منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f449/)
-   -   160 - لولا هيامي - كارين فان درزي - عبير القديمة ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t140886.html)

سفيرة الاحزان 09-05-10 03:50 PM

160 - لولا هيامي - كارين فان درزي - عبير القديمة ( كاملة )
 


160- لولا هيامي- كارين فان درزي - روايات عبير القديمة
الملخص
لا تعرف النفس اين تولد وتعيش وتجد السعادة.جاكلين ولدت وترعرت في غانا ودرست وتخرجت من امريكا ,وظل وهج افريقيا يناديها للعودة......
عادت الى ارض الطفولة مسلحة بالمعرفة والخبرة, ولكن صدمتها كبيرة حين قابلت رئيسها في العمل الذي رفض كونها انثى وكان قاسيا معها ....فاذلها وابدى عدم اعجابه بمؤهلاتها ....لماذا ؟سالت جاكلين نفسها ما سبب هذه الكراهية, وهذه الحرب ؟نشب بينهما عداء لا يقاوم... ولكنها لن تعترض لعله يكتشف كفاءتها بنفسه .اخيرا عرفت بان قلب ماتيو مجروح......
.ديانا الجميلة رفضته وهجرته ،حاولت جاكلين التقرب من ماتيو ففشلت... وعندما قررت الابتعاد فشلت ايضا فقلبها رفض تنفيذ الاوامر!
منتديات ليلاس



الراوايه منقوله


سفيرة الاحزان 09-05-10 03:57 PM



1- لا وقت لدي
1- ي
أنهمكت جاكلين كثيرا بتهية حاجاتها خلال الأسابيع التي سبقت سفرها الى أفريقيا الغربية , فبدت كلعبة أوتوماتيكية تدور بجنون وأضطراب وسط دوامة من نشاط متزايد , فلا بد لها من الحصول على تأشيرة الدخول اللازمة , وأجراء التلقيحات وشراء ما يلزم , وحزم الحقائب , وتوديع الأصدقاء.
أستقرت جاكلين في الطائرة ,وما من شيء أمامها ألا أن تأكل وتشرب وتنام , وفجأة أعتراها قلق غامض , مما لا شك فيه أنها أرادت العودة الى غانا ولكن ترى هل ستصمد أمام تحديات عملها الجديد؟ وهل أدركت تماما ما تزج نفسها به , فالعيش في بلد غريب بمفردها لكسب قوت يومها , يختلف تماما عن العيش فيه مع والديها.
وقّعت جاكلين عقد عمل لمدة سنتين , ولكنها لم تقابل بعد الرجل الذي ستعمل معه , نظرت من نافذة الطائرة المحلقة بمحاذاة الساحل الأفريقي الغربي, فرأت غابة أستوائية خضراء , كانت الشمس تجنح للمغيب مشبعة الدنيا بتألقها الذهبي , ومتيحة للظلام أن يحل مكانها خلال دقائق , لم تستطع جاكلين أن تطرد أفكارها المزعجة وقلقها , ترى هل بلغت ثقتها بنفسها مرحلة الغرور عندما قبلت عملها الجديد كمساعدة أدارية في شركة الأنتاج الغذائي الدولي المحدودة؟
تدفقت في ذهنها كلمات كريستوفر جينكنز رئيس الشركة الذي قال لها أثناء المقابلة التي جرت بينهما:
" أنه عمل غير قابل للثناء , ومزعج يا آنسة دونلي أريد أن يكون الأمر واضحا تماما".
رنت هذه الكلمات في أذنيها كموجات من الفزع , فقالت لنفسها :
" لا تكوني مضحكة , فهذا النوع من العمل لا يحتاج ألا الى الثقة بالنفس , والأصرار , وبعض الخبرة , وهذا متوفر لديك".
كانت جاكلين تدرك أن مظهرها الخارجي لا يوحي بمنطلق أيجابي , ولهذا تملكها شعور طبيعي بعدم كفاءتها , كم تمنت لو أن مظهرها يتناسب مع أعوامها الثلاثة والعشرين , لكن الكثيرون يعتبرونها مجرد طالبة مدرسة سيما وأن شعرها ذهبي مجعد , وعينيها زرقاوين , وقامتها لا تتجاوز الخمسة أقدام وسنتميترين , لم يكن باليد حيلة ألا أذا قيّمها رئيسها الجديد كشخص فعال دون النظر الى هذه الصفات الشكلية.
نظر جينكنز الى جاكلين عاقدا ما بين حاجبيه نظرة أقلقتها عندما أستفسرت عن شخصية رئيسها الجديد ماتيو سيمونز وقال:
" أنه قاس يا دونلي , مجد ومنكب على العمل ,وسيتطلب منك بذل كل ذرة من أمكاناتك".
حسنا أنها قاسية أيضا , ومجدة ومحبة لعملها , فأهلا وسهلا بماتيو سيمونز هذا الذي سيتطلب منها تسخير كل أمكاناتها.
شعرت جاكلين بيد السيدة تورنر التي كانت تجلس الى جوارها , تلمس ذراعها , فنظرت الى عينيها الرماديتين الصافيتين , كانت السيدة تورنر قصيرة بدينة ومفعمة بالحنان والصداقة.
" تبدين متعبة يا عزيزتي".
" أشعر ألم في رأسي سأرى أن كان لدى المضيفة بعض الأسبرين ".
خرجت جاكلين من مكانها متخطية السيدة تورنر وزوجها الأشيب لتبحث عن المضيفة , فبدت الطائرة لها تالفة كركابها , أذ مضى على مكوثهم بداخلها عشر ساعات , تمدد معظم ركابها باسطين أقدامهم وأيديهم بلا حيوية ونشاط , أخذت جاكلين الأسبرين من المضيفة وأبتلعته مع قليل من الماء , ثم ناضلت وسط الزحام كي تعود الى مكانها , وأخذت تفكر بما يجول في ذهن السيد والسيدة تورنر.
لمعت عينا السيد تورنر البنيتان بضحكة قائلا:
" سنصل بعد وقت قصير".
كان السيد تورنر مزارعا من مينسوتا أصطحب زوجته في هذه الرحلة التي تطلبت منهما شجاعة كبيرة , كي يشاهدا حفيدتهما المولودة في أكرا وما أن علما أن جاكلين أمضت أعوامها الدراسية في أفريقيا , حتى أنهالا عليها بوابل من الأسئلة , عن الشعب؟ والطعام.. والطقس... وطرحا عليها بعض الأسئلة الشخصية فيما أذا لسعتها أفعى مثلا؟ أو هل أصيبت بالملاريا؟ وكيف وصلت الى غانا أول مرة؟ وهل كان والدها موظفا؟
" لا... لا ".
ضحكت جاكلين قائلة :
" لقد عمل والدي في شركة التنمية الدولية....".
وأخبرتهم الكثير عنها وعن عائلتها عندما سكنوا في سويسرا وتركيا وكيف كانت تفكر بالسفر عبر البحار متى نالت شهادتها , سألها السيد تورنر:
" ما طبيعة عملك في أكرا؟".
" سأعمل في شركة الأنتاج الغذائي الدولي , أنها شركة خاصة تساعد الدول في تنمية أنتاجها الغذائي".
وبما أن السيد تورنر كان مزارعا , فقد راق له الأمر كثيرا , وأنهال عليها بوابل آخر من الأسئلة التي أجابته عليها على أحسن وجه.
ساد صمت قصير بينهم , كان الظلام قد حل على المدينة , فلم تشاهد جاكلين سوى بعض الأنوار المتلألئة هنا وهناك , فتنفست الصعداء أذ كانت ترغب بالخروج من جو الطائرة الحار , والمشبع برائحة الأطعمة والحليب الفاسد , ورائحة التبغ والنايلون الدافىء.
بدا هبوط الطائرة وشيكا , وأخذ الركاب ينهضون من سباتهم مما أضفى على جو الطائ
رة نشاطا , ربطت أحزمة الأمان ,ووضعت الأشياء في حقائب اليد , كما أخذ الأطفال يصرخون بأنسجام مع بعضهم بعضا , عندما حاول أهلهم أعادتهم لمقاعدهم ليبعدوهم عن جناح الطائرة.
وبدهشة كبيرة ,وصبر نافذ حدقت جاكلين من النافذة لترى أكرا تتلألأ بأضواء مرصعة كالنجوم , أنحنت السيدة تورنر أيضا , ثم ضحكت وهزت رأسها قائلة:
" يبدو أن أكرا مدينة حقيقية , أنني أشعر بالغباء أذ لم أتصورها الا مدينة ذات أكواخ من اللبن , ومواطنات نصف عاريات , وفيلة".
ضحكت جاكلين قائلة:
" نعم هناك الكثير من الأكواخ المصنوعة من اللبن , لكنك لن تشاهدي الفيلة ألا في حديقة الحيوان".
هبطت الطائرة أخيرا ,وبدا الجميع في هرج ومرج , كل يريد أن يصارع الآخر , ليشق طريقه خارجا في اللحظة نفسها.
أنحشر السيد والسيدة تورنر في الصف , بينما جلست جاكلين في مقعدها تنظر ريثما تهدأ الأحوال , وما أن خرجت من الطائرة حتى لفح وجهها الهواء الحار الرطب , فعبست أـذ لم تكن بحاجة لحمام بخاري في تلك اللحظة.
وصلت جاكلين الى قسم الجمارك فأنتظرت دورها ,وعلى الرغم من ثيابها الملتصقة على جسمها من شدة تعرقها , وحذائها الضيق , أخذت تتساءل كيف ستتعرف على السيد ماثية سيمونز من خلال أوصافه المذكورة , رجل طويل , ثلاثة وثلاثون عاما , وعيناه عسليتان , وملايين الرجال في العالم يتمتعون بهذه الأوصاف ولكن ليس هنا في أكرا.
تمكنت جاكلين أخيرا من سحب حقيبتها الى الصالة الرئيسية , ولكنها لم تر أحدا يشبه ولو بشكل طفيف الرجل الذي تبحث عنه , لا....لا أحد , ولم تجد أيضا أي أثر للسيد والسيدة تورنر أذ أنها كانت آخر من هبط من الطائرة.
وبخوف كبير أخذت جاكلين تفكر ما عساها أن تفعل , لن تجد أحدا في المكتب , فالساعة تشير الى ما بعد التاسعة ليلا ,وليس لديها أية فكرة عن عنوان السيد سيمونز , أحتارت في أمرها وهي تفكر بغضب وتوتر , وأحتشد حولها الكثير من الشباب المراهقين يختصمون لحمل حقائبها.
أتجهت جاكلين بقلق الى مكتب الأستعلامات , فأنزعجت الفتاة النائمة على يدها ذات الشعر المستعار الطويل وقالت:
" نعم".
أجابتها جاكلين:
" أسمي جاكلين دونلي وأود أن أستفسر أن كانت لي أية رسالة".
" أية رسالة؟".
تنهدت جاكلين شارحة الأمر للفتاة :
" لقد أتيت لتوي من نيويورك ., ولم أجد أحدا بأنتظاري , فربما أجد رسالة لديك؟".
أجابتها الفتاة :
" لا شيء لدي".
وبأضطراب أبتعدت جاكلين عن المكتب , وأستقلت سيارة أجرة الى فندق الكونتيننتال القريب من المطار , كانت متعبة وحانقة ولم تهتم للتكاليف :
" فليدفعوا ما شاؤوا أذ أنهم لم يتعطفوا بأرسال أحد لأستقبالي "
في صباح اليوم التالي حاولت جاكلين الأتصال بالهاتف , ولكن عبثا فالخط معطل.
" أهلا وسهلا بك في غانا ".
قالت هذا لنفسها , ثم أسترخت على السرير .
" أين هو ماثيو سيمونز هذا الذي يدعي أنه بحاجة ماسة لمن يساعده ؟".
بحثت جاكلين بين أوراقها عن العنوان , فلم تجد ألا رقم صندوق البريد , لا بد أن تجد عنوان البيت أو المكتب , لهذا حاولت جاهدة الحصول عليه عن طريق الأستعلامات فلم تفلح.
عضت جاكلين شفتها لتسيطر على غضبها المتصاعد ,هل هذا نذير شؤم يا ترى!
أستغرق أستفسارها عن طريق السفارة الأميركية , وشركة التنمية الدولية ,ما يزيد عن الساعة , ولم تعثر على العنوان ألا بعد أن تأكدوا أنها ليست جاسوسة.
أستقلت مرغمة على أمرها سيارة أجرة سيئة من النوع الكلاسيكي , كان حشو فراشها خارجا منه , ونوافذها الجانبية لا تفتح , وسائقها يقود بجنون.
نظرت جاكلين بعينين ملؤهما الفضول الى شوارع أكرا النابضة بالحياة , فوجدت الناس هنا وهناك واقفين غير آبهين لأشعة الشمس , ولا لأصوات السيارات الصاخبة التي تصم الآذان.
تنفست جاكلين الصعداء عندما رأت البناء المؤلف من طابقين يحمل الأشارة الزرقاء , فلم يكن من الصعب العثور عليه , ساعدها السائق في حمل حقائبها الى غرفة الأنتظار , ثم تناول منها النقود بتكشيرة عريضة .


نظرت جاكلين بدهشة الى فتاة يافعة جلست وأمامها الآلة الكاتبة , كانت زينتها متقنة , وتدلت من أذنيها طارتان ذهبيتان , أبتسمت جاكلين وقالت لها:
" أريد أن أقابل السيد سيمونز من فضلك , أسمي جاكلين دونلي".
" لحظة أذا سمحت , كان صوت الفتاة رقيقا وخجولا ".
نهضت الفتاة مترنحة بزيها الغربي , وبعد لحظة عادت لتقود جاكلين الى مكتب مكيف عبر رواق حقير.
جلس ماتيو سيمونز خلف مكتبه يوقع بسرعة بعض الأوراق , أمعنت جاكلين النظر به, شعره بني مجعد حول أذنيه , يرتدي قميصا أبيض بنصف كم , وبلا ربطة عنق , رفع رأسه ووقف مصافحا ,كان طويلا جدا شامخا كالبرج أمامها , حاجباه غريبان , ولونه أسمر غامق يناسب رجلا في حقل ذرة أكثر من موظف في مكتبه.
تساءلت جاكلين عندما قبض على يدها بشدة مصافحا , هل لهذا علاقة في تحديد شخصيته؟
وسرعان ما دار في مخيلتها كلمات رئيسها:
" أنه قاس , ومجد ومنكب على العمل".
ليس في هذا من شك فها هو يبدو قاسيا فعلا , أصبح قلق جاكلين الغامض مرعبا عندما عرفته بنفسها ,ولم تلمع عيناه الداكنتان بأي بريق , بل قدم لها ببرود كرسيا وقال:
" تفضلي".
جلس الى مكتبه , ونظر اليها بلباقة وتجرد وقال:
" ماذا يسعني أن أفعل , من أجلك يا آنسة دونلي؟".
فتحت جاكلين فمها ,ثم أغلقته بدهشة , أذن أنه لا يعلم من تكون؟ ثم أجابته:
" ألا تتوقع قدومي يا سيد سيمونز؟".
قطب جبينه ونظر الى مذكرته قائلا:
" لا أنني آسف , ليس بيننا أي موعد".
" موعد!".
لا بد أن هناك خطأ ما , لقد قطعت نصف المسافة عبر العالم لتستلم عملها , ويدّعي ماتيو سيمونز بأنه لا يعلم بالأمر , كانت جاكلين تتوقع لقاء دافئا وديا على الأقل , أنقلبت تساؤلاتها الى جنون أنصب كالصخرة في معدتها , أبتلعت لعابها وقالت:
" أنني المساعد الأداري الجديد يا سيد سيمونز , فالمكتب الرئيسي في نيويورك قد وظفني منذ ثلاثة أسابيع".
أعقب كلام جاكلين صمت جليدي , ثم نظرت الى ماتيو سيمونز بقلق وقد تعاقبت على وجهه ملامح الدهشة , والتكذيب , والغضب معا , تقلصت عضلات وجهه وتطاير الشر من عينيه.
" لا لست أنت.. لا بد أن هناك خطأ ما....".
أنفجر صوته مبددا الصمت ,فشعرت جاكلين وكأنها تلقت صفعة على وجهها , ماذا يعني ؟ عما يتكلم؟ حملقت في وجهه العاصف بدون أن تفهم شيئا ... تنهدت وقالت له:
" ماذا تعني غلطة؟ ألست بحاجة الى مساعد أداري؟ لقد وظفوني وها أنذا..".
نظر اليها بحنق وقسوة وقال:
" لا أعلم أية نكتة هذه ...لم أستلم أية رسالة أو برقية تؤكد ما تقولين... ولو كان لي علم مسبق بذلك ,لما سمحت لك بالقدوم , لقد طلبت رجلا على وجه التحديد , أنني أرفض أن تستلمي هذا العمل ".
أسكتتها الصدمة , ولم تفهم معنى كلماته , أنفجر غضبها مزمجرا في أعماقها , حتى غدا وجهها ساخنا وأردفت:
" هل لي أن أذكرك يا سيد سيمونز بأننا نعيش في القرن العشرين , وأنك مغالط في تعصبك".
لم يأبه ماتيو سيمونز لكلامها وتابع:
" أحب أن أذكرك , أنك هنا لست في الولايات المتحدة , بل في أفريقيا , علي أن أتكيف مع الحقائق التي تفرضها الظروف والمكان".
" وما هي هذه الظروف يا ترى؟".
" لا أستطيع أن أخبرك بذلك , كان عليهم أن يقدروا هذه الأمور قبل توظيفك".
صمتت جاكلين غاضبة , من يعلم أفضل منه ؟ عليه أن يدرس الحقائق قبل أن يقرر , أنها واثقة من المكان والظروف ,ومتأكدة من أن هناك أشياء كثيرة لن تتحقق في مكان يتعطل فيه الهاتف عن العمل , ومن الصعب أيضا العثور على قطع تبديل السيارات عندما يحتاجها المرء , كان النظام الأداري بطيئا ومغايرا لما أعتادته في وطنها , أن المسألة هنا تكمن في أن يراعي الأنسان مزاج الآخرين دون أن يصاب بالأحباط ,ومع أن الصبر ليس من شيم جاكلين , ألا أنها تضع نفسها على المحك الآن , فقد قاومت تصرف ماتيو سيمونز وحاولت عبثا أن تجد ما تقول.... لم يكن في جعبتها شيء , مضى وقت لا بأس به وكلاهما صامتان , ثم نهض سيمونز ونادى:
" بيشنس".
سمعت جاكلين وقع خطوات مسرعة في الرواق , وما لبثت الفتاة أن ظهرت بالباب قائلة:
" نعم يا سيدي".
" أحضري لنا بعض القهوة".
جلس ثانية وهو ينظر الى جاكلين , لم يكن رجلا أنيقا , لكن وجهه يوحي بالرجولة , فكرت جاكلين بمرارة :
"أن هذا الرجل يريد أن يذلني"
" ماذا سأفعل بك الآن يا آنسة جاكلين؟".
أذهلتها نبرة صوته ألا يعلم مع من يتكلم؟ هل يظنها أحدى المراهقات العنيدات؟
" أقترح يا سيد سيمونز أن تنسى أنني أنثى , وتدعني أستلم عملي".
حاولت أن تبدو هادئة كأي رجل من رجال الأعمال , رفع ماتيو سيمونز أحد حاجبيه ,وأرتسمت على فمه أبتسامة ساخرة قائلا:
" أعتقد أنه من الصعب أن أنسى أنك أنثى لأن ذلك واضح من أول نظرة".
نظرت اليه ببرود وقالت:
" أذن أعتقد أن عليك أن تتقبل هذ الواقع المر , أنا هنا ولدي رغبة صادقة في البقاء والعمل".
" هكذا أذن؟".
قرع الباب وحضرت القهوة , فقال ماتيو سيمونز:
" آسف فليس لدينا سكر , حتى أن السكر غير متوفر في المنطقة بأجمعها هذه الأيام".
نظرت جاكين الى عينيه , هل كان يتوقع منها أن تغضب وتصرخ مزمجرة لأنها لا تستطيع أن تشرب قهوتها بلا سكر ,حسنا ستدهشه الآن.
" أعتقد أنني أستطيع أن أتحمل هذه المعاناة".
تفحصها بعينين متقدتين وقال:
" أذن تحافظين على وزنك بهذه الطريقة".
حملقت به دون أن تجيب فسألها:
" حسنا متى وصلت؟".
" الليلة الماضية ".
أحتست قليلا من القهوة الساخنة.
" آسف فلم يستقبلك أحد ما ".
وبدا جادا فيما يقول هز رأسه وتابع:
" أن قدومك مفاجأة لنا وأعجب لما حدث , كان عليهم أن يرسلوا برقية تشير الى وصولك".
رفعت جاكلين كتفها وقالت:
" قد تكون البرقية موجودة في مكتب البريد مهملة , كما يحدث في كثير من الأحيان".


نظر اليها بحدة ... ثم أمسك سماعة الهاتف وأعادها الى مكانها أذ كان الهاتف معطلا وأردف:
" لقد قطعت سيارة جمع النفايات أثناء عملها خط الهاتف ,وسيستغرق أصلاحه عدة أسابيع".
ثم فتح الباب ونادى بيشنس , وطلب منها أن يذهب سامسون الى مكتب البريد مستفسرا عن البرقية , وتابع حديثه مع جاكلين قائلا:
" ماذا فعلت عندما لم تجدي أحدا بأنتظارك؟".
" ذهبت الى فندق الكونتينتال ... أخذت حماما ونمت , وهذا الصباح تناولت فطوري وتقفيت أثرك".
نظرت اليه بتحد , ترى ماذا كان يتوقع منه؟
" هل كان عنواننا لديك؟".
" رقم صندوق البريد فقط ورقم الهاتف والآخر معطل".
" هذا صحيح".
حملق كل منهما بوجه الآخر وكأنما يقيّمان بعضهما بعضا.
ثم سألها:
" كيف عثرت على الهنوان أذن؟".
" أنهرت وبكيت حتى أتت جدتي الجنية , وأرشدتني الى الطريق".
" لما تسخرين يا آنسة دونلي؟".
أنفجرت غاضبة أذ لم تستطع كبت خيبة أملها وقالت:
" لا ... هل تريدني أن أقفز فرحا بعد أن قطعت نصف العالم لأحصل على عمل أرغب به , علمت أنك تتوق لمن يساعدك ... وأنظر كيف تتصرف... أستقبال رائع... ترحيب دافىء , وعلاوة على ذلك , فأنني لا أصلح للعمل لأنني أمرأة , يبدو أنك فوجئت لأنني أستطعت العثور عليك".
" أهدأي ... أهدأي... تعالي نحكم المنطق بيننا".
صكت جاكلين أسنانها ونظرت اليه .
" حسنا هل لدي أوراق خاصة بك؟".
" لا ... أخبرني السيد جينكنز أنه سيرسلها لك مع نتيجة المقابلة التي جرت بيننا ,وجميع أوراقي الأخرى التي أعتقد أنها لم تصلك بعد".
تنهد قائلا:
" قد يعلم الله أين أختفت هذه الأوراق".
" ستظهر عاجلا أم آجلا , هذا ما يحصل دائما".
أحتسى ما تبقى من قهوته وقال:
" أعتقد أنك من حملة الشهادات؟".
" أدارة أعمال".
" وماذا كنت تفعلين قبل مجيئك الى هنا؟".
" تخرجت لتوي".
كان هذا جزءا من الحقيقة , ولكنها لم تخبره بأنها عملت كمساعدة للمدير في دار العجزة , وأنها عملت عدة مرات في أشهر الصيف مع العمال المكسيكيين المهاجرين في كاليفورنيا.
وعلى الرغم من أن تلك الأعمال أكسبتها خبرة , ألا أنها كانت السبب في تأخر تخرجها عاما كاملا.
لن أخبره بشيء بل سأدعه يظن أنني أمرأة غير كفء للعمل .
تابع ماتيو سيمونز الحديث بعصبية قائلا:
" لقد تخرجت لتوك أذن... معنى هذا أنهم أرسلوا لي طالبة مدرسة , يا ألهي كان عليهم أن يدركوا هذا".
شعرت جاكلين أنها تغلي غضبا , ولكنها أقنعت نفسها أن تحتفظ بهدوئها وسألته ببرود:
" ماذا كان عليهم أن يدركوا يا سيد سيمونز؟".
" عليهم أن يدركوا أن الشهادة ليست كل شيء , وأن الخبرة ضرورة حتمية , يجلسون في مكاتبهم في الولايات المتحدة , وينسون أن العمل في هذه البقاع أمر مختلف تماما , ويتطلب مؤهلات مختلفة أيضا".
" هكذا أذن!".
رفع ماتيو أحد حاجبيه بسخرية وقال:
" هل تدركين ذلك".
نعم أنها تدرك الأمر تماما... لقد علمت أنه حكم عليها من أول نظرة على أنها خريجة جديدة , وشقراء غبية ... أذن لن تنال منه ألا المتاعب والأزعاج ... أنها تعلم بماذا يفكر.
" أسمعي يا آنسة دونلي , لست مستعدا أن أدربك على العمل مدة ستة أشهر , لتجدي بعدئذ أنك لا تستطيعين الأستمرار به , أنظري جيدا , وأدرسي الأمر , هل سمعت شيئا عما يسمونه بالصدمة الحضارية؟".
" أعتقد ذلك".
" أن هذا العمل ليس بعمل عادي في ظروف عادية... ولن تجدي بين دفتي الكتب المعلومات التي تفيدك . أن الزمن وحده كفيل بهذا وأنني أفتقر لهذا الوقت ياآنسة دونلي".
علقت جاكلين قائلة:
" ألم يدرك السيد جينكنز في نيويورك هذا؟".
عقد ما بين حاجبيه بغضب وقال:
" كان عليه أن يدرك ذلك , كنت واضحا تماما في تحديد نوعية الشخص الذي أريد".
وبعصبية دفع بكرسيه ,ونهض واقفا , وأتجه نحو النافذة , تأملت جاكلين منكبيه العريضين القويين , وشعره الطويل المتدلي الى حافة ياقة القميص.
مضت لحظات ساد الصمت خلالها , وجلس ماتيو مرة أخرى الى مكتبه هادئا ورابط الجأش وسأل جاكلين ببرود:
" أخبريني رجاء كيف تم قبولك لهذا النوع من العمل؟".
نهضت جاكلين من كرسيها وقدماها ترتجفان , والدم يتدفق في رأسها . ودت لو تخبره بأنها ليست خريجة جديدة , وأنها عاشت هنا مع عائلتها ... ومارست أعمالا أكسبتها خبرة , ولكنه لم يسألها عن تلك الأمور , لهذا أبتسمت أبتسامة عذبة وفق ما أملته عليها الظروف , وقالت:
"لقد منحت العمل يا سيد سيمونز لأنني رافقت الرئيس".
أدارت جاكلين ظهرها , وخرجت من الغرفة وقد أغلقت الباب وراءها بحذر.
منتديات ليلاس

سفيرة الاحزان 09-05-10 04:03 PM



2- التحدي
مكثت جاكلين في الحمام عشر دقائق حاولت أثناءها أن تهدىء من روعها , بدا وجهها شاحبا , فلا عجب في ذلك بعد تلك الرحلة الشاقة , والأستقبال السيء الذي لاقته , رفعت شعرها الى الأعلى مبعدة بعض الخصلات عن عنقها , كي تحافظ علىبرودتها , ثم غسلت وجهها , فالرطوبة مزعجة في شهر آذار مما يجعل الجو لا يطاق , وعلى الرغم من هذا أنها ما زالت تحب أفريقيا , وكثيرا ما حلمت بالعودة اليها لأنها أمضت فيها ثلاث سنوات دراسية كاملة , ما من شيء محدد على وجه الدقة يشدها الى غانا , لكنه حنن ممزوج بأشياء كثيرة , أنها حرة وآمنة في شوارع غانا حتى ولو كانت وحدها , وأهل غانا ذو سمعة حسنة, أنها تحب نفسية نسائهم المرحة , يعيشون بسعادة ومرح على الرغم من ظروف حياتهم الفقيرة القاسية , كانت جاكلين تتمنى من أعماقها أن تعود الى أفريقيا , وأن تخدمها بشيء له أهمية , فمن أين ظهر لها هذا الشاب المدعو سيمونز الذي يحاول أن يحطم آمالها ؟ نظرت مرة أخرى الى المرآة , ثم شدت كتفيها مصممة ألا تدعه يفعل, ستبقى في أفريقيا , وستقوم بعملها دون أن تأبه لرأيه , فتحت بيشنس باب الحمام , ونظرت الى جاكلين بحياء وقالت:
" أن السيد سيمونز يريدك".
ضحكت جاكلين في سرها ,أن السيد سيمونز لا يريدها ,ولكنه مرغم على ذلك شاء أم أبى.
دخلت جاكلين المكتب , رأسها مرفوع , ونظراتها باردة ومتجاهلة نظرات ماتيو اليها ,جلست وقالت:
" يا سيد سيمونز أريد أن أعرف أين سأمكث , كي أستقر وأباشر عملي , فقد أخبروني أنك تهتم بأمور السكن ".
" هذا ما أردت أن أحدثك بشأنه, فلدينا مشكلة".
" ما هي؟".
منتديات ليلاس
" أن ميزانية أجور السكن لا تسمح هذه الأيام بأيجاد سكن ملائم , وخاصة بعد أرتفاع أجرة المنازل للضعف والضعفين وذلك لعدم توفرها ".
كانت نظراته تنم عن تحد , وحقد وتأملات ثم أردف:
" وبمعنى آخر لن تجدي سكنا مناسبا , هل هذا مفهوم؟".
" نعم مفهوم".
"أذا كان هذا الشاب يستفزني ليثير جنوني , فعليه أن ينتظر مدة أطول ".
سألته:
" أذن وماذا تقترح؟".
" الحقيقة أود لو أعيدك الى وطنك على متن الطائرة التالية".
" لن تستطيع طردي , ألا أذا أخفقت بأداء عملي على الوجه اللائق , وأنني أخطط أن أقوم به بشكل يفوق الأتقان".
" أذن سأمنحك فرصة لنرى أمكاناتك يا آنسة دونلي ما دمت هنا , ومصممة على العمل معي , ولكنني أحذرك , عليك أن تتقني عملك فليس لدي الوقت لأهدره , ولا الرغبة في تدريبك ... أنني بحاجة للمساعدة , فأن لم تتمكني من ذلك , فسأطردك وليذهب جينكنز الى الجحيم".
تجاهلت جاكلين تهديده وعادت لتسأله:
" وماذا عن المسكن؟".
تنهد وسكت لبرهة ثم قال:
" يمكنك أن تشغلي جناح الضيوف في منزلي أذا وافقت على ذلك ... أنه قسم مستقل عن المنزل , وله مدخل خاص , وغرفة نوم وغرفة أستقبال وحمام , أما المطبخ فستشاركينني أياه".
" هل لدي مجال للأختير؟".
" كلا , ألا أذا دفعت ثلاثمئة وخمسين من مالك الخاص , وهذا المبلغ كبير بالنسبة لما تتقاضينه".
طبعا أنها لا تستطيع دفع ذلك المبلغ , ولكن كيف ستعيش في المكان نفسه , ومع رجل تكرهه , ليس باليد حيلة الآن , أجابته:
" لا أعلم بالضبط ماذا أفعل , دعني أرى المنزل".
كان المنزل قريبا من المكتب , عبارة عن فيللا ذات شرف واسعة , محاطة بحديقة بحاجة الى عناية , أما أرضية الغرف فكانت من الخشب , والمراوح تتدلى من السقف , وجميع النوافذ محاطة بمناخل واقية من الحشرات الطائرة.
" هذا هو مسكنك ".
قال لها سيمونز , وهو يفت باب غرفة الجلوس والطعام.
وجدت جاكلين نفسها في غرفة صغيرة ذات أبواب زجاجية تفتح على الشرفة , شاهدت غرفة النوم والحمام , فوجدتهما مقبولين على الرغم من صغر المساحة ,تابع سيمونز قائلا:
" لم يستعمل هذا القسم على الأطلاق , أستعملت أحدى غرف النوم في المنزل من أجل الضيوف... ".
وفتح النوافذ, فأمتزج النسيم مع رائحة الغرف المفعمة بالعفن.
"أن المنزل بحاجة لبعض التحسينات".
هذا واضح يجب أن نبدأ بعملية الدهان أولا , أن حالة المنزل سيئة , ولهذا أستأجرته بثمن زهيد , كان عليك أن تري المطبخ قبل أصلاحه".
ثم أقترب منها , ونظر اليها بتحد وقال:
" ماذا قررت؟".
" حسنا لا بأس به , أن كل ما أريده , أن يكون لي مكان خاص بي".
" سأريك المطبخ وأعرفك على كويسي".
بدا كويسي كلاعب ملاكمة أكثر منه كخادم , كان يحرك الحساء في وعاء على النار , وما أن أرى جاكلين حتى حياها بضحكة ودية عريضة , ومد يده مصافحا:
" أهلا وسهلا".
غدت أبتسامة كويسي أعمق بينما كان ماتيو ينظر اليها بتهكم بالغ وتابع:
" يجب أن تتعلمي لغة البلاد مع العلم أن اللغة الرسمية هي الأنكليزية ".
تجاهلت جاكلين تعليقه ونظرت الى الوعاء , فوجدت حساء النخيل ممزوجا بالبهارات وبينما كان ماتيو يقود جاكلين خارج المطبخ الى الغرفة الرئيسية قال:
" أن كويسي يقوم بطهي الطعام وتنظيف المنزل , أنني أعطيه النقود وهو يقرر ما يطعمني , أنه يطبخ كأهل غانا , وأذا أردت أن تعلميه الطبخ على طراز آخر فيا حبذا".
حمل كويسي حقائب جاكلين الى غرفة الجلوس فتبعاه , أشار سيمونز الى حفرة في الجدار وقال:
" آسف , أن جهاز التكييف لا يعمل , وعندما يتم أصلاحه بأمكانك وضعه في غرفة النوم ,لكن هذا سيستغرق وقتا طويلا كالعادة هنا , ليس لدي مكيف آخر لتقديمه لك , لأن الثاني يتم أصلاحه أيضا".
علت وجهه مسحة من الأحباط , بينما عضت جاكلين شفتها , لتكبح جماح الضحك , وأذا كان ماتيو نفسه لا يتحمل ظروف الحياة القاسية في أفريقيا ,فكيف بجاكلين وهي أمرأة؟


لن يغيب عن مخيلته أفتقارهم للسكر , ولعجلات السيارات , وقطع التبديل بمختلف أنواعها أو أختفاء سفن الشحن التي وصلت ال شنغهاي أو التي بقيت في الميناء لعدة أشهر , لن يستطيع كل غربي أن يتلائم مع هذا النوع من الأحباط.
" علي أن أعود بسرعة الى المكتب , فلدي موعد , سأعود بعد ساعة لأتناول الغداء , فألى اللقاء".
جلست جاكلين على السرير محتارة في أمرها ,هل تفك أمتعتها , أم تنتظر لتنتقل الى منزلها , ستلقي نظرة أخرى على المكان , خرجت من الغرفة , فوجدت كويسي في طريقها فسألها:
" هل تريدين قهوة أم ماء معدنيا؟".
" أي شيء بارد من فضلك , ماء".
" أننا لا نغلي الماء هنا يا سيدتي".
" حسنا يا كويسي , أن ماء أكرا نظيف".
" هذا ما يظنه سيدي , ولكن السيدة تغليه لمدة خمسة عشرة دقيقة ".
لم تعلم جاكلين فيما أذا كان ماتيو سيمونز متزوجا أم لا , فسألت كويسي:
" هل تقصد السيدة سيمونز؟".
هز كويسي كتفيه وقال:
" لا أعلم أن كانت زوجته أو لا".
أذا كان ماتيو سيمونز متزوجا , فماذا ستظن زوجته بها , أذا وجدتها تقطن غرف الضيوف؟
" أليست السيدة سيمونز هنا؟".
هز كويسي رأسه وأجاب:
" لا أنها في الولايات المتحدة على ما أعتقد".
لم ترغب جاكلين أن تسأل كويسي أية أسئلة أخرى , ستكتشف ذلك بنفسها , لا , لن تمكث في هذا المنزل فربما أعترضت سيدة المنزل على وجودها.
أخذت جاكلين كأس الماء من كويسي , وألقت نظرة حذرة على المنزل , سيحسن الدهان وضع المنزل ,ويجب أن تبدل الناموسيات , ولكنها شعرت بالراحة عندما وجدت مياه الحمام تجري , ولفت أنتباهها سرب من النمل , فالحشرات موجودة في كل مكان حتى في هذا الحمام المهمل , حشرات صغيرة لا تؤذي أحدا , ولكنها تجتمع أسرابا أذا شعرت بوجود ذرة خبز صغيرة ,لم تستطع والدة جاكلين التخلص من هذه الحشرات على الرغم من أستعمالها الكثير من المبيدات , بدت الأرض الخشبية مهملة تماما , لا بأس سيتصلح الأمر بقليل من الشمع , سرت جاكلين بمنظر الشرفة أذ أزدانت بنبات البوغنفيليه الأميركي المتعرش ببراعمه الحمراء والصفراء , وألقت نظرة على الديقة الخلفية , فرأت نبات الموز الطويل , ونخيل جوز الهند الضخم موزعا على نحو غريب , والى اليمين رأت منزل الخدم المغطى بنبات البوغنفليه , ستصبح الشرفة ملائمة للجلوس بقليل من النباتات والكراسي الجدد.
عاد ماتيو سيمونز بعد ساعة , فتناولا طعام الغداء المكون من البيض وشرائح الأناناس.
أرتبكت جاكلين وقالت:
" أنه لطف كبير منك يا سيد سيمونز أن تدعوني للسكن هنا , ولكن ما رأي السيدة في مشاركتي هذا المنزل! أعني هل توافق على أقامتي هنا , وعلى مشاركتي لها المطبخ".
أجاب ماتيو سيمونز ببساطة:
" تقصدين دايانا, أنها ليست زوجتي".
وضعت جاكلين في فمها قطعة أناناس , ورفعت رأسها لتجده ينظر أليها قائلا:
" قد تظنين أنك شخص صلب... ولكني أريد أن احذرك , أن الأقامة في هذا البلد , تحتاج الى مزيد من القدرة على التحمل , أياك أن تظني أنك أتيت الى هنا لقضاء أجازة".
ثم دفع كرسيه الى الخلف , ونهض , فتبعته جاكلين وقالت بنبرة ملؤها التصميم:
" لم أحضر الى هنا لقضاء أجازة".
" ليتك لم تأتي , أذ ليك التكيف مع عمل صعب وظروف قاسية, وهذا ما لا أتوقعه منك , أو من أية خريجة جديدة".
أزعجها تهديده , فنظرت الى عينيه بضراوة , أنه يقيّمها كشقراء غبية قصيرة , تمنت في تلك اللحظة أن تكون سمراء طويلة , وأن يتناسب شكلها مع عمرها , كيلا تضطر أن تحترم هذا المغرور العملاق والمتحيز للرجال , وتابعت بثبات وبرود:
" أن ثقتك بي تسحقني".
ألتقت عيونهما لبرهة , فأبتسم وهو ينظر اليها , فلاحظت أن الأبتسا مة قد أضفت رقة على وجهه , حتى ظنت أنها تنظر
الى رجل غيره وقال مجيبا:
" طبعا , قلما أخطأ حدسي ".
" تماما".
أجابت وهي تبتسم بدورها , قاد ماتيو سيمونز جاكلين الى المكتب لتتعرف على بقية الأعضاء فيه , تعرفت على بيشنسي سكرتيرة الأستقبال , ثم على سامسون مراسل المكتب , كان سامسون يافعا ونحيلا جدا , يرتدي سروالا ضيقا وقميصا مفصلا , حاول أن يشعرها بأهميته عندما صافحها , ولكن تكشيرته الرخيصة أفسدت الموقف.
" أن سامسون شاب طيب , يريد أن يؤثر في الناس لكنه لا يعرف كيف يحقق ذلك".
ضحكت جاكلين معلقة:
" لاحظت ذلك".
عرفها ماتيو سيمونز أيضا على المحاسب السيد أسانتي , كان أسانتي رجلا متقدما في السن قصيرا , ذا شعر رمادي عند الصدغين , يضع نظارة سوداء أعطته طابع الرجل الأفريقي العجوز المصور في قصص الأطفال.


" أما أوفاري ولواني غير موجودين الآن ,ويعملان كمساعدين للمدراء في المشاريع , ويأتيان للمدينة مرة أو مرتين في الأسبوع , ستقابلينهما فيما بعد ثم قرع بابا آخر ودخل قائلا:
" هذا هو ستيفن , ساعدي اليمين في المسائل الزراعية , أنظر يا ستيفن هذه هي المفاجأة التي قدمها لنا الرئيس : جاكلين دونلي , مساعدتنا الأدارية الجديدة".
علق ستيفن قائلا:
" أهلا وسهلا, أنني سعيد بلقائك , وأتمنى أن نكون أصدقاء حتى ولو شاهدت تقارير النفقات التي أجريها".
تأوه ماتيو سيمونز قائلا:
" أن تقاريره مروعة , فهو على علم بكل ما يتعلق بالماعز ,ولكنه لا يستطيع أن يضيف حقلا من الأرقام مرتين بالطريقة نفسها".
عبس ستيفن لهذا التعليق ونظر الى جاكلين قائلا:
" أنه لا يحبني ,ولكنه لا يستطيع الأستغناء عني , ولهذا فأنه يطعنني ".
أجابته جاكلين ضاحكة:
" لقد سمعت ذلك".
وتكرت مديح جينكنز لستيفن وقالت:
" ولكنك يا سيد ستيفن تتمتع بسمعة حسنة طولا وعرضا ,وسمعتك تملأ الدنيا".
رفع ماتيو نظره نحو السماء بخيبة أمل وقال متسائلا:
" لم تقولين هذا يا جاكلين؟ ... كفاه أعتدادا بنفسه".
ثم قادها خارج الغرفة , وهما يسمعان قهقهة ستيفن العالية تملأ الرواق.
" يبدو أن ستيفن شخص لطيف".
" من الدرجة الأولى وفي كل المجالات , وعامل مجد أيضا".
" لقد أخبرني جينكنز بذلك ".
رماها بنظرة مفعمة بالتهكم قائلا:
"لن أسألك ماذا أخبرك عني...".
" خرافات ليس ألا خرافات.".
رفع أحد حاجبيه وقال:
" أهذا كل ما في الأمر؟ أنني أتساءل لماذا فعل ذلك".
ضحكت جاكلين وقالت:
" لأن الحقيقة مؤلمة أحيانا , ومحفوفة بالمخاطر".
" محفوفة بالمخاطر؟".
" أجل لو أنهم قالوا الحقيقة , لما وجدوا من يجرؤ على القدوم الى هنا ,ولو كانت خريجة جديدة غبية مثلي".
" أنه لمن المسيء جدا أنك تصدقين القصص الخيالية".
كان ماتيو سيمونز مشغولا , فغاب عن المكتب طوال فترة بعد الظهر , تحدثت جاكلين قليلا مع بيشنس أذ أصبحت مسؤولة عن تنظيم أعمالها وفقا لعملها الجديد , شغل مكتب جاكلين الصغير جزءا من صالة الأستقبال التي أتسعت أيضا لمقاعد الموظفين , بدت الغرفة بدهانها الأخضر الفاتح , وستائرها ذات الألوان الباهتة المطبعة على الطراز الأفريقي حقيرة ومتسخة , وضعت جاكلين كرسيها مقابل النافذة علها تبتهج بمنظر الورود , كما أدخل سامسون الى الغرفة صندوق كتب خشبي , ومروحة , وكرسيا مما ساعد على تنسيق الغرفة قبل أن تكتسب هي نفسها أوصاف الغرفة من غبار , وتلف , وذبول , تفحصت جاكلين المكتب , فوجدت أكداسا من الموضوعات الزراعية المنوعة المهملة , فقررت أعادة تنسيقها لأن بيشنس لا تستطيع القيام بهذه المهمة , وبمزيد من الجد والنشاط والتصميم , باشرت جاكلين عملها لتثبت فعاليتها ووجودها , وسرعان ما راودت جاكلين بعض الأفكار المزعجة:
" ترى هل هي فعلا تتحدى صعوبات العمل الجديد , أم أنها تتحدى ماثيو سيمونز نفسه؟".
منتديات ليلاس
وفي الأمسية نفسها تناولا العشاء معا , وبدا سيمونز مسرورا عندما قدمت له جاكلين حساء النخيل ,وقطع لسان الجدي المقلية.
" أنتبهي أنها حارة جدا أذ أن كويسي يكثر من الفلفل الأحمر".
" سأنتبه , حاضر يا سيد سيمونز".
" لا داعي أن تناديني بهذه الصفة الرسمية , ما رأيك بماتيو فقط؟".
" سأجرب , أن كنت مصرا على هذا".
" نعم أنني مصر على ذلك يا جاكي".
أنزعجت جاكلين وأجابته بحدة:
" جاكلين من فضلك".
أنها لن تسمح لهذا المغرور الغريب أن يناديها جاكي كما يفعل أصدقاؤها.
" جاكلين أليس كذلك؟".
أحرق الطعام بلعومها , ولكنها كانت معتادة على ذلك , وتظاهرت بأنها لم تشعر بماتيو وهو يراقبها أثناء الطعام , كانت تحب طعام غانا الحار عندما كانت صغيرة , ولما كانت طالبة في المدرسة الدولية , كثيرا ما كانت تشتري مع صديقاتها قطع اللحم من الحوانيت الموجودة على قارعة الطريق , لقد ذاقت كل أنواع الطعام بما فيه الأفاعي ,مما جعل والدتها تموت فزعا فلربما ألتقطت جاكلين بعض الجراثيم التي تسبب الديزانتريا وتؤدي للموت , ولحسن الحظ لم يصب جاكلين أي ضرر حتى ولو كان عسر هضم خفيف ,كان ينظر اليها عندما أنهت طعامها وقالت بلهجة دفاعية:
" يا له من طام لذيذ , لقد أستمتعت به".
" ستندمين غدا على ما أكلته الآن لأنه سيسبب لك بعض الضيق".
" لا تقلق فلدي معدة كالحديد".
" أذن أنت صلبة من جميع النواحي".
هزت جاكلين رأسها مجيبة:
" من يدري , ربما كنت أصلب كي أتلاءم مع غانا".


أستاءت جاكلين من العداء الذي أخذ ينمو في أعماقها , لم ترغب أن تكون الخلافات الشخصية بداية للعلاقة بينهما ,وكأنه قرأ أفكارها سألها:
" هل هناك من شيء؟".
" لا , أشعر بتعب , وسأنام باكرا".
وفي صباح اليوم التالي , أستبقظت جاكلين على صوت الدجاج والبط , بدا ما حولها غريبا للوهلة الأولى , ولكن شعورها الضئيل بالألفة أتجاه هذه الأصوات الغريبة , جعلها تدرك أنها ليست في عالم جديد , كما أن ضوء النهار الوهاج في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح أدهشها , حركت المروحة الهواء الداخلي الممزوج بالرطوبة والحر محاولة أن تلطف جو الغرفة ما أمكن , تذكرت أنها في غانا , فأعترتها موجة من الفرح والسرور .
جلست في الغرفة تنظر الى الستائر المتمايلة مع النسيم , فسمعت صوت أحدى النساء تتكلم لغة لم تفهمها , فنهضت ونظرت من النافذة , رأت فتاة صغيرة تملأ دلوها من صنبوبر الماء قرب جناح الخدم , وفي ظل شجرة المانغا جلست أمرأة عارية الأكتاف , مغطاة بقمش ملون من صدرها الى أخمص قدميها , تحرك طعاما وضعته على موقد الفحم , والى جانبها طفل عار يزحف وسط الأقدار الحمراء , ويلعب بثمرة المانغا القاسية , هذه عائلة كويسي على ما أظن , بكى الطفل فتركت أمه عملها ,ووضعته في حضنها , ثم أخرجت ثديها , فجذبه الطفل بيديه الصغيرتين ,وبدأ ينهل من لبنها.
راقبت جاكلين هذا المشهد لمدة , ثم أبتعدت عن النافذة والسعادة تغمرها لأنها عادت الى غانا , كم كانت سعيدة وهي تستقبل هذا اليوم , أستحمت وأرتدت قميصا قطنيا وصندلا من الجلد , رفعت شعرها الى الأعلى , ونظرا لشدة الحر , فكرت في أن تجعله قصيرا قبل مجيئها ,ولكن الشجاعة خذلتها أذ سيستغرق بعدئذ أعواما ليعود طويلا.
وجدت جاكلين كويسي في المطبخ يحضر طعام الأفطار , فحيته تحية الصباح وسألته:
" هل الطفل الصغير والفتاةمن عائلتك؟".
أجابها بفخر وأعتزاز:
" نعم , ولدي ولد آخر يعيش في القرية مع جدته لأمه".
" أين قريتك؟".
" في مانكسيم أنها على الطريق الى ساحل الكيب".
دردشت جاكلين معه قليلا ليجهز وجبة الأفطار , خرجت الى الشرفة التي أضفت على الغرفة نورا , وتساءلت وهي تنظر الى الجذوع الخضراء الضخمة , أن كان هناك بستاني يعتني با لحديقة أم لا... يجب أن تشذب هذه الأشجار , وسرعان ما
خطف بصرها حركة تمساحين صغيرين يتسابقان عبر الشرفة , ويقفزان تحت الجذوع.
" تماما كالغابة أليس كذلك؟ ".
همس ماتيو من خلفها , كان أنيقا مرتديا قميصا أبيض وبنطالا فضفاضا.
" الى حد ما , لكنني أحب النباتات الخضراء".
" حسنا لن تفتقدي هذا , فالبستاني هنا يعتني بالحديقة مرة أو مرتين في الأسبوع , ولكنه غائب منذ شهر , كان عليه أن يعود لقريته لأن جده مريض ,ولا أحد يعلم متى يعود".
" يوجد هنا الكثير من أشجار الموز".
" نعم... ولكن أحذري أن تأكلي من تلك الأشجار على الضفاف , فتلك ليست بأشجار الموز".
كانت تلك الأشجار فعلا شبيهة بالموز , فأن لم تكن كذلك , فلا بد أن لها أسما آخر.
" أنها موز الجنة ".
قالت بلهجة أيجابية خالية من الأستفهام.
فسألها ونظراته تفضح دهشته الكبيرة:
" وكيف عرفت ذلك؟".
هزت كتفيها وقالت:
" أعلم أشياء كثيرة أخرى".
" نعم هذا صحيح!".
" ألا يجب أن أعلم؟ لقد تخرجت لتوي من الكلية".
ثم دخلت لتساعد كويسب تاركة أياه وحيدا على الشرفة , كان ماتيو باردا ومهذبا أثناء تناول وجبة الأفطار ,وما أن أنهيا طعامهما , حتى غادرا المنزل الى المكتب في تمام الساعة السابعة.
" من الأفضل أن نبدأ عملنا باكرا , فلدي الكثير , وعليّ أن أحدد أعمالك وأنظمها ".
لم تدرك في اليوم السابق أن مكتبه كغرفتها بالية وتالفة ,والعمال ضجرون من مكيف الهواء الذي لا يعمل.
حدثها ماتيو كأي رجل أعمال آخر , أراها تقارير ولوائح وملفات , شارحا الأعمال الداخلية للمكتب.
" أنت مسؤولة يا جاكلين عن هيئة النسخ وسيعمل معك بيشنس وسامسونكما أخبرتك أمس , ستهتمين أيضا بجدول الرواتب والحسابات , والتقارير المالية, فعليك أن تتبعي خطة معينة لذلك".


" نعم , أدرك هذا ".
أجابته وهي تنظر الى الأوراق المكدسة أمامه.
" ليس لدي وقت , ولا أحب معاقبة أحد , أما المصنفات فعليك الأهتمام بها أيضا".
" أخبرتني بيشنس أنها تهتم بالمصنفات لهذا سأطلب منها مساعدتي لأراهم".
" نعم , أنها تعلم موضع كل ورقة , وتجدها أينما صنفت , ولا أحد غيرها يستطيع ذلك".
" وماذا عن السيارات ؟ أخبروني أنها تحتاج لجهد كبير كي تصلح للأستعمال".
" أنني مسرور أن ألقي على عاتقك هذه المهمة أيضا , فلدينا نقص في القطع , كما أن القطع الموجودة ليست مثبتة بشكل جيد مما يجعل السيارة تتعطل دوما في أماكن غير مناسبة".
تداولا في جميع الأحاديث الخاصة بالعمل , من الصناعة المصرفية والأعمال الزراعية الى تصليح السيارات , وما أن حان وقت الغداء , حتى شعرت جاكلين بأرهاق عام , وأحست أنها لا تستطيع هضم المعلومات جميعها في لحظة واحدة , وفي البيت , تناولا طعام الغداء المعد من شطائر السمك وسلطة الفاكهة , شعرت جاكلين أنها لا تقوى حتى على مضغ الطعام , كان الجو شديد الرطوبة أشبه بحمام بخار على الطراز التركي , حتى أنها شعرت بعرقها يتصبب في ظهرها ... أنسدلت بعض خصلات شعرها الرطب , فجمعتها خلف أذنيها , نظر اليها عن كثب وقال:
" سأكون مشغولا هذا المساء , فلدي موعد مع شركة التطوير الدولية ,فما رأيك أن تبقي في المنزل لتنالي قسطا من النوم؟".
" يا لها من فكرة رائعة ... سأفعل ذلك حتما".
صباح الخميس سلمها ماتيو مجموعة وثلئق , نظرت جاكلين الى الأوراق التي في يدها ظنا منها أنها وثائق شحن معينة.
" ما هذه؟".
" أنها معدات من أجل مشروع الأرز , جاهزة في المطار وعلينا أن نستلمها".
" حسنا , سأجلبها".
" ليس الأمر بهذه السهولة... يجب أن تذهبي فورا ,وألا لن تنهي العمل قبل الغداء , أياك أن تدفعي قرشا , فهذه البضاعة لا تخضع للضرائب , هل تعتقدين أنه بأمكانك القيام بهذا العمل؟".
أدركت جاكلين فورا ما عناه , سيهزأ بها رجال الجمارك , وسيعاملونها كغبية شقراء , أنها الفرصة الأولى لها لأثبات ذلك , أجابته ببرود:
" لا أرى مانعا في ذلك".
" شيءخر أريد أن أضيفه, أن المال في هذا البلد سصنع العجائب ,أياك أن تدفعي ولو مبلغا ضئيلا مهما كانت الظروف , حتى لو أضطررت للمشاحنة معهم , وأضرام النار على رؤوسهم , هل هذا واضح تماما؟".
بسطت منكبيها وحدقت به , ألا يعلم أنها لا تؤمن بالرشوة.
" لا تخشى على قيمي الأخلاقية , فقد تأكدوا منها في نيويورك".
" حسنا".
لم تكن المهمة سهلة , فعلى المرء أن يكون صبورا وباردا كي يخلص البضاعة من مبنى الشحن , تنقلت جاكلين من مكتب الى آخر , وملأت ووقعت خمس عشرة أستمارة , أنتظرت طويلا وهي تتأمل الجدران القذرة ,والمصنفات المغبرة الموضوعة في الزوايا , كان أحد الموظفين نائما فوق آلته الكاتبة , تمنت جاكلين أن تحذو حذوه فالحرارة والهواء الراكد أستنفدا كل طاقتها , شعرت بالضجر من هذا الروتين لأنه مضيعة للوقت , لن تخبر ماتيو بهذا ما دام الحل واحدا ولا بد أنه يختبرها , مضى أكثر من ساعتين تمكنت جاكلين بعدها من الوصول الى مكتب الجمارك , حياها الموظف مبتسما , وساعدها في فتح علب الكرتون:
" أجهزة صناعية؟".
" نعم".
" من أجل طاحونة الأرز ".
ختم الموظف الأوراق وسلمها العلب.
غمرتها لذة الأنتصار وهي في طريق عودتها الى المكتب متسائلة:
" ماذا سيقول سيمونز !".
قرعت باب مكتبه ودخلت واضعة العلب على المكتب.
" ها هي البضاعة , لم يصبها أي ضرر على ما أعتقد".
نظر ماتيو الى البضاع ,ثم الى جاكلين , ثم الى البضاعة , وقال بدهشة:
" أذن أستطعت تخليصها".
طبعا , أذا كان ماتيو يمتحنها , فقد نجحت في ذلك وستستمر .
" ألم تواجهي بعض الصعوبات؟".
" دبرت أموري , لماذا؟".
" لأنهم مشهورون بذلك ".
أجابها وهو يفتح العلب.
توقع ماتيو أن تعود جاكلين متذمرة وشاكية كغيرها من الموظفين , شارحة له الأمر بأكمله , لا لن تفعل هذا , ولن ترضي غروره , سألته:
" هل من شيء آخر؟".
" لا... حان وقت الغداء فهل أنت مستعدة؟".
ذهبت جاكلين بعد الغداء الى السوق , تبحث عن أدوات للمكتب , لم تتغير المدينة كثيرا لهذا أستطاعت أن تجد طريقها بسهولة.
وفي مخزن الكينكزوي ألتقت جاكلين مصادفة وجها لوجه مع السيد والسيدة تورنر ومعهما ليزا زوجة أبنهما , كانت ليزا فتاة جميلة , شعرها أسود وقصير لامع ,وعيناها براقتان محاطتان بنظارات عريضة جدا , قبلت جاكلين بسرور دعوتهم الى العشاء يوم السبت المقبل , أذ كانت ترغب من أعماقها أن تتعرف على ليزا , أنه لمن السهل أن يبني الأنسان علاقات ودية في بلد يعج بالأجانب , لقد أنتقل معظم معارف جاكلين من جالية المغتربين الى أماكن أخرى , فمن عادتهم ألا يستقروا في مكان واحد أكثر من عدة أعوام , أنتقلت جاكلين الى شقتها مساء يوم الجمعة ورائحة الدهان وتلشمع لم تزل عابقة , أخذ كويسي على عاتقه أصلاح الشقة خلال يومين بتعاونه مع رفاقه , كما وضع النجار أطارات جديدة للمناخل , دهشت جاكلين لسرعة أنجاز العمل , لم يكن الطلاء متقنا تماما , ولكن لا بأس به ما دام قد أضفى على الغرفة حلة بيضاء جميلة , وأعطى الأرض لمعانا وبريقا , ذهبت صباح يوم السبت لشراء ما يلزمها من سوق الماكولا أكبر سوق في وسط المدينة , وكثيرا ما كانت تمضي فيه ساعات طويلة تبحث عن خرز أو أقمشة لخياطة فستان لها , شعرت جاكلين بالعرق يتصبب من جسمها أذ كانت الشمس حارة , والسوق محتشدا وعابقا بالحرارة , وجموع الناس تحاول أن تتمشى بين الأكشاك , والنساء بحمولتهن الثقيلة على رؤسهن يستعملن أكواعهن كمقود لفسح الطريق خلال الممرات الضيقة , سحرها المنظر فألتهمته بعينين فضوليتين , عرضت البضائع على الأرصفة كي يتم تفتيشها بما فيها من سلال , وأدوات من الفخار , وخرز وأدوية طبية , كما رتبت الخضراوات بشكل أنيق من بندورة وفليفلة حرة , وبامية , أما اللحم فلم يثر شهية جاكلين على الرغم من أنواعه وأشكاله , تنقلت جاكلين بين الأكشاك لتشتري قماشا يصلح لصنع الستائر , كانت الأقمشة بألوانها الزاهية المطبعة على الطريقة الأفريقية مكدسة , أو معلقة بشكل أنيق على حوامل للعرض.


أخيرا , عثرت جاكلين على ما يناسبها من قماش الستائر , سارت خلفها حاشية من بنات صغيرات يحملن القماش الى أن أستقرت في سيارة أجرة أقلتها الى منزلها , خرج كويسي ليساعدها في حمل الأغراض , بينما بقي ماتيو أمام البابينظر اليها بعصبية معلقا:
"آمل ألا تكوني قد أرتكبت غلطة ما؟".
" غلطة! أية غلطة؟".
وبصبر نافذ أشار الى السلال والقماش والأواني:
" لو كنت مكانك لما أنفقت أموالي هباء , فقد لا تعوضينها ... هل تعلمين هذا؟".
خفق قلب جاكلين لدى سماعها كلماته , فعضت على شفتيها غضبا , لماذا يعكر مزاجها كلما كانت تتمتع بروح معنوية عالية؟ شعرت بأنها متعبة , وأضطرم نار الغضب في بلعومها وقالت:
" لا بأس, أعتقد أنك لم تلاحظ بأنني مصرة على الأستقرار هنا , والأستمرار بالعمل سواء راق لك هذا أم لا".
أجابها ببرود:
"لاحظت ذلك , ولكنني أريد أن تدركي أنني لم أقرر بعد منحك العمل , والأجدر بك أن تأخذي ذلك بعين الأعتبار , وتوفري على نفسك عبء التجوال".
ثم أنصرف مغادرا المنزل , كانت جاكلين مسرورة لأنها ستغادر المنزل في المساء لتغير من طريقة معيشتها , دعاها كويسي لتناول الغداء الذي لم تشعر أنها بحاجة اليه كيلا تجلس مع ماتيو , وتجاذبه أطراف الحديث.
" كويسي".
" نعم يا سيدتي".
" هل يضايقك أن تحضر لي طبقا من سلطة الفواكه , وكأس ماء الى هنا؟".
" حاضر يا سيدتي , هل أنت بخير؟".
" أنني متعبة يا كويسي هذا كل ما في الأمر".
أستراحت جاكلين في غرفتها بعد أن أستحمت وشعرت بالأنتعاش الذي لن يدوم طويلا , أذ لن يلبث العرق أن يتصبب منها خلال دقائق لأنها لا تملك مكيف هواء في غرفتها.
تناولت ما أحضره كويسي , ثم أستلقت على سريرها بصحبة أحد الكتب , وما لبثت أن نامت طوال فترة بعد الظهر كالمنهكين , أتى أبن السيد تورنر في السابعة والنصف مساء , ليصطحب جاكلين لأنها لا تعرف العنوان , أرتدت ثوبا قطنيا طويلا , أزرق وأخضر , ورفعت شعرها الأعلى , لكنها لم تنجح في رفع خصلات شعرها التي تدلت خلف أذنيها , وبينما كانت تنتعل حذاءها سمعت طرقا خفيفا على الباب , وأذ به ماتيو مرتديا بنطال جينز وقميصا , قال بسخرية رافعا أحد حاجبيه:
" هناك شخص يدعى جون تورنر ينتظرك في غرفة الجلوس , هل تريدين أن أحضره الى هنا؟".
" لا أشكرك , أنني جاهزة".
وبعد محامة عقلية , قررت أن تطلب من زوارها القدوم الى مدخل البيت الأمامي الخاص بها , وضع ماتيو يديه في جيوبه , أتكأ على الباب , وغمرها بنظرة ملؤها الأعجاب وقال:
" تبدين سيدة تماما".
تجاهلت تعليقه , وأخذت حقيبة يدها.
" من فضلك , أريد أن أخرج".
أردفت عندما لم يفسح لها الطريق قائلا:
" ومع أنك لا زلت صغيرة , لم تحتاجي وقتا طويلا للتأرجح على حبال الهواء".
أيقظت كلماته الغضب في أعماقها, فأطبقت أسنانها حانقة , لماذا لا يتركها لشأنها , تخطته وهي تحملق في وجهه ثم قالت ببرود:
" هذه ميزة كوني شقراء غبية , ليس لدي وقت للملل".
مال برأسه الى الخلف , وأنفجر ضاحكا.
كان جون تورنر أنيقا جدا كأولئك الرجال الذين يظهرون في الأعلانات لعرض الأزيار الخاصة بالرجال , كانت أسنانه بيضاء , وشعره مصففا بشكل دقيق , فلا عجب أن يفكر ماتيو بأن جون صيد فاخر , ولكن جاكلين ضحكت في سرها لأن جون ليس هو النوع المفضل لديها , أتجها الى السيارة , وفتح جون الباب لجاكلين , وأتخذ كل منهما مكانه , قال مبتسما:
" أخبرني والدي كل شيء عنك , من الممتع أن يجد الأنسان من يتكلم معه على متن الطائرة أذ أن الرحلة مميتة! أليس كذلك؟".
" ليست ممتعة".
" أننا نعيش في شمال لابون هل تعرفينها؟".
" أجل! عشت مع والدي في كانتو نمينتر عند طرف شمال لابون ".
كان منزل عائلة تورنر واسعا , وجميلا , ومكفيا مما سر جاكلين كثيرا .والبرودة منعشة تتنافى مع الحر الخارجي , وتشجع على تناول وجبة لذيذة حارة.
أستقبل الجميع جاكلين بترحاب ,وبدأ السيد والسيدة تورنر يقصان عليها ما جرى معهما خلال الأيام الفائتة غير آبهين من سيبدأ قصته أولا ومن سيتابع , مما جعل المواضيع مبهمة , فأنفجرت ليزا ضاحكة, وهز جون رأسه قائلا:
" أعتقد أنهما أستمتعا بوقتهما حتى الآن , فما أخبارك أنت يا جاكلين؟".
أجل ما أخبارها هي؟ لم تتمتع بشيء بعد ,وليست متحمسة كثيرا بسبب رئيسها الجديد , طبعا لا تستطيع أخبارهم بهذه التفاصيل , لهذا ضحكت قائلة:
"أنني مسرورة لأنني عدت الى غانا ,ولكن حدث ألتباس عند وصولي , وغدا الأمر على ما يرام بعدئذ ,وسأنكب على عملي الجديد ".
منتديات ليلاس
أجابها جون:
" لا ترهقي نفسك به خاصة في هذا الطقس السيء".
توجه الجميع بعدئذ الى غرفة الطعام عندما أعلنت المضيفة أن طعام العشاء جاهز.
" يا له من طعام لذيذ , لا شك أنك ذهبت الى لومة" .
تذكرت رحلات أمها القصيرة عبر الحدود الى مدينة توغو حيث كانت تجلب كل ما يتخيله المرء من أشياء مستوردة من فرنسا بما فيها مياه الشرب . ضحكت ليزا :
" وكيف عرفت أنني أذهب الى هناك؟ هل تودين الذهاب معي في مرات مقبلة؟".
تخيلت جاكلين ما قد يقوله ماتيو فيما لو طلبت يوم أجازة لتذهب الى توغو.
" أرغب في ذلك , ولكنني لن أتمكن من الذهاب في هذه الفترة لأنني بدأت العمل لتوي , ولا أظن أن رئيسي سيوافق على منحي أجازة".
" لقد نسيت أنك فتاة عاملة , أخبريني أن كنت بحاجة لشيء ما , وسأحضره لك بكل سرور".
أمضت جاكلين أمسية رائعة بينهم , شعرت وكأن سحابة من الهم أنقشعت عنها , فها هي تتنفس بأرتياح وسعادة , أعادها جون الى منزلها في مساء تلك الليلة , فأستقبلهما علي الحاس وفتح لهما البوابة.
" شكر لك يا جون , لقد أمضيت أمسية رائعة".
" أهلا وسهلا ها قد عرفت العنوان , تعالي متى شئت , تعالي أثناء النهار لتشاهدي أبنتنا الجميلة الصلعاء".
" يا لها من طفلة مسكينة".
ضحكت جاكلين وهي تخرج من السيارة , عمرها ستة أشهر , ولا شعر لها.
ثم تمنيا لبعضهما ليلة سعيدة ,وقاد سيارته عائدا الى منزله.
ما أن وصلت جاكلين الى المنزل , حتى رأت بابها الأمامي الخاص مفتوحا على مصراعيه ,ولاح خيال ماتيو الطويل نتيجة الأضواء المنبعثة من غرفة جلوسها , سحقها غضب عنيف , أن هذا منزلها فلماذا يقف ماتيو في غرفتها؟


سفيرة الاحزان 09-05-10 04:07 PM



3- رقة غير منتظرة
لم يتفوه ماتيو بكلمة عندما دخلت جاكلين الغرفة , وأنتظر لتبدأ بالحديث.
حدقت به غاضبة وقالت:
"ماذا تفعل هنا في شقتي؟".
" لا شيء , ألقي نظرة".
" تلقي نظرة , ومن سمح لك أن تتطفل على شقتي؟".
" أتطفل , من قال هذا؟".
" أنا!".
خرجت جاكلين الى غرفة الجلوس بسرعة , فدخل وراءها وأغلق الباب , أقلقها صوت صادر من الحمام , فتجمدت في وسط الغرفة ,سمعت من خلال الباب المغلق صوت مذيع رياضي , فنظرت اليه مرتبكة تماما:
" ما هذا؟".
" صوت المذياع ينقل أحداث مباراة الملاكمة".
" من هناك؟".
" كويسي".
" ما رأيك أن تخبرني بما حدث".
منتديات ليلاس
فتحت باب الحمام , فرأت الماء يتدفق في كل مكان ,وقد وقف كويسي في الوسط ببنطاله المرفوع , يحاول أن يخفف الماء بالممسحة والسطل , كان الراديو الصغير موضوعا على خزان الماء ينقل أخبار المباراة بحرارة , أمعنت جاكلين النظر للحظة , ثم أغلقت الباب ,وعادت الى غرفة الجلوس حيث جلس ماتيو يراقبها بنظرات ساخرة وأردف:
" بعد أن رأيت ما حدث , فهل تسامحيني لأنني وطأت أقدس المقدسات؟".
هزت جاكلين رأسها وسألته عما حدث:
" لقد أنفجر أحد الأنابيب , أكتشف على ذلك أثناء تجواله أذ كانت نافذة الحمام مفتوحة , فسمع صوت الماء يتدفق , وبما أنه يعلم أنك لست موجودة , قصدني وأخبرني بالأمر , لعلك تخمنين ما جرى بعد ذلك".
" أعتقد أنني لا أستطيع أستعمال الحمام الآن".
" أن هذا يتوقف على سرعتك في أصلاحه , سأعطيك عنوان المصلح يوم الأثنين , أعتقد أنك تستطيعين حل هذه الكارثة على أحسن وجه".
" أشكرك".
" أنه جزء من عملك اللامع".
" أنني أدرك ذلك تماما".
" لم يعد لي حاجة للبقاء هنا".
نهض ومشى بأتجاه الباب المشترك وأردف:
"على فكرة عندما تتصل بالمصلح دعيه يأتي الى المكتب لأصلاح صنبور الماء اللعين , كما يمكنك أن تتابعي مهمتك وتعرفي ما حل بأمر الهاتف والمكيف معا , سأعطيك التفاصيل يوم الأثنين".
وقبل أن تجد الجواب الملائم , أغلق الباب , رمت جاكلين حذاءها بتعب , وسرت بجسمها موجة وهن عارمة , لقد حدثت لها أشياء كثيرة في الأيام الأخيرة , أخذت تجمع الحوادث مع بعضها بعضا ....قدومها الى غانا ولا أحد في أستقبالها ... أستقبال في المكتب بلا ترحاب ... علاقتها مع ماتيو المؤدية الى كارثة , بدا لها أن كل أعمال المكتب لا فائدة مرجوة منها , كانت لياليها حارة وغير مريحة , ونومها سيء ,وفي الصباح كانت تستيقظ العرق يتصبب منها وتبقى متعبة.
دخل كويسي غرفة الجلوس ضاحكا حاملا الممسحة والسطل والراديو الصغير , ومبللا وقال:
" أنتهى الآن ,هناك الكثير الكثير من المياه".
" أشكرك كثيرا يا كويسي , آسفة لأزعاجك في وقت راحتك".
" لا بأس أحضرت المذياع معي لأستمع الى الملاكمة وأنا أعمل ".
" أنني سعيدة لأنك أستمتعت بها! من الفائز؟".
" بوبزون , أنني أفضله عن الآخرين".
" عظيم".
أتجه كويسي نحو الباب فسألته جاكلين:
" هل تعرف خياطة قريبة , لقد أشتريت بعض الأقمشة لأصنع ستائر , وأفتش عمن يخيطها لي".
" أن زوجتي تخيط الثياب والأشياء الأخرى , ولديها آلة خياطة تستطيع أن تخيط لك الستائ سأخبرها بالأمر".
" رائع , سأكلمها غدا هل ستكون في المنزل؟".
" أنها تذهب الى الكنيسة في الصباح ,ثم تعود الى المنزل".
" أذن أتفقنا , أشكرك".
" آه , صحيح , لقد قطع السيد سيمونز الماء عن احمام , فالأفضل أن تستعملي الحمام الآخر".
" تصبح على خير".


جلست جاكلين في سريرها حزينة كئيبة , في صباح اليوم التالي , شعرت بتحسن , وأعدت لنفسها قطعة من الخبز , وفنجانا من الشاي , وخرجت الى الشرفة , كان الوقت باكرا حوالي السادسة صباحا , وأكرا تنعم بهدوئها , فما زال الناس نائمين أذ لم تسمع أي صوت من جيرانها , تجولت دجاجة وفراخها في الحديقة تنبش الأرض هنا وهناك بحثا عن الطعام , أتكأ عصفور أسود كبير بصدره الأبيض على شريط الكهرباء في سكون سحري , رشفت جاكلين الشاي ببطء متمتعة بجو الصباح الباكر , ماذا تفعل في يوم الأحد هذا؟ هل تكتب رسائل؟ أم تقرأ كتابا ما , أم تفصّل الستائر ؟ لو كان لديها مزهرية لقطعت بعض أغصان البوغفلية وزينت الغرفة , أسترخت في كرسيها , ما أجمل أن تقضي يوما هادئا بعيدا عن ذاك المكتب غير المنظم العشوائي , وبعيدا عن ماتيو نفسه , ليتها تستطيع الأبتعاد عنه في المنزل , كان من الصعب عليها ألا تفكر به حتى ولو لم يكن معها , ولا تستطيع تجاهله عندما يكون موجودا , أنه يفرض نفسه أينما وجد وكأنه يشع نورا من كهرباء لا يمكن تجاهله
ه , تنهدت وأغمضت عينيها , بدأ العالم يستيقظ رويدا رويدا , حلقت طائرة في السماء فأصغت جاكلين الى صوتها حتى أختفت , طفل يبكي , أصوات تأتي من جناح الخدم , وبعضهم يضحك , سمعت صوت ماء يتدفق , وأصوات الأباريق والمقالي , لقد أبتدأ النهار.
أستغرق تفصيل الستائر وقتا أطول مما توقعت , ولم تنته الا بعد الظهر , مشت جاكلين بأتجاه منزل كويسي المبني من الأسمنت ,وقد حملت القماش على ذراعها , كانت أيفلين زوجة كويسي جالسة على الشرفة , تدق بالهاون بعض حبات البطاطا , والى جانبها صديقتها التي كانت تساعدها بحركات سريعة تنم عن خبرة كبيرة , كانت السيدتان ترتديان قماشا ملونا يتدلى من الصدر حتى الكاحل ,وعندما شاهدتا جاكلين , توقفتا عن العمل ونظرتا اليها بحياء , قالت جاكلين:
" أعتقد أنه لا يوجد لديك مانع من أن تخيطي لي هذه الستائر , لقد فصّلتها".
هزت أيفلين رأسها وقالت:
" أخبرني كويسي ... نعم أستطيع ".
أخذت أيفلين القماش من جاكلين , أنه قماش جميل , هل وجدته في السوق؟".
" نعم , لقد أشتريتهأمس , متى أحصل عليها؟".
" غدا على ما أظن".
" كم سأدفع لك؟".
أتفقتا على السعر ثم عادت جاكلين الى بيتها بينما أنهمكت النساء بتحضير الطعام.
أستلمت جاكلين الستائر في الموعد المحدد , وأضفت رونقا وجمالا على الشقة , وأعطتها طابعا منزليا أليفا , حملت الأسابيع التالية معها تباشير جديدة, فقد أستبدل أنبوب الماء, وأصلح الهاتف , وأعيد تركيب مكيف الهواء , كل ذلك خلال عشرة أيام , أدهش ذلك جاكلين لأنها لم تتأمل أن ينجز العمل بهذه الفاعلية , لقد حققته بنفس مشرقة وأصرار , أذ كانت تذهب كل يوم مرة أو مرات لترى العمال , فتارة تضحك معهم , وتارة تثقل عليهم بالنكات , حتى أضطروا أن ينهوا عملها ليتخلصوا منها , سألها ماتيو وهو يتفحصها عن كثب:
" كيف أنجزت هذه الأعمال كلها وبهذه السرعة؟".
" لا تقلق لم أدفع قرشا".
" ماذا فعلت أذن هل أغويتهم؟".
أذا أراد أن يكون وقحا , فستحذو حذوه , نظرت اليه ببراءة وعينين محدقتين وأجابته:
" وهل هناك طريقة أخرى؟".
عملت جاكلين في الشهر التالي بنشاط لترتيب أعمالها , وتنظيم المصنفات , ولاحظت وهي تعمل مع بيشنس أن عليها الأخذ بزمام المبادرة والبدء بتبويب المواد , لم تستمتع بهذا العمل الذي أستغرق وقتا كبيرا لتصنيف الأوراق المكدسة في الخزائن يعلوها الغبار , والتي حفظ معظمها كمراجع , تنهدت جاكلين أخيرا , وهي سعيدة , لأنها تعلمت بعض الأشياء , كتخزين الذرة , وأطعام الدجاج ,وزراعة الفول السوداني , في أحدى الليالي قاربت جاكلين على أنهاء العمل , بعد أن عملت بجد الى ساعة متأخرة من الليل بدون أن تشعر بمرور الوقت , كانت أشبه بآلة أوتوماتيكية تعمل بلذة روتينية أذ كانت هذه هي الطريقة المثلى التي تمكنها من أنجاز العمل , وفجأة قطع صمت المكتب الهادىء صوت الباب الأمامي يغلق بعنف , وظهر ماتيو بقامته الطويلة واقفا على العتبة , نظيفا وأنيقا وما زال شعره نديا , مما يدل على أنه قد أخذ دوشا لتوه.
أدركت جاكلين فورا أنها تجلس وسط الأوراق المتراكمة التي تعلوها الغبار , والأوساخ والرطوبة الشديدة , وقد جفّ حلقها وأنفها من رائحة الغبار المتناثر أثناء تبويب الصفحات وترتيبها , حدق في وجهها بدهشة قائلا:
" تساءلت أين ذهبت , ألا تظنين أنك تعملين كثيرا ,فالساعة قد تجاوزت السابعة مساء".
شعرت جاكلين بالمقاومة تغلي في عروقها فأجابته ببرود:
" لا تقلق ! لن أطالبك بأجر أضافي".
" حسنا! لماذا لا تتركين العمل للغد , وتعودين للمنزل لنأكل شيئا ؟".
" لست جاهزة الآن , بأمكانك أن تخبر كويسي بذلك , سأعد شيئا لنفسي عندما أعود".
" أن كويسي في أجازة اليوم".
" أجل نسيت ذلك".
" لا تعملي بهذه الطريقة".
أنفجر صوته يشوبه القلق المفاجىء .
" يجب أن نالي قسطا من الراحة , فأذا أستمريت بالعمل على هذه الطريقة في هذا الطقس السيء , فأنك لن تصمدي كثيرا".
شدّت على قبضة يدها , لماذا لا يدعها وشأنها , أنها تستطيع الأهتمام بنفسها, ليست بحاجة الى تدخله الدائم.
" سأعتني بنفسي , أشكرك!".
منتديات ليلاس
زادت ملامحه قسوة وومض بريق في عينيه وقال:
" أذا كنت تعتقدين أنك تعملين بهذه الطريقة للتأثير في! , فأنك مخطئة تماما , ليست هذه طريقة ناجحة".
" دعني وشأني , سأقوم بعملي على النحو الذي أحب".
ساد بينهما صمت مشحون بالكهرباء , لم تخطف بصرها عنه ,كان فمه قاسيا ومحددا.
" حسنا".
قال ببط.
" أفعلي ما يحلو لك ".
ثم خرج من المكتب صافعا الباب وراءه , لقد رحل , ها هي سيارته قد أنطلقت.
عرفت جاكلين ما كان يدور في ذهنه ... لماذا أهتم بها... كلما أنهارت بسرعة ,كلما تخلص منها بوقت أسرع ,عاد كل شيء من حولها الى هدوئه , تأملت الأوراق أمامها , كانت عيناها تحرقانها , كما شعرت بجوع وعطش شديدين , ترى هل ظن ماتيو أنها ستأتي المنزل لتحضر طعامه أثناء غياب كويسي؟ ا يا لحظك السيء يا أخي ... حضّر طعامك بنفسك , قطع مجيء ماتيو الى المكتب تسلسل عمل جاكلين , حاولت بعدها العودة الى العمل فلم تفلح , وتركت الأوراق جانبا , وغادرت المكتب متجهة الى المنزل بعد أن أحست بالجوع والحر والأتساخ , نظرت الى نفسها في مرآة الحمام وبدا وجهها رماديا بتأثير الغبار , أخذت دوشا , وأرتدت ملابس نظيفة , ثم أتجها الى المطبخ لتأكل , كانت غرفة الجلوس خالية , ولم تتوقع أن تجد الثلاجة مليئة بأنواع كثيرة من الطعام ( بيض مقلي بالبصل والبندورة , وشرحة من الأفوكادو ,وسلطة الفاكهة).
تيقنت الآن أن ماتيو حضر الطعام على أمل أن تشاركه , ولما لم تحضر ذهب ليتفقدها , داهمها شعور بالذنب , جلست الى المائدة تأكل نصيبها من الطعام , أجتمع سرب من النمل على فتات الطعام الذي تركه ماتيو , وأخذ يلتهم ما حوله بنشاط مذهل , نظرت جاكلين في أرجاء الغرفة الخالية , وشعرت بوحدة قاتلة ... الى متى سيستمر أزعاج كل منهما للآخر , في صباح اليوم التالي , قدم كويسي طعام الأفطار , ووجهه ينم عن كآبة كأنما أعترته مصيبة , نظر ماتيو اليه متسائلا ترى ماذا أصابه؟ فهزت جاكلين كتفيها مشيرة أن لا فكرة لديها عما أعتراه.
" من فضلك, لم يعد لدي صابون لغسيل الأطباق ".
قال كويسي وهو يرفع الأطباق عن المائدة.
" لقد فتشت جميع الأسواق بما فيها سوق ماكولا ولكن عبثا , وجربت مسحوق الغسيل لكنه ليس جيدا للأطباق , وأريد أن أحتفظ بما تبقى منه لغسيل الثياب".
رشف ماتيو ما تبقى من قهوة ونظر الى جاكلين قائلا:
" أن هذا من أختصاصك".
" لم يدرج هذا في جدول أعمالي".
" أعلم أنه لا علاقة لعملك بهذا , ولكن الأمر يتعلق بالتحدي اليومي للحياة في جنة النخيل , كما لاحظت أن هذه المشكلة ذات حجم عظيم ,ولكن خريجة جديدة مثلك قادرة على معالجتها".
لماذا يعاملها بهذه الطريقة طوال الوقت ؟ بأمكانها وبكل سرور أن تخنقه لغروره وتصرفاته الوقحة.
ضحك وهو يمسك بحقيبته:
" سأراك في المكتب".
بقيت جاكلين مع كويسي ينظر اليها ,متوقعا منها أن تصنع العجائب بلا شك , لم تكن المشكلة جديدة ,حاولت أن تتذكر ماذا يفعل الآخرون في مثل هذه الحالة , أستعرضت شريط ذاكرتها حتى وجدت الحل.
" هل عندنا أي نوع من الصابون يا كويسي؟".
أومأ برأسه وذهب الى غرفة المؤونة, وعاد يحمل برميلا من مادة صفراء أميل للون البني ... كان نوعا من الصابون المصنوع محليا المستعمل لجميع الأغراض.
" ستحتاج الى نصف هذه الكمية المبشورة , وسنضيف اليها بعض الليمون , لنحصل على سائل مدهش من الدرجة الأولى ".
أعطته بعض التعليمات , نظرت الى وجهه المفعم بالشك وذهبت الى المكتب , عادت جاكلين من عملها , فوجدت البخار يتصاعد من السطل الذي أعده كويسي , وضعت الصابون المبشور مع قطع الليمون وعصيره , وبدأت بتحريكه وهي تهتف :
" سنحصل على هذا السائل المدهش".
كان كويسي ينظر اليها بعينين ملؤهما الحيرة , دخل ماتيو المطبخ ونظر بدهشة الى جاكلين , ثم الى كويسي , ثم الى البخار المتصاعد وقال:
" هل لي أن أعرف ماذا تصنعان؟".
نظرت جاكلين اليه بأستعلاء وأجابت:
"نصنع سائلا لتنظيف الأطباق".
" بالتأكيد".
نظر ماتيو الى السطل الذي يغلي وسألها مكشرا:
" هل هذا ما تسمينه سائل الجلي؟".
سرّ كويسي لأن ماثيو شاركه في عدم الثقة والحماس لما تصنعه جاكلين .
" من أين حصلت على هذه الوصفة؟ ".
شعرت جاكلين من صوت ماتيو أنه لا يسخر منها هذه المرة فبادلته الأبتسامة.
" وجدته في كتاب السحرة الخاص بذلك".
" هذا ما كنت أخشاه".
تابعت جاكلين مبتسمة تحريك المزيج قبل أن تتركه ليبرد ,وهي تفكر أن الأبتسامة في عيني ماتيو أضفت عليه جمالا , تعجبت من المعارك المحتدمة بينهما , أذ ما تلبث الرقة التي ترفرف عليهما لبرهة أن تنقلب الى عداء عظيم , لم يكن على جاكلين أن تتدبر أمر الصابون فحسب , بل عليها تدبير أمور أخرى , فما زالت أحدى السيارات معطلة منذ أسبوعين لنقص في أحد أجزائها غير المتوفرة , ونتيجة لذلك فقد تعطلت أمور المكتب , مما أدى الى نفاذ صبر ماتيو وزاد من عصبيته , رأت جاكلين أن تذهب الى توغو لتحضير قطع السيارة من لومة , وعندما ناقشت الأمر مع ماتيو , قطب جبينه مما أوحى لها أنه يرفض أقتراحها.
" أذن لا تفعل , سأجد ذلك بنفسي , هذا هو عملي وسأقوم به".
" هل أنت متأكدة أنك تريدين المحاولة".
" بالتأكيد".
" حسنا ,كيف لغتك الفرنسية؟".
" لا بأس بها , ليست كما يجب".
" تحتاجين الى تأشيرة دخول الى توغو لأن لومة على الحدود تماما , كما أنك بحاجة الى تصريح للعودة الى غانا ,وشهادة قيادة دولية".
أستغرق الحديث أكثر من نصف ساعة لمناقشة بقية التفاصيل , ثم رسم ماثيو خريطة لومة عاصمة توغو المؤلفة من عدة شوارع رئيسية , أما البنك ووكلاء السيارة فقد أشتركوا في بناء واحد.


تأكدت جاكلين أنه أصبح يثق قليلا بأمكاناتها , ولذلك عهد لها بهذه المهمة , ربما كانت لديها خبرة ما ... لا كما حكم عليها مسبقا , ترى ألم يخطر بباله ذلك؟".
خابرت جاكلين ليزا فور وصولها الى مكتبها قائلة:
" سأذهب الى لومة من أجل العمل , هل تريدين أن تأتي معي لشراء بعض المأكولات؟".
" طبعا سآتي ,وسأترك طفلي عند غلاديس , هل ستعودين في اليوم نفسه؟".
" نعم سأشتري قطع غيار لأحدى سيارتنا , وبعض الأغراض الخاصة بي , أنني أتوق شوقا لقطعة من الجبن".
" وتفاح".
" وفطر".
" أعرف مطعما فرنسيا يقدم حساء البصل سنذهب اليه , آه كم أنا جائعة".
أذن ستكونين القائد لأنني لا أتذكر الطريق كثيرا , فقد كنت أذهب مع والدتي ".
أمضت جاكلين أسبوعا تؤمن الأوراق اللازمة , ذهبن كالساعي من البنك الى شركة التأمين , ثم الى مكتب الشهادات ثم الى سفارة توغو , ووزارة الداخلية , أنتظرت كثيرا هناك ثم أخبرت بأن تعود خلال يومين , وأخيرا تم كل شيء , وأصبحت جاكلين جاهزة للسفر , بدأ الليل ينجلي , وغادت جاكلين المنزل صباحا في الساعة الخامسة والنصف ,كان الفجر الرمادي يهيمن بهدوء على الأشجار والأبنية , وما لبثت الشمس أن أشرقت في اساعة السادسة , وبزع نهار جديد , لم تكن وحيدة على الطريق فهناك الكثير من المارة المسرعين , كان حراس الليل يتمشون بثيابهم الزرقاء والبيضاء الطويلة , يغدون الى منازلهم أو يروحون الى أعمالهم , كانت ليزا تنتظرها وسرعان ما خرجتا من المدينة بأتجاه الشرق , لم تكن الطرقات مزدحمة فتمتعتا بمنظر الريف الهادىء , والعديم اللون نظرا لأختفاء بريق الشمس , أحضرت ليزا معها ترموس قهوة حارة ومكثفة , وبعض البسكويت المغذي اللذيذ , مرت بالقرب منهما شاحنة ما لبثت أن تجاوزتهما وهي تهتز وترتجف ,كانت محملة بالمسافرين الذين تمسكوا بحرص بالمقاعد الخشبية الموجودة في مؤخرتها.
أنه لمن الجنون المطلق أن يقطع المرء هذه المسافة للذهاب الى المجمع الأستهلاكي , ألا أن كثيرا من المغتربين كانوا يتوقون الى شراء ما أعتادوا عليه في ديارهم , تذكرت ما قاله ماتيو عن دايانا , عادت الى الوطن أذ لم تستطع تحمل الحرارة والمشاحنات.
فهل يهم المرأة أذا أحبت رجلا توفر الأشياء الكمالية التي أعتادت عليها في وطنها؟ فالحب, والصداقة, والأهتمام الحقيقي تعويض لكل ما ينقص المرء , ولكن ما مدى العلاقة بين دايانا وماتيو ؟ قطعت ليزا أفكار جاكلين سائلة:
" تبدين جذابة للغاية .. ما الأمر؟".
" لا أبدا , كنت أفكر ... أخبريني يا ليزا هل تعرفين خطيبة ماتيو؟".
" تقصدين دايانا ... نعم كلنا نعرفها , كانت عارضة أزياء طويلة جدا شمطاء.... أو بالأحرى كتلة من شعر أحمر , مثيرة... عادت الى الوطن منذ أمد قصير ,أليس كذلك؟".
" نعم , لم تستطع العيش هنا , ولهذا يعتقد ماتيو أن هذا البلد لا يناسب المرأة , فهو يقاومني ويريد رجلا مكاني لهذا العمل".
" أفهم ما تقصدينه".
أرادت جاكلين أن تثق بأي شخص , وأن يكون لها صديقة , وهي تحب ليزا, ثم أردفت ليزا:
"ماتيو يشعر بالمرارة لأن دايانا رفضت البقاء معه , وهو ينتقم منك لأنك أمرأة , ولكن ما علاقتك أنت أذا لم تستطع التكيف مع الضغوط؟".
" شيء من هذا القبيل".
" أنه لمن السخف أن يظن أنك لا تستطيعين القيام بالعمل , أن هذا البلد يعج بالنساء العاملات الناجحات في السفارات وهيئة الأمم وحتما ستنجحين أنت أيضا".
" أعلم هذا ولكن ماتيو لا يقتنع بذلك , وكأنني عثرة في طريقه , أنه يخذلني معظم الوقت محاولا أن يهددني ويخيفني , فكيف يمكنني العمل مع هذا الشخص؟ آسفة يا ليزا عليّ ألا أقول شيئ , ويجب ألا أتحدث عن رئيسي , أنسي ما قلت".
" بالتأكيد , أنك بحاجة أن تفصحي عما في نفسك , كلنا بحاجة الى ذلك أحيانا لا تقلقي لن أتفوه بكلمة فأنا كالبئر العميق".
نمت بعض حشائش السافانا بين القرى ,بينما كانت النباتات الأخرى قليلة ويابسة لذا كان المنظر عاريا وفارغا , وكلما أقتربتا من الحدود ,كلما زاد الأخضرار حيث ظهرت أشجار جوز الهند , كما لاحت مياه المحيط المتلألئة من بعيد , وصلت جاكلين وليزا الى الفاو بعد الثامنة صباحا , كانت مدينة الحدود مفعمة بالنشاط والحيوية كأنها أحد الأسواق التجارية , وملأت الأكشاك بالبضائع التي يندر وجودها في بالقي المدينة.
وصلتا بناء الجمارك الواقع علىالطرف الأيمن من الشاطىء , فنزلت ليزا من أجل الجوازات والتصاريح وأوراق أخرى , بينما مكثت جاكلين ف السيارة تستمتع بمنظر مياه المحيط الأطلنطي التي تتلألأ تحت أشعة الشمس , والتي تتقاذفها الأمواج فوق الشاطىء الرملي , وتستنشق رائحة الماء المالح الممزوجة برائحة السمك.
تمنت جاكلين أن تعود ليزا بسرعة , فقد غدت السيارة عابقة , ودخل الذباب اليها بشكل لا يحتمل ,ولا تملك شيئا لتقضي عليه ,عرضت عليها فتاتان صغيرتان أن تشتري من سلالهن المليئة بالجزر والموز والأناناس , لا أنها تريد فقط شراء آداة لقتل الذباب , وعادت ليزا أخيرا , وأجتازت السيارة الحدود , فتوقفتا عند بناء جمارك , ذهبتا بعدئذ الى البنك لأحضار الفرنكان ت , وتركت جاكلين لائحة القطع مع التاجر لتأخذها منه فيما بعد , أرتها ليزا المجمع الأستهلاكي الجديد ذا الموقف الفخم الخاص بالسيارات .,نظرت جاكلين اليه بدهشة :
" لا أصدق عيني , هل أنا في أميركا؟".
كان المخزن مكيفا من الداخل بشكل مدهش , كم شعرتا بلذة كبيرة , وهما تتمشيان بين الأجنحة التي أمتلأت رفوفها بالبضائع المستوردة من فرنسا وغيرها , قالت ليزا:
" لا أحب عادة التجوال في الأسواق , ولكنني كلما أتيت الى هنا أشعر وكأننا في فترة عيد الميلاد".
وما أن حان وقا الغداء ,حتى كانت السيارة محملة قدر طاقتها بالجبن والفطر , وزيت القلي ,وحليب البودرة , والدجاج المثلج , والصابون , ومئات من لفافات ورق المحارم ,كانت الحرارة لا تطاق في السوق المغطى ... وأحتشد الناس يتدافعون حول الأكشاك ,جلست النساء خلف أكوام البصل , والبندور , يثرثرن ويضحكن , نظرت جاكلين الى مشترياتها , وعرفت ما يتحلى به الأفريقيون , من خيال وأبداع , غادرتا السوق بعد الساعة الواحدة ظهرا يتبعهما طفل يحمل الثلج , وطفلة تحمل على رأسها سلة مليئة بالخضار , كانت السيارة كالفرن , فوضعوا بسرعة المشتريات في السيارة ثم الثلج في البراد المخصص لحماية الأشياء , تناولتا طعام الغداء المكون من قطعة لحم مشوية وحساء البصل في مطعم صغير .
لفتحهما الحرارة عند خروجهما كغطاء صوفي ندي , كانت المقاعد ساخنة جدا , فأضطرتا أن تغطيها بقماش قبل الجلوس فوقها , وخلال دقائق تبللتا عرقا , أنتظرتا عشرين دقيقة حتى أنهى الفاتورة.


وصلتا أخيرا الى الحدود, بعد أن تجاوزت الساعة الثالثة عصرا , نظرت جاكلين الى العلب والأكياس وقالت بفزع:
" آمل أن يسمحوا لنا بالمرور عبر الحدود ومعنا هذه المشتريات".
" كوني هادئة وأخبريهم أن لديك الكثير من الأطفال , وأذا أطالوا المشاحنة أنفجري باكية , فهذه طريقة ناجحة , أياك أن تكوني وقحة".
كان يوما سعيدا فقد أجتازتا الحدود بلا متاعب, حتى أن حرس الحدود عبد نقاط التفتيش عبر الطريق العائد الى أكرا رحبوا بهما , وأفسحوا لهما الطريق دون تفتيش.
كان الظلام قد أرخى سدوله عندما دخلت جاكلين المنزل , بعد أن قادت ليزا الى منزلها , فتح ماتيو لها الباب حال وصولها وأردف:
" أنني مسرور أنك عدت , فالطرقات خطرة أذا حل الظلام , هل واجهت أية صعاب؟".
منتديات ليلاس
" لا كل شيء على ما يرام , هل كويسي هنا؟ لدي بعض الأغراض في السيارة".
علت وجهه مسحة من الدهشة وعدم اتصديق , وبسرعة حمل أول صندوق لينقله الى الداخل , ثم قال:
" أن كويسي ليس على ما يرام , لديه صداع شديد لهذا طلبت منه أن ينام في منزله".
حملت صندوقا آخر وتبعته الى المطبخ:
" يبدو أنك أشتريت ما يحلو لك".
" ليست لومة عاصمة , ولكن مخازنها مليئة بأشياء جديدة".
" نعم".
قطب جبينه وقال:
" أعلم هذا لكنني أرسلتك لشراء قطع تبديل , وآمل أن تكوني قد أحضرتها , فورق المحارم والفطر ليست هي الهدف".
شعرت بخيبة أملها تزحف بداخلها وقالت:
" قطع التبديل في السيارة".
ثم ذهبت لأحضارها , وسلمته الفاتورة واللائحة والوصل , فقال:
" سنتحقق منها الآن كيلا نقلق عليها".
حاولت أن تبدو هادئة , ولكنها أدارت ظهرها وعضت شفتيها , ساد صمت مطبق , وعندما نظرت اليه , رأته يتأملها بعينين سوداوين ونظرات مبهمة.
" آسف سنترك الأمر للغد , فأنت مرهقة , سأعد لك طعاما , أجلسي وسأحضر بقية الأغراض من السيارة".
" سآخذ دوشا لأنني لا أتحمل نفسي هكذا".
وعندما عادت الى المطبخ , كان ماتيو يحضر البيض وقال:
" ما هذه المأكولات يجب أن تخفيها كيلا أشاركك أياها".
" ولكن الأغراض لكلينا , ألسنا نستعمل مطبخا واحدا؟".
" أجل , كم سأدفع لك؟".
أعد لها عشاء فاخرا من البيض والجبن , وهيأ لها شرابا مثلجا ,كانت شديدة التعب , فنهض ماتيو وأمسك بيديها ليقودها لغرفتها .... رأت ضحكة في عينيه ,ولم تستطع مقاومتها.
" أنها نقطة ضعفي الوحيدة".
ضحك عاليا وهو يمسك بيديها , وسحبها اليه ناظرا في عينيها.
" أنه لمن الأجدر أن نتناول دائما عشاء فاخرا معا بدل من أن نتشاجر ".
وتابع بصوت منخفض:
" أنك لذيذة جدا هذه الأمسية".
أصبح وجهه قريبا منها , وألتقت عيناه بعينيها , لم تتحرك , لم تستطع أن تتحرك, وببطء أنحنى عليها وعانقها بدفء, وقفت بين ذراعيه بدون حراك , وسرى فيها دفء لم تألفه , ثم ألتصقت به أكثر وطوقت عنقه بذراعيها ,وبدا الأنسجام واضحا بينهما.
كان رأسها يدور ... داهمها شعور وتساؤلات ... أن هذا جنون , ماذا حدث لي... لماذا يفعل هذا؟ لم تستجب لأحد من قبل هكذا ,ويجب ألا تستجيب له أيضا ,حركت رأسها ودفنته في صدره ....غلبتها مشاعرها , وأحست بضعفها , وقفا هكذا ساكنين لمدة وبدأ يشدها بقوة اليه , ثم أخلى سبيلها وهو يبتسم , لم تنظر اليه خوفا من أن يدرك أضطرابها , ولكنه أجبرها أن تنظر في عينيه.
" يجب أن ننهي خصامنا على هذا النحو أليس كذلك؟".
حدقت به وكأن الكلمات خذلتها...
ضحكت وهي تحاول أن تستجمع حواسها , نظر في عينيها , وتمنى لها ليلة سعيدة , وعندما دخلت غرفتها أخذت تتساءل هل كان ماتيو يعانقها فعلا؟ ماتيو الرجل الذي ينفجر غاضبا في وجهها ويحتقرها , الرجل الذي يثير غيظها على الدوام , لقد عانقها فقط , فكرت في ذلك مضطربة , لكنها لم تكن طبيعية , لا تعلم السبب ولا تستطيع أن تشرح ما حدث.
فأحساسها أملى عليها ذلك ... لا تزال تشعر بذلك الدفء الغريب يسري في أعماقها , كفاك أحلاما ... أذهبي الى السرير ليصحو رأسك . أنه مسرور الليلة تمتعي بذلك قبل فوات الأوان , لم يدم ذلك طويلا , فقد أتى ماتيو الى مكتبها صباح اليوم التالي يرتجف غضبا , ورمى على مكتبها أوراقا , وحدق بها ونظرات الشرر تتطاير من عينيه.
" أنظري لعل هذا يفسر بعض الأشياء".




سفيرة الاحزان 09-05-10 04:10 PM



4- أتركي الأمر للأقدار
ألقت جاكلين نظرة على الأوراق , فوجدت أنها ملخص لسيرة أعمالها , وأوراق المقابلة التي جرت بينها وبين السيد كريستوفر في نيويورك , أستغرق وصول الأوراق الى أكرا أكثر من شهرين , نظرت جاكلين الى عيني ماتيو المحملقتين فيها وسألته:
" ماذا يوضح هذا؟".
" هذا يفسر تلاؤمك العجيب , وتأقلمك البسيط , وثقافتك الحضارية , ثلاث سنوات في غانا , وسنتان في تركيا , وأثنتان في سويسرا , أظن أن لغتك الفرنسية جيدة".
منتديات ليلاس
" على الأقل لست فتاة شقراء ساذجة".
" لماذا لم تخبريني بذلك؟ لماذا؟".
" لأنك لم تتح لي مجالا للكلام, كما قد تذكر كنت الذي يتكلم دوما".
" كان علي أن أخمن ذلك , لكنني لم أفعل , كنت مغفلا , أعتقد أنك مسرورة لهذا الأنتصار".
ثم خرج من الغرفة صافعا الباب وراءه , لم تشعر جاكلين بلذة أنتصارها , فقد كانت منكمشة على نفسها ,لأن الصدام بينهما يسيطر عليها , أنها تستطيع القيام بعملها , ولكنها هل تستطيع الأستمرار في هذا الجو المشحون يوميا بالأضطراب والتوتر الدائمين بينها وبين ماتيو؟
عملت جاكلين بجهد كبير طوال اليوم كيلا يسرح خاطرها , كان عليها أن توقّع وترسل أكوام التقارير المكدسة على مكتبها , أصبحت على علم بمختلف المشاريع , من التقارير التي قرأتها, والأحاديث التي دارت بينها وبين ماتيو , وزياراتها للمشاريع معه.
من الممتع حقا أن تعلم الحقائق المخفية خلف الأرقام , والأوراق التي تدونها يوميا.
عاد ماتيو الى مكتبها ظهرا يتصرف بأتزان رجال الأعمال وقال:
" نسيت أن أخبرك : لدينا ضيف شاب على الغداء من هل ستكونين جاهزة خلال عشر دقائق؟".
" أجل , قاربت على الأنتهاء".
" حسنا أخبريني متى أنتهيتي ".
وصلا المنزل , فوجدا الضيف في أنتظارهما .
" جاكلين هذا هو ديفيد غوردون وهذه جاكلين دونلي مساعدتي الأدارية".
لم تصدق جاكلين عينيها , هل هذا الرجل الأشقر الطويل هو ديفيد , المتطوع في رابطة السلام , النحيل الجائع الذي أعتاد أن تلتهم طعام والدتها كلما عاد من قريته مارا بأكرا , لقد كبر وغدا رجلا , ما زالت عيناه الزرقاوان تنظران اليها بدهشة وسرور واضحين:
" جاكي".
شدّها اليه معانقا بطريقة ودية ".
"ماذا تفعلين هنا؟".
" أعمل مع ماتيو... كم سررت برؤياك".
سألها وما زالت يداه على كتفيها:
" أين والديك ؟هنا؟".
" لا , في الولايات المتحدة ... أتيت الى هنا وحدي , لقد أصبحت كبيرة كما ترى".
كشر فمه ضاحكا وقال:
" نعم هذا ما ألمسه".
لمست جاكلين نظرات ضاحكة في عيني ماتيو وهو يراقبهما , فأحمرت خجلا , هل يسخر منها؟
قال ديفيد محاولا أن يشرك ماتيو في محادثتهما:
" كنت أمضي معظم الوقت مع عائلة جاكلين عندما كنت متطوعا , أنقذتني والدتها من الموت جوعا , كنت أعمل في منطقة الفولتا , وكلما سنحت لي الفرصة أتيت الى أكرا لدعم معنوياتي , وللتحصبن الطعامي ".
أجابه ماتيو:
" أظن أنك كنت بحاجة الى ذلك".
أحضر كويسي الطعام , فجلسوا الى المائدة , كانت جاكلين فرحة لأنها لم تتناول الغداء وحدها معه بعد وصول الأوراق , لم تتكلم كثيرا متيحة الفرصة للتحدث عن العمل.
كانت فرحتها بوصول ديفيد مضحكة للغاية , ولأنها أعتادت زياراته لهم وهي في السابعة عشر من عمرها , كانا يقومان معا بمباريات في معظم الألعاب , كم أنصتت له وهو يتحدث مع والدها عن أنتاج الذرة , والصيد , والوضع السياسي , كانت معجبة بقوته لتحمله الصعاب كمتطوع , وكلما حدثها عن الناس الذين يعيشون في القرية الفقيرة القذرة , كلما مس شغاف قلبها , أصطحبها عدة مرات الى أماكن ليلية راقية لسماع فرقة موسيقية شهيرة , تحت قبة السماء , وظلال أشجار جوز الهند , لم يستغل أبدا مشاعرها نحوه , وكم تساءلت أن كان يشعر أنها بدأت تحبه , لم تكن عاطفتها أتجاهه صادقة , وما أن عادت الى الولايات المتحدة , وأنغمرت في حياتها الجامعية , حتى نسيته تماما وبسرعة , دارت عجلة الزمن , ست سنوات مضت , وها هو ديفيد يعود الآن أكثر جاذبية متخليا عن نظرات الجائعين , لكن قميصه المطبع على الطريقة الأفريقية , أكد لها أن ذوقه لم يتغير , من المؤكد أنه لا يرتدي هذه الثياب للعمل , لكنه قد يفعل تطبيقا لمبدئه : الخروج عن المألوف أحسن شيء في هذه الحياة.
قرب ماتيو صحن الطعام الى جاكلين , فتلاقت نظراتهما عبر المائدة وقال:
" أتساءل فيم تحلمين؟".
أحست جاكلين بتوهج وجهها , وبدا أرتباكها واضحا أذ حدّق ماتيو في وجهها بحقد , ثم دفع كرسيه الى الخلف , ونهض ليتولى أمر القهوة , ولما توارى عن الأنظار قال ديفيد:
" أشعر بوجود توتر سيء بينكما , أنا لا أتطفل يا جاكلين ولكنني أريد أن أعرف".
" أذن أسألني...".
" هل أنت مرتبطة أم حرة... هل ترغبين بالخروج معي مساء غد؟".
ذهبا معا الى مطعم بالم كورت , مطعم صيني جديد , وجميل يقع على الشاطىء ,لم تتذوق طعاما أشهى منه , ولمن المدهش حقا أن تكون في قلب أفريقيا , وتجلس في مكان على الطراز الصيني , وتأكل طعاما شرقيا شهيا.
تألق ديفيد لهذه الأمسية , فأرتدى سترة مبطنة , وقميصا مفتوح القبة كالسترة , وكما يلبس ماتيو عادة , ضحكت جاكلين في وجه ديفيد معربة عن سرورها وأمتنانها , بينما حدق فيها بعينين ضاحكتين وقال:
" لا زلت كما عهدتك".
" نعم فتاة في الثامنة عشر من عمرها , خريجة جديدة".
" وما المانع في أن تظهري كفتاة مدللة؟".
" عندئذ لن يستخدمني أحد لهذا النوع من العمل , ومع أنني جدية كثيرا كما تر , لم يصدقني أحد".
" ولكنك حصلت على عمل جيد في هذه الشركة , فهي ذائعة الصيت".
"هل تعلم أنني لاقيت صعوبات جمة حتى حصلت على هذا العمل؟ لقد خذلت عدة مرات , وأؤكد لك أن هذا ليس لنقص في مؤهلاتي ... لا صدقني... ولكن لظنهم أنني شقراء غبية ,ولم تساعدني مؤهلاتي على محو ذلك الأنطباع".
" أنه عبء كبير أن تكوني شقراء جميلة".
" كفى يا ديفيد ... حتى أنت لا تعاملني بطريقة جدية ... أن هذه هي مشكلتي".
" آسف لأزعاجك ... أخبريني عن والديك وما يفعلان؟".
يا له من موضوع سهل للمناقشة , فكرت جاكلين وهي تصب الشاي.
" أنهما في الوطن الآن , أشتريا بيتا في مين وسيمضيان فيه قرابة عامين فوالدي يؤلف كتابا عن التطور , ومتى أنتهى منه , سيذهبان ثانية عبر البحار".
" وما الذي جعلك تأتين الى غانا؟".
" كنت دائما أرغب بالعودة الى غانا لأعمل ... أنني أحب هذه البلاد".
شعرت جاكلين بالأضطراب لأنه لم يكن من السهل عليها أن تتكلم عن مشاعرها , فقد أساء فهمها كثير من الناس , وظنها بعضهم أنها فتاة مثالية خيالية.
" حسنا... تعلم أنني عشت حياة رغيدة , حصلت فيها على كل ما أريد بل أكثر , ولكنني كنت أشعر بعدم الرضى عن هذا , كنت أحاسب نفسي, لهذا لم أتمتع بكل ما قدم لي , بينما يعاني الكثيرون بطريقة أو بأخرى , لهذا أردت أن أعمل شيئا".
" أدرك ذلك , أذن أتيت الى أفريقيا لتريحي ضميرك, وتخدمي الفقراء , بدلا من أن ترسلي بضع دولارات الى جمعية العميان ".
" كيف تجرؤ يا ديفيد على قول هذا؟".
" أذا هذا ليس قصدك؟".
" ظننتك تعرفني تماما".
" لا... كنت صغيرة في السادسة عشر من عمرك عندما كنت ألقاك, لطيفة , مرحة ,وحادة".
لم تقل جاكلين شيئا , أذأ هو على حق, فقد تغيرت أفكارها خلال تلك السنوات الست التي لم تعد تجتمع به.


أردف ديفيد:
" أنظري الي يا جاكي".
نظرت الى عينيه الزرقاوين الصافيتين فقال:
" أردت أن أعرف الدوافع التي قادتك الى هنا , ولكنني أخطأت بطرح الموضوع , وأريد منك ألا ترتكبي الخطأ نفسه الذي أرتكبت , لا تكوني متطوعة".
بدا ديفيد حزينا , تذكرت جاكلين حماسه عندما كان يكافح لوضع المشاريع للقرية , وما أصابه من خيبة أمل , وغضب فعلقت قائلة:
" لقد تحررت من الوهم".
" لقد عانيت خلال مدة عامين عندما عدت الى الولايات المتحدة , حتى تمالكت نفسي من جديد ".
" وأراك أمامي الآن".
" ولكنني تعلمت درسا لن أنساه , أنظر الى الأمور بموضوعية , وبهدوء على الدوام دون أي نظرة عاطفية".
" تبدو ساخرا الآن , لا بد أن هناك حلا وسطا".
" أريد أن أكون عمليا وعاقلا , وأريد أن تكوني كذلك".
" أن عملي لا يستوجب أي تورط عاطفي".
" أنه غاية في الجد ... تعالي نتمشى على الشاطىء ".
خلعا أحذيتهما , ومشيا على الشاطىء حفاة على الرمل القاسي الرطب , تطايرت تنورة جاكلين الطويلة حول كواحلها , فشعرت بحريتها وسعادتها دون مراقبة ما.
هتفت جاكلين في أعماقها:
" أنني دائما مراقبة , أفكر بماتيو وماذا سيظن , وماذا سيقول , وكيف سيتصرف... لا ...".
لا تريد أن تفكر به الآن.
لم تسمع ألا أصوات الأمواج المزمجرة , الزاحفة نحو الشاطىء , المتلاشية عند أقدامها , كان زبد البحر يتلألأ بشكل رائع تحت أشعة القمر , شعرت جاكلين بضآلتها أمام خضم مياه المحيط ,والنجوم المتلألئة في قبة السماء.
تابعا مسيرهما متشابكي الأيدي , يتمتعان بهذا الجو الساحر وفجأة رمى ديفيد حذاءه على الرمال ,ووقف يحدق في وجهها , توقفت هادئة , ونظرت في عينيه فقال:
" أنني شاعري للغاية".
شدها نحوه فأقتربت منه بدورها.
وبعد منتصف الليل , قادها الى منزلها فقالت:
" أشكرك يا ديفيد , كانت سهرة رائعة".
" ولي أيضا ".
ثم مال نحوها وقال:
" سنسهر معا قريبا ,ولكن لا تنسي ثياب السباحة".
أستلقت على سريرها تفكر بديفيد وبنزهتهما على الشاطىء , ماذا قال بعد أن عانقها( أن هذا لذيذ) نعم كان ذلك لطيفا , ولكن... لا يكفي , هناك شيء مفقود , أنها الشرارة الكهربائية , أدارت نفسها وهي تقرب الغطاء منها , هل ترغب في شيء خيالي , شيء لا يوجد ألا في القصص العاطفية , أنها على يقين من ذلك , على الرغم من أنها عاشت تلك اللحظات , ومنذ أمد قريب عندما عانقها ماتيو عقب عودتها ذاك المساء متمنيا لها ليلة سعيدة , فسرت شرارة كهربائية في أوصالها , ومع أنه لم يكن من الأشخاص المفضلين لديها.
أنها تريد أن تحب شخصا بجنون , أنسانا يفقدها أتزانها , ويحرك سكونها من الأعماق , ويسارع من نبضات قلبها.
تنهدت وهي تنظر الى السقف... لا يوجد هذا النوع من الرجال ,ولا يوجد في الحقيقة هذا الحب الذي يتضمن كل ما تطلبه , والذي يرضي أحلام الفتيات , همست لنفسها وهي تشعر بالحزن والخسارة :
" لا زلت طفلة يا جاكي".
ثم ما لبث الكرى أن داعب عينيها.
لم تفتقر جاكلين لصديق , فمن السل جدا لفتاة تعيش وحيدة , أن يحوم حولها شبان كثيرون , متحمسون في مدينة كأكرا يدعونها الى العشاء والمراقص ,ولكنها فضلت أن تمضي معظم أوقات فراغها بصحبة ديفيد حيث أستمتعا بالسباحة والرقص , ومشاهدة الأفلام , لم يدعا فيلما من الأفلام المعروضة في المدينة ألا وشاهداه , كانت جاكلين تستمتع بأوقاتها مع ديفيد , ولكنها في كل مرة تكتشف التغيير الذي طرأ على شخصيته , لقد أختفى حماسه الذي كان جزءا منه ,ويؤلمها أن يتكلم بسخرية وتشاؤم عن المشاريع التي يعمل بها عندما يسأل عنها , لم توافق على هذا ولكنها لا تستطيع أن تغير هذه السلبية , كانت جاكلين تقبل دعوة غيره من الشبان بين أونة وأخرى , ولكنها سرعان ما تتعرض لبعض المضايقات التي لا ترضى عنها , وفي أحدى الليالي تعرضت لأزعاج كبير , فأضطرت أن تحد من تصرفات شخص خرجت معه , وما أن وصلت الى المنزل حتى كادت تنفجر.


ألتقت بماتيو مصادفة , وهي في طريقها الى المطبخ لتأخذ كأسا من الماء البارد وما زالت في أوج غضبها , جذبها من يدها فأنفجرت مزمجرة:
" لماذا هذا الأنفعال , هل أنت مجنون؟".
" نعم , بالتأكيد".
" ماذا فعلت لك الآن".
منتديات ليلاس
أجابها والدهشة تملأ عينيه , وهو ينظر بأحتقار اليها:
" لا شيء هذه المرة , أنني مجنون من الشخص الذي خرجت معه , أتى الى المكتب لزيارتك الأسبوع الماضي".
أخذت زجاجة الماء من الثلاجة ,وصبت لنفسها كأسا , عبس ماتيو وهو يقول:
" هذا الفتى الذي لا يستطيع كبح جماح نفسه".
" أنا لا أعلم شيئا بهذا الخصوص ,ولكنني أعلم أن أفكاره عن المرأة الغربية غريبة جدا".
" ألم تسهلي له المهمة؟".
تابع كلامه , وهو ينظر اليها بأزدراء من رأسها الى أخمص قدميها ببطء وتكاسل , فعضت جاكلين على أسنانها غاضبة:
" هل لي أن أسألك ما قصدك؟".
أجابها:
" أنظري الى هذا الثوب الذي ترتدين".
نظرت الى ثوبها البنفسجي ,والأزرق الطويل المنسدل الى الأرض ,كان ثوبا جميلا ملائما لها , ولكنها لم تدرك على الأطلاق ما قصده ماتيو :
" وماذا عن ثوبي؟".
" أنك لا تتركين شيئا للتخيل . أليس كذلك؟".
" أننني مغطاة من رأسي الى أخمص قدمي كما ترى".
" لا فرق في هذا".
" وما عليّ أن أفعل أذن؟ هل ألف خيمة حولي , وأدّعي أنني أزن مئتي رطل؟".
" تعالي الآن ".
أخذ كأس الماء من يدها .
" لا تغضبي مني ,أنني وثق كل الثقة أنك تتمكنين من المشاجرة ,ولكنني أرى أنه يكفيك التشاجر مع شخص واحد في الليلة الواحدة ".
وضع كأس الماء في الحوض وتابع كلامه:
" من الأفضل لمن له حياة أجتماعية مثلك , أن يحتفظ بقوته".
غلى الغضب في عروقها , وهي تنظر الى وجهه الساخر , ومنكبيه العريضين , فرأت في عينيه أنه يتوقعها أن تثور في وجهه , حسنا لن تفعل , لا تدري من أين جاءتها القوة وطول البال , حتى سيطرت على أعصابها , وأبتسمت في وجهه قائلة:
" أنك محق يا ماتيو , ليلة سعيدة ".
ثم خرجت من المطبخ دون أن تنظر اليه.
" أتمنى لو أستأجر شقة في مكان آخر".
همهمت وهي تخلع حذاءها , تستطيع على الأقل أن تعود ليلا الى مطبخها , فتأكل ما شاءت بدون أن تلتقي به , أنها برفقته طوال النهار , ولكن من المؤكد أنها لن تعثر على سكن , وتحب ضمنا هذا المكان : أنه صغير , ومريح , وأنيق بستائره البراقة ,ووسائده والأضواء التي أحضرتها من وطنها , أعطتها ليزا سجادة صغيرة ليست بحاجة لها , فبدت جميلة على الأرض الخشبية , أحبت المفروشات البسيطة التي صنعها لها أحد النجارين في طرف الشارع.
خلعت ملابسها وهي تتنهد, لم تمض سوى عدة أشهر , حتى أصبحت مرتبطة عاطفيا بمنزلها , كم تشعر بمتعة عندما تجلس على الشرفة تقرأ أو تكتب , أو تراقب التماسيح الصغيرة وهي تسابق بعضها بعضا , أو تراقب البستاني وهو يشذب الحديقة بعد عودته من قريته , كان فخورا بعمله , وكثيرا ما كان يحضر أبنته معه , كي تلعب مع أبنة كويسي , كم تستمتع بمراقبتهما ,وهما تطاردان دجاجات كويسي , فتضحكان وتصرخان.
وقفت جاكلين تحت الدش تفكر , لماذا لا تترك العمل... وتخبر جينكنز أنها أحبت العمل , ولكنها لا تحتمل الرئيس , سيسر ماتيو جدا بهذا , أنها واثقة من ذلك , خرجت من الحمام ونشفت جسمها , لم تكن العودة الى الوطن حلا جذريا لهذه المشكلة , لأنها لا ترغب في ترك عملها , أنها تحب غانا وتحب عملها , ولكنها لا تتحمل ماتيو سيمونز .
أنهمكت جاكلين كثيرا في عملها ,حتى أنها لم تنتبه لدخول ماتيو الى المكتب , نظرت اليه مندهشة عندما رأته يقف أمامها قائلا:
" يجب أن نذهب الآن لنصل الحفل في الساعة السادسة".
" وأي حفل هذا؟".
لم تسمع عن الحفل , ولا تريد الذهاب اليه ...
" لم أسمع شيئا عن هذا الحفل ولا أريد الذهاب , لم أتلق دعوة".
" لا داعي... ستذهبين في كل حال... هلمي".
أنه يريد أن يملي عليها تصرفاتها حتى في أوقات فراغها ,ألا يكفي أنها تعمل معه معظم نهارها , وتشاركه المنزل نفسه , وتأكل معه وجبات الطعام , لترافقه أيضا الى الأماكن الأجتماعية , أنفجرت شرارة التمرد في داخلها:
" لن أذهب".
" لن تذهبي! هل لي أن أعرف السبب؟".
" لقد أخبرتك , لم أتلق دعوة , وأشعر بأنني سأصاب بصداع شديد هذه الليلة , أنه ألم الشقيقة".
أقترب منها أكثر , وأنصبت عيناه في عينيها وقال:
" ستذهبين , لن أستطيع أن أقنعك بشكل أفضل يا صغيرتي , يجب أن تذهبي لأن الحفل يتعلق بالعمل".
داهمها شعور مفاجىء من اللامبالاة وقالت:
"هل أذهب لأرضائك؟ وهل ستطردني من العمل أن لم أحقق رغبتك هذه؟".
نصب قامته , ووضع يديه في جيوبه , حملق لمدة طويلة بها وقال ببطء:
" ليس في نيتي ذلك".
" مفاجأة , ألا تريد فصلي من العمل , كنت أعتقد أنك تتوق لذلك".
" ليس من عادتي أن أفصل الموظفين الذين يقومون بواجبهم على أكمل وجه".
لم يكن يجاملها , بل خبرها الحقيقة الواضحة , فهي واثقة من قدرتها على العمل , لم تستطع أن تتجاهل سؤالا راود مخيلتها فقالت:
" حتى ولو كان الموظف أمرأة".
كان وجهه قاسيا وصلبا ,ولكنها لم تتجنب نظراته.
تريدين تذكيري بما مضى , أليس كذلك؟ أذن دعيني أخبرك يا صغيرتي أنني أهتم بالعقل والكفاءة , والقدرة على التحمل , وليس الشكل , لن أهتم ولو كنت ديناصور ( حيوان ضخم من الزواحف المنقرضة) أن كل ما يهمني هو تنفيذ عملي بأتقان.
أضحكها أنفعاله هذا ,ولكنها خشيت من ذلك, فأجابته متهكمة:
" كم تلهفت لسماع علائم أطرائك لي , فهو يجعلني ناعمة كالزبدة ".
ألتقت عيونهما للحظة ,ولم يتفوها بكلمة , ثم مشى ماتيو نحو الباب وقال:
" أنني ذاهب الى المنزل الآن , آمل أن تكوني جاهزة الساعة السادسة ألا عشر دقائق"
. قرع ماتيو باب غرفتها , وكانت غير مستعدة بعد , قالت لنفسها , لينتظر , متجاهلة قرع الباب , ليس عليها الا أن تضع أقراطها , وترتدي ثوببها الطويل , وتنتعل حذاءها , وبعد لحظة فتح الباب أكثر , ورأت ماتيو يقف أمامها أنيقا , نظر

اليها وكأنه يقيمها:
" حسنا , لن تنتهي أمرأة في الموعد المحدد , أليس هذا صحيحا؟".
لم تستطع أن تبقى هادئة , وهي تتلقى نظراته المتفحصة , لكنها لم تطلب منه أن يغادر الغرفة كيلا يضحك منها , فهي لا تريد أن ترضيه , حاولت أن تضع أحد أقراطها وهي تتجاهله , ومن شدة أرتباكها سقط برغي القرط في المغسلة , فأسرعت بألتقاطه , وحاولت أن تعيده الى أذنها ولكن عبثا , فسألها:
" هل أزعجك".
"لا".
ضحك عاليا لأن صوتها دل على أنزعاجها , كتف يديه , وأسند ظهره الى الباب وقال:
" لو كنت تؤمنين بالفضيلة , لما سمحت لرجل أن يدخل , الى غرفتك".
": في الحقيقة أنني مستمتعة بهذا".
بدل وقفته ولكنه لم يذهب خارج الغرفة , أرتعشت أصابعها كثيرا , وأحمرت أذنها ,ولم تستطع أدخال القرط في أذنيها , فقال لها ماتيو:
" دعيني أساعدك".
ووضع يده على كتفها , فهربت منه قائلة:
" أخرج من هنا".
" ليس الآن , تبدين أكثر جاذبية , وأنت هكذا ".
أمسك بكتفيها :
" أنك ترتجفين , لا تقلقي ليس في نيتي أرتكاب جريمة...".
جذبها اليه كانت تريد أن تقاومه , ولكنها لم تستطع , فقد كان أقوى منها , كان عناقه قويا , أحست بيديه القويتين الدافئتين على ظهرها , أستكانت بين ذراعيه وعانقته بدورها.
"لا , يجب ألا أستسلم له كلما شاء أن يلمسني .... يجب أن أقاومه ....".
كان هذا يدور في عقلها وهي ما زالت بين ذراعيه.
داعبت يداه ظهرها , ثم تخللت أصابعه في شعرها , حتى أنسدل على كتفيها , قبل عينيها المغلقتين , فأختلج قلبها كطائر , لم تعد تفكر في شيء , كانت قدماها ترتعشان عندما تركها , فأبتسم في وجهها بضحكة عريضة وقال:
" أرى أننا نستطيع الأنسجام بلا عصير وعشاء فاخر , ما رأيك؟".
" أتركني وحدي , أخرج من هنا".
" حاضر يا سيدتي".
رأته بالمرآة كان يعض شفته , والأبتسامة تلوح في عينيه , خرج وأخرج الباب وراءه.
جلست جاكلين على حافة السرير ترتجف , لماذا فعل هذا؟ هل لاحظ تأثيره فيها؟ هل فعل هذا ليشعرها أنه رئيسها مهما كانت الظروف والأماكن؟ وقفت وحاولت أن تعيد تصفيف شعرها بيديها المرتجفتين , ثبتت الأقراط في أذنيها , ثم ذهبت لتكمل زينتها , نظرت الى نفسها في المرآة راضية.
لم يتفوه أحدهما بكلمة حتى وصلا الى منزل جورجينسونز كان الحفل في الحديقة التي أنيرت بالكهرباء , تحت قبة السماء , وظلال أشجار المانغا والنخيل , ألتف الناس في حلقات يتسامرون , عرّفها ماتيو على الجميع , ولكنها حاولت جاهدة أن تحفظ أسماء الدبلوماسيين , ورجال الأعمال من أهل غانا وأميركا , ثم تركها لشأنها , فسرت كثيرا وهي تتحدث الى السيد فوردور من رجال أعمال غانا , زار السيد فوردور أوروبا والشرق الأوسط , وقص عليها الكثير من مغامراته الشيقة التي تراكمت بسبب أسفاره, وعندما أنتقلت الى جهة أخرى , قابلت أناسا ممتعين , كانت ترى ماتيو بين الفينة والأخرى , وهو يتكلم مع أصدقائه , واضعا يده في جيبه , ويمسك بالأخرى كأسا من الشراب , كان يبدو جديا معظم الوقت , لم يأت للتسلية , بل لينتهز الفرصة كي يناقش أمور العمل ,تمنت جاكلين ألا تعيره أهتماما , فقد كانت تراقب كل حركاته , أين كان , ومع من تكلم , ها قد تحرك من مكانه , وكيف تحرك , وعندما وجدته وحيدا للحظة , أخذت تحدق به , وفجأة كأنه شعر بنظراتها فنظر اليها , ألتقت عيناهما فضحك لها , وبالطبع أشاحت بوجهها عنه لتتجاهله , ولم تبادله الأبتسامة , وبعد لحظة سمعته يهمس قربها:
" ما زلت حانقة علي؟".
أذن لقد لاحظ أنها تجاهلته , هل يريدها أن تتغاضى عن تصرفاته كأن شيئا لم يكن , أجل أنها حانقة , وستبقى كذلك ,نظرت اليه ببرود صقيعي , فقال لها:
" لم أدخل غرفتك لهدف ما , أنت التي طلبت أن أفعل".
" أنا , أنا طلبت منك ذلك وأنت بالذات؟".
" لم تقولي ذلك ولكن كان مظهرك مثيرا , وكان عليك أن تدركي ذلك جيدا".
أطبقت أسنانها بحدة وغضب:
" كنت في غرفتي الخاصة ولم أطلب منك الدخول ".
" ولكنك لم تعترضي على دخولي ألا عندما أقتربت منك".
لم يكن لديها ما تقول , فضحك من غضبها الساطع , أمسك بذراعها وقال:
" تعالي نأخذ كأسا من العصير لعله يزيل حدة توترك , ثم تنهد قائلا :
"لماذا تصنعين من الحبة قبة يا جاكي , أين أختفت روحك المرحة؟ تتصرفين وكأنني أذيتك , وكما أذكر لم تحاولي مقاومتي".
لان وجهها قليلا وقالت:
" لست على حق في أن تدخل الى غرفتي هكذا".
نظر اليها بهدوء دون أن تستطيع قراءة عينيه وقال:
" حسنا , أنني أعتذر".
حملقت به مندهشة ,لم تفهم شيئا من وجهه , ولم تسعفها الكلمات فأردف:
"حسنا , هل تريدين عصيرا الآن؟".
" نعم من فضلك عصير الليمون".
غاب ماتيو وسط الجموع , لم تصدق أذنيها , هل حقا أعتذر منها , لا , لا تصدق... أن ماتيو لا يعتذر مهما كانت الظروف , دوى صدى كلماته في مسمعها , فشعرت أن الموضوع قد أنتهى طالما أنه أعرب عن أعتذاره , وبعد أن فكرت بأعتذاره , أدركت أنه نوع مختلف من الرجال , ومع أنه أعتذر , لكنه المنتصر دوما.


عاد ماتيو بالعصير , ثم تكلما مع بعض الناس , وبعد ذلك تركها وشأنها , وذهب ليتكلم مع شخص آخر ,وخلال تجوالها ألتقت جاكلين بدافيد وجها لوجه , وضع يده على كتفها مرحبا:
" لم أكن أعرف أنك موجودة".
" لا لم يكن متوقعا أن آتي , أتيت بأمر من رئيسي ".
" لا تدعي السفير يسمع ذلك , فقد ينفيك من هنا , دعينب أعرفك على بعض الأشخاص".
صافحت جاكلين الكثيرين ومن بينهم أستاذ جامعة من هولندا وجراح من غانا , وصاحب مكتبة من لندن , عاد ماتيو ليصطحبها في عودتهما للمنزل وفي السيارة قال لها:
" لقد أستمتعت بهذه الأمسية , أليس كذلك؟".
" أجل , أنني لا أحب تذمر السيدات من الخدم , وعدم توفر جميع أنواع الأطعمة ألخ... فمن لا تتكيف مع العيش هنا , عليها أن تعود الى بلادها".
أجابها بجمود:
" هذا صحيح".
شعرت جاكلين أنها أساءت اليه , فقد يظن أنها تقصد دايانا التي عادت الى وطنها لأنها لم تحب غانا , أن تعليقها غير لائق وهي تأسف لذلك .
" آسفة , لم أقصد أن أقوّم تصرفات الآخرين".
أبتسم بفتور وقال:
" لا بأس , أنك على حق كما تعلمين".
قاد السيارة ببطء عند المنعطف ,ثم نظر اليها وقال:
" هل تتذكرين الرجل ذا الثوب الأزرق الطويل السيد مينيلا؟ ".
تذكرت الثوب , فقد كان مطرزا مما يشير الى أن صاحبه من شمال المدينة.
" أجل تقصد الشاب الذي عاد من كانساس يحمل شهادة دكتوراة في العلوم الزراعية".
" نعم , أنه هو , أخبرني أنه أبن أحد الأعيان ي الشمال ".
داس ماتيو الفرملة كيلا يصطدم بسيارة أجرة ظهرت فجأة ثم تابع:
" لقد زارني في مكتبي منذ عدة أسابيع ولم تكوني موجودة حينئذ , أخبرني أنه يهتم بمشروع يتعلق بفول الصويا في قرية والده , وبناء على معطياته , أرى أن ندرس المشروع , يريد مني أن أذهب الى القرية وأقنع أباه والأعيان في القرية بآرائه , وقد كرر الدعوة هذا المساء , قررت أن ألقي نظرة هناك ., أعتقد أن الشاب متحمس للمشروع , أحساسي أنه سيقوم بعمل جيد".
فسألته جاكلين:
" وهل ستقطع كل تلك المسافة لتلقي نظرة؟".
" نستطيع أن نقوم ببعض الأعمال في طريق العودة ".
أستقرت نظراته عليها وسألها:
" ما رأيك لو نذهب معا؟".
" لماذا؟".
" يستطيع ستيفن أن يتكفل بأمور الماعز في الأسابيع القليلة المقبلة , أعتقد أنه بأمكانك مساعدتي هناك , ستدونين ملاحظاتك , وتكتبين تقريرا عما سنجده هناك , وأذا كانت جديرة بالأهتمام ... ستعدين بحثا دقيقا عن معظم الحقائق والأرقام".
جلست هادئة تفكر بهذا الأقتراح , بدا الأمر ممتعا للغاية , وهذا يعني أنها ستهتم أكثر بالأعمال الفعلية التابعة للشركة وهذا ما ترغب به , ولكن ما خلفيات هذا الأهتمام ؟ هل أكتشف ماتيو أن لديها أمكانات يريد أستغلالها ؟ أنه صادق وأيجابي في تقدير عملها.
" يسرني أن أذهب أن كان بوسعي مساعدتك".
دخل شارع منزلهم , فهرع علي عائدا من زيارة صديقه , ليفتح لهما البوابة.
" لن يكون الأمر سهلا".
أجاب ماتيو وهو يفتح لها الباب لتدخل , لا بد من بقاء السيارة معنا في القرية , لهذا لن نذهب بالطائرة الى تامال , سنغادر في آخر الشهر ونصل الى هناك خلال يوم واحد".
منتديات ليلاس
" سنصل لتامال في يوم واحد؟".
" ألا تستطيعين ذلك؟".
فهمت ما يعنيه من هذا السؤال فقالت:
" أنا طبعا أستطيع , ولكن هل تساعدنا السيارة في هذا , أنني أفكر بمشكلة السيارة".


فتح لها الباب الخاص بها وقال ضاحكا:
" أتركي أمر السيارة للأقدار".

سفيرة الاحزان 09-05-10 04:13 PM




5- هدنة جميلة
بعد أن تناول ماتيو وجاكلين طعام الأفطار الذي أعده لهما كويسي ذو العينين المثقلتين بالنوم, أنطلقا بأتجاه الشمال الساعة الخامسة صباحا, وما زال الليل مخيما والجو باردا.
كان كل شيء هادىء من حولهما , ولم تكن حركة المرور قد بدأت تنشط بعد , سألها:
" هل زرت شمال غانا قبل الآن؟".
" أجل زرته عدة مرات مع والدي , ومع صديقة لي هولندية , أتى والداها وهما طبيبان في بعثة طبية الى أفريقيا , ركبنا سيارة شحن , وتابعنا بقية الرحلة متطفلتين , نوقف السيارات لنركب مجانا".
" أجل أن البلاد هنا آمنة أكثر من الولايات المتحدة".
" لن أحلم بالتنقل هكذا في أميركا".
" بالتأكيد لأن المجتمع الأفريقي متفوق في تهذيبه".
" أن هذا أحد الأسباب التي دفعتني الى العودة الى غانا".
ألتفت اليها , ثم نظر أمامه قائلا:
" أنك تحبين هذه البلاد أليس كذلك؟".
" نعم خاصة الشعب , فالناس هنا طيبون ومرحون , أن الأفريقين فخورون كثيرا بأنفسهم ومحترمون".
مرت بهما شاحنة كتب على مؤخرتها: لا تستطيع أن تغير شيئا من مصيرك.
ضحكت جاكلين وقالت:
" وهم فلاسفة أيضا , أنظر الى تلك الشاحنة".
أضفت الشمس البراقة حلة رائعة على الكون ,ما لبثت أن تحولت الى وهج متلألىء , كانت الطريق الى كوماسي مكتظة بالسيارات , ومع هذا فالسائقون يقودون سيارتهم بسرعة جنونية ويحدثون ضوضاء مروعة , كانت التلال مغطاة بغابة خضراء , سرّت جاكلين بهذه المنظر الجميلة ,وتأملت القرى التي مرا بها ,تناثرت أبنية صغيرة الى جانب الأكواخ التقليدية التي صنعت سقوفها من سعف النخيل.
وتحت ظلال أشجار المانغا , جلست النساء على مقاعد طويلة تحضرن الطعام , أو تطعمن صغارهن.
تناولا غداءهما في مطعم كوماسي , وغادراه بسرعة كبيرة كيلا يفوتهما وقت أنطلاق المركب ياجي عبر بحيرة الفولتا.
كانت مدينة البحيرة تعم بالنشاط حتى منتصف النهار , وتحت أشعة الشمس المحرقة , كان المركب في منتصف البحيرة ولن تستغرق عودته أكثر من ساعة , وتحت أشعة الشمس وقفت السيارات الخاصة أولا , ثم عدد كبير من السيارات والشاحنات , تمدد بعض سائقي الشاحنات تحت ناقلاتهم , أتقاء للحر الشديد بعد أن طال أنتظارهم لعدة أيام.
منتديات ليلاس
ظهرت بعض النعاج هنا وهناك , تحوم بينهم علها تجد مأوى من أشعة الشمس المحرقة.
تقدم ماتيو بسيارته متجاوزا سيارات الشحن , متفاديا الأطفال والكائنات الحية الأخرى , التي كانت تتمشى بين السيارات دون وعي أو أدراك.
تمشى ماتيو وجاكلين حتى وصلا الى طرف البحيرة , فشاهدا المركب يتهادى ببطء فوق المياه , أنتشرت قوارب الصيادين المطلية بألوان براقة على الشاطىء تنتظر أن تبدأ رحلة جديدة.
مرت بجانبهما فتاة صغيرة تحمل قرط موز على رأسها , توقفت تحملق بها بعينين متسعتين ,وعلى وجهها نظرة باردة لا حياة فيها , ألتف حولهما أولاد آخرون , ينظرون أليهما بصمت , أو يشيرون بأصابعهم وهم يقهقهون , ضحك ماتيو وقال:
" أنهم يحدقون بك , وأراهن بأنهم لم يروا فتاة ذات شعر أشقر هكذا ".
غمز الأولاد بعينه , فأنفجروا بالضحك عاليا , وكأن غمزة العين مضحكة للغااية , أخذ ماتيو يغمز الأطفال أينما وجدهم , فسألته جاكلين:
" هل يغمزك أحد بدوره؟".
" أبدا , أنهم يحملقون , أو يضحكون أو يصيحون".
" سيظنون أنك ساحر , تقوم بأشياء مجنونة بواسطة عينيك".
" وهذه غايتي".
" وهل تريد أن تعطي الناس أنطباعا خاطئا عنك؟".
أجابها وفي عينيه أبتسامة:
" وهل هذا ما أفعله؟ هل أخذت أنطباعا خاطئا؟ لست شابا سيئا كما ظننت في البداية , مغاليا في تحيزه , شرسا ,وذا كبرياء متعال , وغير متزن وذا أخلاق سيئة ألخ... ألخ".
" لم أقرر بعد".
بدا على وجهه أضطراب ساخر:
" ربما لم أقنعك بعد بهذا , أنني رائع فعلا , ولكن لم تتح لي الفرصة الكاملة لأثبات ذلك".
" أحب أن تثبت ما تقول".
وما أن نطقت ذلك , وأدركت المعنى المزدوج لجملتها , حتى شعرت بالخجل يضرج وجنتيها , فنظر ماتيو اليها وضحك من أعماقه مما زادها أحمرارا. تلعثمت وقالت:
" لم أقصد...".
أجابها وهو ما زال يضحك:
" نعم فهمت خلفيات هذه الجملة التي لم تعنيها , لسانك يزل أحيانا وهذا خطر كثيرا".
الحمد لله... ها قد تى المركب وعليهما أن يعودا الى السيارة , أتجهت جموع المشاة الى الشاطىء يحملون الحزم والسلال والأطفال , ثم أتى دور السيارات.
كان عليهما أن يسيرا ببطء كي تحمل السيارة فوق المركب وقفا لتعليمات رجل يصرخ ويؤشر بما يفوق طاقته , تبعتهم شاحنة كتب عليها شعار: الأشياء الحلوة لا تدوم.
بدا النهار مملا وطويلا , وكأنه لا يود أن ينصرم , كان جسمها يؤلمها من الحر والتعب أنعشهما النسيم قليلا في السيارة على الرغم من أنه كان مثقلا بالغبار والحرارة , وبعد أن حل الظلام وأشارت الساعة الى ما بعد السادسة , وصلا الى الفندق كيننغ ريست هاوس لم يكن لدى جاكلين أية طاقة تمكنها من النهوض من مقعدها , فقد شعرت أنها ملتصقة به من العرق , وجدا مكتب الأستقبال خاويا , وبعد برهة أستطاع ماتيو أن يعثر على الرجل الذي بدا نائما , وأخذ يقلب دفاتره من الأمام الى الوراء وبالعكس عدة مرات , ليعثر على أشعار الحجز الخاص بهما , نظرت جاكلين الى ماتيو , ويكاد رأسها يهوي في أية لحظة , أنها بحاجة الى دوش وسرير ولا شيء غير ذلك.
" ها هو ".
قال الرجل أخيرا وعلامات الأرتياح بادية عليه , المنتجات الغذائية الدولية بيت من طابق واحد رقم 26 لمدة ليلتين.
فقال ماتيو مترددا:
" حجزنا من أجل شخصين , أعني غرفتين واحدة للسيدة وأخرى لي ".
" لم يحجز سوى مكان واحد , يوجد في البيت الريفي سريران ".
فأجابه ماتيو بحنق:
"أننا نريد غرفة أخرى".
داهمت عينا الرجل نظرة مسكونة وأجاب:
" آسف يا سيدي فالمكان ممتلىء ,هناك مؤتمر في المدينة ... ولكن قد تجد غرفة ثانية في الغد".
" أريد غرفة ثانية اليوم , وأريد أن أقابل المدير من فضلك".
رد الموظف ببرود:
" لقد سافر المدير يا سيدي".
خشيت جاكلين أن ينفجر ماتيو غاضبا , ولكن شيئا من هذا لم يحدث , ساد صمت لبرهة وجيزة , ثم ألتفت الى جاكلين بأستسلام وتعب ظاهر على وجهه وقال:
" حسنا ليس علينا ألا أن نتشارك البيت الريفي , بما أن المؤتمر سيعقد في المدينة , فسيكون بيت البعثة ممتلئا أيضا".
أخذت جاكلين تفكر بالموقف ... سأشترك مع ماتيو في الغرفة نفسها , وسريره بجانب سريري , تواردت في مخيلتها كل الأحتمالات , ستجني المتاعب , لم يفارقها المشهد الذي حصل في غرفتها , وتساءلت أن كان ماتيو سيستغل هذه الفرصة أذا ناما في الغرفة نفسها.
" بحق السماء لا تنظري اليّ هكذا , وكأنني تدبرت هذا الموقف".
أحمرت خجلا , تساءلت ترى هل قرأ أفكارها .
" أنني أفضل الأنفراد بنفسي".
شعرت أنها سخيفة عندما قالت ذلك , ولكن كان عليها أن تقول شيئا , قد يكون هو الآخر راغبا في الأنفراد بنفسه , ولكن ليس هناك من خيار.
" أن الأنفراد بنفسك في غرفة خاصة بك رفاهية , يجب أن تتنازلي عنها , أننا بحاجة للنوم والراحة , لن أتخذ السيارة بيتا , ولو حلت علي اللعنة لأنك محتشمة , خاصة وأنه يتوفر لي سرير جيد وسأنام عليه".
أدار ظهره ومشى نحو البيت الريفي بدون أن يتيح لها أية فرصة أخرى للمناقشة , فلم تر بدا من أن تتبعه ,كان بيتا ريفيا فقيرا ,يتألف من غرفة جلوس كالعلبة , وحمام وغرفة نوم , كانت الجدران قديما مطلية باللون الأزرق , وقد أصبح لونها رماديا بتأثير الغبار , ولمسات الأصابع , أما أغطية السرير فممزقة وقديمة , ولكنها نظيفة وكأنها غسلت لتوها ,وضع جهاز لتكييف الهواء في غرفة النوم , أدارت جاكلين مفتاحه بدون حماس يذكر ظنا منها أنه لا يعمل , صدرت زمجرة وببطء دار المحرك وبدأ يعمل .... مطلقا نفحة من هواء بارد.
قالت مندهشة:
"أنه يعمل".
أجاب ماتيو ساخرا:
" تمتعي به قبل أن يتوقف , أو يقطع تيار الكهرباء في منتصف الليل ".
وعندما أخذا حوائجهما من السيارة , أخذ ماتيو مجلته , وأستلقى فوق أحد الأسرة وقال لها وهو يشير الى الحمام:
" أدخلي أولا".
جمعت جاكلين حوائجها ودخلت الحمام , كان الحمام قديما بنيا وخشنا , أذ تركت مياه الأتربة آثارها واضحة عليه , أما حامل الدوش , فقد كان مزودا بسطل مليء بالماء , كما وجد سطل آخر الى جانب المرحاض مم يشير على أن ماء الصنابير لا يجري , شعرت بالأستياء فهذه أول مرة تأخذ دوشا بهذه الطريقة بعد يوم متعب, أستحمت وأرتدت ملابسها وعادت الى الغرفة.
تنهدت بأرتياح عندما لفح وجهها نسيم جميل أتى من غرفة النوم , سيتمتعان بجو لطيف , وبارد أثناء النوم , نام ماتيو بسرعة ومجلته على صدره , أضحكها منظره الذي بدا غريبا , خلعت جاكلين عباءتها ودست نفسها في الفراش , غطت نفسها حتى ذقنها بالغطاء الأول , لن يستطيع ماتيو النوم وهو متسخ لهذا هتفت:
" أنهض يا ماتيو لقد أنتهيت من الحمام".
زمجر وجلس , فسقطت المجلة:
" هل تظنين أن الدوش ضروري الآن؟".
" نعم ... ستنعم بنوم هادىء عندما تكون نظيفا".
" أعتقد ذلك , وقف ونظر اليها وهي في السرير.
" أتريدين عشاء ... طعاما لذيذا , ديك حبش مع أرز مثلا؟".
" لا , أريد أن أنام".
" هل أنت متأكدة من هذا؟".
" أجل".
سحبت الملاءة حول نفسها , وكأنها درع سيحميها , كما شعرت برغبة في ضربه , هل يلعب مباراة معها , وهل يظن أن دمه خفيف.
أخذ ماتيو حاجاته ودخل الى الحمام , أغلقت جاكلين عينيها , وشعرت بأرتياح مؤقت , لم تشعر بالأطمئنان الذي كانت تحلم به , أنتظرت بأضطراب عودة ماتيو الى الغرفة , زادت ضربات قلبها عندما عاد الى الغرفة يلف منشفة حول وسطه , طويلا , قويا , ذا لون أسمر داكن , بدا كفتى الأحلام الذي تتمناه كل أمرأة , أجتاحهتها موجة عارمة في أن تلمسه وأن تدفن ودنتيها في صدره , وتداعب شعره الأسود الكثيف بأصابعها .
تضرجت وجنتاها وقالت:
" كان بأمكانك أن ترتدي شيئا ".
" آسف لأحراجك , لم يخطر في بالي أبدا أننا سنتقاسم الغرفة ".
نظرت الى الأتجاه الآخر , كيلا يشعر بأضطرابها , لكن جهودها ذهبت سدى أذ أنه يفهمها جيدا.


أهتز الفراش عندما جلس ماتيو عليه ثم نظر اليها مبتسما :
" هل تشعرين بالخوف مني؟".
حاولت أن تجيبه بلهجة عادية , ولكن صوتها فضح أرتباكها:
" خائفة منك... أنا... لماذا؟".
" لا تتظاهري أنك لست خائفة".
نظرت اليه وأدهشتها رقة نظراته , وأشياء أخرى لم تفهمها , شيء ما جعلها ترتجف , فخفق قلبها بجنون, لم تستطع عيناها أن تفارق وجهه ولم تعلم كم مضى من الوقت وكلاهما يتأمل الآخر.
وبرقة أخذ وجهها بين يديه هامسا:
" أنك جميلة .... جميلة بطريقة خاصة".
ثم أنحنى عليها وعانقها بدفء ونعومة , كان هذا آخر ما توقعته .
تلاشى غضبها ومقاومتها ,وشعرت بقلبها يختلج جاهدا , بدا لها أن العالم قد أنهار , وأنها أمام حقيقة واحدة لا مفر منها وهي أحساسها به , أحاطها بذراعيه .... هل هذا ما تريد؟ هل هذا ما تنتظره؟ ولكنها لم تستطع أن تفكر بهذا في هذه اللحظة ... شيء ما يشغلها.
" جاكي.... جاكي....".
وفجأة أبعدها عنه وذهب الى السرير الآخر .
" تصبحين على خير يا جاكي".
مددت نفسها في الفراش وهي ترتجف ,ماذا حدث .... ولماذا تركها هكذا.
" ماتيو ... ماتيو".
لا تعلم لماذا نادته , ولكنه قال:
" نامي يا جاكي نامي".
لم تجرؤ على الكلام ثانية , كان عقلها مضطربا ,ولم تستطع أن تهدأ , سمعت أنفاسه تملأ الغرفة , بماذا كان يفكر ... ما هو شعوره الآن , ليتها تعلم , لم يكن نائما أنها متأكدة من ذلك , داهمها النوم فعانقت أحلامها ,وعندما أستيقظت سمعت صوته يصفر في الحمام , عاد للغرفة وهو يفرك رأسه بمنشفة , وقال بصوت مجرد ودون أن يقصد شيئا معينا:
" صباح الخير يا سيدتي الجميلة , كيف نمت؟".
" كالقتيلة".
سألته ضاحكة وكأن هذا اليوم لا يمت بصلة الى الأيام الأخرى:
" ما نوع هذا اليوم".
" دعيني أخمن , مشمس , وحار مثقل بالرطوبة , الحرارة حوالي خمس وتسعين درجة أذا حالفنا الحظ , ما رأيك؟".
" سيء".
ثم تابع:
" ما رأيك بالنهوض من السرير أم تريدين المساعدة ؟".
أجابت بأستخفاف مثله:
" لا أشكرك , سأ نهض عندما تخرج من الغرفة"." حاضر , سأخرج لأتكلم مع العصافير , ولكن أسرعي فأنني أتضور جوعا , حبذا لو تأخذين أشياءك معك , ولو أننا سنعود في المساء".
تابعا سفرهما حوالي الساعة السابعة , كان الطريق يعج بالحركة فالنساء والبنات يحملن على رؤوسهن أوعية كبيرة مليئة بالماء , لفح وجهها هواء بارد من النافذة , فسرت قشعريرة في جسدها.
" هل تشعرين بالبرد؟".
" نعم , وبدأت بأغلاق النافذة , أن ما يدهشني حقا كيف ينقلب الطقس فجأة أثناء السفر , لم يمض سوى نهار واحد , ونحن نسير بأتجاه الشمال , ومع هذا فقد غدا الجو باردا هنا , وقد خفت الرطوبة أيضا ".
ضحكت جاكلين وهتفت:
" أيتها الصحراء ها أنذا آتية اليك".
كان عليهما أن يسافرا مدة يومين آخرين شمالا كي يصلا الى الصحراء , أن مناخ الصحراء يتميز بالحرارة والجفاف ,والأيام الحارقة الحارة والليالي الباردة المتجمدة , كم تتوق أن ترى الصحراء بشعبها ومدنها , وأن تشاهد الجمال والواحات المليئة بالنخيل , وأشجار البرتقال , لقد سمعت قصصا مشوقة من رفاقها الذين تطفلوا على السيارات ليتنقلوا في الصحراء من غانا الى مراكش.
شعرت جاكلين براحة تامة أذ لم يتكلم ماتيو عن موضوع الليلة الماضية , بل تجاذبا أطراف الأحاديث العامة والبسيطة بهدوء , مما أمدّها بالأرتياح والطمأنينة , خاصة بعد أن زال معظم التوتر الذي كان سائدا بينهما , ألا أن ذكرى دايانا تقلقها , ولكن يكفيها ما حققته وماتيو من أنسجام .
لم يذكر ماتيو دايانا قط , منذ أن غادرت قبل عدة أشهر , ترى هل ما زال يحبها وهل ستعود في يوم ما؟
لم تزل تصرفات ماتيو تربك جاكلين على الرغم من شعورها بالأرتياح , تداعت أفكارها تباعا , لماذا عانقها أذا كان لا يهتم بها ؟ ترى هل أوحى لها خيالها بذلك , ولكن ترى هل تركت لمساتها أثرا في نفس ماتيو ؟ فكرت بحنق لا , يجب ألا أفكر بهذا الموضوع فأنه لا يجدي نفعا , تحركت في مقعدها ونظرت الى الخرج.
منتديات ليلاس
تبدل منظر الطبيعة بشكل ملحوظ بعد أن غادرا غانا أمس , أختفت الغابات الأستوائية الخضراء في المنطقة الساحلية ,وبدأت الأراضي صفراء جافة , كما أضفت الأكواخ الدائرية الشكل والتي تجمعت قرب بعضها بعضا كآبة وفقرا وجفافا.


وبعد قليل أنعطفت السيارة نحو طريق ترابي ضيق , وبعد أن قطعا ببطء كبير , وجهد بالغ عدة أميال أخرى , وصلا الى الساحة حيث وجدا السيد منيلا في أنتظارهما , حياهما وقال بلهجة أميركية بحتة :
" أنني مسرور لقدومك يا آنسة دونلي".
كان يرتدي ثوبا فضفاضا , لم يستطع هذا الثوب أن يخفي آثار أميركا وكانساس بالذات , قادهما الى منزله المكون من مزيج من الطين حيثقدم لهما أخوه بعض القهوة , أنه رائع ... همست جاكلين في أعماقها , وهي تنظر الى مينيلا , بدا طويلا وأنيقا ومثيرا في هذا الثوب الذي تعاكس لونه مع لون بشرته الأسود , تساءلت فيما لو أن مينيلا كان يرتدي هذا الثوب في أميركا , وعندما سألته أجابها قائلا والسرور يلمع في عينيه :
" كنت أرتديه في فصل الصيف عندما أشعر بالحر , وبالطبع عندما أذهب للحفلات , فليس هناك وسيلة أفضل منه لأثارة الفتيات".
أجابت جاكلين ولا تزال مندهشة من الأزدواج الحضاري الممزوج داخل هذا الشخص الذي يبدو أميركيا بحتا , لكن نظراته لا تخفي أنه أفريقي أصلا.
" لا أشك في هذا".
عادوا بعد ذلك الى وسط الساحة حيث كانت القرية بأجمعها تنتظرهم بمن فيها: رئيس البلد , والأعيان , وحتى الفرقة الموسيقية المحلية , جلس الرئيس وهو نسخة طبق الأصل مكبرة للسيد مينيلا طويلا وأنيقا , جلس على وسادة محشوة فوق منصة فرشت بالجلود , وجلس الأعيان بأثوابهم الطويلة فوق درجات المنصة , قدمهما مينيلا الى الجميع , ثم أحتلا مكانهما , جلس ماتيو على مقعد خشبي , بينما جلست جاكلين على أريكة , غمز لها ماتيو فأدركت أنهم يعاملونها معاملة خاصة للترحيب بها , فلولا وجودها معه, لجلس ماتيو على الأريكة المريحة.
ألقى الرئيس خطابا بلغته , فترجمه مينيلا لهم , كانت جاكلين تختلس النظرات من حولها بأنتباه ,جلسوا في ظل منزل الرئيس المؤلف من عدة أبنية من اللبن بما فيها الأبنية التي بدت كأنها مستودعات للقطن , بدت القرية قاحلة ومغبرة , وخالية من جميع المزروعات عدا بعض الأشجار .
أتى دور ماتيو في الحديث , فحدثهم عن شركته وطريقة عملها ,ترجم مينيلا مرة أخرى حديث ماتيو , راقبته جاكلين عن كثب , فلم تسمعه من قبل وهو يتحدث الى جمهور كبير , فشعرت بمزيد من الأعجاب به , لما يتمتع به من ثقة بالذات , كان متحدثا بارعا , يختار كلماته بحذر ودقة , وكان واضحا أنه أثر أهتمام الحضور كما أثار أهتمامها , كانت تحب أن تنظر اليه , بدا طويلا , منتصب القامة ... كان لون قميصه الأبيض ذي الكم القصير لا يتناسب مع لون بشرته البرونزي , بدا مطمئنا لحديثه وللموقف جميعه ,حتى أنه أستطاع أن يرمي بعض الطرائف , ويضحك الجمهور على الرغم من وجود العوائق اللغوية والحضارية , صفق الحضور له كثيرا عندما أنهى حديثه , أنتهت أجراءات الأستقبال , وذهب كل لأداء واجباته اليومية ... كنقل الماء , أو صناعة الأواني الفخارية , جلست جاكلين وماتيو مع الرئيس والأعيان , يناقشون الأعمال بشكل جدي , أخرجت جاكلين دفترها وقلمها , لتدون بعض الملاحظات حول الموضوع.
أبتدأ السيد مينيلا حديثه قائلا:
"لدينا ألف هكتار , لقد زرعنا القطن لعدة أعوام متتابعة , لم يعد القطن ينمو بشكل حسن , لأن الأرض لم تعد ملائمة , لهذا تناقشت مع السادة الأعيان والمواطنين للبدء بزراعة فول الصويا".
" وكيف كانت ردود فعلهم؟".
عقد السيد مينيلا ما بين حاجبيه :
" ترددوا في البداية , لأن فول الصويا ليس مألوفا لديهم , وتساءلوا هل سيكون طعاما جديدا ؟ وأخيرا أقتنعوا بأنها فكرة جيدة خاصة لأن القطن لا يؤكل , ولم تعد موارده كافية".
تكلم ماتيو قائلا:
" قلت أن خيرات الأرض أستنفذت ,ماذا ستفعل من أجل ذلك؟".
تتابعت الأسئلة , وأخذت جاكلين تدونها بسرعة .


أرتفعت حرارة الجو ,فتصبب عرق جاكلين , ومسحته بيدها فلم تستطع أن تكتب , ولحسن حظها لم يداهمها الصداع.
شعر الجميع بالجوع والعطش , وأنتهى الأجتماع بعد نصف ساعة , دعاهم الرئيس لتناول الطعام في مسكنه , قدموا لهما بعض المرطبات والقهوة ,وعندما أنتهى الغداء ذهبوا جميعا لألقاء نظرة على الأراضي , كانت الشمس محرقة حتى أن الأرض بدت لامعة مضيئة , تمشزا بين الصفوف المزروعة بالقطن الهزيل , تألمت جاكلين من قدميها , وتبللت ملابسها بالعرق.
أنتبهت جاكلين جيدا لحديث السيد مينيلا عندما تكلم عن خططه , وبعد ساعة لم تعد تسمع شيئا , أذ أستنفذت حرارة الشمس طاقتها , أما ماتيو فلم ينزعج كثيرا من الحر , مع أن قميصه كان مبللا بعرقه ,ولكنه ما زال يتكلم ويستفهم , ويمشي بدون أن يبذل مجهودا كبيرا فوق الأرض العطشى.
أستغرق التجوال ساعة أخرى عادوا بعدها الى منزل السيد مينيلا , فقدموا لهم العصير الذي لم يكن باردا تماما , وبعد أن أستجمعت جاكلين قواها , طلبت أن تزو عيادة البلدة.
أجابها مينيلا:
" بالتأكيد , وقد تجاوزت الساعة الرابعة ولا بد أن كارول وكوني الممرضتين موجودتان الآن , أما كورت الطبيب الألماني فذهب الى أوغادوغو لبضعة أيام , أنه محبوب من الجميع , فهو شاب رائع ,والممرضات لطيفات , أننا محظوظون كثيرا بوجودهن هنا".
كانت العيادة عبارة عن بناء أبيض مبني في ظل شجرة ضخمة عند أحد أطراف القرية ,حيت الممرضتان الأميركيتان جاكلين وماتيو بحرارة , ودعتهما بفخر لمشاهدة العيادة .
كانت أولاهما نحيلة وطويلة , والثانية قصيرة وبدينة , مما جعل منظرهما يثير الضحك , قالت جاكلين في سرها:
" أن صداقتهما الحميمة تساعدهما على تحمل الظروف التي تعيشانها ".
سألتهم كوني الممرضة البدينة:
"هل تنتظرون لنقدم الشاي لكم؟".
كان وجهها مليئا بالنمش , وعيناها الرماديتان تلمعان ببريق من الأمل , فأجابها ماتيو:
" لا , نشكرك , لا نستطيع , علينا أن نعود لتامال ,لا أحب قيادة السيارة في الظلام على هذه الطرقات".
أردفت كارول قائلة:
" لماذا لا تقضيان هذه الليلة هنا ؟ لدينا المزيد من الأسرة".
فأردفت كوني وهي تنظرمن جاكلين الى ماتيو وبالعكس:
" رجاء , لدينا علبة دراق من أوغادوغو سنفتحها ونحتفل بوجودكما ".
" دراق , كيف لنا أن نرفض؟".
صرخت كوني معربة عن فرحها , فتابع ماتيو كلامه قائلا:
" في الحقيقة أنها فكرة حسنة أن نبقى هنا , فلدي المزيد من الأسئلة عن الشعب".
أشتركت الممرضتان في بيت ريفي من الأسمنت الرمادي , لم يضف أي بهجة على ما حوله , أدخلت جاكلين وملتيو حقائبهما , نظرت جاكلين بسرور لما رأته من لوحات كبيرة ملونة على الجدران , غصت الرفوف بالكتب , كما وضعت بعض الألعاب المسلية كالمونوبولي والسكرابل , في أحد الزوايا ,شاهدت جاكلين بعض الأدوات المنقوشة وكرسيا من الجلد , وبعض الوسائد المغطاة بقماش عادي , مما أضفى على الغرفة جوا مريحا , وهادئا , حتى أن جاكلين شعرت وكأنها في منزلها , سألت جاكلين:
" أين يعيش الدكتو ر؟".
أجابت كارول , وهي تؤشر بأتجاه بيت آخر في الممر نفسه الذي يتصل بالعيادة:
" في ذلك المنزل ".
وتابعت حديثها قائلة:
" يستطيع ماتيو في هذه الليلة أن يمكث في منزل الطبيب كورت , لن يعترض كورت , وتستطيع جاكلين أن تنام في السرير المجاور لسريري ".
وفجأة أحمر وجهها , وأستدركت الأمر قائلة :
" أذا كان هذا يناسبكما , وألا تستطيعان المبيت معا".
بدا أضطراب كارول واضحا فقالت جاكلين:
"لا , أشكرك أنني متيقنة أنه سيشخر".
نظر ماتيو في وجهها وغمزها بعينه:
" أنني لا أشخر , وأنت تعرفين هذا جيدا".
جاء جوابه محرجا لجاكلين , فبدا أضطرابها ظاهرا , عندئذ تظاهرت الممرضتان بأن لديهما بعض الأعمال , فأتجهت كارول الى المطبخ تهمهم ببعض الكلمات بأنها ستحض الشاي.
أما كوني فأخذت فناجين القهوة كي تحضر فناجين الشاي , حاولت جاكلين جاهدة أن تجد ما تقول ولكن عبثا , عبس ماتيو في وجهها بحقد وقال:
" أنت التي دفعتني لذلك , سأحمل الأمتعة الى غرفة كورت ".
ثم سأل كوني:
" هل الباب مفتوح ؟ أم لديك مفتاح؟".
" أنه مفتوح , أننا لا نقفل أي شيء هنا , لأن السرقة محرمة هنا سواء على الزوار أو المرضى".
وعندما غادر ماتيو الغرفة , قالت كوني لجاكلين وعيناها تضحكان بخبث:
" أن كارول محتشمة جدا , تحاول أن تتخلص من هذا الأحتشام , ولكنها لا تستطيع , ألحقي به فلن يهتم أحدا لهذا".
هزت جاكلين رأسها وقالت:
" لا , كان ماتيو يحاول أن يضايقني عمدا , أذ كان يتكلم عن ليلة أمس فقد أضطررنا أن نتشارك الغرفة أذ حصل خطأ ما , فقد حجزوا لنا مكانا واحدا ,أنني مساعدته الأدارية , وهذه فترة عمل قاسية , هذه هي الحقيقة سواء صدقتها أم لا".
قهقهت كوني:
" أنظري الى كارول ونحن نخبرها بما حدث ليلة أمس , سيحمر وجهها خجلا".
عاد ماتيو وكارول الى الغرفة في اللحظة نفسها فسألها:
" أليس لديكم من يحل مكان الطبيب في حال غيابه؟".
أجابته كارول:
" لا , نتدبر ألأمر بأنفسنا , أما أذا كان الأمر صعبا , فأننا ننقل المريض الى المستشفى في تامال".
شربوا شايا , وأكلوا طبقا مليئا من زبدة فستق العبيد المحضرة منزليا .
نظر ماتيو الى جاكلين عبر المائدة , وفي عينيه لذة الأنتصار , ولكنها ضحكت له معربة أنها لا تأبه لأنتصاره , ولا تهتم لأنها تعيش في القرن التاسع عشر , ولا يهمها أيضا ما قد تظنه الفتاتان بها , صبت لنفسها قدحا آخر من الشاي ,وسألتهما:
" ألا تشعران بالوحدة هنا؟ فمعظم الناس لا يتكلمون الأنكليزية هنا على ما أعتقد".
أجابت كارول :
" بالتأكيد , ولكننا متفاهمون مع بعضنا بعضا هنا وهذا ما يساعدنا كثيرا , أن كورت رائع ,وأحيانا يأتي بابا الى هنا فنقضي أمسيات سعيدة ".
" ومن يكون بابا هذا؟".
ضحك ماتيو وقال:
" أنه يروي قصصا مشوقة لا تصدق , وحديثه شيق كثيرا".
ثم أضافت كارول :
" أننا نعرف بعض الأشخاص من البعثة الألمانية في تامال , ونذهب معا في بعض الأحيان ,ونقوم بكثير من المسابقات هنا , بابا يحب لعبة المونوبولي".


أعجبت جاكلين بالممرضتين ,وبطريقة معيشتهما وصبرهما ,وقدرتهما على التحمل, خاصة أنهما تمارسان الطب هنا ,وليس لديهما من الأدوات الا القليل , وهذا ما يؤرق مضجع الأطباء عادة.
وفي صباح اليوم التالي غادر ماتيو وجاكلين القرية محملين بالهدايا , أرطال من الأرز الأسمر , وديكا حبش يصيحان في مؤخرة السيارة , وثلاث دزينات من بيض الدجاج الحبشي.
قالت جاكلين :
" أنني أكره أن آخذ هذه الهدايا , أشعر وكأنني أختطفهم من أفواه الأطفال".
" لا يوجد حل آخر , أذا رفضنا أخذ هذه الأشياء , فكأننا نذل أصحابها , ونحقرهم بعنف".
تابع ماتيو وجاكلين مسيرهما وأهل القرية جميعا من نساء وأطفال ورجال يهتفون ويلوحون بأيديهم .
صاحت كوني بأعلى صوتها:
" سأراكمن في أكرا".
قالت جاكلين لماتيو وهما في طريق العودة:
" لا أستطيع يا ماتيو أن أتخيل أنني ممرضة في الأدغال , حيث لا أجد مكانا آخر أذهب اليه , ولا يوجد أناس أكلمهم ألا أولئك المرضى , سأجن حتما".
" أنك تحبين حفلاتك وولائمك أليس كذلك؟".
أجابته بغضب:
" ليست الولائم والحفلات ما تهمني , اريد أن أخالط الناس , وأسر بالعيش بين نماذج مختلفة منهم , أكتشف ماذا عملوا , وماذا أنجز هؤلاء ؟ وأين كان أولئك؟".
" أن تعليقي مجرد أنتقاد يا جاكي ".
هز رأسه ضاحكا :
" لماذا يزعج كل منا الآخر؟ دعينا نتخلص من هذا؟".
تعجبت كاكلين من قوله وهمست في سرها:
" لقد قال نحن, ولم يقل أنت , أذن أنه يشعر أنه بدوره , يبدو أن أشياء صغيرة ستطرد هذا التوتر , أن هذه الرحلة ممتعة لقد سرت جدا خلالها , وسيبقيان معا حتى ليلا في فندق تامال , داهمها شعور بالزهو عندما تذكرت تلك الليلة في الفندق متذكرة عناقه لها , الأفضل أن تنسى ذلك , فنظرت خارجا كيلا تسرح بأفكارها من جديد.
وصلا الى كوماسي وقضيا ليلة في فندق المدينة ,وفي صباح اليوم التالي , تجولت جاكلين في المدينة مدة ساعتين ., بينما ذهب ماتيو ليقضي بعض أعماله ,ثم أتجها الى أكرا بعد ظهر ذلك اليوم ,وما أن أستقرا حتى باشرا بالعمل.
كانت جاكلين تقرأ تقريرا عن رحلتهما الى الشمال , حرصت أن يكون التقرير جيدا لتثبت جدارتها ,أصبح عدم أزعاج ماتيو أمرا يهمها , أنه مسرور بعملها حتى الآن , لكنه لم يعترف بفعاليتها وجدارتها ألا مرة واحدة.
منتديات ليلاس
أنها ليست مقتنعة ولا تعلم لماذا , أنها تتوق لموافقته ويختلج في داخلها تساؤل : هل عليها أن تفعل شيئا آخر له , لا علاقة له بالعمل , شيئا آخر يفوق تفوقها بعملها.
كانت ذكرى ليلة تامال تداهمها في أوقات غير مناسبة , تحوم حولها الذكريات مرات ومرات حتى أنها تشعر بالضيق أحيانا , لقد حقرها مرارا , وأزعجها , وأغضبها , ولكن عندما أحتضنها بدا وكأنه رجل آخر , عطوف , ناعم ,ومحب , لقد أيقظ بها أحاسيس لم تكن تعرفها , لم يعانقها للتسلية , أنها لا تصدق ذلك , ولكن لماذا يتركها فجأة أذا كان بدافع الحب ؟ هل تكمن دايانا في أعماقه؟ أما زال يحبها؟ وأن صح ذلك , فهل يضايقها هذا الأحتمال؟ أجل أنه يؤرقها , ويقض مضجعها , لكنها تشعر بالذل كلما تذكرت أنها تستسلم للمساته بدون أية مقاومة , أنها ترفض أن يكون تأثيره عليها عنيفا , حتى ولو كان بحاجة الى دايانا.
وفي صباح أحد الأيام , وبينما كانت تعمل , وجدت ماتيو واقفا أمامها في مكتبها:
" جاكي".
نظرت اليه وهي توقف عملها مجيبة:
" نعم".
" هل أنت مشغولة جدا؟ أريد أن أتحدث اليك ,أريد أن أقول لك شيئا مهما ".
" سأنهي عملي خلال دقائق , وآتي الى مكتبك".
" حسنا ".
سمعته يتوقف في صالة الأستقبال , ويطلب قهوة لكليهما , ثم أخبر بيشنس قائلا:
" لا أريد أن يزعجني أحد".
لم تستطع جاكلين أن تتخيل ما الشيء المهم؟ حتما أنه لا يتعلق بالعمل.
لن تنقلب الدنيا , ولم تسمع أن أحدا يتوقع هذا , كما أن العلاقات الشخصية بينهما على ما يرام , وفجأة شعرت أن شيئا يحطم أعماقها... أنها دايانا ستعود قريبا , يجب أن يكون الأمر كذلك , أن ماتيو سعيد منذ الصباح , وسيخبرها الآن أن دايانا ستعود , وأنهما سيتزوجان قريبا , لهذا يجب عليها أن تترك مسكنها , وأن تجد مكانا آخر تسكن فيه , لم يرق لها هذا التفكير ... فقد أصبحت الشقة منزلا لها , ولا تريد تركها , وترفض عودة دايانا , كان عقلها يغلي أضطرابا ,وفجأة شعرت أنها مريضة.





سفيرة الاحزان 09-05-10 04:15 PM



6- الشرارة المفقودة
كان ماتيو يجلس الى مكتبه , عندما دخلت جاكلين غرفته ,وضع فنجاني القهوة على المكتب , أخذت أحدهما وجلست , أدركت تماما أنه كان يتأملها , سألها:
" ما بك؟".
" لا شيء ,كنت أتساءل ما هي الأخبار الهامة".
" تشجعي ... أنها أخبار جيدة".
" لك أم لي".
" لنا معا".
لم يكن سؤالها ينم عن ذكاء , ولكن لم يكن لديها سواه , سألها :
" بماذا تفكرين؟".
هزت كتفيها وقالت:
" كنت أخشى أن تكون الأخبار سيئة , ربما أرتكبت خطأ ما , شيء لا أعرفه , لا أعلم , لا بأس حدثني عن الأخبار العظيمة".
كتف يديه ودفع كرسيه الى الخلف وقال:
" ما رأيك في ترقية؟".
" ترقية لي أنا؟".
منتديات ليلاس
أجابت مندهشة فقد كان هذا آخر ما توقعته.
" نعم لك , لا تحلمي بالكثير أنها ترقية صغيرة صغيرة".
بلعت لعابها , ترقية كم تحب ذلك! ولكن هل يعتبر ماتيو الترقية أخبارا هامة ,كان شعورها بالراحة يفوق سعادتها , فقد فكرت بأشياء سيئة للغاية.
" ولماذا تعتبر هذه الأخبار سارة لك؟".
" لأنك ستستلمين عملا آخر بعد ترقيتك , أريد أن تهتمي بتقويم المراحل الأولى للمشروع , هل تذكرين التقرير الذي متبته عن زيارتنا لقرية مينيلا؟".
" بالتأكيد"


" كان تقريرا ممتازا , أن أسلوبك جيد جدا , فقد تبين أن لديك نظرة ثاقبة وواضحة لتفهم المشاكل والظروف المحيطة بالمشاريع , وبدا هذا واضحا من طريقة عرضك للموضوع , أنحنى قليلا للأمام ,ونظر اليها عن كثب , لقد جعلني هذا التقرير أثق بمحاكمتك للأمور , وأريدك من الآن فصاعدا أن تحددي جميع متطلبات المشاريع الجديدة , أجيبي على البريد , وقابلي الأشخاص الذين يأتون الى المكتب لأخذ المعلومات ".
حرك قهوته وأبتسم:
" تبدين مرتبكة قليلا".
" أجل! لست متمرنة على تطوير المشاريع".
" ليست المراحل الأولى معقدة , كما أن لديك كشوفا , وكما قلت لك أنني واثق من محاكمتك للأمور".
" أنني ... أنني سعيدة جدا , ولكن أخبرني ماذا علي أن أفعل!".
" أن الشق الأول بسيط , تستلمين رسائل من أشخاص يطلبون فيها ثمن محراث لزراعة الذرة في قطعة أرضهم , تكتبين رسالة أعتذار لبقة بأننا لا نعطي المال , وتعرضين فيها خدمات ميكانيكية وفنية فقط , قد تتلقين رسالة تطلب أنشاء معمل للسكر , فمصانع السكر شائعة هذه الأيام ,ولكننا لا نهتم بهذا وفق مقاييسنا , أذ أن السكر ليس غذاء هاما , فهو يعطي الجسم سعرات حرارية خالية من المواد الغذائية , ولا يفيد الصحة ".
لوّح بيده وتابع:
" طبعا لا تهتمي بمثل تلك الرسالة".
أخرج رسالة من ملفه وقال لها:
" أعتبري أنك تجرين فحصا الآن , أن السيد دونكر يطلب مساعدة لزراعة مكسرات الكاجو , ولديه مؤهلات ممتازة كالأرض وبعض المال , فما رأيك؟".
" لا يصلح".
فأجابها والدهشة في عينيه:
" ولماذا لا يصلح! أن الكاجو مصدر للبروتين".
" أعتقد أنه مصدر للعملات الأجنبية , لأن الكاجو لا يستعمل للأستهلاك المحلي , سيصدرون الأنتاج , وسنجده متصدرا على موائد الحفلات في لندن".
" تفكير سليم , ظننت أنني سأوقعك في الفخ هذه المرة".
قلب أوراق ملفه مرة أخرى.
" في كل حال هناك العديد من المشاريع الجديدة كفول الصويا واللوبياء وأطعمة جاهزة للرضع المفطومين , أدرسي هذه المواضيع , وأخبريني رأيك".
سألته بدورها:
" وماذا أفعل بالمشاريع التي أوافق عليها؟".
" هذه هي الخطوة الثانية , قومي ببعض الأبحاث عن الموضوع , أنظري أن كان قد جرّب أم لا".
أعطاها تفصيلات أخرى, فشعرت جاكلين أن موجة من القلق المشوب بالفرح تنتابها , غيّرت جلستها , وكتفت يديها وكأنها تعانق نفسها:
" يبدو أن الأمر ممتع للغاية , أتمنى أن أشارك بالأعمال الفعلية للمشاريع".
تأمل وجهها طويلا , كانت نظراته دافئة وممزوجة بشيء لم تستطع تفسيره , لقد شاهدت تلك النظرات من قبل في تلك الليلة في تامال , تدافعت الذكريات أمامها سريعة, وبوضوح منذر بالخطر ,شعرت برغبة عارمة بعناقه مرة أخرى , نظرت اليه , وأيقنت بجنون أنه يفكر أيضا بعناقها وبتلك اللحظة , خفق قلبها... ألتقت نظراتهما لمدة طويلة , ثم نظر الى الأوراق التي على مكتبه ,وقال:
" الخطوة الثالثة هي....".
تابع كلامه بصوت هادىء وغير متقطع , أستجمعت جاكلين قواها ,وركزت ذهنها على حديثه , عادت بعد لحظات الى غرفتها , وشعرت بموجة من السرور والفرح , أن عملها الجديد يدل على أن ماتيو أصبح واثقا منها , ولهذا عهد اليها بمسؤوليات جديدة , وهذا ما يهمها كثيرا ,ولكنها تريد شيئا آخر أدركته في تلك اللحظة , عندما نظر اليها نظرة غريبة لاحت في عينيه.
جلست جاكلين الى مكتبها , ووضعت وجهها بين يديها :
" لا تفعلي هذا بنفسك ".
همست في أعماقها :
" لا تجعلي من الحبة قبة , لا تتخيلي شيئا لم يكن ".
وبعد أن أستطاعت أن تبعد كل الأفكار الأخرى عن ذهنها , أخذت تركز أهتمامها على عملها , وفي مساء ذلك اليوم , رن جرس الهاتف وما أن رفعت السماعة حتى سمعت صوت ديفيد عبر الأسلاك , لم تشاهده بعد عودتها من الشمال فقد كان في واشنطن.
" آلو ديفيد".
" كيف حالك يا جاكي؟ ما رأيك لو نتناول العشاء معا الليلة؟".
" أتمنى من أعماقي , وسأدفع الحساب , أذ نلت اليوم ترقية".
" وكيف حصل هذا؟ أن هذا كثير بالنسبة لفتاة مدرسة لا تؤخذ مأخذ الجد".
ضحكت جاكلين قائلة:
" سأخبرك المزيد".
كانت الوجبة هادئة في مطعم شاطىء النخيل , وبعد العشاء تمشيا فوق رمال الشاطىء , يحملان أحذيتهما بأيديهما , يتكلمان ويضحكان , كانت الرمال المبللة باردة تحت أقدامهما العارية .


خيم الصمت لبرهة , فتمشيا وهما ينصتان الى الأصوات الصادرة عن البحر , كان الشاطىء هادئا , وخاليا من الناس , أحبت جاكلين الوحدة , وفرحت لعدم ظهور الجماهير , والحر , والضجة وهم المعالم الرئيسية للحياة في أكرا , وفجأة قطع ديفيد دابر الصمت وقال:
" لنجلس.....".
رمى نفسه على الرمال وجذبها اليه , داعب نسيم لطيف وجنتيها , ورفع ديفيد خصلة من شعرها خلف أذنيها .
" أن شعرك ينسدل بنعومة , فلماذا لا تتركينه على أكتافك؟".
أمتزج صوته بنبرة غريبة , شعرت جاكلين بأحساس غريب لم تستطع تحديده:
" ديفيد!".
" لا تتكلمي".
أحاطها بيديه وعانقها.
" لا يا ديفيد , رجاء".
همس بأذنيها :
" أنني أريدك يا جاكي".
تصلب جسمها ,وقالت متوسلة:
" أرجوك يا ديفيد .... لا...".
" ما الأمر؟".
" لا أستطيع ... أنني لا أستطيع".
أبتعدت عنه وهي تشعر بالحزن , وكادت دموعها أن تنهمر , لا أنها لا تريد هذا! ولم تطلب ذلك! قال لها بصوت متزن وهادىء:
" تعالي هنا يا جاكي... لماذا هذا الخوف؟".
غطت وجهها بيديها وقالت:
" أنني آسفة يا ديفيد , لا أريد أن تكون جادا في طلبي... أنني لا أريد أن أزعجك".
فقال بلهجة قاطعة:
" أنك لا تحبينني يا جاكي!".
" ليس الأمر كذلك".
" تعالي هنا يا جاكي".
أمسك بيدها .
" دعينا نتكلم عن هذا الموضوع ".
أقتربت منه , فوضع يده على كتفها برقة وقال:
" النقطة الأولى: أنك صديقتي يا جاكي , وأحب أن أكون معك , أننا نستمتع بأوقاتنا وأحاديثنا معا , أنك تتمتعين بالعقل والأحساس كأي أنسان آخر , النقطة الثانية: وبالأضافة الى أنك أنسانة , فأنك أمرأة بكل معنى الكلمة ".
توقف عن الكلام ونظر اليها :
" كما أنني شاب طبيعي كباقي الشبان , وسيكون الأمر شاذا أذا لم أرغب أن يحدث شيء ما بيننا".
هز رأسه وهو يبتسم لها , كانت عيناه مندهشتين مما أشعرها أنها فتاة صغيرة وسخيفة:
" هل تسخر مني يا ديفيد؟".
" ما زلت صغيرة ... صغيرة , لا تقلقي لهذا الشأن , ولا تفكري به كثيرا , ستنفجر مشاعرك ذات يوم , وعندها ستدركين ما تجهلينه الآن".
ألتقط حذاءه وهزه ليزيل الرمل عنه وقال:
" سأبقى صديقك في الوقت الحاضر أن كنت ترغبين بذلك لأتمتع بصحبتك الممتازة , وسأكبح عواطفي".
دلّت ضحكتها الصادرة من أعماقها عن زوال قلقها ,وقالت:
" أنك يا ديفيد صديق بكل ما في الكلمة من معنى".
أنه لا
يريد أن يسيء اليها , ولكنها لم تستطع أن تتخلص من الشعور بالذنب لأنها رفضته , وأنما لأنها لا تكن له ألا عاطفة الصداقة الأخوية , وشعورها بذلك واضح , عادا الى السيارة , وتعثرا بالرمال ,وبدأت تتساءل ترى: هل أحبها ديفيد؟ لم يشر الى حبه لها, وكانت تعتقد أن عاطفة الصداقة بينهما متبادلة لماذا لا يكون الأمر بهذه البساطة؟
منتديات ليلاس
وعندما عادت الى المنزل , لم تر سيارة ماتيو في مكانها المعتاد , فعلمت أنه ذهب النادي حيث يقضي معظم أوقات فراغه يسبح , أو يمارس أحدى هوايته الرياضية.
دخلت الى المنزل وأستعدت للنوم , كانت بعض حبات الرمال ما زالت عالقة على ملابسها ,وشعرها وحتى على جلدها , لن تتخلص منه ألا أذا أستحمت , تداعت الأفكار في ذهنها تباعا , فلم تستطع أن تنام , كانت تفكر بديفيد ... لماذا لا تحبه؟ أنه لطيف , وصديق مخلص ,ولكن للأسف لم يحرك مشاعرها الدفينة , لكن ماتيو أيقظ مشاعرها ولا تستطيع أنكار ذلك , ترى هل كان أنسجامهما أنسجاما فيزيائيا أم طبخة كيميائية صحيحة؟ أم أن عواطفها تحركت؟ ترى هل هذا ما يسمونه الحب؟


نامت على بطنها تضغط وجهها بالوسادة , كان رأسها ينفلق كالصخر , وعيناها تؤلمانها , الحب... ما هو الحب؟ هل ستعرفه في يوم من الأيام؟
لم تشعر جاكلين بتحسن , الصداع ما زال يزعجها , فنهضت من سريرها لتأخذ بعض الأسبرين ,لم تجد أية حبة , فقد نسيت أين وضعت الزجاجة عندما أستعملتها آخر مرة , قد تجد بعضا منها في حمام ماتيو , لكنها لا تحب أن تتجسس على مكانه الخاص , ألا أنها بحاجة ماسة لبعض الأسبرين , وألا لن تنام الليلة من شدة الصداع.
ذهبت الى حمامه , فلم تجد أيا من الأسبرين لا في علبة الأدوية ولا في مكان آخر من الحمام , أن هذا مضحك , وبينما كانت تقف في الرواق , سمعت صوت الباب الأمامي يفتح , دخلت غرفة الجلوس في اللحظة نفسها التي دخل ماتيو الغرفة , مرتديا بنطالا قصيرا , مع قميص أبيض حاملا مضرب الكرة , أرتبكت جاكلين كثيرا , ونظرت اليه بقلق وقالت:
" كنت ... كنت أـبحث عن جبوب الأسبرين , ولم أجد أيا منها".
نزل شعرها على عينيها فرفعته بعصبية الى الخلف.
" بحثت في حمامك ولم أجد شيئا , آمل ألا أكون قد أزعجتك".
" أنني لا أحتفظ بالأسرار في حمامي , وأعتقد أن الأسبرين في المطبخ , لقد أخذت منه أمس وتركته هناك , أجلسي سأحضره لك".
سمعت صوت الثلاجة يفتح , فعلمت أن ماتيو يصب لها كأسا من الماء المثلج , عاد الى الغرفة وناولها حبتين منه وكأس ماء.
" صداع؟".
هزت رأسها موافقة , وبلعت الأسبرين مع الماء , لم تبعد نظراتها عنه , أذ بدا جميلا في ملابس الرياضة , بدا شعره أشعث , فأنتابتها موجة جنون عارمة أن تخلل أصابعها في هذا الشعر الكثيف , ألتقطت عيناه نظراتها وقال:
" هل هناك شيء آخر؟ ".
وضع يده على جبينها , فأرتعشت فجأة , عقد ما بين حاجبيه :
" هل تأخذين الدواء المضاد للملاريا؟".
" نعم , طبعا".
" هل حرارتك مرتفعة؟".
" لا لدي صداع فقط".
أثار أهتمامه بها أضطرابها , ضحك ضحكة هزيلة وقال:
" أريد أن أتأكد فأنني لا أستطيع أحتمال مرض مساعدتي الأدارية ! كما تعلمين".
أزعجها تعليقه لبرهة , أذا كان مقدرا لها أن تمرض , فسيحصل هذا شاء أم أبى , قد يستطيع المكتب أن يمارس أعماله لعدة أيام بدون حضورها أذا كان هذا ما يخشاه , نهضت وهي تشد ثوبها حول نفسها وضعت شعرها خلف كتفها وقالت:
"يحسن بي أن أذهب للنوم , أشكرك من أجل الأسبرين".
شعرت بأرتياح في صباح اليوم التالي , وعندما دخلت غرفة الجلوس لتناول وجبة الأفطار , وجدت ماتيو يقرأ جريدة الصباح , رفع رأسه وقال:
" صباح الخير , ما أخبار الصداع؟".
" لقد زال أشكرك".
ذهبت جاكلين لتحضر شيئا من القهوة , فحيّت كويسي الذي كان يقلي بيضا , ويحمص الخبز , كان الطقس غائما منذرا بالمطر , أدارت مفتاح الضوء قائلة:
" أن المطبخ مظلم".
أجابها كويسي:
"أجل ستهطل الأمطار".
أنقضى الصباح بسرعة , وأنتهت التقارير المالية الشهرية في موعدها المحدد لأن الطريقة التي أتبعتها كانت فعالة.


أنقضى الصباح بسرعة , وأنتهت التقارير المالية الشهرية في موعدها المحدد لأن الطريقة التي أتبعتها كانت فعالة.
وبعد الغداء بدأت قراءة تقرير عن مزارع الماعز , عندما هبت رياح عاصفة من النافذة المفتوحة , فبعثرت جميع الأوراق على الأرض , ثم صفع باب وتلاه آخر , أغلقت النافذة , ووقفت صامتة لمدة , وهي تتأمل أشجار جوز الهند المتمايلة مع الهواء , كان الهواء منذرا بالعاصفة حيث كان يشتد في كل ثانية . حل الظلام على الغرفة , فأضطرت أن تدير مفتاح الضوء , ستنقشع الغيوم سريعا , وتهطل الأمطار , رحبت جاكلين في التغيير الجوي فهي تحب الأمطار , ورائحة الأرض المبللة بمياه المطر , وحفيف الأشجار الندية.
وبعد أن جمعت أوراقها , جلست لتنسقها من جديد , قرعت بيشنس الباب , وأدخلت لها فنجانا من القهوة , كان الفنجان يقعقع فوق صحنه مما يدل على أن الفتاة ترتجف , فسألتها جاكلين:
" هل تخافين المطر يا بيشنس؟".
" لا... لا ... لا أعلم ماذا جرى للسيد سيمونز".
سألتها جاكلين:
" ماذا حدث؟ ماذا تقصدين!".
قالت بيشنس:
" سلمته بريده منذ لحظات , وبدا سعيدا , وطلب فنجان قهوة ,وعندما أحضرته اليه ( حملقت عيناها وبنظرات قلقة تابعا) لم يكن على ما يرام يا آنسة دونلي".
هرعت جاكلين الى الباب قبل أن تفكر ماذا ستفعل ؟ قرعت بلطف باب مكتبه الذي كان مفتوحا قليلا ودخلت , لم ينظر اليها , وهالها منظر ماتيو مرميا على الكرسي , وكأنه بالون متلاش , وعندما حاولت أن تقترب منه , شعرت كأن ساقيها من المطاط يتحركان ببطء , وسألته:
"هل من شيء يا ماتيو؟".
كان يحملق في بعض الأوراق التي أمامه , نظر اليها بهدوء وبوجه رمادي وعينين ممتلئتين بأحساس مبهم وداكن , أجابها:
" لن يكون أي خطأ بعد الآن , لقد توضح كل شيء , أصبح الأمر واضحا تماما".
جفلت جاكلين لدى سماع صوته الحزين , راقبته وهو يجمع أوراقه ويضعها في حقيبته , ثم دفع كرسيه الى الخلف بعصبية ونهض:
" عفوا! أعذريني".
وتخطاها الى الباب وخرج , تسمرت في مكانها , هل حدث مكروه له؟ لم تعرف كيف تتصرف , سمعت صوت سيارته ينطلق فوق الطريق المفروشة بالحصى , هطل المطر بعد لحظة , فشعرت بقشعريرة في جسدها , وتملكها أحساس بالخوف لا فكرة لديها عما تكلم أو أين ذهب , عادت الى أوراقها , فوجدت قهوتها دافئة , دخلت بيشنس الغرفة وعلى وجهها تغيير مروع وسألتها:
" هل هو بخير؟".
" لا أعلم يا بيشنس , أتعقد أنه ذهب لمنزله لا سيما أن الطقس رديء للغاية".
أستمر المطر يهطل وقد أشاعت الرطوبة السوداء في الجو كآبة وذبولا , شعرت جاكلين بالأضطراي والعصبية , فلم تنجز شيئا من عملها طوال فترة بعد الظهر , وعندما أشارت الساعة الى الخامسة مساء , ولم ينقطع المطر , قادت جاكلين بيشنس وسامسون الى منازلهما كيلا يتبللا بالمطر , وهما ينتظران الباص , كان المنزل مهجورا عندما عادت اليه , فقد كان كويسي بعطلته الأسبوعية , وماتيو خارج المنزل , أين ذهب يا ترى في هذا الطقس الرديء جدا ؟ لماذا تقلق عليه وهو قادر على الأهتمام بنفسه؟ أعدت وجبة مما كان في الثلاجة , وعندما أشارت الساعة السابعة مساء ,ولم يأت تساءلت أن كان عليها أن تنتظره , وبعد لحظات أشتد هطول المطر وأصبح المنزل كئيبا وموحشا , أعترتها هواجس مختلفة , أخذت تتزايد ساعة بعد أخرى , شيء ما قد حدث له؟ حادث سيارة مثلا ؟ يجب أن تخبر أحدا بذلك؟ من؟ ديفيد.وعندما سمعت صوت ديفيد يجيب على الهاتف قالت:
" أني مسرورة لأنك بالمنزل".
أجابته بقلق:
" أجل أنه يتعلق بماتيو , فقد ذهب ولم يعد ولا أعلم أين هو؟".
أخبرته عما حدث ولكن ديفيد ضحك وأجابها:
" تبدين يا جاكلين كزوجة قلقة , أسترخي , يستطيع الأهتمام بنفسه ".
" حاولت ... حاولت دون جدوى , لا أعلم لماذا... كانت حالته سيئة جدا عندما غادر المكتب".
ساد الصمت فترة طويلة ثم أتى صوت ديفيد :
" حسنا يا جاكي سأبحث عنه".
" آه ديفيد أشكرك".
وأخيرا توقف هطول المطر , فداهمت المنطقة جماهير غفيرة من حشرات غريبة تشبه الفراشات المجنحة تطير على النوافذ.
وما أن تجاوزت الساعة الحادية عشر ليلا حتى رن جرس الهاتف:
" هل كنت في الفراش؟".
سألها ديفيد.
أجابته بصوت متقطع:
" لا".
" لم أتعقد ذلك , أنه في طريقه الى المنزل , سيصل حالا".
تنفست الصعداء وسألته:
" أين كان يا ترى؟".
" لا أدري أين أمضى فترة بعد الظهر , ولكنه أتى الى هنا بعد أن أغلقت الخط مباشرة يا جاكي , جلس عندي طوال السهرة , يتناول بعض المرطبات , فلم أستطع أن أخارك , لأنه كان الى جانبي".
" معك حق يا ديفيد , أنني أقدر الموقف... هل أكثر من تناول المرطبات؟".
" لا... لا... قليلا , لقد أجبرته ألا يقود سيارته وأرسلت كوفي معه وسيعود بسيارة أجرة".
" كوفي المشرف على منزلك أليس كذلك؟ معذرة فقد نسيت هذا , لأنني لا أستطيع جمع شتات أفكاري هذه الليلة".
فأجابها ساخرا:
" لقد وجدت النعجة الضالة , بأمكانك أن تنامي الليلة".
سمعت صرير البوابة , ثم صوت العجلات على الطريقالمفروشة بالحصى.
" أنه هنا , لقد وصل , من الأحسن أن ننهي المكالمة ".
فقال ديفيد :
" أطلبيني عندما تريدين , أتفقنا".
" نعم , سأفعل , أشكرك جدا".
قفز قلبها بين أضلعها عندما راقبته وهو يدخل من الباب , بدا وجهه رماديا ومنهكا , ونظراته مبهمة وداكنة , قال:
" على الفتيات أن يكن في أسرتهن في هذه الساعة المتأخرة من الليل".
"لم أستطع النوم , فهذه الضفادع اللعينة تصدر أصواتا مزعجة للغاية".
أنهار فوق المقعد الوثير:
" تعالي يا جاكي , وأجلسي بجانبي ,يجب أن نتكلم , لم نتكلم أبدا , أننا نتخاصم".
منتديات ليلاس
ردت عليه:
" لم نتخاصم منذ عدة أسابيع , لقد أوقفنا العداء , كنت في طريقي الى المطبخ كي أصنع القهوة , هل تريد فنجانا؟".
نظر اليها بملل وقال:
" أجل".
مضت جاكلين الى المطبخ, وهي ترتجف كالورقة , أنه جنون , قعقعت الفناجين في يدها ووقعت الملعقة أرضا.


قال ماتيو وهو يأخذ فنجانه :
" أن ديفيد شاب من الطبقة الأرستقراطية , أنك محظوظة يا جاكي".
عضت شفتيها لتكبح غضبها وقالت:
" أن ديفيد صديق ودود , عرفته منذ زمن مضى".
أجاب دون أن يفصح عما يريد:
" الصداقة القديمة شيء جيد".
لم تسعفها الكلمات , فجلست أمامه ترشف قهوتها , بدا كل شيء من حولهما ساكنا لبرهة لولا نقيق الضفادع المستمر في الخارج , كان ماتيو مشغولا بأفكاره يتداولها في سره وهو يحملق بفنجان قهوته , أحاطت جاكلين فنجانها بأصابعها القوية ,وهي تشعر بالأحباط , ليت لديها ما تقول , ليتها تعلم كيف ستمزق هذا الجمود , وتصل الى أعماقه ,لتساعده أو تفعل أي شيء من أجله , ولكن ليست لديها أية فكرة عما أعتراه , وفجأة نهض من مكانه قائلا:
" أريد أن أريك شيئا , تعالي".
جذبها من يدها وقادها الى غرفة نومه التي لم تدخلها حتى ذلك الوقت , كانت متسعة , ولها أرضية خشبية كباقي أنحاء المنزل ,وضع السرير الكبير المغطى بالقماش الملون , الباهظ الثمن في أحد أطراف الغرفة , مشى ماتيو الى خزانة صغيرة وأخرج شيئا من الدرج ناولها أياه قائلا:
" من هذه يا ترى؟".
كانت صورة لفتاة تقف على الشاطىء , أمام أشجار جوز الهند في ثوب السباحة الأسود جميلة وطويلة جدا , لها أطراف نحيلة , وكتل من الشعر الأحمر المتدلي على كتفيها بشكل لفافة كثيفة , شعرت جاكلين بجفاف في حنجرتها وبلعت لعابها وقالت :
" أنها... أنها... خطيبتك".
بدت ضحكته قصيرة ومريرة:
"خطيبة ؟ هذا ما ظننته؟ بل هذا ما ظنه الجميع".
" لا أفهم ما تعنيه يا ماتيو".
منتديات ليلاس
أتى صوتها غريبا ومنخفضا وكأنها تهمس ذلك لنفسها , أجابها بضحكة مريرة:
" لم تفكر أبدا أن تتزوجني , كما تعلمين ... لم تفكر أبدا"..
وضحك ثانية بصوت بارد وحزين , تمنت لو أنه توقف عن الضحك فقد آلمتها المرارة الصادرة من أعماقه , مشى ماتيو الى السرير , وتهاوى عليه وهو يخلع حذاءه , قال وهو يحملق بالسقف بجمود:
" لم تقرر أبدا أن تتزوجني".

سفيرة الاحزان 09-05-10 04:18 PM



7- يملأ عالمها
تأملت جاكلين الصورة بدقة , ثم وضعتها على الخزانة الصغيرة , محاولة أن تجد ما تقول , كان ماتيو مضطجعا على سريره يراقبها , ناداها ضاحكا:
" تعالي الى هنا يا جاكي, لا تقفي هكذا".
لم تستطع تحريك قدميها , ولم تستطع أن تنظر اليه , بدا كشخص غريب الآن , تملكها شعور غريب لم تستطع أدراكه , ترى هل هو الغضب ؟ أم الأسف؟ أم الزن؟ لم تكن متأكدة من ذلك , لاحظ ماتيو ترددها , فربت بيده على الفراش وقال:
" تعالي أجلسي هنا... لا تخشي شيئا".
جلست على حافة السرير ترتجف بردا , جاء صوت ماتيو قاطعا حبل الصمت:
" كانت دايانا عارضة أزياء , هل علمت هذا؟".
أجابته بصوت هامس وكأنها لا تريد التحدث عنها ,ولا الأستماع الى رأيه فيها:
" نعم".
" كانت جميلة , وناجحة جدا , تعرفت عليها في كينيا , هل زرتها؟".
"لا".
تمنت أن ينهي الحديث عنها ,أرادت أن تنهض , وتمضي لشأنها ,ولكن شيئا ما كان يشدها الى غرفته وكأنها لاصقة بالسرير.
" ذهبت دايانا الى كينيا في رحلة عمل , حيث كانت تقوم بعرض نماذج من ملابس الصيف الجديدة , أرادوا أن يصوروها في بلاد مشرقة حيث تتجول الفيلة والأسود في خلفيات المشهد".
لم تتفوه جاكلين بكلمة , ولم يكن لديها ما تقول , بل كانت تحس بعصبية قماش غطاء السرير الملون المفتول باليد , وعيناها مأخوذتان بألوانه الزاهية , البرتقالي والأزرق والأخضر , جذبها صوت ماتيو يقول:
" طبعا لم أدرك أن أفكاري تختلف عن أفكارها في ذلك الوقت , كنت أحب ذاك الشعر الأحمر ولم أر سواها ( ضحك بمرارة وتابع) أما هي فقد وقعت في غرام سيارتي اللاندروفر , كانت لديها أفكار جنونية تتعلق بنمط معيشتي , ظنا منها أنني أحد الصيادين المتألقين البيض".
همست جاكلين في سرها ألا يدرك وبسهولة أنه يبدو كأحد الصيادين البيض بجسمه القوي المحروق بأشعة الشمس , وبوجهه المربع الصارم وعينيه السوداوين اللتين تعكسان مسحة من الغرور والتعالي , لم يبق ألا أن يرتدي ثياب الصيادين , ويركب سيارته اللاندروفر حتى يغدو المشهد عندئذ حقيقة , لكن جاكلين متأكدة أن عمله في كينيا تطلّب منه كل أوقاته بمزيد من الجهد والعناء فأنى له الفرصة المناسبة ليمارس هواية الصيد ألم تدرك دايانا هذا يا ترى؟
وفجأة تابع ماتيو:
" لم يكن الأمر سيئا في البداية فنيروبي مدينة زاخرة بكل متطلبات الحياة ,أستطاعت دايانا أن تقوم بأشياء كثيرة دون ملل , ثم أتت الى هنا , هل تستطيعين تخيل فتاة مثلها في هذا المكان؟ تصوري أنها لم تجد أحمر الشفاه المناسب , فكرهت المدينة وكرهتني لأنني لم أحقق لها آمالها ,كانت تنتمي الى مجتمع نيويورك بكامل تدفقه الحضاري , حرك رأسه ,ولم ينظر الى جاكلين , وكأنه قد نسي وجودها على الأطلاق , أما هنا فلا شيء ينتمي اليها , ( وفجأة ضحك ببرود وتابع بصوت ينم عن أحتقاره لنفسه ) أردت أن أتزوجها ... فتاة بتلك الأوصاف , كم كنت مغفلا , قالت أنها لا تؤمن بالزواج وخاصة الزواج التقليدي المرتبك بالجذور القديمة من عقد وتسجيل وغير ذلك , ثم قالت أنني رجل تقليدي وأنظر هكذا للحياة , وكالمغفلين أقنعت نفسي أنها ستبدل رأيها وتعود الي, ( حملق بجاكلين وسألها) ترى هل تقبلين أنت الزواج مني؟".
خفق قلبها بشدة وقالت:
" ماتيو... أنا... أنا..".
فقاطعها قائلا:
" أن أشياء كثيرة تلائمك هنا أكثر من دايانا , أنت تحبين هذا المكان ولا تخافين من الزواحف , تأكلين الطعام , ولا تصرخين مزمجرة لعدم توفر بعض الأشياء , ولا تتذمرين من نقص الخدم , ولا تشكين الملل ,( ضحك بطرف فمه) ولديك كتاب السحر يعلمك كيف تصنعين سائلا للجلي وتهتمين بعملك ( حملق بالسقف وأضاف) لم تهتم دايانا يوما بعملي , بل كانت تسخر مني وتطلق علي أسم : ماتيو منقذ العالم".
كانت عينا جاكلين متعلقتين بثنايا وجهه الى جانب فمه , وبشفتيه المعبرتين عن يأس مريع , فأعتراها حزن عميق مؤلم ,ونظرت في أرجاء الغرفة تتفحصها ,ولكنها بالحقيقة لم تر شيئا ,ألتزم ماتيو الصمت , وعندما نظرت اليه ثانية كان مطبق الأجفان , فظنت أنه نائم ,وعندما حاولت أن تنهض , أمسك بيدها وسحبها الى جانبه , أحاطها بذراعيه , وتلعثمت كلماته وهو نصف نائم وقال:
" لا تذهبي يا جاكي رجاء أبقي معي".
منتديات ليلاس
كان رأسها يدور , والدماء تغلي في عروقها حتى سمعتها بأذنيها , وغدا صوتها أعلى من نقيق الضفادع في الخارج , كانت تخشى ضخامته , وفجأة أعترتها رغبة جامحة في أن تلصق وجهها بوجهه , وأن تبقى معه حتى الصباح , أخافها هذا الشعور , فأدارت وجهها الى الجانب الآخر.
" لا شك أنني مجنونة.... لا شك أنني فقدت عقلي ".
وعندما نام نوما عميقا مسترخيا ... ترك يدها , فأنسحبت في هدوء , وعادت الى غرفتها.
كان الصباح براقا ومنعشا وحارا كثيرا , أتى ماتيو لتناول الأفطار كعادته واثقا من نفسه وأردف:
" يجب أن أعتذر عما بدر مني بالأمس يا جاكلين , فلم يكن من عادتي أن أفقد توازني لأي سبب".
أجابته بهدوء:
" أعلم هذا".
تأملها لبرهة بعينين باردتين وأردف:
" أنني واثق أنك تعلمين ذلك".
لم يكتف بهذا القدر من الأعتذار اللطيف بل تابع حديثه :
" آسف كنت مزعجا أمس".
ردت جاكلين :
" لم تكن غير متزن, ولم تكن مزعجا ,ولكن طرأ عليك تغيير بسيط".
" لست واثقا بما حدثتك أمس ,ولكنني مستعد أن أسرد لك الحقائق الآن".
عضت جاكلين شفتها ونظرت الى طبقها وقالت:
" لا أرجوك , لا تفعل , لست مضطرا أن تشرح أي شيء ... أنس ما حدث".
شعر ماتيو بأضطرابها ... ولاح شبح أبتسامة على فمه وهو ينظر اليها ثم أردف:
" هل كان ما قلته سيئا للغاية؟".
" لا على الأطلاق ... ولكن...".
" أذن... ما الأمر؟".
فكرت لحظة كيف تترجم شعورها الى كلمات؟ قد تكون الصراحة المطلقة أسهل وأفضل طريقة للتعبير فقالت:
" طلبت مني أن أبقى بغرفتك , وحدثتني عن أشياء لا تخصني , كنت مسترسلا في سرد الأخبار , فلم أوفق في أن أجعلك تلتزم الصمت".
" حسنا( شرب قهوته وقال) لنبسط الأمور أذن لقد أخبرتك أنني أجتمعت بديانا في كينيا قبل قدومي الى هنا بوقت قصير , وأردت أن أتزوجها , كان لديها أتجاه آخر , عاشت معي لفترة , ولكنها لم تحتمل العيش هنا , لهذا سافرت , لقد أستلمت منها رسالة بالأمس , تخبرني أنها لن تعود , وأن علاقتنا قد أنتهت , لقد أنتقدت في معرض رسالتها طريقة معيشتي وأفكاري , لا بل لم تنتقد فقط بل شرحت ما عندها مما أفقدني توازني , لا أعلم لماذا أستأت هكذا مع أن الأمر متوقع , وأنه لمن الغباء أن أور بهذا الشكل فهي لا تستحق ذلك , وها أنذا أعتذر منك".
أتى صوته باردا وهادئا وكأنه يروي قصة لا تمت اليه بصلة , نظرت جاكلين اليه , بعينين حائرتين , أذ كانت الأفكار تتلاطم في رأسها , بينما شرب ماتيو آخر نقطة من قهوته ونهض قائلا:
" لنذهب الى المكتب".
أنصرم الأسبوع الذي تلا هذا الحديث كما أقبل , بدون أن يجلب معه ألا الأمطار والرطوبة.
لم يعد ماتيو يشير الى تلك الليلة التي تكلم فيها عن دايانا , وأفضى عندئذ بما يجول في نفسه, لكن جاكلين لم تستطع أن تطرد من مخيلتها الجملة التي كانت دايانا تنعته بها : ماتيو منقذ العالم.
وجدت جاكلين هذه الكلمات قاسية جدا , لأنها لمست من خلال أحتكاكها المتواصل بماتيو أنها لا تنطبق عليه , فهو لا يعمل من أجل الشهرة ,ولا لجمع المال ولا يعتقد أنه مسخر لخدمة البشرية في أفريقيا , أن مثاليته لا تتعارض مع المنطق السليم , أو حقيقة العالم المادي , كان مقتنعا في أعماقه بمبدأ المساواة , وأن تتاح جميع الفرص المتكافئة لتحقيق كيان محترم , لقد سخرت دايانا من مبادئه , وأخطأت في فهمه , لذا نعتته بتلك الصفات , ما الذي دفعها الى ذلك؟ رغبتها في أيلامه؟ أم غيرتها؟ لم تفهمه جيدا , لأنها لم تمتشف أهمية العمل بالنسبة اليه , ولم تستطع أن تشاركه هذا الشعور بل سخرت منه , فحياتها كعارضة أزياء تؤهلها أن تفهم ماتيو ,في أحدى الأمسيات , تناولت جاكلين كتابا تقرأه , لكنها لم تستطع فهم ما قرأت فقد كان السؤال نفسه يجول في خاطرها :
هل يحب ماتيو دايانا فعلا؟ طبعا أنه يحبها , كانت ترفض بأصرار أحيانا هذا الواقع مصفوعة بغيرة عنيفة , هل ما زال يحب دايانا مع كل هذه الأختلافات بينهما؟ لم تشأ أن تسأل نفسها هذا السؤال , ولكنه كان جاثما بين طيات دماغها منذ زمن طويل , وأذا كان لا يحبها ؟ فلماذا أستاء من رسالتها الأخيرة؟ وأختفى ساعات ليعود مصعوقا ومهتزا وحائرا , لقد تكلم عنها تلك الليلة , لكنه لم يسرد صفاتها ,ولم يتغزل بها.



أقترب عيد ميلاد جاكلين الواقع في الواحد من شهر آب , وأصبح قاب قوسين أو أدنى , فبدأت تشعر بالأشياء , لأنها تريد تناول العشاء في مكان ما خارج المنزل , لكنها لا تستطيع أخبار ديفيد بذلك اليوم أذ ستضطره أن يشتري لها هدية وهذا ما لا تريده , أضطربت جاكلين وبدأت تقنع نفسها بأن عليها أن تتصرف بحكمة , وليس كطفلة صغيرة في الرابعة من عمرها يرضيها قالب كاتو وبعض الشموع , أتى يوم عيدها ,ولم يحصل معها شيء يذكر , شعرت بالوحدة والألم لأنها منبوذة ومنسية , حتى أنها لم تستلم تهنئة من والديها ... قد تأتي غدا , كانت تعد نفسها بيوم غد , سيطر عليها حزن عميق , ولم تستطع أن تفهم ضحكات ستيفن ولا طرائفه المتعلقة بالنعاج الشاردة , لا شيء أستطاع أن يخلصها من رثاء ذاتها .
كانت الساعة تشير الى الخامسة عندما أحضرت بيشنس مذكرة من ماتيو كتب على المذكرة: هل من مشاريع الليلة؟
حملقت جاكلين بالأحرف المنتشرة على الورقة ,هل عرف ماتيو أن اليوم هو عيدها , لماذا لم يذكره لها , ولم يشر اليه من قبل , رفعت كتفيها , لا أنه لا يعلم ,والأرجح أنه يستفسر أذا كان بأمكانها أن تعمل ساعات أضافية في المكتب , أو أنهما سيدرسان مشروعا مفيدا هذه الليلة معا في المنزل , كالمرتين الماضيتين , لا بأس.... لن يؤثر هذا في شيء حتى ولو عملت ليلة عيد ميلادها ,لاحظت أن بيشنس ما زالت تقف أمام مكتبها وبسرعة دونت( لا....ليس لدي أي أرتباط)ثم أعطت بيشنس الورقة قائلة:
" أعطي هذه للسيد سيمونز من فضلك".
أبتعدت بيشنس وسمعت جاكلين صوت حذائها عبر غرفة الأستقبال , رتبت جاكلين مكتبها , وتأبطت حقيبة كتفها , يجب أن تذهب الى المنزل أولا كي تأكل شيئا , كان ماتية يقف في الرواق ,بأتجاه غرفتها بخطى طويلة ووثيدة , أنها تستمتع بالنظر اليه والى تحركاته , رافعا رأسه ومبتسم , لم يكن أنيقا ,ولكن شخصيته الصارمة جذبتها اليه , أنها دوما تخشى من هذا الأنجذاب , قال وهو يدعوها للعشاء:
" حسنا , أذا لم يكن لديك ما تعملينه الليلة , فما رأيك أن تنتاول العشاء خارجا , ونبتعد هذه الأمسية عن طعام كويسي الرائع؟".
أجابت بهدوء:
" أتمنى ذلك".
قطب جبينه وسألها:
" أين ديفيد ؟ ل هو خارج المدينة؟".
" لا , أن ديفيد في أكرا كما أعتقد".
زاد من تقطيب جبينه :
" أخبريني , أين تريدين أن نذهب؟".
" أي مكان تريد عدا مطعم كودي كودي حيث يتناول به معظم الموظفين الغانيين طعامهم لقربه من المكتب".
ضحك وقال:
" لم أكن أفكر بمثل هذا المكان , أنني أفكر بمكان متطرف ".
" أذن أنني أفضل كومودور , كم أتمنى أن أتناول بعض المأكولات اللبنانية كالتبولة والكبة والحمص".
" حسنا , سنذهب اليه أذن".
لم يشر الى عيد ميلادها , وما زالت جاكلين مرتبكة , لماذا يدعوها للعشاء؟ قال ماتيو:
"ليتك تتركين شعرك منسدلا فهو جميل".
كان شعرها طويلا ومتموجا ومنسابا حتى خصرها , لن يضايقها , ولن تشعر بالحر بسببه ما دام المطعم مكيفا , وشعرت وكأنها فتاة مراهقة تلبي أول دعوة من صديقها للمرة الأولى , لم تدرك لماذا كانت تشعر بالخجل وبالسرور معا عندما أخذ ماتيو يطري شعرها.
طلب ماتيو عشاء فاخرا مع بعض المرطبات الباهظة الثمن , وعندما أحتجت جاكلين ضحك ماتيو وقال:
" هل يحتفل أحد بعيد ميلاده بلا مرطبات فاخرة؟".
سألته ضاحكة:
" كيف علمت أن اليوم عيد ميلادي؟".
ضحك بدوره وقال:
" من الملف الخاص بك, فعندما عهدت اليك بعملك الجديد في الشهر الماضي , كان علي أن أعود الى ملفك من أجل الترقية التي حصلت عليها , عندها لاحظت تاريخ ولادتك".
وضع يده في جيبه وأخرج منها علبة صغيرة دفعها اليها عبر المائدة قائلا:
" وهذه هي هدية العيد لأفضل مساعدة أدارية في أفريقيا الغربية ".
سكتت وكأنها مصعوقة ثم نظرت الى العلبة دون أن تلمسها , أبتسم لها وقال:
"ألا تريدين أن تري ما بداخلها؟".
أعترضت قائلة:
" لا ... لا أستطيع أن أقبلها".
أجاب بسخرية ممزوجة برعب:
" لا تخبريني أنك تريدين أن نتشاجر هنا وأمام الناس؟ ماذا سيظنون ؟".
وعندما لم تجبه ألتقط العلبة ,وفتحها ثم وضعها بالقرب من طبقها .
" هذه هدية مني لك , أرجو أن تقبليها".
أخفضت جاكلين عينيها , ونظرت الى العلبة , أقراط صغيرة ناعمة من الذهب الصافي الذي صنع في غانا , وبحذر رفعتهما ووضعتهما على راحة يدها وهمست:
" أوه يا ماتيو , ولم هذه الهدية الباهظة الثمن؟".
" ألم تعجبك؟".
" أوه رائعة... ... أنها جميلة ".
" ولكنني أحب أن أراها تتمايل في أذنيك , أخذ منها الأقراط وقال :
" أحب أن أضعهما لك بنفسي".
أخجلتها الذكريات فتضرجت وجنتاها أحمرارا:
" لا تحرجني يا ماتيو... أن المكان مظلم ,ولن تشاهد بشكل جيد ".
" هل تراهنين ؟".
دار حول المنضدة , وجلس على كرسي بالقرب منها :
" ألتفتي الي".



كانت عيناه تعانق نظراتها , فقررت أن تتابع هذه اللعبة معه , رفعت يدها ونزعت القرط الذي كان في أذنها ,فرفع لها شعرها عن وجهها , شعرت ببرودة يديه عندما لمس وجنتيها الدافئتين , وقرب وجهه كثيرا منها وهو منهمك بعمله , أقلقها أقترابه منها , كما كان يحدث دائما ,وبدأ قلبها ينبض بجنون.
وضع ماتيو الأقراط بسرعة , ولم يواجه صعوبة في ذلك , وعندما أنتهى لم يتحرك بل نظر اليها :
" أنك جميلة , خاصة عندما تحمر وجنتاك هكذا".
" أشكرك".
" عيد سعيد يا جاكي".
كانت مسرورة وسعادتها تفوق الوصف , ضحكت في وجه ماتيو وقالت:
"ولماذا أخترت هذه الهدية؟".
" هدية السلام , لأنني كنت غبيا بشكل لا يغتفر له عندما وصلت الى هنا , ولأشكرك على لطفك لأنك أستمعت الي وأنا أفضي اليك بأسراري , كنت في حاجة ماسة الى البوح لأي شخص بما يقلقني ويقض مضجعي".
" أشكرك يا ماتيو , أنني مسرورة جدا".
لكنها شعرت بالذنب أيضا , فلم تكن بريئة هي الأخرى لأنها تركته في حيرة من أمرها ,ولم تخبره عن حقيقتها , وعن عملها السابق حتى وصل الملف الخاص بحياتها فأكتشف ذلك بنفسه.
" أنني مسرور ".
أمسك شوكته وبدأ طعامه.
وضعت جاكلين قليلا من التبولة على ورقة خس , ثم وضعتها في صحنها وقالت:
" ماتيو".
نظر اليها نظرة ضاحكة أسرت عينيها:
" نعم".
" أريد أن أعتذر لك بدوري ".
" تعتذرين ولماذا؟".
" لم أكن أنا أيضا صريحة ,كان علي أن أحدك عن خبرتي في العمل ,تركتك تعتقد أشياء خاطئة , فقد كنت حمقاء".
" أعلم ".
منتديات ليلاس
بدا في عينيه لمعان داكن وعميق , دعينا ننسى الآن , أنني أعرفك جيدا الآن".
توقف قلب جاكلين للحظة:
" ماذا تعرف؟".
" أعرف أنك تحبين عملك , وتقومين به بأخلاص , يا جاكي لا أريد أن أفقدك ولو كلفني ذلك العالم بأجمعه".
هذا ما تتمنى فعلا أن تسمعه منذ أن عملت معه , فأن باح لها بشيء , فقد قال لها ما تريد , أعتراها قلق غامض لشيء تجهله ولم تدرك كنهه , فشعرت بالأنزعاج , ماذا كانت تتوقع أذن , أخذت تتساءل.
" دعينا ننسى البداية السيئة ..... أنني أجد أن الأمور غدت أفضل في الآونة الأخيرة".
" نعم".
وتابعت طعامها.
لم يكن المطعم مزدحما , وقد أضفت الشموع عليه جوا وديا وعاطفيا , مما جعل جاكلين تتأثر بهذا العشاء الفاخر , وتستمع بأهتمام الى ماتيو وهو يروي لها قصصا مختلفة عن طفولته : منها المضحك ومنها الحزين.
وصلا الى المنزل في وقت متأخر من الليل , ففتح لها ماتيو الباب الواصل الى غرفتها ,تأملته ,كان طويلا جدا , سيطر على حواسها , فشعرت برغبة جامحة لعناقه , شعور لم تستطع أن تفهمه قالت:
" لقد أمضيت أمسية سعيدة يا ماتيو أشكرك".
بدت نظراته دافئة وباسمة:
" حسنا , لقد أستمتعت بصحبتك يا جاكي , أنك صديقة لطيفة ".
لم يتحرك أحد منهما ,شعرت جاكلين بعودة الشرارة وبالأهتزاز في أعماقها.
أخفضت عينيها , ونظرت الى سترته الحريرية المطبعة بمشتقات اللون الأخضر , أرادت أن تخفي وجهها في صدره وأن تشعر بيديه حولها .
رفع رأسها برقة ,فأزداد أختلاج قلبها , ألتقت عيونهما ... وأمتلأت نظرته بالحنان وبشيء آخر لم تفهمه , وفجأة تغيرت عيناه ... أصبحت نظرته داكنة , ومبهمة , أنزل يده عن وجهها بقل وقال:
" تصبحين على خير يا جاكي".
" أشكرك من أجل الأقراط".
ضحك ضحكة خفيفة وقال:
" أنه من دواعي سروري يا جاكي أن أشتري لك أقراطا".
لم يبق ألا أن تغلق الباب , أتكأت عليه ... داهمها شعور بالحزن , مشت ببطء الى الحمام ونظرت في المرآة , بدا وجهها حزينا , لكن الأقراط أضفت عليه لمعانا خفيفا تحت أنعكاس الضوء , وللحظة تأملت نفسها في المرآة , ثم ما لبثت أن غطت وجهها بيديها , همست :
"لا ... آه...لا..."
لقد وقعت في حب ماتيو , لن تستطيع أنكار هذا أكثر من ذلك , لقد نمت مشاعرها في أعماقها تدريجيا , ولكنها للآن لا تريد البوح بذلك , شعور عميق خاص ... لا يقاوم , أنه الحب.
لم تكن لمساته تلك التي جعلتها تشعر بهذا الدفء , كانت تحب كل ما حوله , عمله , ومشاعره ومعتقداته , وشخصيته , وقوته , وكبرياءه الذي سمح له أن يعتذر منها , لتصرفاته الخاطئة , وعلاوة على ذلك أنها تحب لحظات ضعفه وعناده وأنفعاله.
وعندما أضطجعت في سريرها , أخذت تفكر لماذا تخيفها حقيقة مشاعرها الى هذه الدرجة , يقولون أن الحب أحساس ممتع ورائع يحيي القلوب والأوصال , ولكن هل هي حلاوة لا تدوم , لاح أمامها الشعار الذي حملته الشاحنة : لا ليس الحب لذيذا دوما.
تتالت الأيام على ما هي عليه , ألى أن فاجأها ماتيو يوما قائلا:
" أريد أن أقضي أجازتي في الولايات المتحدة , هل لك أن تتدبري أمر البطاقة والحجز؟".
أجابت كالأغبياء:
" أتسافر الى الوطن؟".
" ألا تظنين أنني بحاجة لزيارة الوطن".
" نعم... نعم.... طبعا".
وسرحت وهي تفكر أن ماتيو سيعود الى الوطن , سيسافر مدة شهر , ليته فكر في الذهاب قبل الآن , أما الآن فأن مجرد التفكير بسفره لا يطاق ثم تابع وهو يضحك:
" ألا تريدينني أن أذهب؟".
" أنما كنا أفكر ماذا سنفعل خلال غيابك؟".
" أنني متأكد أنك والزملاء تستطيعون أن تتدبروا الأمر بشكل لائق".
" ومتى ستذهب؟".
" من منتصف أيلول وحتى منتصف تشرين الأول".


أعطاها بعض التفصيلات ,وعاد الى مكتبه ,وفي أحد الأيام أتى مينيلا الى المكتب مع كوني الممرضة , فحصلت بعض التغييرات , أتي مينيلا الى أكرا لأنهاء عمل له وقد نزل عند بعض أقربائه , تحدث مع ماتيو وقدم له أعتذاره , لأنه لم يكلمه فور وصوله , طلب ماتيو من كوني أن تنام في غرفة الضيوف , تركت جاكلين عملها لتصحبها الى المنزل , مكثت كوني أسبوعا عندهما , أستغرق حصولها على الأدوات الطبية يومين , حتى أستلمتها من الميناء مما أثار غضبها , كان ماتيو وجاكلين خلال مدة مكوثها معهما يستمعتن الى التفاصيل الدقيقة جدا عن ضروب المحنة التي ألمت بها , وعلى الرغم من أن جاكلين سرت بزيارة كوني , ألا أنها تنفست الصعداء عندما غادرتهما أخيرا , كما أن ماتيو رفع عينيه نحو السماء بأرتياح , ضحكت جاكلين وقالت:
" ولكنها في الحقيقة لطيفة يا ماتيو".
" صحيح ,كادت ثرثرتها أن تصيبني بالجنون".
غادر ديفيد بعد أسبوع متجها الى كينيا , حيث سيعمل ستة أو سبعة أشهر , كانت الأسابيع الأخيرة فوضوية وغريبة , حتى أن جاكلين شعرت أنها تكافح بذهول هذه الأيام , وتشعر بعدم توازن , عملت جاكلين جاهدة , ولساعة متأخرة من الليل , كي تنهي أكبر قدر من الأعمال في الأسابيع التي سبقت سفر ماتيو , فأنجاز العمل أثناء وجوده سيخفف من أعباء العمل , أرادت أن تشغل نفسها كيلا تفكر بأمورها الخاصة , وفي المساء كانت تقرأ كي تنام , وصلها بعد عيد ميلادها بيومين عدة كتب من والديها كهدية , أيقن والداها أن الكتب ملكية ثمينة في بلاد لا يتوفر فيها الكثير من مجالات التسلية , حان سفر ماتيو فقادته جاكلين في الصباح الباكر الى المطار , أخذت تراقب الناس بينما وقف ينتظر دوره لتفتيش حقائبه , أجتمع جمهور متنوع من المسافرين في بهو المطار من أفريقيين , وأمريكيين , مرتدين ثيابا رائعة , بما فيهم جماعة من اللاعبين الرياضيين ونساء من نيجريا بجدائلهن المتقنة, تلألأت أقراط وسلاسل الذهب في أذانهن وعلى صدورهن , كانت أمتعتهن محزومة في سلال وعلب مربوطة بالخيوط , أنها لا تمل أبدا مراقبة الناس.
أعلن وقت أقلاع الطائرة , فحمل ماتيو حقيبة يده وقال:
" لا تنتظري يا جاكي... لأننا سنبقى في قاعة الترانزيت مدة من الزمن".
قالت بصوت طبيعي لم تخالطه ثورة أعماقها:
" حسنا , تمتع بعطلتك".
ضحك في وجهها , وربت على كتفيها قائلا:
" حظا سعيدا يا جاكي , سأراك الشهر المقبل".
راقبته حتى غاب عن أنظارها ,م أدارت وجهها تحاول أن تبتلع لعابها على الرغم من تقلص حنجرتها ,وببطء ذهبت الى الشرفة , دفعت الى الفتاة التي تقف عند الباب خمس قطع نقدية صغيرة , بدت الطائرة ضخمة ... حدقت بها جاكلين لمدة , بدأ الركاب يصعدون متن الطائرة , , وهي ما زالت على الشرفة , راقبت ماتيو وهو يتقدم بخطى ويدة يصعد الدرج ثم يختفي داخل الطائرة , شعور بالوحدة سيطر عليها , وأمتلأت عيناها بالدموع :
" أنك غبية".
همست في أعماقها , مجنونة وحمقاء غبية , دارت وخرجت من المطار وكل شيء يهتز من حولها , والألوان تضطرب أمامها , لم تكن قد أبتعدت كيرا عندما سمعت صوت الطائرة يشق عنان السماء , هطلت دموعها بدون توقف , لم تستطع جالين أن تواجه المنزل الموحش أو المكتب , وعند مفترق ساحة داكاه أنعطفت نحو اليسار بأتجاه بيت ليزا.
حيّت المشرف على منزل ليزا وقالت عندما دخلت المطبخ:
" صباح الخير يا غوردسون هل السيدة تورنر موجودة؟".
" أنها في غرفة الجلوس يا سيدتي".
كانت ليزا جالسة على الأريكة تنظر الى مجلاتها المكدسة , نظرت الى الأعلى وما أن رأت جاكلين حتى بدت دهشتها واضحة , ألصقت نظارتها بوجهها وهي تحييها:
" أهلا جاكلين , ماذا تفعلين هنا في منتصف أيام الأسبوع ؟ وخلال ساعات العمل هل طردك رئيسك؟".
أجابتها جاكلين :
" لا".
دفعت ليزا بالمجلات جانبا ثم سألت جاكلين:
"تشربين القهوة معي أليس كذلك؟".
" أجل بكل سرور".
ذهبت ليزا لتعطي تعليماتها لغوردسون , وعندما عادت نظرت الى جاكلين وعلى وجهها تعبير قاس , وقالت لها:
" حسنا , أليس اليوم موعد أنطلاق الرئيس الى وطنه؟".
جاء صوت جاكلين هزيلا يفتقر الى الحماس وأجابت:
"نعم , لقد عدت لتوي من المطار , لم أرغب أن أعود فورا الى المكتب , سأحتفل معك بأرتداد حريتي المفقودة ونشرب فنجانا من القهوة".
علقت ليزا ضاحكة:
" شيء معقول فعلا".


دخل غوردسون الغرفة وهو يحمل صينية القهوة , نهضت ليزا وأخذتها منه:
" شكرا يا غوردسون".
وضعت الصينية على المنضدة ونظرت الى جاكلين:
" تشربين قهوتك بلا سكر أو حليب".
" نعم , قهوة فقط من فضلك".
تناولت الفنجان من ليزا وقالت:
" يبدو أن المكان هادىء ... أين طفلتك؟".
" أخذتها كريس في نزهة , فهي تدرجها في عربتها كل يوم بعد تناول فطورها قبل أن يشتد الحر".
جلست ليزا ورشفت رشفة من فنجانها , وهي تتفحص جاكلين وقالت:
أذن ما هي المشكلة يا جاكلين؟".
تنهدت جاكلين وقالت لنفسها لن تستطيعي أخفاء الأمر عن ليزا ولن تخدعيها , وأردفت قائلة:
"نظرا لكل الحقائق والوثائق المثبتة لديك يا ليزا ألا تظنين أنني سأشعر بالسرور لأن ماتيو سيغيب عن وجهي شهرا كاملا ؟".
ردت ليزا ببرود:
" من المحتمل".
" واذا تعني من المحتمل؟".
تابعت ليزا :
" منذ مدة مضت كنت أجزم أنك ستقفزين فرحا أذا غاب عنك ,ولكنني لست متأكدة الآن , ( توقفت قليلا) والأرجح أنك حزينة وأعتقد أنك كنت تبكين لتةك".
لم تتفوه جاكلين بكلمة , حدقت في النوافذ العريضة حيث بدت من خلالها أزهار البوغنفليه الزهرية والبرتقالية , وكأنها سحابة من غيوم أمام الزجاج ,ترى متى وليزا تشعر أن أحاسيس جاكلين تغيرت أتجاه ماتيو , ثم تابعت ضاحكة:
" جاكي , هل تريدين أن تسمعي تحليلي؟".
ضحكت جاكلين قليلا في وجه ليزا وقالت:
" نعم أحب أن أسمع رأيا آخر".
" أليك رأيي أذن , أنك تعانين من أزمة قلبية يسمونها الحب ... مستعصية ولا تعالج , ( ضحكت ليزا متابعة) شعرت بأصابتك منذ مدة بسيطة".
أعترت جاكلين موجة ساحقة من اليأس وضحكت بمرارة في وجه صديقتها وقالت:
" أي شيء سيء هذا الذي أصابني ؟ كم يصبح الأنسان أحمق أحيانا ".
ضحكت ليزا وقالت:
" أي أحمق هذا , أنا لا أرى أية حماقة في هذا الموضوع , في الحقيقة أرك ذكية تماما".
" آه".
" لست حمقاء لأنك تجاهلت علائم الحب التي أعترتك , متظاهرة أنك لا تحبينه , في حين بدأت تشعرين بهذه العاطفة وتحاولين تجاهلها , لقد أعترفت بالحقائق لنفسك , وتستطيعين الآن أن تدرسيها".
ردت جاكلين:
" رجاء! أخبريني كيف؟".
" لنتحدث عن الأشياء الأولى أولا , ماذا عن دايانا؟ لم تعد على ما أظن , أما زالت صورتها ماثلة أمامه؟".
هزت جاكلين رأسها:
" لقد أنتهى كل شيء بينهما".
" أذن أنه أنسان حر الآن".
: نعم".
" أذن فما هي المشكلة الآن؟".
كانت جاكلين معجبة بتصرفات ليزا الواضحة والمباشرة , أما الآن فقد شعرت جاكلين بالأرتباك حيالها , أنتزع تحليل ليزا مشاعر جاكلين أذ شعرت أنها تنتقدها , وأنها تطرح مشكلتها كأي عملية حسابية 1+1= 2 ولكن الحب ليس هكذا , على الأقل ليس في هذه الحالة الخاصة , كررت ليزا:
" أذن ما هي المشكلة؟".
" أوه يا ليزا لا أعلم , أتمنى لو أعلم ".
أحنت رأسها ووضعت وجهها بين يديها وأردفت :
" أريده أن يبادلني هذا الحب , ولكنه لا يفعل , وبكل بساطة لا يفعل".
قالت ليزا بصوت ناعم:
" أنني أعلم ما الذي حدث بين ماتيو ودايانا , ولكن مهما حدث فأنه مؤلم حتما , لقد آلمته .... أمنحيه فرصة كي يعود لنفسه".
" وهل تظنين أنه سيحبني مع الزمن؟".
ضحكت ليزا وهي تلصق نظاراتها في وجهها مرددة شعارا قرأته على أحدى الشاحنات:
" لا تفقدي الأمل يا جاكي , أعطه فرصة كي يجمع أشلاء نفسه ,أذا كنت تحبينه فعلا , فقليل من الأنتظار لن يؤذيك".
همست في سرها :
" قليل من الأنتظار لا يؤذيني كيف؟ وأنا أشعر أن غيابه عدة أسابيع قد طال , كان المكتب موحشا ومملا أثناء غيابه , لقد أفتقد الجميع غيابه , كأنه وحده سبب كل نشاط وفاعلية".
حاولت في البداية أن تحيي الجو ألا أن كل الموظفين عبروا عن أستيائهم وتناقص حماسهم , ولهذا أوقفت جاكلين محاولتها.
ذهبت الى السرير في وقت مبكر حيث قرأت لمدة أطول مما أعتادت , تناولت الطعام مع ليزا وزوجها مرتين وكان هذا أمتدادا لحياتها الأجتماعية , لو كان ديفيد هنا ... أخذت تفكر ولكنه ما زال في نيروبي , كل يتمتع بأوقاته ألا هي.
وكي تزداد الأمور تعقيدا لم تسر الأمور على ما يرام أثناء غياب ماتيو , فقد مرضت بيشنس وتوقفت عن آداء عملها ,كما توقفت الثلاجة عن العمل , والثلاجة الكبيرة كانت ممتلئة بالسمك , ودجاج الحبش , والأرانب , فأخذت جاكلين تسعى من هنا الى هناك طوال صباح يوم الأثنين علها تجد متسعا في أحدى الثلاجات , أودعت قسما من الأطعمة لدى ليزا , ثم أودعت البقية في ثلاجة ديفيد , بعد أن أمضت ثلاث ساعات تبحث عن مفاتيح شقته , وأخيرا وبعد عدة مكالمات , أتى الميكانيكي , وسحب الثلاجة فوق سيارة شاحنة صغيرة.
ومضى أسبوع لم تتلق جاكلين أي مكالمة من شركة التبريد التي تتدعي أنها ذات خدمات سريعة , مما أضطرها أن تذهب الى الورشة لتتأكد بنفسها.
فأجابها السيد آزو :
" أننا نبحث عن القطعة الناقصة ".
مؤكدا أن نصف موظفيه قد قلبوا المدينة بحا عنها ليلا نهارا دون جدوى.
فسألته:
" هل أستطيع أن أدون مواصفات القطعة الناقصة ,ورقم موديل الثلاجة ... الرقم المتسلسل ألخ.".
أحضر لها القطعة وأخذ يملي عليها ما تريد , أخرجت جاكلين دفترها وقلمها وسجلت ما تريد من معلومات بشأن القطعة , وعندما عادت الى مكتبها , أرسلت برقية الى نيويورك , تطلب منهم شراء القطعة وأرسالها مع ماتيو ,ومن حسن حظه فأن القطعة صغيرة.


لم يكن بقاؤها بلا ثلاجة أمرا مستحيلا فقد تكيفت مع ظروف أصعب من هذه
تنهدت وهي تنظر الى كدسة الأوراق التي على مكتبها , فقد تأخرت بدراسة الملف المالي , حاولت جاهدة أن تضبط أمور الملف المالي ولكن دون جدوى , وعندما عادت ظهر أحد الأيام لتناول طعام الغداء , أخبرها كويسي أن المكواة قد أحترقت , فشعرت بحاجة الى الصراخ , قالت بسرعة وهي تبتلع طعامها:
"سأتدبر أمرها فيما بعد".
وفي المكتب عادت لدراسة الملف المالي وتابعت عملها , ولمل أشارت الساعة الى الرابعة بعد الظهر , وجدت أنها لم تستطع أنهاء عملها , أذ كان الخطأ في الحسابات ما زال كما هو , خرجت من المكتب غاضبة , ولم تعد ترى أي رقم آخر بعد ذلك , وفي المنزل أمسكت بالمكواة وهي في حيرة من أمرها , ماذا ستفعل بها , تذكرت أنها شاهدت محل كهربائي في نهاية الشارع لا يبعد كثيرا عنها , أخذتها اليه وأصلحتها وأعادتها الى البيت .
أنهكها التقرير المالي , فأحضرته معها الى المنزل , علها نهيه في تلك الأمسية , جلست الى مائدة الطعام الكبيرة التي تغطت بأوراقها الكثيرة , وعادت لتتفحص كل رقم لديها مرة ثانية , يجب أن يكون هناك غلطة حمقاء في مكان ما .
وأخيرا وجدت الغلط في تقرير النفقات الصادر عن ماتيو: تراقصت الأرقام أمام عينيها ,وهمست لنفسها وهي تشعر بخيبة مريرة ,آه منك يا ماتيو , ألا تستطيع أن تتركني وشأني حتى وأنت بعيد... دفعت بالأوراق جانبا ووضعت رأسها بين يديها.
عاد ديفيد من كينيا الى غانا قبل أسبوع من قدوم ماتيو , حاملا معه لجاكلين الكثير من الهدايا كالقهوة , والجبن , وقطعة قماش وسجادة من جلد الدب لم تستطع جاكلين عندما رأتها أن تكتم دهشتها , فقالت بنفس متقطع:
" أوه ديفيد ما هذا ؟ لماذا جلبت كل هذا؟".
أشرق وجهه بالأبتسام :
" بكل سرور , أن قطعة القماش رشوة كي تصنعي لنا فطيرا بالجبن مع بعض القهوة المنشطة م لدعوتي لتناول العشاء في وقت آخر طبعا".
أمسكت جاكلين بالقماش كي ترى ألوانه الباهرة وأردفت:
" أنه رائع يا ديفيد.... لن أعثر عل ما يماثله في الأسواق هنا".
فأجابها وهو يحاول أن يستفزها:
" يفصل بين غانا وكينيا قارة بأكملها".
حاولت جاهدة أن تلتزم الصمت فلم تفلح فأجابته:
" أعلم هذا ولكنني أردت أن أبدي ملاحظة فقط".
ثم طوت قطعة القماش ووضعتها جانبا وسألته:
"هل أعد لك طعاما , ليس لدي الكثير لأن ثلاجتي لا تعمل هذه الأيام".
" لا , أشكرك , أتيت كي أصطحبك الى العشاء , وأحدثك عن رحلتي , لقد أصطدت ثلاثة أسود فطاردتها قبل ثم أبتلعتها الأحصنة".
أجابته وهي تستوعب تماما هذه الطرفة:
" ولكنك نسيت الأفاعي , والقردة ( هزت رأسها وتابعت) آسفة يا ديفيد ستجد هذه القصص المثيرة أهتماما أكبر في الوطن حيث يتوفر لديك جمهور ساذج هناك".
" كم تفسدين متعتي".
" هل كينيا جميلة كما يقال؟".
" أنها عظيمة وساحرة , نعم أنها جميلة ,حسّني من مظهرك قليلا لنخرج".
تأخرت طائرة ماتيو , أنتظرتها جاكلين بعصبية لم تشعر بها في أي وقت مضى , كان المطار مكتظا وصاخبا وفوضويا , والطقس حار رطبا , حتى عندما وقفت خارجا على شرفة المطار كي تشاهد الطائرة عن كثب بم تشعر بأي نسيم عليل.
حطت الطائرة أخيرا , حملقت جاكلين جاهدة في جميع المسافرين وهم يهبطون سلم الطائرة ,ومشت الى نهاية الممر , لم تر ماتيو , ترى أين هو أذن؟
أنتظرت حتى خرج آخر مسافر من قاعة الجمارك , أستسلمت للأمر عندما وجدت أن المطار غدا مهجورا , لم يأت , لم يكن على متن الطائرة , زمجر الأستياء في داخلها , فعادت أدراجها الى سيارتها , تشعر بالهزيمة وهي حزينة , لن تأتي أية طائرة من نيويورك قبل الأسبوع المقبل .
مضت ليلتان وبينما كانت جاكلين تنعم بنوم هادىء , سمعت قرعا خفيفا على مكيف هواء غرفتها وصوتا يهمس:
" جاكي ... أفتحي لي ... أنا ماتيو".
وبسرعة بحثت عن عباءتها فلم تجدها ... في الغسيل لا بأس , ركضت الى الباب وقلبها يقفز بين ضلوعها.
" أنني آسف أضطررت أن أوقظك , ولكن مفتاحي ليس معي , ولم أجد كويسي في المنزل".
تخطاها الى غرفة الجلوس , قالت وهي تتوق أن تعانقه:
" لا تهتم لذلك".
لكنه تابع سيره دون أن يتوقف , مشى الى الباب الواصل الى غرفة الجلوس الرئيسية , ووضع حقيبته على أرض الغرفة بدون أن ينظر اليها مرة أخرى ,تبعته الى الغرفة:
" من أين أتيت يا ماتيو؟".
" من لندن".
"لندن!".
" أجل كان لدي مقابلة مع بعض رجال المصارف من أجل برنامج الأعتماد المالي , تقرر الأجتماع في آخر لحظة , ولم يكن لدي وقت لأعلمك بذلك , آسف لأنك ذهبت الى المطار يوم الثلاثاء بدون جدوى".
" لا يهم".
فرك عنقه وقال:
" يا ألهي ما هذه السفرة؟ كان المفروض أن أصل الى هنا قبل ساعات , ما أن حان وقت هبوط الطائرة حتى أنقطعت الكهرباء , فأضطررنا للعودة الى أبيدجان , حي مكثنا في مطارها ما يفوق الساعة الى أن أصلح التيار الكهربائي ".
بدا مرهقا.
" هل أحضر لك شيئا تأكله أو عصيرا تشربه؟".
قال وهي متأكدة أنه لا يشعر بوجودها:
ط لا أشكرك , أنني بحاجة الى النوم فقط , ما الأخبار هنا؟".
" حسنة ,لم نواجه الكير من المتاعب".
منتديات ليلاس
" سأستحم وأذهب الى الفراش , وسنتكلم في الغد".
أدار وجهه وذهب الى غرفته , جلست جاكلين على الأريكة ر تستطيع الحراك , لم ينظر اليها , كم تمنت أن تنكر ما أصابها من خيبة مريرة , ماذا كانت تتوقع أذن؟ حتما لم تتوقع أن يعانقها ويضمها بعاطفة قوية , لم تشعر كم مضى من الوقت عندما عاد الى غرفة الجلوس مرتديا قميصا أبيض وسيرا جلديا.
" هل ما زلت هنا ؟ ظننت أنك عدت الى سريرك".
" ليس لدي رغبة في النوم".
خفق قلبها بشدة عندما جلس الى جانبها.
" وأنا كذلك , أنعشني الحمام , شعرت بالحيوية الآن".
خلل أصابعه بين شعره وضحك:
" كنت في طريقي للمطبخ لأحضر كأسا من الشراب , هل تريدين كأسا منه؟".
" لا شكرا , لا يوجد لدينا شيء بارد".
" حسنا , سأشرب قهوة , لقد أحضرت قطعة الثلاجة معي".
أحضر القهوة وقال:
" لم تحص أية مأساة في غيالي أذن؟".
" لا , مرضت بيشنس وغابت عن العمل لمدة أسبوع , تعطلت الثلاجة , وتوقفت المكواة عن العمل , وأستغرق تنظيم التقرير المالي ثلاثة أيام".
ولم تضف أن السبب بعود الى خطأ أرتكبه هو.
" هل هذا كل شيء , أنني متأكد أنك لم تنسي شيئا".
ضحك , فلم تستطع جاكلين النظر في عينيه ,وبيد مرتجفة أمسكت فنجان قهوتها.
" هل أنت بخير يا جاكي , أرى أنك ترتجفين".
أخذ الفنجان من يدها وأمسك بوجهها , ونظر اليها قائلا:
"أخبريني هل هناك شيء؟ هل حدث مكروه؟".
" لا ..... لا".
أجلبته وقلبها يخفق بشدة حتى أنها كانت واثقة من أنه يسمعه , أنها مشتاقة اليه , الى نظراته ولمساته , لم تستطع كبح جماح عواطفها فأغلقت عينيها.
وقالت:
" عانقني يا ماتيو".
أتى صوتها هامسا .... لم تستطع مقاومة عاطفتها أتجاهه , أنها بحاجة اليه... عانقته بذراعيها , وعانقها بدوره بحب وشوق يعجز الخيال عن وصفهما , أنه بحاجة مماثلة اليها , لم تفكر بشيء سوى بموجات الحب والأشتياق الجامحة التي غدت كموجات الألم , دام أنسجامهما لدقائق, وشعرت بيده تعانقها بحب , وفجأة وبعنف وقسوة ومرارة أبعدها عنه...
"ماذا تظنين أنك اعلة؟".
أتت كلماته كالصاعقة فوق رأسها , ودار العالم من حولها ... شعرت أن الألم يسحقها.... تجمدت أوصالها .... خافت من عاطفتها التي لا تقاوم ,حملقت في وجهه فرأته قاسيا , وتلاشى الحب من نظراته لتصبح باردة وداكنة ,كانت ترتعد , وتشعر بالأشمئزاز من نفسها خجلا , غصت الكلمات في حلقها , أنها لا تستطيع أن تصلح الأمر الآن , أرادت أن تهرب .... أن تموت .... أن تدفن في التراب , وقف ينظر اليها من برجه العالي قائلا:
" أشكرك لهذا العرض.... أشكرك لما قدمته لي ... لكن لا.... ليس لي ألا أن أشكرك".
وغادر الغرفة.



سفيرة الاحزان 09-05-10 04:21 PM



8- لا.... لا تخدعني
لم تعلم جاكلين كيف وصلت الى سريرها , كانت ترتجف من الأهانة , وكاد ضيق صدرها يمزقها , أنهمرت دموعها بغزارة ,وبللت وجنتيها الى أن أستقرت على الوسادة , آه يا ألهي! ماذا فعلت؟ وكيف حدث هذا؟ لا لن أستطيع مقابلته بعد الآن , كان عليها أن تقابله , ولا تستطيع أن تتفاداه بطريقة أو بأخرى ... ستقابله في المكتب ... وفي المنزل ... ليس بالأمر حيلة , أشارت الساعة الثالثة صباحا ... ولم تزل جاكلين منفعلة , وعصبية المزاج , حامت كلماته حول رأسها كالأشباح ... أشكرك لهذه التقدمة... لكن لا... شكرا ,ماذا كان يقصد؟ عادت كلماته مرة أخرى تقرع ناقوس أفكارها , هل يقصد أن الفتيات ذوات الأخلاق الفاضلة لا يتهاتفن على الشبان هكذا؟ وهل لهذا علاقة بحسن التربية , أنها تحبه وتسيطر جاذبيته عليها تماما فلا تستطيع مقاومته ,وبعد محاولات عديدة , داهمها نوم خفيف متقطع... ثم ما لبثت أن أستيقظت وهي تشعر بالأنهاك , سحبت نفسها من السرير , ونظرت الى وجهها في مرآة الحمام, بدا وجهها كئيبا بتأثير الدوائر التي
ظهرت تحت عينيها ,وتساءلت هل ستقابل ماتيو على مائدة الأفطار؟ عكس وجهها توقعاتها بعصبية , وبشكل لا أرادي ,جمعت قبضة يديها وبشدة وهمست لنفسها:
" أخرجي اليه , وألقي عليه تحية الصباح , ثم أجلسي في الطرف المقابل له عبر المائدة , تناولي طعامك دون أن تتكلمي كثيرا , أرفعي رأسك عاليا , وأنظري له وجها لوجه".
نرى هل تستطيع حقا أن ترفع رأسها عاليا؟ كما تملي عليها أفكارها؟ ليتها تستطيع ... أنها تريد أن تبقى تحت الملاءات , لئلا تراه ثانية ... والى الأبد.
أستحمت , وأرتدت ملابسها باذلة المزيد من الجهد كي تخفي آار حزنها , فوضعت كمية من مساحيق التجميل على وجهها , بينما بدأت معدتها تتقلص حتى أنها شعرت أنها أستحلت عقدا, بدأت قدماها ترتجفان وهي تفتح الباب المؤدي الى الغرفة الرئيسية , لم يكن ماتيو موجودا , وكان كويسي في المطبخ منهمكا بقلي البيض فسألته:
" هل شاهدت السيد سيمونز؟".
نظر كويسي اليها بأرتباك وقال:
" وهل عاد السيد سيمونز؟".
منتديات ليلاس
لم يكن كويسي على علم بعودة سيمونز أثناء الليل ,ومن الطبيعي أن ماتيو لم ينهض باكرا كالمعتاد بعد أن عاد منهكا من لندن, تنهدت بأرتياح وهمست لنفسها:
" أذن سيتأجل لقاؤنا حتى وقت آخر من هذا اليوم".
دخل ماتيو المكتب بعد عدة ساعات أنيقا ونظيفا بدون أن تبدو عليه أمارات التعب , قفز قلبها عندما رأته , وتنشقت رائحة عطره ثم قال ببرود وهدوء:
" صباح الخير , أن بريدي مليء بالأوراق , ولا أدري كيف أرتبه ,فهل لك أن تساعديني لتسجيل الأولويات".
" سألحق بك خلال دقيقة , هل تريد بعض القهوة؟".
" نعم من فضلك".
أنها علاقة عمل بينهما ... لم تعلم جاكلين كيف أستطاعت الأحتفاظ برباطة جأشها , نظرت اليه وكلمته ,وكأن شيئا لم يكن , ولكنها نجحت مهما كانت الطريقة التي أتبعتها.
مضت الأسابيع تباعا , وجاكلين مرهقة كئيبة , تعمل بنشاط كبير محاولة ألا تفكر بشيء خاص ,حتى بدت كالمخدرين , لا تعي شيئا مما حولها , فقد كانت هذه الطريقة الوحيدة التي جعلتها قادرة على التلاؤم مع الحياة من جديد.
كانا يلتزمان الصمت , أو يتكلمان عن أشياء تافهة , كلما جلسا الى المائدة , لم يلحظ ماتيو أن تصرفات جاكلين قد تبدلت , ولربما أراد ذلك.
غدت تصرفاتهما كتصرفات الغرباء , ليس لأحدهما علاقة بالآخر , يبدو أن هذا الحاجز سيبقى صامدا بينهما , لكن جاكلين بدأت تشعر بالفراغ العاطفي الكبير وكأنها من عداد الأموات , كم من مرة أجتاحتها موجات ألم نفسي حاد , عندما كانت تختلس النظر الى أصابعه القوية ذات اللون الغامق وهو يوقع الرسائل ,والى شعره الملتف حول أذنيه , أنها لا تكرهه وعلى يقين من ذلك , ولا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تكرهه , يا ألهي! ما الذي أنتابها في تلك الليلة عندما عاد من لندن ؟ ما الذي جعلها تتأمل , أو تظن أنه يكن لها الأحساس نفسه.
أنه الحب! تلك الكلمة التي حلمت بها كما تحلم الفتيات الصغيرات بأمسيات , حالمة في ضوء القمر , قبلات وورود ولمسات شاعرية في الظلام.
أمتلأت أحلامها في النهار بصورة الفرسان المدرعين ,والأمراء الأنيقين ... ثم تتابعت أحلامها لتستقر على رجل يصبح شريكا لها , رجل يحبها ويحترمها لا لجمال شعرها الأشقر , وعينيها الزرقاوين , رجل يدخل أعماق نفسها ليرى ما فيها فيقدرها.
" أنني أعرفك جيدا".
لقد همس ماتيو هذه الجملة وهما يتناولان طعام العشاء في أمسية عيد ميلادها , ولكن ما الذي يعرفه أذن؟ أنه يعرف أنها عاملة مجدة , لكنه لا يعرف أنها أمرأة ,ولم يشر الى هذالأن أنوثتها لم تثره , أذن لماذا عانقها بعطف وحنان؟
أخذ أضطراب جاكلين بالأزدياد , كلما فكرت بالأمر , وماذا بدر منها ؟
لم تكن واثقة من شيء سوى حبها لماتيو , أنه الشيء الوحيد الذي لن يتغير , أحبته , ولكنها لا تستطيع أن تفهم خيبة أملها , أنه الرجل الذي تريده , وتريد أن تشاركه حياته.
أن حماس ماتيو لعمله , وأهتمامه بالذين حوله , كانا دوما مصدر أعجابها , أنه يكافح ويناضل ليساعد الناس , أنه رجل حنون , بل أنه رجل بكل ما في هذه الكلمة من معنى , لقد أيقظ في داخلها أحساسا لم يشعرها به أحد من قبل , وأيقظت لمساته مشاعرها الدفينة التي أخذت تزمجر في داخلها طالبة المزيد من الحب , أنها تشعر بحبها يزحف في داخلها كالألم العميق , أغمضت عينيها طاردة جميع الأفكار الأخرى من رأسها... يجب أن تعتاد الحياة بدون ماتيو , وبلا حبه.
دعاهما ديفيد الى حفل في منزله , وحاول أن يتكلم مع جاكلين عندما شعر أن حزنا ما يلوح في الأفق , وبعد أن غادر الضيوف منزله , قال لها:
" لن تستطيعي يا جاكي أن تقنعيني بأن شيئا لم يحدث , فأنا واثق أن هناك شيئا ما قد حصل وألا لما ظهرت وكأن الحياة قد سلبت منك".
أجابته بصوت حزين:
" لا أستطيع أن أتكلم عما يؤرقني يا ديفيد؟".
" لا تنسي أنني صديقك".
" أنا ... أنا...".
سحقها حزن مفاجىء , فأرتعش صوتها , وتلاشت رباطة جأشها , حام وجه ماتيو حول ناظريها ... وكأن صوته جاءها من مكان بعيد:
" أنك جميلة يا جاكي ... أنك جميلة بشكل خاص ".
شعرت بذراعيه حولها.


لم تكن تلك ذراعي ماتيو ... بل ذراعي ديفيد, همس:
" جاكي جاكي ".
ضمها اليه وهو يمسح شعرها بيده.صرخت أعماقها ... لن أبكي ...لا لن أبكي , فضغطت على حنجرتها , لتحبس صوتها فآلمتها , وأحترقت الدموع في مقلتيها .
وبعد لحظات هدأت , ورأسها فوق كتف ديفيد , ومع أنها أدركت أنها لا ينبغي أن تفعل ذلك , لكنها لم تهتم , أخيرا رفعت رأسها وقالت:
" آسفة يا ديفيد".
" لا تعتذري يا جاكي , أبعد شعرها عن وجهها , وأنحنى يعانقها فلم تقاوم .
ليته كان ماتيو ... لا لم يكن ماتيو من يعانقها ... أنه ديفيد , ديفيد الذي كان وما زال لطيفا ودودا دائما , وهو صديقا ويفهمها جيدا , ليتها تحبه لأنتهى الأمر بكل بساطة ,ولكنها لا تحبه كما ينبغي أن تحب المرأة الرجل , أبتعدت عنه وقالت:
" يجب أن أذهب الى المنزل".
" لماذا لا تبقين هنا يا جاكي؟".
أنتابتها موجة أغراء ما لبثت أن زالت :
" نعم لم لا أبقى! لا يوجد عدد كثير من الرجال ممن لهم صفات ديفيد , سيكون لطيفا وأنيسا كما أنه يستلطفني وأنا كذلك".
لا أن هذا لا يكفي , أنها ليست بحاجة الى هذا الآن فردت مبتسمة :
" لا أستطيع يا ديفيد , ليس من اللائق أن أبقى".
" أنك أعند أمرأة ألتقيت بها في حياتي ".
هز رأسه:
" تعالي سأقودك الى المنزل".
وفي سكون الليل , وما أن جلست في السيارة الى جانب ديفيد , حتى أنتابها شعور بأن شيئا ما سيحد , لن تستطيع جاكلين الأستمرار هكذا , وهي تشعر بالخواء عاطفي في نفسها.
أوصلها ديفيد الى البوابة الكبيرة , طبع قبلة على خدها , وتمنى لها ليلة سعيدة.
أغلق علي الباب وراءها , وما أن وصلت الى غرفتها , حتى وجدت الباب المؤدي الى حجرة الجلوس مفتوحا على مصراعيه , كان ماتيو واقفا أمام الباب كالبرج يحملق فيها ... زفجأة شحن الجو بالتوتر , وساد الصمت , بدد غضبه السكون , وقال بلهجة عنيفة وكأنما صفع جاكلين على وجهها:
" أين كنت حتى هذا الوقت من الليل؟".
نظرت اليه محاولة أن تهدىء من روعها:
" لا علاقة لك بهذا".
أجابها وهو يتأملها بأزدراء من رأسها حتى أخمص قدميها:
" أستطيع أن أخمن بنفسي ".

وتابع وهو ينظر الى ثوبها , وأقراطها المتدلية من أذنيها .
" الساعة الثانية من صباح يوم الأربعاء , هل تعلمين هذا؟ هل كنت تسحرين أحدا؟ أم تتعشين معه مرة أخرى؟".
جفلت جاكلين لدى سماعها صوته المزمجر:
" أذا كنت تسمح لي فأنني سأدخل الى غرفتي لأنام".
وما أن خطت نحو غرفة نومها , حتى وقفت مذعورة ومتسمرة في مكانها , فقد شعرت بيده القوية تقبض بشدة على ذراعها , حاولت أن تتحرر منه فلم تستطع فصرخت:
" أتركني ".
تفجر الغضب في وجه كل منهما , وشحن الجو بينهما بمزيد من التوتر الغاضب , وتطاير الشرر , فقال وهو يضبط صوته:
" أتتك مخابرة هاتفية الساعة الواحدة ليلا , ذهبت لأوقظك فلم أجدك في سريرك".
أعتراها خوف مفاجىء ... مخابرة بعد منتصف الليل , لا بد أن هناك كارثة ... مخابرة من أميركا ... هل أاب والداها أم جدتها أي مكروه؟ فسألته:
" ومن كان المتكلم؟".
" لا أعلم , لم يعطني الأسم , أعتقد أنه أحد أصدقائك الشباب المعتوهين".
وعندما وصلت لأرفع السماعة كان قد غير رأيه , وأقفل الخط".
سرت في أوصالها الراحة ... لو كانت مخابرة دولية لأدرك ذلك .
" آسفة لأزعاجك في مثل ذلك الوقت".
" ليست المسألة مسألة أزعاج , المشكلة الحقيقية هي أنك لم تكوني في فراشك , وقد تجاوزت الساعة الواحدة ليلا , ظننت أنك مطروحة في أحدى القنوات تعانين من سكرات الموت , أو دهسك أحد سائقي سيارات الأجرة المجانين, لا تستطيعين أن تتصوري بماذا كنت أفكر".
لا ... لم تستطع جاكلين أن تشاركه مخاوفه , لأن هناك أماكن أخرى من الممكن أن يكون قد فكر فيها كبيت ديفيد مثلا.
ردت جاكلين ببرود:
" أنني مسرورة من أعماقي لأهتمامك هذا... دعني أنام الآن".
ودون أن يتفوه بكلمة , أدار ظهره وخرج صافعا الباب وراءه , فدوى صوته في أنحاء المنزل.
جلست جاكلين على الشرفة , تحاول أن تقرأ كتابا بعد ظهر أحد الأيام من منتصف تشرين الثاني , لم يجذبها الكتاب , بل سرحت تتأمل الأزهار , وألوان الحديقة الخضراء المتعددة , كم تحب هذا المكان , وأن فقد كل شيء ضياءه وبريقه هذه الأيام.
أمضت جاكلين أيامها التالية ,وكأنها لعبة أوتوماتيكية تحاول ألا تشعر , أو تفكر , أنما تقوم بالأعمال الواجب تأديتتها دون أي أهتمام , ولكن ما أن تخلد الى هدوئها , وتعود الى نفسها في مثل هذه اللحظات , حتى كانت الأسئلة تطاردها كالأشباح , لماذا أحبت ماتيو؟ ولم لا تحد من تفكيرها وتنساه؟


أن الحب يضفي أشراقة على حياة المحب , ويجعله يتوهج بالسعادة , لكنها مع الأسف لا تشعر بهذا , أجل , للحب حلاوة ولكن ليس في جميع الأحوال , أن حبها حزين , ويملأ نفسها ألمل , فكلما شاهدت ماتيو أو سمعت صوته , أو فكرت به , تشعر بالحزن العميق فمتى ستتخلص من هذا الشعور؟
طقطقت داجات كويسي في الخار ج , وأخذت تتطاير لتقف على الجدار الذي يفصل حديقتها عن حديقة الجيران , سمعت صوتا بعيدا , وما لبثت سيارة ديفيد أن وقفت عند البوابة الكبيرة , نظر اليها بتكشيرة عريضة , وشعره الأشقر يتلألأ , بدا رائعا بلباس الجينز والحذاء البلاستيكي .
منتديات ليلاس
" مرحبا يا حلوة , هل أنت مشغولة؟".
" لست مشغولة , أجلس هل تريد شرابا باردا أم قهوة؟".
"أفضل شايا مثلجا من فضلك".
قفزت جاكلين بسرعة الى المطبخ حيث جبت الأبريق والكؤوس وفاجأها قائلا:
" لدي أخبار سارة أريد أن أزفها لك , فأنت أول أنسان يجب أن يعلم بها".
" أجبرني , أخبرني".
أجابت بحماس.
" لقد نلت ترقية في عملي , وسيرسلونني الى الفيليبين ".
حملقت في وجهه وقالت:
" الفيليبين؟".
" نعم يا جاكلين , سأغادر في الشهر المقبل".
" أوه يا ديفيد!".
" ألست فرحة من أجلي؟".
" نعم , ولكنني سأفتقدك".
" وأنا أيضا يا جاكي ".
حملقا ببعضهما بعضا , أنهما يعنيان ذلك , وبصوت منخفض سألته:
" ما بك يا ديفيد؟".
نظر اليها نظرة طويلة وأجاب:
" لا , لا شيء يا جاكي , لم نحصل معا على ما نريد".
" ليتنا أستطعنا".
" يا ليت".
" كم تمنيت أن أحبك بدوري , وأذهب معك الى الفيليبينو....".
حانت حفلات الوداع , ودعيت جاكلين وماتيو الى معظمها , فكان كل منهما يذهب بسياته وحيدا ويعود كذلك, أقامت ليزا في منزلها حفلا تشكريا , دعيت جاكلين اليه , في حين لم تعلم جاكلين عن ماتيو شيئا , وأين يمضي ذاك المساء.
أقام أحد أصدقاء ديفيد حفلا في بيته الريفي على الشاطىء , كان كريما أذ أنار الشاطىء بمصابيح على البطارية , وقدم طعاما فرنسيا باهظ التكاليف , أحضره من توغو, أمتلأ الشاطىء بالرقصات والأنغام الموسيقية , وقد أحضر بعض المدعوين ملابس السباحة , وقفزوا فوق الأمواد يسبحون ويمرحون , أرتدت جاكلين ثوب سباحتها ... وقفزت في البحر بتردد... أنها لا تحب أن تسبح ليلا , فقد كان الظلام حالكا , والتيارات شديدة , لم تستمتع بالحفل , لأنها لا تعرف معظم المدعوين , ولم تكن لديها الرغبة في التعرف على أحد منهم , بل لم تكن لديها الرغبة في أن تفعل شيئا في الآونة الأخيرة.
أبتعدت عن الناس والأضواء والضحكات , وجلست وحدها بعيدة على زند شجرة قرب مياه الشاطىء , لم تستطع الأبتعاد أكثر , فقد كان الظلام شديدا , وهي منهكة القوى .
كانت تنظر الى أفق البحر الأسود المخدرين , وتستمع الى صوت أرتطام الأمواج العالي على الشاطىء ,وتنظر الى زبد الموج المتلألىء تحت أشعة القمر.
أحست فجأة أن أحدا يقترب منها... ولم تتعرف اليه ألا عندما لاح خياله الطويل ,ووقف مخيما أمامها كالبرج.
" جاكلين؟".
" ماتيو".
أمتزج الألم مع دقات قلبها المتسارعة , لماذا الرعشة والخوف؟ مم تخافين؟ أنه ماتيو .... همست ماتيو.
جلس الى جانبها على زند الشجرة وقال:
" أريد أن أتحدث اليك يا جاكي".
" لا أريد... أنني هنا في حفل وأو الأستمتاع به".
" ليس الحديث عن العمل .... ليذهب العمل الى الجحيم".
م تجبه بل تقلصت كل عروقها , وأخذ قلبها ككرة الطاولة يقفز بجنون من مكان لآخر.
" لم تنظري ألي , ولم تكلميني منذ أسابيع , ولم أستطع الأنفراد بك , فأحيانا يعترضني كويسي , وأخرى بيشنس , أو أي شخص آخر".
" لا أريد أن أكون وحدي معك ".
لم تشعر أن صوتها ممتلىء بالخوف , وبدا الغضب واضحا في كلماتها.
" لكنني أريد أن أكون وحيدا معك".
أمسك بكتفيها , وجذبها اليه بعنف, تسللت يداه حولها , وقبل أن تدرك ما حدث كان يعانقها بعنف , كانت تشعر به , يقترب منها , فأجتاحتها موجة من الذعر , لن تدع المأساة تتكرر ... لا لن تدعها ... أبعدت وجهها عنه بعنف وقالت:
" لا تلمسني ... لا تلمسني أبدا بعد الآن".
لكن ذراعيه طوقتاها بشدة ولم يدعها تذهب.
تدفقت ذكريات تلك الليلة في ذهنها عندما عاد من لندن , وحز في نفسها الذل الذي عانته , لم تشعر به وكأن كل أحساس أتجاهه قد أختفى فجأة ,ولم يبق لديها ألا الألم والمرارة , التي شعرت بهما في تلك الليلة , والهستيريا التي أخذت تتصاعد في أعماقها لدى كل لمسة من لمساته , لا أنها لا تريد أن يلمسها ... أنها لا تريد , صرخت:
" دعني أذهب دعني".
حاولت أن تحطم أغلاله , لكنه أمسكها بعنف وكأن ذراعيه طوق من حديد , وكلما حاولت الأبتعاد عنه ,كلما ضمها اليه بعنف أشد .
" أهدأي يا جاكي , أهدأي".
أمسك بكتفيها , وأخذ يهزها بعنف , سرت رجفات غريبة في أوصالها , وأدركت أنها كانت تشهق ,ولم تستطع أن تكبح جماح نفسها , كان البحر يزمجر في أذنيها , وبمحاولة يائسة أخيرة أستطاعت أن تحرر نفسها أو أنه تركها , وبخطوات متعثرة هربت منه تتلمس طريقها في الظلام عائدة الى البيت , فتحت الأبواب , فوجدت غرفة نوم , رمت نفسها فوق أحد الأسرة تشهق بحركات لا أرادية , وما أن مضت لحظات حتى كان ديفيد يقف الى جانبها والقلق باد على وجهه .
" جاكي بحق السماء ماذا حصل؟".
" لا شيء؟".
وأشاحت بوجهها عنه :
" لا شيء .... أتركني وحدي رجاء".
" لقد دخلت الغرفة وأنت تبكين , كأن العالم قد أنتهى , وتقولين ليس هناك شيء".
قرب المصباح الموجود على المنضدة منها حتى يراها بوضوح أكثر.
" ما هذا؟".
لمست أصابعه ظهرها , كانت لمسات ماتيو واضحة , وتحت نظراته الفاحصة شعرت جاكلين أنها بثوب السباحة .
" لا شيء .... لا شيء".
" هل حاول أحد أن ... جاكي أخبريني ".
" لا ... لا ... ليس كما تتخيل , ليس شيء من هذا القبيل يا ديفيد ".
سمعا طرقا خفيفا على الباب فأستوت جاكلين في جلستها .
" لا تدعه يدخل يا ديفيد .... لا تدعه ".


خرج ديفيد من الغرفة في اللحظة نفسها ., سمعت أصواتا عالية ومضطربة ثم غدت خافتة , لم تسمع كلمة واحدة مما قيل , أضطجعت بظهرها على الوسادة وهي تشعر بتقلص في جسمها , بدا الوقت طويلا قبل أن يعود ديفيد وحده الى الغرفة.
قدم لها كوبا من العصير المثلج , أخذت تشربه ببطء دون أن تنظر اليه :
" هل كان ماتيو بالباب هنا؟".
ساد صمت قبل أن يجيبها:
" أجل أنه ماتيو ".
" لم يحدث ما تخيلت يا ديفيد".
" لا , أنني أعلم ".
لن يخبرها ديفيد عن حديثه مع ماتيو , ولكن الأمر لا يهمها , أنعشها العصير , وهدأ من روعها , فتركها ديفيد كي تعود الى الحفل , أطفأت المصباح , وحملقت في الظلام , فلم تر ألا عقدة الناموسية التي أضاءها ديفيد , كانت أصوات الموسيقى , وضحكات الحضور تتهادى اليها عبر النافذة على أجنحة النسيم .
فكرت مليا وأخذت تخطط ماذا ستفعل.
يجب أن أذهب... لن أتحمل أكثر من ذلك , يجب أن أغادر هذا البلد , وأطلب نقلي الى بلد آخر , لا أستطيع العيش هنا .
عاد ديفيد بعد حوالي الساعة الى غرفتها , وقد جلب لها ملابسها , وقال سأصطحبك الى المنزل فقد حان وقت العودة ".
هزت رأسها .
" لا , لقد أتيت بأحدى سيارات المكتب وسأعود بها , لم آت مع ماتيو ".
" ستأتين الآن معي , وسنعيدها يوم غد الأحد".
خرج ليتيح لها المجال كي ترتدي ملابسها .
لم يتفوه بكلمة أثناء الطريق الى المنزل , سافر ديفيد في الأسبوع الذي سبق عيد الميلاد الى أميركا واعدا أياها أن يزور والديها , كم تمنت أن تذهب هي أيضا , كي تبعد عن أكرا وعن ماتيو , لم تعلم كيف ستمضي الأسابيع المقبلة ريثما يوافق مكتب نيويورك على نقلها , ويرسل لها أشعارا بذلك حيث ستخبر ماتيو.
حان وقت رياح الهارمتان , وهي رياح شمالية شرقية تهب على أفريقيا , فتكسو السماء برداء من الغبار الرمادي المصفر تحجب الشمس , وتزيد من أرتفاع الحرارة , أصبحت جاكلين متألمة من أنفها وفمها من الغبار , لم يغير هذا الجو الكئيب من حالة جاكلين النفسية , ألا أن الشمس بدت بشحوبها وكآبتها تشبه حياة جاكلين الى حد كبير .
أقامت عائلة تورنر بمناسبة الأحتفال بعيد الميلاد حفل عشاء , أحضروا له ديك حبش من كينيا , ساعدت جاكلين ليزا بتحضير المستلزمات , وبينما كانت ليزا وجاكلين تعملان بالمطبخ سألتها ليزا:
" أعلم أنه ليس من شأني أن أسألك عن هذا التغيير الذي طرأ عليك؟".
" أنه الهارمتان ألا تعلمين تأثيره على الناس ".
قالت جاكلين ببساطة , أنه يغير من نفسيات الناس فيصبحون كالمجانين.


نظرت ليزا اليها وقالت:
"أنظري الى نفسك , لقد نقص وزنك , كما أنك تبدين تعسة , ومنغلقة على نفسك كصدفة البطليموس , ماذا حصل بينك وبين ماتيو يا جاكي؟".
لم تقل جاكلين أية كلمة , بل أخذت تحملق بغباء في علبة الزعتر التي بين يديها ,وفجأة قفز شيء ما بداخلها وتدفقت كلماتها:
" آه يا ليزا , ليس كل شيء على ما يرام ... لقد كنت غبية جدا وقررت أن أترك هذا البلد, لم أعد أحتمل أكثر من هذا .يجب أن أرحل ".
أفضت عما يدور في أعماقها , ها هي أخبرتها بما قررت , لا بأس فليزا صديقتها , سألتها ليزا وقد هوت يدها على المنضدة الطويلة:
" أنت.... ماذا؟".
" سأقدم أستقالتي ".
" لماذا؟".
" لأنني لا أحتمل وجود ماتيو حولي أكثر من هذا , أنه لا يريدني , كان الشهران الماضيان مزعجين للغاية , أننا لا ننسجم ونتشاجر بصورة مستمرة".
ترقرقت الدموع في عينيها ثم أنسابت فوق وجنتيها :
" أنك تحبينه يا جاكي".
" أعلم , أعلم ذلك لكنه لا يريدني ".
وضعت ليزا يدها فوق كتفي جاكلين , وسحبتها بأتجاه غرفة الجلوس قائلة:
" أنه يظن بأنني فتاة رخيصة ".
" ولماذا يظن ذلك؟".
" حسنا , آه يا ليزا .... ماذا أخبرك؟ شيء مخيف أنني محرجة تماما".
" أخبريني ما هنالك".
أخبرت جاكلين ليزا بما يؤرقها , تدفقت الكلمات واحدة تلو الأخرى , كانت جاكلين تنظر الى الأزهار وهي تحدث ليزا , دون أن تنظر اليها , وبعد أن أنهت جاكلين حديثها قالت ليزا:
" الأفضل أن تخبري ماتيو أنك تودين أن تغادري أكرا".
لم تلاحظ جاكلين أنها جمعت قبضة يدها , كانت صورته تلوح أمامها , عضت شفتيها وهزت رأسها بيأس:
"لن أخبره حتى يأتي الأشعار من المكتب بنيويورك".
لم يلق طلب جاكلين بالنقل من غانا الى النيجر أي حماس لدى المسؤولين في نيويورك.
أرتجفت يدا جاكلين وهي تتابع قراءة الرسالة.
" أننا بحاجة اليك في غانا لأنك تقومين بعملك بشكل ممتاز ولا نريد أن نخسرك هنا".
ومع أنها تعلم هذا ألا أنها تمنت لو نظروا الى الأمر بشكل جدي ,وبينما كانت تتابع القراءة لاحت الموافقة بين السطور.
وبما أن البرنامج في النيجر أتسع بشكل يثير الأهتمام في العام الماضي فأننا بحاجة الى موظفين آخرين , ونظرا لأن جاكلين تتمتع بخبرة أكتسبتها في غانا , ونظرا لأنها تجيد الفرنسية ,فأنها بالتأكيد تستطيع أن تملأ الشاغر.
ولكن رجاء , مضت الرسالة تقول , هل تعيدين النظر في طلبك؟ لأن تدريب شخص آخر في مكانك سيضيف عبئا أضافيا فوق كاهل السيد سيمونز.
" أنني لا أهتم".
فكرت جاكلين بمرارة ."
ليتعذب قليلا , فأنه يستحق ذلك ".
ثم تابعت الرسالة: أننا لا نعلم المشكلة التي تواجهينها هنا ,ولكن أن كان حلها بأيدين , فالرجاء أن تعلمينا بذلك.
حسنا, أنهم لا يستطيعون حل مشكلتها هنا , ولكنهم يستطيعون توظيفها في النيجر , وسينقلونها الى هناك , أن لم تغير رأيها , هذا كل ما كانت تتمنى أن تعرفه.
أعادت الرسالة الى المغلف , وتنفست الصعداء.
يجب أن تخبر ماتيو الآن , خالجها شعور بالأضطراب والدفء وعندما فكرت به , لا لن تخبره الآن وقد تفعل بعد الظهر , أن ماتيو يمضي نهاره في مشروع النعاج , ولن يعود قبل السابعة أو الثامنة مساء.
تناولت عشاءها مبكرة , ثم جلست في غرفة الجلوس تقرأ كتابا , وترشف فنجانا من القهوة , لم تستطع أن تقرأ , كانت مضطربة وعصبية المزاج , وكلما سمعت صوت سيارة عند المنعطف زادت خلجات قلبها.
وبينما كانت تفكر أدركت فجأة وبوضوح أن هذه ستكون النهاية , أن ذهابها للنيجر سيضع حدا لكل هذا , سيخمد بصيص الأمل الذي أخذت ترعاه بين حناياها , سيخرج ماتيو من حياتها ولن تراه ثانية , ولكنها ستستمع الى أخباره عن طريق الشركة.
تصورت نفسها في النيجر ... في مدينة جديدة ... ومكتب جديد , ورئيس جديد وبدية جديدة , لن أكون سعيدة , تملكها شعور غريب , سأرثي نفسي وأبكي لفترة , ولحسن حظي فأن الدموع تجف بسرعة في هذا المناخ الصحراوي ,حاولت أن تسلي نفسها بألقاء هذه النكتة , ليس هذا مضحكا , ستعاني كثيرا من الوحدة لا داعي للقلق ,لن تكون الظروف التي ستواجهها هناك أسوأ من هذا الوضع , والذي أستطاعت أن تتكيف معه , كثيرا م حلمت بالصحراء , فها هي الفرصة مؤاتية لتحقيق حلمها , أن نيجريا صحراء , فيها الكثير من الرمال والجمال , ولكن مهما حاولت أقناع نفسها ودعم معنوياتها , فأنها ليست متحمسة في أعماقها لتكسب خبرات جديدة , تلاشت رغبتها في المغامرة المثيرة , لم يعد ييرها شيء بلا حب.
منتديات ليلاس
عاد ماتيو مساء وقررت أن تخبره صباح اليوم التالي , ولكنها خشيت أن يغدو الأمر أصعب , على الأقل ستترك له فرصة يتناول طعامه أولا , وعندما دخلت غرفة الجلوس الرئيسية وجدته جالسا الى منضدة الطعام , وأمامه العديد من الأوراق المنتشرة , كان مستغرقا في عمله فلم ينتبه لوجوده , كانت أصوات الموسيقة مختلطة بأصوات صرصار الليل تتداعى الى آذانها من النافذة المفتوحة , خفق قلبها بشدة , تنفست بعمق محاولة أن تهدىء من أنفعالها:
" أريد أن أكلمك يا ماتيو".
رفع رأسه عن أوراقه بلا تردد :
" نعم ما الأمر؟".
حل القلق مكان العصبية ونظرت اليه بتحد:
" أنني أقدم أستقالتي , لقد طلبت نقلي وقد تقرر أيفادي الى النيجر ".
أعقب كلماتها سكون مميت , لم تتأكد من معنى ملامحه المنعكسة على وجهه تكذيب أم دهشة , غضب أم خوف الى أن أنفجر صارخا:
" أنت ماذا؟".
أرتجفت من عنف لهجته :
" هل سمعتني؟ أرجو أن تكون مسرورا الآن , لم ترغب في وجودي في وقت من الأوقات وهاأنذا أغادر المكان".
" لا لن تذهبي".
شحن الجو بينهما بموجة كهربائية من التوتر , نظرا أحدهما في وجه الآخر بغضب وأحباط.
نصب ماتيو ظهره وقال:
" هل لي أن أسألك لماذا؟".
" من أجلنا نحن الأثنين".
" نحن!".
أجابته وثورتها عارمة , وقدماها ترتجفان :
" نعم أنت وأنا... أننا لا ننسجم , ولا نتفاهم , بل أننا نتشاجر دوما وهذا ما يتلف أعصابي , ليس في نيتي أن أصاب بمرض عصبي بسببك , أنك لا ترغب بي , وبأمكانك أن تجد من يحل مكاني , لست فريدة من نوعي , ولكنني صاحبة كبرياء وأباء".
أجابها بصوت هادىء وغريب:
" أنني لا أوافق على مغادرتك".
تنفست جاكلين بعمق :
" أعطني سببا معقولا يستوجب بقائي ".
جاء صوتها عاليا ومضرجا بالغضب , وقدماها لا زالتا ترتجفان , بدا كل شيء ساكنا للحظة , وألتقت نظراته الغامضة والداكنة بنظراتها , وهمس:
" لأنني أحبك..........".
دار العالم من حولها , ولم تصدق ما سمعت , لا لم يفعل ذلك ... لن يلعب تلك اللعبة القذرة مستغلا عواطفها ليجبرها على البقاء , شعرت بدوار .
تراقص كل شيء أمام ناظريها , فحاولت أن تمسك بأحد الكراسي , هدأت من نفسها ونظرت في عينيه:
" لا يا ماتيو , لا لا تخدعني".






سفيرة الاحزان 09-05-10 04:24 PM



9- بين أحضان الكبرياء
أعطته ظهرها ,وركضت خارجة من المنزل , تخطت علي وأنطلقت في سيارتها كالمغشي عليه لا تدرك ماذا تفعل , لا تدري الى أين تذهب , كان جل همها أن تبعد عن ماتيو وعن المنزل ,وعن الحقيقة المدمرة , لقد سخر منها , ومن عواطفها الصادقة فأصابها بخيبة أمل , لم يكن ماتيو ذاك الأنسان الذي تخيلته.
ضغطت بقوة على عجلة القيادة , أن كل ما يهمه هو أن تستمر في عملها , لأنه سيصاب بالصداع فيما لو أستلم أحد ما عملها , تذكرت أقواله: لن أتخلى عنك ولو كلفني ذلك العالم بأسره , عادت تلك الكلمات تقرع مخيلتها , أجل لقد أخبرها بهذه الحقيقة يوم عيد ميلادها , ليست غبية لتلك الدرجة حتى ترضخ , لن تفسح له المجال ليتلاعب بها , ويستغلها كيفما يشاء.
ليس من الحكمة أن تقود سيارتها , والدموع تعمي ناظريها , قد تدهس أحدا ما , يجب أن تأوي الى أي مكان , وأن تتحدث الى أي شخص , ليس أمامها خيار ستذهب الى ليزا ... ولحسن حظها وجدت ليزا بالمنزل , أرتمت جاكلين فوق الأريكة , وهي تجمع قبضة يديها بعصبية محاولة أن تهدىء من أنفعالها , سألتها ليزا بصوت مفعم بالأضطراب:
" جاكي , ماذا حدث؟".
لكن جاكي لم تتكلم .... وكأن أحدا أقفل فمها دون أن تجد الكلمات سبيلا.
كسا الغموض وجه ليزا , أما جون فقد دس في يد جاكلين كأسا من العصير.
وقال:
" أشربي العصير , لا تتكلمي".
أخذت تشرب العصير ببطء , وهي تشعر بالهدوء الذي بدأ يزحف في أوصالها , لاحظت أن جون ترك الغرفة , لتبقى وحدها مع ليزا التي سألتها:
" هل تريدين أن تتكلمي عما يضايقك".
" نعم , نعم أعتقد هذا".
" لا تبدأي من الأول ... تابعي لي ما حدث , أخبرته أنك ستستقيلين أليس كذلك؟".
منتديات ليلاس
" نعم ".
أردفت ليزا :
" ولم يبد أي حماس بهذه الفكرة ".
" لا".
بلعت جاكلين لعابها:
" كيف عرفت؟".
أبتسمت ليزا وقالت:
" مجرد أحساس , هل أخبرك لماذا؟".
هزت جاكلين رأسها بيأس , وهي تشد قبضة يديها بعنف ,وبدأت الدموع تتراقص في مقلتيها:
"قال أنه لا يريدني أن أغادر أكرا لأنه ... لأنه يحبني , أغمضت عينيها , أنه يشغلني يا ليزا , لأنه يعلم شعوري نحوه , لقد أكتشف ذلك وها هو الآن ينتهز الفرصة".
" منذ فترة مضت أخبرتني يا جاكي بنفسك أنه ينظر اليك كفتاة مستهترة أليس كذلك؟".
دفنت جاكلين وجهها بين يديها وقالت:
" لا أعلم يا ليزا... لا أعلم , لم أعد أفهم شيئا , أنه يتصرف بشكل غريب معظم الأحيان أنني لا أعلم أبدا ماذا يقصد".
كانت دموعها تتناثر فوق أصابعها ... لاحت صور ماتيو أمام ناظريها .... فبدا لها تارة قاسيا وغاضبا , وأخرى صديقا مبتسما .
ضحك منها عدة مرات ليغيظها , وأحتقرها كثيرا في تلك الليلة المخيفة من تشرين الأول , حتى أنها تشعر بصفعته المعنوية , أذ سمعت كلمات لم تسمعها طوال حياتها : ماذا تظنين أنك فاعلة؟ أشكرك لهذا العرض.... لكن لا أريد .... ليس عليّ ألا أن أشكرك.
ما زالت كلماته تؤلمها , وستبقى أليمة دائما وأبدا , لن تنساها ما دامت حية.
ولكن لا ... لقد مرت أيام حلوة معه , عندما كان يغيظها دون حقد , ويبتسم في وجهها , ويأخذها بين ذراعيه .... ويعانقها.... لقد قدم لها أقراطا ذهبية ليشكرها على لطفها , بدا مخلصا , أنها واثقة من ذلك , لقد تغير كل شيء الآن , لماذا أنقلب كل هذا ليلة عودته من لندن رأسا على عقب؟
رفعت عينيها ونظرت في وجه ليزا:
" لا أعلم يا ليزا .... فكل شيء حولي يوحي بالفوضى , لقد فكرت مليا , ولكنني لم أفهم ما تعنيه كل هذه الفوضى".
أجابت ليزا :
" هل فكرت يا جاكلين ولو لمرة واحدة أنه يعني ما يقول ؟ وأنه أخبرك اليلة بصدق عواطفه مؤكدا أنه يحبك".
حملقت جاكلين في ليزا كالحمقاء وهمست:
" لا .... لا".
هزت ليزا رأسها وهي تشعر بنفاذ صبرها :
" أرأيت؟ ( قالت بصوت ملؤه الأسف) أرأيت ما أقصده , أن أحدكما يؤذي شعور الآخر دوما , أنك ترفضين تصديق ما قال , وتفهمين عكس ما يقول , وكأنكما أتخذتما قرارا بأن تشهرا العداء والألم بينكما , أنكما تدفنان كل شيء لذيذ يربطكما تحت حاجز من سوء التفاهم , لهذا أصبحت لا تلمسين الحقيقة , هذا محزن يا جاكي , وأنك غبية".
وبعد تقريع ليزا هذا لم تتفوه جاكلين بكلمة بل أجابت بجفاء:
" شكرا , أشكرك فلقد منحتني الراحة والعطف اللذين أفتقدهما ".


أجابت ليزا بصوت رقيق :
"آه يا جاكي , لا أستطيع أن أقف مكتوفة الأيدي وأنا أرى كلا منكما يحطم الآخر , أعلم أنك عنيدة ومعتدة بنفسك , ولكن هذا لن يفيدك في شيء صدقيني".
" أذن , لماذا يعاملتي هكذا ؟ لماذا يهينني بهذا الشكل؟ أعني عندما عاد من لندن".
خفت صوتها ,وهي تتذكر تلك الليلة المروعة , وكلماته تحوم كالأشباح من حولها.
" لا أعلم يا جاكي , يجب أن يكون هناك سبب ما , أسأليه".
" كيف تقولين هذا يا ليزا ؟ وكيف أجرؤ؟".
تنهدت ليزا وغيّرت من جلستها :
" أستمعي الي يا جاكي , علمني الزواج خلال أربع سنوات أن التفاهم لا يأتي أعتباطا , يجب أن تسعي اليه , تكلمي .... أسألي ... ولا تخمني أبدا".
" ولكنني لست متزوجة ماتيو".
" أنك تحبينه , هذا هو المهم".
لم تجب جاكلين , نظرت ليزا الى جاكلين وقالت لها:
" تذكري أنك أخبرتني أنه أتى اليك ليتحدث معك على الشاطىء , ولكنك لم تفسحي له المجال , هربت , لماذا؟ لماذا لم تمنحيه فرصة؟".
عادت الذكريات تتلاطم في مخيلتها , أحساسها بقربه , خوفها من أن تستسلم له مرة أخرى , فيشعر أنه ما زال مسيطرا عليها.
" لم أستطع وببساطة لم أستطع".
تنهدت ليزا يائسة :
" أنكما من النوع نفسه , لن تفسحا لبعضكما أية فرصة للتفاهم , يجب أن يحطم أحدكما هذه الحلقة المفرغة , أنه دورك الآن , أعني أذا كنت تريدينه فعلا , فيجب عليك أن تفعلي شيئا قبل فوات الأوان , فهو من البشر أيضا يا جاكي , أعطه فرصة أخرى , هذا أمر عائد اليك , أذهبي وكلميه , قولي أنك آسفة , قولي شيئا".
" لا... ليزا أنني لا أستطيع".


هزت ليزا جاكلين بعنف وهي تمسك كتفيها:
" جاكي عليك أن تختاري بين كبريائك وحبك".
قادت جاكلين في وقت متأخر سيارتها بحذر وببطء الى أوسو , مرت بمحطة بنزين ثم بالمخبز وبالكسك , وقف بعض الناس على قارعة الطريق بينما جلس آخرون يتحدثون , كانت حوامل الخضار فارغة أذ عاد البائعون الى بيوتهم , ترى هل نام ماتيو الآن؟ يجب أن تكلمه قبل أن تخذلها شجاعتها في العد , كان الظلام مخيما على غرفة الجلوس الرئيسية ,دخلت الصالة بهدوء ... فوجدت النور مضاء في غرفة ماتيو , أرتجفت قدماها ومسحت شعرها بيدها ,ودفعته الى الخلف , وهي تشعر برطوبته وتعرق جسمها , كانت فوضوية المزاج . صبّت لنفسها قليلا من الشراب الخاص بماتيو ثم عادت الى الغرفة وأخذت تفكر بيأس :
" لا أستطيع أن أتكلم معه , لا أستطيع أن أبوح له بحبي".
وفجأة قررت أن تأخذ دوشا لتسترد نشاطها , م ضحكت في نفسها وقالت:
" سأدخل اليه بعد الحمام فيما أذا أستمر ضوء غرفته مشعا , فهذا سيكون أشارة حسنة , وستجري الأمور على ما يرام , أما أذا أطفأ ضوء حجرته , فأن المحاولة ستذهب سدى , كثيرا ما عمدت الى هذه الحلول عندما كانت صغيرة , معتبرة أن القدر يحدد لها تلك الأشارات .
خلعت ملابسها ووقفت تحت الدوش الذي أشعرها بالأنتعاش , ثم نظفت أسنانها , أرتدت تنورة حريرية وقميصا ثم حزمت شعرها الى الأعلى , نظرت الى نفسها بالمرآة , فتاة مدرسة لطيفة , لا تقفي هكذا أذهبي اليه , خذلتها على الأغلب شجاعتها , عبرت غرفة الجلوس ماشية على رؤوس أصابعها الى الصالة , وأغمضت عينيها , ثم أخذت تفتحهما ببطء , كان الضوء لا يزال مشعا , زادت دقات قلبها , وملأ الرعب حنجرتها , ماذا سأقول له؟ فكرت وفكرت , أخذ غضبها يتفاقم في أعماقها , سيسعفك الكلام هيا ... تنفست بعمق وقرعت الباب ,وقدماها ترتجفان.
" من؟".
ساد صمت مطبق لبرهة:
" حسنا , أدخلي".
كان جالسا الى مكتبه ببنطاله الجينز وقميصه ,والمكيف يدوي في الغرفة ويبردها , أغلقت الباب خلفها بهدوء وأستندت اليه.
" حسنا , هل بأمكاني مساعدتك؟".
كان وجهه ناعما دون أن يحمل أي تعبير خاص.
قالت بصوت متقطع:
" أريد... أن أعتذر".
" لماذا؟".
أصبح صوته أكثر رقة وبعدا...
" أريد أن أعتذر عما قلته في تلك المناقشة الغبية التي خضناها معا هذا المساء".
حرك رأسه قائلا:
" تناسيها".
كان فمها جافا:
" لا.... لا ... لا أريد أن أنساها".
هز كتفيه:
" لا أعلم ماذا تقصدين .... أفعلي ما يحلو لك".
أن كبرياءه عنيف أيضا , أن ليزا على حق , لقد آلمته بدوري , أما الآن فأنه أنسحب ليختفي تحت هذا القناع السخيف من اللامبالاة الذي لا تستطيع أن تتجاوزه , أنه لا يريد أن يساعدها لتدارك الموقف , فأعترتها موجة من اليأس ,وعضت شفتيها حين قال:
" ستغادرين أكرا سريعا وسينتهي كل هذا".
لم ينظر اليها كانت عيناه متعلقتان بشيء ما على المكتب.
" أنني لا أريد أن أغادر أكرا يا ماتيو".
شعرت أنها تتهاوى من صخرة عالية الى الأسفل والى الحضيض , أطبقت أجفانها بعنف ثم فتحتها ثانية.
علا وجه ماتيو قناع من اللامبالاة , لم يكن هذا هو الأنطباع الذي أخذته وكأنها وقعت في دوامة , لا تستطيع أن تحطم قيودها , حاولت الأحتفاظ بأفكارها واضحة , ولكنها فقدت قدرتها على التفكير , عادت كلمات ليزا تقرع آذانها , يجب أن يزيل أحدكم الحلقة المفرغة , أنه دورك الآن , فتدفقت كلماتها دون أدنى سيطرة عليها:
" أنني لا أريد أن نتشاجر أكثر من ذلك يا ماتيو ,أن هذا مؤلم كثيرا , كم أود أن أغادر أكرا لا لأنني أكرهك .... ولكن لأن .... لأنني ... عضت على شفتها كي تخفف من حدة أرتعاشها ,( فذاقت دموعها المالحة , أدركت أنها تتخاذل هكذا ),
لأنني لم أعد أحتمل يا ماتيو أكثر من هذا , لقد ظننت أنك تتلاعب بي... وتعاملني كفتاة مستهترة.
غطت وجهها بيديها وتساءلت :
" يا ألهي ماذا أخبره.... سينفجر ساخرا ".
قال بصوت منخفض:
" لم تصدقيني".
رفعت رأسها مندهشة لسماع صوته الذي تبدل فجأة ونظر اليها :
" رفضت أن تكلميني ولم أجد وسيلة أخرى أخوض بها غمار نفسك , لم يكن لدي أكثر مما قلت , ولكنك لم تصدقيني ".
منتديات ليلاس
أشاحت بنظرها عنه فلم تحتمل أن ترى الألم واضحا في عينيه وقالت:
" لا".
" لماذا؟".
" لم أكن أتوقع ذلك.... ظننت أنك...".
" أنني أقول أحبك لأحتفظ بك في الوظيفة".
" نعم".
" لست أنا يا جاكي الذي يتخذ من الحب وسيلة ".
نظر اليها بعينين سوداوين داكنتين وقال:
" يكفي ما يعانيه قلبي من مرارة , أريد أن أحيا بالحب".
دايانا أنها دايانا دوما ,كان عليها أن تسأله عنها الآن : يجب أن تعلم...
" هل أحببت دايانا؟".
زم فمه وقال:
" دايانا ... هل أحببت دايانا؟ لا ليس كلمة حب صحيحة في هذا المجال , كنت مهووسا بها , ومأخوذا , أحمق ومجنونا وأدركت هذا الآن.
خلل أصابعه في شعره وبدا متعبا ومرهقا , بلعت جاكلين لعابها ,وسألته بصوت قلق دون أن تعلم أن كان لها الحق أن تطرح مثل هذه الأسئلة:
" لماذا أنزعجت أذن عندما أستلمت رسالتها الأخيرة؟ لماذا لم تفرح أن كل شيء بينكما قد أنتهى؟".
" جاكي , حاولي أن تفهمي , كان الأمر كاذبا وسخيفا , لم أفشل في الحصول على شيء قبل الآن , لم أفقد شيئا مهما الى الآن تلك الصداقة غير الممكنة , جرح كبريائي وتبدد .... لم أشعر بمثل هذا الذل أبدا في حياتي , ولكنني أريد أن أعرف لماذا تصرفت بتلك الطريقة يوم عودتي من لندن؟ لماذا فعلت ذلك , لماذا؟".
أحمر وجهها حرجا :
" لم أخطط لذلك يا ماتيو , أذا كنت هذا ما تخشاه , لقد حصل ذلك تلقائيا , كان ذلك للمرة الأولى في حياتي".
لم تتجرأ أن تنظر في عينيه.
" لقد أفزعتني".
حملقت به دون أن تفهن وقالت:
" أفزعتك لماذا وكيف؟".
" كنت أخشى من أنفعالي , من عاطفتي نحوك , فعندما لمستني حركت مشاعري".
أشاحت بوجهها عنه وقالت:
" هل كان ذلك سيئا للغاية؟".
" نعم يا جاكلين أنك لا تدركين هذا, لم أثق بعواطفي أتجاهك , كما أنني لم أق بعاطفتك نحوي ,كنت متضرجا بالألم والغضب , لقد هزمتني دايانا , فكان علي أن ألم فتات نفسي , لم أشأ الأرتباط بأي عاطفة جديدة , ما لم أتأكد منها ,وعندما ألتقينا , وكنت بثوب نومك ظننت أنك تنسجين شباكك نحوي".
" لم أنسج شباكي حولك....لا".
نظر مليافي عينيها , فشعرت بالشلل يزحف اليها , ولم تقاوم نظراته , قال ببطء:
" آسف لم أفهمك , أعتقد أن الأمور توضحت الآن".
وقف ينظر من النافذة , شعرت جاكلين بالأنهاك يسحقها , فجلست على أحدى المقاعد الخشبية , ويداها في حضنها , وأدركت أن هذه المحاولة لا تقودها الى شيء , على الأقل أنهما يتحدثان بدون مشاجرة , حدقت في ظهره العريض وتساءلت ترى بماذا يفكر؟ بدا كل شيء معقدا للغاية , وفجأة قطع ماتيو حبل تفكيرها:
" تعلمين يا جاكي أنني رفضتك عندما أتيت الى هنا لأسباب شخصية , وأخرى تتتعلق بالعمل , ولكن بت لي فيما بعد أنني كنت مخطئا ( نظر في وجهها وتابع) أنك كل شيء لم تستطع دايانا أن تكونه ,لك قلب وعاطفة (توقف ونظر اليها بعمق) أنك تجيدين عملك , وأعتمد عليك , بدأت أقدرك على المستوى المهني ... وما لبثت أن أعجبت بك كأمرأة , لم أتح لمشاعري أن تتدفق , ولم أعرها اي أهتمام ادراك ما جرى بعد هذا الحديث".
" أعتقد هذا".
أصبحت تصرفاته واضحة الآن , ها قد بدأت تفهم لماذا أنسحب فجأة عندما كان يعانقها في تامال , لماذا لم يعانقها بعد أن عادا من العشاء يوم عيد ميلادها.
كان ماتيو لا يزال واقفا أمام النافذة يحملق بها وتابع:
" وكان هناك ديفيد يا جاكي".
" ديفيد؟".
" لم أستطع أن أتخيل مدى علاقتكما , لم أفكر أن حبا يربطكما لأن الأختلاف واضح بينكما".
غصت حنجرة جاكلين بيأس :
" آه يا ماتيو , لماذا يبدو كل شيء معقدا هكذا؟ لم أشأ أن يكون كذلك أنني وديفيد....".
" أجل , لقد أخبرني ديفيد كل شيء في سهرة حفل الشاطىء ".
" ماذا أخبرك؟".
" قال أنكما صديقان( وسكت مدة طويلة ثم أضاف) وأنك التي أردت أن تستمر علاقتكما كضرب من الصداقة".
هزت رأسها بالأيجاب :
" لم يفهم أحدنا الآخر بشكل جيد يا جاكي أليس كذلك؟ وأذا قررت البقاء , فأننا سنبدأ من جديد ,سنأخذ الأمور ببساطة وبلا تعقيد".


" نعم سأبقى".
مد لها يده وقال:
" تعالي الى هنا يا جاكي".
مشت اليه كالمذهولة , ووضعت يديها في يديه :
" أنظري اللي".
خيم السكون ... وألتقت عيونهما باحثة عن الحقيقة .
قال بحب وحنان :
" أحبك يا جاكي".
" أحبك يا ماتيو".
لم يحدث شيء خلال اللظة المؤلمة التي مرت , ثم عانقها بحرارة , فشعرت بشرارة تعاود أوصالها , دفنت وجهها في صدره , حتى أنها لم تتنفس ألا بصعوبة , همهم قائلا:
" يا ألهي ,لماذا فعلنا كل هذا ببعضنا؟".
وبحركة عنيفة رفع وجهها اليه وعانقها , لم تقاومه.... أستسلمت اليه بكل قواها , متخلية عن أتزانها , لا يهمها شيء بعد الآن , فموجات الحب تتدفق في أعماقها , أبعدها بلطف ونظر الى وجهها قائلا:
" آسف يا جاكي لأنني جرحت كبرياءك وآلمتك تلك الليلة عندما عدت من لندن ,. لم أفهم أنك...".
" ماتيو....".
أنهمرت دموعها بغزارة ,لم تعد تتحمل أكثر.
" لا تبكي , لا تبكي".
ضمها اليه برقة وأخذ يمسح شعرها بين يديه .
" أنك لا تقدر ما هو شعوري ؟".
لم تسعفها الكلمات لتعبر عن فرحتها وسعادتها .
" أعرف , أعرف".
منتديات ليلاس
نظر في عينيها وقال:
" عانقيني يا جاكي".
رفع رأسه بعد لحظات بهدوء ونظر في عينيها بعمق , وهمس بصوت منخفض:
" أحذرك يا جاكي , أنه لمن الأفضل أن تقبلي بي زوجا , وأياك أن تقولي أنك لا تؤمنين بالزواج".
ضحكت جاكلين برقة وقالت :
" أنني متمسكة بالتقاليد التي تخص الزواج , أريد زواجا حقيقا , مسجلا تربطه روابط حقيقة وكل الأجراءات الرسمية ".
" رائع , هذا ما كنت أتمنى أن أسمعه".
عانقها بحب وقال:
" أنك لطيفة وناعمة وجميلة , وأحبك.... أحبك حبا يفوق الوصف".
وفجأة خيم ظلام دامس على الغرفة , ثم توقف صوت المكيف مصدرا شهقة , وكأنه مصاب بالربو , همست جاكلين بأذن ماتيو :
" سأحضر بعض الشمع".
عانقها بشدة وهمس:
" لا.... ليس الآن".
تمت



قماري طيبة 13-05-10 06:21 AM

بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه... موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

Rehana 19-05-10 10:19 PM

http://www.commentsyard.com/graphics...hank-you79.gif

AZAHEER 17-07-10 01:35 AM

تسلم ايدين اللى تعبت فى كتابتها

شاهد 17-07-10 02:36 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

الملآك القاسي 27-10-10 05:20 AM

مشكــــــــــــــــــووووووووووووووورة
قصة رائعة
ومن زمان أدور عليها
سلمت ألأيادي

فجر الكون 31-10-10 05:46 PM

يعطيج العافية ,,,,,

deemaah 31-10-10 10:10 PM

مجهود رائع
الروايه في منتهى الروعه

الجبل الاخضر 07-11-10 07:22 PM

برافو:55:برافو:55:برافو:55:برافو:55:تسلمين ومشكروه على المجهود الرائع وأهنائكي على الختيار الرائع وننتظر جديدك:flowers2:

حنان محمد ابراهيم 07-09-11 10:35 AM

الرواية رائعة وممتعة تسلم ايدك

ندى ندى 30-09-11 04:47 AM

روووووووووووووووووووووووووعه

hamesha 03-10-11 12:20 AM

مشكورة كتتتتتتتتتير

اميرة مورا 16-11-14 08:44 PM

رد: 160 - لولا هيامي - كارين فان درزي - عبير القديمة ( كاملة )
 
رواية رائعة
مشكورة على المجهود الرائع

sally abu soud 24-08-15 10:12 PM

رد: 160 - لولا هيامي - كارين فان درزي - عبير القديمة ( كاملة )
 
يعطيكِ العافية
الرواية جميلة جداً
شكراً لكِ


:55::55::55::55::55:

دراق 03-09-15 08:53 PM

شكرا وبارك الله فيكم

fadi azar 04-09-15 06:46 PM

رد: 160 - لولا هيامي - كارين فان درزي - عبير القديمة ( كاملة )
 
مشكورة على الرواية الرائعة

راية الاحزان 07-10-15 09:59 AM

رد: 160 - لولا هيامي - كارين فان درزي - عبير القديمة ( كاملة )
 
يسلموووووو

Nadafa 16-10-15 09:03 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة راية الاحزان (المشاركة 3564921)
يسلموووووو

رووووووعه يسلمووووووا

eveo 26-10-15 06:17 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سفيرة الاحزان (المشاركة 2299803)


160- لولا هيامي- كارين فان درزي - روايات عبير القديمة
الملخص
لا تعرف النفس اين تولد وتعيش وتجد السعادة.جاكلين ولدت وترعرت في غانا ودرست وتخرجت من امريكا ,وظل وهج افريقيا يناديها للعودة......
عادت الى ارض الطفولة مسلحة بالمعرفة والخبرة, ولكن صدمتها كبيرة حين قابلت رئيسها في العمل الذي رفض كونها انثى وكان قاسيا معها ....فاذلها وابدى عدم اعجابه بمؤهلاتها ....لماذا ؟سالت جاكلين نفسها ما سبب هذه الكراهية, وهذه الحرب ؟نشب بينهما عداء لا يقاوم... ولكنها لن تعترض لعله يكتشف كفاءتها بنفسه .اخيرا عرفت بان قلب ماتيو مجروح......
.ديانا الجميلة رفضته وهجرته ،حاولت جاكلين التقرب من ماتيو ففشلت... وعندما قررت الابتعاد فشلت ايضا فقلبها رفض تنفيذ الاوامر!




الراوايه منقوله


شكرا ااااااااااااااااا

Moubel 09-05-22 04:51 AM

رد: 160 - لولا هيامي - كارين فان درزي - عبير القديمة ( كاملة )
 
روايه جميلة شكرآ لك


الساعة الآن 06:59 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية