منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f449/)
-   -   119 - بدر الأندلس - آن ويل - روايات عبير القديمة ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t162851.html)

نيو فراولة 14-06-11 03:46 PM

119 - بدر الأندلس - آن ويل - روايات عبير القديمة ( كاملة )
 
119- بدر الأندلس - آن ويل - روايات عبير القديمة

الملخص




السفر ولقاء الآخرين ...الأفق وما يخبئه الأفق وراء المسافة...لا شئ من هذا كان يخيفها, فهي قادرة على مواجهة كل أنواع الأخطار الممكنة ولو أنها فتاة جميلة ولم تتجاوز عمر الربيع , غير أن شيئا في ذاكرتها حملها أخيرا الى أسبانيا - الأندلس وكان القدر بأنتظارها فالتقت صوفيا بكارلوس مرة ثانية وتعرفت معه ومن خلاله الى البلاد التي ترك العرب بصمامتهم على كل خلية منها , الا أن القدر نفسه شاء أن تعود صوفيا بسرعة لتشييع جدها في بريطانيا, وهو أعز انسان لديها. منتديات ليلاس
بعد موته قررت الهجرة الى نيوزيلندا مع عمتها روزا...الى ان سمعت قرعا على الباب..

نيو فراولة 14-06-11 03:55 PM

1 - الحلم والواقع





بلغت صوفيا ليتغوود السابعة عشرة من عمرها , ي االصيف بعدما أنتهت من أكمال دراستها الثانوية وما زالت بعد غير قادرة على أتخاذ قرار بالنسبة الى مستقبلها , وفي هذا الصيف بالذات تلقت صوفيا ما أدهشها من رجل غريب في مكتبة برامفيليد حيث تباع الكتب القديمة.
وهذا ما حدث بعدما ألقت نظرة الى ساعة يدها مدركة أنا أمضت حوالي ساعة بين الكتب , مع أنها دخلت المكتبة لبضع دقائق فقط.
كان ذلك يوم الأثنين وكان جدها قد دعا رجلا أميركيا , هو أمين المكتبة , الى الغداء والرجل وصل على بغتة في صباح اليوم نفسه.
فبقايا الدجاج من طعام أمس لم تكن كافية لأطعام الضيف , لذلك أرسل صوفيا لشراء ضلع خروف من الجزار الذي يملك دكانا صغيرة في الحي المجاور , والآن عليها الأسراع في قيادة دراجتها كي تصل الى المنزل قبل وصول الضيف.
منتديات ليلاس
وضعت الكتاب المثير مكانه وتناولت سلتها الممتلئة أغراضا شتى وسارت بين الممرات العتيقة بأتجاه السلالم الى الطابق الأرضي ومن ثم الى الخارج , وبينما كانت تبحث عن طريق مختصرة في قبو المكتبة أرتطمت برجل شاب طويل القامة , أطول بكثير مما هي عليه صوفيا , كانت ردة فعله سريعة أذ أمسكها بكتفيها وتمكن من تجميدها نحو صدره ومنعها من السقوط , فوجئت بأنزعاج.
في أنزعاج ودهشة وغيظ لفظت بتلعثم كلمات الأعتذار , فألتقى نظرها بعينيه الرماديتين الساخرتين وسط وجهه الأسمر الذي يعلوه شعر أسود كثيف وبدلا من أن يفلت قبضته ويرجع الى الوراء لتتمكن من المرور , أخفض الرجل الغريب رأسه وعانقها.
كان عناقا قصيرا وغامضا , لكن صوفيا باتت مضطربة , تلعثمت من شدة الذعر وظلت بضعة ثوان كأنها مشلولة وفي الوقت الذي بدأ فيه الرجل الغريب بفتح فمه , نجحت في أستعادة كامل وعيها , وأفلتت منه وولت هاربة.
وظل قلبها ينبض بسرعة جنونية عندما أطلّت الى مطبخ المنزل , لكن السيدة ستيل لشدة أنهماكها بتحضير الغداء لم تلاحظ أضطراب أبنة أخيها وتوترها.
في كل حال , هل غريب أن تحمر صوفيا وتلهث بعد قيادة دراجتها صعودا الى قمة التلة التي تؤدي بها الى المنزل؟
ولدت صوفيا في تايبيغ , في ماليا الشمالية ,عندما أعلنت حالة الطوارىء في بداية الخمسينات , بعد خمسة أشهر على ولادتها قتل والدها الجندي وزوجته في كمين وضعه المقاومون.....
ولحسن حظها كان لها جد وعمة للأهتمام بها , ولما كانت صوفيا تسمع أحيانا من رفيقاتها في المدرسة عن تذمرهم أتجاه أهلهم , كانت تتساءل ما أذا كانت أكثر سعادة عند جدها وعمتها روزا مما لو أنها تعيش مع والديها أذا ما زالوا على قيد الحياة.
وحتى سن التقاعد كان جدها محاميا وفي الوقت نفسه كان يلم ألماما كبيرا بمطالعة الكتب النادرة , وكان فرحا للغاية لأكتشافه أن حفيدته ولي هي أيضا الأهتمام نفسه.
أما بالنسبة الى روزا ستيل , عمة صوفيا ,فكانت مطرزة من الدرجة الأولى , ترملت وهي في العشرين من عمرها ولم تتزوج مرة ثانية ,كرّست حياتها لتربية أبنة أخيها وأبداع تحف فنية رائعة في عالم التطريز , وخاصة للكنائس والمباني العامة.
وكانت روزا تسمع دائما من صديقاتها المتزوجات عن الصعوبات التي يواجهنها مع بناتهن , وتستغرب عدم وجود أي مشكلة تواجهها هي مع أبنة أخيها صوفيا.
ومنذ اليوم الذي توجهت فيه روزا مع والدها الى ساوثها متون لأستلام الطفلة اليتيمة من يد ممرضة عسكرية , لم تكف لحظة أن تكون الشعاع الوحيد في وجودهما , هذه الطفلة الممتلئة الهادئة أصبحت فتاة صغيرة مرحة وحنونة , تقضي ساعات طويلة تنظر الى البواخر من المنظار الذي أشتراه جدها خصيصا لها ... كما كانت تجمع الأصداف والحجارة على الشاطىء , وتحيك الملابس للعبتها من فضلات القماش والخيطان التي تحفظها عمتها لها.
منتديات ليلاس
ومع الأيام , كبرت الفتاة وأصبحت تحب مطالعة الكتب مثل جدها , في منزل جدها كان ساعي البريد يصل باكرا , ويتم فطور الصباح في صمت غريب , وبينما كانت روزا تقرأ الصحيفة المحلية , كان السيد لينغوود وحفيدته منصبين في قراءة المجلات النفيسة المتعلقة بهواة الكتب أو الفهارس الرائعة التي ينشرها أمناء المكاتب المختصين بالمنشورات القديمة.
وأظهرت صوفيا سهولة كبيرة داخل المنزل , لكن ذلك لم يكن واردا في المدرسة حيث كانت دفاترها وكتبها مليئة بعلامات التعجب الجافية وعن أشارات الىسوء الطبع : مهملة ! عديمة النظام! نقص في روح التعاون ! عدم أجتهاد! شاردة وحالمة بصورة مستمرة!
قال لها مرة جدها بلهجة متسامحة:
" يا ألهي , يا صوفيا , أنت دائما في القمر , حسب ما أرى!".
" أنا متأسفة يا جدي , أحاول الأجتهاد , أرجوك أن تصدقني , لكن التاريخ مدة مملة مع الآنسة سميث , بالنسبة اليها بوثويل شخصية كريهة , ومن جهتي أنا , لا يمكنني أن أمتنع عن أعتباره رجلا رائعا!".
نظر اليها جدها بحنان وقال:
" معلمتك يا صبيتي أنسانة واقعية , بينما أنت فتاة خيالية , لكن... الوقت ربما يحسن الأمور..........".
لكن الوقت لم يفعل شيئا بصوفيا من هذه الناحية , فمن سن الثانية عشرة الى سن السادسة عشرة طرأت على وجود صوفيا سلسلة متوالية من الولع والأنجذاب الغريب لأبطال التاريخ الراحلين وبينما كانت رفيقاتها يضعن على جدران غرفهن صور الفنانين المشهورين , كان خيال صوفيا المجنّح مرتكزا على ( الكابتن الكبير ) غونزافيه دي كوردو , وعن نابليون وهتلر ولورد بايرون الشرير.
لكن بعد هذا العناق الخاطف في قبو مكتبة برافيلد , تخلت صوفيا أخيرا عن شخصياتها الأسطورية العزيزة على قلبها , لتبدأ بالحلم ببطل من لحم ودم , ولمدة أسابيع عديدة , مباشرة بعد هذا اللقاء السريع , ظلت تحلم وتأمل في رؤيته من جديد , لم تعد تنسى تلميع أحذيتها وغسل شعرها مرتين في الأسبوع , كما بدأت تهتم بتحسين أطافرها وأختيار الملابس الأنيقة وخف! تدريجا أهتمامها بالكتب والمطالعة.
ولا شك أن هذا الرجل الطويل القامة , ذا العينين الرماديتين الساحرتين , هو من أصل أسباني لكون شعره أسود وبشرته سمراء لوّحتها الشمس وكانت صوفيا أكيدة أن هذا الرجل ليس من العامة , أسبانيا كان أم لا , ولا شك أنه ينتمي الى عائلة عريقة , من المستحيل أن تتصوره يرتدي سترة بيضاء منشاة ويضع على ذراعه فوطة وينحني أمام الزبائن ليتلقى البقشيش ! هل هو أذن مدير فندق ؟ رجل أعمال ؟ لا ,كانت بشرته سمراء من شدة تعرضها للشمس وذراعاه قويتين , هاتان الذراعان اللتان ضمتاها للحظة قصيرة.
حلّ الصيف وبدأ الخريف ولم تره , وبات عليها أن تقبل بالأمر الواقع : هذا الرجل سائح مرّ مرور الكرام.
دخلت صوفيا مدرسة السكريتاريا ولم تعد تقول لنفسها بحماس كلما غادرت المنزل : ) ربما سألتقي به اليوم).
لكن ظاّ حسّها يقول لها بأنه سيأتي يوم ويلتقيا من جديد , ولا شك أن هذا الرجل الغريب سيتذكر لقاءهما الأول العابر وسيقع في غرامها.
أهداها جدها كتاب ( حكايات الحمراء ) للكاتب المشهور , واشنطن أيرفنغ الذي نشر عام 1832 , كما أهدتها عمتها روزا دثارا للسهرة مصنوعا من قماش المخمل الأخضر , وطرزت قبعة بحجارة الؤلؤ , وفي اليوم التالي كان عليها أن تجتاز بحر المانش لأستلام وظيفتها في بلاد الأندلس.
فرحت صوفيا بالهديتين وأرتدت الدثار وراحت تدور حوله في الصالون المتواضع كعارضة أزياء , لكن سرعان ما سئمت هذا الدور ورمت القبعة الى الوراء وخرجت تضحك وتقول:
" أليس هذا رائعا يا جدّي ؟".
وبحماس وروع لمست التطريز الفاخر تماما , كما لمست منذ قليل غلاف الكتاب القديم.
قبّلت عمتها وقالت:
" أنت كنز لا تقدّر قيمته , وشكرا على هذا الأبداع افني الذي أخذ من وقتك قسطا كبيرا".
" أنا دائما سعيدة عندما أخيط لك الأشياء الجميلة , يا صوفيا".
" وتسمين ذلك ( خياطة )!".
كانت تعرف تماما أن عمتها فنانة من نوعها , تقنيتها الكاملة وموهبتها المدهشة للرسم يجعلان منها أنسانة مشهورة مثلما كانت عليه ريبيكا كرومتون قبل الحرب.
وأسترخت صوفيا على حافة النافذة تحدق بجدها الجالس على كرسي هزاز , يتأمل حفيدته التي كانت تبدو , بمعطفها الغريب فوق قامتها الممشوقة , مثل عذراء من عصر النهضة.
" لن أزور الحمراء في النهار وذلك بسبب كثافة االسيّاح , أنني أفضل أن أن أزورها في المساء , تحت ضوء القمر , مغلّفة بدثاري , وسألتقي بأمير أسباني , يتوسل اليّ راكعا أن أتقاسم قصره الضائع مع قلب سلسلة جبال السييّرا ..... لكنه سيغيّر حتما رأيه عندما يراني في وضح النهار , في سروال الجينز".
.... والعجوز ما زال ينظر اليها حالما , ويتساءل ما أذا كان سيظل حيا يرزق لدى عودتها , بعد ستة أشهر , رأى وجه صوفيا يتغير شيئا فشيئا ليأخذ تعبيرا بعيدا لم يألف أن رآه من قبل.
كانت الفتاة تتذكر اللقاء العابر الغريب الذي حصل قبل أربع سنوات ونصف , في مكتبة الحي عندما عانقها الرجل الغريب ,ولم تتمكن أبدا أن تنساه كليا.
وخلال أشهر طويلة كانت هذه الذكرى تنمي أحلامها وخاصة أحلام اليقظة , كل مساء كانت تتمدد في العتمة بعدما تطفىء الأضواء وتقص على نفسها حلقة جديدة من مسلسل قصتهما العاطفية , الحوادث تدور في أماكن وعصور مختلفة , في القطب الشمالي , في فيينا الرومنطيقية أو في جزر الكناري ..... فقط الشخصيات لا تتغير , وهي دائما البطلة وهو البطل , لم تطلق عليه أسما , فقط عندما كانت تعطيه دور أمير أسباني في عهد الملكة أيزابيل الأولى , حينذاك كانت تطلق عليه أسم : حاكم سييّرا , يخطفها الى قصره المبني على قمة جبل مرتفع , وكم من مرة تخيلت عملية الخطف ورحلة الخيل التي تليها ومحاولة الهرب , وأخيرا المشهد في القصر المضاء بالشموع حيث كانت هادئة تأكل عشاء لذيذا بأوان فضية مذهبة , وتخاف أن يتركها الخدم وحيدة مع خاطفها ! لكن في غالب الأحيان كانت تغوص في نوم عميق قبل هذه الحظة الحاسمة ....
منتديات ليلاس

وبعد سنة , جاء فرنسي ليحل مكان حاكم السييّرا....... ألتقت صوفيا بالفرنسي غي أوليرون حيث كانت تقضي الصيف عند صاحب فندق من بوردو يملك منزلا صيفيا صغيرا في الجزيرة جاءت لتهتم بالأولاد وتحدثهم الأنكليزية , وغي كان طالبا ويعمل خلال العطلة الصيفية في مخيّم قريب من المنزل , وخلال الأستراحة من العمل كانا يلتقيان ويتناولان وجبات الطعام في المطاعم حيث كانت تستمتع بكل الأسماك وفاكهة البحر , ومن هذه الرفقة التي دامت شهرين , تعلمت صوفيا اللغة الفرنسية وأصبحت تتقنها بطلاقة ظاهرة.
وكانت علاقتهما تقتصر على العناق الناعم في الممرات الهادئة وفوق الصخور القريبة من الشاطىء , لكنها كانت ترفض مرافقته الى التلال الرملية , وكان غي يصرّ عليها قائلا:
" لماذا ترفضين , يا صوفيا ؟ سنكون هناك في هدوء وبعيدا عن المارة".
أجابته ضاحكة:
" ولهذا السبب لا أريد الذهاب".
كانت تحبه كصديق حميم , خاصة عندما يلامس شعرها ويهمس في أذنيها كلمات الحب بالفرنسية , لكن لشدة فرحها بوجودها في الغربة لأول مرة , كانت ترفض غريزيا كل ما يمكنه أن يسيء الى حريتها.
لم تكن تتمتع بعواطف خاصة أو طموحات معينة , كانت تحب أن تتزوج وتنجب الأولاد وتلعب دور الزوجة والأم معا , ولن تشعر بأن حياتها قد بدأت فعلا ألا يوم تقع في غرام أحد ما وبأنتظار ذلك , تريد الأستمتاع بحريتها لتسافر وترى أقصى ما يمكنها أن تراه.
من يدري ما يخبىء لها المستقبل ؟ عمتها روزا لم تعرف سوى حب عابر خطفه الموت.... وأنها ؟ ماذا وهبها الزواج ؟ رحلة الى الشرق الأقصى , وطفلة وموت سريع , بأمكان صوفيا أن تجد نفسها يوما متزوجة من رجل بوليفي يصطحبا الى بلاده , أو بحّار غائب عن المنزل في أغلب الأوقات ربما أضطرت الى السكن في قرية نائية حيث لا يمكنها أن تجد وسيلة للخروج.
أذن لماذا لا تستفيد من عزوبيتها لتزور الأماكن التي طالما حلمت بها , القصور الرائعة التابعة للويس الثاني في بافيير , وقبر لورد بوثوبل في الدانمارك , والمروج في جبال الألب وحقول الثلج الباهرة التي وصفها الكاتب أرنولد لون في أحد كتبه على أنها ( جبال الشباب).
كان السيد لينغوود وأبنته روزا على حق في ألا يقلقا على دراسة صوفيا , ذلك لأن الفتاة تتمتع بصفات أكثر أفادة من الشهادات للحياة اليدوية التي تحب أن تععيشها , أنها فتاة جادة ورصينة وعندها موهبة جمع الأصدقاء في كل مكان , لا تبقى أبدا فترة طويلة من دون عمل , وفي كل بلد تزوره , تجد دائما شابا تصادقه ويساعدها على أتقان لغة البلاد....
بعد غي , تعرفت على آلان في سويسرا الذي علّمها رياضة التزلج وأسرار القواعد الألمانية , وبعده جاء باولو ذو الشعر المجعّد الذي لقّنها قليلا من اللغة الأيطالية , ومن أيطاليا ذهبت الى هولندا , وبما أن الجميع يتكلمون اللغة الأنكليزية أختارت أن تتعلم اللغة الأسبانية بجدية.
وبعد الأحتفال الحادي والعشرين ذهبت صوفيا الى محطة القطارات للقاء صديقتها كاتي ديلهام , وستسافران معا الى كوستا برافا , حيث وجدت كاتي لنفسها عملا مؤقتا في مكتب عقاري يديره رجل أنكليزي , ثم تكمل صوفيا طريقها نحو الجنوب.
قالت لها كاتي في اليوم التالي , بينما كانتا تدخلان السيارة الى الطائرة الشراعية التي تقطع بحر المانش:
" أنت فتاة محظوظة لأنك تملكين سيارة ,فأذا سئمت من مواصلة عملك في مكان ما , بأمكانك أن ترحلي وتبحثي عن عمل آخر في مكان آخر , أما أنا , فسأضطر للبقاء حيث أنا , طيلة الموسم , على الأقل".
" جدّي أهداني هذه السيارة".
أنها سيارة صغيرة مستعملة , وضعت صوفيا في داخلها خيمة وفراشا يملأ بالهواء المضغوط وأمتعة النوم , وكل الوسائل التي تؤمن النوم في المخيم , لأن ذلك يعود اليها أوفر من النزول في الفنادق.
قالت صوفيا:
" لو لم يهدني جدي هذه السيارة , لكنت بعت بعضا من كتبي الثمينة القديمة وأشتريت لنفسي سيارة".
كانت كاتي تحسد صوفيا على حبها للمطالعة وجمع الكتب القديمة النادرة , أذ بأمكانها أن تبيع جزءا منها عند الحاجة , وكانت تحسدها أيضا على حياتها العاطفية الخالية من المعقد والمشاكل , كانت كاتي كلما ألتقت بشاب أعجبها تعتقد أنها وقعت في غرامه , وهذه المغامرات العاطفية محكومة بالفشل الذريع , أما بالنسبة الى صوفيا فكانت تمع كلمات الغزل من أفواه شباب , لكنها لم تكن تنتظر بقلق رسالة أو مكالمة هاتفية , وفي كل حال , تتجاوز صوفيا نقطة اللاعودة مع أي رجل عرفته , كما هو الحال مع صديقتها التي كانت تندم على ما تفعله بمرارة.
ومرة سألتها كاتي :
" أذا هدّد ويليام بتركك لو أستمريت في رفضك له , أعني أذا لم تمارسي معه المغامرة العاطفية , ماذا تفعلين؟".

أجابت صوفيا من دون أي تردد:
" هذا سهل جدا , أتركه , أنا لست واقعة في حبه , وحتى أذا كنت أحبه , لن أستسلم لمثل هذا التهديد الأعتيادي".
" يبدو أنك لا تعانين أي مشكلة مع أصدقائك الرجال , لكن كيف يقبلون أن يتصرفوا معك مثل النسّاك؟".
" مثل النسّاك .... عاجلا أم آجلا سيحاولون حظهم , ويكفي أن أقول لهم كلا بحزم.. لكن أحيانا يرفضون أن يفهموا ....".
" معظم البنات يقلن نعم".
" لست أكيدة من ذلك , وفي كل حال , أنا لست مضطرة أن أفعل مثل الجميع ؟ أفضّل الرجال الذين يهتمون بي لغايات أخرى".
راحت الطائرة الشراعية تزويع في أغبرار من الزبد , وهدير المحرك طغى على جميع الأصوات فسكتت كاتي نادمة لأنها لم تسمع نصيحة صوفيا.
وفي كاليه , بعدما غادرتا الجمارك , قالت كاتي:
" أتساءل كيف هم الرجال الأسبان".
كان صوتها مليئا بالمرارة , أشفقت صوفيا عليها قائلة في أعماقها ( يا لكاتي المسكينة , لم تعد قادرة على أصدار حكم معين , تتأرجح بين رجل سكير ورجل متزوج ! بأنتظار رجل آخر...........).
أجابت صوفيا:
" لم يسبق أن تعرفت عليهم , ما عدا خدام المقهى بالطبع , هل تتذكرين الخادم في مطعم أمبريال الذي جعل ساندرا تغضب حتى النفور؟".
" ستتزوج ساندرا في الشهر المقبل , ألتقيتها صدفة الأسبوع الماضي , تحمل في أصبعها خاتما من الياقوت , لا شك أ خطيبها رجل ثري أنه..".
لم تعد صوفيا تصغي أليها , للمرة الثانية في خلال 24 ساعة كانت مخيلتها تأخذها الى الرجل الغريب , ذي الشعر الأسود الكاحل والعينين الرماديتين , ربما هو السبب اللاواعي في حمايتها من السقوط في الأخطاء التي أرتكبتها كاتي , ذلك لأنها ما تزال تتذكره منذ العناق الأول , صحيح أنها لم تعد تحلم به , لكن لقاءهما السريع عند بائع الكتب جعلها تفكر به كرجل حياتها ولا أحد غيره.
منتديات ليلاس
ظلّ الطقس جميلا طيلة الرحلة كلها , دخلت صوفيا الحدود الأسبانية وبشرتها سمراء من شدة تعرضها لأشعة الشمس , بعد شتاء قارس أمضته في سويسرا في مركز التزلج , فهي الآن في المتوسط مستعدة للأستفادة من البحر والشمس وكل معطيات الريف الأسباني .
وقبل أن تنفصل الفتاتان , كان عليهما تمضية ليلة في بارشلونة عند أصدقاء والد كاتي , وآل هيلنغتون يسكنون في شقة فاخرة وسط المدينة , ولما أوقفت صوفيا سيارتها في مرآب البناية , أطلقت زفرة أرتياح , بعد السير البطيء داخل المدينة المكتظة بالسيارات والناس.
لو نزلتا في فندق صغير , لأمضت صوفيا السهرة في القراءة , بعد نزهة قصيرة قصيرة في الهواء الطلق لتنشط قدميها , لكن هنا , ليس لها الخيار.. كان آل هيلنغتون مدعوين الى حفل أستقبال وأصرّوا على أصطحاب الفتاتين معهما.
قالت لهما السيدة هيلنغتون :
" لن تبدأ الحفلة قبل الساعة التاسعة , وأمامكما الوقت لزيارة المزيّن سآخذ لكما موعدا وستقوم الخادمة بكيّ ملابسكما للسهرة , الأسبانيات نساء أنيقات ويعتنين بشكلهن الخارجي وأناقتهن بشكل دائم".
لكن صوفيا , عكس كاتي , رفضت بألحاح الذهاب الى المزين لأنها تكره ذلك كثيرا , في كل حال كانت قد غسلت شعرها في الصباح وربطته بشريطة زرقاء , يكفي أن تسرّحه جيدا كي تعيد اليه رونقه.
ثم أضافت تقول:
" أفضل أن أستريح , ربما أنام قليلا فأستعيد نشاطي وحيويتي".
قالت ربة المنزل عن عدم رضى:
" حسنا , في كل حال , ستقوم ماريا بتشذيب أظافرك وطلائها , الأسبانيات يعتنين بأيديهن بصورة خاصة".
أخيرا , قررت صوفيا , لأرضاء آل هلينغتون , أن ترفع شعرها كعكة فوق رأسها , وتشكله بمشط قديم من الخزف المزيّن بحبات اللؤلؤ , أهداها أياه ويليام لأنه يحب أن ترفع شعرها كعكة.
عندما رأتها السيدة هيلنغتون تدخل الى الصالون مرتدية الدثار المخملي الأخضر قالت بأستغراب وفخر :
" بالكاد عرفت أنك صوفيا , يا أبنتي العزيزة !".
وتحت الدثار كانت صوفيا ترتدي فستانا ضيقا طويلا وبسيطا جدا , من قماش الموسلين العاجي اللون , بينما أرتدت كاتي طقما مؤلفا من سروال وسترة مصنوعين من الحرير الأحمر الغامق , أما ربة المنزل فكانت ترتدي فستانا من الكريب الأخضر الفاتح وتهتز تحت الماس والزمرد.
" ينقصك بروشا , يا كاتي , سأعيرك واحدامن عندي".
توجهت بها الى غرفة النوم وبقيت صوفيا وحدها مع السيد هيلنغتون الذي قال:
" ستجدين صعوبة كي تعتادي على أوقات الطعام هنا , نتناول الغداء في الثانية والعشاء في العاشرة , وبعد الغداء نأخذ قيلولة , في الصيف لا يمكن العمل في الساعات الحارة , هل تخشين الحر , يا آنسة؟".
" ليس بالتأكيد , أنا معتادة على البلدان الحارة".
بقيا يثرثران الى حين عودة كاتي والسيدة هيلنغتون التي لم تكتف بأعارتها البروش بل نصحتها بوضع زوجي أقراط وأسوار من ذهب , ولحسن حظ صوفيا ,لم تصر عليها المرأة أن تعيرها شيئا من مجوهراتها , كونها رفضت الذهاب الى المزيّن.
منتديات ليلاس
جلست صوفيا قرب السائق في سيارة الليموزين السوداء اللماعة , بينما جلس الباقون في المقعد الخلفي.
كانت حفلة الأستقبال في شقة كبيرة وفاخرة , وفي المدخل المزيّن بالتحف والسجاد الثمين , توافد الخدم لمساعدتهم على خلع معاطفهم وكان أصحاب المنزل من الأميركيين الأثرياء وأصحاب نفوذ , كرهتهم صوفيا من النظرة الأولى , ذلك لأن السيدة كينباكر كانت ترمقها بنظرات غريبة تعني بها أنها لم تعجب ببساطة فستان صوفيا وغياب المجوهرات عنها.
قالت صوفيا وهي تتبع السيدة هيلنغتون وسط الحضور الكثيف:
" يا ألهي , كأننا في قصر الملوك!".
ومما لا شك فيه أن العائلتين ينتميان الى وسط أرستقراطي حيث الغنى والترف وحب الظهور أشياء أعتيادية , وصوفيا التي تضع غنى العقل فوق كل شيء كانت تفضل مثلا الليلك البريّ العطر على الورد الثمين الذي غاب عطره.
وكان معظم المدعوين من الأنكليز والأميركيين , أما الأسبانيون القلائل فكانوا يتكلمون اللغة الأنكليزية بطلاقة , فبدا أذن من المستحيل على صوفيا أن تمتحن معلوماتها اللغوية المنوّعة , وبعد ساعة من الثرثرة الخفيفة والضجة والدخان , شعرت صوفيا بألم خفيف في رأسها.
كانت تحتسي كأسها ببطء وتصغي بأذنين شاردتين , عندما لمحت فجأة على بعد أمتار قليلة رجلا طويلا .. فأشتبكت نظراتها بنظراته.
أنتفضت الفتاة وراح قلبها ينبض بسرعة قوية ,أنه هو .... حاكم السييّرا...
بعد ثوان قليلة أبتسم لها تلك الأبتسامة الساخرة التي ما نسيتها أبدا , فردت عليه بأبتسامة فرحة , لكن كان عليها في الوقت نفسه أن ترد على سؤال طرحه عليها رجل كان يجلس قربها , ولما نظرت من جديد بأتجاهه كان قد أختفى.
وتساءلت صوفيا ما أذا كانت تحلم , لا , لا يمكنها أن تخترع هذا الوجه النحيل الأسمر المضاء بعينين رماديتين غريبتين , وهذه الفكرة وحدها كافية أن ترجّفها.
أمضت الدقائق التالية في زوربعة من الأنفعالات المتناقضة : فرح برؤية بدء المغامرة الكبرى في حياتها , خوف من عدم رؤيته مرة أخرى وخوف من أن يكون متزوجا ..... أو مخطوبا ..... أختفى وبدأ أملها يخيب , الى أن شعرت بيد تلمس كتفها , فألتفتت ورأته , قال:
" مساء الخير , أنها مفاجأة حلوة أن أراك هنا , لن أسألك كيف حالك , لأنه كما تبدين , أنت على أحسن ما يرام , أنك المرأة الوحيدة التي لم تزين نفسها لتلفت الأنتباه.
راحت صوفيا تضحك وتلألأت عيناها الجوزيتين ولفها الفرح , فمدّ لها يده , وفوجئت بنظراته تحدق لبدها اليسرى الخالية من أي خاتم .
" كيف بأمكانك أن تتحملي هذه الضجة ؟ تعالي لنتعشى معا , أعرف مطعما قرب المرفأ حيث بأمكاننا أن نتحدث ونسمع بعضنا".
" أقتراحك يعجبني , لكنني جئت الى هنا مع آل هيلنغتون ومن الصعب أن.........".
" لن يعارضوا على مجيئك معك , سأشرح لهم الأمر".
كانت عيناه تلمعان سخرية , ثم أضاف ضاحكا:
" قدمي لي السيدة هيلنغتون ....... وفي حال نسيت أسمي , أدعى كارلوس ولسينغهام".
كادت صوفيا أن تعطي أسمها لكنها غيّرت رأيها , كيف ستتدبر أمرها؟
لم تكن السيدة هيلنغتون بعيدة عنها , كانت تثرثر مع أمرأة أسبانية قصيرة وممتلئة , رفعت حاجبيهالدى رؤية صوفيا برفقة رجل وسيم.
" هل بأمكاني أن أقدم لك كارلوس ولسينغهام".
" مساء الخير , يا سيد".
أنحنى كارلوس وطبع قبلة على اليد المليئة بالخواتم , وبعدها قدمت السيدة هيلنغتون صوفيا وكارلوس الى السيدة روث سألها كارلوس:
" آمل أن تسمحي لي أن أصطحب الآنسة لينغوود الى العشاء خارجا".
حبست صوفيا أبتسامتها وهي تسمعه يذكر أسمها بسهولة , هذا الأسم الذي كلن يجهله منذ لحظة , ثم أضافت قائلة:
" غدا , سأغادر برشلونة , وليس أمامنا ألا هذا المساء لنجدد صداقتنا".
" طبعا....... طبعا..... الى الغد يا عزيزتي , لا تتأخري في العودة , ولا تنسي أن أمامك رحلة طويلة".
وبينما كانا بأنتظار أحضار معطفيهما عاد يقول بلهجة ساخرة:
" لنر الآن , أين ألتقينا ؟ في دافوس؟ في سان تروبيز ؟ في بروكسيل؟".
" لقاؤنا بعيد جدا ... أستغربت أن تكون تتذكره".
" كيف أنسى عينيك الجميلتين ؟ آه , هذا معطفك".
حمل الدثار من يد الخادم ووضعه على كتفي صوفيا ,ولما وصلا الى الطابق الأرضي , ناوله الحارس محفظة مفاتيحه وقال لها:
" علينا أن ننتظر عدة دقائق , الله وحده يعرف أين تمكنت من أيقاف سيارتي .... أذن , أنت مارّة مرور الكرام , مثلي؟ أين تذهبين غدا؟ هل أنت عائدة الى أنكلترا؟".
" كلا , ذاهبة نحو الجنوب , الى بلاد الأندلس".
" صحيح! وأنا كذلك , ربما نلتقي هناك".
أبتسمت وقالت:
" ربما".
لو أنها مع أي أنسان آخر , لبقيت صوفيا متحفظة وفي الأوقات العادية , لما قبلت بتاتا أن تغادر السهرة على هذا النحو.
أوقفت سيارة فاخرة مكشوفة أمامهما , وبعد أن أعطى الحارس بقشيشا , ساعد صوفي على الصعود في المقعد الأمامي , ثم دخل بدوره أمام المقود , وبعد قليل قالت صوفيا:
" سيارة فرنسية , وأسم أوله أسباني وثانيه أنكليزي , أنت كما يقال مواطن عالمي!".
كان يقود السيارة بهدوء وسهولة يحسد عليها , فبالنسبة الى صوفيا , هذا دليل نضج وثقة , قال شارحا:
" أمي أسبانية , أرسلتها عائلتها خلال الحرب الأهلية الى أنكلترا , وهناك تزوجت من رجل أنكليزي ,لكن والدي قتل في أواخر الحرب العالمية , ولما دخلت الجامعة عادت والدتي الى أسبانيا وتزوجت من جديد , وهكذا كنت أتنقل بين جامعتي الأنكليزية ومنزل والدتي الأسباني , عالمان مختلفان كليا عن بعضهما , وأنت , يا آنسة أي خليط أعطاك هذا الجمال الغريب , النادر؟".
" حسب معرفتي , أنا أنكليزية مئة بالمئة , لكنني ولدت في الشرق الأقصى وأسافر كثيرا في السنوات الأخيرة , لكن هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها أسبانيا".
آمل أن يكون لك في هذا البلد ذكريات جميلة".
وبينما كانت صوفيا تتأمل ملامح وجه رفيقها كانت تقول في داخلها بأن هذه السهرة ستكون رائعة ولن تنساها مدى الحياة.....
وبعدما أجتازت السيارة الشوارع الفرعية للحي الغوطي , وصلت الى الطريق الساحلية .
فقال كارلوس مشيرا الى السفن الراسية على طول الرصيف البحري المضاء:
" هل ترين البواخر الليلية المتجهة الى الباليار؟ ستصل في الغد عند شروق الشمس , وهذه الباخرة هناك تقليد لسفينة ( سانتا ماريا) العائدة الى القرن السادس عشر".
" أي الباخرة التي كان عليها كريستوفر كولومبوس عندما أكتشف أمريكا؟".
" تماما".
المطعم كان نظيفا وعاديا , داخله خليط من الحرفيين والعمال , فوجئت صوفيا برؤية كارلوس يحيي الجميع , كانت العيون السوداء تحدق بها بفضول وتهمس بكلمات الأطراء والأعجاب.
ولما جلسا أمام الطاولة قال لها كارلوس:
" كلمة ( غوابا) تعني حلوة أو جميلة , وتسمعينها دائما في أسبانيا , أما أذا وجهت اليك , فتعني بأنك رائعة".
كادت صوفيا أن تقول له بأن أتقانها الأسبانية شرط أساسي لوظيفتها المنتظرة , لكن الخادم أقترب فأكتفت بالأبتسام .
" ربما أنك تأتين الى أسبانيا للمرة الأولى , عليك أن تتذوقي ( الباييلا ) أنها وجبتنا الوطنية , في المطاعم المخصصة للسيّاح تكون عادية في الأجمال , لكن هنا , أنها رائعة , أنت جائعة , أليس كذلك؟".
" جدا , هل تقصد هذا المطعم دائما؟ يبدو أنك تعرف الجميع؟".
" لا أبدا , لكن في أسبانيا العادات تفرض بنا أن نحيي الجميع في الأماكن العامة , الأسبان شعب حار وصديق , سوف تكتشفين ذلك بنفسك".
جاء الخادم حاملا صينية المشروب وصحنا مليئا بالمقبلات , فأندهشت صوفيا لرؤية الأصفاد المقلية والتمر المحشو بالجوز واللوز , والزيتون الأسود الكبير , والسمك الصغير المقلي والمتبّل بصالصة حمرتء حارة.
فجأة قال كارلوس:
" سأقول لك بصراحة ........أنني لم أعد أتذكر أسمك الأول".
" صوفيا".
" يعود هذا الأسم الى القرن التاسع عشر ويذكر في عدد كبير من الروايات القديمة , يذكرني هذا الأسم بأحدى لوحات الرسام الشهير فرانس كريستوفر جانيك".
" أسمي يعود بالتحديد الى القرن الثالث , وباللغة اليونانية صوفيا تعني ( الحكمة ) ليس هناك أي علاقة لهذا الأسم بشخصيات هذا الرسام النمساوي".
وتساءلت صوفيا في قلق غامض : هل يفضل كارلوس النساء السهلات الفارغات والممتلئات , اللواتي لا يفكرن ألا بأغراء الرجال ؟ هل يعتبرها واحدة منهن؟
وفي هذه اللحظة وصل الخادم حاملا ( الباييلا ) الحارة ,كانت فعلا متعة للنظر , الرز المطبوخ مع الزعفران , وفوقه قطع الدجاج الصغيرة والصدف والكوسى والبازلاء ,والفلفل الأحمر والأخضر المقطعة بشكل أجنحة , والأرضي شوكي والطماطم...
ملأ الخادم صحنيهما وسكب لهما المشروب , وأنصبت صوفيا على الباييلا بنهم وحماس كجارتها الأسبانية السمينة .
وكانت الساعة قد أقتربت من نصف الليل عندما غادرا المطعم .
قال كارلوس مفكرا:
" الآن , أين سآخذك للرقص ؟".
" هذا مستحيل , بعد هذا العشاء الوليمة , بالكاد أستطيع المشي !".
" في هذه الحال , لنقم بنزهة في السيارة".
وأشار لها بأصبعه الى تلة صوب الجنوب.
" من هذا الجبل , المنظر رائع , هيّا سآخذك الى هناك".
هزت رأسها وقالت:
" كلا يا كارلوس , يجب أن أعود , ليس معي مفتاح ولا أريد أن أوقظ الخدم".
لم يصر وأخذ الطريق المؤدية الى منزل آل هيلنغتون.
" غدا , ستأخذين الطائرة؟".
" لا , لا , سأفرا برا".
" هل معك سيارة؟".
" نعم ".
" أين ستتوقفين مساء غد؟ عند أصدقاء آخرين؟".
" آل هيلنغتون ليسوا أصدقائي , أنهم أصدقاء أهل كاتي التي جاءت معي من لندن ووجدت وظيفة هنا , في يافرانش , أما أنا فسأذهب جنوبا من دون عجلة , ليس عندي برنامج محدد , عندما أتعب أتوقف".
أوقف السيارة أمام البناية , ثم هبط معها وقال:
" سأرافقك حتى الباب".
منتديات ليلاس
صعد معها في امصعد , ثم أخذها بين ذراعيه وأبعد قبعتها الى الوراء وعانقها عناقا طويلا ولم يتركها ألا عندما توقف المصعد في الطابق الرابع , رنّ الجرس بنفسه فتحت الخادمة الباب في الحال.
فهمس باألأسبانية قبل أن يختفي في السلم :
" تصبحين على خير , يا حبيبتي".
ظلت صوفيا ثوان جامدة , تسمع صوت خطواته تخف كلما أبتعد , وأدركت أنها لم تشكره على هذه السهرة اللطيفة.
" صوفيا! أخيرا! أين كنت ؟ من هو هذا الرجل الخارق الذي تكرر أسمع مرارا في أذني؟ لم تخبريني أن لك صديقا أسبانيا مليارديرا؟".
كانت كاتي قد رمت المجلة التي كانت تقرأ فيها جانبا وراحت تنظر الى صديقتها بحماس وأثارة , فقالت صوفيا بأستغراب ودهشة:
" ملياردير ؟ لكن عمن تتكلمين , كاتي؟".
بين ذراعي كارلوس أتحد الماضي بالحاضر عناقه الثاني أثار في أعماق الفتاة أضطرابا قويا.
" سمعت السيدة هاكنباكر تقول هذا الكلام للسيدة هيلنغتون , الظاهر أنه العريس الذي تحلم به الأسبانيات العازبات في أسبانيا كلها , وسيشعرن بالغيرة والحسد أذا ما عرفن أنه يغازل فتاة أنكليزية".
قالت صوفيا وهي تجلس على السرير الآخر لتخلع حذاءها الذهبي:
" لا تقولي أقوالا تافهة , يا كاتي أول ما في الأمر هو أن كارلوس ليس أسبانيا".
" لم أقل أنه أسباني , لكن علمت أن والده كان يملك مصرفا أنكليزيا كبيرا للأعمال , أما جده ,, والد والدته , فهو تاجر ثري كبير , وليس من عجب أن يتمتع كارلوس بموهبة أسلافه , فهو يستثمر أمواله في الحجارة أي يملك الفنادق والفيلات في معظم أنحاء أسبانيا , أ رجلك هذا لقطة لا تفوّت".
" أولا , كارلوس ليس برجلي ,ألتقيت به مرة واحدة منذ زمن بعيد , وألتقينا هذا المساء من جديد , أخذني الى مطعم شعبي حيث ذقت الباييلا وأبتعدت عن الملل في حفلة الأستقبال , وغدا كل منا سيذهب بطريقه , والله وحده يعلم أذا كنت سألتقيه بعد هل تفهمين الآن , أنه.....".
" عانقك في المصعد ,أليس كذلك؟".
" كيف..... كيف علمت بالأمر؟".
" حزرت , من النادر أن أراك بهذا التعبير المنفتح والبشوش المرسوم على وجهك الآن .... أين ألتقيت به , المرة الأولى؟".
" في .......سويسرا".
لم تكن صوفيا تحب الكذب , لكن من غير المجدي أن تقول الحقيقة لكاتي , فلا يمكنها أن تصدّق كلامها , أو تستوعبه.
" لا شك أنك أعجبت به وألا لما سمحت له أن يعاتقك , هذه ليست من صفاتك , يا صوفيا".
رفعت صوفيا كتفيها وقالت:
" آه! ليست هذه المرة الأولى التي أعانق بها رجلا , لكنني لا أنوي أن أقيم أي علاقة عاطفية مع أحد ألا أذا كنت أحبه ويحبني".
أحمرّت وجنتا صديقتها وقالت:
" أعذريني , يا صديقتي العزيزة لا شك أنني أغار منك , قصص الحب معي باءت بالفشل حتى الآن , أما أنت فسرت في الطريق الصحيح , وعفتك ستنال جزاءها.
" ماذا تقولين يا كاتي؟ وجبة الباييلا ليست طلبا للزواج......هل هناك أشياء أخرى تعرفينها عنه؟".
" يقال أن كارلوس ولسينغهام يعيش مثل سلطان حقيقي".
" ماذا تعنين بذلك؟".
" ذلك أن لكارلوس عشيقات في كل أنحاء البلاد , لا أقول ذلك عن سوء نيّة يا صوفيا , لكن أذا كان كارلوس يعجبك فمن الأفضل أن تكوني على علم بالأشاعات التي تحاك عنه".
دخلت صوفيا الى الحمام لتغتسل ومن الباب المفتوح سألتها:
" هل تدخل الرجال في هذا الموضوع؟ أعني الأزواج؟".
" كانوا منزعجين قليلا... أنني أقسم أن لكل واحد منهم عشيقة , وبأمكاننا أن نعذرهم بعدما رأينا زوجاتهكم! وأكتفت السيدة الأميركية أن قالت أن كارلوس ناجح في أعماله وقوي جدا , هل تعرفين ما عمره؟".
" ثلاثون سنة , على ما أظن , والآن أعذريني. سأغلق الباب".
وبعد دقائق خرجت صوفيا من الحمام لترى كاتي تغط في نوم عميق . شعرت بأرتياح , فكّت كعكة شعرها وسرّحته مطولا , ثم صعدت الى السرير وأطفأت الضوء وبالرغم من تعبها وجدت صعوبة لتنام.......
سبق أن نبّهت السيدة هيلنغتون الفتاتين بأنها تتناول الفطور في سريرها كعادتها لذلك فوجئت الفتاتان بها تدخل الى غرفة الطعام , ذلك لأنها ترغب في معرفة ماذا جرى لصوفيا في سهرتها برفقة كارلوس.
" هل أمضيت سهرة جميلة , يا عزيزتي؟ في أي مكان تعشيتما؟".
" لا أعرف أسم المطعم , أنه في حي المرفأ , كان مصرا على أن أتذوق الباييلا المحلية".
في هذه اللحظة دخلت الخادمة ماريا حاملة سلة رائعة من القش تحتوي على باقة ضخمة من القرنفل الأحمر والأبيض وفي الحال تعطرت الغرفة بأريجها , وقالت:
" هذه لك , يا آنسة".
ردت صوفيا مسحورة :
" لي أنا؟".
قدمت لها ماريا ظرفا كتب عليه أسمها وعنوان آل هيلنغتون.
فصرخت كاتي :
" يا ألهي! هذه الباقة تكلف ثروة ضخمة في لندن".
قالت السيدة هيلنغتون :
" حتى هنا , القرنفل ليس رخيصا , لا شك أن السيدة ولسينغهام أحب.......".
فتحت صوفيا المظروق وقالت:
" في داخله قصيدة شعرية للماركيز سانتيلان , نكتوبة باللغة الأسبانية وغير موقعة".
سألت كاتي بحماس:
" وماذا يريد منك؟ هل يريد أن يراك اليوم؟".
أضافت السيدة هيلنغتون :
" أذا أردت البقاء هنا بضعة أيام , فليس لدي أي مانع , المنزل يرحب بك".
رفعت صوفيا عينيها ببطء وقالت:
" هذا لطف منك , سيدتي ,لكنني مضطرة الى مغادرة برشلونة صباح اليوم , لقد وعدت بأستلام وظيفتي الأسبوع المقبل , أفضل أن أقوم بالسياحة في طريقي , ويجب أن أكون حذرة , فربما تعطلت سيارتي ...... أنها ......مجرد كلمة صغيرة يشكرني فيها على العشاء اللطيف الذي شاركته به مساء أمس".
بعد قليل , وبينما كانت كاتي توضب حقيبتها قالت لصديقتها:
" لا أريد أن أكون حشرية , لكنك لن تقنعيني بأنه لا يريد أن يراك من جديد بعدما أرسل لك باقة قرنفل رائعة".
" ربما ألتقينا في الجنوب , لكن كيف؟ فهو لا يعرف الى أين أنا ذاهبة بالتحديد , ولا ماذا سأفعل , أذا كان يعمل في الحقل الفندقي , فلا شك أن مركز أعماله سيكون في مالاغا أو ماربيللالا, وهذا بعيد جدا عن مكاني الصغير في كوستا ديل سول .... ماذا سأفعل بهذا القرنفل , يا كاتي؟ ستذبل أذا حملتها معي".
أجابت كاتي مبتسمة:
" يا صوفيا المسكينة! أذا كان من عادتك أن تسحري الأغنياء , فيجب عليك أن تتعلمي كيف تجدين حلا لهذا النوع من المشكل!".
وبعد الساعة التاسعة كانت صوفيا في طريقها نحو الجنوب , فشرح لها حارس البناية من أين تغادر المدينة ,وتم خروجها بسهولة , ولما وصلت قرب الضاحية , وأوقفت سيارتها على طرف الرصيف لتقرأ من جديد بطاقة كارلوس.
ليس من السهل فهم قصيدة كتبت في القرن السادس عشر , وبعد صعوبة جمة , توصلت الى ترجمتها:
" لقد وقعت في حب فتاة من بوريس , قرب لالاما , ولما كنت قد أقلعت عن الأكتواء بنار الحب , أعتقدت أن الحب قد نساني , لكنني ألتقيت بهذا الجمال , كانت نضرة كالوردة , كان وجهها رائعا , لم يسبق أن رأيت لون بشرة كامل كبشرتها......".
وقبل أن تبتعد كليا عن برشلونة , توقفت مرة ثانية , فقد لاحظت وجود أمرأتين تجلسان على كرسيين , في الظل , الأولى عجوز ترتدي اللباس الأسود , والثانية ارأة شابة حامل , عفويا نزلت صوفيا من سيارتها وحملت باقة القرنفل وقدمتها اليهما في لغة أسبانية مترددة:
" شاب قدم لي هذه الزهور الجميلة , لكن علي أن أجتاز مسافة طويلة في هذا الحر وأخاف أن تذبل قبل وصولي , لذا أقدمها لكما ".
صعدت الى سيارتها فتبعتها كلمات الفرح والدهشة .
صرخت المرأة الحامل قبل أن تقلع صوفيا بسيارتها :
" حظ سعيد يا سينيوريتاّ!".
وعند الظهر توقفت من جديد , على بعد أمتار قليلة من الطريق العام والبحر المتوسط يلمع تحت أشعة الشمس , أوقفت سيارتها في زقاق صغير وغيّرت ملابسها وأرتدت بزة السباحة بسرعة وراء ستائر وتوجهت نحو الشاطىء.
وعلى الرمال الساخنة , بدت المياه باردة , لكن صوفيا معتادة على مياه المانش الهائجة والرمادية , فوجدت هذا الماء هنا رائعا....
" لقد وقعت في حب فتاة من بوريس , قرب لالاما.......".
عاد الى ذاكرتها أول بيت من القصيدة بينما كانت تسبح بكسل في الماء الهادىء , وأستعادت لحظة العناق في المصعد , ووجدت أن كارلوس يطابق الصورة التي رسمتها عنه بعد لقائهما الخاطف قبل أربع سنوات , لكن سعادة صوفيا ليست كاملة , هل سيلتقيان مرة أخرى؟
خرجت من الماء وشعرها الطويل ينسدل على ظهرها , وبدأت تشعر بالجوع , على بعد 400 متر لمحت أشارة مطعم فوق بناء صغير أبيض , ربما تجد هناك بعض السندويشات أو البيض المسلوق.
وبينما هي عائدة نحو سيارتها , أنتفضت وبدأ قلبها يخفق بجنون قرب سيارتها , أصطفت سيارة بيضاء كبيرة , ونظرت حولها ورأت رجلا جالسا على كرسي طويل تحت شمسية ملونة , بدأت صوفيا تركض بفرح ظاهر:
" كارلوس! ماذا تفعل هنا؟".
نهض وأعطاها المئزر الأزرق الذي تركته قرب صندلها ونظارتيها السوداوين فشكرته , فقال:
" ألم تتوقعي رؤيتي؟".
" لا , بالطبع! كيف تمكنت من أيجادي؟ هل هذا صدفة؟".
" لا , طلبت من حارس المبنى أن يعلمني بساعة رحيلك , وعلى هذه الطرقات القاحلة من السهل أن أرى سيارتك البريطانية الصغيرة".
ذهلت صوفيا ولم ترد ,أبتعدت بضعة خطوات , عصرت شعرها ووضعت شريطة عريضة فوق جبينها , ثم أرتدت نظارتيها وتقدمت منه فقال:
" لم تسلّمي عليّ باليد بعد , في أسبانيا هذا أمر حتمي".
وضعت يدها المرتجفة في يده السمراء فشدّ عليها مطولا قبل أن يرفعها على فمه , فقالت بصوت خفيض:
" كنت أعتقد أن في أسبانيا , لا تقبّل يد النساء ألا أذا كن متزوجات".
قال في أبتسامة ساخرة:
" لا تنسي أنني نصف أسباني .. لا شك أنك تشعرين بالظمأ , دعيني أقدم لك شيئا".
كان يحمل برادا صغيرا فيه الثلج والمشروب المنعش والبارد والأواني الفضية الملمعة , فأندهشت الفتاة لهذا الترف فقال لها:
" أنها هدية من خالي , فهي قديمة العهد ولم تكن باهظة الثمن في الماضي , أفضلها على الأواني البلاستيكية , هل تعجبك؟".
" آه , نعم!".
سكب لها الشراب الأصفر الذهبي وقدم لها الكوب قائلا:
" خذي , هذا عصير الفاكهة".
" كنت أنوي شراء البيض المسلوق والسندويش من المقهى القريب من هنا".
" يقول المثل الأسباني:
عندما نريد الأبيض , ننال الأسود ,وعندما نريد.......".
قاطعته صوفيا ضاحكة:
" ....... البيض المسلوق , نحصل على القريدس في أناء فضي ...... آه , تذكرت يا كارلوس , لم أشكرك بعد على باقة القرنفل الرائعة وعلى القصيدة....".
" هل تمكنت من ترجمتها؟".
" كلا".
كادت أن تقول له : لا داعي لذلك , لكنها تابعت تقول:
" أنني أتكل عليك في ترجمتها لي".
" بكل سرور , لكن بشرط واحد".
" أي شرط؟".
" أن تقبلي تناول العشاء معي الليلة".
" هذا يبدو صعبا , سيارتك أمتن من سيارتي بكثير و...".
" نعم , لكنني سأتوقف في طريقي في فالنسيا لمدة على ساعة على الأقل , وبأمكاننا أن نلتقي في اليكانتيه , وهناك يوجد فندق جميل على مدخل المدينة , وبأمكانك أن تصليه قبل العشاء بأرتياح .... ماذا , هل أتفقنا؟ سألتقي بك هناك وآخذك لزيارة اليكانتيه؟".
ترددت صوفيا ثم قالت:
" أتفقنا , سأكون سعيدة أن أتناول العشاء معك..... أنت تعمل في الحقل الفندقي أليس كذلك؟ هل هذا الفندق في اليكانتيه ملكك؟".
" كلا , لا أملك هناك شيئا , أعمالي في الجنوب فقط , لكنني أعرف صاحب فندق ميرامار , وسيستقبلنا بترحاب".
قالت صوفيا مبتسمة :
" عندما نريد الأبيض , ننال الأسود....... كنت أنوي التوقف في مخيّم على الطريق".
قال كارلوس وهو يرفع كتفيه:
" المخيّم عملية مريحة للطلاب , وللعائلات التي تحب قضاء عطلة أقتصادية , لكن المخيمات عادة تعج بالسياّح ونادرا ما تتوفر فيها وسائل الراحة , في أسبانيا أفضل شيء يقوم به السياح هو النزول في البرادور ,أي في الفنادق الرخيصة والفاخرة في آن واحد , التي تديرها الدولة , بعض هذه الفنادق كانت في الماضي قصورا قديمة أو أديرة".
كانت صوفيا تحتسي فنجان القهوة , الغداء اللذيذ والأسترخاء في لكرسي الطويل , في الهواء الطلق , قرب شاطىء البحر وفي الحر الشديد جعلها تشعر بالنعاس , بينما رفيقها لم يكن تبدو عليه أي أشارة تعب.
" قدماك رائعتان يا صوفيا , وأصابع رجليك نحيفة وجميلة وغير مشوهة , لأنك لا شك لا ترتدين الأحذية الضيقة؟ أخلعي مئزرك كي تجف بزتك بسرعة".
" نعم , أنت على حق".
ما أن خلعت مئزرها حتى ندمت على ذلك , ليس لأنها خجلت , بل لأن كارلوس راح يتأملها بوقاحة جعلتها تحمر فقالت بسرعة:
" سأعود الى البحر , ما رأيك أنت؟".
" آه لا! ليس الآن , بعد الغداء مباشرة! لنمشي قليلا".
نهض وأمسك يدها , كانت الساعة الثانية , ساعة القيلولة الأسبانية , لا صوت , بل صمت على الشاطىء المهجور ,تقدما ببطء على الرمل الساخن , حلمها أصبح حقيقة واقعية , يمشيان يدا بيد , هذا المساء سيريها كارلوس اليكانتيه وسيترجم لها قصيدة سانتيلان.
" يجب عليك أن تشتري قبعة من القش لتحمي رأسك من الحر ومن آلام الرأس".
" نعم , فلن يتطاير شعري".
توقف وأخذها بين ذراعيه وقال:
" لا أريدك أن تتلفي هذا الشعر الجمل الحريري".
هل سيعانقها من جديد ؟ لا , بعد لحظة أبعدها عنه فجأة وقال :
" من الأفضل الأنطلاق".
وما أن أقلعت السيارة البيضاء نحو الجنوب , حتى عادت صوفيا الى سيارتها وأرتدت ملابسها وبدأت تقود في هذا الحر الحارق.
وصلت الى فندق ميرامار ساعتين قبل الموعد المتفق عليه , أوقفت سيارتها في مرآب الفندق , وظهر في ملامح الموظف أنه كان يتوقع مجيئها , رافقها الخادم الى غرفتها ووراء الستائر لخضراء من النخيل , كان البحر الأبيض المتوسط يلمع كالبرق.
أخذت صوفيا حماما وغسلت شعرها ولما أستعت , لم يكن بأمكانها المطالعة كما هي عادتها لشدة توترها , فهبطت الى البهو لتشتري بعض البطاقات السياحية , كانت منهمكة بأختيار بعض منها عندما لمحت كارلوس يدخل الفندق وحقيبته في يده , آه , هو أيضا سينزل هنا في فندق الميرامار! لماذا تصوّرت أنه سينزل في فندق آخر في اليكانتيه؟
قال مبتسما :
" مرحبا , أنهيت عملي أبكر مما كنت أتصوّر".
كان يسجل أسمه على لائحة الفندق عندما خرج شاب أسباني من مكتب قريب وسلّم على كارلوس , فقام هذا الأخير بالتشريفات , وعرفت صوفيا أنه مدير الفندق , ويتكلم الأنكليزية , ثم أبتعدت عنهما صوفيا لأبتياع بعض الأغراض من محل الفندق , وسمعت الحديث الذي يدور بين الرجلين , سأله كارلوس باللغة الأسبانية عن حال زوجته وأولاده فأجابه المدير:
" وأنت , يا كارلوس , أنت دائما تقرر على الدفاع عن حريتك , أليس كذلك؟ هل تعيش مع هذه الفتاة الجميلة من زمان؟ وكم ستدوم علاقتكما ؟ لا أكثر من أسابيع معدودة , أليس كذلك؟".
" آه , يا خوسيه أنا لا أطارد النساء , لكن أذا لحقت بي فتاة ما , فماذا تريدني أن أفعل ؟ لست بناسك ..... فضلا عن أنها رائعة......هل غرفتانا منفصلتان , على ما أظن؟".
" بالطبع , وأؤكد بأن باب الأتصال سيفتح بسرعة , يا محظوظ!".
" من دون تعليق , أرجوك".
أقترب كارلوس من صوفيا وسألها باللغة الأنكليزية :
" أطلب منك أن تعطيني فرصة ربع ساعة كي آخذ حماما وأغيّر ملابسي , سألتقي بك على الشرفة , حيث نأخذ كأسا قبل الخروج".
ربّت على كتفيها بحنان ومن دون أن ينتظر منها جوابا , أختفى داخل المصعد.

نيو فراولة 14-06-11 04:02 PM

2- برج النجوم





أمضت صوفيا اليل تحت أشجار النخيل , في ضواحي المدينة كانت تبحث عن فندق عندما شاهدت أشارة ( مخيم على بعد 500 متر ) وفضلت أن تتبع الأشارة بدلا من المغامرة وسط المدينة.
وبالرغم من وصولها المتأخر , وجدت مكانا داخل المخيّم , أوقفت سيارتها بعيدا , رمت ما تبقّى من القرنفل وسلة القش وأغلقت الستائر , خلعت ملابسها ودخلت في المقعد الخلفي , غطت نفسها ببطانية وراحت تبكي مطولا على فتت حلمها الجميل الذي حطّمه كارلوس أربا أربا.
وفي اليوم التالي , توجهت الى صالات الحمام التابعة للمخيم ولما نظرت الى أنعكاس وجهها في المرآة , ذعرت للمنظر! جفناها متورمان والكحل وسّخ وجهها , فمساء أمس كانت مضطربة لدرجة أنها نسيت أن تزيل الزينة عن وجهها.
وبعدما أغتسلت وسرّحت شعرها , شعرت بتحسن ملموس , فأبتلعت حبتي أسبرين وأحتست فنجان قهوة ساخن صنعته بواسطة غازها الصغير , لكنها كانت تعرف أنها بحاجة الى وقت طويل كي تنسى الصدمة والذل اللذين تعرضت لهما بالأمس.
منتديات ليلاس
أمضت صوفيا جزءا من الصباح ممددة قرب حوض السباحة تأخذ حمام شمس لتستعيد نشاطها وتستجمع أفكارها المبلبلة , أقتربت منها فتاة فرنسية وسألتها أذا كانت قد زارت ( حديقة القس) الواقعة على الطرف الآخر من الطريق , فأجابتها صوفيا بأنها ستزورها بعد قليل.
قررت صوفيا أن تخصص نهارا للأستراحة بغية الأستعداد للرحيل في الغد , غدا ستبرق الى عملها وتشرح له رغبتها في التخلي عن وظيفتها , ثم تجتاز الحدود من جديد وتبحث عن عمل آخر , في بلد آخر , حتى لا يتسنى لها القاء بكارلوس ولسنغهام من جديد.
لكن , بعدما تنزهت في هذه الحديقة الرائعة , حيث تنبت أشجار الحامض والجزر وشجر النخيل , غيّرت رأيها , لا , لا يجب عليها أحراج موقف عملها الجديد , السيد بيدرو فيفيل , ومن الحماقة أن تغادر أسبانيا من أجل نفاهة رجل جذاب كاد أن يورطها بمأزق لا رجوع عنه , كيف آمنت , بأن رجلا غنيا وجذابا مثل كارلوس يمكنه أن يقع في حبها من اللقاء الأول ؟ ما كان يقوله لصديقه خوسيه مدير الفندق كان حقيقة مرعبة , ذلك لأنها أوحت له بتعلقها فيه , كيف بأمكانه أن يعرف أنها لم تعتبره يوما رجلا غريبا؟
وفي الطرف الآخر من الحديقة , توقفت أمام شجرة نخيل رائعة وقديمة عمرها لا يقل عن مئة وخمسين سنة , وبينما كانت تتأمل جذعها الضخم الطويل , أستمرت في التفكير بخيبة أملها , كانت على أستعداد أن تعترف بخطئها في ما يتعلق بكارثة الأمس , لكن كارلوس نفسه , لا يلام على تصرفه هذا؟ أنه أنكليزي الأب ولد وترعرع في أنكلترا , ولا عذر له , أذا لم يعرف أن يميّز بين فتاة تحب المغامرة ,وبين فتاة مغامرة! حان له الوقت , بمثل سنه , أن يعرف الفرق بين أمرأة مثيرة وأمرأة مستعدة لأن تهبه قلبها.
نعم , لقد أظهرت عن سذاجة متطرفة , آه , كم كان مخطئا في أرساله قصيدة الحب لها!
" لقد وقعت في حب فتاة من بوريس .... أعتقدت أن الحب قد نساني.....".
أي أمرأة تقرأ هذه السطور , لا تتصوّر أن من أرسلها يحبها حتى الجنون؟
وخلال فترة بعد الظهر , نامت القيلولة داخل سيارتها , ولما أفاقت وجدت المخيم قد أمتلأ بخيم جديدة , أخذت حماما سريعا ثم راحت تتنزه في الشارع , فجأة أحست بالجوع وتذكرت أنها لم تأكل شيئا منذ أكثر من 24 ساعة فتوقفت أمام بائع قريب وأشترت كيسا من البلح.
وفي المساء تناولت طعام العشاء في المطعم الصغير التابع للمخيّم , بعد العشاء , أحتست فنجان قهوة وراحت تقرأ الكتاب الذي أهداه لها جدها في عيد ميلادها : ( قصص حمراء) أندمجت في القراءة التي نقلتها الى مئة وخمسين سنة في الماضي الى عهد واشنطن أيرفنغ , ونسيت مؤقتا عذاب قلبها المحطم.
في اليوم التالي , ومنذ السابعة صباحا بدأت آخر مرحلة من رحلتها , عازمة أن تطرد من رأسها كل ما حدث لها منذ وصولها الى برشلونة حتى هروبها من فندق الميرامار , منذ يومين.
وبينما كانت تقطع المسافات الشاسعة بسيارتها في هذه المنطقة الجردية حيث لا ينبت فيها سوى الصبّار والأشواك.
فجأة , نظرت الى المرآة الأرتدادية وشحب لون وجهها , سيارة بيضاء كبيرة تقترب من سيارتها بسرعة رهيبة...
لكن ما أن تجاوزتها السيارة بعد ثوان معدودة حتى أطلقت زفرة أرتياح ذلك لأنها كانت تحمل رقما سويسريا.
وبعدما قطعت الميريا , بدأت تسير على الساحل , أي فرح أن ترى البحر من جديد وبدأت صوفيا تقترب من المكان الذي تقصده , نظرت الى العداد أمامها , لقد أجتازت حتى الآن منذ مغادرة منزل جدها , ما يقارب ثلاثة آلاف كيلومتر , تهيأ لها أنها تقود منذ أسابيع عديدة وحان الوقت للوصول............
وساعة الغداء توقفت في مدينة صغيرة جميلة تدعى أغوادولتشي , كانت في سيارتها الواقفة في الظل , تأمل ما تبقّى من التمر الذي أشترته بالأمس , عندما خرج رجل من البناية المجاورة ونظر بأتجاهها.
أعتقدت في بادىء الأمر أنه كارلوس وأصيبت بخوف كبير , لكن سرعان ما أقتربت منه أمرأة وراحت تحدثه , فتبيّن لها في الحال أنه لا يشبه كارلوس أبدا!
وقالت صوفيا غاضبة على نفسها : أذا كان عليّ أن أنتفض مذعورة كلما ألتقيت برجل طويل وأسمر , ستنهار أعصابي بسرعة!
وفي الخامسة , وصلت أخيرا ألى ( برج الموورز) حيث ستعمل هناك حتى آخر أيلول ( سبتمبر ) , وأمام مكتب الأستقبال كانت أمرأة شقراء نعلق أعلانا عن حفلة فلافنغو , ألتفتت لدى سماعها خطوات وصرخت:
" صوفيا ! لم نكن ننتظر وصولك باكرا!".
" مرحبا يا مارغريت! كيف حالك؟ معم , وصلت أبكر مما كنت أتوقع , آمل ألا تجدي مانعا بذلك؟".
أجابت مارغريت فينغيلد في لغة أنكليزية جيدة:
" لا , أبدا , المخيم لم يمتلىء بعد , كما ترين , لكن مع ذلك هناك أعمال كثيرة لك.... آه , هذا بيدرو".
بيدرو فينغيلد يشبه زوجته , بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر , لحيته طويلة ومجعدة ويرتدي سروالا معرّقا.
" أنا سعيد لرؤيتك , يا صوفيا! هل كانت رحلتك موفقة؟ ما هي أنطباعاتك الأولى عن أسبانيا؟ أنت متعبة , أليس كذلك؟ أجلسي , سأجلب لك الشراب المنعش".
" لن أجلس شكرا , فأنا بحاجة الى بعض الحركة , يا بيدرو , لقد سئمت الجلوس , أشعر برغبة في السباحة , هل هذا ممكن؟".
" طبعا , خذيها أذن يا مارغريت الى حوض السباحة وأنا سأحل مكانك في مكتب الأستقبال".
رافقت مارغريت صوفيا الى سيارتها قائلة:
" الشاطىء المخصص لرواد المخيم الذي يقع وراء التلة , لكننا حصلنا على أذن في أستعمال حوض السباحة التابع للبرج , فقط عندما لا يكون أحد هناك".
وكانت تشير الى برج المرصد الذي يعلو المخيّم , ثم أضافت تقول:
" أنها أحدى المنازل الصيفية العائدة الى رجل أسباني ينتمي الى عائلة عريقة ونبيلة , في الصيفالماضي لم يقض فيها ألا بضعة أيام خلال شهر أيار ( مايو) أحيانا يعيرها الى أصدقائه , لكن في معظم الأحيان , تكون مهجورة".
أخذت صوفيا من سيارتها كل ما تحتاجه للسباحة , تابعت المرأة الهولندية تقول:
" سأدلك على خيمتك , وهناك تغيرين ملابسك , أنها صغيرة وآمل أن يكون في أمكانك التحرك داخلها , لكن موقعها ممتاز , أذ تقع في الظل وبعيدا عن البنايات المجاورة , وهذا أمر هام للغاية , ذلك لأن سكان تلك البنايات يقيمون الحفلات التي تدوم حتى الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل , وهذا الضجيج المحتم يزعج سكان المخيم الذين يفضلون النوم باكرا والنهوض باكرا".
وبعدما أرتدت صوفيا بزة السباحة , تبعت مارغريت في طريق صخرية تصل الى جدار أبيض مرتفع , أخرجت المرأة المفتاح من حقيبتها وفتحت بابا ضخما وأشارت الى صوفيا بالدخول.
لكن الفتاة الأنكليزية لم تحبس دهشتها وهمست بأستغراب:
" آه , يا مارغريت , أنه مسكن يشبه الجنة!".
وسط ساحة تحيطها الأزهار العديدة , يعكس حوض السباحة على سطحه الهادىء السماء الزرقاء , ووسط الحوض ينتصب سيل صغير , كبست مارغريت على زر مخبأ وراء الأوراق التي تغلف الجدار , وأنبعثت المياه فجأة بأتجاهات عديدة لتسقط من جديد في الحوض آخذه كل ألوان قوس القزح.
قالت مارغريت بعد نصف ساعة:
" لو كان هذا المسكن ملكي , لسكنته طيلة أيام السنة".
كانت الأمرأتان جالستين على حافة الحوض تؤرجحان أقدامهما في الماء وتتأملان الأنعكاسات الملونة.
سألت صوفيا بفضول:
" وكيف هو داخل المنزل؟".
" المنزل مليء بالأثاث الفاخر واللوحات الرائعة والبساط القديم , البرج مكيّف صيفا شتاء , فالجو رائع والرطوبة معندلة , البستاني يأتي كل يوم للأهتمام بالحديقة , كما هناك أمرأة من القرية مهمتها الأهتمام بالمنزل كله , فصاحبه رجل غني وماركيز".
" هل هو متزوج؟".
" نعم , ولديه الكثير من الأولاد , زوجته شابة وجميلة , بينما هو يكبرها سنا أنه قصير وسمين , لكنه قوي ..... وأصلع ومهما يكن في الأمر فأنني أفضل العيش مع زوجي في المخيم!".
وفي المساء تناولت صوفيا العشاء مع آل فينغيلد , وقبل النوم تمددت على كرسيّ طويل , وراحت تتأمل ( برج الموورز ) المضاء بنور القمر , وأطلقت لمخيلتها العنان .
منتديات ليلاس
في اليوم التالي بدأت العمل , أخذه بيدرو في جولة داخل المخيم وقدّمها الى الموظفين , معظمهم من الأسبان يعيشون في المناطق المجاورة , كان هناك زوجان أسبانيانللأهمام بالحمامات , وعجوز يدعى ماريو للأهتمام بالحديقة ورمي النفايات , وكذلك المسؤولون عن دكاكين المخيّم , والطبّاخ , وخدم المطعم.
وبعد الغداء , بينما ذهب بيدرو الى الحوض للسباحة , ثم الى القيلولة , بقيت صوفيا مع مارغريت في مكتب الأستقبال لتتعلم طريقة تشغيله , وفي آخر فترة بعد الظهر , أصطحبتها مارغريت الى مدينة صغيرة مجاورة تدعى المونيكار وكان ذلك في ساعة النزهة المسائية , الشوارع والأرصفة مليئة بمجموعات من الناس المشتاقين الى الأستمتاع ببرودة الجو وأشعة شمس المغيب.
بعد مرور أسبوع على وجود صوفيا في المخيم , أستطاعت أن تستوعب عملها ومتطلباته بصورة أكيدة , لكن الصعوبة الوحيدة التي كانت تعترضها هي اللهجة المحلية وأمكانية فهمها.
مرت ثلاثة أسابيع وهي تتكيف مع الجو بصورة عدية , وذات صباح جاءت الخادمة التي تتولى السهر على برج الموورز تعلم مارغريت بأن أصدقاء الماركيز سيصلون في المساء لقضاء يومين في الفيللا وهذا يعني أن آل فينغيلد ومن يتبعهم لا يحق لهم أستعمال حوض السباحة في مدة أقامة أصدقاء الماركيز في منزله.
وفي فجر اليوم التالي توجهت صوفيا نحو الشاطىء لتستحم كعادتها , بيدرو ومارغريت لا يستحسنا الشاطىء الرملي الرمادي وخاصة من جهة أنحاء الساحل على المنحدر الصلب حيث يصب في المياه العميقة وحيث كانت الحصى المكدسة تجعل المشي صعبا وشاقا , خاصة أذا كان المتجول عاري القدمين , ويا للخيبة لن يتصور أن كوستا ديل سولمجموعة خلجان صغيرة رائعة مغطاة بالرمل الذهبي الناعم!
أما بنظر صوفيا , فشفافية الماء والغوص في أعماقها بواسطة القناع والمجذافين , أمور تكفي لأخفاء الشوائب الشكلية , كانت تحب الحانة الصغيرة المبنية من القش الواقعة تحت ظلال بعض الأشجار , على مقربة من الشاطىء الرملي , وكان مدير الحانة شاب أنكليزي يدعى مايك , يعامل سكان المخيم بلطف وأبتهاج.
وبينما كانت تعبر قرب جدار حديقة البرج سمعت صوتا غير أليف فخففت سرعتها, فأتت الى مسمعها ضحكات رجل مسرور , أبتسمت صوفيا وقالت لنفسها , لا شك أن ضيوف الماركيز من الشباب المرحين , أو ربما زوجان في شهر العسل..
وسرعان ما قتم وجهها وراحت تفكر بقدرها .....كانت تفعل جاهدة كي لا تزيد حزنها ثقلا وذلك بالصمت وعدم أظهاره للغير , لكنها كانت أحيانا تشعر بألم وحزن كبيرين.
في هذه الساعة المبكرة كانت الحانة مقفلة , وعلى الشاطىئ الفارغ من الناس , لم تر سوى حمار أبيض مربوط بحبل في شجرة صغيرة , لما رآها , راح ينهق بألم , فأسكتته بأعطائه قطعة طبّار وبعض الجزر , وبعد قليل كانت تعوم في الماء الفاترة تتأمل صفا من الأسماك الصغيرة الملونة.
عادة , عندما تسبح قبل فطور الصباح , لا تحمل معها منشفة أو مئزرا ذلك لأن الناس ما زالوا نياما ولا أحد على البحر , وفي طريق العودة تتوقف لتأخذ حماما وتغسل شعرها قبل التوجه الى جيمتها.
وفي هذا الصباح بالذات , ما أن خرجت من الماء حتى رفعت القناع فوق جبينها وصعدت المنحدر المليء بالحصى , وفي يدها المجذافان وفي قدميها صندل رقيق , وبينما كانت متوجهة نحو المخيم , سمعت شخصا يناديها:
" لحظة , يا آنسة , من فضلك!".
أنتفضت من شدة المفاجأة ورفعت عينيها نحو الصوت ورأت على بعد عشرة أمتار من فوقها رجلا واقفا بين تلة الصخور , ينظر اليها بقسوة: كارلوس ولسنغهام.
بذعر وصمت رأته يقفز من صخرة الى أخرى حتى وصل قربها وقال بصوت بارد:
" ....... آه لم أمن اتوقع أن أراك هنا , للحقيقية تملكين عبقرية المفاجآت , تظهرين بطريقة غير منتظرة وتختفين هكذا".
" ربما فوجئت برحيلي السريع من فندق ميرامار , لكن الأمر كان طبيعيا وفي غاية البساطة , للأسف من أجلك لأنك تعرفت على فتاة تفهم الأسبانية , فسمعت حديثك مع السيد غارسيا وفهمت محتواه , وخاصة فيما يتعلق بموضوعي أنا , لا , يا سيدي , لم أنجذب اليك بغية أغوائك , أنت أخطأت كليا وأنا أكره الرجال الذين يعتبرون النساء كدمى!".
قررت أكمال سيرها لكنه أمسكها بذراعها وقال:
" لماذا لم تقولي هذا الكلام في تلك الليلة بالذات ؟ لكان ذلك أفضل من الأختفاء من دون شرح أو كلمة".
" لا تقل لي أن هذا التصرف أزعجك , ورحت تفتش عليّ في كل مكان!".
" بلى , بحثت عنك كثيرا , أرجوك , صدقيني".
" لا أصدقك.... والآن , أرجوك أن تتركني أسير بدربي , من فضلك".
" حسنا , لكن لا تحاولي الهرب , لأنني سأمنعك من ذلك".
" وتجرؤ على سؤالي لماذا تركت فندق ميرامار من دون شرح أو كلمة!".
أمتلأت عينا كارلوس الرماديتان غضبا وقال:
" هل تصورت أنه بأمكاني أن أحصل عليك بالقوة؟".
" كنت دائما أفضّل ألا أتورط بمثل هذه الأمور".
سمعا صوت تساقط الحصى فوقهما , فألتفتا ليريا فتاة صغيرة ترتدي سروالا قصيرا وقميصا وتقترب منهما , شعرها الأسود الطويل مجدول ومرفوع فوق رأسها ولون بشرتها يشبه لون القهوة مع الحليب.

ولما وصلت قرب الصخور التي قفز فوقها كارلوس , ترددت , فأسرع الرجل اليها وحملها , ثم وضعها على الحصى بلطف , لم يكن عمرها يزيد عن الثانية عشرة , فقدمها كارلوس لصوفيا:
" أقدم لك ماري لويز , أبنة أبن عمي , صاحب البرج , وهذه الآنسة لينغوود".
قالت الفتاة باللغة الأنكليزية مع أنحناءة صغيرة:
" صباح الخير , يا آنسة".
وبعدما حيّتها باليد ألتفتت صوفيا نحو كارلوس وقالت له بأختصار:
" أنا مستعجلة ولا أريد أن أصل متأخرة لموعد فطور الصباح , في كل حال المناقشة أقفلت, الى اللقاء , يا سينيور!".
وفي فترة االصباح أرسلها بيدرو لتضع المال في مصرف المونيكار , لدى عودتها وصل بعض المخيمين الجدد الذين لا بد من الأهتمام بهم , ولم يتسن لمارغريت أن تعلمهم بالخبر الكبير ألا في فترة الغداء عندما قالت:
" بيدرو , نحن مدعوون مساء اليوم الى العشاء في فيللا البرج , جاء كارلوس وليسنغهام الى المخيم خصيصا من أجل ذلك , لن يبقى هنا سوى يومين فقط , وأنت مدعوة أيضا , يا صوفيا , طرح علي أسئلة عديدة بخصوصك , أنه شاب جذاب وبأمكانكما الأتفاق كليا.
" ألتقيت بهذا الرجل على الشاطىء صباح اليوم , لكنني لا أحب هذا النوع من الرجال , ستعتذرين منه يا مارغريت في المساء لأنني لن ألبيّ دعوته".
أندهشت المرأة الهولندية وقالت:
" لا شك أنك تمزحين , لا يمكن لأحد أن يكره كارلوس , أنه لطيف وطيب , وحسب ما لاحظت أنه يشعر نحوك بأعجاب كبير".
" أنت مخطئة , في كل حال , أنا لم أعجب به ولا أرغب في رؤيته".
قال بيدرو وهو ينظر اليها بتأمل:
" أنت تضعيننا الآن في موقف حرج , لا شك أنك تعرفين ... أن هذا المخيّم هو ملك كارلوس , صحيح هذا المشروع لا يدر له أموالا كثيرة كغيره من مشاريعه العديدة , لكنه يهتم به جيدا , وفي السنة الماضية حضر الى المخيّم عدة مرات بصورة فجائية ليقوم بتفتيش دقيق لمعرفة ما أذا كان كل شيء على ما يرام".
" المخيّم له؟ تصورت أن الماركيز صاحبه!".
" لا , لا , الماركيز يملك فقط البرج والحديقة وكارلوس يملك المخيّم والأبنية المجاورة".
قالت مارغريت:
" هذا يعني أن كارلوس يملك عملنا ولا مجال لأزعاجه وجرح شعوره , هل تفهمين؟........ وبالرغم من أحساسك أتجاهه , فى يجوز أن تحرمي نفسك من عشاء لذيذ ومن فرصة التعرف الى التحف النادرة الموجودة داخل الفيللا".
ثم أضافت لتلفت نظر الفتاة وقالت:
" هناك كتب عديدة , نادرة ومغلفة بأرقى ما يمكن".
لم تكن صوفيا تريد أساءة شعور آل فيننغيلد , فرضخت للأمر الواقع , لكنها لم تمتنع عن طرح السؤال التالي:
" لا شك أن بينكما وبينه عقد عمل؟ لا يمكن لكارلوس ولستنغهام أن يطردكما أذا ما وجد رغبة بذلك؟".
" طبعا , هناك عقد بيننا , وحتى أذا لم يكن هناك عقد بيننا , فليس كارلوس من نوع الرجال الذين يتصرفون هكذا من دون حجة ملموسة , من هذه الناحية , أنا مطمئنة البال . منذ سنتين ونحن نعمل عنده , وأذا أعجبه عملنا , ربما أقترح يوما ما على بيدرو مركزا ثابتا ومرموقا , ذلك لأننا نحب البقاء في أسبانيا , لم نعد قادرين على تحمل طقس هولندا وشعبها , أنت تعرفين جيدا الجو هناك , يا صوفيا! وهذا يطبّق تماما عل الوضع في أنكلترا".
" معك حق , لكن بنظري لا يكفي هذا كحجة كي تغادرا الوطن بشكل نهائي .... وكوستا ديل سول لن تبقى كما هي الآن , بعد مرور الزمن".
كانت الساعة قد اجاوزت التاسعة والنصف عندما صعد الثلاثة نحو البرج , أرتدى بيدرو بزّة فاتحة بينما أرتدت مارغريت قميصا من الدانتيل فوق تنورة طويلة كعرّقة وسرّحت شعرها عند الحلاق.... أما صوفيا فأرتدت أيسط الملابس : فستان أبيض من قماش الكاباردين , صندل أحمر وحقيبة يد حمراء , عقد ذهبي طويل معقود مرتين حول عنقها وربطت شعرها الى الوراء بشريطة من القش.
ووراء الباب العام , كانت الحديقة تعبق بالعطر الناعم , طرق بيدرو الباب , وفي الحال فتحت ماري لويز وأدخلت الضيوف الى بهو بشكل دائرة , ومن ثم صعدوا السلالم الحجرية الى الطابق الأول حيث تبعوا الفتاة الصغيرة الى الصالون , وفوجئت صوفيا وهي تنظر الى النافذة وترى خليجا واسعا يطل على البحر.
نهض كارلوس ليسلّم على ضيوفه ويقدّمهم الى عمته العجوز الأنيقة.
وخلال العشاء بينما كان الرجلان يتحدثان في الأعمال ومارغريت تثرثر مع الفتاة , ألتفتت السيدة ماك كينلاي نحو صوفيا قائلة:
" هذه أقامتك الأولى في أسبانيا , أليس كذلك , يا آنسة؟ لكنك تتكلمين لغتنا جيدا".
" ما زلت أجد صعوبة في فهم لهجة هذه المنطقة".

" أعرف ما تشعرين به , ذلك لأنني لاقيت الصعوبة نفسها في بداية زواجي , مع العلم أننا وظّفنا مربية أنكليزية في المنزل , لكن عندما كنت أسكن مع حماتي في أسكتلندا , قرب داندي , لم أكن أفهم كلمة واحدة يقولها اخدم".
" ولا شك أنك وجدت صعوبة أيضا في التأقلم مع المناخ الأسكتلندي؟".
" لم يكن هناك سبب لذلك , لأن زوجي كان يعمل في السلك الدبلوماسي , ومعظم القت كنا نعيش في الخارج , أما اليوم فقد تقاعد , وبعد رحلاتنا المستمرة , كنا نرغب بأن نستقر نهائيا في بلدتنا الأسكتلندية المعزولة , لكن بعد شتاء بارد وطويل شعرت برغبة ملحة أن أرى الربيع من جديد في بلاد الأندلس , نحن الآن عند جد ماري لويز , ولما جاء كارلوس وأخبرني بأنه ينوي القيام بجولة نحو الساحل من سان بيدرو حتى مونتريل , شعرت بحاجة أن أرى ما فعلته السياحة بهذه المنطقة القاحلة قديما , لكن زوجي العزيز أعتبر أن هذه الرحلة ستتعبه فجاءتماري لويز مكانه".
" أذن, ماري لويز هي حفيدتك, أليس كذلك؟".
" كلا , أنها حفيدة أخي..... وأنت يا آنسة , هل تنتمين الى عائلة كبيرة؟".
أجابت صوفيا بأختصار:
" كلا".
لم يكن من طبيعتها أن تكون منغلقة , لكن , بسبب كارلوس , فضّلت ان تكون حذرة ومتحفظة".
سألتها السيدة ماك كينلاي :
" ومن أي منطقة أنت؟".
" من منطقة ساسيكس".
وكي لا تستمر العجوز بطرح الأسئلة ,رأت صوفيا أن تخبرها عن البلدان التي أحبت أن تعيش فيها.
وبعد تناول القهوة أعتذرت الفتاة الصغيرة وتمنت للحضور ليلة سعية ثم وجّهت سؤالا لصوفيا:
" هل تحبين رؤية غرفتي يا آنسة؟".
لم تتمكن صوفيا من أيجاد عذر للرفض , فتبعتها حتى الطابق الثالث المخصص للأولاد , ولدى رؤية الأسرة ذات الطابقين والطلاء اللماع للأثاث المصنوع من خشب الصنوبر , خيّل اليها أنها في باخرة.
قالت ماري لويز عابسة متأسفة:
" أفضل النوم على الشرفة والمجيء الى هنا مرات عديدة لأنني أحب السباحة جدا".
" ألا تذهبين الى المدرسة؟".
" وضع لنا والدنا معلما خاصا , أما أخي فيدرس في معهد بسويسرا , وسيلحق به ستيفان عندما يبلغ الثالثة عشرة من عمره , أمي ترى أن الفتيات عليهن البقاء في المنزل , وأنت , يا آنسة , هل ذهبت الى المدرسة؟".
" نعم , لكنني كنت أعود في المساء الىالمنزل........ هل بأمكاني النظر الى كتبك؟".
وبينما كان ماري لويز تخلع ملابسها كانت صوفيا تلقي نظرة الى الرفوف المليئة بكتب الأولاد , أنها موسوعة ضخمة ومتنوعة ,وفي أحدى الكتب القديمة قرأت في الصفحة الأولى أهداء بأسم كارلوس جايمس ولسينغهام , فتعجبت وتساءلت أذا كان كارلوس يحب المطالعة هذا لا يتفق مع طبعه الحيوي النشيط.
فجأة سمعت طرقا على الباب , فقالت ماري لويز في الحال:
" أدخل".
دخ كارلوس وقال:
" هل تحبين , يا صوفيا , رؤية المنظر من قمة البرج؟ ستأتي ماري لويز معنا , فلن تتورطي أذا جئت!".
أكّدت الفتاة بشدة:
" آه , ليس هناك خطر بوجود الدرابزين ".
تسلّق الثلاثة سلّما خشبيا , وبعدما رفع كارلوس باب السقف , خرج الى السطح ومدّ يده ليساعدهما.
ومن هذا الأرتفاع بدت الأبنية القريبة من المخيّم كأنها علب كبريت , ومن بعيد كانت أضواء مدينة المونيكار تشع , أتكأت لحظة على طرف الدرابزين وقالت وهي تنظر الى البحر الهادىء:
" الحجر ما زال ساخنا".
كانت ماري لويز تتأمل النجوم وشعرها الجميل يتطاير فوق قميص نومها القطني المعرّق ثم قالت:
" لماذا لا تسمح لي أن أنام هنا , يا عمي كارلوس؟ ماذا يمكن أن يحدث لي؟".
" لا شيء , لكن والديك لن يوافقا , هيّا بنا الآن , حان الوقت كي تنامي , فلم تأخذي القيلولة بعد ظهر اليوم".
" تصبحين على خير , يا آنسة".
قالت صوفيا بسرعة وهي غير راغبة في البقاء وحيدة مع كارلوس:
" ولكننا سنهبط معك!".
ولما وصل الجميع الى غرفة افتاة , شدت ماري لويز على يد صوفيا بعد أنحناءة صغيرة , بينما أرتفعت على رؤوس أصابعها لتطبع قبلة على خد كارلوس الذي أنحنى للحال.
أستغربت صوفيا عندما نزل كارلوس بصمت الى حيث بقية الحضور ولم يلمّح لما جرى بينهما من حديث في الصباح.
لكن قبل أن يدخل الى الصالون قال:
" أذا أحببت أن توافينا الى حوض السباحة غدا قبل الفطور , فأنت على الرحب والسعة".
" شكرا , لكنني أفضل البحر".
كانت السيدة ماك كينلاي وحدها في الغرفة , تضع نظارتين سميكتين وتحيك النول.
ولما لاحظت أندهاش صوفيا , راحت تشرح قائلة:
" أضطر بيدرو ومارغريت أن يغادرا بسرعة , فقد جاء شخص من قلب المخيم ليخبرما بحدوث مشاجرة عنيفة داخل غرفة الموسيقى , لا شيء يستحق القلق , على ما أظن , لا شك أن السيد بيدرو قادر على وضع حد لذلك بسرعة كبيرة".

" أذن من الأفضل أن أنسحب الآن , لا شك أنهما بحاجة اليّ".
قالت المرأة العجوز :
" لا ضرورة للذهاب بهذه السرعة , فالسيد فينغيلد لم يكن يريد أن تأتي زوجته معه , لكنها أصرّت لأصابتها بألم حاد في الرأس ..... تعالي وأجلسي قربي , يا عزيزتي , هل تسمحين أن أكمل عملي ؟ أنني أطرّز شرشف طاولة كهدية عرس وما زلت متأخرة".
جلست صوفيا قرب العجوز ولاحظت أنها تحقق قطعة رائعة الجمال : تحفة تطريز فنية , تذكرت شيئا ما وبعد لحظة تفكير سألتها صوفيا فجأة :
" هل أنت المرأة التي طرّزت شرشفا رائعا لمباراة التطريز العالمية الأخيرة؟ أسمك يلهمني بذلك".
" نعم , كيف يمكنك أن تكوني على علم بهذه الأمور؟".
" رأيت صورتك في جريدة مهنية , وتذكرت عندما نظرت الى التحفة التي بين يديك".
خلعت السيدة ماك كينلاي نظارتيها وقالت مبتسمة :
" هل تنتمين الى الجمعية؟ كنت أعتقد أن النساء الأعضاء متقدمات في السن".
" لست عضوة في الجمعية , لكن عمتي التي ربتني هي عضوة هناك , لذلك أعرف أمورا كثيرة حول هذا الموضوع .... تدعى عمتي روزا ستيل".
صرخت العجوز في أندهاش:
" روزا ستيل! أي حظ لك! أنها المطرزة الموهوبة والنابغة في عصرنا! أن ( ماضي وحاضر ومستقبل فن التطريز ) كتابي المفضل الذي لا يغادرني أبدا..........".
رأت كارلوس يتقدم منها ويضع كأسا على الطاولة الصغيرة قرب المقعد وثالت:
" شكرا , يا كارلوس".
وينما كانت صوفيا ترد على أسئلة الهجوز حول عمتها , كانتتعي بوضوح نظرات كارلوس الكثيفة تحدّق فيها , كانت تخاف جدا وهي تفكر بأنه سيقترح عليها بكل تأكيد أيصالها الى المخيم.
قالت العجوز لكارلوس :
" مسكين أنت يا كارلوس , لا شك أن حديثنا يضجرك".
" لا أبدا , عمتي جاسينتا , ليس هناك أي ضجر بالنظر الى أمرأتين جميلتين".
راحت العجوز تضحك من أعماق قلبها وتقول:
" يا أيها المخادع المتأنق! هذا الغزل الأسباني! الشاب الأنكليزي لا يغازل بهذه اللياقة أليس كذلك يا صوفيا؟".
" أنا أوافق معك , الشاب الأنكليزي لا يعرف ملاطفة النساء أو الغزل , لا شك أن ذلك عائد لكون الفتيات الأنكليزيات عامة لا يقعن في فخ الكلمات الجميلة بل يعرفن تماما أن يتحاشين اللطف الزائد , في غالب الأحيان".
وافقت معها العجوز قائلة:

" أن ما تقولينه صحيح , لكن لا يجب أن تقع المرأة في عكس ذلك , أنا شخصيا لا أثق بالرجال غير القادرين أن ينطقوا بكلمة لطيفة للمرأة أو أن يقدموا لها شيئا ما يختلف عن الأشياء الضرورية , أذا أهداني أدوار طناجر مثلا , لرميتها من النافذة ! لكن لحسن حظي , عندي زوج رائع , عنده موهبة أنتقاء الهدايا التي تعجبني , أنظري , ماذا أهداني بمناسبة عيد ميلادي الأخير .... أليس هذا رائعا؟".
ومدت يدها نحو صوفيا لتريها كشتبانا من ذهب في علبة عاجية متناسقة.
ولما أعربت صوفيا عن رغبتها في الذهاب , أصرّت السيدة ماك كينلاي أن ترافقها حتى البهو , وقالت لها:
" أخبري عمتك كم فرحت بكتابها , أنها حقا نابغة , كما أنني أنظر بأعجاب للرسمة التي حيكتها لكرسي صغير والتي عرضتها بوضوح في الكتاب".
" قبل مغادرتي أنكلترا أهدتني دثارا من الحرير , وقبعته مطرّزة باللؤلؤ ".
" هل تحملينه معك؟".
" نعم".
" آه , أحب أن أراه , هل هذا ممكن؟".
أقترح كارلوس في الحال :
" لماذا لا تتناولان طعام الغداء معا في الغد فسأكون متغيبا طيلة النهار".
" غدا , أعمل وقت الغداء , لكن أذا كنت قادرة على المجيء الى المخيّم في الصباح , سيسرني أن أريك الدثار".
" أتفقنا يا عزيزتي , في العاشرة , ما رأيك؟".
" تماما , الى اللقاء يا سيدتي , شكرا لهذه السهرة الرائعة".
ثم ألتفتت نحو كارلوس الذي همّ بالخروج معها:
" لا ضرورة لمرافقتي , يا سيد , فالقمر بدر والطرق مضاءة , لن أضيّع طريقي! سأصل في أقل من دقيقتين".
أجابها كارلوس بسخرية :
" لكن , يا آنسة , تعلمت من أسلافي أن أصرّ في مرافقتك حتى بابك".|
ألتفت نحو عمته وقبّل يدها قائلا:
" لا شك أنك ستنامين فبل عودتي , يا عمتي جاسينتا , تصبحين على خير ونوم سعيد".
ولما أصبح في الحديقة , عاد يقول:
" لماذا تدعينني الآن ( سيد ) وأنت عانقتني منذ وقت غير بعيد؟".
" لم أكن أعرف حينذاك أنك ستصبح رب عملي".
" لكنني لست برب عملك , مديرك هو بيدرو".
" لا تلعب بالكلمات , أنت صاحب المخيّم".
وصلا أمام الباب , لكن , بدلا من أن يفتحه , كبس كارلوس على زر , فأستعاد سبيل الماء حياته وراحت المياه تتصاعد بعدة أتجاهات نحو السماء المنجمة قبل أن تسقط من جديد قطرات برّاقة.

" ليس كوني رب عملك يجعل تصرفك جافا ومتوترا معي , أليس ما أقوله صحيحا , أنما حديثي المشؤوم مع خوسيه غارسيا هو الذي ما يزال يحزّفي قلبك , أليس كذلك؟ ماذا كان حدث لو لم تسمعي ذلك؟".
" لكانت النتيجة نفسها, لكنني , كنت غادرت الفندق متأخرة".
" كيف تتكهنين بالأمور مسبقا ؟ لا , أنتظري دقيقة واحدة! أسمعيني".
كادت أن تفتح الباب , لكنه بحركة سريعة وأكيدة , أتكأ عليه ليمنعها من الخروج , فقالت:
" لم يعد لي الخيار!".
" لنفترض أننا تناولنا العشاء في الكارلتون , ثم رقصنا ساة أو ساعتين , وبعدها عدت بك الى الميرامار وبدأت ...... أغازلك , ماذا كنت ستفعلين ؟ هل كنت غادرت الفندق؟ في الثانية بعد منتصف الليل؟ كان بأمكانك أن تقولي ( لا ) بحزم وتغلقين باب غرفتك , من دون أي غضب , فكّري بالأمر بصدق , لو لم تفهمي الأسبانية , لكان هذا ما حصل أليس كذلك؟".
أجابت بصوت خفيض:
" سأكون صريحة معك , ربما كانت الأمور قد جرت كما تقول , لكنني كنت غادرت الفندق في الصباح الباكر متمنية ألا أراك أبدا في حياتي".
" صوفيا , ما بك , أنت متأخرة قرنا بكامله , لكنك تعرفين أنك جميلة ولا تقولي أنني أول رجل تغزّل بك...".
" لم أقل هذا".
" لكنك تصرفت كأن ما أقوله صحيحا".
" كنت أعتقد أنك...... لست كالآخرين".
" لماذا؟".
" ذلك أنه .......... آه , هذا صعب أن أقوله ....... ألم تأمل يوما أن يحبك أحد من أجلك وليس من أجل ثروتك أو جاذبيتك....؟".
أختنق صوتها وتلألأت الدموع في عينيها وهمست قائلة:
" دعني من هذه الأمور يا كارلوس أنا متعبة وسأستيقظ باكرا في الغد".
فتح الباب وبصمت هبطا التلة , وبعد قليل , أضافت صوفيا :
" في كل حال , لم يحدث ما كنت تتوقعه , ولم أستحسن أبدا أنك أردت أضافتي الى حريمك , بعد يوم واحد من معرفتي بك".
" حريمي؟ لكن عمّ تتحدثين؟".
أجابت بمرارة:
" مع العلم أن شخصا قد نبّهني هو السيدة هلينغتون لكنني كنت كالحمقاء , رفضت أن أصغي أليها , مهما يكن من أمر أن تصرفك أتجاه النساء غير لائق".
" قبل حادثة الميرامار , كانت نظرتك مختلفة".
" لم أكن أفهم نواياك , كنت تبدو..... بعينيّ , كنت أعتقد..".
" أنك تحيرينني , لكن...... كنت تعتقدين أنني جاد....".
" لا أعرف...... كان ذلك محتملا.......".
في هذه اللحظة تعثرت قدماها وأوشكت على السقوط لو لم يتمسك بها كارلوس , فجأة وجدت نفسها بين ذراعيه.
" سيظل هذا محتملا...... ما دمت تعاملينني كأنني دون جوان خطير.......".
رفع وجهها ووراءه ينتصب البرج المضاء , كانت قربه الى درجة أنها كانت تسمع دقات قلبه , وخلال لحظات قصيرة كانت متّخذة بالذكريات التي حاكتها حول أميرها البطل , الى درجة أنها فقدت دفاعها.
لكن لحظة الضعف هذه كانت قصيرة , فتقلّصت فجأة وتخلّصت من قبضته وقالت في جفاف:
" لم أعد أصدق شيئا , لم أنس بعد ملاحظة خوسيه غارسيا عن حبك للحرية , لا يهمك ألا كوني فتاة جميلة وحسب , والباقي ترميه في البحر!".
لم يرد كارلوس عليها , فتابعت تقول:
" ربما كنت أول فتاة ترفضك , ولهذا السبب ما زلت تتذكرني!".
أدارت له ظهرها وأبتعدت بخطى مستعجلة.
وفي اليوم التالي دخلت مارغريت الى الحمام وفوجئت بصوفيا تغسل أسنانها , تثاءبت وقالت:
"مرحبا , يا صوفيا! نهضت باكرا جدا , أعتقدت أنك ستغطين في النوم , متى عدت بالأمس؟".
" في حوالي منتصف الليل هل هدأت الأمو في صالة الموسيقى؟".
" كانت الأمور على ما يرام قبل وصول بيدرو".
" هل كان رأسك يؤلمك حقا؟".
" كلا , أردت أن أكون لطيفة لأتيح لك أمكانية التنزه مع كارلوس تحت ضوء القمر".
" لكن للأسف , هذا لم يحصل , ليس كارلوس من طراز الرجال الذين أحبهم".
في العاشرة تماما , وصلت السيدة ماك كينلاي مع ماري لويز التي قالت بحماس:
" آه , كم أحب العمل هنا في المخيّم والعيش في هذه المقصورة , سنرحل متى عاد عمي من المونيكار , وسنذهب الى غرانادا لرؤية عمي أدوارد وعمتي جيزيلدا".
وبينما كانت الفتاة الصغيرة تنتقل في المقصورة بفرح كانت العجوز تتمتع بالتطريز الذي حيكته روزا ستيل باللؤلؤ.
منتديات ليلاس
وبعد الظهر , كانت صوفيا في عطلة, فأمضت وقتها في البحر تتأمل الأسماك واضعة القناع الخاص على وجهها , ومن حين الى آخر كانت تعود الى الشاطىء أو الى الحانةلتحتسي عصير الليمون وتثرثر مع مايك.
قالت لها مارغريت لدى عودتها الى المخيم:
"جاء كارلوس ليودعك ,فقلت له أنك على الشاطىء , هل رأيته؟".
" كلا".
وبالرغم من أرتياحها لرحيله , شعرت صوفيا بتوتر شديد طيلة السهرة.
بعد العشاء كتبت رسالة الى عمتها وأخبرتها عن السيدة ماك كينلاي من دون أن تخبرها عن كارلوس , ولما جلست في فراشها راحت تستمتع بقراءة كتاب واشنطن أيرفينغ , ففي بادىء الأمر كانت تفضل قراءة الجريدة المحلية والمجلات الأسبانية لتحسّن لغتها وتتعلم المفردات المصطلحة.
كانت تقرأ قصة ( أسطورة الأميرات الثلاث) المكتوبة قبل مئة وخمسين سنة ,وذكّرتها القصة بما يحدث معها مع كارلوس ولسينغهام , الأميرات الثلاث وقعت بحب ثلاثة سجناء حرب وعشن التجارب التي تشبه ما تعاني منه اليوم صوفيا , كتب المؤلف:
( الصعوبات المعاشة كانت تزيد من نشوة العلاقة وتقوي الشغف الذي حلمت به بشكل فريد , ذلك لأن الحب كان يعيش بأستهتار داخل العوائق والحواجز ويتكيّف مع الأرض القاحلة).
أليست هذه قصة مغامرتها؟ قالت ذلك لنفسها وتنهدت , ألا تشبه مشاعرها أتجاه كارلوس العش المعلق بالصخورالذي يتعرض لكل أنواع العواصف والأمواج والريح؟ وحتى حادث الميرامار لم ينجح في أقتلاعه ؟ لا شك أنها توصلت الى خنق أهتمام كارلوس العابر بها , لكنها لم تتوصل بعد أن تطفىء الأحاسيس التي يلهمها أياها , كان يجب أن تفرح لرحيله وعدم أمكانية رؤيته في المستقبل....... لكنها حزينة حتى البكاء........

نيو فراولة 14-06-11 04:07 PM

3- حول مفهوم السعادة


وفي صباح اليوم التالي , وصلتها بطاقة من كاتي ديلهام تطمئنها فيها عن فرحها بمركز غملها في كوستا برافا , ورسالة طويلة من جدها , مليئة بالنكات المزاحية الرهيبة!
وخلال فترة الغداء , ذهب بيدرو وزوجته الى حوض السباحة , وبقيت صوفيا في مكتب الأستقال , بات المخيّم مكتظا وكانت مهمتها أن تدل الزائرين الجدد الى مخيم آخر في الجوار.
وبينما كانت صوفيا تنتهي من كتابة رسالتها التي بدأتها في الأمس , سمعت شخصا يناديها بالأسبانية , فرفعت نظرها ورأت رجلا ملتحيا يبتسم لها , وعلى ذراعه قيثارة , حافي القدمين , يرتدي قميصا مطرزة وسروال جينز وأصابع يده ممتلئة بالخواتم, كان يشبه الهبيين, لكنه كان يبدو نظيفا.
فقبل أن يتسنى لها الكلام , قال باللغة الفرنسية:
" أنت تحيرينني , يا حلوة! ما هي جنسيتك؟ خليط مثلي , أليس كذلك؟".
" أنا أنكليزية وأتكلم الفرنسيى قليلا".
" أنا أتكلم الأنكليزية أيضا , فلا سبب أذن في ألا نتفاهم , أدعى ساشا لوسيان , جئت لأكمل طاقم الموظفين!".
" آه نعم , نحن في أنتظارك".
منظره ربما أزعج سكان المخيم وسينظرون اليه بأستهتار ! لكن ما دام بيدرو هو الذي وظّفه , فلا شك أنه صالح للعمل!".

" أسمي صوفيا لينغوود , أهلا وسهلا بك الى برج الموورز , هل جئت من بعيد ؟ هل أنت جائع , عطشان.....؟".
" لن أرفض كأس عصير".
وبسرعة فتحت صوفيا البراد الصغير قربها وأخرجت منه زجاجتي عصير وكأسين.
" جئت من غرناطة , هل تعرفينها؟".
" لا , لكنني أنوي زيارتها , كيف تجد مدينة الحمراء , هل أعجبتك؟".
" لم أزرها بعد, لا أحب الأماكن المكتظة بالسيّاح , غير أن الطرقات الجبلية رائعة حقا , حملني الى هنا سائق شاحنة , فغنينا وشربنا ورقصنا وأكلنا ( الكوريتنزو ) هل تحبين الكوريتنزو؟".
" نعم كثيرا".
فتح حقيبته الصغيرة وأخرج منها قطعة لحم مقدد وسكينا صغيرة قطع بها شرحة صغيرة وقدّمها الى الفتاة وهي ما تزال على حافة السكين......
وخلال أيام معدودة , أخبرها ساشا أمورا كثيرة عن أسبانيا , وبدلا من أن يأخذ طريق الساحل , كما فعلت هي , أجتاز وسط البلاد , كانت محطاته فنادق صغيرة وحانات رخيصة , رأى أسبانيا الحقيقية خارج المناطق المخصصة للسياح والأسبانيين الذين يمضون الأجازات , وبعد سماعها هذا السرد الوصفي للقرى الجبلية والوديان المتوحشة , شعرت برغبة أن تقوم بهذه الجولة المرّة المقبلة .
وبالرغم من قمصانه المزركشة والمطرزة بجميع الألوان , ورغم كونه حافي القدمين وأصابع يديه ممتلئة بالخواتم , أصبح ساشا معروفا ومحبوبا من قبل سكان المخيم , ما عدا مايك , صاحب الحانة الذي كان يكرهه ويناديه ( الخنفوس المشؤوم".
قالت له صوفيا عندما سمعت مايك يطلق على ساشا هذا اللقب:
" شخصيا , أنا أحبه وأحترمه , أنه لطيف , نظيف ومرح بصورة دائمة , ماذا عندك ضدّه؟".
" أكره هذا النوع من الرجال الهامشيين الذين يتحدون العادي والمألوف ويسافرون في أوروبا بصورة حمقاء , فيثير الأشمئزاز في نفوس المارة حيثما ألتقوه".
" ساشا يعمل مثلنا ليعيش من عرق جبينه , صحيح أنه يرتدي الملابس الغريبة , لكن شعره قصير ونظيف".
وفي أحد الأيام أقترح ساشا على صوفيا أن يصطحبها للعشاء في المونيكار , في مطعم مشهور بمطبخه الرائع.
فقالت مارغريت بأستغراب:
" آه , أرى أنه يحب الفتيات ! كدت أتساءل ......أنه أنسان غريب.... هل ترين منه أي أنجذاب؟".
" لا أعرف , للحقيقة , لم أفكر بالأمر , أراه لطيفا وأنسانا عاديا".
" هل تعرفين عنه شيئا؟ عندما طرحت عليه أسئلة عن عائلته , أخبرني قصصا تشيّب شعر الرأس , ربما كان ظاهريا يسخر مني".
" لا شك أنه يأخذ وقته في الحياة ما دام لا يزال شابا , ربما أنحدر من عائلة رفيعة الشأن , وبعد سنة أو سنتين , سيبيع قيثارته ويصبح رجلا محترما مثل والده".
" تحيرينني أحيانا... كارلوس لا يعجبك ولم تلاحظي بأن ساشا شاب جميل , ماذا تريدين ؟ لا تقولي أن مايك هو من طرازك؟".
" يا ألهي , لا لا أشعر برغب بالوقوع في الحب بالوقت الحاضر , هذا كل ما كان في الأمر , هدفي ألا أتزوج قبل سن الخامسة والعشرين".
في أعماقها كانت تقول , لو كان كارلوس ذلك الرجل الذي طالما حلمت به , لتزوجته من دون تردد.....
وصل ساشا الى خيمة صوفيا ليأخذها الى العشاء , كان يرتدي أحذية رياضية وسروالا أبيض وسترة من المخمل الأزرق المرقّط بالبرتقالي والمطرز بالذهب أشتراها كما يقول من سوق البالة , في باريس.
قالت صوفيا متعجبة:
" حسب رأيي , أن سترتك تحفة يوغوسلافية الصنع تعود الى منتصف القرن الماضي".
وهي أيضا أختارت ملابس غريبة لتندمج مع جوّه , فأرتدت سروالا أزرق وقميصا برتقالية وعقدت على خصرها منديلا طويلا نقشت عليه الرسوم الفارسية.
وبعد أن تنزّها في المدينة وفي الشوارع الضيقة والمتعرجى , توجها الى مطعم يدعى ( غاسكونية ) حيث حيّت صوفيا الزبائن كما فعل كارلوس في مطعم برشلونة الواقع على المرفأ , وبدأ الناس يعبرون عن ذهولهم وأندهاشهم من سترة ساشا الملونة.
فجأة سألها بعد أن تفحّص ملامح وجهها:
" تبدين حزينة , يا صوفيا , ماذا حدث؟".
" أنني أموت جوعا , هذا كل ما في الأمر! وأنتظر بفارغ الصبر شرحات اللحم الطرية.....".
وبعد هذه السهرة , أصبحا صديقين حميمين يخرجان غالبا معا يكتشفان صالات الرقص والحانات الصغيرة اللطيفة حيث كانت تقدم لهما الوجبات المحلية , أحيانا كان يناديها ( يا حلوتي ) لكن ألى هذا الحد تصل علاقتهما , كان يعاملها مثل أخت له , كان يعشق الرقص ولا يرقص ألا الرقصات الحماسية الأيقاعية الصاخبة , لم يأخذها بين ذراعيه , حتى ولو كان وحده معها , لذلك أستمرّت صوفيا في الخروج معه لأنه يريحها من الأضطراب الذي حدث لها بعد مغامرتها مع كارلوس.
ويوم الأحد بعد الظهر , عندما يعج شاطىء البحر بالناس , توجهت صوفيا الى البرج لتسبح في الحوض هناك , حلّ مكانها ساشا , أما بيدرو ومارغريت فقد ذهبا الى مدينة مجاورة لزيارة أصدقاء لهما حيث سيقضيان الليل.
منتديات ليلاس
وبعد أن سبحت صوفيا بفرح , راحت تجفف جسمها تحت الشمس ثم جلست على المقعد الهزاز في الظل , وراحت تقرأ قصة ( أسطورة التمثالين السرّيين).
كانت تقلب صفحة في الكتاب عندما أحست بشيء يتحرك في الجهة الثانية للحوض , ثم سمعت شخصا يغطس في الماء , أنه كارلوس , أرتعبت قليلا وراح قلبها يخفق بقوة لكن, عندما خرج كارلوس من الحوض , راحت تحاول أخفاء أضطرابها.
" مرحبا , يا صوفيا , كيف حالك؟".
" جيد , شكرا , لم تعلمنا الخادمة بمجيئك , وألا لما.....".
" لم يكن الأمر ضوريا , جئت هذه المرة وحدي , وبأمكانك أستعمال الحوض متى شئت".
أبتعد بخطى عريضة ليجلب منشفته , للمرة الأولى تراه في بزة السباحة , كان جميلا مثل تمثال يوناني ولا يوجد في جسكه أي علامة للشحم أو الدهن , أختفى داخل المنزل وهو ينشف شعره , ما العمل؟ الأنسحاب بهدوء ؟ أم البقاء والتصرف بلامبالاة؟
وقبل أن تصر الى القرار , ظهر كارلوس من جديد مرتديا سروالا قصيرا أبيض اللون وحاملا أيرقا وكأسين.
وبسرعة وضعت صوفيا قرب المقعد الهزاز حقيبة البحر وقبعتها وآلة التصوير , كي تمنع كارلوس من الجلوس قربها , كانت تنوي أن تأخذ بعض الصور للبرج لترسلها الى جدها الذي يحب التاريخ وخاصة قصة غزو العرب لأسبانيا والآثار التي ركوها فيها.
تصرّف كارلوس كأنه لم يلاحظ شيئا فسألها وهو يجلس على الطرف الآخر للمقعد:
" كيف هي الأمور داخل المخيّم؟".
" تماما , المخيم مليئ , معظم زواره سيبقون هنا مدة أسبوعين أو ثلاثة وهناك من يتوقف ليلة قبل أكمال رحلته الى مراكش , أشعر بالأندهاش المستمر لرؤية الناس يقضون جزءل كبيرا من عطلتهم على الطرق".
" نعم , أنا من رأيك , فالرحلت المنظّمة بالطائرة ليست أغلى ثمنا بل هي أقل تعبا".
قدّم لها كوبا من عصير البرتقال المثلّج وشاهد الكتاب الذي كانت تقرأ فيه عندما فاجأها:
" ماذا تقرأين؟".
" مجموعة قصص عن الحمراء".
تناول الكتاب ونظر اليه بأعتناء وبعد قليل سألها:
" من أين لك هذا الكتاب؟".
" أنه هدية".
وضع الكتاب على الوسائد ونهض:
" أنتظيني سأعود في الحال".
وتساءلت صوفيا أذا كان كارلوس يحب قراءة الكتب القديمة وتذكرت اليوم الذي ألتقت به في المكتبة التي تبيع الكتب النادرة , لماذا لم تفكر بالأمر من قبل؟
منذ اللقاء الأول الخاطف حتى اللقاء الثاني في برشلونة , لم تفكر صوفيا فيه ألا كرجل أعمال كبير , هل من الممكن أن يكون أيضا رجل أدب وفن؟
عاد كارلوس حاملا كتابا ضخما وضعه أمام الفتاة وقال:
" الكتاب نفسه , لكن الغلاف مختلف".
رفعت صوفيا الكتاب السميك المجلّد بجلد مغربي أزرق قاتم , حفر في وسطه العنوان بالأحرف المذهّبة , فسألته صوفيا:
" هل الكتاب يخصّك ؟".
" لا , لكنه موجود لدى العائلة من زمان بعيد , ما رأيك لو نتبادل الكتابين".
" لكن الكتاب يخص أبن عمك , ألا يرى مانعا أن تبدّله بكتابي؟ فغلاف كتابي ليس جميلا".
" آه , لا يهمه الأمر , في كل حال سأعطيه كتابي.......".
" تعني أنك تريد كتابي لك ؟ لكن لماذا ؟".
فكّر لحظة وأنتظرت صوفيا الرد وقلبها يخفق بجنون :
" فقط من أجل أن أتذكّر هذا الصيف في كوستا ديل سول ".
" أنه هدية بمناسبة عيد ميلادي ولا مجال أن أستغني عنه , لا داعي للقلق , لن أتركه في الشمس ولن أضعه في حقيبة البحر مع حاجياتي المبللة , لكن.....".

توقفت فجأة عن الكلام , أذ أنفتح باب الحديقة ودخل ساشا قائلا:
" صوفيا , أتصلت مارغريت لتقول أن حادث سيارة قد حصل لهما وبيدرو دخل المستشفى ولا نعرف أذا كان وضعه خطيرا , لكن ما عرفته بأنه سيبقى في المستشفى بعض الوقت".
" يا ألهي , ومارغريت؟".
" لم تصب بشيء , فقط الصدمة كانت قوية عليها".
فجأة أدركت أن الرجلين لا يعرفان بعضهما البعض, فقامت بمهمة التعارف , ماذا ستكون ردة فعل كارلوس أتجاه العقد الصفدي المزركش الذي يضعه ساشا فوق بزّته المعرّقة؟
لكن كارلوس لم يعط أهمية لشكل الرجل بل كان قلقا لما حدث .
فسأله:
" هل أتصلت بك مارغريت من المستشفى ؟ هل قالت لك كيف بأمكاننا اللحاق بها؟".
هز رأسه قائلا:
" كلا , ستتّصل مرة ثانية عندما تحصل على التفاصيل المحددة , ليست وحدها بل مع أصدقاء لها".
أضافت صوفيا قائلة:
" كان عليهما أن يقضيا الليلة عند عائلة هولندية".
قال كارلوس :
" سأوافيها لأرى ما أذا كانت بحاجة لشيء.......".
" لا تنسي كتابك".
أبتعد قائلا:
" أذا أتصلت مارغريت مرة ثانية , قولي لها أنني آت اليها".
بينما كانت صوفيا تهبط التلة مع ساشا قالت له:
" على فكرة , كارلوس ولسينغهام هو صاحب المخيم , ومن حظ مارغريت أنه هنا , ربما أضطر أن يجد شخصا يحل مكان بيدرو خلال مكوثه في المستشفى".
كانت صوفيا في مقصورتها عندما سمعت طرقا ناعما على الباب , وعرفت من منظار الباب أن الطارق هو كارلوس بنفسه ففتحت له.
قال لها:
" عظيم أنك ما زلت مستيقظة , الحانة لن تقفل قبل منتصف الليل , تعالي لنأخذ فنجان قهوة وسأخبرك ما حدث .... هل تعرفين أين يكون ساشا في مثل هذا الوقت؟".
" في الحانة , من دون شك , لقد أقفلنا مكتب الأستقبال منذ دقائق معدودة".
لكن ساشا لم يكن في الحانة , فأقترحت صوفيا أنه من الممكن أن يكون في مقصورته , فأجابها كارلوس:
" آه , لا يهم , سنعلمه بالأمر غدا , ماذا تأخذبن؟ قهوة ؟ عصير؟".
" قهوة من فضلك".
لم يكن في الحانة ألا شاب وفتاة , من الجنسية الألمانية , قال كارلوس:
" بيدرو بحاجة الى بضعة أسابيع كي يصبح بأمكانه الوقوف على قدميه , أصيب بكسور في ذراعه وأضلاعه وبجروح خبيثة في وجهه وساقيه , السيارة صالحة للرمي , وبأعجوبة نجت مارغريت ولم يحدث لها شيء , لكنها ما زالت تحت تأثير الصدمة , أذ أعتقدت أن زوجها قد مات , أما سائق السيارة الأخرى فمات للحال ...... ومن حسن الحظ كانت زوجته هادئة الأعصاب , فساعدت مارغريت أن تخرج من حالتها المضطربة".
" كيف وقع الحادث؟".
" كانت السيارة الأخرى تسير بسرعة جنونية , والظاهر أن الرواليت تعطلت , ففقد السائق توازن سيارته , رأى بيدرو السيارة تأتي صوبه , وقام بجهد كبير ليتحاشى الأرتطام المباشر , هناك محكمة وأنا أعرف محاميا مشهورا سيدافع عنهما".
جرع قهوته بتوتر من شدة التعب والأرهاق , فسألته صوفيا:
" هل تعشيت؟".
" كلا".
" بما أن الخادمة لم تعرف بمجيئك , فلا شك أنها لم تحضر لك العشاء.....".
" أحضرت بيضا وفطيرة بأمكاني أن أحضر لنفسي عجّة".
أبتسم وأضاف:
" هذا لطف منك أن تهتمي براحتي".
أخفضت عينيها , ثم قالت:
" هل بأمكانك أن تجد شخصا يحل مكان بيدرو ومارغريت؟ ساشا وأنا بأمكاننا تدبير الأمور لأيام قليلة , لكننا سنكون بحاجة لبديل ليستمر العمل كما يجب".
" أنوي أن أحل مان بيدرو بنفسي , ومن يكون البديل مكان مارغريت , سنرى......".
قالت بدهشة وأستغراب:
" أنت! لكن...... لا شك أن أعمالك كثيرة وبحاجة لوجودك ! أعتقدت أنك تملك سلسلة فنادق وأن....".
" نعم , لكن حضوري ليس ضروريا في الموسم السياحي , الحاجة الماسة ستكون خارج الموسم عندما يطلب مني تغيير وتوسيع المشروع .. وتنظيمه .... في كل حال , كنت أنوي قضاء هذا الشهر كله في البرج , سأستفيد من عطلتي للعمل داخل المخيّم وأقامة دراسة حيّة له".
شعرت صوفيا بحيرة وأرتباك , الألمانيان قد غادرا الحانة , حادم المقهى بدأ بتوضيب المكان ويستعد للأقفال , أنهت صوفيا قهوتها ونهضت عن الكرسي وقالت:
" شكرا لأعلامي بالأمر , أنا فرحة لأن المسألة ليست خطرة بالنسبة الى بيدرو".
نهض بدوره وقال:
" مسلء الخير يا صوفيا".
" مساء الخير".
دخلت مقصورتها وعقلها مبلل حزين , لماذا قرر كارلوس أن يقضي شهرا بكامله في البرج ؟ هل قرّر أن يقهرها بعد أن جرحته في صميم داخله بحديثها الأخير معه؟ شعرت بالوهن لمجرّد كونها ستقاوم رجلا تعتبره جذابا ومهددا لسلامة تفكيرها , هل ستتغلب مبادئها على أنفعالاتها الصادرة من صميم القلب؟
منتديات ليلاس
وكلما فكرت بالأمر , كلما أقتنعت أن لكارلوس حجة مقنعة كي يمضي شهر آب( أغسطس ) في كوستا ديل سول بالذات, صحيح أن برج الموورز أفضل من الفنادق الفاخرة وحوض السباحة يعزله عن الأختلاط بالسياح , لكن المونيكار يؤمها الطلاب المفلسون والعائلات المتواضعة ذات الدخل المحدود بينما في المدن الأخرى المستوى أرقى كثيرا.
لم تنم جيدا تلك الليلة , وفي اليوم التالي , كانت الساعة الخامسة والنصف عندما توجهت الى الشاطىء , لم يكن هناك ألا صبي في العاشرة من عمره يصطاد السمك عن الصخور المتدلية من أسفل البرج , وفي هذه الساعة المبكرة كان الخليج هادئا , لا صوت مذياع ولا ضجيج محركات يحطم الصمت , وما أروع أن يتقدم المرء بهدوء وبطء في الماء الفاترة التي تتشقق كحفيف الحرير.
وبعد نصف ساعة من السباحة لاحظت صوفيا أنها لم تعد وحدها مع الصيّاد الصغير , رأت كارلوس في بزة السباحة ومنشفة على كتفه يثرثر مع الصبي , كانت تنظر اليهما من بعيد وهي تسبح , الى أن نظر كارلوس بأتجاهها وراح يلوّح لها بيده.
حينئذ أبتعد عن الصياد وغطس في الماء , كان يسبح بسهولة وحرية , مقتربا منها , وفكرت في الحال أن تعود بأسرع ما يمكن الى الشاطىء , ذلك لأنه من الصعب عليها مقاومة رجل جذاب , وهي عائمة فوق الماء ولا شيء يربطها بالأرض , لكن الوقت لم يكن معها , فلن يجد كارلوس صعوبة في أن يسد عليها الطريق.
ولدهشتها , توقف قبل أن يصل اليها وراح يسبح مكانه:
" صباح الخير , ما كان عليك أن تسبحي وحدك, ربما أصابك تشنج".
" لم أكن وحدي , ألم تر الصيّاد الصغير؟".
" ليس من الضروري أن يتقن السباحة".
" عامة , الصيادون يتقنون السباحة".
أبتعدت متوجهة نحو أحد الزوارق الصغيرة الراسية على بعد 300 متر من الشاطىء , فلحق بها كارلوس ثم تجاوزها , ولما وصل قرب الزورق صعد اليه ومدّ لها يده , فقالت صوفيا وهي تهز رأسها .
" لا , عليّ أن أعود الآن , عندي ثياب أريد غسلها , أفضل أستعمال غرفة الغسيل عندما لا يكون بها أحد".
وأكملت السباحة نحو الشاطىء , كانت ما تزال في منتصف الطريق عندما سمعت قفزة من الزورق وبلحظة كان قربها , وقال:
" هل تجدين أن الأدوات الصحية داخل المخيّم كافية ؟ هل لديك أقتراحات للتحسين؟".
" كلا , كل شيء عظيم , في البداية حصلت حادثة طريفة فدخلت أحدى الفرنسيات الحمامات المخصصة للرجال باحثة عن منشب للتيار الكهربائي لتتمكن من أستعمال آلة تنشيف الشعر الكهربائية , في الحمامات النسائية لا يوجد منشب للتيار الكهربائي , فالمهندس نسي أن النساء تستعمل أيضا الآلآت الكهربائية التي يستعملها الرجال لكن بيدرو هدأ روع الجميع وأقام مناشب أضافية بسرعة وبساطة!".
" هذا تفصيل مهم لا يجب أن ننساه في المستقبل , حسب ما رأيت ضمن جولاتي في العالم الأوروبي , يتراءى لي أن الألمان أهم من أهتم بالأدوات الصحية وحسّن قيمتها وأستعمالها".
ولما وصلا الى باب الحديقة , سألها كارلوس:
" هل بأمكاني أن أقدم لك القهوة؟".
" كلا , شكرا يا كارلوس , الى اللقاء".
" صوفيا!".
توقفت وقالت:
" نعم؟".
" أسمعيني , يجب أن تكون الأمور واضحة بيننا , ربما تخشين أن أستفيد من علاقات العمل الحالية للأستمرار في ملاحقتك , ما دمت أنا المسؤول في هذا المخيم فبأمكانك أن تنامي على حرير من دون قلق".
أدار ظهره ورحل.
بعد أسبوع ذهبت صوفيا لرؤية بيدرو ومارغريت , وبعد أن أجتازت المونيكار , سلكت طريقا متعرجة بين الوديان القاحلة والتلال الصخرية الحمراء , حتى وصلت الى نيرخا , ثم عادت الطريق مسطحة المسطحة , وعلى جانبي الطريق , كانت الأبنية العالية ترتفع كالطحلب لتحل مكان بيوت صيادي السمك حيث القرى ما تزال شبه نائية.
كانت مارغريت تقطن فندقا من الدرجة الأولى في جناح صغير خاص , فقالت لصوفيا:
" أصرّ كارلوس أن أسكن هنا , على أن يدفع هو جميع التكاليف ".
" أنه ثري وهذه الحركة الطريفة لن تفقره".
" أنت غير عادلة , يا صوفيا , عندما عرف بالحادث جاء لتوه , لا أعرف ما كان سيحل بي من دونه , في هذا البلد الذي أجهل تقاليده وعاداته , أنه لطيف أكثر مما تتصورين , وهو دائما على أستعداد لمساعدة الغير , لما وصل كانت حالتي يرثى لها , لم أكن أكف عن البكاء , فأخذ يدي وكلمني بلطف وساعدني تدريجيا كي أتخلص من الصدمة القوية".
وبينما كانت تريها الشقة الفخمة , سألتها:
" كيف تجدين كارلوس وهو مدير المخيّم ؟ لقد فوجئت كثيرا بقراره في أن يحل مكان بيدرو".
" أنه يثرثر مع المخيّمين ولا يفوته شيء , وبّخ مانولا صاحب الدكان , جاءت أمرأة أجنبية تشتكيه لأنه باها خبرزا قديما وبطيخا ثمنه مرتفع الى درجة غير عادلة".


" وهل وبّخك أنت , أو ساشا؟".
" الى الآن , لا , كما أن رأي كارلوس بساشا مختلف عن رأي مايك به , يلعبان معا أحيانا الشطرنج , بعد الظهر , عندما تهدأ الأعمال".
" الم يدعك كارلوس الى العشاء في البرج؟".
" كلا , ما هي أخبار بيدرو؟".
بعد الغداء قامتا بزيارة الجريح الذي يقوم بكل ما بوسعه ليبدو مرحا ومسرورا , لكنه ما زال في حالة سيئة ويتألم كثيرا".
في المساء , تناولتا العشاء في مطعم مشهور بالسمك الطازج , تذوّقتا شوربتء السمك وأكلتا السلطان أبراهيم مقلي , وأمضت صوفيا الليلة مع مارغريت , في السرير الثاني , وفي اليوم التالي , ذهبت صوفيا وحدها لتقوم بنزهة سياحية كانت تريد القلاع والآثار , وترسل لجدها العديد من الصور , ففي أحدى رسائله الأخيرة , نصحها جدّها أن تزور ( كاتدرائية عصر النهضة).
كتب يقول : ( خلال الحرب الأهلية , أسكن الجمهوريون العائلات الفقيرة في الكنائس , فكان النساء يطبخن على المذابح ويستعملن الحطب للموقد ,وبتساءل المؤرخون كيف نجحت منحوتات بيدرو دي فينا من الكارثة , لا تنسي أن تزوريها ).
وصلت صوفيا الى المونيكار في ساعة متأخرة من بعد الظهر , وفي منتصف الطريق بين المدينة الصغيرة والبرج , شاهدت سيارة كارلوس متوقفة تحت شجرة على طرف الطريق , وشاهدت الرجل الأسباني يغيّر عجلة سيارة صاحبتها فتاة سمراء , كانت ترتدي سروالا ضيقا وتنظر الى كارلوس بأغراء وهي تثرثر معه بحماس.
منتديات ليلاس
خففت صوفيا سيرها وأذا بالسيارة التي تتبعها تكبح فراملها كي لا تصطدم بها ثم تجتازها , وراح السائق يزمر بشدة ويصرخ من نافذته بالشتائم.....
سمع كارلوس هذه الضجة , فنظر الى الوراء , لكن صوفيا أسرعت سيرها من دون أن تنظر نحوه .
وبعد قليل عاد كارلوس ليراها تتحدث مع ساشا في مكتب الأستقبال , ولشدة دهشتها , لم ينوّه بشيء عن الحادثة وأكتفى بالسؤال عن أخبار بيدرو.
وبعد ظهر اليوم التالي , كانت في مكتب الأستقبال عندما رأت على المكتب العدد الأخير لمجلة تدعى ( مجلة هواة الكتب ) التي تصدر كل ثلاثة أشهر ويشترك فيها جدها.
فوجئت صوفيا وفرحت وراحت تقرأ موضوعا عن التغليف في أنكلترا عندما سمعت كارلوس يسألها :
" ألا تعتقدين أن هذا الكتاب أكثر أهمية؟".
وأراها كتابا ضخما كان قد وجده على طريق البحر.
لكن صوفيا مدّت له يدها حاملة المجلة وقالت:
" أنها لك , على ما أظن".
" نعم , أنها مجلة قاسية وصعبة , تخص فقط الهواة المدمنين ".
شعرت بأستياء لأنها لم تنه قراءة الموضوع , ولهذا التلميح الساخر وقالت:
" هل تعني أنني بحاجة الى قاموس لأترجم كل الكلمات الصعبة ؟".
نظر اليها بأستغراب وقال:
" ماذا , يا صوفيا , هل تسخرين مني ؟ هل أنت هاوية جدّية؟".
" جدي هاو ومحترف وعنده مجموعة نادرة من الكتب القديمة ".
" هو الذي أهداك كتاب واشنطن أيرفينغ؟".
" نعم".
قال بجفاف:
" من حسن حظي أنني لم أحاول أقناعك بأن هذا الكتاب بالذات ليست له قيمة!".
" لكنك أظهرت عن صدق ودقة , وهذا لا ينطبق على جميع من يتقن هواية جمع الكتب النادرة , لو كنت ترغب في الحصول على هذا الكتاب مهما كلّف الأمر أما كانت أختلفت وجهة نظرك ؟ هذا ما أحب معرفته..... أي حقل يثير أهتمامك؟".
لم يتسن له الوقت للرد عليها , أذ توقفت سيارة وسأل سائقها أذا كان هناك مكان شاغر داخل المخيّم , وبينما كانت صوفيا تهتم بالرواد الجدد , وعدت نفسها ألا تفتح هذا الموضوع بعد الآن , لماذا أراد أن يكون كارلوس من بين هواة الكتب القديمة والنادرة؟ لو لم يكن ثريا ولو كانت نظرته أتجاه المرأة مختلفة , لكانت أمضت صيفا رائعا......
وبعد بضعة أيام ,سألها مايك صاحب الحانة:
" عندما ذهبت الى المستشفى منذ أسبوع , هل توقفت في نيرخا لرؤية الكهوف؟".
" كلا , لا تعني لي الشيء الكثير".
" يجب رؤيتها , الجنرال فرانكو بذاته قام بزيارتها".
" آه صحيح ؟ لا يمكنني الذهاب اليوم لأن سيارتي في الصيانة , ربما أزورها في الأسبوع المقبل".
" أنا ذاهب اليوم , لماذا لا تأتين معي ؟ بأمكانك زيارة الكهوف بينما أنهي بعض الأعمال المعلقة هناك".
ترددت صوفيا لأنها لم تكن ترغب قضاء الساعات المعدودة من عطلتها الصغيرة برفقة مايك , الذي يجعلها تشعر بأنزعاج من أفكاره الضيقة وذهنه المحدود.
" هذا لطف منك , يا مايك , لكن......".
" يسرني أن أصطحبك معي , سأمر بك في الرابعة ما رأيك ؟ هل تأتين معي؟".
بعد قليل , كانت تقوم بجولة حول المخيم لتتأكد من أن كل شيء على ما يرام , عندما لمحها كارلوس وقال :
" صوفيا , أفضل لو ترتدين الفستان خلال ساعات العمل".
فوجئت الفتاة وقالت:
" كيف ؟ لكن مارغريت ترتدي دائما بزة لسباحة , كما هي الحال مع الجميع هنا".
" المخيّمون جاؤوا الى هنا للمرح واللهو , وبينهم نساء في سن متقدمة , هل تعتقدين أنهن يفرحن عندما ينظر أزواجهن الى جمال جسمك الممشوق؟".


شعرت بغضب كبير وأرغمت نفسها على الرد عليه بلهجة خفيفة:
" هل سترغم ساشا على أرتداء قميصه, بحجة أن الرجال لا يفرحون لرؤية زوجاتهن ينظرن الى سحر جسمه الممشوق؟".
توقف كارلوس أمامها وراح يرمقها بنظرات حادة ثم قال:
" لقد وعدتك أنني لن أتجاوز معك حدود علاقات العمل , هل أنا بحاجة أن أذكّرك بأستمرار أن ما بيننا علاقات عمل فقط لا غير؟ أريد أن تنفذي أوامري في الحال".
تثتءبت وشعرت بأنزعاج لهذه القساوة المفاجئة وقالت:
" أنا...... أنا آسفة , سأنفذ أوامرك , وسأذهب لتوي لأغير ملابسي".
ألتقى بها ساشا بعد قليل وكانت ترتدي سروالا أبيض وقميصا كحليا فقال لها:
" هل أنت ذاهبة الى المدينة؟".
" أمرني كارلوس ألا أرتدي بزة السباحة خلال ساعات العمل".
" الظاهر أن هذا الأمر لم يسرّك , لو كنت مكانك لأعتبرت هذا مديحا , لا شك أنك ببزّتك تجعلينه يشرد عن التركيز في عمله".
" لا , ليس الأمر متعلقا به , لكن بالأزواج الناضجين , كيف بأمكان المرء أن يفكر بمثل هذه الأمور الساذجة ؟".
" لا تبالي بالأمر , يا صوفيا , ماذا تفعلين الآن ؟".
" دعاني مايك أن أرافقه الى نيرخا , لكنني ما أزال مترددة".
" لم لا تذهبين أذن ؟ لا أعتقد أن مايك سيكون وقحا معك ويحاول مغازلتك , في كل حال أنت من يعرف الدفاع عن مثل هذه المواقف , لكن كوني حذرة".
" لا أخاف مجابهته, لكنه يزعجني بثرثرته اللامتناهية , خاصة عندما يفتح لي قلبه!".
وما أن صعدت الى سيارة مايك حتى سألته:
" من يحل مكانك؟".
" يحل مكاني شاب أسباني لا يتكلم أي لغة أجنبية , لكن الزبائن لا يجدون صعوبة في الحصول على ما يريدونه حتى ولو أضطروا الى أستعمال الأشارات ...... آه , من قال , منذ 5 سنوات أنه سيأتي يوم وأكون مسؤولا عن حانة في الهواء الطلق , في أسبانيا!".
" ماذا كنت تفعل حينذاك؟".
وبدأ بسلسلة أحاديث شارحا لها أنه بدأ عمله كعامل مصرف , وظل يتكلم بأستطراد ممل حتى وصلا الى كهوف نيرخا , وأدركت صوفيا أن رفيقها يخترع قصصه التي لا أساس للصحة فيها , فشعرت بتوتر كبير وقالت:
" أسمع يا مايك , لا أعرف كم من الوقت سأستغرق في الزيارة لكن سأستقل الباص للعودة".
" لا , لا , لن تعودي بالباص , الحر شديد , سأمر عليك بعد ساعة".
كانت كهوف نيرخا مدهشة ومثيرة جدا , في الداخل متحف صغير للمجوهرات والحلى القديمة , وسلم يهبط الى غرفة الكوارث والنكبات الأرضية , أنها حجرة طبيعية ضخمة , واسعة بحجم كاتدرائية , حيث كتلة الحجارة والأعمدة التي تعود الى ثلاثة آلاف سنة من النسيان.
عندما خرجت صوفيا الى الهواء الطلق , بقي لها عشر دقائق قبل وصول مايك , أشترت البطاقات التذكارية وجلست في شرفة مقهى تحتسي كوب ليموناضة مثلجة.
منتديات ليلاس
وبعد ساعات كانت تتسكع يائسة في نيرخا , على طول المتنزه الذي يدعى ( شرفة أوروبا ) تحدّه من كل جوانبه أشجار النخيل العالية , كانت تنظر وصول الباص , عندما توقفت سيارة بيضاء قربها وهتف كارلوس:
" هل بأمكاني أيصالك الى المخيّم؟".
ولما صعدت الى السيارة سألته:
" ماذا تفعل هنا في نيرخا؟".
" كنت أبحث عنك , لما لاحظ ساشا وصول مايك من دونك , شعر بالقلق عليك وأقنعني بالذهاب لنجدتك , أنت حقا فتاة غير عاقلة! لا شك أنك تحبين المغامرة في مواقف مستحيلة مع رجال غير مرموقين!".
لم ترد صوفيا عليه , كانت على وشك البكاء فسألها بعد قليل:
" متى تناولت آخر وجبة طعام؟".
أجابت بصوت منخفض:
" لم أتناول شيئا منذ الغداء , لكنني لست جائعة".
" بل أنا جائع , سنتوقف أمام مطعم أعرفه".
وبعد أن مشكطت شعرها وخرجت من الحمام التابع للمزرعة الصغيرة التي تحولت الى مطعم ريفي , كان كارلوس يحتسي شرابه بذهن شارد , ولدى قدومها نهض من دون أبتسام , هل سيبدأ بأستجوابها لا , شعرت بأرتياح وأكتفت بالتحدث عن أنطباعاتها حول زيارة الكهوف.
كان قد طلب من خادم المطعم أحضار وجبة مصنوعة من الدجاج المطبوخ بالأرز والكاري , ومعها سلطة محلية.
وبعد أن أنهت حديثها عن الكهوف سألها كارلوس:
" حدثيني عن جدك ومجموعة كتبه النادرة".
راحت تحدثه بأهتمام كبير في الموضوع , وكلما رفعت وجهها عن صحنها , كانت تفاجأ بنظراته المحدقة بها , كأن هذا الحديث أيقظ عنده ذكريات غامضة ...... لا , هذا جنون أن تتصور أنه بدأ يتذكر لقاءهما الأول , لكنه من الأفضل ألا يتذكر أبدا التلميذة التي عانقها عند بائع الكتب.
" أين يسكن جدك؟".
أنتفضت ومن دون تفكير , أعطته أسم مدينة تبعد خمسة كيلومترات عن منزلها.
كان الظلام قد حل عندما عادا الى المخيم.
" شكرا جزيلا لأيصالي ولدعوتي الى العشاء , لا أعرف بماذا تفكر ...... لكن.....".
" لا ضرورة لأن تشرحي لي الأمور , فليست هذه المرة الأولى التي تتورطين فيها بمثل هذا المأزق , حاولي من الآن فصاعدا أن تكوني أقل سذاجة , مساء الخير , يا صوفيا".

منتديات ليلاس
أبتعد عنها ليتحدث مع أسباني عجوز ولما وصلت صوفيا الى مكتب الأستقبال كانا ساشا منهمكا ببعض المخيمين , فقررت الذهاب الى مقصورتها والنوم باكرا.
وفي صباح اليوم التالي , عندما كانت تسلق بيضة على غازها النقّال ,رأت ساشا يتوقف أمام مقصورتها وهو عائد من الحمام ويقول لها:
" كنت على حق , فيما يختص بمايك , أليس كذلك؟ ماذا قال كارلوس عندما ألتقى بك؟ هل هدأ روعه؟".
" هدأ روعه؟ ماذا تعني؟".
" لم يكن مسرورا عندما علم بأنك ذهبت الى نيرخا برفقة مايك , لكن لما عاد هذا الأخير وحده , كان......".
" قال لي أنك أنت الذي أقنعته بضورة التفتيش عني؟".
قال ساشا متعجبا :
" أنا أبدا.... سأل مايك لماذا لم تأت معه , فأرتبك وأجابه بأن الأمر لا يعنيه , وأنك قررت اعودة بالباص , لكن كارلوس أعلمه بأنه صاحب المخيم ومديره , ومسؤول عنك وأجبره على قول الحقيقة".
" يا لتفاهة الأمور! ماذا يمكن أن يحل بي في هذه المدينة الصغيرة الهادئة"." كان يخشى ألا تجدين باصا وتوقفين أحدا ليوصلك , وهذا عمل فيه خطورة في هذه المنطقة بالذات".
أجابت صوفيا بمرارة:
" ربما يشعر كارلوس أنه من الضروري حماية فتاة أجنبية ؟".
" في كل حال , أخبره مايك أن ثمة سوء تفاهم حصل بينكما أدى الى عدم أتفاق , فطلب منه كارلوس أن يحزم حقيبته ويرحل من هنا".
لم تعد صوفيا تصغي اليه , قالت:
" أرجو أن تأكل البيضة , أنا ذاهبة الى البرج لأقابل فخامته.... جلالة السيد ولسبنغهام".
دخلت الحديقة الساحرة وأستدارت حول حوض السباحة كالسهم وقرعت الجرس البرونزي , بعد دقيقتين أنفتح الباب دهش كارلوس لرؤية زائرته المبكرة , كان قد حلق ومشط شعره , لكنه ما يزال في مئزر النوم.
سألته صوفيا بلهجة عازمة:
" هل بأمكاني التحدث اليك؟".
" طبعا! أدخلي , لا , من الأفضل أن تبقي في الخارج وأنا أخرج اليك , أنتظريني دقيقة واحدة".
وبينما كانت تنتظره , راحت تدور حول حوض السباحة , نادمة بمرارة لأنها لم تتوصل أن تشرح له الأمر البارحة , كيف كان بأمكانها التكهن بأن كارلوس سيطرد مايك بهذه السرعة؟.
وبعد فترة قصيرة خرج كارلوس بلباسه الكامل حاملا صينية الفطور وعليها فنجانان فارغان , سألها وهو يضع الصينية على الطاولة البيضاء:
" قهوة؟".
" لا , شكرا , سبق أن شربتها باكرا".
" أجلس يا صوفيا , لا ترغميني على الوقوف , أفضل تناول الفطور وأنا جالس ,هل تأخذين فاكهة؟".
أشارت بحركة سلبية وقالت:
" أنك تشعر فجأة بحس الأحترام".
رفع كتفيه وبدأ يقول:
" أسبانيا......".
قاطعته قائلة:
" في الميرامار , أنت في أسبانيا , على ما أظن".
قال وهو يقشر دراقة:
" الفندق مكان محايد , حيث كل فرد يتصرف كما يريد , أما هنا فأنا ضيف الماركيز , وأنت عذراء مجنونة ..... وهذا لم أكن أعيه في الميرامار".
" لكنني لم أكن مجنونة الى درجة الأستسلام لأغرائك.... أو عدم القدرة على التفاهم مع مايك ..... قال لي ساشا أنك طردته , أليس تصرفك هذا نابعا عن خبث مقصود؟".
" أبدا".
صرخت بثقة:
" كيف تجرؤ على طرد رجل , لأنه تصرّف معي مثلما تصرفت أنت منذ بضعة أسابيع؟
أليس هذا أوج الخبث كليا؟".
" لا أتذكر أنني تركت فتاة على الطريق على بعد 40 كيلومترا من منزلها , من دون وسائل نقل وربما من دون مال".
" لم يتركني مايك على الطريق , أنا رفضت العودة معه , وليس لسبب نفسه الذي جعلني أغادر الميرامار بسرعة".
أجابها كارلوس بجفاف:
" من يسمعك يعتقد أنك أضطررت للدفاع عن فضيلتك بالقوة , أذا كانت ذكرياتي صحيحة , لم أذهب بعيدا معك!".
" لم تتركني على الطريق , لكنك جعلتني أضطر أن أجتاز مسافة 40 كيلومترا لأجد مكانا أقضي الليل فيه".
" هيا , يا صوفيا , أنت تعرفين جيدا أنني تجرأت أن آخذك بالقوة , أعترفي أنك كنت مصابة بالذعر , مثل أي فتاة من نوعك".
قات بصوت منخفض:
" نعتقدأن الفتيات مثلي لسن سوى معادلات مغالطة وبائدة , أليس كذلك؟".
" لا , أبدا , معظم الأسبانيات شبيهات بك , وأنا أحترمهن, لذلك قلقت عليك بالأمس , أنني أحترم بعمق أن تتمتع فتاة جميلة مثلك بالروح والمثابرة على التعلق بمبادىء العصر الماضي".
" لا فضل لنا أن نرفض فتات الجبز البائت عندما نعرف أن في آخر النهار , سنلبي دعوة وليمة كبرى".
قال كارلوس ضاحكا:
هذه أول مرة يعاملني الآخرون كفتات خبز بائت".
" أسمع يا كارلوس , لم يفعل مايك شيئا مناقضا للأخلاق , لا يمكنك أن تطرد هكذا عشوائيا , لكنه يقود سيارته بسرعة رهيبة , الى درجة أنني كنت أموت خوفا , ولهذا السبب رفضت العودة معه".
عاد يقول بجدية:
" أنك تضيعين جهدك , يا حلوتي , لا أعرف الى أين ذهب , في كل حال , هذا لا يغيّر الأمور , لا تتصرفي بحمق يا صوفيا , هل تعتقدين أنني صرفته لهذا السبب الوحيد؟ في الواقع منذ مدة وهو لا يقوم بعمله كما يجب , أنه وسخ ومقيت , يشرب كثيرا ويتصرف بسوء في الأماكن العامة في المونيكار , كان بيدرو يرغب في التخلص منه , لكنه تردد لأخذ هذه المبادرة , شخصيا لا أتردد عندما أصل الى القرار النهائي".
ببطء نهضت واقفة وقالت:
" فهمت , المعذرة لأزعاجك , سأتركك تتناول فطورك بسلام ".
أدارت له ظهرها وخطت بضعة خطوات , فناداها من جديد , وبدا على وجهه اللطف والنعومة:
" وهذه الوليمة التي كنت تتحدثين عنها منذ قليل ... هل أنت مستعدة لأنتظارها طويلا؟".
" كل حياتي , أذا ما أضطررت للأمر , لا شك أن هذا تصرف أحمق بالنسبة اليك , أليس كذلك؟".
" ليس , لكن طفيلي وسخيف . ماذا قرأت لستيفنسون ؟".
" فقط ( جزيرة الكنز ".
" كتابه ( رحلة مع حمار ) يلخص نظريتي للسعادة عندما كنت بعمرك ...... على فكرة , كم عمرك؟ 19 سنة ؟ 20 سنة؟".
" 21 سنة , وأنت".
" أنا عجوز , كي أؤمن بنظرية ستيفنسون للسعادة , أو كي آمل أن ألتقي بأمرأة كاملة".
" الكمال ليس من هذا العالم , لكن ..... عليّ العودة الآن فساشا بأنتظاري".
ولما عادت الى مكتب الأستقبال سألها ساشا:
" ماذا ؟ هل سمع كلامك؟".
" كلا , أنا سمعت كلامه".
وخلال فترة الصباح , مرّت أمام مقصورة مايك , فنادتها الخادمة التي كانت تنظفها وأشارت لها بالدخول:
" أنظري , يا آنسة , أليس هذا مخجلا؟ الحيوان لا يفعل ما فعله!".
منتديات ليلاس
شعرت بأشمئزاز للوساخة الموجودة داخل خيمته , كما شعرت بالخجل أيضا.
ولما ذهبت الى المونيكار حاولت الحصول على كتاب ( رحلة مع حمار ) لكن معظم الكتب كانت بوليسية , كادت أن تكتب لجدها وتطلب منه أرساله لها لكنه أدركت أنه لا بد أن تجده في غرناطة , في المدينة الجامعية , ترعب حتى الجنون أن تعرف مفهوم السعادة الذي كان كارلوس يتمتع به عندما كان في سنها............

نيو فراولة 14-06-11 04:12 PM

4- المفاجأة والفخّ




وقبل عودة آل فينغيلد الى برج الموورز وجد كارلوس شابا دانمركيا وسلّمه الحانة على الشاطىء , كما وظّف فتاتين هولنديتين في المخيّم .
وسمحت عودة بيدرو ومارغريت أخيرا لصوفيا الذهاب الى غرناطة في عطلة الأسبوع , رافقها ساشا و الذي طلب منها بوجود كارلوس أن ترافقه الى سيارتها.
ولما أدار ساشا ظهره قال لها كارلوس:
" أنا سعيد لأنك غير ذاهبة وحدك , ربما تحتاجين الى رجل أذا تعطل محركك أو حدث عطل للسيارة , فبين المونيكار وغرناطة الطريق خالية نسبيا , ونادرا ما تسلكها السيارات , وستنتظرين وقتا طويلا للحصول على مساعدة في حال حدوث أي عطل طارىء".
" لكنني قادرة على أن أغيّر عجلة بسهولة تامة".
" أنا أكيد من ذلك , وأنا أيضا أعرف أن أخيط زرا , لكن لماذا لا تتحاشين توسيخ يديك ما دام هناك شخص بأمكانه أن يحل مكانك في مثل هذه الأمور؟ وهناك أحتمال وقوع حادث لا تتوقعينه".
" هل الطريق مخيفة الى هذه الدرجة؟".
" ليس تماما".
وفي حوالي الثامنة صباحا , خرجت صوفيا مع ساشا في سيارتها من المخيّم ,وسلكت الطريق المؤدية الى المونيكار , ثم أخذت طريقا سهلية تمتد على ضفتي نهر الريو الأخضر , كان السهل خصبا ومزروعا بشتى أنواع الخضار والفاكهة ,, فلفت ساشا نظرها الى حقول السفرجل أو ما يسمى بالقشدة , وقال شارحا:
" أنها أشجار من أصل أمريكي , خاصة من أمريكا الجنوبية , ثمرتها تشبه الأرضي شوكي وطعمها لذيذ , لكن للأسف , ليس الآن موسمها".
" أين تنوي النزول في غرناطة؟".
كانت صوفيا قد قررت التوقف في مخيم قريب من المدينة , نصحها به زوجان يقضيان شهر العسل في مخيّم برج الوورز , فأجابها ساشا:
" آه , لا أعرف سأقرر حين أصل البلد".
أجتازت الطريق الساحلية بين غابات الصنوبر , حتى قرية أوليغار , آخر قرية على الطريق , بعدها لن يلتقيا ألا بالمزارع والفنادق المنعزلة.وتساءلت صوفيا فجأة : هل سيكون كارلوس ما يزال في المخيم لدى عودتهما ؟ عاد آل فينغيلد ولم يعد لديه من سبب للبقاء , لكن , أذا كان ينوي الرحيل , لكان ودّعها على الأقل...
وبدأت الطريق ترتفع والمنعطفات تضيق , وعلى السيارة المتجهة نحو غرناطة أن تسير مع الشاطىء الصخري , ومن حين الى آخر كانا يلتقيان قطيع ماعز , بلونيه الأسود والبني , أو بغلا نصف نائم يحمل على ظهره عجوزا يجلس بين سلتين من قصب.
ويهيأ للسائق أنه سيصل الى قمة الجبل بعد كل منعطف , لكن الطريق كانت تظهر قمما أخرى , وهكذا بأستمرار , وبعد ساعة من القيادة , تحول المنظر المتوحش للجبال الكلسية الى هضبة من الأدغال.
وفي العاشرة لمحت صوفيا أخيرا غرناطة على سفح الثلوج, للسيرا نيفادا .
توقفت صوفيا عند الضوء الأحمر وشاهدت عاملا ببزته الزرقاء المليئة بالغبار والأسمنت يغني بفرح أغنية عاطفية شعبية , كانت صوفيا تحب كثيرا ألحان الفلامينغو , لكن هذا الصوت الحزين الأيقاعي , الهجني , البةهيمي , الفينيقي , جعلها ترتعش أنفعالا , ولم تلاحظ الضوء الأخضر ألا بعد أن لفت ساشا نظرها اليه , لكن السيارة لم تكن تريد الأقلاع.
منتديات ليلاس
وبعد ساعة كانت السيارة في المرآب للتصليح , وكي لا تفسد على ساشا عطلته لأنه لم يكن يريد أن تركها في هذا المأزق , قررت صوفيا العدول عن المخيّم والبحث عن فندق في المدينة .
وفي أواخر بعد ظهر اليوم التالي , وصلت صوفيا, ولشدة فرحها , كانت فارغة تماما , مئات السياح يتسكعون في غرناطة , لكن يبدو أن صوفيا هي الوحيدة التي كانت تشعر بأهتمام معين لزيارة قبر غوازالفيه دي كوردويه , القبطان الكبير المشهور , الذي أنقذ غرناطة عام 1492 .
كانت في الداخل منذ بضعة دقائق , جالسة على أحد الأدراج المصنوعة من الرخام الزهري , مسرورة لكونها بعيدة عن الضجة وشدة الحر في الخارج , عندما رأت كارلوس يقترب منها.
قال وهو يجلس قربها :
" أنت تزورين غرناطة بالتفصيل , على ما أرى , قلة هم السياح الذين يزورون القبر".
" أردت رؤية تمثال القبطان الكبير , لكن.......... لماذا أنت هنا؟".
" أنا ذاهب الأسبوع المقبل لزيارة أبناء عمي , في سكنهم الصيفي الذي يقع قرب مدينة رونزا , وكنت أبحث عن هدية , ومن الدكان حيث كنت , لمحتك تمرين , فتبعتك , أود أن أقترح عليك أنت وساشا , أن ترافقاني مساء اليوم الى سهرة خاصة بموسيقى وأغاني الفلامنغو , لكن ربما لا تعرفين في أي فندق يقيم ساشا".
" بلى , بلى , في كل حال , لدي موعد معه بعد نصف ساعة , في بلازا ديل كارمن".
" أذن , سأبقى معك , لماذا يهمك كثيرا رؤية تمثال القبطان الكبير ؟".
" لأنه كان أحد أبطال شبابي , صورته ليست جميلة كما كنت أتوقعها .... كنت أتخيله ممشوق القامة وأسمر اللون".
" كنت أعتقد أن طريقة معاملته لزوجته , ستقلل من قيمته , وفقا لمفهومك ونظرياتك ".
" ماذا تعني ؟ هل كان طاغيا وفظا؟".
" كلا , لكن , عندما أحترقت خيمة الملكة أيزابيل مع كل ما تحتويه , أرغم زوجته أن تهب جهازها كله الى الملكة".
" آه , لكن لا شك أنه أشترى لها جهازا آخر , بعد ذلك! ربما كان يحب الملكة أيزابيل , كما يشاع أحيانا , في كل حال كانت الملكة تحبه أكثر من زوجها فيردينالد المضجر".
نظرت الى ساعة يدها وقالت:
" علينا أن نذهب لموافاة ساشا".
في الخارج كان الحر قويا , فتأبط كارلوس ذراع صوفيا ليجتازا الطريق بأمان".
" أذن , ألم تخيّب الحمراء أملك؟".
" لماذا هذا السؤال , طبعا لا , البلد ساحر وجميل , السقوف المجوّفة والمزخرفة بشكل نجوم , والقبب والجص الكحفور , ومتاهة الغرف المظلمة , والحدائق المزهرة , وحفيف المياه على الأحواض الرخامية ونافورة الماء في وسطها , وأنعكاس الشمس على الأعمدة ....... لا يوجد كلمة لوصف هذا الأفتتان .......يجب أن يكون الأنسان وحيدا ليتذوق هذا المكان الكامل".
وصلا قبل الموعد ببضع دقائق ولم يكن ساشا قد حضر بعد , فأقترح كارلوس التوقف على شرفة مقهى , في الظل , ثم سألها:
" هل تريدين شرابا منعشا أم بوظة؟".
" شراب منعش من فضلك".
منذ نصف ساعة أرتدت المدينة حلة جديدة بنظر صوفيا , لم تعد تتذكر الحمراء , أنما فقط هذا المكان العادي الصاخب وشرفة المقهى ويد كارلوس السمراء الموضوعة على طرف الطاولة , سألته:
"أين يسكن أبناء عمك في الشتاء؟".
" في سفيليا , في الصيف الحر شديد هناك, ومن أواخر أيار ( مايو ) حتى تشرين الأول ( أكتوبر ) , تمضي لويزا مع الأولاد معظم الوقت في الجبل , يلتحق بهم هيلاريو في أغلب الأحيان , ومتى سمحت له ظروف عمله , آه , هذا ساشا قد وصل".
ظهر الشاب الفرنسي حاملا بيده حزمة صغيرة , لم يعد يشبه الخنافيس , بقميصه الجيرسي الناعم , ذات الأكمام القصيرة , وسرواله النظيف والمكوي , وأحذيته الملمعة كأنها جديدة , أنما كان كأي أسباني من المنطقة يتوجه الى عمله بعد قيلوة الظهيرة.
حيّا كارلوس ثم قال لها:
" لقد وجدت الكتابين كما طلبت مني".
" شكرا , كم ثمنهما؟".
" الفاتورة داخل الحزمة".
فتح الكيس وأخرج الفاتورة والكتابين , أحدهم كان ( الرحلات في أسبانيا ) لتيوفيل غوتيه , والثاني , الكتاب الذي كانت تود صوفيا أن تقرأه في كل عزم ...... حاولت أن تفعل ما في أستطاعتها لتخفيه عن نظرات كارلوس ! لكن كيف؟
فتحت محفظة نقودها , فوضع ساشا الكتابين على الطاولة وبالطبع , أخذها كارلوس بسرعة!
" كان بأمكاني أن أعيرك كتاب غوتيه , يا صوفيا , لماذا لم تسأليني؟".
" ليس من الضروري أن تكون راغبا في أعارتي الكتاب ".
" أفعل كل شيء لحفيدة رجل ملم بالكتاب ! ..... آه الكتاب الثاني : ( رحلة مع حمار!".
هل ما زال يتذكر الحديث الذي جرى بينهما ذلك الصباح عندما أسرعت الى البرج لتلومه بعنف لأنه طرد مايك من الحانة؟ ورغم تغيير وجهه العادي , شعرت صوفيا أنه لم ينس شيئا.
ران صمت قصير مزعج , ثم سأل ساشا:
" لا شك أن صوفيا أخبرتك عن المشاكل التي تعرضت لها بسبب سيارتها , أليس كذلك؟ أخش أن يكون الميكانيكي قد ضخّم الأمر ليزيد الفاتورة".
" هل حدث لكما حادث؟".
قالت صوفيا:
" لا , لا , عطل بسيط".
وبعد أن سمع كارلوس القصة بالتفاصيل سأل :
" وأين هو المرآب , من الأفضل أن أذهب بنفسي لأراها".
" لا , لا تتعذب , لا أعتقد أبدا أن صاحب المرآب يريد أن يحتال عليّ".
قال ساشا بسخرية:
" يا صوفيا المسكينة , كل أصحاب المرآب يفعلون , كيف بأنمكاننا التأكد من ذلك؟ لذلك نحن مضطرون أن نصدق كلامهم".
قال كارلوس:
" بشكل عام , أجرة صاحب المرآب ليست مرتفعة , لكن , في مثل هذا الموسم المزدحم , تتكاثر عليهم الأشغال بصورة غريبة , ربما بأستطاعتي أن أسرّع في أصلاح السيارة وتسليمها بأقرب وقت مممكن , هل معك بطاقة بعنوانه , يا صوفيا؟".
" نعم , لكنني أكيدة أن ساشا مشغول البال من دون سبب , أذا لم تكن السيارة جاهزة في وقت عودتنا , نأخذ الباص , وأعود لأجلبها في وقت لاحق".
" وفي كل حال , أفضّل أن أتوجه الى المرآب بنفسي , هيّا , عطني البطاقة , وقلما أذا أمكن".
نفّذت صوفيا ما قاله على مضض , ثم سألها:
" عنوانك؟".
دوّنه على طرف البطاقة , وبرؤية خطه تذكرت صوفيا البطاقة التي أرسلها مع سلة القرنفل عندما كانت في برشلونة , هذه البطاقة التي كان يجب عليها أن تمزقها , لكنها حافظت عليها من شدة جنونها.........

منتديات ليلاس
وقبل ساشا أن يذهب في المساء لسماع غناء الفلامنغو , فسأله كارلوس عن عنوانه:
" العنوان نفسه , نحن معا في فندق سانتا كلارا".
أندهش كارلوس , لكن صوفيا أسرعت في القول :
" يتقاسم ساشا غرفة مع شاب آخر , أما أنا , فأتقاسم غرفة أبنة صاحب الفندق , ومن حسن حظنا أننا وجدنا مكانا للنوم , لأن المدينة كلها تغص بالسياح".
جاء الخادم ودفع كارلوس الفاتورة وقال واقفا:
" سآتي في التاسعة , وقبل السهرة سنذهب للعشاء".
قال ساشا بعدما أبتعد كارلوس:
" لا شك أن كارلوس نزل في القصر!".
" نعم , ربما".
" هل تريد شرابا آخر؟".
" لا , شكرا , أريد أن أعود الى الفندق لأرتاح قليلا , لأننا سنتأخر في السهرة , مساء اليوم , الى اللقاء".
صعدت صوفيا الى الغرفة الصغيرة التي لم تكن تحتوي ألا على سريرين , وخزانة ومغسلة , وبعد أن أغتسلت بالماء البارد من رأسها حتى قدميها وبالصابون الأسباني المصوع بالحامض , صعدت الى سريرها وتمددت لتقرأ ساعة أو ساعتين.
ولم تقرأ ألا 20 صفحة حتى قاطعتها أبة صاحب المطعم بدخولها , وبعد قليل جاء ساشا يقترح على الفتاتين أن يأخذهما لتناول ( الكوروس).
تخلت صوفيا عن مواصلة القراءة , وأرتدت ملابسها بسرعة وخرجت لتتذوق هذه الفطائر بشكل الأصابع المقلية بالزيت والمرشوشة بالسكر الناعم أو بالشوكولا الساخن.
كانت الساعة الثامنة عندما عادا الى الفندق , أبنة صاحب الفندق توجهت الى المطبخ لتساعد والدتها , وتوجهت صوفيا الى غرفتها .
خلعت سروالها الزهري وأرتدت فستانا تحبه , أشترته من فرنسا بثمن باهظ , أنه من قماش الموسلين الأصفر بلون الحامض.
وفي التاسعة ألا ربعا , جاءت السيدة مورينو لاهثة لتعلمها أن رجلا ( نبيلا ) ينتظرها في مقهى الفندق.
فمرّت صوفيا أمام غرفة ساشا وصرخت من الخارج:
" وصل كارلوس".
" سأوافيكما بعد خمس دقائق".
سألتها صحبة الفندق , بنظرة خائبة:
" هل هذا الشاب سيذهب معكما؟".
" يقول المثل الأنكليزي : كلما أزداد العدد , كلمّا خفّ الخطر".
ضحكت المرأة وقالت :
" أنت على حق! آه , هذا الرجل فيه شيء مميّز يسحر أي أنسان! يا ألهي , كم هو وسيم! وأسنانه! عنده أبتسامة تذيب ثلج أعلى الجبال !".
ولما دخلت صوفيا الى المقهى كان كارلوس يصغي الى عجوز , لا أسنان في فمه , آه , يا لشدة التناقض بينهما , لكن , ربما كان العجوز في حياته بوسامة كارلوس......
وبعد عشاء رائع , توجهوا الى الحديقة حيث كانت الفتاة ذات العينين السوداوين والشعر الطويل ترقص الفلامنغو وتطرطق بالصنّاجات على موسيقى قيثارة أسبانية , أنها أنسانة رائعة وذات نظرات محترمة ,وخلافا لبقية المشاهدين , كان كارلوس ينظر اليها بهدوء أعصاب , كأنه ملّ وضجر.
توقفت الراقصة لحظة وأخذ مكانها رجل راح يغني الأغاني العاطفية الشعبية , ولما عادت الراقصة الى الحلبة , كان جنون الفلامينغو في أوج هيجانه , ذراعاها الطريتان تتحركان بلباقة وخفة , تنورتها الحمراء المكشكشة تزوبع كالأعصار , وعينلها وأسنانها تلمع , فراح الجمهور المنسحر يصفق بحماس على أيقاع الموسيقى.
منتديات ليلاس
أنتهت الحفلة في ساعة متأخرة , طلب كارلوس سيارة تاكسي , وجلس في المقعد الخلفي قرب صوفيا , بينما جلس ساشا قرب السائق , وأضطرت صوفيا أن تتقوقع في الزاوية كي يتمكن كارلوس من أراحة قدميه الطويلتين , فدخان سيكار ساشا ورائحة العطر العنيفة عند السائق جعلا الجو لا يطاق , أخفض كارلوس النافذة وقال:
" غدا , سأمضي الليلة في سييرا نيفادا , وبما أن سيارتك لن تكون جاهزة ألا بعد بضعة أيام , ألا تجدان أنه من الأفضل مرافقتي الى هناك؟ وسأعيدكما الى الساحل بعد غد".
" آه صحيح ! السيارة! لقد نسيت هذه المشكلة كليا...".
" يا ألهي , هل السيارة في حالة سيئة؟ ماذا هناك؟".
" لا , لا شيء , فهي تحتاج الى قطعة غيار , أضطر صاحب المرآب أن يوصي عليها , وأتفقت معه , أنه متى أنتهت التصليحات , سيوصل أحد الموظفين السيارة الى قلب المخيّم , ولن يجد صعوبة في العودة الى غرناطة , من الأفضل أن نعطيه بقشيشا محترما , على أن تذهبي بنفسك لأحضارها".
" شكرا جزيلا لتدبيرك هذه الأمور , آمل ألا تتأخر قطعة الغيار في الوصول , كما حدث لأصدقائنا الهولنديين , الشهر الفائت , هل تتذكر هذه الحادثة , يا ساشا ؟ المساكين , أضطروا أن يبقوا ثلاثة أسابيع بالأنتظار".
توقفت سيارة التاكسي أمام فندق سانتا كلارا وساعد كارلوس صوفيا على الهبوط وقال:
" أذن , ما رأيكما في أن تذهبا معي الى رية الثلج من قريب".
" ليس لدي مانع.....".
" وأنت يا ساشا؟".
حبست صوفيا أنفاسها ولحسن حظها قبل ساشا الدعوة أيضا.




وكي لا توقظ أبنة صاحب الفندق بأضاءة الغرفة مدة طويلة , لم تقرأ صوفيا كعادتها قبل النوم , بالرغم من رغبتها في الوصول الى المقطع الذي لمّح عنه كارلوس.
أتفقا على أن يلتقيا في اليوم التالي في مقهى قريب من سانتا كلارا , نهض ساشا واقفا بعد أن لاحظ أنه نسي ساعة يده في الفندق وذهب للبحث عنها , ولما أصبحا وحيدين سألها كارلوس:
"لو رفض ساشا تلبية دعوتي , ماذا كنت ستفعلين؟".
" لكنت غيّرت رأيي , ببساطة".
" وبرغم اوعد الذي قطعته عليك , ما دمت مسؤولا عن المخيّم ؟ ألا تحترمين وعدي؟".
" لا تنس أنك أضفت تقول : ( فقط عندما تعلمينني , أنت بالذات , أن عفتك أصبحت ثقلا عليك,
لو وافقت على المجيء , في هذه الشروط , لربما أعتقدت أنني غيرت رأيي ".
" لقد نسيت هذا الشرط".
" لكن أنا لم أنس".
ولحسن حظها كانت ترتدي نظارتيها وبالتالي لا يمكنه أن يلمح الحزن الذي ملأ عينيها , آه , كم هو جميل أن تتناول الغداء برفقة كارلوس , تحت الشمس , على شرفة هذا المقهى , في مدينة غرناطة الأسطورية , لو كانت أبتسامته حنونة وغير ساحرة.... ولو كان يشعر نحوها بشعور أقوى من الأنجذاب الجسدي آه نعم.... لكان ذلك رائعا........

زهرة منسية 14-06-11 04:45 PM

يسيسلموا أديكى يا قمر

انجلى 15-06-11 05:06 AM

بسم الله الرحمن الرحيم الراوية تجنننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن ارجو الا تتاخرى فى اكمالها :55::rdd25hn7::98yyyy::98yyyy::98yyyy:

نيو فراولة 15-06-11 09:12 PM

أتفقا على أن يلتقيا في اليوم التالي في مقهى قريب من سانتا كلارا , نهض ساشا واقفا بعد أن لاحظ أنه نسي ساعة يده في الفندق وذهب للبحث عنها , ولما أصبحا وحيدين سألها كارلوس:
"لو رفض ساشا تلبية دعوتي , ماذا كنت ستفعلين؟".
" لكنت غيّرت رأيي , ببساطة".
" وبرغم اوعد الذي قطعته عليك , ما دمت مسؤولا عن المخيّم ؟ ألا تحترمين وعدي؟".
" لا تنس أنك أضفت تقول : ( فقط عندما تعلمينني , أنت بالذات , أن عفتك أصبحت ثقلا عليك,
لو وافقت على المجيء , في هذه الشروط , لربما أعتقدت أنني غيرت رأيي ".
" لقد نسيت هذا الشرط".
" لكن أنا لم أنس".
ولحسن حظها كانت ترتدي نظارتيها وبالتالي لا يمكنه أن يلمح الحزن الذي ملأ عينيها , آه , كم هو جميل أن تتناول الغداء برفقة كارلوس , تحت الشمس , على شرفة هذا المقهى , في مدينة غرناطة الأسطورية , لو كانت أبتسامته حنونة وغير ساحرة.... ولو كان يشعر نحوها بشعور أقوى من الأنجذاب الجسدي آه نعم.... لكان ذلك رائعا........
كان كارلوس يقود سيارته بسهولة وقدرة هائلة برغم كثرة المنعطفات الضيقة , وأحيانا كان يتوقف على جانب الطريق ويترك لهما مجال الأستمتاع بالمناظر الخلابة , وكان كارلوس قد أحضر معه صندوقا مليئا بالحلوى وبعض السندويشات وأعد له سندويشا في داخله طعاما أسود اللون , فقالت صوفيا:
" لا بد أن طعمه لذيذ".
" أنا أكيد أن هذا النوع من الطعام لا يمكنك تذوقه".
" كيف تستطيع التكهن بذلك؟".
مدّ اليها السندويشة وقال:
" حاولي أذا أردت".
بعد تردد تناولت قطعة صغيرة وكان ينظر اليها بسخرية , ما يمكن أن يكون في داخله؟ شيء حار يحرق الفم ساعات طويلة؟ الداخل يشبه مقانق بنية غامقة , أخيرا وضعتها في فمها وراحت تمضغها , ثم قالت:
" آه , أنها لذيذة الطعم!".
سألها بفضول:
" صحيح؟".
" نعم! ما هذا الذي أكلته؟".
" ( بوتيفارا نيغرا) أنه نوع من المقانق العادي لكن الخبز قد غمّس بزيت الزيتون وعصير الطماطم".
" كنت تعتقد أنني أكره زيت الزيتون , أليس كذلك؟".
" أنها الحال مع معظم الشعب الأنكليزي , تصورت أنك تفضلين أكل الحلوى.......".
" هذا يدل على أن الأنسان يتصرف أحيانا بتفاهة لأنه يتخذ رأيه مسبقا حول الناس وفي غالب الأحيان يكون هذا التصوّر المسبق خاطئا مئة في المئة".
" أنت على حق , في كل حال , ليست هذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالخطأ أتجاهك".
" لكن قطع الحلوى تبدو رائعة , سأتذوق تلك المصنوعة بالجوز".
وبدأت سفوح الجبل تتغلف بالعشب القليل , وكلما أرتفعوا كلما أصبح الهواء منعشا وقويا , أخيرا وصوا الى بناية طويلة تستعمل في الشتاء كفندق لأيواء المتزلجين عندما تختفي الصخور تحت الثلج الكثيف.
قرروا النزول في الفندق ولمّا أعطاه موظف الأستقبال قلما ليسجل على السجل أسماءهم , تذكرت صوفيا بغصّة الأهانة التي تحملتها في الميرامار , هل ما زال كارلوس يتذكر هذه الحادثة؟
أعطاهم الموظف المفاتيح , حمل كارلوس حقيبته وحقيبة صوفيا , وتوجه الثلاثة الى السلم , وفي منتصف الطريق , شعرت صوفيا فجأة بدوار , فتعلّقت بالدرابزين ثم أتكأت على الجدار , كان تنفسها متقطعا.
قال لها كارلوس بصوت واثق:
" لا تخافي , هذه ردة فعل الأرتفاع الشاهق , نحن على علو ثلاثة آلاف متر , ومن المستحيل تسلق السلالم بسرعة , ألا بعد مرور وقت معين يتعوّد فيه الجسم على تحمل العلو والتكيف معه".
" آه , أي أحساس رهيب!".
هدأت دقات قلبها شيئا فشيئا فقال لها كارلوس:
" كان يجب عليّ أن أحذرك".
أعطى ساشا حقيبته ومدّ ذراعه حول خصر صوفيا ليساعدها على تسلق السلالم الباقية , فهمس ساشا بصوت لاهث وهو يصعد وراءهما:
" وأنا أيضا أشعر بفرق العلو".
" لكنني لم أسمع أن أحدا مات من هذا الأرتفاع!".
رمقته صوفيا بنظرة سريعة , كان يبتسم وشعرت أنه مسرور لأخذها بين ذراعيه , ولما وصلا أبتعدت عنه وقالت:
" شكرا , أشعر بتحسن ملموس , الآن".
غرفتها الواسعة كانت تطل على منظر ساحر للجبال البيضاء , ومن بعيد كانت ترى غرانادا , أخذت دوشا بسرعة ولفت جسمها بمنشفة بيضاء سميكة , ثم سمعت طرقا على الباب:
" من الطارق؟".
" كارلوس".
ترددت ثانية قبل أن تفتح محاولة الأختفاء قدر الأمكان وراء الباب".
سألها كارلوس للحال:
" هل أخرجتك من الحمام".
" لا , لا , كنت قد خرجت لتوي , ماذا في الأمر؟".
" ربما هذه السترة الصوفية تكفي لتقيك البرد , خاصة أذا قررت التنزه بعد الظهر , لا شك أنك لم تجلبي معك ثابا دافئة عندما جئت الى غرناطة؟".
" بالطبع , لم أكن أتوقع هذه الرحلة , شكرا جزيلا , لكن.... هل عندك سترة غيرها لك؟".
" نعم , نعم , لا تقلقي".

نيو فراولة 15-06-11 10:04 PM

أغلقت صوفيا الباب وعلّقت السترة الكحلية المصنوعة من الكشمير وشعرت بالخجل لأنها ترددت بضع ثوانلتفتح له الباب وهي في هذه الهيئة.
وبعد الغداء صعدوا الى ( عذراء الثلوج ) أنه تمثال حديث وضخم بني على قمة صخرة عالية , وكانت صوفيا متكوّرة في دفء سترتها الناعمة , تتنشق بأمتنان النسيم المنعش الذي يرعش النباتات الصغيرة المعلقة بالصخو.
ولما عادوا الى الفندق كانت الشمس قد غابت , فأقترح كارلوس عليهما الأستراحة في صالون الفندق المريح , وراح الرجلان يطالعان الصحف بينما كانت صوفيا حالمة تحتسي فنجان قهوة مع الحليب الساخن , لا شك أنها غطت بالنوم لفترة قصيرة , ولما فتحت عينيها كان كارلوس وحده قربها.
" أين ساشا؟".
" صعد الى غرفته ليستريح وربما ينام قليلا.....".
" أظن أنني سأفعل مثله".
" ولم لا ؟ كوني حاضرة في التاسعة لنتناول طعام العشاء هل هذا يناسبك ؟".
صعدت السلالم ولما وصلت الى غرفتها , وقبل أن تغلق الباب , ألتفتت وراءها ورأت كارلوس قرأ مجلة محلية , لماذا أنقبض قلبها؟ بماذا كانت تأمل؟ أن يصر عليها في البقاء معه؟
تمددت في سريرها وفتحت كتاب ستيفنسون , وبعد قليل وجدت المقطع الذي كانت تبحث عنه : ( ..........ذلك لأن هناك صداقة تزوّد شعورا بالطمأنينة والهدوء الى درجة أنها تصبح أحيانا وحدة كاملة , العيش مع الحبيبة في الهواء الطلق هي الحياة الأكثر كمالا وحرية).
في الثامنة والربع رنّ جرس الهاتف في غرفة صوفيا , فكانت موظفة الأستقبال تصل بها لتوقظها , وفي التاسعة وجدت كارلوس يستقبلها في الصالون برفقة ساشا , كان العشاء رائعا ومتينا ولم تقدر صوفيا على أكماله برغم شهيتها القوية , بدت صامتة ومتأملة , فقال لها كارلوس:
" أراك هادئة , هذا المساء , يا صوفيا".
أنتفضت وأجابت وهي ترفع كأسها على شفتيها:
" ما زلت متأثرة بالأرتفاع".
وبعد العشاء , راح الرجلان يلعبان الشطرنج , بينما فضّلت صوفيا قراءة مجلة فرنسية وأحتساء عصير البرتقال الطازج , وأخذت تطرح أسئلة عديدة على نفسها : بعد غد , سيرحل كارلوس بعيدا , ماذا كان حدث لو بقيت معه في الميرامار؟ أين كنا أصبحنا الآن ؟ هل كان سئم مني ؟ حتى السعادة العابرة لم تعد مسألة يمكن تجاهلها .....عندما أصبح بعمر عمتي روزا , ألن أشعر بالندم والمرارة لأنني قاومت كارلوس؟
في الحادية عشرة , قررت أن تذهب الى النوم بينما كان الرجلان ما يزالا يلعبان الشطرنج.
قال لها كارلوس بعد أن نهض عن كرسيه:
" أنا متأسف , فلم نهتم بك كما يجب".
" أنا ناضجة كفاية كي ألهو وحدي".
قال بجفاف:
" لا أسك بذلك , لكن هذا لا يعذر تصرفاتي السيئة , هل لديك ما تقرأينه قبل النوم؟".
" نعم , شكرا , تصبح على خير , تصبح على خير , يا ساشا".
نعم لديها كتاب ( الرحلات في أسبانيا ) لغوتيه .... لكنها تسلية لا قيمة لها .... لا يمكنها أن تبعد عن ذهنها التفكير بكارلوس وبرحيله القريب , يا ألهي , كم ستشتاق اليه!
أفاقت صوفيا في صباح اليوم التالي على زوبعة مطر تهز نافذة غرفتها , كانت الساعة السابعة , وكان المطر ينهمر بقوة عندما نزلت الى غرفة الطعام.
منتديات ليلاس
كان الفطور مؤلفا من قهوة وحليب وخبز وزبدة ومربى , ومن وقت الى آخر كانت أشعة الشمس تمزّق سماكة الغيوم , كأن الطقس بدأ بالتحسن ومن دون سبب رفعت صوفيا فجأة نظرها نحو الدرابزين الفاصل بين غرفة الطعام والصالون , ففوجئت بكارلوس واقفا قرب السلالم , ينظر اليها , تهيأ لها أنه يحدق فيها منذ بضعة دقائق , فتشابكت نظراتهما وأشار اليها بحركة صغيرة وتوجه نحوها .
" صباح الخير , هل نمت جيدا؟".
" آه , نعم , لكن المطر أيقظني في السابعة ".
جلس أمام الطاولة , فجاءت الخادمة في الحال حاملة أبريق القهوة وفنجان وحليب وسكر على صينية ووضعتها على الطاولة.
قال كارلوس بعد أن أبتعدت الخادمة :
" لا شك أنها تعتقد أننا متزوجان ".
" ليس من الضروري أن يتناول الزوجان الفطور معا؟".
" لك كما رأتك عابسة ولم تبتسمي لي بلطف كما يجب , تصورت أننا متشاجران .... ها هي آتية مع الخبز المحمص , ألا ترين أنها تطرح على نفسها الأسئلة بخصوصنا ؟".
قالت صوفيا خافضة العينين :
" ولماذا لا نقول لها أذن أننا لسنا متزوجين ولا متشاجرين؟".
فرفع ذقنها ببطء وحدّق فيها وقال بلهجة تلين لها الحجارة :
" ذلك لأنه من أبسط الأمور أن تريني أبتسامتك الحلوة العادية".
بدأ قلب صوفيا يخفق في جنون , لكن ذلك لم يدم طويلا , وصلت الخادمة حاملة الخبز المحمص وبعد لحظات كان ساشا جالسا معهما , بقيت صوفيا جالسة لكن عقلها كان شاردا............

نيو فراولة 16-06-11 09:27 PM

قال كارلوس:
" لقد فكرت أنه بدلا من العودة من الطريق نفسه , بأمكاننا أن نسلك الطريق الآخر من الجهة المعاكسة".
قالت صوفيا متعجبة:
" أعتقدت أن الطريق تنتهي في القمة؟".
سأل ساشا:
" ومتى تنويان الرحيل؟".
نظر كارلوس الى ساعة يده وقال:
" متى تصبحان جاهزن , والأفضل أن نذهب باكرا".
بعد عشر دقائق وتحت سماء ملبدة بدأت رحلة العودة , عاصفة أخرى تنذر بالوقوع , تمثال ( عذراء الثلوج ) كان رماديا تحت الغيوم السوداء التي كانت تبث نورا غير محدد.
وعلى الطريق يفطة تنبّه السائقين بأن طرق الشمال يمكن أن تسلكها فقط الآليات الخفيفة وسيارات الجيب , مع بعض التحفظ , فقال كارلوس بعد أن خفّف سيره ونظر الى صوفيا :
" أذا كانت هذه الطريق تخيفك , فلسنا مضطرين لأخذها , بأستطاعتنا العودة كما أتينا ( ببساطة)".
سأل ساشا:
" هل تعرف الطريق جيدا ؟".
" نعم , أنها صعبة , لكنها غير خطرة .. ماذا , يا صوفيا , أنا بأنتظتر جوابك".
" أنا أثق بك كليا , كسائق محترف".
أكمل كارلوس طريقه بعد أن همس بأذن الفتاة قبل التركيز في القيادة :
" لكن , كسائق فقط..... أليس كذلك؟".
النزول المثير دام حوالي ثلاث ساعات , وشعرت صوفيا كأنها ضائعة في هذه الصحراء الصخرية التي نعصف بها الرياح , ولأميال شاسعة , كان المسكن الوحيد ملجأ لمتسلقي الجبال , وكان يدعى ( ملجأ ريو سيكو) , وفي كل لحظة كان يبدو لصوفيا أن طرف الطريق سيتهدم تحت عجلاتهم وسيقع معهم في الهاوية , أخيرا لمحوا آثارا للحياة : من بعيد ظهر ظطيع ماعز أسود , ومنزل صغير تقف أمامه أمرأة ترتدي ثيابا سوداء من رأسها حتى أخمص قدميها وكانت تنظر اليهما نظرة حادة.
توقفوا عن متابعة السير في قرية كابيليريا لتناول الغداء , فقد أخرج كارلوس زجاجة الماء المعدنية ووضعها في الماء المثلجة , وسلة المأكولات الباردة التي أحضرها من مطبخ الفندق , وبعد الأكل شعرت صوفيا بالنعاس وراحت تتثاءب مثل ساشا , أما كارلوس فكان نشيطا كأنه لم يأكل ولم يقد كل هذه المسافة.
وبعد كابيليرا , أصبحت الطريق محدودة بالغابات والحقول والعرائش , توقف كارلوس أمام مقهى صغير وسأل:
" قهوة؟".
وافق الجميع , وبينما كانوا يجتازون الطريق قال كارلوس بلطف:
" آمل أن تكون المراحيض هنا نظيفة!".

وفي أواخر بعض الظهر وصلوا الى المخيّم , أوقف كارلوس السيارة أمام الباب , فنزلت صوفيا وساشا قبل أن يتمكنا من شكره , كان قد أقلع في الحال .
وقالت صوفيا لنفسها في حزن كبير : هذه الصفحة قد أنتهت , وسأقضي الصيف وربما بقيةحياتي , نادمة على رجل سينساني بعد أيام معدودة....
ولما توجهت الى مقصورتها شعرت بحزن وكآبة , ولم تنم ليلتها جيدا بل أستيقظت بألم حاد في رأسها.
وفي منتصف الصباح رآها ساشا وأسرع يقول لها:
" يريد كارلوس أن يودعك , فهو ينتظرك أمام مقصورتك".
" آه , صحيح".
توجهت صوفيا ببطء نحو مقصورتها بعد جهد كبير لتبدو هادئة وغير مبالية , فقالت:
" قال لي ساشا أنك راحل , هل أمامك طريق طويلة؟".
" كلا , ليس كثيرا".
" أذن..... أتمنى لك رحلة موفقة, يا كارلوس".
مدت له يدها , أخذها وتركها لين يديه ثم تردد لحظة قبل أن يقول:
" في الواقع , جئت لأقنعك بالمجيء معي".
" المجيء معك؟".
" لا تتقلصي , لا أقوم بأقتراح وقح , لكن أبناء عمي تعرضوا لمشكلة بسيطة , ربما أنت قادرة على مساعدتي لحلها , مساء أمس , أتصلت هاتفيا بهيلاريو لأعلمه بوصولي , فأخبرني , أن مربية الأولاد , الآنسة سميث , دخلت المستشفى لأجراء عملية جراحية صغيرة , وسألني أذا كنت أعرف فتاة أنكليزية قادرة أن تحل مكانها لمدة أسبوعين أو ثلاثة , وقد فكرت فيك".
" لكن......... وعملي هنا؟ وسيارتي؟".
" كلمت بيدرو بالأمر , فلا مانع لديه أن يحررك , أما بالنسبة الى السيارة , فلن تكون مسألة أيصالها الى المزرعة عملية صعبة".
كانت ترغب في أن تسأله كم من الوقت سيبقى عند أبناء عمه , لكنها وجدت الأمر دقيقا للغاية , فقالت:
" هل يعيدني بيدرو الى المخيّم متى عادت المربية الى عملها؟".
" طبعا , ربما أقترح أبناء عمي عليك شيئا آخر , عملا مثيرا أذا ما أردت تمديد مدة أقامتك في أسبانيا , صحيح أن عملك هنا في المخيم ممتع لكن لا يمكنه أن يقدم لك ألا نظرة محدودة عن حياتنا , ألا ترغبين في أكتشاف أسبانيا الحقيقية خارج السياحة؟".
" بلى , طبعا ".
" أذن , أنت موافقة للذهاب".
" لكنني لم أهتم كثيرا بالأولاد .... وأخاف أن....".
" لا أهمية لذلك , سيطلب منك مراقبتهم , وقراءة القصص.... أحيانا تضطر لويز في غياب المربية أن تحل مكانها , لكنها الآن حامل وعليها الأهتمام بنفسها على أكمل وجه".
" أذن, سأغتنم هذه الفرصة لأكتشاف الحياة العائلية في أسبانيا ".
" عظيم جدا".
كان يبدو أنه لم يشك لحظة واحدة أنها سترفض طلبه".
" كم تحتاجين من وقت لتحضري حقائبك؟".
" نصف ساعة".
وبعد ساعة , ودّعت صوفيا آل فينغيلد وساشا وكل العاملين في المخيم ورافقت كارلوس في طريقه الى مالاغا , هل هذا القرار كان عاقلا؟ لا شيء يؤكد ذلك....
أخرج من الصندوق الداخلي خريطة وأعطاها لصوفيا التي فتحتها ورأت أمامها كوستا ديل سول بكاملها , لكنها ما لبثت أن عادت تتذكر سهرتها الأولى في برشلونة عندما همس كارلوس في أذنيها بعد أن عانقها :
" تصبحين على خير , يا حبيبتي".
رأت نفسها من جديد بين ذراعيه وراحت تحلم في اليقظة... وتتخيّل أنهما ذاهبان في رحلة شهر العسل.....
أنتفضت وعادت الى الواقع عندما سمعت زمورا قويا , يا ألهي ما هذا الجنون في الأسترسال بأطلاق العنان لمخيلتها المجنونة! كانت السيارة البيضاء الكبيرة تلتهم الأميال , توقفا للغداء في محطة ماريبللا الأرستقراطية ثم وصلا الى سان بيدرو في حوالي الرابعة , ومن هناك أنعطفت السيارة من الطريق الدولي لتدخل الطرق الفرعية داخل الأراضي , ولاحظت صوفيا أن منطقة روندا الجبلية هي أكثر توحشا من منطقة غرناطة الساحلية.
قال كارلوس كأنه قرأ ما يراود أفكارها:
" هذه المنطقة كانت في الماضي مليئة بالأرهابيين اللصوص حتى نجح البوليس بالتخلص منهم منذ عشرين سنة تقريبا".
ومن وقت الى آخر , كان يبطىء سرعته كي تتمكن من رؤية الوديان المنحدرة والقمم البعيدة , في هذا المكان الضائع , المخصّص فقط للنسور.... البرية , يبدو وجودهما عملية وقحة.
وبقيا مدة ساعتين يغوصان في هذه الصحراء , خفّت أشعة الشمس الحارة وأصبح الهواء منعشا , ولما وصلا الى القمة , توقف كارلوس ليفتح صندوق السيارة وفي هذا الصمت المفاجىء رأت صوفيا من بعيد قطيع ماعز , أنخفضت الشمس قرب المحيط وبعد قليل سيحل الظلام.
أعطاها السترة الكحلية وقال:
" عليك أن تضعي السترة من جديد".
فأرتدى هو أيضا سترة بنية وظلّ مدة غير قصيرة واضعا يديه على وركيه يتأمل المنظر الرائع , والنسيم الناعم يلعب بشعره الأسود ونور شمس المغيب أعطى بريقا برونزيا على وجهه , ولاحظت صوفيا أن كارلوس هو فعلا أبن هذا البلد الخشن, وفي الحال عادت الى ذاكرتها جميع القصص التي حاكتها حول ( حاكم السيبرا) ..... وخاصة رحلة الخيل في الجبل...... هل هذا نذير..........؟
وكأنه لاحظ أنه مراقب , نفض يديه وصعد الى السيارة , لكن , بدل أن يقلع كالعادة , جلس جانبا وراح يحدق مطولا بصوفيا.
سألته بصوت متوتر عن الطريق وطوله:
ط كلا , ليس كثيرا , هل أنت متعبة؟".
" لا , أبدا , لكن هذه المنطقة منعزلة تماما , أليس كذلك ؟".
ظل كارلوس صامتا مدة طويلة حتى رمقته بنظرة سريعة , فنظر اليها بشغف قوي لم يسبق أن رأته هكذا من قبل , ألا في أحلامها العديدة.
" ألم يخطر ببالك أن أبناء عمي ليسوا سوى حجة وأنني لم أعد مرتبطا بوعدي؟".
في أحلامها الماضية كانت ترى أنه من السحر أن تقع في أيدي رجل جذاب يحاول أغراءها , لكنها أكتشفت اليوم أن هذا الوضع ليس مريحا ولا وجود للسحر فيه!

hnew 18-06-11 12:40 AM

الرواية بتجننننننننننننننننننننن يسلمو ايديك عنجد روعة بليز ما تطولي علينا فيها :55::dancingmonkeyff8:

عطني روحي سيدي 18-06-11 02:38 AM

الروااايه خيااااااااااااال لاتطوولين عليناااا

نيو فراولة 18-06-11 01:20 PM

5- البرقية المفاجئة




أنحنى كارلوس واضعا ذراعه حول كتفي صوفيا وقال باللغة الأسبانية:
" عندما أفكر أنني لم أعانقك من قبل أرى الأمر مذهلا !".
حاولت صوفيا أن تقول بلهجة غير مبالية وباللغة الأنكليزية:
" لكنك عانقتني مرتين حتى الآن , ي كارلوس".
أنتفض مندهشا وقال:
" مرّتان؟".
" تقريبا! مرة في المصعد في برشلونة , كما كنت على وشك أن تعانقني , عندما تعثرت في الطريق , ليلة دعيتنا الى العشاء".
بدأ يضحك ويشد قبضته ويقول:
" وهربت في هذا المساء , أليس كذلك ؟ لكن , في ما يتعلق بعناق المصعد , فلم يكن سوى تحية صداقة , أما اليوم , فبالعكس .....".
أغمضت صوفيا عينيها , وفي هذه اللحظة بالذات , سمعت الحوافر تقرقع على الطريق , وبعد لحظات ظهر بغل وعلى ظهره فلاح راح ينظر إليهما بفضول ظاهر , لم يكن وحيدا وكان يلحق به شابان على ظهر بغلين , حياهم كارلوس , ثم أدار المحرك وقال:
" هناك من يعيش في هذه المنطقة , كما ترين".
غابت الشمس وحل الغسق وغاب السحر عن الهضبة , فجأة شعرت صوفيا بالخجل لأنها تجاوزت حدود مخيّلتها وشكّت بنية كارلوس.
وعلى الطريق بدأت المزارع البيضاء تبرز , سألت صوفيا :
" هل ما زالت السيدة ماك كينلي في زيارة أبناء عمك؟".
" كلا , لقد عادت الى أسكتلندا , وماري لويز في زيارة بعض الأصدقاء في الوقت الحاضر لكنك ستتفقين مع الآخرين بسرعة".
" هذا ما أريده ".
" لا شك بالأمر أبدا".
بعد قليل خفّف كارلوس سرعته ثم توقّف بين ركيزتين عاليتين كتب عليهما ( مزرعة كوبريل ) هذه المزرعة هي أيضا مركز للضيافة , وتبعد مسافة طويلة عن الطريق العام , من الخارج كانت تبدو قلعة حصينة , النوافذ مزيّنة بقضبان الحديد السميك , والباب الكثيف مزيّن بمسامير ضخمة من الحديد المصقول.
هز كارلوس الجرس , وفي الحال أنفتح باب صغير وسط الباب الكثيف , وأنحنى الخادم أمام صوفيا قبل أن يشرح لكارلوس أن الجميع ذهبوا الى روندا لحضور حفلة عرس وأنهم سيعودون عما قريب .
وفي هذا الوقت كانت صوفيا تنظر حولها بفرح ودهشة , وسط المساحة الرخامية سبيل يهدر قرب شجرة تين ضخمة تحتل زاوية بكاملها , ومن الزاوية الأخرى سلم يصل الى رواق شاسع وفيه أبواب عديدة لغرف عديدة .
وبعد فترة قصيرة تقدمت من صوفيا خادمة شابة ودلّتها الى غرفتها في آخر الرواق , بينما أختفى كارلوس في الطرف المعاكس.
عندما خرجت صوفيا من غرفتها وهي تشعر بأرتياح وأنتعاش , رأت التينة مزيّنة بالقناديل المضاءة , الأضواء تشع في الزوايا الأربع للساحة , وتحت الشجرة مدت طاولة كبيرة , وقرب السبيل يثرثر الأولاد بلباس أنيق.
ولما رأى الأولاد صوفيا تهبط السلالم , سكتوا في الحال , وشاهدت صوفيا حينئذ كارلوس وهو يتحدث مع رجل أكبر سنا , فقال:
" دعيني أقدم لك أبن عمي هيلاريو!".
قال الماركيز وهو يشد على يدها :
" أنا سعيد أن أستقبلك في كوبريل , يا آنسة , وأتمنى لك أقامة ممتعة بيننا , طلبت مني زوجتي أن أعتذر منك لأنها لن تراك الآن , فهي مرهقة بعد هذا الحفل الذي حضرناه في روندا , أنت تعرفين أنها حامل , على ما أظن".
" نعم , أخبرني كارلوس بالأمر".
كان هيلاريو متوسط القامة وقويا , شعره كستنائي ووجهه أسمر وذو تعبير صادق لا يتمتع بالنبل الأسباني حسب ما تصورته صوفيا , ومن السهل أعتباره فلاحا وصيادا.
الأولاد عددهم ستة , أربعة صبيان وبنتان , كانوا يقفون في الصف بأنتظار أن يقدمهم الوالد الى المربية الجديدة .
فقال لها كارلوس بتهكم بعد أن قام الوالد بالتعريف المتّبع:
" ليسوا دائما هكذا , أنتظري قليللا قبل أن تعتبريهم في عداد المؤدبين".
وبعد العشاء , ذهب الصغار الى النوم بسرعة , بينما بقي الكبيران في زاوية يلعبان الشطرنج.
قال الماركيز :
" للأسف , أنا مضطر الى العودة غدا الى سيفيل , وأنت , يا كارلوس ؟ ما هي مشاريعك ؟ هل تنوي البقاء هنا بعض الوقت؟".
لم يرد عليه في الحال , فحبست صوفيا أنفاسها , وأخيرا قال:
" بأمكاني البقاء بضعة أيام , ربما حتى الأسبوع المقبل........".
" عظيم جدا".
فجأة سأل كارلوس:
" هل تركبين الخيل يا صوفيا ؟".
" كلا , أنا آسفة جدا".
" أن ركوب الخيل يسمح بزيارة أماكن عديدة بعيدة ومنزوية وأحيانا قيادة سيارة الجيب تساعد على ذلك".
نهض وأطفأ الأضواء والقناديل ولم تعد الساحة مضاءة إلا بنور القمر , ولما عاد نحوها تساءلت صوفيا أذا كان ينوي أكمال الحديث الذي قطعه وصول الرجال الثلاثة على ظهر البغال , لكنه قال بصوت عادي :
" النهار كان طويلا , ومن الأفضل لك أن تذهبي الى الفراش ".
هل يجب أن تشعر بخيبة أو بأرتياح لأنه لم يعانقها?
نهضت من مقعدها وسألته:
" بأي ساعة يجب أن أستيقظ صباح الغد؟".
" باكرا على ما أظن , لكن لا تقلقي لهذا الأمر , أذا كنت نائمة , فستوقظك الخادمة في الوقت المناسب لتناول فطور الصباح , تصبحين على خير يا صوفيا".
" تصبح على خير , يا كارلوس".
منتديات ليلاس
أستيقظت صوفيا في الصباح على صوت الأجراس , فقفزت من سريرها لتلقي نظرة من النافذة , رأت قطيع ماعز يرعى قريبا من التلة , وصاحب القطيع يغني أغنية شعبية , أتتكأت صوفيا على درابزين الشرفة وراحت تصغي بفرح الى الأغنية الصاعدة في سكينة الصباح , هنا قلب أسبانيا!
فجأة سمعت صهيلا وصوت حوافر , فظهر كارلوس تحت الشرفة يمتطي حصانا أسود رائعا , ويعتمر قبعة قش عريضة , رمادية اللون , وبالصدفة , رفع عينيه نحو الشرفة , ولما رأى صوفيا , خلع قبعته وقال:
" صباح الخير , أستيقظت باكرا جدا".
" صباح الخير , أستيقظت على صوت أجراس الماعز".
تذكّرت في الحال أن قميص نومها خفيف وشفّاف فقد حاكتها لها عمتها من قماش الكتان الناعم وزيّنتها بتخريم أنيق , وهذا اللباس لا يصلح لأرتدائه والتحدث مع رجل مثل كارلوس! لكن فات الأوان, ومن الأفضل أن تتظاهر كأن شيئا لم يكن.....
أنتظرت حتى أبتعد نحو التلال لتدخل الى غرفتها , ولشدة دهشتها لم يلاحظ كارلوس خفة ملابسها , آه , لم تعد تعرفه..
نظرت الى المرآة وتساءلت : (ألست جذابة كفاية , في هذه القميص العنكبوتية , وهذا الشعر المشعث المنسدل بحرية على كتفي , وهذين الخدين الورديين .......؟)
هل يتصرف بلا مبالاة , فقط لمجرد الملاطفة والرقة؟ كيف تفسّر هذا التغيّر المفاجىء من قبل رجل أراد منذ فترة أغراءها؟
وفي الأيام التالية كان كارلوس يتصرف معها في غاية الأدب ال درجة اللامبالاة , كما لو كانت شقيقته أو فتاة بسن العاشرة , هل كانت تحلم عندما فجأت تعبير وجهه الشفوف قبل وصول الرجال الثلاثة على بغالهم؟
وبعد يومين , أصطحبها كارلوس مع الأولاد الى روندا , فأعجبت بهذه المدينة القديمة الجميلة , ذات المناظر اللابة , والبيوت البيضاء والكنائس العالية المبنية على أطراف الصخور الشاهقة , فبياض البيوت وسواد الدرابزين في الشرفات ولون القرميد , كلها تشكّل لوحة متناسقة.
وعرفت صوفيا أن روندا مليئة بالحلبات والميادين القديمة , لكن لم يكن يهمها كثيرا أن تكون هذه المدينة مهد مصارعة الثيران , فكانت تفضّل زيارة السوق حيث تتصاعد رائحة التوابل والبهارات , المختلطة برائحة الزيت والياسمين والأمواج , أشترى كارلوس من السوق كيس زعفران لزوجة أحد أصدقائه الأنكليز بسعر زهيد جدا , فأهداه البائع بعض الملبس الصغير المعطر بالنعناع.
ولما مروا أمام بائع الخبز والحلوى , أشترى كارلوس للأولاد كيسا كبيرا بداخله خبزا بشكل الأسهم , وتذكّر الأسهم التي يغرزها مصارع الثيران في كتفي الثور.
وفي يوم آخر , ذهبوا الى ( البورغو ) وهي قرية صغيرة لا ذكر لها على الخريطة , وهناك رأت صوفيا للمرة الأولى ( التولدوس ) وهي خيام مبنيّة من نبات الحلفاء التي يصنع منها الورق عادة , ومعلّقة فوق الشارع , من سقف الى آخر محدثة أماكن ظل , يجلس تحتها القرويون على مقاعد من القش ويثرثرون , وبدى مرور الأجانب , يسكتون وينظرون اليهم بعيون فضولية وثقيلة.
منتديات ليلاس
القرية المفضلة لكارلوس كانت مونتجاك , حيث المنازل البيضاء تندرج على سفوح التلال حتى ساحة صغيرة ظليلة , وعلى أحد جوانب الساحة يوجد معمل لكورينزو , أشترى كارلوس الكثير منها لأصدقائه الأنكليز , وعلى الطرقات المرصوفة حملت النساء على رؤوسهن دلاء في طريقهن الى النبع لغسل الملابس.
وبعد زيارة مونتجاك , توجهوا الى غابة سنديان ليتناولوا الطعام في الهواء الطلق , كانت الطاهية قد أحضرت سلة ضخمة مليئة بالطعام الجيد واللذيذ لكن كارلوس كانت له نظرة خاصة جدا في كيفية تحضير الطعام في الهواء الطلق وبعد قليل أنتشرت رائحة ذكية من البصل والخبز المغمس بزيت الزيتون ودغدغت أنف صوفيا , فقالت جوانا:
" تقول الخادمة أنه من المخجل أكل الخبز والزيت , لأن ذلك خاص بالفقراء".
أجاب كارلوس وهو يقطع شرائح البندورة :
" هذا دليل نقص ببساطة , ما هو طيب بحد ذاته طيب للجميع , أغنياء كانوا أم فقراء".
كانت صوفيا تتأمل حالمة , فأشتبكت نظراتهما , فقال كارلوس:
" أتريدين مشاركتي في وجبتي , يا صوفيا؟".
" هل تكفي لأثنين؟".
" أكثر مما يجب".
مرّ قطيع بقر أسود قربهم يرافقه راعيان يركبان حصانين رماديين , وشعرت صوفيا بأفتتنان لأنشودة الألوان الرائعة : العشب اليابس الذهبي , جذوع الشجر البرتقالية , الأوراق الخضراء والرمادية , السماء الزرقاء فوق رؤوسهم , هذه هي السعادة , لن تنسى أبدا هذا المكان...
أحد الفرسان عاد الى الوراء وحيّاها , كان ينظر اليها بحدة ودفء مما جعلها تعود الى الواقع , أما كارلوس فلم يعد ينظر اليها هكذا..... في كل حال , ما أن أنتهى الغداء , حتى تمدد من دون كلمة ليأخذ القيلولة.
تفرّق الأولاد يلعبون , وبقيت صوفيا جالسة على كرسي صغير منخفض , تتأمل حالمة القمم البعيدة المحجوبة بضباب شفاف , نام كارلوس فأدارت نظرها بأتجاهه , ولما رأته ممددا بأهمال وثقة كالأولاد , شعرت فجأة برغبة كبيرة في أن تتمدد قربه وتضع رأسها في تجويف كتفه , وكم هو جميل لو أنه يضمّها بذراعيه لتنام قربه....
( العيش مع الحبيبة في الهواء الطلق هي الحياة الكاملة والحرية).
فجأة قطع الصمت دوي محرك , فأستيقظ كارلوس وجلس , وبشكل شاحنة ضخمة تبرز أسبانيا العصرية في عنف من هذا الأطار الهادىء , الغريب من الزمن.
ستتذكر صوفيا دائما رحلتها في مغارة ( بيلتيا ) الواقعة فوق قرية بناوجان , لا تشبه هذه المغارة تلك التي رأتها في نيرخا عندما تشاجرت مع مايك وجاء كارلوس ليبحث عنها ....... أما هنا , فلا وجود لمقهى , أو لدكان سياحي أو لمرآب واسع.
وللوصول الى هذه المغارة كان عليها أن تسلك طريقا متعرجا يصل الى سلالم محفورة في الصخر , سياج حديدي يسد فتحة داخل الصخرة , وأمام المدخل يجلس أسباني راح ينظر اليهما من بعيد مبتسما وقال:
" آه , هذا أنت يا دون كارلوس ! مضت دهور على زيارتك الأخيرة!".
منتديات ليلاس
صافحه كارلوس بشدة وقدم له صوفيا التي عرفت أن جد الرجل أكتشف هذه المغارة عام 1905 , ولما كان كارلوس صغيرا , زار المغارة عشرات المرات ويعرف المكان عن ظهر قلب , أعطاهما الحارس القناديل المضاءة بالغاز وتركهما يتجولان داخلها وحدهما من دون أن يضطر لمساعدتهما كدليل سياحي.
سحرت صوفيا بالرسوم الصخرية , أحداها كانت تمثل بغلا وأخرى عنزة ذات القرون الضخمة , والأكثر أدهاشا تلك التي تمثل سمكة كبيرة طولها متر وربع المتر , وحيث كانت القبة الصخرية يوداء , , هناك كان أسلافنا القادامى يشعلون النار.....
ولما وصلت صوفيا الى الحجرة التالية , شعرت بصدمة لرؤية هاوية عميقة.
" عمقها ستون مترا , هبطت فيها مرة بواسطة حبل طويل".
زعقت صوفيا وصرحت:
" هذا كلام غير صحيح......".
" بلى , صدقيني ".
" آه , لن أهبط فيها مهما كلف الأمر".
رفع كارلوس المصباح ونظر الى صوفيا بأمعان , ثم أمسك يدها ببطء وقال:
" لا شك أن هذه الهاوية كانت تستعمل من قبل أسلافنا لرمي النفايت ..... هيا , لنخرج من هنا".
أطلقت صوفيا زفرة أرتياح كبيرة عندما خرجت الى الهواء الطلق.
قال لها كارلوس :
" لو كنت مكانك , يا صوفيا لرفضت زيارة الكهوف من الآن فصاعدا , لو كنت أعرف أنك تخافين الأماكن المقفلة , لما جئت بك الى هنا".
" أنا آسفة , هذه حماقة من قبلي , لقد..... شعرت فجأة أن السقف سينهار على رأسي".
" لا شك انك كنت تعانين خوفا شنيعا , يدك كانت رطبة وباردة , لا ضرورة للشعور بالخجل أمام أمر كهذا , فأنت تخفين أحاسيسك وهذا كبت رهيب".
وبرغم تفهم كارلوس ولطفه , كانت صوفيا تخشى أن تكون قد خفت شأنا بنظره ..... لا شك أنها أعطته نظرة مخيفة وجبانة.....
وفي روندا ألتقت صوفيا للمرة الأولى بأنطونيا , عندما كانت تتأمل منظر مضيق جبال غوادالفين , كانت الفتاة السمراء ترتدي سروالا أبيض وقميصا أصفر وحقيبة يد بيضاء معلّقة بكتفها , وكانت نظارتاها تلمعان تحت أشعة الشمس عندما هتفت :
" كارلوس!".
" مرحبا , أنطونيا! كيف حالك؟".
تكلم معها باللغة الأنكليزية فأجابته:
" كنت ضجرة حتى الموت..... وأنت جئت في الوقت المناسب! هل ستبقى هنا وقتا طويلا ؟ لا تقل لي أنك عائد في الغد؟"
" لا , لا , سأبقى هنا بضعة أيام , صوفيا , أقدم لك أنطونيا يوبيرا , صديقة طفولتي".
تصافحت الفتاتان وشعرت صوفيا أن أنطونيا كانت تفضل لو ألتقت كارلوس من دونها ومن دون الأولاد المتعلقين بأذيالها.
" خلال كل الوقت الذي أمضيته هنا , كان المنزل مليئا بالأعمام والخالات فضجرت حتى الموت , رحلوا الآن وعاد أبي ينغمس من جديد في الكتب , تعال ودعني ألهو يا كارلوس , متى بأمكانك تناول العشاء عندنا؟".
أخرجت مفكرتها وقالت:
" أنا مأخوذة مساء اليوم وفي الغد أيضا.... نهار الجمعة , هل هذا ممكن؟".
" نعم , لكنني أفضّل أن أكلّم لويزا بالأمر , لعلعا قامت بمشاريع أخرى , سأرسل لك كلمة بهذا المعنى".
قطّبت أنطونيا حاجبيها وقالت:
" صحيح , الهاتف لا وجود له في المزرعة , كيف بأمكان الماركيز وعائلته أن يعيشوا من دون هاتف؟".
" أنها الوسيلة الوحيدة لهيلاريو أن يستريح ويسترخي عندما يريد الهرب من كثرة أعماله , في كل حال , البرقيات تصل بسرعة بواسطة ساع خاص".
" أنني أشعر بالشفقة على لويزا المقطوعة عن العالم , وعن الأصدقاء......".
وفي طريق العودة شرح كارلوس لصوفيا قائلا:
" والد أنطونيا دبلوماسي متقاعد , أنه يكرّس وقته الآن في مجموعة الكتب المجلّدة".

عطني روحي سيدي 18-06-11 11:11 PM

أنتظر التكمله بشوووق روايه رررائعه

انجلى 19-06-11 01:14 AM

الراوتيههههههههههههههههههههههه رائعععععععععععععععععععععع اتمنى الا تتاخرى فى اكمالها :55::55::liilas:

نيو فراولة 19-06-11 02:18 PM

ويوم الجمعة , قال لها كارلوس بعد أن أنتهى من الغداء :
" على فكرة , شرحت لأنطونيا في رسالتي أنك حفيدة رجل يحترف جمع الكتب النادرة , فسبفرح السيد يوبيرا بالتعرف اليك".
" لكنني لا أعرف شيئا عن المجلدات!".
" تعرفين أمورا كثيرة , أكثر من جميع أصدقاء أنطونيا!".
أضافت الماركيزة تقول:
" بيتهم رائع يشبه قصرا صغيرا , وأثاثهم جميل ونادرا .....".
كانت صوفيا ترتدي فستانا عندما دخلت لويزا الى غرفتها وصرخت وهي ترى الفستان الأصفر الحريري:
" آه , كم هو جميل ثوبك ! أنه بسيط ويدل عن ذوق رفيع , أفضّله عن الفساتين المعرّقة التي ترتديها عامة الأنكليزيات في السهرات".
أضافتلويزا تقول:
" كنا نعتقد لفترة طويلة أن كارلوس سيتزوج من أنطونيا يوبيرا , لكن كارلوس كان متشددا وكثير التطلب , لا تكفيه أمرأة جميلة وبصحة جيدة , لا , أنه يريد شيئا آخر أيضا , ماذا ؟ لا أعرف , ربما أنت تفهمين أكثر مني , يا صوفيا؟".
" أنا؟ لا...... لماذا؟".
رفعت لويزا كتفيها وقالت:
" ربما لأنه نصف أنكليزي , لأنني عما أعرف , فالشعب الأنكليزي يتزوج عن حب .. هل تؤمنين بالحب , يا صوفيا؟".
" آه , نعم , أؤمن بالحب الحقيقي , الذي يشمل العقل والجسد .... لا أعتقد أن كارلوس......".
توقفت عن متابعة الكلام لسماعها طرقا على الباب , فقالت:
" أدخل".
شق كارلوس الباب وسألها:
" هل أنت جاهزة؟".
قالت لويزا:
" أنا مع صوفيا وبأنكانك الدخول".
" آه , تصورت أنك سترتدين الثوب الأبيض والدثار المخملي الأخضر , كما كنت في برشلونة".
سألت صوفيا لويزا:
" هل يجب أن أرتدي الثوب الطويل؟".
نظرت لويزا الى كارلوس وقالت:
" لم تقل أنها سهرة كبيرة , يا كارلوس , لقد تصورت أنكما المدعوان الوحيدان....".
" نعم , أظن ذلك".
" أذن , هذا الثوب الأصفر رائع لهذه المناسبة".
أضاف كارلوس :
" وساحر أيضا , لم أكن أنوي النقد ,أو... لكن........".
نظر الى ساعة يده وقال:
" يجب أن نذهب الآن".
ولما أصبحا في السيارة , قال كارلوس:
" ليس هذا الثوب هو الذي لفت نظري , أنما أبتسامتك ....... في تلك السهرة....".
وخلال الطريق كان يحدّثها عن أسبانيا وأمله في أن يلعب هذا البلد دورا مهما في السوق الأوروبية المشتركة , لم يسبق أن تحدث عن هذا الموضوع, لا في برشلونة , ولا في برج الموورز , فأندهشت وفيا للأمر وفرحت له.
ومنزل آل يوبيرا الرائع كان يطل على قرية صغيرة قريبة من روندا , داخله متحف حقيقي.
أستقبلهما آل يوبيرا بدفء ثم أخذ صوفيا في الحال الى مكتبته الضخمة ليريها كنوزه.
هل دعاها كارلوس للمجيء معه ليكون أكثر حري في مغازبة أنطونيا؟
وبعد عشر دقائق جاءت أنطونيا الى المكتبة وقالت:
" آه , يا أبي , ألا تخجل لأنك إستأثرت بالآنسة لنغوود , حتى أنك لم تقدم لها شرابا الى الآن! العشاء جاهز".
وبالرغم من أحتجاجات والدها , توجهت أنطونيا الى غرفة الطعام , ودار الحديث حول مجموعة الكتب عند الرجلين , وكانت صوفيا تصغي بشغف , محتفظة بعدم البوم عن أهتمامها بأنتقاداتها وتعليقاتها.
وفي طريق العودة الى المزرعة , قال لها كارلوس:
" أخشى أن تكون هذه السهرة قد أزعجتك حتى السأم ... لو كنا قرب الساحل , لأخذتك الى مرقص في مكان ما , لكنه لا يوجد في الضواحي ناد راقص كما يجب , وحتى في روندا بالذات".
صرخت صوفيا محتجة:
" لم أسأم لحظة واحدة , وأرجو أن تصدقني! هل يسكن أصدقاؤك هنا طيلة السنة , أم خلال الصيف فقط؟".
" خلال الصيف فقط , لكنني أعتقد أن دون سلفادور لن يغادر قصره هذا متى تزوجت أنطونيا؟".
" هل هي مخطوبة ؟".
" نعم , لكن الأمر لم يصبح رسميا بعد , وجدت أخيرا الرجل الذي يليق بها , مع أنه لا يشاطر حب والدها الكتب , بنظرها , محترف واحد في العائلة , يكفي!".
" بعض النساء يقبلن أن يكون أزواجهن من محترفي الكتب النادرة , وهذه كانت حال جدتي".
" هذا أستثناء للقاعدة , فمعظم النساء يشعرن بغيرة من هذا الشغف , وهدف الهاوي يقع على أمرأة هاوية مثله , وهذا نادر جدا".
كانت صوفيا تفكر بجواب عندما سمعت كارلوس يطلق شتيمة وينعطف بشدة جانبا كي يتحاشى أصطداما بسيارة غير مضاءة برزت أمامه وسط الطريق بسرعتها الجنونية.
وبأعجوبة , لم يكن للصخر وجود في طريق أنعطاف السيارة التي غاصت في العشب والأشواك وتوقفت على بعد أنتفاضة أخيرة.
سأل كارلوس في الحال:
" هل أصبت بجراح".
أجابت بصوت متقطع :
" لا ..... لا........".
" هذا النوع من الناس يشكل خطرا كبيرا على السلامة , كان بأمكانهم قتلنا ببساطة , آه , لو كنت قرب الهاتف , لطلبت من شرطة المنطقة الألتفاف لملاحقتهم!".
" لماذا لم يشغلوا أضواء السيارة؟".
" الله وحده عالم بالأمر , لا شك أنهم سكارى ليقودوا بهذه السرعة الجنونية , كل ما أعرفه , هو أننا محظوظون أذ تمكّنا من الخروج سالمين".
كان على حق , فأحدى العجلات كانت ملتوية كليا , وبحاجة لأستدعاء فريق التصليح.
سألته صوفيا:
" هل ما نزال بعيدين عن المزرعة؟".
" 25 كيلومترا تقريبا من المزرعة , و15 كيلومترا من منزل آل يوبيرا .... يجب أن نطلب من هذه المزرعة القربة من هنا أن تؤوينا ..... لن تتمكني من المشي بسهولة في هذه الأحذية العالية ... أنتظري......".
فتح صندوق السيارة وقال:
" صباح اليوم ترك ستيفان كل معدات كرة المضرب داخل الصندوق , فسترتدين حذاءه ربما يكون واسعا , لكنه أفضل من حذائك العالي الكعب , أجلسي سأساعدك على أنتعاله".
أطاعت صوفيا بصمت وهي ما زالت تحت الصدمة العنيفة , ركع ليساعدها على خلع صندلها المقطع , فرأت الدم ينزّ من صدغه , فصرخت تقول:
" لكن , أنت مجروح؟".
" أنا , لا, أبدا!".
" بلى , يا كارلوس ! أنظر".
لمست خده النحيل وأرته أطراف أصابعها الملطخة بالدم.
" هذا جرح بسيط , لم أشعر به".
أخرج منديلا من جيبه ومسح وجهه , ثم قال لها:
" أعطني يدك لأمسح أصابعك وألا أتسخ فستانك ... لكنك باردة يا عزيزتي! أرتدي سترتي أذن!".
وبلحظة سريعة خلع سترته ووضعها على كتفي صوفيا فقالت:
" " لا أشعر بالبرد , لا شك أن ذلك ناتج عن الأنفعال والصدمة , وبعد قليل سأشعر بتحسن فلا داعي أن....".
" لا تناقشي أرجوك".
مشيا حوالي ثلاثة كيلومترات عبر الحقول قبل أن يصلا الى المزرعة البيضاء تحت ضوء القمر , لم يترك كارلوس يد صوفيا التي كانت تعود الى روعها.
" هل ستطلب من صاحب المزرعة أن يعيرك سيارته؟".
" ربما لا يملك سيارة ! سنضطر أن نقضي الليل هنا , هيلاريو يستيقظ باكرا ومتى لاحظ غيابنا , سيبدأ في البحث عنا وسيجدنا من دون شك".
لا أثر لأي شعاع نور من خلال النوافذ الخشبية المقفلة , طرق كارلوس الباب عدة مرات , وبعد دقائق طويلة , أنفتحت مافذة فوق رأسيهما وظهرت بندقية مصوّبة أليهما , لكن عندما شرح كارلوس سبب وجودهما , أختفت البندقية , وبدأت تسمع أصوات الأقفال , أخيرا أنفتح الباب.\كان الرجل ذا لحية بيضاء طويلة تخفي خدين غائرين ومجعدين , وبدأ يتكلم األأسبانية بلهجة لم تتمكن صوفيا من فهمها.
أضاء الفلاح قنديلا على الغاز وأخذهما إلى غرفة في الطابق الأول ولشدة دهشة صوفيا كان السرير واسعا يحتل وسط الغرفة والجدران مليئة باللوحات الزيتية.
فتح المزارع العجوز باب الخزانة وقال :
" خذي ما تريدينه من شراش وأغطية".
فشرح كارلوس لصوفيا بالأنكليزية ثم أضاف:
"" توفيت زوجته , وهو لا يعرف شيئا حتى تأتي خادمة من القرية لتهتم بهذه الأمور".
فتح المزارع درجا وشرح لها كارلوس ما قاله:
" أنه يقدم لك قميص نوم كانت تملكه زوجته .. هل تعتقدين أته بإستطاعتك النوم في هذا الجو؟".
" على الأقل , في هذا المناخ , الفراش ليس رطبا , غرفتك ربما جوّها رهيب أكثر...".
" من يعلم , ربما عليّ أن أتقاسم سريره؟".
وبعد أن أشعل الضوء , تمنى المزارع لصوفيا ليلة سعيدة وخرج برفقة كارلوس.
كانت الشراشف تعبق فيها رائحة زهرة أكليل الجبل , وقميص النوم المزينة بالدانتيل على طرف الأكمام وحول العنق , كانت تغلف الفتاة من قدميها حتى ذقنها.
فتحت النوافذ الخشبية وراحت تتنفس بملء رئتيها الهواء المنعش , وعندما أنتفضت لسماعها طرقا على الباب , هتفت:
" أدخل".
دخل كارلوس حاملا بيده فنجانا ساكنا .
" المزارع أعدّ لك فنجان زهورات , أظن أنه زهي البرتقال ".
أجابت صوفيا وهي تضع الفنجان على الطاولة :
" أنه ساخن جدا , سأدعه ليبرد قليلا قبل أن أحتسيه , لقد فتحت النوافذ الخشبية .... لأنني كنت أكاد أختنق...".
" وهذا القميص الواسع الطويل ليس معدا لمثل هذه الظروف ".
" ماذا سنفعل في حال لم يجدنا إبن عمك صباح الغد؟ هل يمر الباص من هنا ؟".
" لا تقلقي , سيصل هيلاريو إلى هنا حتى قبل أن تستيقظي".
" هذا إذا إعتقد بوجود حادث , آه , طبعا ...... لكن , ربما ظن.... أن هنالك شيء آخر....".
" ماذا مثلا؟".
" أوه ...... أنه لا يعرفني ....... وبإمكانه أن يتخيّل أنه ..... أننا نحن.....".
" هذا ما تفكرين فيه , أنت؟".
" لم أقل هذا ........لكن......".
" أذن أنت لن تثقي بي أبدا ! بإمكاني أن أتصرّف معك مثل أخ لمدة شهور عديدة , لكنك ستظلين دائما متحفظة وبإستعداد للدفاع.......".
" عذا غير صحيح".
لكنه لم يسمع من شدة الغضب.
" هذاالفلاح يتصوّر أنك خطيبتي , يبدو أنه شامخ بأنفه ومتكلّف , أذا لم يرني عائدا إلى المطبخ بعد بضع دقائق , سيصعد إلى هنا حاملا بندقيته ويخرجني بالقوة , أذن , بإنتظار ذلك , ما دمت قد قررت عدم الثقة بي , فمن الأفضل لك أن تبرري خوفك......".
جذبها بشدة بين ذراعيه وراح يعانقها بشغف كأنه يعرفها ويحبها من زمن بعيد وقد ألتقاها بعد أشهر عديدة من الفراق....
وقبل أن تستعيد صوفيا وعيها , دفعها بعنف وخرج صافقا الباب , سمعته يهبط السلالم ويصفق بابا آخر , ثم عمّ الصمت الكامل.
وفي اليوم التالي أيقظتها أشعة الشمس التي خرقت وجهها , ولما نظرت إلى نفسها وشاهدت قميص النوم , تذكرت كل شيء , نظرت إلى ساعة يدها : التاسعة.
قفزت من السرير وأول ما فكرت به إيجاد المرحاض أو الحمام , أرتدت ثيابها بسرعة ومشطت شعرها ونزلت.
سمعت حديثا بالأسبانية أوصلها إلى داخل المطبخ , فتحت الباب المشقوق , ولدى دخولها , نهض المزارع وأحد خدم السيد هيلاريو , فتحت صوفيا عينيها المندهشتين وقالت بعد أن حيت الرجلين:
" أين دون كارلوس؟".
" ذهب إلى المطار , يا آنسة , طلب مني دون هيلاريو أن آتي لآخذك الى المنزل , ستجدين ثيابك وكل أمتعتك في هذه الحقيبة".
" شكرا , لكن.... لا أفهم , متى ذهب دون كارلوس ؟ ولماذا ذهب إلى المطار ؟ وأي مطار؟".
" مطار مالاغا , يا آنسة , لا أعرف المزيد, أظن أن دون هيلاريو سيشرح كل الأمر بالتفصيل , ولا يمكنني أن أقول لك في أي ساعة ذهب , لقد تلقيت الأوامر بإنتظار نهوضك من النوم".
" فهمت....".
ذهب كارلوس من دون أن يودعها! هذا أمر لا يصدق ! أهذه هي نهاية المطاف؟".
" هل بإمكانك أن تسأل صاحب المنزل أين هي المراحيض؟".
بعد أستشارة المزارع أجابها الخادم :
" المراحيض صغيرة جدا وتقع خلف المزرعة , في حجرة مبنية من ألواح الخشب السميكة , سيدلك العجوز إلى مكانها , وفي هذا الوقت سآخذ دلوا وماء ساخنا إلى غرفتك".
بعد ساعة كانت صوفيا قد وصلت إلى المزرعة , لم يكن هناك أحد , وحتى عودة الماركيز وعائلته من روندا , ظل القلق ينخر أعصابها.
قال لها هيلاريو لدى عودته:
" لا شك أنك ستفرحين أذا علمت أن المسؤولين عن الحادث قد أعتقلوا , كانوا يهرّبون المخدرات , سيسجنون عل الأقل مدة ست سنوات".
" لا شك أن البوليس يريد التحقيق معنا , وكارلوس هل سيعود للشهادة؟".
" طبعا , لكن في الوقت الحاضر , عنده أعمال طارئة تتطلب وجوده هناك , يا شعب مايوركا المساكين!..... كان حظهم أنحس من حظكما , أمس......".
قالت صوفيا من دون أن تفهم شيئا:
" شعب مايوركا؟".
قالت الدونا لويزا وهي تنظر إلى الفتاة:
" لا يمكن لصوفيا أن تكون قد عرفت ما حدث , يا هيلاريو , ما بالك! علمنا أمس , في آخر السهرة أن حادثا قد حصل مع خمسين سائحا أنكليزيا كانوا في الباص متوجهين إلى زيارة معمل اللؤلؤ , وكارلوس صاحب الفندق حيث أرادوا النزول , فسافر للحال ليساعدهم , سيشعرون بأمان وإرتياح إذا ما زارهم في المستشفى , خاصة أنه يتكلم الأنكليزية".
عاد الماركيز يقول:
"عندما وجدت كارلوس في المزرعة , صعدنا إلى غرفتك لنعلمك بالأمر , لكنك كنت تنامين بعم , ولم يرد كارلوس إزعاجك".
وفي الواقع , لم تفهم إلا شيئا واحدا , وهو أن رحيل كارلوس المفاجىء ليس له علاقة بما حصل لهما مساء أمس في غرفتها , مباشرة قبل النوم , وشعرت بإرتياح كبير .
قالت في لهجة قلقة:
" لكنه لم ينم ما فيه الكفاية".
" آه , لا شك أنه يعوّض في الطائرة , يعرف كارلوس كيف يستريح عند الطلب , ولو حصل ذلك مع غيره لأنزعج لأن سيارته قد تحطمت أو صدم بما حصل , أما كارلوس , فلا يجب التوقف عند مشاكله , يكفي أن يتصفح كتابا من كتبه العزيزة على قلبه لينسى ما تبقى".
راحت تسترجع بمخيّلتها تصرّف كارلوس الشهم , عندما كان بينها وبين البندقية المصوبة إليهما من قبل مزارع عجوز غير واثق... ما زالت تسمع حتى الآن صوته العذب عندما قال لها : ( لكنك باردة , يا عزيزتي! ) وبالإضافة إلى كل هذه الأمور , فهي تتذكر عناقه , هذه اللحظات المضطربة التي لا توصف , وفي الوقت الذي كادت فيه أن تسترجع وعيها لتضمه بدورها بين ذراعيها , كان قد دفعها بعنف وخرج من الغرفة كالمجنون......
وبعد يومين على الحادث وصل شرطي إلى المزرعة لأخذ شهادة صوفيا , وكان يجب أنتظار يومين آخرين قبل الحصول على أخبار من كارلوس , ولم يتكلم إلا عن الحادث الذي تعرّض له الباص الذي كان ينقل السياح الأنكليز , ولم يشر برسالته المقتضبة عن الحادث الذي تعرض له مع صوفيا , أو عن صوفيا , أو عن تاريخ عودته........

وأخذت الأيام تبد طويلة لصوفيا التي لم تتلق بطاقة بريدية واحدة منه , هل نسيها؟ هل ندم على تصرفه؟ هل سيعود؟ أسئلة عديدة كانت تعذب الفتاة بصورة مستمرة.
وبعد أسبوع , عندما كانت في غرفتها تكتب رسالة الى عمتها روزا في وقت القيلولة , جاءت الخادمة لتخبرها أن دون هيلاريو يريد أن يراها في الحال في الصالون التابع لجناح الماركيزة.
فوجئت صوفيا بالخبر , وإرتدت فستانا وتوجهت بسرعة إلى جناح لويزا , ولما رأت التعبير الحزين على وجه الماركيز وزوجته , والتلغراف في يد هيلاريو , أنتابها خوف شديد فصرخت بصوت مخنوق:
" يا ألهي... كارلوس؟".
قالت لويزا وهي تنهض من مقعدها :
" لا , لا , صوفيا , الخبر لا يتعلق بكارلوس! أنها أخبار سيئة من أنكلترا".
تناولت البرقية من يد زوجها ومدتها إلى صوفيا التي قرأت ما يلي:
" جدك في حالة مرضية خطيرة يعتقد الأطباء أن شفاءه مستحيل , هل بإمكانك الحضور؟".
الله وحده يعرف كم كانت صوفيا تحب جدها , وكم كان خبر نهايته تمزيقا رهيبا لها.... لكن لو حدث شيء كريه لكارلوس , لكان الأمر فاجعة لا توصف........
أجلستها لويزا لشدة أرتجافها وقال لها الماركيز :
" سنفعل كل ما في جهدنا أن نجد لك مكانا فارغا في رحلة مالاغا- لندن لهذا المساء, وفي منتصف الليل , تصلين إلى منزل جدك".
" والأولاد ؟ ماذا ستفعلون؟".
أجابت المرأة بلطف ومحبة:
" لا تقلقي من أجلي سنتدبر أمرنا , المهم أن تعودي إلى عائلتك في هذا الوقت العصيب , سيأخذك هيلاريو إلى مالاغا ..... من المؤسف أن كارلوس ليس هنا , لكان أوصلك حتى منزل جدك".
" في كل حال , لقد تعودت السفر وحدي".
" لا أشك في الأمر , لكن , ألا تعتقدين أنه لو كان كارلوس معك لكان أهتم بك كثيرا؟".
" نعم , بكل تأكيد ".
تذكّرت صوفيا رحلتها إلى السييرا والإهتمام الزائد الذي أحاطها كارلوس به , نعم , لا شك أنها تفرح كثيرا لو يرافقها كارلوس في سفرها إلى لندن .... لكن , من الآن فصاعدا , يقول لها أن عقلها عليها أن تتكل على نفسها , فلن تجد أحدا تستند إليه.... هل بإمكانها أن تنسى كارلوس؟
وصلا إلى المطار نصف ساعة قبل أقلاع الطائرة وكان من المستحيل الإتصال هاتفيا بالعمة روزا لإعلامها بمجيئها.
" لا تقلق علي , يا هيلاريو , الطريق من مطار غاتويك ليست معقدة".
كانت الشمس تغيب عندما أقلعت الطائرة حاملة السيّاح ورجال الأعمال , وبحزن وصمت جلست صوفيا في المقعد وأغمضت عينيها.
وبينما كانت الطائرة تحلّق فوق الساحل بإتجاه الشمال , عادت إلى ذاكرتها أبيات الشاعرة الأسبانية , روزالبا كاسترو , التي كتبت تقول:
" ولا في أي مكان على هذه الأرض , يا أيتها السعادة , بإمكاني أن أجدك بعد الآن , غير أنني أعرف أنك موجودة ولست فقط حلما جميلا".






انجلى 20-06-11 05:39 AM

يالز فراولة ممكن تنزالى فصلين مرة واحدة الراواية تجنن واتمنى من الله ان يسعدكى بسسسسسسسسسسسسسسس ونبى ما تتاخرى:110::f63::f63::f63::f63::f63:

نيو فراولة 20-06-11 06:32 PM

6- بطرف كتفه أغلق الباب



" الآنسة صوفيا لينغوود , التي وصلت من مالاغا في الرحلة رقم 103, يرجى منها التوجه إلى مكتب الإستعلامات حيث تنتظرها رسالة طارئة , الآنسة صوفيا لينغوود , التي......".
أعلمها مكتب الإستعلامات أن السيد أدوارد هامتوت سيوافيها بعد ربع ساعة .
تمتمت صوفيا بصوت خفيض:
" لا أشك أن هيلاريو أتصل بعمتي روزا وأعلمها بأمر وصولي".
جلست صوفيا متسائلة :
" من يكون هذا الرجل المجهول؟".
في الطائرة , قرأت مرات عديدة آخر رسالة أستلمتها من جدها .كان خطه واضحا وأسلوبه مرحا وفكاهيا كالعادة , لا شيء يشير إلى نهايته المحتمة.
فجأة سمعت أسمها , فرفعت عينيها وإذا برجل ينظر أليها من وراء نظارتيه المستديرتين , كان شعره الرمادي كثيفا ويدل على عمر يتراوح بين 45 و 50 سنة.
فقالت صوفيا:
" نعم , أنا صوفيا لينغوود , وأنت السيد هامتون , أليس كذلك ؟".
" نعم , نادني أدوارد , أنا صديق قديم لعمتك وهي لم تشأ مغادرة غرفة جدك , فطلبت مني أن آتي مكانها لأجلبك".
" كيف حال...... جدي؟".
" ليس قويا , لا شك أن قلبه كان في حالة سيئة منذ شهور عديدة , لكنه أخفى الأمر على عمتك روزا حتى الأسبوع الفائت عندما وجدته منهارا في أريكته , فهرع الأطباء ووضعوا له العقاقير , لكن , للأسف , لم يبق أمامه إلا ساعات معدودة.......".
قالت صوفيا بصوت مرتجف:
" نعم , هذا ما فهمته من البرقية , أنا ...... أنا ..... لا يمكنني أن أتصوّر المنزل من دون جدي.".
تناول أدوارد هامتون الحقيبة ولحقته الفتاة إلى المرآب , ولحسن حظهاأنها وجدت فيه الرجل الذي يشعر الغريب قربه بالراح والأرتياح , وفي الوقت الذي كان يدخل فيه المفتاح ليدير المحرك , تذكرت صوفيا فجأة سيارتها وصرخت بأستغراب غير أرادي فسألها:
" ماذا حدث ؟ هل نسيت شيئا داخل الطائرة ؟".
" لا , الأمر أفظع من هذا بكثير , نسيت سيارتي في غرناطة , لم أفكر بالأمر قبل الآن , يا ألهي , ما هذه القصة؟".
قال أدوارد بهدوء:
" لا تقلقي الآن , سنجد طريقة لأيصالها إلى هنا , لكن كيف تكون السيارة في غرناطة وأنت كنت في روندا؟".
شرحت له صوفيا الأمر وقالت:
" يجب أن أجد أحدا ليعيدها إلى أنكلترا".
" أليس من الأفضل أن تذهبي بنفسك لجلبها؟ ألا ينتظر عودتك من تعملين لديهم؟".
" لا.. لا أعتقد , كنت أحل مكان مربية الأولاد التي ذهبت إلى المستشفى لأجراء عملية طارئة وستعود لأستئناف عملها من جديد بعد أسبوع , أما عملي في المخيّم .. فلست مصرّة على أستعادته...".
" ألم تحبي أسبانيا؟".
" بلى , لكن الأماكن السياحية , حيث بأمكاننا أن نجد عملا دائما مكتظة وخاصة في موسم الصيف".
" أذا كنت تحبين الهدوء والسكينة , لماذا لا تذهبين إلى منزلي , في نيوزيلندا".
" لكن ما الذي جعلك تأتي إلى أنكلترا؟".
" جئت إلى أنكلترا منذ ثماني سنوات , بعد وفاة زوجتي , شعرت بحاجة لأن أبتعد عن كل ما يذكرني بالماضي , وبما أنني مهندس بناء , لم أجد صعوبة في إيجاد عمل يشغلني ويبعدني عن وحدتي , لكن , منذ وقت وأنا أشعر بحنين إلى بلدي , هنا أحس بأن جذوري أقتلعت ".
" هل عندك أولاد؟".
" نعم , أثنان , لكنهما غادرا المنزل , فإبني يعمل في الولايات المتحدة الأميركية , وإبنتي تزوجت من شاب أسكتلندي وتعيش في أيطاليا".
بعد صمت قصير , أضاف يقول:
" ألتقيت بعمتك منذ أربع سنوات عندما طلب منها حياكة قطعة لدار المعلمين العليا , حيث كنت المهندس المشرف على المبنى".
" هل تسكن قربنا؟".
" " في عطلة الأسبوع فقط , وفي بقية الأيام أسكن في لندن".
وما أن وصلوا قرب المنزل حتى خرجت روزا ستيل في الحال إلى عتبة الباب فخرجت صوفيا من السيارة وأرتمت بين أحضانها وسألتها بقلق:
" كيف حاله؟".
همست العمة وهي ترافقها إلى البهو:
" مات لتوّه".
أوصى السيد لينغوود المنزل وعائداته إلى إبنته روزا والكتب إلى صوفيا , مع إشارة لصوفيا ألا تتردد في بيعها أذا أحتاجت يوما ما إلى المال.
منتديات ليلاس
كم كان حزينا بالنسبة إلى صوفيا أن تخسر جدها في هذه الفترة التي كانت ترغب فيها من كل قلبها , أن تفتح له قلبها وتحدثه عن كارلوس , وبالرغم من محبتها القوية لعمتها , لم تصمم على أن تكشف لها الأمر , الأيام التالية , كانت صوفيا تقضي ساعات طويلة متقوقعة قرب نافذة الصالون , تملأ نظرها بهذه الغرفة الدافئة التي كانت تجسّد دائما ( منزلها الحميم ) , والتي كانت تبدو الآن فارغة... كالموت.
وبعد يومين من الدفن , كانت صوفيا في المطبخ تحضّر وجبة باردة عندما دخلت روزا وقالت في الحال:
" أدوارد طلب يدي".


أندهشت صوفيا ولتفتت إلى عمتها , فمنذ وصولها نسيت أن تفكر بالسبب الذي من أجله ظلّت عمتها تكتم سر هذا الصديق الذي تعرفت أليه منذ وقت طويل , وقبل أن يتسنى لصوفيا أن تكلم , أضافت روزا قائلة:
" أحبه منذ وقت غير قصير , لكنني لم أكن أكيدة من عواطفه أتجاهي , إلا أن الأمر تجاوز الصداقة البسيطة , التي تنشأ عادة بين أنسانين وحيدين".
" هل كنت تشعرين بالوحدة كثيرا؟".
كانت عمتها تبدو لصوفيا كأنها كانت سعيدة بقدرها .
" ليس تماما..... قليلا في بعض الأحيان , لو لم يسبق أن تزوجت من قبل , ربما لما شعرت بهذا النقص إلى هذا الحد , هناك عملي ووجودك معنا وأنت تعرفين ذلك , يا حبيبتي , لكن بالرغم من هذا كله , الوحدة ثقيلة أحيانا , خاصة بعد رحيلك".
" متى طلب أدوارد يدك؟".
" منذ لحظة , أنه يحبني منذ وقت بعيد , لكنه كان يشك أن أكون مستعدة لترك والدي".
" هل بسبب جدي لم تتكلمي عنه في المنزل؟".
" نعم , لكن جدك شك بحقيقة عواطفي أتجاه أدوارد , ولشعر أنه يشكل أزمة لمستقبلي , ولم أكن أريد ذلك مهما كلّف الأمر".
" كان بأمكاني الأهتمام به , بكل فخر وأعتزاز".
" أعرف ذلك , يا حبيبتي , لكن ليس من الأخلاق أن أفرض عليك مسؤولية كهذه , فأنت بحاجة إلى الحرية... ككل الشباب بسنك ..... قبل أن تربطي نفسك".
" ومتى تنويان الزواج؟".
" أذا سمعت ما يريده أدوارد , لتزوجت في الحال , يقول أننا أنتظرنا ما فيه الكفاية , لكن هناك مشكلة أساسية......".
أختفى صوتها فرددت صوفيا تقول"
" مشكلة؟".
" ينوي أدوارد العودة ألى نيوزيلندا , فهو أرمل كما تعرفين وترك بلاده كي ينسى ما يذكّره بزوجته".
" ألا تحبين العيش فى نيوزيلندا , يا عمتي روزا؟ هل تخافين عدم العثور على عمل لك؟".
" سأحب البلد كثيرا , أنا أكيدة من ذلك , أما بالنسبة إلى عملي , فلن يكون هناك مشاكل بهذا الخصوص , لكن ما يشغل بالي , هو أنت , يا حبيبتي , ماذا سيحل بك ؟ نريد كثيرا أن تأتي معنا , ما رأيك؟".
فوجئت صوفيا بالأمر ولم ترد , فقالت روزا بإصرار:
" بإمكانك , على الأقل , أن تجرّبي البلد لمدة سنة واحدة , أنا أعرف أنك فتاة تعرف أن تدبّر أمرها على أحسن وجه , لكن أن أتركك وحدك , من دون أحد يهتم بك فهذا أمر غير وارد , لو كنت متزوجة , أو خاطبة , لتغيّر الأمر!".
أخيرا قالت صوفيا:
" ربما آتي معكما , لكنني لن أعيش على نفقتكما , بإمكاني أن أجد وظيفة هناك والأفادة من مباهج الأسفار ,ولن أكون بعيدة عنكما ! ".
شعرت العمة بإرتياح وقالت :
" هل بإمكانك زيادة السلطة, يا عزيزتي سيتناول أدوارد الغداء معنا ..... أذن.... سأتصل به هاتفيا؟".
بعد الغداء , راحت صوفيا تتنزه على طول الشاطىء القاحل , كان الجو باردا جدا , والريح الشمالية تعصف بالرمال , يا لدفء أسبانيا ..... وكم هو بعيد! تهيأ لصوفيا أنها تعيش في هذا الجو الرمادي البارد منذ دهور عديدة ! وبدأت سمرتها الجميلة بالشحوب........
لما عادت إلى المنزل وجدت روزا وأدوارد يحتسيان الشاي .
فقالت روزا وهي تقدّم الشاي لأبنة أخيها:
" يفضّل أدوارد , بعد تفكير طويل, أن أؤجر المنزل بدلا من بيعه".
أضاف أدوارد قائلا:
" أسعار البناء تتصاعد بشكل ملموس , يوما بعد يوم , وروزا ليست بحاجة إلى هذا المال في الوقت الحاضر , لماذا لا تحافظ على المنزل وتؤجره ؟ هكذا , بعد سنة أو سنتين أذا كنت تريدين العودة إلى أنكلترا , يا صوفيا , فستجدين سقفا تأوين إليه".
وفي المساء أصرّ أدوارد على أخذهما للعشاء خارج المنزل , حاولت صوفيا أن تقنعه بأنها تفضّل البقاء في المنزل ولا تريد أن تتدخل بين الخطيبين , لكن أدوارد لم يرد سماع شيء من هذا القبيل.
" لا تكوني حمقاء يا صوفيا! لسنا عاشقين فتيين , هيا , تعالي , هناك أمور كثيرة علينا تقريرها".
وبينما كانوا يتناولون العشاء , فكّر أدوارد فجأة بسيارة صوفيا وسألها:
" هل فكرت بطريقة لأستعادة سيارتك؟".
" كنت أفكر بالأمر منذ قليل , ووصلت إلى قرار بضرورة بيعها في أسبانيا مت دمت لن أكون بحاجة إليها , ما دمت سأسافر إلى نيوزيلندا , سأرسل رسالة إلى أصدقائي آل فينغيلد , كما يجب أن أتصل بالمكتبة لأدبر بيع كتب جدي".
السفر ألى نيوزيلندا لم يكن أمرا حماسيا بالنسبة إلى صوفيا , لا شك أنه بلد جميل , لكن كيف سيسحرها هذا البلد ما دامت لن تجد فيه البيوت الجميلة العائدة إلى القرن الثامن عشر , ولا الكنائس الروماني , ولا المكتبات القديمة..... أو ما يشابهها ! وقالت صوفيا لنفسها بحزن : ( أنا أوروبية بدمي وروحي ولا أريد الهجرة ) لكنها كانت تعرف جيدا أن رفضها سيدمّر كل خطط عمتها المستقبلية, لكن , ألا يكون هذا التغيّر الجذري الوسيلة الوحيدة كي تنسى حلمها الجميل المضمحل؟

زهرة منسية 20-06-11 06:51 PM

مشكوره كتير أحلى نيو فراوله

نيو فراولة 20-06-11 08:43 PM

وفي اليوم التالي عصفت الرياح على مضيق المانش , وراحت الأمواج تتدفق على الساحل كجبال من الرغوة , وفكّرت صوفيا بالصيادين الذين يطاردون سفنهم الصغيرة ويتصارعون مع الريح والأمواج العالية.
ومباشرة بعد فطور الصباح , توجهت عمتها روزا إلى طبيب الأسنان , فكتبت صوفيا رسالة إلى بيدرو ومارغريت , ولما أنتهت وضعتها على طاولة في البهو ودخلت المطبخ لتحضير قالب حلوى بالفاكهة لما بعد العشاء , ولما وضعته في الفرن , فتحت علبة المشمش المجفف وراحت تتذوق طعمه , فجأة سمعت جرس الباب يرن.
فتحت الباب , والرجل الذي كان منتظرا أمامه كان يحدّق في البحر الهائج , فأستدار نحوها , فأطلقت شهقة تعجب مخنوقة.
قال كارلوس:
" صباح الخير , يا صوفيا , أعدت لك سيارتك".
وفي تلك الأثناء , ظهرت روزا ستيل , ولما رأت سيارة صوفيا موقوفة في ممر المنزل قالت بدهشة:
" لكن , يا صوفيا , هذه سيارتك , أليس كذلك؟".
ظلّت صوفيا جامدة لا تتكلم , فأجاب كارلوس :
" نعم , هذه سيارتها ... هل أنت عمة صوفيا , يا سيدتي ؟".
" نعم , وأنت لا شك أحد أصدقائها الأسبانيين , صباح الخير , يا سيد......".
شدّت على يده ودعته يدخل.
" صوفيا , عزيزتي , أغلقي الباب , الريح قوية , هل بأمكاني أن آخذ سترتك يا سيد.....".
" أدعى كارلوس ولسينغهام".
" آه , أنت أنكليزي ! المعذرة , أعتقدت أنك......".
قاطعها كارلوس قائلا:
" أنا نصف أنكليزي , أفهم أن صوفيا لم تكلمك عني ؟".
" لا أتذكر ....... وتادي ... جدّ صوفيا ....... توفي في الأسبوع الماضي و...".
" نعم , قرأت الأعلان في الجريد , أنا آسف لهذه الفجعة , كنت أحب أن أتعرف عليه".
" صوفيا , هل ترافقين السيد ولسينغهام إلى الصالون , من فضلك ؟ سأحضر القهوة , لا تنسي أن تشعلي النار , فيدا صديقك باردتان".
وكالسحر , أطاعت صوفيا ببطء , وما أن أشعلت النار في المدفأة , حتى أنتصبت وقالت بصوت مبحوح ومنخفض:
" أين سيارتك؟".
" في المزرعة , سيرسلها هيلاريو بالباخرة , تصوّرت أنك ستكونين بحاجة ماسة إلى سيارتك , ولحسن حظي وجدت مكانا على متن الباخرة الآتية من بيلباو إلى ساوثهامتون وصلت صباح اليوم باكرا , وجئت من هناك لتوي".
" آه , كارلوس....... أنت من كنت بحاجة إليه أكثر من أي شيء آخر في هذه المرحلةالعصبية التي أمر بها , كنت تعيسة .... لأنني لم أعد أتوقع رؤيتك من جديد...".
أنحنى أمامها ونظر إليها مباشرة في عينيها وسألها:
" هل تحبينني يا صوفيا؟".
أحمرّت بعنف لكنها لم تشح ببصرها , وقالت ببساطة:
" نعم , طبعا أحبك".
أمسك وجهها بيديه الباردتين وراح يعانقها بحنان وحب , ظلت صوفيا لحظة من دون حركة.
ثم مدّت ذراعيها وراء عنقه وضمته إليها بكل قواها .
همست روزا ستيل وهي تدخل إلى الصالون لتجد إبنة أخيها بين أحضان هذا الرجل الغريب:
" آه , المعذرة ... لم أكن أعرف....".
عاد كارلوس إلى وعيه وأسرع في تناول الصينية من يد روزا وقال :
" أخشى أن يكون ما سأقوله لك مفاجأة كبيرة....... لكننا .... سنتزوج......".
" بالفعل , هذه مفاجأة غير منتظرة , هل.... تتعرفان بعضكما من زمان؟".
سألها كارلوس وبريق غريب في عينيه:
" منذ متى نعرف بعضنا , يا حبيبتي ؟ لو كان إدراكي سليما لكنّا تزوجنا قبل الآن!".
" آه.... أنها حقا مفاجأة جميلة.........!".
" كان بإمكاني أن أكلمك الكثير عن كارلوس , يا عمتي روزا , لكن ماذا كنت سأقوله؟.
حتى هذه الساعة , كنت أجهل حقيقة عواطفه ..... تماما مثل أدوارد وأنت؟".
رنّ جرس الهاتف فأسرعت روزا للرد عليه.
سألت صوفيا كارلوس:
" لماذا لم تكتب لي؟ ولا كلمة واحدة .....".
" بعد الذي حصل عند المزارع العجوز , أي بعد الحادث , خشيت أن تمزقيها من دون قراءتها".
" لكن , يا كارلوس , ما حصل ....... لم يكن يزعجني , لو لم تهرب في الحال , لكنت وعيت الأمر وفهمته".
" صحيح؟ ذهبت إلى مايوركا خائفا أن أكون قد دمّرت كل حظ لدي أتجاهك , ولما عدت إلى المزرعة , آملا أن أسوّي الموضوع , لم أجدك , أخبرتني لويزا عن البرقية وعن قلقك عليّ , كانت أكيدة أنك تحبيبنني قليلا".
صرخت صوفيا قائلة:
" قليلا ! أنها لا تعرف الجهد الكبير الذي بذلته كي أجعلها تجهل حقيقة حبي لك , كنت بالكاد أجرؤ على النظر إليك , خوفا من أن تعرف الحقيقة".
" كانت تعرف أنني كنت أريد أن أتزوجك , وإلا لما رضيت أن ترسل مربيتها إلى العطلة".
" إلى العطلة ؟ لكن......".
" أنا أخترعت قصة المستشفى , لم أجد حلا آخر كي أكون بقربك , وكي أحاول أحاول أن أقنعك أنني لست رجلا سيئا".





تمت

عطني روحي سيدي 21-06-11 01:07 AM

قصة رااااائعه جدااااااااااااا

Rehana 23-06-11 11:13 PM

http://rdr.zazzle.com/img/imt-dzn/is...hanks_card.jpg

نجلاء عبد الوهاب 27-06-11 02:48 AM

مافيش بعد كده الرواية تجنن:wookie::110::7_5_125v::7_5_125v::7_5_125v::dancingmonke yff8::dancingmonkeyff8:

انجلى 27-06-11 03:35 AM

شكراااااااااااااااااااااا شكرااااااااااااااااااااااااااااااا :55::55::55::flowers2::flowers2::flowers2::welcome3:

عطني روحي سيدي 27-06-11 11:54 PM

فراااوله قصة رااائعه ..:peace::peace::peace:

ندى ندى 27-10-11 01:44 AM

جميله جدا جدا

سماري كول 28-10-11 08:59 PM

تسلمين ع الروايه الحلوه

sara00 31-10-11 10:15 PM

مشكوووووووووووووووووووووووووور

صاصا 83 02-11-11 05:40 PM

شكرااااااااااااا على الرواية الرائعة وبارك الله لك مجهودك الرائع في الكتابة

الجبل الاخضر 06-11-11 09:07 PM

:8_4_134:توقعت يجي ذكر المده الي حبتو فيها يعني وعمرها صغير وتحكي كيف كانت تحلم فيه وتحكلي لنفسها قصص خياليه عنه بس يلا نهايه متوقعه حلوه:lol: و:55:برافو :55:برافو :55:برافو :55:برافو :55:تسلم الانامل :hR604426:على المجهودك الرائع والاختيار الممتاز:55::peace: ونشكرك على تعبكي:lol: ياعسل :wookie:وننتظر جديدك:dancingmonkeyff8:

نجلاء عبد الوهاب 19-03-12 07:58 PM

حلوه كتير
تسلم ايديكى
:liilas::wookie::liilas:

منى على سيد 21-07-15 12:32 AM

رد: 119 - بدر الأندلس - آن ويل - روايات عبير القديمة ( كاملة )
 
رواية تحفه تجنن

abody 25-07-15 07:57 PM

[QUOTE=منى على سيد;3545163]رواية تحفه تجنن[/QUOTEشكرا على مجهودكم ]

غنجة بيا 25-07-15 11:31 PM

رد: 119 - بدر الأندلس - آن ويل - روايات عبير القديمة ( كاملة )
 
نايس كثير رائعة مشكورة حبيبتى :55:

غنجة بيا 27-07-15 01:06 AM

رد: 119 - بدر الأندلس - آن ويل - روايات عبير القديمة ( كاملة )
 
قمة في الروعة حبيتها كثير مشكورة كثير فراولة :peace::dancingmonkeyff8::peace:

نجلاء عبد الوهاب 20-08-21 12:00 AM

رد: 119 - بدر الأندلس - آن ويل - روايات عبير القديمة ( كاملة )
 
:55::55::55::55::peace::peace::peace::peace::peace::mo2::mo2 ::mo2::mo2::congrats::congrats::congrats::congrats::congrats ::congrats:


الساعة الآن 05:38 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية