص ودي

«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 22-12-15 09:13 PM

شاكرة لكن أخواتي على دعمكم لي

سأحاول أن أنشر الرواية التالية (ابنة السماء) قريباً
وهي آخر ما كتبت
وبعدها سأبدأ برواياتي الأقدم وبعضها خيالي أما الآخر فهو خيال علمي
لم أكن أعلم بأن نشر روابط لمواقع أخرى ممنوع
لذا لك أسفي يا عزيزتي مايا
سعيدة جداً بتفاعلكن مع الرواية وبطلتها
وأتمنى أن تتفاعلوا مع رواياتي الأخرى رغم اختلاف نوعياتها عن هذه
وحتى ذلك الوقت، لكم مني كل الود والحب

bluemay 23-12-15 08:34 AM

رد: على جناح تنين..
 
ولا يهمك حبيبتي

ومتشوووووقييين كتير

ويا رب تنزليها عى خير

ونتابعها معك إن شاء الله

مملكة الغيوم 24-12-15 09:37 PM

رد: على جناح تنين..
 
عزيزتى عالم خيال
قراءت اجزاء من ابنة السماء وعين الاسيره انتى مبدعه
ارجو انك تبدئى تنزلى فى ليلاس مع بداية العام الجديد حتى يتسنى للكل ان يقر اءها
دمتى بود ولكى منى كل الحب

همسة تفاؤل 24-12-15 11:09 PM

رد: على جناح تنين..
 
مساء الخير خيال


اعذريني لغيابي بعد اول فصلين لانشغالي
وقد اكملت قراءة باقي الفصول في اليومين الماضيين
أهنئك لاتمام الرواية وتثبيتها

للحقيقة روايتك رائعة ووصفك مبهر استمتعت لأبعد الحدود مع رنيم وارجان بصحبة التنين كاجا ومغامراتهم

وخروج رنيم من شرنقتها لتتألق على ظهر تنينها مع كل ما عانته من مصاعب وآلام


في انتظار تنزيل روايتك الثانية ابنة السماء وبما انك قلتي ان بطلتنا من الأكاشي فأنا أتوقع منها أن تكون شرسة ومتمردة وليست خانعة ننتظر تألقها ربما سننتظر من يروض ابنة السماء


متشوقة لتنقلينا في رحلة أخرى

تقبلي مروري

نَوح الهجير 24-12-15 11:21 PM

رد: على جناح تنين..
 
كعادتي اقول " الصمتُ في حرم الجمال جمال " تبارك الله لم ابدأ في القراءة الأ و انا منهيه منها بدون إنقطاع :46:
سعيدة بكتاباتك , جداً جداً , و اهلاً بك أخت وصديقة هنا .
:765fd:

~FANANAH~ 26-12-15 04:05 AM

رد: على جناح تنين..
 
مسساء طيب عزيزتي خيال ..

أولا وقبل كل شيء أشكرك على نبض كلماتك وجهودتك في تنسيق قصة مذهلة منذ بداية أسطرها لنهايتها خاصة بأنها خيالية ، نوعي المفضل ^^

وثانيا مبارك لكِ الختام والتثبيت تستحقين ذلك وبجدارة ، كنت راغبة بمتابعة الفصول ولكن بسبب امتحاناتي لم أجد بُدا من الانتظار للختام وإيجاد الوقت الملائم وحينما بدأت سُرق النوم من عيناي !!

حقيقة فأنا صعبة الإرضاء فما لا يَلفت إنتباهي بما يكفي لا أعود له ، وحينما أغامر بالقراءة فإني أُدقق بالتفاصيل وخاصة بالقصص الخيالية حيث أنها تحتاج لمقدار كبير من الخيال الخصب والمعرفة المسبقة لهذا النوع من الأحداث والتسلسل الصحيح ..

أحببت شخصية رنيم جدا منذ الكلمة الأولى لأني وجدت بها تشابها كبيرا بي في حبها للقراءة في سكونها وخوفها من المجهول وفي خضوعها بكثير من الأوقات مرغمة ، ولكني تشجعت لأكمل معها رحلتها ، تفاصيل العيش في القصور الملكية جذابة مؤلمة ومضحكة في بعض المواقف أعجبتني شخصية شقيقتها الكبرى صافيناز وشقيقها غياث .. الأجواء هادئة مع ذلك مثيرة للقلق أمور شتى والعربة الملكية على وشك الوصول !

الحارس مجد وقعت بحبه فورا أجل لو كان أصغر بعشرين عاما لتزوجته هههه كما نطقتها رنيم في وداعها له ، أحببته كما أحبته نوران في فترة مراهقتها كما أن شخصيتها أثارت فيني السعادة ولكن لنعد بالحديث عن مجد تسائلت عن حياته الخاصة بالرغم من مكانته أله حياته تخصه بعيداً عن القصر ؟

تفهمت إحساسه بالذنب لاختطاف رنيم ومجهوده الكبير في محاولة تخليصها من الأسر أجل ياله من فارس شهم حقا ..
و تفهمت كرهه لتلك الطبقة البغيضة التي تُسير أمورها بالدسائس والمكائد ما يكادون يفشلون بخطه إلا وقد وضعوا ألف بديل عنها !

ولا تختلف الملكة الأم بفكرها ورغبتها الطائشة في الحصول على مبتغاها عن والدة زياد والتي تم طردها في نهاية الأمر من قصر الحكم تستحق ذلك ، لقد أصابتي القشعريرة حين قرأتي للمكيدة المدبرة لرنيم !
أي أم تفعل هذا لفتاة أتت مرغمة للارتباط بفتى مدلل كإبنها الغبي الأحمق المتعال الأرعن !!
عذرا احم تفاقمت مشاعري حين تذكري لسفاقة وعجرفة الأمير في اللقاء الأول برنيم ، إن كانت شعرت بالدونية فأنا شعرت بإني حشرة يتم سحقها بلا أدني إعتبار لإستحقاقي العيش ..

لقد تحملت رنيم كل ذلك بشكل جيد لأجل رغبته والدها لأنه خيارها الوحيد ، إلى أن تدخل آرجان بالمعادلة مع تنينه كاجا أي قدر ساقه إليها ؟ بل أي حظ أوقعها بشباكه ؟
فظ لا يُعيرها اهتماما كبيرا مع ذلك عطوف وقلق وحَامي لها به كل الصفات التي تمنتها وأكثر بكثير ، إنه رجل قَلبا وقالباً ، لم أحببه بدايته رجف قلبي لرغبة بأخذها أسيره واسم جايا لا يغادر شفتيه أجل توقعت أنه تكون حبيبته أو شقيقته ولكن نواقيس عقلي أطربت للحبيبة أكثر مما أغاضني قليلا ، ولحسن الحظ فهي شقيقته ^^

ركوب التنين في كل مرة كان له وقع خاص بقلبي وفي كل موقف إثارة مختلفة ، أول تجربة في حين تعليم آرجان كيفيه قيادته ، المرة الثانية إطاعه كاجا أوامرها للدفاع عن القرية ، ودفاعه عنها حين اُختطف آرجان لممكلة الكشميت ، رغم ألمي لخروج كاجا عن السيطرة في حالة جوعه إلا أني ألوم رنيم في دفعها لأقصي حد للمسكين كاجا ..

آرجان استطيع التغاضي عن كل ما قام به في القصة إلا تناوله للأعضاء البشرية مع المتوحشون من الأكاشي لقد غاص قلبي وتقلبت معدتي مجرد التفكير بالأمر ولكنه كان يقوم بالأمر مراراً وتكراراً حتي خشيت من تحوله لواحد منهم ><
ولكن شكوكي تبددت لحظتها كلما أخبر رنيم بأنه يقوم بذلك من أجلها ، إنه الحب يا سادة هههه أجل كيف ولا ولأجلها يقوم بإلتهام القلب الدافئ المُنتزع من صدر الزعيم السابق !

تستمر المغامرة وأجد نفسي أغوص بشكل تام في تلك الرحلة المثيرة المليئة بالتقلبات وسر اقتياد الهوت نحو مملكة الكشميت سرا تداخلات الشخصيات الأخرى كانت ذات نفع ولم تفسد محور القصة ، بل زادت رنيم اندفاعا وصقلت شخصيتها بمزيد من العناية ..

بحثها الحثيث عن آرجان جعلني أتساءل إن كانت حقا تشعر بالعرفان فحسب له ، كان لديها الخيار في الهرب مع كاجا لأي مكان ولكن ما قالته لؤلوه كان مناسبا أكثر هي تُحبه لهذا ظلت تبحث لأسابيع عنه ولم تيأس وتتوقف ..

الأمير المصاب بجنون العظمة لم أحزن قيد أنمله على ما حدث له ، بل شعرت بالنشوة والسعادة لانتهاء فترة حكم طاغية مستبد ، لقد كرهته لما فعله بجايا تلك المسكينة ، بل إن طريقة حديثه تؤكد مقدار الهوس بالقوة ، استحق الموت بجدارة !

أما عن موت جايا فقد ألالم قلبي ، إنه أشبه بطعنه فبعد البحث الحثيث تنتهي بلقاء قصير بآرجان الذي سرعان ما تَقبل رحيل عائلته الوحيدة ، واعترافه لرنيم جعلني مصدومة قليلا صحيح بأني كنت أنتظر تلك اللحظة بشغف ولكن أسلوب طرحه بل إن اعترافه أخذني على حين غرة !

هنالك الكثير مما كنت أود الحديث عنه عن كل تفصيل عن كل لحظة مررت بها عن تغير الشحصيات ونموها عن حبي لكل فرد منها ، ولتعلقي بكاجا التنين الفضي ..

أما الفصول الإضافيه وددت لو أنها كانت أكثر ، رغبت بحضور الزفاف الخاص برنيم أردت أن أعلم كيف تقبل الهوتيون رنيم أخيرا ؟
ما كانت مغامراتها الأخرى ؟ بل كيف أصبحت حياتها برفقه آرجان ؟

غياث متزوج هههه حقيقة لم أكد أستوعبها ولكن لقاءه بشقيقته ، اعترافاتها ، حديثهما كان لطيفا جدا ، حاسما للقيل والقال ، ومؤكدا بأنها عثرت على حلمها ..

أوه كدت أنسى الحارس مجهول الأسم ، لودتت أن أعلم باسمه أيضا ، عانى من تشتت في الهوية لا هو عربي ولا كشموتي !
وذلك الأمير .. "لم يكن منا !! " ، لقد أصابني بالمعتقل ..
كرهت طريقة موته ، رغبت حقا بأن أتعرف عليه أكثر لقد كان واعيا ومثقفا وحسن المعشر
حسنا مجد لم يكن متاحا لكن أظن بأن هذه الشخصية ستفي بالغرض هههه ..
أجل ودتت لو علمت اسمه على الأقل ، ذلك البطل الأسطوري ..

احببت كل منعطف بالقصة رغم هفواتي في ذكر بعضها ، وبشوق للمزيد أدام الله موهبتك صديقتي خيال وثقي دوما بأن ما يُكتب من القلب يَصل دوما للقلب ..
أثقلت عليكِ بحديثي ولكن لم استطع منع نفسي من الكتابة لك ، بفض ما بقلبي هنا ..

لأن ما قرأته يحمل رساله وهوية أرغب بأن احتفظ بها بداخلي لربما سأصبح قادرة على التحليق بيوم ما كرنيم وأن أتخلي عن انهزاميتي المتكررة ، لست بأميرة ولكن بكل واحدة منا أميرة مُصغره ^^

بانتظار القادم ..

عالم خيال 27-12-15 08:38 AM

مرحباً
أعاني من انقطاع النت بشكل متكرر، لذا لم أتمكن من الرد على تعليقاتكم الجميلة سابقاً
ولم يكن ذلك تجاهلاً مني فاعذروني

*****

سعيدة بإعجابك بكتاباتي يا غاليتي مملكة الغيوم
سأبدأ برواية ابنة السماء كما قلت، لذا أتمنى أن تتابعيها معي
وإن قرأتِ عين الأسير فأتمنى أن أسمع رأيك بها

*****

تخمينك صحيح يا عزيزتي همسة تفاؤل، وإن كان بشكل جزئي
بطلة الرواية القادمة تختلف عن رنيم في كل شيء
لكنها مثل رنيم تحاول إثبات نفسها لنفسها وللآخرين

****

شاكرة لك يا أختي نوح الهجير
وأعتز بصداقتكم وبوجودي معكم هنا فما وجدت إلا ما يسرني

*****

شاكرة لك رأيك المطول يا غاليتي فنانة
وقد قرأته بكل عناية وأعجبت بتعليقك الصائب على شخصيات وجوانب الرواية
للأسف لم أستطع الرد في وقت أبكر، لذا أتمنى أن تعذريني
وأتمنى لقاءك في الرواية القادمة بإذن الله

مملكة الغيوم 27-12-15 08:06 PM

رد: على جناح تنين..
 
مساء الخير حبيبتى خيال
الحقيقه قريت اربع فصول من الاسيره وعجبنى جدا ما قراءت انتى مبدعه
لاكن بعد الرابع الدون لود محملش ومبقتش تفتح وقريت اربع فصول من ابنة السماء قبل ما تحجب مشوقه جدا جدا عجبتنى الشخصيات والفكره نفسها الاب اللى بيعوض حرمانه من الابن فى تنشئه الابنه كفارس لتحل محل ابوها واخوها فى زعامة القبيله
ارجو انك تشبعى فضولنا وتنزلى بداية العام وسنه سعيده عليكى باذن الله دمتى بود ولكى منى كل الحب
مملكة الغيوم

عالم خيال 28-12-15 02:59 PM

رد: على جناح تنين..
 
سعيدة أن عين الأسير قد أعجبتك، رغم أنها مختلفة نوعاً من هذه
لا أدري لم يستعصي التنزيل عليكم
سأحاول إضافة وصلات للروايات على جوجل درايف لتتمكني من قراءتها
سأبدأ تنزيل ابنة السماء بعد وقت قصير بإذن الله
وحتى ذلك الوقت، مبارك لكم العام الجديد
ودمتم بخير وسعادة

مملكة الغيوم 28-12-15 04:09 PM

رد: على جناح تنين..
 
فى انتظارك حبيبتى وان شاء الله تتمكنى من تنزيل كل روياتك على منتدان الحبيب ليلاس:8_4_134:

ندى ندى 31-12-15 03:20 AM

رد: على جناح تنين..
 
رواية جميله جدا ورائعه جدا جدا

وقمة الابداع والاثارة ما شاء الله

تسلم ايدك حبيبتي ووفقك الله

مملكة الغيوم 01-01-16 06:05 PM

رد: على جناح تنين..
 
عالم خيال كل عام وانتى بخير حبيبتى ابتدينا العام ليه منزلتيش بالروايه
ثقى انك موهوبه وان ما تكتبيه سيصل لقلوب القراء وعقولهم تشجعى وابهرينا خلينا نستمتع:55:

عالم خيال 01-01-16 06:47 PM

كل عام وأنتم بخير يا أخواتي العزيزات
آسفة للتأخير يا غاليتي مملكة الغيوم
سأنزل الرواية قريباً، لكن ليس قبل بضعة أيام
لأني حالياً بعيدة عن منزلي وعن جهازي
وبإذن الله ستنال الرواية رضاكم

****

شاكرة لك ردك يا أختي ندى
وسعيدة بإعجابك بالرواية وأحداثها
وبإذن الله سيعجبك القادم فانتظروني

مملكة الغيوم 03-01-16 09:14 PM

رد: على جناح تنين..
 
فى ابتظارك اختى عالم خيال وتعودى لمنزلك بالسلامه:8_4_134:

عالم خيال 03-01-16 10:42 PM

رد: على جناح تنين..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مملكة الغيوم (المشاركة 3587125)
فى ابتظارك اختى عالم خيال وتعودى لمنزلك بالسلامه:8_4_134:

لقد نشرت المقدمة بالفعل يا عزيزتي اليوم..
وغداً بإذن الله أبدأ الفصل الأول..
شاكرة لك كلماتك الجميلة..

محمود105 16-02-16 09:19 PM

رد: على جناح تنين..
 
سلمت يديك روعههههههههههه

عالم خيال 17-02-16 08:32 PM

رد: على جناح تنين..
 
شاكرة لك ردك على الرواية
وأتمنى أن تعجبك الروايات الأخرى بقلمي

fadi azar 13-03-16 10:55 PM

رد: على جناح تنين..
 
رواية رائعة جدا ومشوقة

عالم خيال 14-03-16 09:07 PM

رد: على جناح تنين..
 
شاكرة لك يا أخي..
وأتمنى أن تعجبك رواياتي الأخرى..

الأقلام أذواق 24-04-16 11:12 AM

رد: على جناح تنين..
 
من عربه وخيل ورنيم ومملكة الى تنين فقدت الرواية بهجتها للاسف

عالم خيال 25-04-16 03:58 PM

رد: على جناح تنين..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الأقلام أذواق (المشاركة 3606186)
من عربه وخيل ورنيم ومملكة الى تنين فقدت الرواية بهجتها للاسف

لا أدري سبب شعورك هذا..
هل لأنها خيالية أكثر من اللازم؟
أم لأنها لم تلتزم بعالم القصور والأميرات المتوقع منها كما في البداية؟
هل حاولتِ فهم المغزى من الرواية؟
لا أظن وجود تنين سيقلل من استمتاعك بها..
لكن لو كان ذلك هو السبب، فأنا آسف لذلك..
كنت أتمنى توضيحاً أكثر منك..

نسيم الزهور 08-05-16 11:36 PM

رد: على جناح تنين..
 
سمعت عن هذه الروايه كثيرا والان من ملخصها توحي بروعتها

عالم خيال 12-05-16 05:42 PM

رد: على جناح تنين..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نسيم الزهور (المشاركة 3607878)
سمعت عن هذه الروايه كثيرا والان من ملخصها توحي بروعتها

مرحباً بك في جنبات روايتي..
وأتمنى أن تعجبك للنهاية..


الساعة الآن 01:05 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية