منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f484/)
-   -   (قصص) زهرة الآلام .. (https://www.liilas.com/vb3/t108644.html)

تمارااا 07-04-09 03:06 PM

زهرة الآلام ..
 

طاواس


زهرة الآلام

تيسير مشارقة
(1)العمارة الزرقاء
وقع المحظور. مثل الحلم. هكذا دون طقوس احتفالية. دون زوبعة أو ضجة. بمخملية غير مصدقة. جاء الآذن إلى غرفة الصف يدعوني إليهم. هو الوحيد المسموح له بإخراج الطلبة أثناء الدوام في الدراسة. لو وقف غيره كشجرة بلوط لما امتلك مثل هذا الحق. سلمني إليهم باليد، كما يقال.
طلب الآذن من مدرس الإنجليزية أن يسمح لي بالخروج لمقابلة أقاربي الذين جاءوا لزيارتي في المدرسة.
أي أقارب يودون زيارتي؟! شيء مثير فعلاً. أمي وأبي لم يزوراني في المدرسة أبداً. فكيف يقوم أقاربي بزيارتي.
شعرت بأن شيئاً ما سيحصل. رتبت أوراقي وأدخلتها في الحقيبة، ووضعت الحقيبة فوق طاولتي. تهيأت تماماً. سألت:
ـ هل آخذ حقيبتي؟
ـ لا.. (أجاب الآذن، وكأنه متيقن من عودتي)
هناك ، في غرفة المدير ، جلس ثلاثة من"أقاربي المموّهين". تمتمت في سري "إنهم من الجن والعفاريت وليسوا من أقاربي". صافحتهم بحذر.
قلت للمدير:
ـ إنني لا أعرفهم.
لم يتكلموا طويلاً.
قال أحدهم:
ـ نحن نريده.
امسك بي أحدهم من معصمي وأحكم قبضته.
أُسقط في يدي المدير، فلم يستطع أن يفعل شيئاً.
ـ إذن أنتم لستم من أقربائه؟! (سأل المدير بخيبة ).
وخرجوا بي.
شعرت للحظة بأن المدير تآمر معهم، وأنه هو الذي أوقعني في المصيدة.
وقفت أمام المدرسة ثلاث ناقلات محملة بالجنود والهراوات والأسلحة الخفيفة. طبّل أحد المقتحمين، من البوليس السري، على ظهر إحدى الحافلات، فنهض الجنود من رقادهم. قال كبيرهم:
ـ هيا...
أركبوني حافلة الجنود الوسطى، وسارت القافلة كأنني في موكب ملكي.
ـ إلى أين ستأخذونني؟ (سألت ببراءة).
ـ إلى العمارة الزرقاء، هل تعرفها؟ (قال أحد الجنود بتهكم).
ـ لا، لا أعرفها.
ـ وهل تعرف الجن الأزرق؟
ـ سمعت فقط بالذباب الأزرق.
ضحك الجنود وكأنهم في نزهة. امتعضت. عرفت مصيري ولم أقاوم. وعندما اقتربنا من العمارة الزرقاء، سأل السائق عبر "التوكي ووكي":
ـ أين نملأ السيارة بالبنزين.
ـ اذهب إلى العنبر الخامس عشر. (جاء الصوت عبر الجهاز)
تلك شيفرة من رموزهم وطقوسهم. هكذا خيّل إليّ للوهلة الأولى. ولكن الأمر لم يتجاوز معانيه العادية. فهؤلاء الجنود يقومون بواجب يومي روتيني.
امتدت ذاكرتي إلى حفنة من الشعر عندما شاهدت النوافذ المغلقة للعمارة الزرقاء:

"من الزنزانات الرطبة
تمتد الأيدي
تلوّح للمطر الرائع
للوطن الساطع
..."

لم أتكلم. أنزلوني من الناقلة وأخذني أحد الجنود إلى غرفة صغيرة فارغة إلا من طاولة وكرسي. رجل أنيق رحّب بي. جلست أمامه على الكرسي الخشبي. أخرج مسطرة من درج الطاولة، وبدأ يلوّح بها في الهواء. سألني عن اسمي وعمري واسم أمي و...
قلت له إنني لا أفهم شيئاً..
طرح أسئلة عادية جداً.
وجرى بيننا الحوار التالي:
ـ ستكون في ضيافتنا إن شاء الله يا رفيق. كنا نبحث عنك لفترة طويلة. يا للمصادفة الجميلة. حضرت إلى هنا وحدك. نحن الآن نجهز لك غرفة لتنام في فندقنا.
ـ شكراً! (همست)
ـ قبل أن تنزل إلى هناك، قلْ لي ما أخبار الحزب؟
ضربني المحقق على يدي ووجهي بحافة المسطرة كأنه يمازحني.
ـ أي حزب تعني؟(سألت)
ـ الحزب. ألا تعرف ماذا يعني الحزب؟!
لم أجب.
قفزت إلى ذاكرتي آية من سورة فاطر: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".(الآية رقم 6).
أردت الابتسام. شر البلية ما يضحك. طالما أن الأمر بهذه البساطة وهذه الليونة فإنني لا أعرف شيئاً وإنني من قوم (صم بكم لا يفقهون). ادّعيت البلاهة والحماقة. أنا أحمق .ها ها ها.










تمارااا 07-04-09 03:08 PM

(2) طرق وقرع


لو قال المحقق لي إن الأواني تلد لوافقته، ولصدّقت تكاثر الأواني بالمعاشرة. لكن أن يتحدث لي عن بيانات ومناشير وصحف سرية وأحزاب، فهذا لم يدخل عقلي أبداً.
اخرج ورقة مستطيلة وبدأ يقرأ:
ـ استقبلوا ياسر عرفات. وقرأ نصف الورقة. أتعرف من كتب هذا.
ـ لا أعرف. أجبت
ـ كم بياناً وزعت. قل لي.
ـ لم أوزع شيئاً.
ضغط المحقق جرساً فحضر رجل قصير القامة طلب منه أن يوصلني إلى تحت. في الطريق إلى الزنازين ذات الأبواب الحديدية المغلقة كان ينتظرنا مصوّر في يده آلة تصوير ضخمة الحجم. وقفت أمامه. ظل ظهري إلى لحائط. التقط ثلاث صور من الأمام ومن اليسار واليمين. لم تنبس تقاطيع وجهي بأية علامة، وكأن الأمر أكثر من عادي. كنت كمن يُقاد إلى المشنقة. سرت بلا انفعال.
استقر بي الحال في زنزانة يقطنها رجلان. أحدهما قال لي إنه شيوعي والثاني قال لي إنه من فتح. أما أنا فلم أقل إلى أي حزب أنتمي. تابعت بلاهتي وحماقتي وادعيت أن خطأً قد وقع، وأنني بريء. ربما أكون منتمياً دون معرفتي. ربما يريدون أحداً آخر يشبهني. كأن الأحداث في عالم آخر خال من الصدق. أهو الحلم..؟!
ـ أنا ( نافز) من الجامعة الأردنية.اعتقلوني قبل عشرة أيام. قلت لهم إنني شيوعي وليبلطوا البحر.
هكذا وبصراحة عرّف الشاب ذو الملامح البيضاء عن نفسه. ومدّ يده لي مصافحاً.
ـ أنا (جعفر)، أمسكوا بي وأنا ذاهب إلى فلسطين المحتلة. أمسكوا بالدورية كاملة، فاعترفنا بانتمائنا إلى (فتح). وأهلاً وسهلاً فلا تخف منّي.
ـ أأنت ( نافز شمّر ) الكاتب المعروف في صحيفة "المنبر " ؟! سألت المعتقل الأول.
ـ نعم أنا هو. كيف عرفتني؟
ـ سمعت باعتقالك.
ابتسم ( نافز ) غبطة. لعله عرف أن الناس في الخارج لم ينسوه، وأنهم مهتمون بقضيته وبحرية الرأي هناك، وانتقل لبحث مسألتي:
ـ ماذا قلت لهم؟ سألني
ـ لم أقل لهم شيئاً. قالوا لي إنني أنتمي إلى "الحزب التقدمي الديمقراطي" فأنكرت.
ـ لا تتراجع عن كلامك. إذا أردت السلامة.
كبر هذا الرجل في قلبي وعقلي. كنت أقرأ له المقالات النقدية الساخنة واللاذعة. والآن هو يسكن معي في زنزانة واحدة. كنت أتمنى أن أصادق كاتباً مثله. والآن يتحقق الحلم.
بدأت أتعلم على يديه دروساً في النقد والشعر والصمود. علمني (ألف باء) الاعتقال. لم أتخيّل أن بإمكانه أن يتحدث بمثل هذه الصراحة وهذا الوضوح. كنت أتخيل أن الحيطان لها آذان، وأن الكون يتنصت علينا.
جاء الحارس في المساء. فتح الباب وأخذني جندي قصير القامة من يدي. رافقني حتى باب غرفة نسيت رقمها. غرفة أنيقة مليئة بالأثاث ورجل يجلس خلف طاولة وثيرة، له سمات وقار. طلب مني الاعتراف بالانتماء للحزب ومغادرة المكان فوراً. ابتعدت بأفكاري عنه وعن وقاره، ولكن لماذا أخرج؟! فالمكان يناسبني. إنه مريح جداً. ووجدت فيه صديقا تمنيت معرفته. والله لو طردتموني لتشبثت بالمكان. لقد عدت إلى الواقع بعيداً عن أحلامي وبعيدا عن الأحلام والشياطين. تحالف الشياطين الزرق ضدي كان من صالحي. وإذا كان المحققون من الشياطين والعفاريت، فسيكون بمقدوري التعايش معهم. سأحتمل النخز والوخز واللطم والضرب. سأتعود على ذلك.
خرج الرجل الوقور عن وقاره. صفعني على خدي وطلب مني أن أعترف وأن أذهب إلى بيتي فوراً. لكن بماذا أعترف؟ هل أعترف بأنني من حزب الشياطين ـ مثلاً ـ وأنا لست كذلك؟ ! هل أقول له إنني أكره السبانخ؟ هل أقول له إنني أحب الشعر ويستهويني السحر؟ بماذا أعترف؟ وهل أنا في حضرة ربي كي أعترف؟ ضحكت.
سحب المحقق عصا من الخيزران من سلة جانبية، وبدأ يضربني ويضربني. شعرت بأن الوقور قد جن أو ركبته العفاريت. وتحوّل إلى ساديٍّ من الدرجة الأولى.
تركني بعد جلسة طويلة من التعذيب، فعدت إلى زنزانتي متهالكاً. استقبلني (نافز) و(جعفر) مرّة أخرى. طلبا مني أن أتجول في الزنزانة وأن أتنفس برتابة. ولما عرفا بضربي ضرباً مبرحاً، قالا لي:
ـ هذا بسيط جداً،وعليك أن تحتمل قليلاً.
وتكررت جلسات التحقيق (التعذيب) مرة كل يومين، إلى أن صار الأمر روتينياً.
أخبرني (نافز) ذات يوم، أن معتقلاً اسمه(عارف)، أعتقل بتهمة الشيوعية، موجود في زنزانة مجاورة. عرفت بعد ذلك أنه صديقي ورفيقي (عارف). وعندما قال لي (نافز) إن هناك إمكانية لمخاطبته(!) ضحكت من هذه الفكرة الشيطانية. كيف والحيطان الإسمنتية تعزل بيننا؟ وظهر لي أن الأمر بسيط جداً لا يعرفه إلا المخضرمون من زوار الزنازين. قال نافز :
ـ بالطرق والقرع، كالذي يناجي الأرواح.
ـ بالقرع والطرق؟! رددت ما قاله (نافز شمّر) غير مصدق وكأنني أهذي .ثم غرقت في نوم عميق بعد ذلك النهار العصيب . لكن صديقي (عارف) المهذار جاءني كالموت ،كالموسى النازل في قالب الزبدة .لم تفارقني صورته،ولا أحاديثه المريبة.

(3) ازهار واشواك صديقي عارف

جاء عارف إلى بيتنا ،هكذا،كصاعقة ،مثل لمح البصر.كأنه على عجل من أمره أو يخبئ في صدره شيئاً ما. لم يعرف عارف من أين يبدأ .تململ وكأنه يريد شيئاً أو ينقل خبراً.ظهر كدجاجة تحمل بيضة وتود أن تبيضها .
بدأ صديقي المريب (عارف)سرد حكاياته، هكذا:
ظل (فوّاز المدني) يهز ساقه اليمنى بانتظام. لاحظت ذلك وانشغلت بالمشهد. كان يجلس في الصف الأول بجوار (زياد الأسود). لم أنتبه للأستاذ (الشيخ أمين) الذي يشرح لنا عن انفراج السماء وحدوث البريق الفضائي الذي يُنزل كل ما هو خير على من يضيء الكون عليه. إنها ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها.
انشغلت بالمشهد ـ تابع عارف ـ لم أفهم شيئاً. فركت يدي وشبـّـكت أصابعي. اهتزت ساق (فواز) بانتظام ورتابة أكثر فأكثر. كان يلبس بنطلوناً قصيراً أحمر. اللون الأحمر صعق (زياد) كثور. اقترب منه حتى تلامست فخذاهما. فتصبب العرق من وجهه.
شعرت بأن زياد مصاب بحمى أو تكهرب. ارتفعت قدمه مع كل هزة لقدم فواز. وصار لا يهدأ ولا يقعد أبداً. فخذ فواز الممتلئة أخرجته عن طوره. فقد وعيه. أمسكها بيده وغرس أظافره في اللحم الطري. ارتعش فواز وعض شفتيه من الألم. أطلق صيحة مكتومة. تأوه غنجاً.
كان (الشيخ أمين) يتلو آية "والجان خلقناه من قبل من نار السموم " (الحجر: 2) هل مس (زياد) جان خلق من مارج من نار؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
احتراق زياد البطيء لم يـُحدثه سوى ارتفاع وانخفاض فخذ فواز صاحب الوجه المدوّر والمقمّر. خداه محمران من بيت أهله. ربما تفركهما له أمه قبل أن يخرج من البيت كل صباح حتى يقال إنه مبسوط وتظهر عليه النعمة. هناك اعتقاد آخر بأنه مـُتورّد هكذا من عند الله.
غطّى صوت (الشيخ أمين)على الصرخة المتأذية، التي لم تخرج من الحلق فولَجَت إلى الداخل. هذا الأمر أمتع زياد أكثر، فارتعش، وفرّت حبات عرق من وجهه. أغمض عينيه، وارتخى، كمن أغمي عليه. نظرت إليه، وإذا به يتراخى ويلقي برأسه الحليق إلى الخلف. قلت: "مات زياد" ! رفعت إصبعي مستأذناً طالباً فعل شيء.
أهمل الأستاذ طلبي، أشرتُ بإصبعي إلى زياد الذي بدأ يرتعش في مقعده وقد تبلل تماماً. هزّه الشيخ أمين من كتفه. تعوّذ وبسمل .وطلب مني أن أحضر كوب ماء. أحضرت. رشق الشيخ وجه زياد بالماء وصبه على رأسه، فازداد بللاً. استيقظ الولد الشقي. ارتاح قليلاً وعدّل من جلسته.
طلب الشيخ منا أن نعود إلى بيوتنا. كان الجو قائظاً في منتصف النهار. قمنا بمرافقة زياد إلى بيته. ظهر مُصفَرَّ الوجه وقد هزل تماماً.
في اليوم التالي غاب زياد عن المدرسة. ولاحظت أربعة جروح محفورة على فخذ فواز.
لم أقترب من فواز، لكن (عُكّة الطبري) صاحب الوجه المربّع والملامح الخشنة، حاول الاقتراب منه. فرك مؤخرته بمقعده أكثر من مرة وانتقل إلى الأمام ليجاوره. رمقه فواز بعينين واسعتين كعيني المها وابتسم له ابتسامة عريضة. تصادقا فيما بعد.
تعبت من متابعة أقوال (عارف)، فحكايته أرهقـتـني. توترت أعصابي وارتخت. استرخيت. انتابني نعاس شديد ، كأنني أود التراجع عن متابعة قصته.
أوعز إليّ أن أواصل الاستماع، لأن ما هو قادم أعظم وأبلغ.
قال لي: ما هو قادم أجمل. أكثر غرابة وطرافة.
خفّضت رأسي بين موافق ومكذب .
وواصل (عارف) حكايته.

تمارااا 07-04-09 03:10 PM

(4) عفريت من الجن


عفريتا من الجن كان (زياد). عاد بعد أيام قليلة إلى المدرسة. احتل مكانه السابق إلى جانب (فواز). تراجع (عكّة) ممتعضاً. تغيرت ملامح وجه زياد كأنه نضج. احتراقه السابق جعل منه ذكراً على هيئة رجل. أبيَضَّ قليلاً . لمعت عيناه وصار فيهما بريق غامض. خضع فواز له. صار مطيعاً كإمعة ويبتسم له بين الفينة والفينة كفرض صلاة.
لم يقنعني حديث (عارف)، وحاولت التوقف عن الاستماع، لكنه نهرني لأني غير مصّدق. وحدثني عن (أبي هريرة) الذي قال، إن الرسول ص قال: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه" وأنني أنا أيضاً ـ تابع صديقي موجهاً كلامه لي ـ عرضة لوخزة أو نخسة أو خنسة أو خطمة. فاستعذت في الحال من الشيطان الرجيم.
وتابع صديقي: "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" (آل عمران: 63).
توقفت عن الاستماع وتلفتُّ حولي غير مصدق. وتساءلت في حيرة: "إذن كلنا مستهدفون! ستغزونا جحافل من الأبالسة والجان، وسيكون لكل واحد من الإنس إبليسه. ألم يشر القرآن إلى أن لكل إنسان قرينا. من يصد الجن عنا ويمنع أثر وسوستهم فينا؟ من يبعد عنا خطر الاختراق؟ الله أعلم. إذن زياد مخترق أو ممسوس"ً.
تجاهل صديقي تساؤلاتي البلهاء وتابع حديثه:
"صرت أراقب (زياد) عن كثب كأنه منهم. هو يلاحق (فواز) وأنا ألاحقه. صار زياد يلاحق فواز حتى باب الدار وأنا ألاحق زياد حتى باب داره".
وقال: كنت أشاهد (زياد) يجري وراء (فواز) لينزل معه إلى السهل ويصعد معه الجبل. يلهثان. يقتربان ويبتعدان.ويتلاصقان. يلمسه زياد مرة ويلاطفه مرة أخرى وكأنه يريده. كنا وبقية التلاميذ نشاهدهما من على سفح الجبل. كأنه ذيله. يتعلق بطرف بنطلونه الأحمر القصير ويجن جنونه. ويبطحه مرة ويداعبه مرة أخرى. يخاطبه بغنج ويقول له: "تعال نصنع نجمة، تعال نصنع نجمة"، كأنه لغز عفريتي. تعويذة أو حجاب يفك به طلاسم الآخر. وعندما يعود زياد أدراجه. نصادفه في الطريق. يبتسم وكأنه قضى وطره منه. يخرج عضوه الممسوس ويطلق بوله نحو السماء عالياً. يفتح فمه ليصب البول مرة ثانية في حلقه. ويظل يبول طويلاً طويلاً، كأنه بذلك يطفئ ناره أو يحرق إيمانه. نملّ من أفعاله. نتخيله نافورة متواصلة من البول. نستغفر الله ونبتعد عنه وعن وساخته. وعندها يكف عن التبول . يلحقنا ونسير جميعاً كقبيلة من العفاريت الصغار نملأ الدنيا فوضى وصراخاً. وفي الليل أقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختتم (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).

(5) يروننا ولانراهم

يسيرون معنا، نركض ويركضون، نستعجل فيستعجلون. ألم تقل لنا أمهاتنا يوماً "العجلة من الشيطان" أو "اعمل ببطء ". العفاريت مقترنة بالعجلة. يدخل الجن الأنس أحياناً، بعد أن يضجر من مرافقتهم. "انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" (الأعراف 48) إنه الشيطان الجني قبيل إبليس. ألم يقل الله في كتابه "إلا إبليس كان من الجن" (الكهف 50). لا يراهم أحد، إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام. تساءلت: وهل زياد من الجن؟ لكن كيف كنت تراه؟ دخلت الوسوسة قلبي. ألهذا الحد للشيطان سطوة؟! وهل للجن قدرة على اختراق أبداننا؟ سألت عن ذلك مرتجفاً.
هدّأ عارف من روعي، ونفى أن تكون للجن مثل هذه القدرة. وقال إنه يمتثل لما اعتقد المعتزلة. فهو يرى أن جسم الإنسان كثيف، ولا يمكن لشيء أن يتخلله، وأن ما ورد في نصوص القرآن يراد به "الوسوسة".
ابتسم عارف مشيحاً بوجهه بعيداً عن ناظري. زاد هذا التصرف من شكّي وهز من يقيني. فأنا أعرف أن السلفيين يعتقدون بدخول الجن الإنس، وبأنه يغير صوته ولونه، ومن ينكر ذلك فهو فاسق وكافر.
طلب عارف مني أن استمع إلى حكاية أخرى حدثت معه في بيته قال لي: إن أمه من الصالحات الورعات ومن أتباع الأولياء الصالحين. شربت من لعابهم وتتلمذت على أيديهم. وإن هذا ما علمه من أمه وخالته منذ صغره. وبقي يؤمن بذلك إلى أن حدث ما حدث أمام عينه..

تمارااا 07-04-09 03:14 PM

(6) ماذا حدث

أصابت أحد الأولاد لوثة. واللوث نوع من الحمق. وهو أيضاً مس الجنون. جاءت به أمه إلى أمي. فقالت أمي: "أنه ممسوس أو مصاب بالعين". سألته سؤالاً فجاوبها هذراً ومذراً. بكت أمه وقالت: "يا أم المؤمنين" أما أمي فقالت: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أنا لا أفعل هذا إلا بإذنه تعالى وبإرادته". وتابعت أم الملووث: "قال الناس إن يدك طاهرة تداوين الجراح بالبصاق. لعابك برهم وصلواتك بلسم". ردت أمي بطمأنينة ووقار: "قولي إن شاء الله".
واصل صديقي قائلاً: أخرجت أمي الأولاد والبنات من الحجرة المظلمة. وفي غفلة منهم اختفيت خلف الستارة الثقيلة. أغلقت النافذة الصغيرة وانزلق مزلاق الباب. أجلست أمي المريض. قرأت سورة الفاتحة والإخلاص. جلس المريض وأنا أنظر إليه متلصصاً من خلف الستارة. طلبت أمي إحضار وعاء وإبريق ماء. عتّمت الدنيا فجأة. راقبت عينيّ أمي. جحظتا متسعتين. اقتربت من الصبي المرتبك. طلبت من أمه أن تصب الماء على يديها. صبت. طلبت من الولد أن يدلع لسانه. مده. أمسكته بيدها أو حاولت. تمتمت. أدارته. وبحذائها ضربته على ظهره ضرباً موجعاً. تدفق الدم من فمه. ملأ الوعاء حتى طفح. رشت وجه الصبي بالماء وصبت قليلاً منه على رأسه، فنطق بكلام معافى. وتهلل وجه أمه وأشرق وجه أمي. وطلبت فتح النافذة وإزاحة الستارة. دخل الضوء الغرفة. وجه أمي كان مختلفاً تماماً بدخول الضوء. أخذ وجهها يعود إلى أصله بعد أن كان مختفياً قبل لحظات قليلة. ظهرت أنا من خلف الستارة. فعلتها في بنطلوني ولم تكن المرة الأولى. انطلقت عدواً للخارج لأتنفس الصعداء.
سألت صديقي في الحال: هل تقصد أن الفتى عاد إلى وضعه الطبيعي.
أجاب: لا أعرف. ماذا تقصد بالوضع الطبيعي؟ لقد فارقه اللوث. ولما انفتح الباب اختفى الدم وكأن شيئاً لم يحدث.
وهل يجوز ضرب المصروع؟ سمعت أن فتاة بكراً فضت بكارتها من الضرب، ومات ولد من يد الضارب. ليس معروفاً ما الذي دخل في الولد، هل هو من الجن أو غيره. لا أحد يعرف، إلا رسول الله ص.
الرسول ص فعل ذلك من قبل. ضرب صبياً خطم الشيطان (على) قلبه. ضربه بشفقة ورحمة حتى شفي.

(7) موت العنكبوت

اعتذرت من صديقي. خرجت للتبول. بيت المراح معتم ومخيف. أكرهه. حملت الفانوس. ارتجفت يدي. فوق سطح المرحاض المعدني سقط حجر وماء قط. لوح الزينكو مثبت على خشبتين عريضتين. تدلى من واحدة عنكبوت على خيط. دفعته بعيداً عني. سقط. دسته بقدمي خوفاً منه. كان ذلك دفاعاً عن النفس. لا أعرف إن كانت قرصته مؤلمة أم لا. فعلت ذلك. اقترفت جريمتي بحركة لا إرادية. ربما أردت أن أبعد المؤذيات عني. عدت مسرعاً أرتجف من الخوف. نظرت مرتين إلى الخلف. المرحاض ركن منزو ومعتم وقذر وواطئ ومرعب في آن.
ـ قتلت عنكبوتاً.
ـ كيف تفعل ذلك يا مجنون. (أنبني صديقي).
ـ دسته بقدمي. لا تقل "مجنون" أرجوك.
ـ لا أصدق ذلك وأنت الوديع. ألا تعرف أن العناكب حمت الرسول ص من الموت في غار حراء؟ العنكبوت يرمز للسكينة والهدوء.
ـ أي هدوء. إننا نعيش هنا في مقبرة أو أسوأ..
سكت صديقي قليلاً ولمعت عيناه. رغبت في دعوته إلى لانصراف. ولم أرغب في البقاء وحدي في غرفتي السفلية. أمي وأبي وأخي الصغير ينامون في إحدى الغرفتين العلويتين. في الغرفة الجانبية تنام أختي. أما في الغرفة السفلية فأنام أنا.
ورثت الغرفة السفلية الواطئة عن أخي الأكبر. وأخي الأكبر ورثها عن أكبر أخوتنا. مقابل غرفتي توجد غرفة من "الزينكو". نغتسل فيها ونخفي أمتعتنا القديمة والحاجيات المهملة. هناك تنام الفئران والعناكب. هناك أيضاً برميل الطحين. ذلك المخبأ الرائع، في زاوية تلك الغرفة. فيه أخفيت أوراقي وأشياء أخرى. خجلت من نفسي لأني كبرت وأخاف. كنت أود لو أن صديقي يستطيع أن ينام أيضاً.

(8) اذا جنح الليل

تنحنح صديقي وكأنه يود الانصراف. نهض ونظر عبر النافذة ثم بدأ الحديث مجدداً."إذا جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً."
وصمت قليلاً ثم واصل:
ـ هذا حديث للنبي ص، رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي. وورد هذا الحديث في صحيح مسلم وافياً كالتالي: "إذا جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشيطان ينتشر حينئذٍ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقا، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم. واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليهم شيئاً وأطفئوا مصابيحكم" واقترب صديقي أكثر من النافذة، وقال: أطفئ النور فضوء القمر يكفي.
وددت لو يختفي هذا الولد اللعين. حينئذٍ أغلق الباب والنافذة وأطفئ النور على عجل، وأنام القرفصاء حتى يجيء الصباح. كدت أصرفه. هذه الليلة تكفي. ولكنه نهرني بقوله:
ـ ألا تعرف ماذا يعني الرسول ص "أوكئوا قربكم"، أي أوثقوا بإحكام إغلاق ذلك الوعاء الذي يحوي الماء أو اللبن أو نحوهما. أما "خمروا آنيتكم" فتعني إغلاق أواني الطعام وغيره. وصمتنا معاً.
أصغيت وأصغى. الماء ينقط من حنفية برميل الماء المحاذي لغرفتي. دار صديقي حول نفسه دورة كاملة وتناول إبريق الماء. كان فارغاً يصفر فيه المرء. نحن نشرب من إبريق البلاستيك في المخيم 1975، فلم تصل بعد حضارة أكواب الزجاج.
يا للأشياء. إنها شريرة أحياناً من غير أن نحتسب. كنت دائماً أملأه قبل النوم. هذه المرة نسيت. لا أدري لماذا؟! لن أطلب من صديقي أن يملأه. فلا يجوز تشغيل الضيوف. عرفت أنه يرغب في الماء. لماذا لا ينصرف ويشرب في بيته؟! صرت أشعر بالضيق. خجلت من نفسي. أخذت الإبريق ومددت يدي لالتقاط المصباح.
ـ أنت خائف، لا تنس إغلاق الحنفية جيداً.
لم أجب. تركت (مصباح الكاز) معلقاً على مسمار الحائط. فتحت الباب على مصراعيه لكي يتسرب الضوء من الغرفة إلى الخارج. فتحت الحنفية على وسعها وملأت الإبريق بسرعة البرق. أحكمت إغلاق الحنفية بشدة، ولم أطرق هذه المرة على البرميل لكي أعرف مستوى الماء. انطلقت عدواً إلى الغرفة وأغلقت الباب خلفي مسرعاً على الرغم من أن حرارة الجو في الغرفة كانت مرتفعة نسبياً. تصنعت الهدوء وتحركت في الغرفة باتزان حتى لا ينتبه صديقي لخوفي وارتباكي.
اختطف الإبريق من يدي وفتح فمه واسعاً ورفعه عالياً جداً وصب الماء في حلقه فدلق الماء في فمه وعلى رقبته.
ـ الماء ساخن. (قال)
وأوقف الإبريق بين قضيبي الحديد المثبتين في الشباك. ربما أراد بذلك أن يبرد الماء. المنظر غير مريح، ومخيف في أجواء مثيرة كهذه، ولكن ماذا أقول لهذا الشيطان؟! لم أطلب منه أن ينزله إلى الأرض. تحاشيته، وقلت له:
ـ أتعرف يا صديقي، لن يصدق أحد أنك شيوعي وتعرف كل هذه الأشياء عن الشيطان والجن وإبليس وغيره. ومن يصدق أنك غير مؤمن وتحفظ هذا الكم من الآيات الـقرآنية والأحاديث النبوية؟
لم يجب صديقي وظل وجهه جامداً.
رغب في الانصراف. تمسكت به بحركة لا إرادية وطلبت منه البقاء. بقي. ولم أطلب منه نزع الإبريق من النافذة وإغلاقها، فالجو خانق، وإبليس لا يفتح الأبواب. من يعرف، ربما يدخل من النافذة! تنهدت واقتربت من النافذة. سحبت الإبريق وشربت جرعة ماء ساخن. صوت محرك سيارة جاء من بعيد. دخلت معه نسمة هواء ساخنة.
سأخبرك كيف صرت شيوعياً! قال صديقي. " ربما تكون هذه الحكاية أفضل من حكايات العفاريت والشياطين "، قلت لنفسي، فأصغيت إليه.
أحب أن أخبرك بصدق أنني لم أكن ولست شيوعياً أو كافراً. إنني أقرأ وأفكر وأربط الأشياء بعضها بعضاً بشكل جدلي. أحلل وأقرأ بشكل نقدي ـ جدلي. هذا كل ما في الأمر. ما يقوله بعضهم عني زوراً وبهتاناً باطل. ببساطة بدأت أقرأ الكتب الفلسفية مبكراً. تعرفت على ولد اسمه (راجح). كان يقرأ بنهم وله ذاكرة عجيبة. يحفظ مقاطع طويلة لفلاسفة ومفكرين كبار. لماركس وانجلز ولوكاس ونيتشه وسارتر وغيرهم. تصادقنا. تبادلنا الكتب والمعلومات. صرنا ننزل الشارع نتجادل ونتأبط الكتب.
ذات مرة جاءني طالبان من مدرستي. أحدهما ملتح والآخر حليق. أرادا أن يدعواني إلى التوحيد والذهاب معهما للصلاة. وقالا إنهما من رجال "الدعوة".
ـ لماذا أنا؟ تساءلت.
ـ سمعنا أنك ملحدً. قال أحدهما.
كانا لطيفين معي لدرجة أنني توجست شراً. وتابع الآخر:
ـ أتريد أن تجيء معنا إلى الجامع كي تتوضأ وتصلي ركعتين لوجهه تعالى؟
ـ بصراحة أنا لا أحب جماعتكم، أما الصلاة، فسأقوم بها في جامعنا.
قلت لهم ذلك بجرأة. تنبه الأول لجرأتي، وأراد إنهاء الحديث بسرعة، فقال:
ـ انتبه يا كافر لنفسك، وكف عن نشر الأفكار الشيوعية، وإلا سنعاقبك.
خفق قلبي وارتجف. أردت أن أنطق بشيء دفاعاً عن نفسي، لكنهما ابتعدا بسرعة. رفع الثاني سبابته نحو السماء ولوح بها. لا أدري إن كان يشير إلي بالتحذير أو يشير إلى الله بأنه واحد أحد أو يشير إلي بالشهادتين "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله".
لم أرتد. ولم أكف عن قراءة الكتب الفلسفية، ووجدت في (راجح) ملاذاً. صرت أصعد الجبل يومياً كي أقابله هناك. في سفح الجبل حفرة على شكل أريكة تطل على المخيم. وعندما يخرج من بيته القريب مهرولاً نحو السفح، أراه، فأخرج من البيت على عجل. أقطع الوادي الآسن. أصعد بسرعة إليه في المكان المعهود. لم أره قط دون كتاب. كان يفتح إحدى الصفحات ويقول: سمّع لي. من هنا. ويقرأ غيباً. ذات مرة قال لي عن الشخصية السوية وغير السوية من كتاب بعنوان "قضايا فلسفية"ً:
الحديث عن الشخصية السوية يقتضي الحديث عن الشخصية غير السوية. فكلمة غير سوي، تعني بصفة عامة، ومن الناحية اللغوية، الشذوذ أو الانحراف عن القاعدة أو المعيار. الشخصية غير السوية إذن شخصية مغايرة، شخصية تخرج عن المعيار. وبهذا يكون الشخص السوي من كان سلوكه يتطابق وهذا المعيار."
ـ أي معيار تعني؟! تساءلت مستغرباً.
ضحك صديقي من اهتمامي وتابع مستفسراً عن رغبتي في مواصلة الاستماع، فأشرت له بالإيجاب، قال:
ـ الحديث سيطول، ألا تريد النوم؟
ـ كلا. وألححت على صديقي أن يكمل محاضرته، فواصل




تمارااا 07-04-09 03:16 PM

مجرد تداعيات
مجرد تداعيات فقط
فجأة أطلت أمي عليّ من كوة في الحائط من الخلف ونادت فجأة:
ـ يا ولد لماذا لا ترقد وتنام؟ الفجر قرّب.الشمس ستطلع. مالك منفوشاً مثل القرود والدخان يملأ الغرفة. افتح النافذة قليلاً، تنفس.
ارتعدت فرائضي. لم أسمع جيداً ماذا تريد أمي. دق قلبي خوفاً. شعرت بأن هيأتي غير مريحة، وأن وجه أمي قناع. عيون جاحظة. تدلت خصلة بيضاء على وجهها وتغير صوتها تماماً، ربما لأنها كانت دون طقم أسنان، فهي تخلعه يومياً وتضعه في كأس مليء بالماء والملح. من أيقظها في مثل هذه الساعة؟ لعلها سمعت صوت خروج صديقي، أو ربما لأنها تشعر بالأرق ككل النساء المسنات. لم أشك بأمي أبداً. لم أظن أبداً أن لها علاقة بالجن أو بالشياطين. لكن إطلالتها من كوة الحائط أدخلت الرعب في قلبي. لم أقدر على الصراخ. احتبس كل شيء بداخلي. كتم صوت في حلقي. لم أطفئ المصباح، وأبقيت على شعلة صغيرة فيه، وقلت للوالدة:
ـ تصبحين على خير.
رقدت في السرير الذي صرّ واهتز واهتزت معه شعلة المصباح الصغيرة، فامتدت قليلاً إلى الأعلى وعادت. ولما تذكرت الآية القرآنية الكريمة "والجان خلقناه من قبل من نار السموم" (الحجر 27) قمت مسرعاً وسحبت المصباح من الحائط وفتحت النافذة، نفخت فأطفأت تلك النار اللعينة. انتظرت قليلاً وتلفتُ إلى الكوة. شاهدت وجه أمي يختفي. بقيت رائحة في الغرفة ودخان.
ولأن رؤية الجن من المعجزات. فالجن أجسام رقاق صافية هوائية لا ألوان لهم وعنصرهم النار كما أن عنصرنا التراب، شعرت بأن إطفاء المصباح لن يغير من الحال شيئاً. ولكن ذلك سيحول بكل تأكيد دون نشوب حريق.
لم تختف الرائحة في الحال، وظلت تجوب الغرفة. نحن خلقنا من ماء على الأصح. تركت التفكير بذلك. قال الله إننا من تراب. الله خلق آدم من تراب أما نحن فهل نحن كذلك؟ استغفر الله العظيم. وإذا كنا فعلا من الماء. فكلا العنصرين الماء والنار لا ألوان لهما. بسملت وحوقلت. وإنما يحدث اللون في النار المشتعلة، لامتزاجها برطوبة ما، تشتعل فيه الزيوت والكاز والكتان وغير ذلك. ولو كانت للجن ألوان لرأيناهم بحاسة البصر. ولو لم يكونوا أجساماً صافية رقاقاً هوائية لأدركناهم بحاسة اللمس.
أردت الكف عن التفكير في هذا الأمر، فصحيح أنهم يوسوسون في صدور الناس. وأن الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم في العروق والشرايين، وإذا لم يستطع الشيطان اختراق الإنسان فالله جعل له قوة يتمكن بها من قذف ما يوسوس به في النفوس عن بعد. ذلك يذكرنا بـ "الروموت كنترول" الذي يوجه أجهزة التلفزة الحديثة.
الرسول محمد ص رأى جنياً، وهذه معجزة من معجزاته. ويقول علماء الدين الأتقياء، ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله ص.
سأستحلف صديقي عندما أراه قريباً إن كان قد شاهد جنياً أم لا. حاولت النوم. لم أستطع. انتابني قلق. قرأت آية الكرسي من أولها وختمتها بـ "الله لا إله إلى هو الحي القيوم"، ولكني لم أنم، وبقيت مبحلقاً في السقف. أغمضت عيني. ضحكت من نفسي الهزيلة. التحديق في الفراغ والابتسامة المفاجئة والاعتقاد بأن كل الناس من الشياطين علامات مرَضية. ولكني أحس بسلامتي. هل هذا يكفي؟ هذا ما تولده المعرفة المتبحرة. ولو وصلت إلى العلم كله لن أصير نبياً. وأنا بالفعل لا أود أن أصل إلى العلم كله. ولا أريد رؤية الجان أو غيره. أريد فقط أن أنام. توجهت بالدعاء إلى الله أن ينقذني من هذه الهلوسة اللعينة.

تمارااا 07-04-09 03:17 PM

نجوى وعبد المنعم وانا

نمت متعباً وجه الصبح. طلعت الشمس وارتفعت درجة الحرارة. ولما لسعت حرارة الشمس قدمي ، سمعت طرقاً على زجاج نافذتي. كأنه حلم. نهضت لأرى صديقي (عبد المنعم) يقف في الشارع ويطلب مني الخروج. لكنني أدخلته ينتظر حتى أتهيأ.
دخل. خرجت ورشقت وجهي بقليل من الماء وحوقلت "لا حول ولا قوة إلا بالله". ظننت أنه جاء لي بأخبار جديدة عن أخيه المعتقل. لقد ضرب (ليث) أروع صورة في الصمود والعناد. نزل إلى (سجن المحطة) في عمان بعد تعذيب شديد، احتفل السجناء به كالأبطال. قدموا له عصير برتقال وأطعموه. زارته وفود من كل التنظيمات. وهنأوه وقبـّـلوه وتبادلوا دعوته إلى العنابر. أعرفه أنا أيضاً. إنه عنيد وصلب كأنه قـُدَّ من صخر.
أحضرت أمي لنا طبقاً من البيض المقلي مع الزهرة وصحن زيتون. أكلنا وشربنا الشاي بالنعناع. لبستُ وخرجنا. لم يضف (عبد المنعم) شيئاً جديداً إلى وضع أخيه في السجن، وحدثني هذه المرة عن صديقته (نجوى). إنها فتاة قصيرة القامة. مكتنزة الصدر. تبتسم باستمرار وتغمض عينيها عندما تنفرج شفتاها عن ابتسامة. متنوّرة ومتفتحة الذهن ودون عُـقد.
ـ تغيرت نجوى ولم تعد تودّني كالسابق. قال (عبد المنعم).
لم أنطق بكلمة، ولم أخبره بأن نجوى تنام معي، ولا أدري إذا كانت تحبني. ربما، والله أعلم. ابتسمت، وقلت له بشكل موارب:
ـ هكذا هي الأيام، يوم لك ويوم عليك.
عرفني (عبد المنعم) على صديقته في أحد المراكز الثقافية قائلاً لها:
ـ هذا صديقي (فرج الله) من أعز الأصدقاء.
تفحصتني فتاته جيداً. قدمت يدها لي وابتسمت ابتسامة ذكية. أخفيت شهوانيتي. طويت شبقي وتصرفت بشكل لائق حيال فتاة صديقي. لا أستطيع إلا أن أكون نموذجاً، كالمسؤول الحزبي.
(عبد المنعم) عرّفني بها رغبة منه في أن أؤثر عليها بأفكاري. كيف ألعب دور المفكر، وهل أنا مفكر فعلاً؟ ماذا أصنع معها وهي تحمل الأفكار الماركسية. أفكاري وطنية تقترب من الشوفينية وهي فوق القوميات تحلِّق. هي طليعية و أنا تقليدي، وهي أولاً وأخيراً صديقة صديقي.
تحدث (عبد المنعم) عن (نجوى) هذه المرة بحزن، وكأنها تنوي الإفلات من قبضته. أو من فلكه. وأخذت على عاتقي حل الخلاف وإعادة المياه إلى مجاريها. زرتها مرة في الجامعة حيث تدرس. استقبلتني بحماسة وود كبيرين. قبلتني على خدّي قبلة ارتعشت لها أوصالي. لعنت شيطاني الذي دفعني كي أخطو خطوة أخرى جريئة. ولكن ليس من أجل هذا حضرت إليها. ومن يدري. ربما كنت بحاجة إلى امرأة جريئة ومقدامة مثل نجوى. لم يفهمها (عبد المنعم) جيداً. كان أنيقاً ولطيفاً أكثر من اللازم. تعامل معها بطهارة الفتى الرضيع. كان شهماً وكانت امرأة أو أنثى.
قال لي (عبد المنعم) إنها بدأت تهتم بلاعب كرة قدم. لم أصدق. يبدو أن صديقي لم يقدم على أية خطوة تشعرها بأنه يحتاجها. لم يقل لها إلا كلاماً معسولاً ككلام الشعراء. وهي كانت مكتنزة بالمغامرات والحكايات.
عندما كنت أزورها كانت تتأبط ذراعي وتميل برأسها على كتفي وتأخذني إلى (الميلك بار). كنت أخجل من ملابسي ومكانتي لديها. أي دور ألعب. دور العاشق الولهان أم دور الأخ الحريص على أخته أم ماذا؟
هي لم تفسح لي مجالاً للتفكير الكثير. كانت جريئة وسريعة جداً. تسير بسرعة وأنا كالسلحفاة. عندما أحاول فتح ملف (عبد المنعم) تغلقه بجذب جسدي نحوها. تعاملت مطلع الأمر مع ملامستها لي ببساطة وكأنها تلاطفني كصديق صديقها. لم لا ألاطفها بالمثل. سؤال حيرني ثم تجاوزته. كانت تترك محاضراتها وتأخذني بعيداً، تتجول معي تحت الشجر وتمسك بيدي. وتجذبني نحوها تارة وتتركني تارة أخرى. وذات مرة في تجوال طال تبادلنا القبل. لا أعرف كيف تم ذلك بسرعة دون أن أحتسب. بعد ذلك احتضنتها بكل ما لدي من قوة. بكت. لعنت الأبالسة وكل شياطين الأرض. ماذا أفعل لها كي أُسعدها. حسبت أن (عبد المنعم) لم يؤد الواجب. ولكن الأمر غير ذلك.
طلبت نجوى أن أكتم سرها. وعدتها. أخبرتني أن لها علاقة جنسية مع أخ (عبد المنعم) المتزوج. قالت لي أيضاً إنها تنوي إنهاء هذه العلاقة، وإنها لا تجد مستقبلاً للعلاقة مع (عبد المنعم). اقشعر بدني. كيف حدث ذلك؟!
ماذا سيفعل (عبد المنعم) لو عرف بالأمر. سيجن حتماً. نجوى مقدسة بالنسبة إليه. ولكن أين هي والقداسة؟ إنها أنثى تائهة باختصار. صغيرة ويتلاعب بها الكبار. تحتاج إلى شاب من عمرها لديه نفس الإمكانيات ولديه القدرة على احتضانها والاستماع إليها.
جاءت من منطقة بعيدة لكي تدرس. سجّلت في الجامعة. وعبر قنوات حزبية تكفل بها أخ (عبد المنعم) الكبير. صارت مطلع الأمر تنام في بيته مع زوجته وأولاده. وتطوّرت الأوضاع فاقتطفها مرة دون علم زوجته وصارت عشيقته. تعرف (عبد المنعم) على نجوى في بيت أخيه وتربّت بينهما صداقة عميقة. تخللها قبل والله أعلم. ولكنها لم تستطيع التوفيق بين الاثنين. حاولت الهرب وترك اللعب على الحبال بين الأخوين. مرة هنا ومرة هناك. فارتمت في حضني. ماذا أفعل بها؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هل أتركها للريح. وماذا أقول لصديقي. هل أرفض التركة؟ وهل أتراجع؟ وهل أهرب ، أم أتحمل المسؤولية؟!
نظرت إلى صديقي (عبد المنعم) هذا الصباح القائظ وقلت له باختصار:
ـ دعك منها، فأنا سأتكفل بأمرها وسأخبرك فيما بعد بما يجري.
لكن عبد المنعم ظل يصطلي بحبها. استمعت إليه ولأحزانه. تركته في منتصف الطريق متحججاً بموعد طارئ وذهبت لرؤيتها إلى الجامعة ووعدتني بلقاء بعد أيام.
ماذا أفعل. إنني الشيطان بعينه. كيف أخون صديقي؟! ماذا يحصل لو عرف الحقيقة. سأقول له فيما بعد. سأكون صادقاً معه. متى؟ لا أعرف، أحتاج لوقت وأحتاج إليها. إنها شيطانة. أما أنا فغدار لئيم.

تمارااا 07-04-09 03:22 PM

كفو فاديس
في الطريق إلى الجامعة شاهدت صديقي غير العادي(عارف) الذي لا يخلو فمه من حكايات شيطانية. كان يتأبط كتاباً قديماً اهترأت حوافه. سألني باللاتينية (كفو فاديس): "إلى أين أنت ذاهب؟" أردت أن أكذب وأقول له إنني أنوي الذهاب في الاتجاه المعاكس فلم أستطع. قطع عليّ ترددي وانتظاري، وقال لي إنه على موعد مع صديقة له في الجامعة. فرحت لأنه لن يغلّبني ولن يلتصق بي. قلت: "وأنا كذلك أرغب في الوصول ِإلى الجامعة للبحث عن صديقة لي هناك". استأنست به.
سرنا على عجل إلى موقف الباصات. لم نتكلم. كان يضم الكتاب إلى صدره ونحن نركض. ركبنا. سألني إن كنت أرغب في سماع فقرة من كتابه، فرحبت بالموضوع. قرأ وروى البخاري في صحيحه بسنده إلى محمد بن سيرين عن أبي هريرة أنه قال: وكلني رسول الله ص بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو (يسرق) من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله ص، قال: إني محتاج وعلى عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه(أفرجت عنه) فأصبحت، فقال النبي: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً. فرحمته فخليت سبيله. قال: إما أنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله ص أنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله. قال دعني فإني محتاج وعلى عيال لا أعود، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله. قال: أما أنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم لا تعود، ثم تعود. قال دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله. فأصبحت، فقال لي رسول الله: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي ص: إما أنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا. قال: ذلك شيطان".
ـ لا أصدق، غير معقول. صرخت أمام صديقي عارف.
ـ صدق..صدق..كل شيء ممكن في عالم الإنسان.
ـ للشيطان قدرات هائلة على تغيير هيئته. ومن المحتمل أن يرتدي لباس شيخ جليل.
ـ جائز
ـ لم تخبرني ماذا حدث لصديقك (راجح)؟ سألته.
ـ راجح دلني على الطريق. أنا اقتفي أثره فقط. هو فيلسوف صغير. أما أنا فإنسان عادي وأقل. خطئي الوحيد أنني كثير الثرثرة. عبثي. في المدرسة جاءني الطالبان المتدينان مرة أخرى..طلبا مني أن أنزل معهما إلى أسفل الساحة. هناك كان ينتظرهما ثالث جاء من خارج المدرسة. قالا لي إنهما جاءا به إلى المدرسة لكي يهديني إلى الصراط المستقيم.
سألت ببراءة:
ـ هل أنتم من رجال الدعوة؟ لا أدري إن كانوا رجالاً أم لا، ولكن هكذا يقال عنهم. ابتسم أحدهم وقال: تقريباً. وأمسكا بي أحدهما لوى يدي اليمنى والثاني لوى اليسرى بشكل معاكس. أما الثالث الضيف المجهول فبدأ يضربني على معدتي بقبضة يده ويقول لي: قل لي: "لا إله إلا الله" قل "أشهد أن لا إله إلا الله". وظل يضربني إلى أن أغمي علي. عندما صحوت حاولت التسلق إلى مدير المدرسة. حاولت شرح الموضوع لمدرس كان هناك. وعدني بصنع شيء ما. بالطبع لم يفعل شيئاً يذكر. ألا تعتقد أنه هو الذي أرسلهم. هل هددوه. عرفت فيما بعد أنه رجل أمن. وانتهى الموضوع على هذا. ظلت لرجال الدعوة سيطرة وهيمنة. يضربون ويكفرون ويعاقبون ولا حسيب ولا رقيب. السلطة نائمة أو تغمض عينها. أما (راجح) فاختفى لفترة وعاد ملتحياً يدعو ويخرِّف ويقول إنه صار داعية. ولم يعد يتعرف علي.
وصلنا الجامعة. توجهنا إلى "الميلك بار". ذهبت إلى كلية العلوم أولاً. وهو سار باتجاه الكافتيريا. ودعته على أمل أن ألقاه فيما بعد في كلية العلوم، قال لي بعض المعارف أن نجوى ذهبت إلى "الميلك بار" لمقابلة صديق عزيز. انطلقت إلى هناك في الحال. ظننت أنه الرياضي الملعون. نار موقدة اشتعلت في قلبي. لم أكن مع نجوى على ميعاد، لكن لا ضير من لقاء طارئ. فأنا أرغب فيها. أود لو أفوز بجسدها. بلمسة من يدها. بقبلة. برائحة عطرها الذي يدغدغ الدماغ ويثير اللعاب. لم لا، فهي تريدني وأنا أريدها. سأتدبر أمر (عبد المنعم). أنا (فرج الله) ويحلها ألف الحلال. لن يطأها لا الرياضي ولا غيره. فأنا بحاجة إليها.
دخلت "الميلك بار" أبحث عن نجواي. كانت تجلس في الصالة في مقعد حول طاولة في الزاوية وصديقي (عارف) إلى جانبها. دهشت. حاولت إخفاء ذلك. قامت. ركضت واحتضنت ذراعي، قالت لصديقي: أعرفك بأعز الأصدقاء(فرج الله).
نهض صديقي مودعاً، وقال: إذن كما اتفقنا. مع السلامة وإلى اللقاء.
سلّم علي وشد على يدي .غمزني بطرف عينه وغادر الكافتيريا.
ـ من أين تعرفين هذا الشيطان؟ صرخت في الحال.
ـ تعرفت عليه قبل أيام..ثم صار يوصلني جريدة "الشعلة".
ـ "الشعلة" أو "الشرارة"، إنه شيطان تجدينه في كل مكان.
ـ إنه موسوعة متجولة ومثقف راق لكني لا أبدلك به. هل أنت غيور؟
ـ كلا، ولكني.....
ـ إنس الموضوع..هيا بنا نخرج..اشتقت إليك..عرّفني على أمك.
ـ هيا بنا إذن إلى بيتنا..
وانطلقنا إلى هناك في الحال.
ـ حدثني (عبد المنعم) كثيراً عن أمك وشجاعتها، كيف كانت تحضر لك الكرز في صدرها، وكيف قالت لك أمام المحقق "لا تعترف ولا توقع أولاد الناس في مشاكل" إنها جريئة تستحق وساماً.
ـ ستتعرفين عليها عن قرب. بيتنا متواضع وسترين غرفتي الصغيرة. لها شباك صغير يطل على زقاق ضيق. أمي امرأة طيبة وبسيطة ولكنها ذات شخصية قوية. هي التي تدير كل أمور البيت وأبي يتكلم أخيراً. عند أمي طيبة أجدها فيك.
ـ ولكنك لا تعرف كم أنا شريرة بعد.. (قالت نجوى وضحكت)
سرنا تحت ظلال الأشجار. أشجار قليلة ولكنها لا تبخل على من يلوذ بها. تحت الشجر تشعر بأنك في الجنة. جلسنا قليلاً واقتربت نجوى مني. استيقظت.. وانتصبت كل أعضائي. لمست قدمها من تحت الفستان. صرخت بي بدلع أنثوي.
ـ آه إنك تحترق..أنت دافئ جداً.
ـ أنا دافئ من أجلك فقط..
نظرت إليها، كانت متألقة كزهرة. وخصلات شعرها تتدلى على وجهها. شعرت من كلماتها أنها تستهدفني بدفء قادم، واشتعلت بيننا القبل..تأملتها وواصلت غزلي:
ـ أنت عذبة مثل نهير ورائعة كملاك..
ـ أتتقن السباحة.
ـ لا أعتقد
ـ وهل ترى فيّ ملاكاً حقاً..أنا شيطانة
ـ رأيت في حياتي شياطين كثيرة، لكن مثلك لم تر عيني قط..
ـ حقاً
ـ نعم، شياطين كثيرة طاردتني ككوابيس في صغري. كانت تلاحقني في الحلم والصحو. كنت أنهض من نومي صارخاً إنهم سيقتلونني. جاءتني هذه الأحلام مرات كثيرة. كنت في التاسعة من عمري. شعرت بأنهم يطاردونني. لكني تغلّبت عليهم وسحقتهم بقوة إرادتي. وتمردت على خوفي.
ـ وكيف حدث ذلك؟..
ـ هذه حكاية من طفولتي لا أعرف إن كنت ترغبين في سماعها الآن.
ـ لم لا ؟! أريد أن أعرف كل شيء عنك.
ـ كل شيء.. لا أظن أنك تستطيعين الوصول إلى كل شيء
ـ ولكني أرغب في الوصول إلى كل شيء!!
ـ ستصلين ولكن ليس دفعة واحدة..
ركبنا سيارة السرفيس على عجل بعد أن وقفت إلى جانبنا. كان السائق يعرف أننا نريد الوصول إلى المخيم حيث يرقد بيتنا المتواضع، فقال "إلى المخيم؟" فوافقت. أعرف أنه سائق أهوج يحمل روحه على كف عفريت. إنه دائم الاستعجال. دائم التجاوز. بسبب ودون سبب. يكره الإشارات الضوئية. يعرفه شرطي المرور. وسائقو الخط. عرفت فيما بعد أنه مات في حادث سير. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.
"الإنسان يرى من له عنده ثأر فيضطرب وتتبدل أعراضه وصورته وأخلاقه وتثور أعصابه. ويرى العاشق الوله معشوقته فتثور له أعضاء أخرى ويبتهج ويدخل السرور إلى قلبه. ويرى من يخاف فتحدث له أعراض أخرى مختلفة. يصفر ويرتعش ويضعف نفسياً.." بذلك صرخت في أذن نجوى.
فالله الحي القيوم جعل للجن قوى يتوصلون بها إلى تغيير النفوس والأمزجة. وقدرة على قذف ما يشتهون في الأنفس كما يشتهون.
شعرت بأن للشيطان عليّ سيطرة. الشيطان يقف خلف كل الأمور السيئة. كيف نعرف أنها سيئة أم لا؟ ما هو المعيار الأخلاقي؟ نحن نصنعه. هل الاقتراب من نجوى والابتهاج والتوتر من فعل شيطاني؟ لا أصدق أنها شهوة عادية. أنا ذكر لي شهواتي وهي أنثى لها شهواتها، ليس إلا. لا سوء في ذلك وإنما لذة غامرة. اللذة. ما هي؟ قد يقول لنا الشيخ إنها فعل شيطاني. حتى لو كانت، فالله غفار رحيم.
"الإنسان يحتاج إلى قليل من الجنون. فدون ذلك لا يستطيع أن يقطع الحبال التي تقيده". هذا ما قاله نيكوس كازانتزاكيس. لكن أي جنون يكمن وراء دعوة امرأة للتعرف على والدتي. هذا يحدث للمرة الأولى في حياتي المحافظة. له طابع احتفالي. إنه أمر طارئ فوق العادة. طلبت من السائق أن يوصلنا إلى باب الدار. دفعت له ما تبقى في جيبي من نقود.
استقبلتنا الوالدة استقبالاً حافلاً. استغرب الجيران وكأن زفة لعروس قد تمت. أحضرت الوالدة في الحال طبقاً من الفطائر بالسبانخ. فطائر دافئة طازجة من الفرن. أكلنا فشبعنا. أمي كانت لطيفة جداً مضيافة. لم لا..



تمارااا 07-04-09 03:24 PM

في بيتنا شيطان
هذا ما قالته أمي لجارتنا. أمسكت بزجاجات بيرة فارغة في خزانة الغرفة "لا أدري من أين جاءت هذه الزجاجات" قالت: "ابني عاقل ولا يشرب الخمور. من فعل ذلك؟ لا أحد غير الشيطان. لا أصدق أن ابني يشرب الخمر. ابني طاهر ولا يقرب المحرمات"..وصارت تبكي. وفي المساء، لما جاء أبي عائداً من عمله ورآها متجهمة، قالت له إنها حلمت بموت شخص ما من الأقارب. غطّت على القضية، وقيدت ضد مجهول، ضد شيطان.
لا تريد أمي قول الحقيقة كاملة فتدور حولها. بكل تأكيد هي تعرف "الفاعل" إنه شيطان. وهي لا تريد ذكر اسمه. لا أعتقد أن لديها رؤية. هي تراه، لا يتجول في البيت بل يعيش في جنباته معنا حيث لا ندرى. ما تقوله أمي أحياناً يحمل دلالات عميقة وألغازا وأحاجي لا يعرف سرها إلا الله ورسوله.
رحبت أمي بي وبنجوى. استقبالها لنا لم أكن أتوقعه. بعد طبق الفطائر بالسبانخ أحضرت لنا الشاي بالنعناع وتركتنا وحدنا. لم تبتعد كثيراً بكل تأكيد. ظلت متيقظة. وأطلت علينا أكثر من مرة مبتسمة. وكانت في كل مرة تتحجج بأشياء مختلفة في ثنايا البيت دون أن تنظر إلينا؟.
نجوى أعجبت بوالدتي وقالت لي إنها طيبة للغاية. قلت لها لا تستعجلي. وراء هذه الطيبة تختفي امرأة عنيدة ذات أعصاب فولاذية ولا تخلو من خبث نسوي. لم تصدقني نجوى.
في اليوم التالي، عندما اتفقت معها أن تحضر لنجرب أنفسنا في المساء. لم تتردد. دخلت غرفتي أثناء فترة نشرة الأخبار الرئيسية. لم نخبر أحداً. نامت في سريري حتى الصباح، احتضنتها واحتضنتني. لم نفعل شيئاً يذكر. لكني تذوقت طعم لحمها الطري المالح بجسدي ولساني. سريري الضيق كان كفيلاً بمساعدتنا على الالتصاق.
في الصباح الباكر ودّعتها على عجل. كان ذلك قبل صلاة الفجر، قبل نهوض الوالد والوالدة. كررنا هذه التجربة تسع مرات، ولم ننجح في التجربة العاشرة. طردتنا الوالدة من البيت في منتصف الليل. قالت لي بالحرف الواحد أنها لا تريد تنجيس البيت.

تمارااا 07-04-09 03:27 PM

اقنعة..اقنعة...
أطل قناع عليّ من النافذة. كدت أنفجر بالبكاء. كآبة وحزن وفراغ قاتل. ضجر وملل مزق العقل. هدوء رديء وحياة رتيبة. من خلف القناع ظهر صديقي الوفي (عارف). دخل، وفي الحال، قال:
ـ لا تخبرني ماذا حصل. أعرف كل شيء. لا تحزن وسأخبرك ماذا قال الفنان سلفادور دالي: "حين أموت ضعوا على وجهي قناعاً يساعدني على بث الرعب في قلب الشيطان" ولكنه تراجع قائلاً: "لا.. تفعلوا ذلك فوجهي يقوم بالمهمة على خير ما يرام.."
ضحكت من قلبي هذه المرة. وقلت لصديقي:
ـ ليت كل الشياطين مثلك يا صديقي، أنت تدخل الفرح لا الفزع في القلوب. سأخبرك بأشياء ما زالت عالقة بذهني لها علاقة بالأقنعة.
"كان ذلك في غمرة الرحيل المتواصل. أواخر الستينات. قبل وصولنا (المخيم) بعد دمار إربد، كانت القنابل الإسرائيلية قد سقطت فدمرت نصف مطبخنا. اقتلعت قنبلة شجرة مثمرة في الحديقة.
انهار الزجاج والتراب عليّ. كنت أرقد ملاصقاً للحائط الرقيق واختبأت تحت السرير الحديدي. وددت لو أصير دودة أو صرصاراً يمكنه أن يلوذ بالفرار بسهولة كما في قصة كافكا. لم يحدث ذلك.
والدي (العسكري أو الشرطي) دبر لنا أشياء كثيرة غير السرير من الوظيفة المهمة . وهذا الذي أجلس عليه الآن ربما يكون ذلك الذي كان هناك. أحضر والدي أسرّة زنبركيه تزعج صفاء الروح.
في الصباح بعد كل هذا الدمار كانت ناقلة جنود تنتظرنا. حملنا ما أنقذنا من أمتعة. والدي كان بالبزة العسكرية يستعجلنا. انطلقت بنا الحافلة إلى عمان. في الطريق تذكرت الطيور الرقيقة التي كانت تعشش في الشجرة. أين هي الآن؟. أين رحلت؟! وظلت الطلقة التنويرية تدل الطائرة المعادية على المواقع. فتخطئ القنابل لتهدم بيوت الناس وتقتلع الأشجار بما فيها من أعشاش طيور.
ابتعدنا قدر الإمكان. وظلت عالقة بالذاكرة قواعد الفدائيين والملابس المرقطة.
في الطريق إلى الجنوب، إلى عمان، كانت الكلمات تخالف قائلها. وتتضح الحقيقة في البكاء وفي الرمال. في الطريق إلى عمان تغيرت الملامح والطرقات. الأقنعة تبدلت على كل منعطف. والدوي ظل يصم الآذان. لم تخرس المدافع ولم تهدأ الطلقات. الدوي أعلن آية الصمم. عمري كان حينئذ ثماني سنوات من الرحيل والخوف والبحث عن الوالد الغائب دوماً.
القافلة قذفتنا على عجلة من أمرها في أحد جبال العاصمة. إنها تلة مرتفعة تطل على حي من الصفيح. بعد أيام هبطنا إلى غرفة من الزينكو. الأزقة المتشعبة دوّخت الرأس.
للوصول إلى البيت كان علي أن أتقن السير في المتاهة. إنه التيه بعينه. أين نحن وأي السبل توصلني إلى غرفة الصفيح البارد. كبير اخوتي بحث عني في متاهة الأزقة. اشتعلت بالبكاء. انهمرت الدموع غزيرة. في نهاية كل زقاق كنت ألمح وجهاً ينظر نحوي. وجوه وأقنعة كثيرة تغيرت. كل واحد يبحث بسرعة عن شيء خاص به. الأجواء ربما كانت متوترة وخطب قد يقع. الأقنعة ملونة.. سوداء حمراء بيضاء خضراء، وبألوان مختلفة. عبق من ألوان.
إنها لعبة الأقنعة والفزاعات ذات الرؤوس المخيفة. أدفعها عني بيدي وأجري نحوها. تلمسني وألمسها. ألمسها كي تلمسني فتمسني مساً ولا تنقذ مني شعرة. كدت أختنق. كنت كمن "يتخبطه الشيطان من المس" (البقرة 275) ولا حياة لمن تنادي.
غرق أخي الأكبر في متاهة الأزقة مبتعداً عن قلبي ويدي الممدودة إلى الأمام. ضعت. لا أحد أمسك بيد الولد ابن الثامنة. ضاعت مني الحياة والمدرسة والعائلة. أهون علي لو أخذتني قذيفة على أجنحتها إلى فيافي الجنة أو السماء. أهون عليّ لو طرت مع غصن الشجرة التي اقتلعتها القذيفة المعادية، من هذا الضياع القاتل. لم أسمع سوى صراخي الذي ملأ الكون ـ التيه. عتمة غمرت كل شيء. وأخيراً أمسك أخي بيدي وابتسم.
ذهبت مباشرة إلى النوم. صرخت في الحلم. أقنعة اقتربت مني وابتعدت. هاجمتني أيد ورؤوس من نار. عيون هائلة. حاولت الهرب، لكن إلى أين؟ وتسألني الأقنعة: أين ترحل؟ أين تبتعد؟ وأهرب مقترباً منها كل مرة. ابتعد ملامساً ضحكات من الأذن للأذن، والعيون واسعة فارغة وملامح هادئة بلا معنى. لا أحد يسألك ماذا تريد ومن أين أنت. تمر الأقنعة بصمت. تتجاوزك وتتجاوزك. استمرت أحلامي هذه حتى أيلول الأسود وبعده.
بالرصاص خزّقوا الملابس...
وفي غضون أيام قليلة وبأوامر من الوالدة حفر نفر من أبناء حارتنا في المخيم (حنيكين ـ هكذا كان اسمه قبل أن يتحول إلى حي الأمير حسن) ملجأ في وسط البيت. أمسكت أمي بالفأس وضربت الضربة الأولى. قالت كلمات غير مفهومة: "يا أهل العزم.. يا أبا عقاب هات يدك". من كان عقاب لا أعرف. كنا قلة. وإذا بفوّهة تطل على حفرة كبيرة، وما كانت سويعات إلا والملجأ صار جاهزاً..انحشر أهلي في الملجأ مطلع الأمر ووسعناه في الأيام اللاحقة.
كان ملجأنا أول ملجأ يقام في المخيم. عرفت أمي أن أموراً هائلة ستحدث بحدس أو بوحي من روح. أمي روحانية وتؤمن بالروحانيات. تناجي الأرواح لا بالقرع أو الطرق بل بالبكاء والتهليل والدق على الأرض. ربما بذلك تخرج الجن من تحت الأرض. الحقيقة بالنسبة للوالدة كلها روحية. لا أدري إن كانت لعبت بتحضير الأرواح، إلا أنها تؤمن بأن أرواح الموتى تتصل بالأحياء عبر وسيط ما.
كانت أمي دائماً تطلب منا أن نذكر الأموات بالخير مهما كانوا، أشراراً أم طيبين. كانت مزاجية جداً. تراهاً أحياناً طيبة جداً تعطيك ما لديها من نقود. وتراها أيضاً منقبضة النفس ومتجهمة أحياناً أخرى وكأنها تنوي على شر. لعنتها مؤلمة وكسب رضاها واجب وضرورة".
توقفت عن الكلام ونظرت إلى صديقي الذي حدق بي بعينين فارغتين، فانتبه لي وقال:
ـ أنا أذْن مصغية، تابع حديثك.
صمتُّ قليلاً عندما دخلت أختي لتقدم الشاي لنا. طرحت السلام. لم تنظر في وجهينا. انصرفت في الحال.
قلت لصديقي
-هذه أختي.
لم يجب وكأنه يعرفها أو أن الأمر بديهي، فهي ليست أمي. قال: وماذا بعد؟
" أردت أن أقول، إننا في غضون أيام وسعنا الملجأ. وعندما اندلعت (الحرب الأهلية-هكذا سماها الإعلام الغربي)، جاءنا إلى الملجأ عشرات الناس. تلك الوجوه والأجساد انحشرت في المكان الضيق. أربعون قناعاً تقريباً. هذا يبتسم والثاني يبكي والآخر يفكر والرابع يتألم وغير ذلك..
حُمّاي الداخلية انتقلت لتملأ المكان والدنيا. هل انتقم الرب لي؟ اللعنة عمّت البلاد. كدت أظن أن الحرب اندلعت بسببي. للانتقام لي. الوجوه تبادلت الأدوار في الملجأ. من بكى فكر ومن تألم ابتسم وهكذا بتواصل. الوجوه جامدة بلا معنى كالموت.
تصبب العرق كالدموع من الجميع في حر أيلول القائظ. تنفسنا جميعاً كالأموات. الموت خيّم لكنه ظل بعيداً. حمتنا بكل تأكيد روح أمي وأرواح أخرى وإيمانها الذي لا يفل."
نهض صديقي فجأة، وقال: أريني إياه.
ـ ماذا؟!
ـ الملجأ!
ـ حولناه إلى بئر ماء للشرب.
تنحنح صديقي، وبعد كل نحنحة ينطلق في حديث ما.
قال: لا أستطيع أن أجزم بانتصارك على الشيطان وحزبه. وإن كان بك مس فهو آنيّ بلا شك. فبيتك محروس بمائة من الجن الطيبين وأمك امرأة مؤمنة. وأقول لك أن لك حجاباً يحوي على تعويذة وآيات قرآنية. وقد قال الله عز وجل "ولا تقف ما ليس له به علم" (الإسراء الآية 36) لكن قوى فوقانية كانت بكل تأكيد تحميك وتحوم حول رأسك فلا نفعت ممارستهم معك ولا وسوستهم. ولست ممن يأكلون الربا أو يتعاملون به حتى يتخبطك الشيطان من المس كما "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس" (البقرة-275).
وهنا ببراءة سألت: إذا صح أن الجن قبيل إبليس وإبليس كان من الجن: "وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" (الكهف-50) "والجان خلقناه من قبل من نار السموم" (الحجر-27) وفي مكان آخر من مارج من نار والعفريت من الجن: "قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك" (النمل-39)، كأن للعفريت زنبركا يتحرك به، فأين موقع الشيطان من الجن، وكيف سيعاقبهم ربنا في المستقبل؟
ضحك صديقي، وقال: سألقنك درساً في أمور الجن.!
قال: الله خلق الجان من مارج من نار. وإن إبليس والجان مخلوق واحد. من قبيلة الجن تجد الكافر وتجد المؤمن. إلا أن إبليس والشيطان والعفريت اسم للعاتي المتمرد من الجن هل فهمت الآن؟
ـ أحاول.
تابع صديقي عارف: أما الملائكة فهم من المؤمنين. مخلوقات روحانية لا ترى بالعين المجردة، وهم قبيلة سجدت لآدم إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين. إذن، يمكن الاستنتاج أن إبليس كان ملاكاً. ولكن الملائكة من نور وإبليس كجان من مارج من نار. والشيطان كواحد من الجن عدو للإنسان المخلوق من طين ومن يتحزب في حزب الشيطان ويقف في صفه فسيكون يوم القيامة من أصحاب السعير. فلإبليس الشيطان جنود أعداء للإنسان يوسوسون له. وقال الله تعالى "ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين" (الأعراف -19، 20).
الشيطان يوسوس وينخس ويوخز ويخطم (يضع مقدم الأنف والفم) على القلب أو الأذن، ويمس ويخبط. فنقول تخبطه الشيطان، أي مسه بخبل أو جنون. وتسمى إصابة الشيطان خبطة والمس الجنون. فيقال مس الرجل فهو ممسوس وبه مس واصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان ليحمل له الجنون. ونقول كناية إن المس جنونً والمس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذى. وتجد كل ما قلت لك في لسان العرب والصحاح تحت مادة (خبط) وكل ذلك مما صرح به القرآن الكريم ودل عليه من غير احتمال وأصبح معلوماً من الدين بالضرورة.
صرخت: هذا يكفي يا صاحبي.
صرخت وكأنني غير مصدق أن هناك عالماً غير مرئي يحكم ويرسم ويتناولنا بالزجر والخبط والنخس والوخز والخطم وما شابه ذلك. فهذا الوضع يعني أن كل شخص يلاحقه جن. وأننا عبيد للجن وليس لله. نحن مخيرون ولسنا مسيرين من الله ولكننا مقيدون ومدفوعون ومحرضون من قوى خارجية ذات مخالب وأظلاف وقرون وقدرات هائلة خارقة. لهم قدرة على التناسخ والولوج داخل جسد الإنسان، يغيرون صوته ولونه، ويحكمون في الليل، يغوون ويمسون ويدخلون من الأبواب ومن النوافذ يجلبهم الضوء يلتقمون القلوب يوسوسون وقلما يخنسون، هم وراء كل كارثة وبلوى ينشرون الفسق. يصرعون ويتمردون على الله وسلطانه لا يردعهم رادع. يرقبون البشر يرونهم عن قرب ولا نراهم. يحضر الجان إلينا مرة وأخرى تلو الأخرى نعرف أنه يغوينا ويغوينا ثم يبتعد عنا ضحكاً مستهزئاً. يمسك بنا ويسيرنا ولم يقدر أنبياء على الإمساك به، لهم أجسام رقاق صافية هوائية، لا لون لهم وعنصرهم النار كما عنصرنا التراب.
عندما نثور ونضطرب يكون الشيطان وراء ذلك وعندما نبتهج ونجذل إبليس خلف ذلك، وعندما ننرفز ونغضب يكون العفريت الدافع الأوحد. يجري الجن في الإنسان كما الدم في العروق والهواء في الصدر. لكل منا شيطانه يستلمنا من المهد إلى اللحد.
هم يزفوننا إلى القبور.. ما أكبر أمرهم وما أعظم شأنهم وما أخطر سلطانهم.. الله أكبر. الله أكبر العلي القدير واستغفره إنه غفور رحيم.

آية الكرسي

قفز صديقي(عارف) إلى رف المكتبة وسحب القرآن الكريم وفتح على آية الكرسي رقم 255 من سورة البقرة وبدأ يقرأ:
"بسم الله الرحمن الرحيم
الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم.
صدق الله العظيم"
ارتاحت أعصابي قليلاً وبت أحرص على كلماتي أكثر من الأول. عدت إلى الوعي الذي غاب وشكرت صديقي الذي أعاد السكينة إلى قلبي ولم أقل: ذلك شيطان... كما قال الرسول لأبي هريرة.
فرح صديقي واطمأن لصفحة وجهي التي اعتلاها الهدوء وأراد أن يكمل معروفه فقرأ لي "الفاتحة" و"الفلق" و"الناس" التي تقول:
"بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجِنة والناس.
صدق الله العظيم"
تابع صديقي قائلاً: للفاتحة والمعوذتين أهمية في ردع إبليس وحزبه، الله أعلم أي ردع. ولا أريد أن أقرأ لك سورة ياسين وفيها 88 آية، فهي أقرب إلى الصلاة على روح الأموات، ولا أعتقد أن أحداً قد مات، وإن رغبت فاقرأها وحدك في المستقبل، أو أدع أمك أن تصنع لك من هذه السور والآيات حجاباً على صيغة تعويذة تسترك به وتحميك من الأعين الشريرة والقوى الظلامية. وهناك سبع سور لا أعرفها بالضبط تعتبر معاً مضفورة سداً منيعاً يحميك وينصرك على أعدائك وهذه السور ـ والله أعلم ـ هي: الأنعام، الكهف، يس، فصلت، الرحمن، الملك، والنبأ.
بقي أن أقول لك يا صاحبي إن أسماء الله الحسنى هي أسماء مقدسة من يحفظها يدخل الجنة فاحفظها أنت أيضاً.


تمارااا 07-04-09 03:28 PM

اختفاء عبد المنعم اليساري
صديقي (عبد المنعم) تعرفت عليه في المدرسة وتماسكت علاقتنا في ندوة شعرية لـ(محمد لافي) اخترقت قلبينا تماماً. هذا الشاعر اشتغل في التدريس في مدرسة خاصة بعد أن وجد صعوبة في المدارس الحكومية. عارض الحكومة ففصل من المدرسة الحكومية.
أنا وصلت المدرسة الخاصة ليس بطيبة خاطر. كنت مجبراً. لم أقدم الامتحانات النهائية بسبب اعتقالي في حملة اعتقالات احترازية قامت بها السلطة لتمنع نشوب مظاهرات أو حوادث شغب. لا أعرف إن كانت الحكومة محقة في اعتقالاتها. لكن لها مبرراتها. أقول ذلك بعد مرور ردح من الزمن. الخطأ التي ارتكبته الحكومة برأيي كان التقييد على الحريات الديمقراطية ومنها: حرية الرأي والتعبير والتفكير والاعتقاد. هذه الحريات من أسس حقوق الإنسان والتعديلات على هذه الحريات تعني مخالفة للقوانين الدولية والشرائع الإنسانية. هناك خطأ آخر ارتكبته الحكومة وهو أنها لم تفتح مجالاً لحرية تكوين الأحزاب وظلت ترعى حركة دينية متخلفة أدت إلى انتشار ظاهرة التطرف فيما بعد. بلا شك أن الحكومة تعض أصابعها ندماً. لكن الآن الأمور اختلفت.
(عبد المنعم) صديقي اليساري لم يكن كافراً أو ملحداً. وإنما كان يسارياً من النشطاء ويمتاز بوطنيته التي تختلف عن غيرها بمميزات خاصة. يكره في الشيوعيين عقيديتهم.
فشل (عبد المنعم) في امتحانات الثانوية العامة. لا أدري إن كان ذلك إهمالاً منه أو كما ادعى أنه لم يعد يستسيغ المنهاج التعليمي أو المقرر. هل الإهمال والتقصير سبب الفشل أم العبثية واللامبالاة؟ تعبير الفشل قد لا يرضيه. لكن هذا هو الواقع.
نجوى حبيبته امرأة عملية تريد شيئاً ملموساً. نسجت علاقة جنسية مع أخيه، وضاجعت من تهوى.
بنت نجوى علاقة عشق معي استمرت عشرة أيام انتهت بحزن وأخطاء لم أدر لماذا. كنت أنا السبب. الشيطان يستحي أن يفعل ذلك.
لما التقيت (عبد المنعم) بعد صدور النتائج واقفاً في ناصية الشارع، كان ساهماً وحزيناً. سألني إن كنت أملك كمية من النقود. أحنيت رأسي بالإيجاب. فأخذ المبلغ الذي يريد وسحبني من يدي إلى دكان. اشترى نصف لتر من العرق. وقال تعال نحتفل. خجلت من نفسي. بماذا نحتفل. بنجاحي وبفوزي بصديقته؟! أم نحتفل برسوبه وبفشل علاقته معها؟ لمحت في عينيه رغبة في الانفلاش والنسيان والهرب. إلى أين يا صديقي؟ كفو فاديس..كفو فاديس..
اقتربنا من تل محاذ لكومة زبالة. مزبلة عشوائية ككل مزابل شرق الأردن.
أراد (عبد المنعم) أن يجلس هناك في ظل صخرة.
قال لي: هذا هو مكانه المفضل بعيداً عن الأرض المبسوطة والجافة حيث لا يمكن الاحتماء بشيء.
وقال: تعال أحدثك عن نجوى.
قلت في نفسي: من يحدث الآخر عن نجوى.
قال: تعال نتصارح.
قلت: تعال نتعاتب.
"لماذا يموت الأنبياء".
هكذا بدأ الحديث (عبد المنعم).
لم أصدق أذني؟ كنت أفكر في نفس الموضوع.
تابع عبد المنعم:" لو لم يمت سليمان الحكيم ـ مثلا ـ لعرفنا ما لم نعرف ولظل نبياً ولم يحيرنا في معضلة الكذب والصدق، ولو اصطفاه الله إلى جانبه بطريقة عادية غير الموت لكان إيماننا بما قيل عنه وبما قال أرسخ. المسيح الفلسطيني عيسى بن مريم لم يقتل وشبه لهم وانتقل إلى هناك بأسلوب غير مألوف. محمد ص كان آدمياً ، انتقل إلى جوار ربه وعاد على ظهر البراق ولكنه مات ميتة عادية.
ولكن أي موت نفتح صفحته الآن ونحن نبحث عن السلوى والنسيان".
بدا (عبد المنعم) بالشرب فقلت له " بصحتك!".
"الأنبياء المزيفون ذئاب في جلود خراف، والأنبياء غير المزيفين خراف بجلود ذئاب"
قلت لصديقي (عبد المنعم)
ابتسم وقال: هذا كلام يعجبني. أنا دائماً أشتاق لأحاديثك.
ـ وماذا تريد أن تسمع أيضاً.
ـ خبرني عن نجوى. اشتقت إليها.
ـ لا أظن أنني سأراها في الأيام القريبة، ولكن تناساها، هذا أفضل لك.
ـ ماذا تقول؟!.
ـ قلت لك ما سمعت. لا يجوز أن تستنزف نفسك في مشروع خاسر.
ـ وأين تكمن الخسارة!؟
ـ لا أعتقد أنها خسارة بالمعنى الصحيح، ولكني أراك متيّما وعاشقا في اتجاه خاطئ. هي لا تستحق إنسانا مثلك. أنت أكثر نظافة وطهارة. وعليك أن تجد طريقاً آخر غير الذي تسير عليه..
ـ نعم..هكذا أفكّر. أتطلع لإعادة الثانوية والاهتمام بنفسي قليلاً. لتذهب نجوى إلى الجحيم. لقد نسيتها. لم تعد تهمني. لكني شغف بسماع آخر أخبارها.
ـ هل ما زالت تمشي مع لاعب كرة القدم الوسيم.
ـ لا..لا أعتقد أن الخطر يأتي من طرفه..
ـ الحذر يأتي من مكمنه.
رد (عبد المنعم) وابتسم. وتابع:
ـ لم لا تحاول أنت معها، فهي امرأة.
تجهم وجهي قليلاً، ورأيت أنه يريد استدراجي، فدفعت الاتهام عن نفسي، وقلت له:
ـ يا صديقي، لا أريد أن أخفي عليك، حاولت أن أقنعها بالعودة إليك ولكنها أفصحت لي بسر جعلني أقدم على خطوة كنت أخشاها.
عدّل (المنعم) من جلسته وتفتّح وجهه استعداداً للاستماع فعلق:
ـ ملحت الجلسة يا صاح
ـ قلت لك إنها معذورة. وصارت الآن معي ولا أعرف إلى متى. والسبب هو أخوك.
ـ ماذا تقصد؟
ـ طلبت مني أن لا أفشي سرها لك. ولكن بحكم الصداقة التي تربطنا، أود أن أقول لك أن أخاك هو السبب. لقد نام معها أكثر من مرة دون أن تعرف زوجته بالأمر. كان ذلك قبل أن تصير بينكما علاقة حب. ولما نشأت بينكما تحيّرت بين أن تقول لك أو لا تقول. فهي لا تريد أن تجرحك. أنت طيب وقلبك غض. وهي تخشى عليك. فتراها تهرب منك وترتمي في أحضان الآخرين. وأنا من الناس الذين لمسوها.
ـ لا أصدق.
ـ إنني أقول الصدق.
ـ أصدقك..ولكني لا أصدّق
ـ لا تصدق ماذا..؟
ـ لا أصدق أن أخي يستطيع أن يفعل ذلك. لقد كان مثالاً يحتذى به. كان بالنسبة لي نموذجاَ للزوج الذي لا يخون. كان يريني أن علاقته الزوجية نموذجية. شيء مضحك. كان النموذج. علاقة نموذجية.. علاقة نموذجية. هكذا كنت أطمح. هكذا كنت أريد. أردت أن تكون العلاقة بيني ونجوى علاقة نموذجية. تركت الأمور تسير كما تشتهي.
كنت أقول دائماً: كل قادم جميل. القادم أجمل. أنا غير عاتب عليك. أن تنام معك أفضل من أن تنام مع غيرك.
ـ ولكنها طلبت مني أن لا أقول لك عن الموضوع..
شرب..وشرب، فأكثر.
"استغفر الله العظيم. إننا نرتكب المعاصي يومياً. ولكنه غفور رحيم. سنعقل يوماً. اليوم خمر وغداً أمر". قال.
ـ كيف الأوضاع عندك. هل من جديد. دعنا من نجوى وقصصها.
ـ لا جديد.
ـ لم لا تشرب معي..
ـ لا شكراً !
ـ ومن أين هذه الرسميات؟
ـ منذ اليوم.
ـ من تخشى؟
ـ أخشى نفسي.
"وعليك الآن أن تتصرف مع نجوى وكأن شيئاً لم يحدث. لديها قابلية جيدة وقدرة هائلة، وعليك أن تمتع نفسك بالطيبات. عليك أن تتعامل مع الموضوع ببساطة وأن تترك المثالية وأن تفكر بنفسك." تابعت.
ـ ...
ـ وأرجوك أن لا تخبرها بأنك عرفت عن علاقتها بأخيك مني. لقد وعدتها بكتمان السر.
بدأ صديقي يشعر بخدر في رجليه. حاول أن يقف فقعد. حاول أن يقف مرة أخرى فلم يستطع. لحسن الحظ أن بيته قريب. "هل تريد العودة إلى البيت"، سألت ولم يجب. بدأ يشرب بشكل متلاحق ويترنح يميناً وشمالاً في جلسته. شعرت أن لا فائدة من مواصلة الحديث معه. خاطبته ولكن عبثاً. رجوته أن يكف عن الشرب. لا حياة لمن تنادي. بقيت أنادمه حتى غابت الشمس وعتّمت الدنيا. لا يصح أن يعود إلى بيته في ضوء النهار. ماذا سيظن الجيران. (عبد المنعم اليساري) سكران. هذا الأمر يسيء إلى سمعته. وهذا ما لا أريده له. بقيت معه إلى أن امتلأت الدنيا بالعتمة. حملته على ظهري كصليب متهاو ، جرجرته إلى البيت. استقبلتنا أخته (سمر) بالباب. فتاة طويلة القامة. ذكية. منشغلة في أمورها الخاصة. قلما تحادثنا. طلبت منها أن تضع (عبد المنعم) في الفراش وتغلق الباب وأن تفتح النافذة وأن تقدم له إبريقاً من الماء لكي يشرب وأن تتكفل بإطعامه لمدة يومين متواصلين. هزت رأسها بالإيجاب. فابتعدت مسرعاً.
عدت إلى بيتي ماراً بصديق يعزف البيانو. يسكن في الجبل المحاذي للمخيّم. اسمه منحوت من لغة أجنبية. لكنه مسلم. وهو من عائلة غنية. تعرف المستوى الاجتماعي للفرد من اسمه. الفقراء يسمون أبناءهم هكذا: محمد، أحمد، محمود والأغنياء هكذا: روبين، فادي، شادي وغير ذلك. ليست هذه قاعدة ثابتة. فالملوك يسمون أبناءهم بـ "محمد".
صديقي (روبين -وأسميه ماهر) يعزف على آلات موسيقية متنوعة. البيانو يتصدر الغرفة. آرائك مثيرة جميلة يحلو للمرء التمدد عليها والغوص فيها. في الصالون يجلس مجموعة من الأصدقاء والزملاء. يتناقشون في أمور سياسية. وللمصادفة كان صديقي المهذار(عارف) يتصدر المجلس ويتحدث، لكن هذه المرة في السياسة. سلّمت على الجميع وجلست استمع وأفكر.
من أين جاء هذا الإبليس (عارف). أنا أحبه لحسن إطلاعه وسعة معرفته، ولكني بدأت أهابه وأخشاه. أراه في كل مكان، حيث لا أحتسب. قد يضحك الناس من أقوالي هذه فأنا لست مركزاً للكون بكل تأكيد.
قطع حبل أفكاري ما قاله صديقي عارف:
ـ العالم مليء بالتناقضات. صار قرية صغيرة. لكننا نفتقد الشروط الديمقراطية للعلاقات بين الأشخاص. نحتاج إلى قنوات أفضل من القنوات المعهودة في العلاقات بين الأشخاص للوصول إلى الناس. ويجب دمقرطة هذه القنوات...
وقال كلاماً مشابهاً كثيراً وأضاف:
ـ لا أعتقد أن مجتمعنا تحكمه قوى خفية. قوى ظلامية كما يفترض بعض الناس. الظلام إن وجد فهو داخلنا. نحن بحاجة إلى قليل من الضوء لنفتح أعيننا. لا أظن أن أحدا يتآمر علينا سوى سوء اطلاعنا وسوء فهمنا وقلة معرفتنا. لا أظن بوجود قوى خفية تلعب وراء ظهورنا في الظلام. أخطر عدو لنا هو الجهل.
ملأ قلبي طرباً بأقواله هذه. شعرت بانتشاء في فضاء الكلمات التنويرية لصديقي عارف. أي عصر تنوير نعيش! شعرت بفارق كبير بين أحاديثه عن الأرواح والشياطين والعفاريت وأقواله عن أهمية دمقرطة وسائل الاتصال وتنظيف قنوات التخاطب بين الأشخاص من المعوقات. امتلأت فخراً بصداقتي له.
استمعنا إلى عزف على البيانو. وظهر للجميع، أو لي أنا للمرة الأولى، أن صديقنا (ماهر) لا يعزف فحسب بل ويكتب النوت الموسيقية. عزف لنا مقطعاً من ألحانه، وألحق ذلك بمعزوفات مشهورة لموزارت وبيتهوفن وشوبان.
تركت المجلس. الوقت تأخر حتى قارب منتصف الليل. صديقي المهذار رمقني بعينين متوقدتين دون أن ينطق بكلمة.
وفي صباح اليوم التالي نهضت يبللني العرق. حلمت أحلاماً مزعجة. صداع كاد يفجر رأسي. لعله خير. حلمت أن كلاباً تنهش جسدي نهشاً. جاء الأقارب للتهنئة بالنجاح. هل لنجاحي كل هذه القيمة!؟.
والدي كان يستقبل المهنئين ويودع المغادرين، كان يتحدث عن المعاني المعنوية والاعتبارية للنجاح في التوجيهية. كنت غائباً تماماً عن الوعي. لا يعنيني هذا الاحتفال الشكلي. هناك قضايا أهم. أكثر معاصرة. أكثر مصيرية. الحياة صعبة. تحتاج إلى كفاح. لست أول ولا آخر من ينجح في هذه الدنيا.
وماذا بعد؟
ظهراً، وبعد أن هدأت الحركة في البيت، ذهبت إلى أقرب بدّالة تلفون. تبعد البدّالة عن البيت مسافة نصف ساعة مشياً على الأقدام وعشر دقائق بالسيارة. اتصلت بنجوى.
ـ من يتكلم؟!
ـ أنا يا نجوى
ـ من أنت؟
ـ صديقك فرج الله
ـ اسمع، أرجوك أن لا تتصل بي مرة أخرى
ـ ماذا حصل؟
ـ أنت لا تعرف؟!
ـ لا أعرف!!
ـ ماذا قلت لـ (عبد المنعم)
ـ يجب أن نلتقي وسأخبرك بكل شيء
ـ لقد تأخرت..(عبد المنعم) ودّعنا..اختفى!
ـ ماذا تقولين
ـ ...
ـ ماذا؟
ـ أنت السبب!!
ـ كيف حصل ذلك؟!
ـ أنت تعرف جيداً ماذا حصل. كل شيء بيننا انتهى. أنا لا أعرفك. ولا تحاول الاتصال بي مرة ثانية.
ـ ...
وسمعت إغلاق سماعة التلفون.
وقفت كالمخبول. درت حول نفسي مرة، مثنى وثلاث ورباع. لا أدري ماذا أفعل. تجوّلت في المدينة. كنت ساهماً كمن أصابه مس. صرت أحدث نفسي.
تذكرت مقولة لـ (توماس شاش) "إذا تحدّثت مع ربك فهذا يعني أنك تصلي. إما إذا تحدث ربك معك فهذا يعني أنك مصاب بالفصام". لكني لا أتحدث لا مع ربي ولا ربي معي. إنني كالمطرود. التائه، الملفوظ أو المنبوذ. مصاب بحالة من الإحباط. لا أقدر على صنع شيء يذكر. درت في المدينة دون هدف.
اهتديت إلى مقهى (السنترال). هناك يحتسي الشاي بعد العصر صديقي وظلّي عارف. وجدته. كأننا على ميعاد. وقف في الحال وأقعدني. قال لي إنه يعرف ما حصل مع نجوى. وقال لي كما نقول في الدارجة "تسلم روحك" كأنه بذلك يعزّيني بصديقي. كان لطيفاً جداً معي. نزّل لي القهوة المرّة وربّت طويلاً على كتفي.
ـ لا تظن أنك أنت السبب. إن حصل وأعطانا عمره، فهذا قضاء وقدر. وغير معروف أين هو. لا أعتقد أنه تبخر.
ـ لكن كيف حصل ذلك؟!
ـ لا تقلق. اهدأ. اشرب القهوة. خذ قسطاً من الراحة. تبدو عليك علامات إعياء وإرهاق. لم تنم الليل.
ـ قل لي بالله عليك كيف حصل ذلك. أوصلته إلى باب بيته ثملاً، هذا صحيح، ولكن أن يقدم على ذلك، فهذا مستحيل.
وبعد أن جففت عرقي المنسكب، قلت:
ـ بعد أن أوصلته مباشرة، حصلت مشاجرة بينه وبين أخيه (عاصم). صفعه أخوه على خده قائلاً: "ألا يكفي أنك رسبت وتعود سكران إلى البيت".
حاول (عبد المنعم) تجاهله وتجاهل أقواله. ولكنه بدأ يقدم لـه مواعظ أخلاقية. فصرخ فيه (عبد المنعم) أن يذهب إلى الجحيم وإلى معشوقته نجوى ليعلمها درساً في الأخلاق بدلاً منه. وطلب منه أن ينصرف وألا يزعجه. وفي الصباح فتحت أخته الباب. لم تجده. كان الباب مغلقاً بالمفتاح. والمفتاح ظل معها.والشباك مشبك بالحديد. وجدت بقعة صغيرة من الدم وفراشا منفوشا. هل قطع أوصال يده؟ غير معروف أبداً ،أين ذهب، غير معروف؟
سرَتْ قشعريرة في جسدي، فلم أطق الاحتمال، وانهارت الدموع من عيني. صرت أهذي:
ـ لا أصدق.. لا أصدق..
ـ هذه إرادة الله. أضاف صديقي.
وبقيت أعتقد أنني أنا الذي قتلته.
" إنني أنا السبب في اختفائه أو موته. قتلت صديقي." حدثت نفسي.
صار الحادث هاجسي اليومي طويلاً. وصرت أزور المكان الذي جلسنا فيه آخر مرّة. المزبلة احترقت وصارت رماداً، كنت أقرأ قصائدي له. وأمامي يقعي الرماد وكلب ضال.
كنت أقرأ شعري للرماد، لروحه، له، أناجيه، أطلب منه أن يعود. استحلفه أن يكف عن الرحيل:
لن أقول وداعاً يا صاح
أنا ما تقوله الريح للريح
سفر ومواسم
ألعن هذا الصمت
أوقد قنديلا
لتأتي حبات المطر
كل نساء الأرض
عرائس البحر
ترقص لك، تلفظ اسمك
وتغني:
تنثر الأغنيات لك
في الريح
كي تستريح
من عبث السفر والانتظار
كيف أنت الآن؟
كنت تعرف جيداً يا صاح
ألا وقت للانتحار
لن أقول وداعاً
إن ارتحلت
وارتحلت النوارس
وإن وزعتنا الحدود
مزقتنا الوعود
طاردتنا القيود
في دول الكلام
سلامي عليك..سلام

اصدقائي..

لا أعتقد أن (عبد المنعم) مات بضرب من الجن. إن حدث ذلك فعلاً فهو شهيد. فقد قال رسول الله ص "فناء أمتي بالطعن، والطاعون: وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة" (رواه أحمد والطبراني) ومعناه: من أسباب هلاك الأمة: الطعن بالحراب في الجهاد، والطاعون: الذي هو ضرب الجن لبعض الناس، والميت بأحدهما شهيد.
لا أعتقد أنه مات، وإن اختفى فسيعود. هذا اعتقاد راسخ لدي. كان من أعز الأصدقاء.
وأصدقائي منذ الطفولة بعدد أصابع اليد الواحدة.
(منذر):
كان يسبقني بصف واحد في المدرسة. ومن أذكى الأصدقاء. أو هكذا كنت أعتقد، لأنه كان يقرأ لي قصص سوبرمان.
لم يقرأ لي أحد غيره قبل تعلمي القراءة والكتابة. لم يفارقني منذر لما أصابتني الحصبة. وأعطاني قصصاً كثيرة كي أتسلى. ولما كانت تأتيني الحمّى الملعونة. كان سوبرمان يطارد كل الأعداء. ينطلق كنفاثة. يطارد العفاريت والقرود. هي أيضاً مخيفة تشبه الجن. سوبرمان كان يدفع كل تلك الشرور عنّي. ينطلق من القصص المصورة يدفع بيده وجسده كل ما هو مخيف.
أنا ومنذر وبقية أولاد الحارة بزعامته كنا نرسم على الأرض مصائد للغاصبين الصهاينة الذين طردونا من بيوتنا وأرضنا.
المصائد كانت لليهود وكل ما هو مخيف من جن وغيره. وهذه المصائد عبارة عن حوض مسيّج بسور صغير من الحجارة والتراب. كنا نملأه ببولنا وبقطع الزجاج. إنها ألغام طبيعية كنا نضيف إليها روث الحمير.
لم تبق عائلتي تسكن في حظيرة (أبو سعد) طويلاً. كان بخيلاً يقطّر الماء علينا بالقطارة. أما أجرة البيت فكانت لا تطاق. سكنا عنده بعد خروجنا من فلسطين مباشرة. (أبو سعد) طويل القامة، أسود الملامح كالشبح. كان عدواً للأطفال يغلق باب الحوش قبل أن تغيب الشمس تماماً. يحشرنا كالدجاج.
ولما اشتعلت الاشتباكات أوائل 1969 بين عناصر مختلفة من مختلف الفصائل، وصارت الطلقات تمر من أمامنا بحكم قرب حوش أبو سعد من قواعد المقاتلين، قرّر والدي أن يـُرحلِّنا إلى مكان آخر. افترقت عن (منذر) صديق الطفولة.
بقي أن أقول أن منذر برغم حولِه كان ثاقب النظر. ينظر إلى جانبه لكنه يرمقك. كنت أتأمله وأتعجب من أمره. كنت أسأل نفسي كيف يتطلع إلى زميلنا الذي يقف معنا ويستمع إلي. شيطان حوله. لو كان الله حوله لا يفعل ذلك. بالإضافة إلى هذا، قلما استخدم منذر يده اليمنى. كان يضرب الحجارة باليسار ويأكل باليسار. كانت يده اليسرى أقوى من يدي وأيدي الآخرين. هذا التمايز عنا لم يقلقنا كثيراً، فمنذر منا وإلينا وعلى أعدائنا.
بماذا كنا نشغل أنفسنا في أيام الطفولة: بجمع النحاس، أسلاك الكهرباء وقطع الألمنيوم وأحذية البلاستيك نبيعها في سوق الخردة ونشتري بثمنها القشطة والحلوى والبلالين والقصص المصورة التي أذكر منها قصص سوبرمان.
أما السجائر ودخان (اللولو) فكان من الطقوس والرموز التي تثير الدهشة لدينا. من منا كان يظفر بعقب سيجارة مشتعلة، يسير بها مختالاً كالطاووس، لا تسعه الأرض كلها. يتبختر بها كالأبطال المنتصرين. كان الواحد منا ينقلب فجأة إلى رجل بعقب سيجارة لولو حتى لو كانت دون فلتر.
وبماذا كنا نتسلى أيضاً؟
كان موسم تسليم المؤن ـ الطحين ـ من وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين مناسبة هامة للعبث واللعب والعمل. كنا نبحث عن الحمير ونؤجرها بالتعاريف والقروش القليلة. وإذا لم نجد حماراً ضالاً جمعنا الخيوط البيضاء التي ينزعها العمال من أكياس الطحين وربطنا بعضها ببعض. استخدمناها فيما بعد في إطلاق الطائرات الورقية في السماء. حفنة طحين واحدة كافية لتلعب دور الصمغ والورق، أما الخوص أو البوص فموجود في الحقول. يبقى علينا ربط تلك الأشياء لتصير طيارة يقودها ميزان من الخيوط الدقيقة. دون الميزان لا طيارة تطير ولا طيران يسلينا.
(قاسم):
لي صديق آخر اسمه (قاسم) تعرفت عليه في المدينة بعد أن رحلنا من مخيم اربد. كان الأول في الصف ـ أي أشطر الطلاب ـ يحكي لغات مختلفة لا أعرفها ولم أعرفها. ويتكلم من بطنه.
كان أشطرنا في التخطيط والكتابة. هو الذي علمني على كتابة (ملح) على الحيطان على شكل غرافيتي. كان يربط ذنب الحاء باللام. يلف ذلك ليعود ويلتصق باللام. فملح يتحول إلى (وجه بقسمة جانبية).
للكتابة العربية إمكانات تصويرية هائلة. الخطاطون يجدون متعة في اللعب بالأحرف العربية وتحويلها إلى قطع فنية أو لوحات غرافيكية بديعة. كنت أحسدهم على ذلك.
كنت أعتقد أن لقاسم علاقة بالشياطين. تخبره بكل شيء وتفتح له الكتب والدفاتر. كان يعرف كل شيء. موسوعة صغيرة. كان يسير وأنا في ظله كالذنب.
تعلمت منه أشياء كثيرة. كان يضحك منا وعلينا. متكبّر للغاية حين ينفع التكبر. يرانا نرتجف في حصة الإملاء. نبسمل ونقرأ الفاتحة ونخاف وضع النقط فوق الحروف أو حذفها. هو كان يفعل ذلك بصورة أوتوماتيكية كالآلة. يتعامل مع اللغة كمعجون (الملتين). كنت أغار منه. فصرت أفعل مثله، ألف ذنب الحاء وألصقه برأس اللام. وصرت أنافسه. لما عرف المدرس أننا نقترب من بعضنا بعضا في المستوى، صار يقسم قلم الرصاص من وسطه بيننا. فصرنا نكتب من قلم واحد.
رحلنا من إربد بعد اشتداد القصف الإسرائيلي مطلع السبعينات.
في غضون ثلاث سنوات غيّرنا ثلاثة بيوت: بيتنا في فلسطين، بيت أبو سعد وبيتنا في المدينة. كل سنة بيت. هربنا من القصف الإسرائيلي لندخل أتون ما سمي بـالحرب الأهلية.
صديقتي الجنيّة (حكيمة)
كانت أكبر مني بعدة سنوات. منذ سكنا مقابل بيتها أظهرت ودها لنا. صارت تبتسم لي ولاخوتي. منذ البداية صارت تفتح شباك غرفتها على مصراعيه. تمشّط شعرها أحياناً وتغيّر ملابسها مرة أخرى وتحرك في كل مرة يديها إلى الأعلى في حركة إيمائية وكأنها تقول إنها تحترق، أو إن الطقس حار. لعبة تغيير الملابس أعجبتني كأنها نوع من تغيير الأقنعة. الملابس بحد ذاتها عبارة عن أقنعة لنا. الملابس لغة تعبيرية أو رمزية نعبّر فيها عن أنفسنا. كنت أقول لها بحركات تعبيرية إيمائية، أن اخلعي ملابسك إذا كان الطقس حاراً. كانت تبتسم وكأنها ممتنة من رغباتي. تختفي قليلاً وتعود بصدر مشرع للريح والضوء. لحمها أبيض تكشف لي عنه باستمرار. ولما كنت أرفع قامتي لأرى أكثر وأكثر من جسدها كانت تتراجع خطوة أو خطوتان إلى الخلف وتكشف تماماً عن صدرها. أنظر إليها وألتصق بالحائط، أما هي فكانت تبتسم شفتاها وتنفرج عن أسنان لؤلؤية جميلة وتلمع عيناها. من أين لها هذه العيون؟ لا أعرف. (حكيمة) تعودت علينا وتعودت على رؤيانا.
عندما تغلق شباكها. هذا يعني أنها غير موجودة أو مشغولة أو يعني أن أحداً في البيت. وعندما تختفي عدة أيام فهذا يعني أن الأوضاع سيئة ولا برامج مسائية للتعري تفرح بها قلوبنا.
اكتشفت بعد فترة أن (حكيمة) نسجت علاقة مع أخي الأكبر مني. كانت تلح عليّ أن أبحث عنه لأخبره أنها تسأل عنه. أما هو فكان يقول لي:
ـ انس موضوعها.
صارت حكيمة تقفز من النافذة وتحضر إلى باب دارنا وتسأل عن أكبرنا بجرأة. أمي أحبتها لأنها شقراء قليلاً وبعيون زرق. تمنّتها لأكبر أبنائها. أنا كنت أرى فيها جنيّة كاملة الأوصاف. أمي تعتبرها حورية ماء.
نشأت علاقة بين أمي وحكيمة. طنجرة ووجدت غطاءها. شربتا القهوة المرّة. ونجّمت لها أمي بالفنجان. قرأت لها فيه ماذا تقول لها النجوم. لا أدري من أين تعرف أمي ماذا تقول النجوم! ربما علاقتها بالأولياء الصالحين جعلت منها امرأة مقدسة لها صلات بالوحي والأرواح الطيبة أو الشريرة. سيناريو قراءة الفنجان عند أمي معروف. سمعته أكثر من مرة. قرأت فناجين كثيرة قبل ذلك لعشرات النساء. السيناريو كالتالي:
صلي على النبي محمد، وبعد أن تصلي. تقول لها أن تلعن الشيطان. فتلعن الشطيان وتذكر اسم الله. يجب أن يطهر المجلس. المرأة الحائض يفسد فنجانها. الدم الفاسد يعطل مهمة الوحي. ويخرّب قنوات الاتصال. إذا أرادت امرأة بإصرار أن تقرأ لها أمي بالفنجان فعليها أن تعود بعد انتهاء العادة الشهرية وبعد أن تغتسل. ليكون كل شيء نظيفا. فلا يجوز مقابلة روح الله على نجاسة.
وتضع المرأة إبهامها الأيمن على قاع الفنجان المقلوب. وتنظر قليلاً. لا يجوز استعمال فنجان آخر غير الذي شربته تلك المرأة. وتقول أمي:
طريق سالكة رزق وفير سفر ودموع ـ انظري نقطة تسيل ـ شيء يقلقك. الأمور ستوضح عما قريب.
(حكيمة) كانت تشرب القهوة في بيتنا مرة أو مرتين في الأسبوع.

تمارااا 07-04-09 03:29 PM

نعمة..حليمة..وام فكري
الله أنعم بها عليّ. ليست بعيدة ولا تحتاج إلى الخروج من البيت للوصول إليها. بدأنا مطلع الأمر نتبادل الرسائل الغرامية. قلمها سيّال وقلمي أيضاً. لها أربعة أخوة يلحقونها أينما ذهبت باستمرار، أصغرهما كان الرسول بيننا. يحضر الرسائل وفي نفس اللحظة أو بعد دقائق يحضر إلي ليأخذ الرد.
هذا الصغير عفريت صغير. في عينيه حوَل ولا يرى جيداً. يخلط السكر بالملح. مرة أعطى الرسالة لأخي بدلاً مني. لم يفرق بيننا. رجوت أخي على ركبي أن يعيدها لي. قرأها. فأشفق وأعطاني إياها بمشقة.
(حكيمة) الجنية كانت أكثر جرأة. أميّة ولا تفقه لغة الرسائل. رسائلها بالشفاه وتغيير ألوان الفساتين. تسريحة الشعر تعني بالنسبة لنا أشياء كثيرة. تكتب الرسائل بجسدها وبحركاتها الإيمائية, صدقوني أنني أحب هذه اللغة السرية. كانت (حكيمة) تلوّن شفتيها كأنها تشتهي القبل. وتشد شعرها إلى الخلف بيديها كأنها تقول تعال إليّ، وإذا رفعت خصلة شعرها من فوق جبينها كانت تقول مرحباً. وإذا ما غيّرت ملابسها باستمرار فكأنها تسأل هل أعجبك. وإذا وضعت يديها على خاصرتها فكأنها تعاتبك، وإذا دقت بقبضتها المضمومة على حافة الشباك فهي غاضبة.
(نعمة) لا تفهم هذه اللغة السرية. ظلت متخلفة طويلاً. استمرت علاقتنا فترة طويلة. كنت أقول لها في رسائلي: ما لحبنا الذي أورق لا يثمر. أو، ما لهوانا الذي أزهر (أو أينع) لا يثمر. وظل الأمر هكذا حتى بدأت ألف وأحوّم حول فتاة أخرى.
لست حوّاماً مثل (أبو حكيمة). لم أعرف في حياتي حوّاماً أشطر منه. لما كنت أسهر في غرفتي دون نور المصباح. كنت أراقبه. يصعد على سطح غرفة ابنته (حكيمة) الواطئ من الشارع مباشرة ويرفع قامته لكي يتطلع على (أم فكري) جارتنا من جهة اليسار. زوج (أم فكري) عجوز منحني الظهر. وأولادها كبار، تزوج معظمهم. (بشار) ابنها الأصغر تزوج من أجنبية. و(فكري) من قردة اسمها (فريدة). عذراً لأنني أقول عنها قردة. فهي بشعة وأمي سمّتها بهذا الاسم. ربما تشبهها بالشيطان. عند أمي القرد والعفريت واحد. فريدة تشبه حماتها ولكن (أم فكري) وجهها مدوّر وفيها مسحة جمال. هي سمراء وفريدة سمراء أيضاً شعرها مجعد وعندما تصحو من نومها تظهر مثل جنية يخاف منها ضعاف القلوب. أما البنت الصغرى (سلوى) فكانت جميلة جداً. شقراء على عكس أمها وأبيها. وهناك من يضع في ذمته أنها بنت حرام. وخاصة أن أمها تعمل خادمة عند واحد من رجال الحكومة. أخو (أم فكري) سكيّر عقد حلفاً مع الشيطان ولا يصحو إطلاقاً. أخته تصرف عليه. أمي كانت تخشى عليّ من السير على طريقه. أمي تقرأ الكف أيضاً وقرأت كفي ذات صباح. قالت لي ذلك. أخشى عليك من الشر والطريق التي يسير عليها أخ جارتنا. وللأسف مات بعد أن أكثر من الشراب. لم يمش أحد في جنازته، وتمت مواراته بالتراب بسرعة. حوله شاعت حكايات وطرائف كثيرة. قيل عنه إنه كان يحدث نفسه ويخاطب الفراغ. ولما كنت أصادفه في طريق المقبرة حيث كان يقضّي معظم أوقاته، كان يدعوني لشرب الكحول معه. ربعيّة براندي كان يخفيها دائماً في صدره. كان كالفنانين والشعراء. دائم التحليق في الهواء لا يقعد أبداً. لا يهدأ. لا يطأ بقدميه الأرض.
والحوّام (أبو حكيمة) كان يحوّم حول (أم فكري). كان يشتهيها. لم أر زوجته قطعياً، ربما ماتت أو أنها مريضة. لا أعرف ملامحها. أين هي يا ترى. لا أدري. كنت أخاف (أبو حكيمة). كنت أظنه من الرجال المهمين الذين يتجسسون ويتلصصون على بيوت الناس. كنت أظنه يراقب بيتنا. ولكن عيونه كانت نحو (أم فكري) التي كانت تعود في أوقات متأخرة من الليل. لا أدري إن كان يعرف أنني أراقبه. وربما تجاهل تطفّل الولد الصغير الذي هو أنا.

تمارااا 07-04-09 03:32 PM

جارتنا المنحوسة رفسها عفريت
ابن الجيران (نوري) مصاب بمس. نراه يلوّح بيديه ويهز برأسه، كأنه يخاطب أحداً بجواره. يلعن الدين. أي دين لا أعرف. كأنه منخوز. يحرّك يديه ورجليه في حركة متواصلة. لا يهدأ. زوج أمه يضربه باستمرار على رأسه.
مرّة رافقت نوري بعد أن صادفته في طريق. ولما اقتربنا من باب مفتوح، ابتسم ودخل دون إذن. سرق صينية من الألمنيوم وهرب بها فلحقت به هارباً. أمسك بنا صاحب البيت. اعترفت مباشرة أن (نوري) هو الذي فعل ذلك. ولما وصلنا المخفر، الشرطي كتب أقوالي وأخذوا (نوري) إلى النظارة.
لم أرافقه بعد ذلك. عرفت أنه معتوه. لا تحمد مصاحبته. كنت أراه دائماً يتطلع في الأرض، لا يرفع رأسه إلى الأعلى. اشتغل (نوري) مرة عتالاً لأكياس الطحين. عاد بعد ذلك كشبح أبيض يثير الرعب في القلوب. كنت أخافه.
مرة أخرى اشتغل نوري في تنزيل حمولة سيارة بطيخ فعاد بأجر يعادل بطيختين. عاد يحمل بطيختيه فرحاً.
لما فاضت المياه الشتوية وملأت الحارة تنازعت أم نوري وأمي على المياه التي أغرقتنا وعطلت إمكانية سيرنا. أم نوري طلبت من ابنها المعتوه أن يحفر مجرى للماء فتكومت المياه أمام بيتنا. كنا لا نستطيع الدخول أو الخروج ولما احتجت والدتي حاول نوري الهجوم عليها بالفأس. فجأة توقف المعتوه وتهاوت يده بطريقة لا إرادية. قالوا إن الله حمى أمي من الشرور.
لم ينته الأمر على هذا. خرجت أمه تصرخ وتعاركت مع أمي فقلعت لها خصلة من شعرها وفك الناس بينهن بعد أن امتلأت الحارة بالنساء والرجال والأطفال. المطر أيضا ساعد على فك التشابك بالأيدي وشد الشعر. منذ ذلك الوقت والخصام والعداوة تملأ قلبي المرأتين .
لم تفكر أمي في مساعدة نوري الممسوس. اعرف انه كذلك لأنه يثور وقت الطعام، يرمي بالصحون والطعام إلى الشارع. يعربد ويزمر. وأحيانا تراه يطبل على الطناجر وعلب الصفيح بملاعق معدنية وخشبية وأشياء أخرى، والله أعلم . كثيرا ما سمعته يعوي ويزأر. كنت أقول في داخلي: الله يستر علينا وعليه. الله يحفظنا من شروره. ماذا لو فلت وبدا بتحطيم الأشياء حوله. الناس يخشون المرور من جانبه إذا كان منفعلا متخبطا، تخبطه الشيطان من المس. ينتظرون حتى يهدأ.
لو كان محمد ص على قيد الحياة لأعاده إلى صحته. ولحل عقدته. محمد عليه السلام يخاطب الشيطان هكذا: " اخرج عدو الله " وإذا عرف رسول الله أن نوري قد مس من الشيطان ـ بما يطلعه الله عليه ـ فربما يضربه على ظهره ضربا غير موجع، فمحمد لا يضرب ضربا يفضي إلى الضرر الشديد. وان ضرب فبطرف ردائه. والضرب للمصروع غير متعين كعلاج وحيد. الرسول يمسح بيده الشريفة على وجه المصروع ويرش وجهه بالماء. والرسول قد لا يضربه بل ينفث فيه ثلاثا في فمه ويقول كلاما طيبا كالتالي: بسم الله أن عبد الله، اخسأ عدو الله. وقد يقول نافثا في فمه ثلاثا: اخرج عدو الله أنا رسول الله.
وفي رواية عن ابن عباس، أن امرأة جاءت إلى رسول الله ص فقالت : يا رسول الله إن به لمسا ـ أي جنونا ـ وأنه يأخذه عند طعامنا ، قال : فمسح رسول الله ص صدره ودعا له فتع تعة. وفي رواية أخرى قيل (فثع ثعة)، أي سعل، فخرج من فيه مثل الجرو الأسود فشفي.
والجرو هو ولد الكلب والسباع، أو الصغير من كل شيء، وفي "الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد" للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي : والذي يظهر أنه خرج من فيه دم متجمد أسود والله اعلم.
مما ورد نستطيع أن نقول إن دخول الجن جسد الإنس أمر محتمل ولا يجوز الجزم به، وعدم دخول الشيطان ـ بمعنى دخوله الجسد ـ أمر وارد بعد انتفاء القطع بالمعنى الأول. فلم يدل شيء بعد ـ وفيما نعلم ـ على دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة على دخول الجن وولوجه داخل الجسد.
الله يسترنا من الجن، شيطانا، إبليسا أو عفريتا كانوا. وليبعد عنا شرورهم وليحمنا من وسوستهم.
نبيا يكون من يرى شيطانا. ومحمد ص رأى الشيطان وتحدث معه وكاد ذات مرة يسجنه أو يأسره. ومن ادعى انه رأى شيطانا أو يرى الشياطين فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء عليهم السلام.
والنبي عليه السلام تمكن من الإمساك بالشيطان، ففي كتاب"اللؤلؤة والمرجان"، فيما اتفق عليه الشيخان، ورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ص قال: إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: "رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" فرده خاسئا "، وفي رواية أخرى أن من تفلت عليه كان شيطانا وليس عفريتا كما قال أبو هريرة. كالتالي " أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته، قال: قال فأخذته فذكرت دعوة أخي سليمان، ولولا ذلك لأصبح موثوقا يراه أهل المدينة " أو كما قال، عليه السلام.
والدي لما كان يصلي، وهو كثير الصلاة، كان يطلق لصوته العنان بآيات الله عندما تناوشه الشياطين أو تنخزه العفاريت. فكنا حينئذ نقعد في أركان الغرفة هادئين. نرتعد ونرقب أبانا الذي كان يتجهم ويغلظ من طبقات صوته، يرمش ويبحلق بعيونه في الأرض والسماء. نفهم كل شيء. إذا كان إبريق ماء على النار نطفئ النار. نتلفت حولنا. وإذا نزل من الحنفية ماء نحكم إغلاقها. وإذا كنا نتكلم نسكت حتى يختم تعبده.
وكنت أتساءل في صغري: لماذا يسلط الله شياطينه على المؤمنين من الناس بالمس والمشاغبة! أظل أبسمل وأقرأ الفاتحة والإخلاص وسورة الكافرون، وآخر سورة الحشر حتى ينصرف الآثم من الجن عني وعن أمي وأبي. هل نجحت. الله أعلم. وكنت أتعوذ بقوله تعالى: "رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك أن يحضرون".
الناس تخشى الجن وترتعب. من الناس من لديه (طاسة الرعبة) الوعاء المزنر بالآيات القرآنية والأدعية والتعاويذ المختلفة. لا أدري إن شربت من هذا الوعاء عندما ناوشتني العفاريت في زقاق المخيم بالمس واللمس والخطم والنخس والوخز حتى عدت إلى البيت ملووثا ومصعوقا أو مصروعا ومتلبسا (الشخص الذي تلبسه شيطان).
لما قام نوري بتسخيم وجهه بالسخام وخرج ليلا يعربد ويصرخ، دخل الناس إلى بيوتهم وأغلقوا الأبواب والنوافذ. لم يبق شيء في الحارة إلا ولمسه نوري. كسر العيدان. طبل. زمر. زعق. نفخ وشخر ولطم جسده بالحيطان والأبواب والعربات الواقفة في الشارع. أثار رعبا هائلا في الحي لم ينسه أحد حتى الآن. كأنه كان يناجي الأرواح بالقرع والطرق. يحاكي روح والده.
هذه حادثة متعلقة بغيري. وهناك حادثة تتعلق بي. لما قفزت بعد طول غياب من النافذة إلى بيتنا، وأمي كانت لتوها قد نهضت من نومها لأداء فريضة الفجر، ارتعبت لما شاهدتني، فانعقد لسانها لفترة ظننت أنها ستتحول إلى خرساء من بعدها. لكن الله أفرجها عنها فحل عقدة اللسان فأخذت تبكي من الرعب توحد الخالق وتلعن الجان.
طالما مجتمعاتنا مليئة بالخوف والرعب والشرور، وحياتنا مليئة بالمخلوقات غير المرئية والمرئية. ماذا نفعل ؟ المؤمنون والعقائديون يحملون في طيات أرديتهم نسخا مصغرة جدا من القرآن الكريم. واصبح المصحف حجابا أفضل من غيره في مواجهة الفتنة. فيه سور وآيات صالحة لمحاربة الشرور والتعاسة. بعض الآيات والسور له أهمية كبرى في مواجهة الشرور والقضاء على الأوهام والأمراض. فالفاتحة مثلا كما آية الكرسي تقرأ قبل أي عمل سحري أو تعبدي.
ماذا نفعل بالفتن التي تحيط بنا؟ جلست في الأريكة القديمة، التي اشتراها لنا الوالد ذات يوم عيد، شارد الذهن أفكر بأن كل امرئ أصبح يشك في نفسه.
هناك عالم سحري مليء بالخيال والأشباح والأرواح ومئات الأصناف من الجن، شياطين وعفاريت وأبالسة، أناس تقمصتهم المخلوقات الشريرة، وهناك ملائكة عصت الله وتعلمت السحر وفن الفتن كهاروت وماروت.
يظهر الجان لنا على هيئة شيخ أو متسول أو امرأة فاتنة أو صبي ولا ندري أيقول الصدق أم الكذب ويغوي. عالم مثير ينحبس في عقولنا وقلوبنا وأعيننا كالدموع. لا حول لنا ولا طائل لنا على المجابهة غير القرآن وأسماء الله.
السحر
في غمرة التأمل دخل علي صديقي(عارف) الذي أشك في أمره وسعة معرفته واطلاعه. لكني دون علمه لا أحرك ساكنا. احسبه من الجان. أظنه مرة عفريتا ومرة أخرى شيطانا بقالب إنسان ومرة أرى فيه شبحا أو ملاكا يحرسني ويخبرني اليقين. إنه موسوعة معرفية متنقلة. واسع الثقافة. مرات أشك في أنه شيوعي ولكنه لم يظهر الإلحاد أمامي ولم يحاول تأطيري في حزب أو جمعية .
"الشيوعيون شياطين أيضا" قال لي ذلك شيخ جامعنا. كونهم يدعون الناس للكفر بالله ويحرضون على الرسل والأنبياء. أعوذ بالله من الشيوعيين وأمثالهم. ابتسم صديقي لي كالعادة وسألني لماذا التجهم. طلب مني الابتسام:
ـ ابتسم، إن التجهم في السماء
رحبت به وأحضرت له إبريقا من الشاي، قلت له:
ـ سأستنزفك اليوم.
ـ ماذا تقصد ؟
ـ أريد الخبر اليقين.
ـ أي يقين تريد؟
ـ حدثني ما تعرف عن السحر والسحرة.
ـ رغبت اليوم وإياك في زيارة المكان الذي جلست فيه آخر مرة أنت و(عبد المنعم).
ـ لا أستطيع، تعبت. سمعت أن السحرة يعيدون الحياة للأموات.
ـ وأنا كذلك. لكني أعتبر السحر نوعا من الشعوذة.
ـ وكيف ينظر الإسلام للسحر والسحرة؟
ـ سأقول لك كل ما أعرف عن هذا الموضوع. لكن دعنا نشرب الشاي أولا.
أحضرت فنجانين من البورسلان مزينين بالزهور. صببت لي وله شايا ساخنا بالنعناع، وإذا بلسانه ينطلق بالحديث:
ـ السحر اقترن بالشر. وبما أن السحر كان منتشرا في شبه الجزيرة العربية نجد أن موضوعه وجد في القرآن الكريم أيضا. السحر ارتبط بالوثنية. بالأفعال والأعمال السحرية تم تفسير الظواهر الغربية والتجأ الناس إليه لدفع اللصوص والأمراض والشرور والظواهر الطبيعية كالزلازل والأعاصير والجفاف.
تصور يا صديقي أنني في طفولتي كنت أخاف من المرآة وما زلت. عندما انظر فيها لا أتعرف على نفسي فأتحاشاها حتى أيامنا هذه . لكل إنسان منطقة مبهمة وأشياء لا يستطيع تفسيرها، سرية، معقدة، أو مقدسة. الكلب أيضا أخشاه وابتعد عنه لأنه يضايقني في تحركي في الليل. عندما أعود إلى البيت ليلا أتحاشى المناطق التي تكثر فيها الكلاب. ولا أحب الحراس ومضايقاتهم فابتعد عنهم والكلاب.
يا (فرج الله) يا صديقي كل شيء نسبي في اعتقادي. وتتماهى الحقيقة والواقع مع اللاواقعي والخيال. فان ما تراه وتعتقد انه حقيقة أنا لا أراه واعتبره من طور الخيال . الأشياء والأحداث توجد لأنها في عقولنا فقط، فهل هي موجودة فعلا؟ الله أعلم. الفيلسوف شيللر مثالي جدا حتى أنه شكك في وجود الشجرة خارج عقله. نفى المادة تماما،ً وهذا شبيه بالاعتقاد القائل بأن الحقيقة كلها روحية. لست مثله ولكن حتى مثل هذه الأفكار تعطيك نموذجا للتصورات التي تنتابنا والأشياء التي تحيط بنا ويفسرها كل منا كما يهوى.
هذا يحدث في عصر المعلومات وفي مجتمعات مدنية مفتوحة ومجتمعات إعلامية، فكيف تتصور الوضع في الجاهلية؟ أنت مثلا تفكر في أن (عبد المنعم) مات ودفن وانتهى وجوده على الأرض في حين أنني أراه ويعيش معي وفي عقلي. أي لا يكفي فناؤه المادي لكي يفنى في عقولنا وفي الواقع. الخيال ـ أحيانا ـ أقوى من الواقع. ومن هنا أقول لك أن السحر والسحرة يستطيعون فعل المعجزات التي لا يتخيلها العقل. بهذا ينتصر الخيال على الواقع ويغلب الكذب الحقيقة.
قلت: استغفر الله العظيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وتابع صديقي يقول:
ـ النبي محمد ص ومن عاصره لم يتصوروا الجزيرة العربية دون السحر. السحر كان جزءا من الواقع. حاول محمد و أصحابه أن يقضوا على الخرافة والسحر ولكن جزءا من هذه الخزعبلات بقي ولم يمّح. قد تستغرب أن بعض الروايات تقول إن محمدا نفسه استفاد من علم العرافات.
ـ استغفر الله العظيم.
ـ وأنا استغفره معك لأنني لا أود الوقوع في المحظور. تخيل يا صديقي أن بعض الأحاديث تقول إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة. أنا مثلاً أكره التصوير الفوتوغرافي ولا أحب الكلاب. لا ادري من أين لي هذا. الله وحده يعرف. بقي أن أقول لك إن القرآن تعامل مع قضية السحر متناولاً قضايا كثيرة. المنع كان فقط يتوقف على الشعوذة الشريرة. ولو حرم الإسلام السحر لما أصبحت السور والآيات القرآنية في وقت لاحق مادة هامة وصالحة في محاربة الشرور والأمراض واللصوص والجن. القرآن يحفظ من كل الشرور. أليس كذلك؟
ـ هكذا أرى أنا أيضا.
ـ القرآن هو الذي عرفنا على أخبار السحر والسحرة وما قام به الشيطان والملكان هاروت وماروت في نشر السحر والشعوذة. وهذا ما قاله الله في كتابه:" واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان.
وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا
يعلمون الناس السحر وما انزل على الملكين ببابل هاروت وماروت
وما يعلمان من أحد حتى يقولا
إنما نحن فتنة فلا تكفر
فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه
وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاف
ولبئس ما شروا به أنفسهم
لو كانوا يعلمون"(البقرة 102)
هذه الآية تطرقت أكثر من غيرها لأفعال الشياطين والملكين هاروت وماروت. وتطرقت للسحر. السحر مرتبط إذن بالجن والملائكة. ولا يمكن فصل طرف عن الأخر. اعترف لك أن هذه الآية معقدة. ودون الرجوع إلى تفسير الطبري (كاتب ومؤرخ من القرون الوسطى) سيكون من الصعب عليك فهم فحواها.
الآية تقول لنا إن السحرة مرتبطون بتعاليم شيطانية وملائكية (من الملكين هاروت وماروت) وسرهم جاء مما جمعه سليمان الحكيم ـ العالم بلغة الحيوانات والطيورـ في أسفار وكتب وشعوذة وسحر.
قلت: وما كفر سليمان، ولكن الشياطين كفروا، هكذا تقول الآية.
تابع عارف: العالم الإسلامي وغيره يعرف بمعرفة النبي سليمان الحكيم وحكمته وإلمامه بلغة الطيور والحيوانات. عاش في الفترة الواقعة بين 986-932ق.م تقريبا وهو ابن الملك داوود وخليفته وعرف بـ "سليمان الحكيم". عرف أيضا بطيبته ورحابة صدره . أثناء حكمه انتشر السحر والإيمان بالخيال والشعوذة بين الرعية. اكتشف سليمان أن الشياطين نسخت الكتب السحرية، لاحظ معي، الشياطين تكتب أيضا، ونشرتها بين الناس.
إذن الشياطين لعبت دور " دور النشر" السرية حتى تسيء للخالق العلي القدير. لما عرف سليمان بالأمر طلب من أعوانه جمع كل تلك الكتب ودفنها تحت عرشه. أراد بذلك أن يبقيها أمام ناظريه وحتى لا يسمح بانتشارها، وظلت تحت عرشه إلى أن مات ـ لو لا يموت الأنبياء ـ وأخذه الله إلى جواره، فقامت الشياطين بالحفر و إخراج تلك الكتب من تحت العرش.
إذن الشياطين تسرق. وتصل إلى أي مكان تريد، تحفر في الصخر والتراب فكيف لا تصل إلى داخل الإنس. استولت الشياطين على الكتب السحرية وقامت من جديد بنشرها بين الناس.
سألت: هل تعتقد أنت بأن الشياطين بحاجة إلى كتب لتعلم الناس السحر؟ وكيف يعقل أن تأخذ الشياطين كتبا لتوزعها بين الناس؟ وبما أن الشياطين غير منظورة، كان بإمكانها أن تصل إلى تلك الكتب في ظل حكم سليمان. كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك أثناء نومه.
ـ لا أدري. أنا أروي لك القصة وأنت تحرَّ الحقيقة!
ـ أي حقيقة ؟
ـ القصة التي تجدها مناسبة لك ولعقلك وقلبك. أنا لا أستطيع إلا أن أسرد لك صيغة من الصياغات المتنوعة. أيها أقرب إلى الحقيقة لا أدري. وهل هناك حقيقة غير حقيقة الله. هذا ما لا أعرفه.
المهم في الأمر أن الشياطين بدأت تروج دعاية مغرضة تقول: إن سليمان ليس نبيا ولا رسولا ولكنه واحد من كبار السحرة والمشعوذين. وان الكتب السحرية التي وجدت تحت عرشه تكشف ذلك، وتبين أن كل الحكمة والمعرفة التي كان يمتاز بها جاءت من تلك الكتب. فيها توجد كل حكمته ومعرفته التي أخفاها عن أعين الناس لأنه أراد أن يحتكر المعرفة وحده حتى يظل يمتلك مفاتيح السلطة ومقاليد الحكم. احتكر المعرفة حتى تكون له سلطة علينا.
وهناك قصة أو صيغة أخرى للحكاية تقول إن الشياطين نفسها هي التي أخفت الكتب السحرية تحت عرش سليمان بعد موته، وان لسليمان علاقة بالسحرة والشياطين، وان الناس بعد موته حفروا تحت عرشه ووجدوا الكتب التي اعتقدوا أنها تحتوي حكمته.
القرآن يقول إن سليمان لم تكن له علاقة بالسحر على الإطلاق، وان كل ما حدث هو من فعل الشياطين " .

تمارااا 07-04-09 03:40 PM

قصة عائشة

ومن القصص التي روتها عائشة أصغر نساء محمد ص قالت:
ـ أحد الأيام، جاءتني امرأة. رغبت في مقابلة النبي محمد، ولكنه لم يكن على قيد الحياة. أرادت أن تستشيره في أمور السحر التي تعرفت عليها دون أن تستخدمها. رأيت كيف تبكي وتهدر دموعها مدرارا ـ تابعت عائشة ـ وعندما اكتشفت أنها لا تستطيع أن تتحدث مع رسول الله، الذي بإمكانه أن يعالجها ويشفيها، أشفقت عليها، وهي قالت:
ـ لا أخشى الموت، لكني كان لي زوج قد مات، وأنا غرقت في الحزن، حينئذ جاءت إلي امرأة عجوز فشكوت إليها أمري، فقالت لي:
ـ إذا فعلت ما آمرك به يعود زوجك إليك.
وعندما عتمت الدنيا وجاء الليل حضرت عندي بصحبة كلبين كبيرين أسودين. هي ركبت واحدا وأنا ركبت الآخر. وسرنا في الطريق حتى وصلنا بابل العراق إلى أن وصلنا إلى رجلين معلقين من أرجلهما.
- ـ ما جاء بكما؟ سألا
- ـ أردت تعلم السحر، قالت واحدة من النساء
- ـ نحن فتانان، صرح أحدهما. احذري الكفر يا امرأة، واذهبي من حيث جئت.
ولكنهما رفضتا العودة، حسب ما قالت عائشة
فقالا لها:
ـ اذهبي إلى ذلك الفرن وبولي فيه.
ذهبت إلى هناك. ولكن شيئا منعني من التبول ولم افعل شيئا. وعندما عدت إليهما سألاني:
ـ هل فعلت ما رجوناك أن تفعلينه
ـ نعم، قلت
ـ وماذا رأيت
ـ لا شيء
ـ أنت تكذبين .اذهبي هناك مرة أخرى وافعلي ذلك.
تكرر الأمر أكثر من مرة حتى استطعت أخيرا التبول في المكان. عندما فعلت ذلك شاهدت فارسا يخرج من جسدي ويصعد إلى السماء حتى فقدته عيناي. عدت إليهما وأخبرتهما بالذي رأيته.
ـ الآن صدقت ـ قالا ـ إيمانك خرج منك. تستطيعين أن تذهبي الآن.
عدت إلى تلك المرأة، وقلت لها ما رأيت، وإنني لم أتعلم شيئا.
لا بأس ـ قالت ـ الآن جاء دوري. خذي حبيبات القمح وازرعيها. فعلت ذلك. وبعد لحظات نما الزرع. وعندما طلع الزرع اعتنيت به. وجمعته حصدا ثم طحنته دقيقا. والدقيق صنعت خبزا. عندما فعلت ذلك كله توصلت إلى نتيجة هي أنني لا أريد شيئا من السحر ولم استخدم السحر قط. بكيت وأجهشت في البكاء نادمة على خطاياي، والآن ارغب في التخلص من هذا الحمل الثقيل.

************
قدرة العفاريت والسحرة....
لم ينس صديقي (عارف) تعداد بعض القدرات الهائلة أو الإلهية للسحرة وحلفائهم من الجن. الأصوليون والمتعمقون في الدين يرفضون ذلك وينكرون على السحرة والجن هذه القدرات ويعتبرون ذلك تعديا على القدرة الإلهية والذات الإلهية نفسها. لكن المعطيات التي وصلتنا عن حدود القدرات التي يمتلكها السحرة، تشير إلى أنهم يقدرون على تحويل الإنسان إلى حمار أو حيوان، ولهم قدرة على تغيير مسار الأشياء وطبيعتها، أن يغيروا اتجاه الريح مثلا. لهم قدرة على بعث الجسد أو بنائه، وإحياء الموتى.
ـ لو كان ذلك كله معقولا لاختفت الحدود بين ما هو واقعي وبين ما هو كذب وشر.
صرخت بعصبية في وجه صديقي الذي احتفظ بهدوئه. وأجاب:
-نعم هذه هي الحقيقة. ليس هناك حدود بين ما هو حقيقي وما هو كذب. لقد تماهت الحدود. هل هذا يعني انتصار الشيطان؟ ربما. بكل أسف، هذه طبيعة السحر، إذا كان السحر موجودا فعلا. لكن القصص التي وصلتنا عن الساحرات اللواتي يطرن على ظهور الكلاب السوداء كثيرة، في الشرق وفي أوروبا. وكن يجتمعن في الأعالي على قمم معروفة يدرسن ويحكمن ويخططن ويمارسن طقوسهن بحرية. مثل هذه المناطق معروفة في إيران وجنوب الجزيرة العربية. جبل ديما وند في إيران مثلا. قيل انه يمكن للناس مزاولة السحر هناك. وحتى يتم الأمر كان على الشخص أن يقوم بذبح عنزة سوداء وتقطيع لحمها إلى سبعة أجزاء وحمل ذلك إلى المغارة المحددة، وبدم العنزة يتم طلاء داخل المغارة ووضع اللحم هناك وتغطيته بفرائها والعودة مساءً إلى المغارة. شرط ذلك أن يكون الراغب في معرفة التعاليم السحرية يتيما. عليه أن ينبطح في المغارة وينام لكي يؤكد في روحه قراره ذلك. وإذا أفاق من نومه وقد تحقق له أن تتبناه الشياطين، وأن ثيابه نظيفة، فهذا يعني أن التجربة نجحت. وإذا استطاع الإنسان أن يصمت بعد ذلك ثلاث ليال، فهذا يعني انه أصبح ساحراً.
لاحظ صديقي انفعالاتي وتأملي وترقبي وحذري، فأراد أن يكف عن الكلام المباح وكأنه أدى الأمانة وبين لي كل الطرق التي يمكن سلوكها لأصبح ساحرا، علما بأنني لم اجرؤ على القيام بمثل هذه الخطوة. كل ما أردت أن اعرفه هو مصير صديقي (عبد المنعم) الذي اختفى مخلفا بقعة كبيرة من الدم.
واختفى صديقي(عارف) فعلا. في غمرة تأملي تسلل مبتعدا عني وتركني في حيرة من أمري ومن كل شيء من حولي. أمي كثيرا ما سردت حكايات كالتي أوردها صديقي. أمي ذكرت لي أن جبال الخليل وتلالها وهضابها مليئة بالمغاور والقلاع الصغيرة المؤهلة لتعلم السحر بالأخص قرية (طاواس) التي يعتقد بعض الناس أنها كانت مسكونة.
حكت لي عن خربة (طاواس) التي كانت في اعتقادها مسكونة بالجن. من هناك كانت تنطلق الساحرات والسحرة على ظهور أكوام الحطب، وليس الكلاب السوداء كما ورد في حكايات صديقي، وكان هؤلاء السحرة يحلقون في أجواء الخربة ليلا ونهارا. من بعيد كان البوم ينعق ليسمعه كل من سار في الوديان، يقول:"يا قيس قم صل ونم".
لا ادري من هو قيس. اعرف أن زوجته تآمرت مع السحرة فقتلته بمعاونتهم ودفنت جثته تحت شجرة خروب. ولما كان الطير شاهدا على هذه الجريمة ظلت البوم (مفردها بومة) تحلق فوق الشجرة تناديه باسمه أن قم يا قيس أد صلاتك المفروضة عليك ونم هادئا قرير العين بعد ذلك. هذه العبارة ظلت شاهدا على بشاعة الجريمة المقترفة. ولما زرت الأرض الفلسطينية المحتلة بعد أيلول1998 بقيت في(طاواس) أصيخ السمع لذلك الصوت الذي كان يجيء من بعيد.
كنت ارتعب من الخوف عندما أكون وحدي في الكروم فأعود أدراجي إلى بيت خالي بسرعة هائلة قبل مغيب الشمس. كل مصابيح (طاواس) تضاء بالنفط. المعمرون كانوا يصعدون إلى أسطح منازلهم، ويحملون في جيوبهم مصاحف صغيرة. يدخنون الهيشة ويسبحون بأسماء الله الحسنى حتى يخطفهم النعاس. تراهم يكثرون من قراءة "آية الكرسي" وغيرها مما تيسر من قصار السور. أما نحن الأطفال فكنا نتجنبهم، فهم كثيرو الصمت والتسبيح.
نندمل في فراشنا الميسر لنا ونستعيذ من الجن ونذكر الله بين الفينة والفينة. ننطرح متأملين ومندهشين مما مر بنا من مصادفات طوال النهار. أنا كنت اكتفي بقراءة الفاتحة والصمدية فقد قال النبي ص : "إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شيء إلا الموت "(رواه البزاز عن انس رضي الله عنه).
لما كانت أمي تنزل من (طاواس) إلى الخليل حيث أجدادها وتعود منشرحة الصدر مما لقيت هناك، كانت تذبح فدية، عنزة أو خروفا وتقسمه إربا إربا في العراء وتوزع سبع قطع خالية ومنظفة من الدم على الجيران حتى سابع جار، وتطلب من البنات الصغيرات أن يرشقن الماء ويشطفن الدم الذي سال في البرية وان يذكرن اسم الله قبل البدء بعملهن.
في الإسلام معروف أن الدم نجس، وهو أيضا غير مقدس، لذلك ربما هو الذي يدفع السحرة لاستخدامه في طقوسهم، أمي حاولت إعادة الروح لهذه الخربة المسكونة. لكن عبثا. الناس في طاواس سئموا من سير الشياطين والعفاريت والسحرة والمشعوذين حتى انهم دون ذلك قد يشعرون بأنهم غرباء عن أنفسهم وعن خربتهم. أصبح الأمر جزءاً من حياتهم اليومية وسطرا من دفتر سلوكهم .
الناس في (طاواس) يسخرون من أنفسهم كأنهم بذلك يواجهون أعداءهم، ويسخرون من كل شيء حتى أن حياتهم أصبحت غريبة وملونة ذات طابع خاص تحتاج لدراسة متفحصة ومتأملة من علماء الإنسان (الأنثروبولوجي).
الناس البسطاء والبلهاء اصبحوا حكماء ينطقون الشعر ويتكلمون فلسفة وحكمة، والمثل على ألسنتهم يجر خلفه أمثالا طاواسية (من طاواس) أخرى. أمي كانت تؤدي الصلاة من اجل (طاواس).
**************
"صلاة خاصة من اجل طاواس"...
في عيد " الأرواح"
طالما الموت تابو، إذن (فهو) مخيف
وطالما هو مخيف، إذن هو تابو
لا أحد يريد الاقتراب منه
الملحدون هم من يهملونه. يهملون الطقوس المتعلقة به
القريبون من الله يتذكرون الموت كثيرا
الناس الذين يحترمون ذاكرتهم يعتنون بقبورهم
الحياة تدور والموت قادم. إما أن نستعجله أو ننتظره
أما القبور فتهترئ، وتمتلئ وتجهز نفسها للقادمين
ما معنى الموت. معناه انه قادم
لكن الحياة حاضرة ونحتاج لها ونعمل من أجلها.
*************
شيطان يسكن معي...
اسكن مع شيطان أو شياطين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وضعت ركوة القهوة على النار. عندما غلت صارت تقول لي:
ـ تعال
القهوة تقول تعال واشربني.
ـ كيف افعل ذلك وأنت ساخنة جدا؟
تنهض من نارها وتعلن أن على طالب القهوة أن يحضر فورا. تنهض وتندحر جانبا محدثة ضجة مرعبة. تعلن أنها اندلقت. ولما تندلق انهض. أصبها في كاسي الذي احب. وانصرف من غرفتي إلى جاري لأشرب عنده قهوة أخرى بالهيل.
***************
كيف نتعرف على الجن..

هل إبليس بريء؟ الله أعلم . صديقي (عارف) دافع عن إبليس البريء.
"إبليس عبارة عن استعاره مجازيه لشيء نخشاه ونعلق عليه كمشجب أخطائنا وخطايانا"
أهو كذلك فعلا. لا أحد يعرف وعلمه عند الله. لم يسجد إبليس لآدم. الله شاء له ألا يسجد. هل يعني ذلك أن إبليس كان مقهورا على عدم السجود. وهل كان إبليس حرا. هذا بعض ما التقطته من تحفظات (عارف).
مخالف له من أصدقائي، قال:
" إن إبليس مخلوق مكلف من الجن، وهو كالبشر في التكليف سواء بسواء . وهو يملك عقلا ويملك إرادة ولديه حريته ".
وتفجرت الأسئلة في العقول:
ـ هل هذا يعني أن الله اجبر إبليس " المخلوق" على أمر ثم عاقبه عليه.
يجيب أحد الواقفين في الجلسة المعتبرة:
ـ إبليس حر ولكن إرادته عصت. وهو مسؤول عن الذنب الذي ارتكبه.
ـ وهل سيغفر الله لإبليس إذا ما تاب وسجد للإنسان.
سأل صديقي.
ـ مذهب الجبر يعني أن الإنسان مسيّر مثل ريشة في مهب الريح ولا حول ولا قوة
أضاف آخر.
ـ قرأت مرة عن عفريت وهو من الجن. لا ادري أين. اعتقد في مقالة للكاتب الفلسطيني أميل حبيبي. ومن العفاريت أنواع: العفريت الجهنمي، والعفريت أبو رجل مسلوخة، العفريت أبو ثلاث عيون مشقوقة بالطول، والعفريت أبو جلد معزى سوداء.أما العفريت الجهنمي ـ تابع ذلك المطلع ـ فهو يقدر على شق الحائط في وضح النهار والخرق منه لتأديب الأطفال المشاغبين. وهناك عفريت بنت السلطان. ولكل واحد منّا عفريت. أعوذ بالله من العفاريت وما شابهها.
أما أنا فقلت:
ـ لكن هناك من يقول إن الإنسان حر فيما يكلفه الله به، الله اعدل العادلين. ولا يعاقب الإنس والجن إلا إذا كانوا أحرارا ومسؤولين. وتابعت لما أيقنت أن لا أحد نطق: سجد الملائكة لآدم ووحدوا الله. سجود الملائكة لآدم كان سجود تحية ولم يكن سجود عبادة. كان سجودا لإعجاز الخالق وإبداعه في آدم. الله لا يأمر أحدا بعبادة غيره.
قفز احد المشايخ قائلا: لقد قارن إبليس ـ وهو مخلوق من النارـ بين النار والطين واعتبر النار افضل من الطين .احتج إبليس على الله وقال أنا خير من آدم، خلقتني من نار وخلقته من طين .
ضحك أحد الأصدقاء قائلا:
ـ إبليس كان مغرورا، وكان أول من استخدم القياس وضل به.
وقبل ان يتفرق الجمع تساءل أحد الأصدقاء:
ٍـ هل كان إبليس من الملائكة؟
وظل هذا السؤال معلقا في الهواء دون إجابة. لم يجب أحد. وانصرف الجمع بهدوء.
*****************
استراحة مع الشياطين الأبالسة..
في الطريق إلى البيت صادفت صديقي(سرحان). يكبرني سنا ولكنه رجل يقدر المعرفة وحب الاطلاع. استفسر عن صحتي في هذا الصيف القائظ. قلت:" لا بأس. أقضي معظم وقتي في الظل. أقرأ وأكتب".
ـ ماذا تكتب ؟ سألني .
ـ اكتب شيئا عن الشياطين والأبالسة !
ـ أليس من الأفضل أن تمضي وقتك على شط البحر، أو تذهب في رحلة إلى الغابة
ـ أفضل الاستراحة المثمرة. لا أستطيع أن استلقي هكذا دون شيء. لهذا اخترت الشياطين لكي امضي الوقت بمعييتهم. استغفر الله وأعوذ بالله منهم.
وابتسمت.
ـ أنا سأسافر إلى ألمانيا لقضاء الإجازة، سأبعث لك من هناك برسالة أحدثك فيها عن إبليس وصنائعه.
وفعلا ، بعد شهر وصلتني رسالة طويلة مليئة بالتحيات والتمنيات وطيها كتب (سرحان) ما يلي:
"صديقي، في المعتقد الشعبي ابن آدم يطوي بين جناحيه الكثير من الشر. يعود ذلك للإرث الأسطوري لبني البشر، إلى ذلك اليوم السحيق الذي كان فيه آدم يعمل في الحقل وكانت حواء تقوم بواجباتها المنزلية.
كانت حواء قد سمعت ولولة طفل. وعندما انتبهت وجدت ولدا مليح الشكل. أخذت حواء الولد، وضعته في البيت واعتنت به. وعندما عاد آدم وأبصره غضب، أخذه و ألقاه في النهر لأنه كان يعرف أن هذا الولد ليس إلا ابن إبليس .
وفي اليوم التالي عاد إبليس ونادي ابنه فخرج حيا من النهر، وعاد آدم ليجد الطفل فازداد غضبه وألقى الطفل في النار حتى أصبح رمادا. وفي الصباح التالي عاد إبليس ونادى ابنه فخرج حيا من بقايا الرماد. وعاد آدم من العمل ليجد الطفل مرة أخرى وهو على قيد الحياة. ولم يجد طريقة للقضاء على ابن إبليس غير أن يقتله ويأكله. ونفذ آدم خطته.
وفي اليوم التالي جاء إبليس ونادى ابنه فخرج صوتان في وقت واحد من جسد آدم وحواء يقولان بنبرة واحدة:
ـ نعم.. أنا.. مرتاح.
ورد إبليس:
ـ هذا ما قصدت .
وهكذا استقر جزء من الشر في النفس البشرية"
*******************

الله وإبليس علما البشر..
في أساطير أخرى يلاحظ المرء أن الله وعدوه إبليس اشتركا في الشكل وتناقضا في الفحوى في تدريس البشر ماذا يفعلون. كل على طريقته. إبليس علم الإنسان ما لم يعلم باتجاه الشر، والله علم الإنسان ما لم يعلم باتجاه الخير. وانظروا هذه المقاطع من رسالة أخي سرحان الواصلة من ألمانيا:
" وفي أسطورة أخرى تشرح مسألة اغتيال قابيل لأخيه هابيل. نرى آدم طلب من ابنيه أن يقدما (شيئا ما) لله فقدم قابيل ضمة من أسوأ ما لديه من القمح بينما قدم هابيل حملا من افضل الحملان في ماشيته. وقد قبل الله تقدمة هابيل ولم يقبل تقدمة قابيل.
وغضب قابيل فقتل أخاه. وتقول المرويات إن قابيل لم يكن يعرف الطريقة التي ينفذ بها جريمته، فتبرع إبليس بالمهمة حين ظهر لقابيل بشكل بشري وأراه كيف يسحق رأسا بين حجرين. وبعد ذلك ارتكب قابيل جريمته ثم حمل قابيل أخاه القتيل على ظهره وسار دون أن يدري ماذا يفعل بالجثة. وبعث الله غرابين اثنين قتل أحدهما الآخر ودفنه بعد أن حفر له حفرة في التراب. وقلد قابيل العملية".
طويت رسالة صديقي بعد أن قرأتها اكثر من مرة، وصرت اصدق أن العالم منقسم إلى قسمين: قسم يسمع كلام الشيطان وينحرف نحو الشر والجريمة. وقسم يسمع الله ويتوجه منحرفا نحو الخير والإحسان. ولكن لماذا وضع الشيطان في مصاف إله الشر. استغفر الله. استغفر الله.
الأنبياء والرسل من عند الله والى الله والجنة. أما السحرة فهم أنبياء الشر والشيطان. ويمكن القول إن: السحرة أنبياء، والعكس غير صحيح.
*******************
من ينتصر
الصراع مع القوى الظلامية بدأ منذ الطفولة. عندما كانت السمكة تصير أفعى، ثم تطير. والشيطان يتلون ويتشقلب كالبهلوان. أما صحن الطعام فينقلب ولا ينقلب. وأواني الطبخ تحرك آذانها والحسك يصير فجأة سمكا.لا مناص من مقارعة الظلمة والتظاهر بالشجاعة أمام شرور الطبيعة.
كان عليّ أن أقرر وبسرعة: هل أبقى مع جدتي تحت الاحتلال في بيتي وفي وطني، أم أرحل إلى المنافي واللجوء. اخترت اللجوء.
لما طلبت مني جدتي أن أبقى شعرت بأن الآلاف من الأيدي المليئة بخواتم غليظة تمتد نحوي لتخطفني من الحافلة التي أقلتنا مبتعدين نحو مخيمات اللجوء. لم ينفعني البكاء والدموع المراقة في التعبير عما أريد، على الرغم من أن البكاء كان وسيلة التعبير الوحيدة من قبل، هذه المرة لم يلتفت أحد إلى بكاء صبي في غمرة رحلة العذاب نحو المنفى.
إنني أبحث عنك يا الله في هذا الكم الهائل من الشرور في العالم. هل هذا يعني أننا في عصر شيطاني؟ الإنسان لا حول ولا قوة له إلا بك. نتساءل يا الله وندعوك أن لا تترك رعيتك في كنف الشيطان والخطيئة. نحن نطلب الآخرة يا الله ولكن لا شيء يشير إلى مجيئها سوى الأسلحة النووية أو الكيماوية. حتى هذه الأسلحة غير كفيلة ببعث الناس وحشرهم. انه حديث معك يا رب. أين نجد الحدود بين ما هو سر وما هو دجل يا الله؟!
الدجالون صاروا أنبياء والأنبياء صاروا وقودا لنار. والدجال هو الشخص عديم الثقافة ويعتمد كل الاعتماد على الخبرة العملية. لا حدود فاصلة بين اللامعقول وما هو معقول وغير مرئي. قد تتهمني بالسذاجة يا الله والجبن والخوف من القادم غير المعلوم. أنا جبان وتافه يا ألله. ولكني أناجيك بقليل من الحقيقية. لا اطلب سراً من أسرارك ولا حفنة من بحر علمك. ولكن إلى متى أظل ضائعا بين فتح المقص وإغلاقه لكي ابعد الشر عن نفسي. لماذا الجأ إلى قراءة الكف والسحر وطقوس وثنية أخرى كي أصل الحقيقة وأنت الحقيقية. لماذا أخشى كل سواد واعتبر الليل مرتعا لأعدائك وأنت ملك الليل والنهار. وهل التعاطي مع الحيوانات والصور يبعد عنا ملائكتك يا الله.
**************
بتر زهرة الآلام
عندما عدنا لزيارة البلاد فلسطين تحت الاحتلال مطلع السبعينات كان عمري عشر سنوات. لم تعتقنا الأقدار، لا أنا ولا أمي من إجراءات الحدود على الجسر. كانت حرارة الجو تطرق رأسي كالقدوم أو المهدة أو المطرقة، وفي حلقي نبتت صحراء، وكنت أتفرج على المجندة الإسرائيلية ذات التنورة القصيرة والشعر المنفوش تتعب أمي في التفتيش والأسئلة. لم تنفع قرصتي لها في فخذها. كنت غير مؤدب في التعامل مع الجنس اللطيف. مطلوب من الفلسطيني أن يتألم إلى متى؟ هل نحن المعنيون الوحيدين بدفع ثمن الخطايا التي يقترفها الحكام العرب حيال بلدانهم وشعوبهم ودينهم وربهم؟ أيصح ذلك يا الله؟!
ولما وصلنا إلى عاصمة جبل الخليل (دورا)، مركز القيسية الفوقا، عرجنا عن يطا والسموع والظاهرية. وقبر اكبر الأولياء الصالحين " عبد الرحمن " جد جد أمي، كان محظوظا بأول زيارة لأمي. بكت وتنهدت وقبلت القبر وطلبت مني أن ابتعد قليلا. ناجته وطلبت منه أشياء كثيرة. سمعت أصواتا مختلفة ولغطا. لم استرق السمع وتركت أمي تؤدي طقوسها بحرية، قامت وصلت على القبر ركعتين وابتعدنا مسرعين. لم تطل إقامتنا في بيتنا سوى يومين. أصابنا نكد كبير. اكتشفت أمي أن ابن عمي قام بمنشار صغير بقص شجرة "زهرة الآلام " (زهرة الساعة الفلسطينية )التي كانت تعرش على سور بيتنا. قطعها من ساقها. انه الجنون بعينه. كنا نسميها زهرة الساعة، ربما لأن زهورها تحمل عقارب زمن كالساعة. زهرة هذه النبتة كبيرة نسبيا بيضاء أو أرجوانية.
زهرة الآلام مشهورة في فلسطين. تحب الشمس طويلا وتحب الماء. غمرتها الشمس والى جانب ساقها كانت حنفية ماء تمدها طوال اليوم بماء عذب. كنا نقطع زهرتها ونمتص رحيقها من الأسفل كالنحل تماما. أي دابة هو ابن عمي الذي حرمنا من شجرة هائلة خضراء غطت كل سور بيتنا. أصابت أمي غصة في قلبها بعد أن شاهدت المنظر الهائل، وفي اليوم التالي غادرنا إلى( طاواس).
شعرت أمي في طاواس بأنها بين أهلها. أنا كنت افضل أجواء عاصمة جبل الخليل ولكن أجواء طاواس السحرية جعلتني أغض النظر عن الإلحاح من أجل العودة إلى البلدة.
خربة طاواس كبيرة جدا
تطالب بان تكون اكثر من خربة
إنها موجودة فعلا في مكان ما على الخريطة
طاواس معتمة ولكنها تغالب النعاس
أهم سكانها ( أبو احمد الأعوج )
تنهض القرية مبكرا
إنها مليئة بالحكايات
منها حكاية كيس القطين
يختلط الواقع بالحلم في هذه الخربة الغريبة.
*****************
أسطورة طاواس
حكاية طاواس أسطورة فريدة وغريبة. هكذا بدأت: دق الشيخ (عبد الرحمن) وتداً من خشب الزيتون وسط خربة طاواس فاعتبر هذا الوتد مركزاً لها. كان ذلك أواسط القرن التاسع عشر. هناك من يعتقد أن لها خريطة تعود إلى الربع الثاني من القرن التاسع عشر. ويقال إنها فقدت أو تم تهريبها إلى القاهرة أو عمان مع علم أو شعار للخربة. لا أحد ممن سألناهم استطاع تحديد معالم هذا العلم أو ألوانه.
الراية كانت ترفع على الوتد الزيتوني، في المناسبات المهمة. رفع العلم مرة ثانية ـ هكذا قيل ـ أواسط القرن العشرين في احتفال رمزي. دبك الناس حوله وأيديهم على الأكتاف. ذبحوا ديكا بالمناسبة وسلقوا البيض وشربوا المرق.
ـ أين علم طاواس ووتدها؟
غير معروف حتى الآن مصيرهما. هناك من يدعي أن ريحا زمهريراً أخذت العلم والسارية معاً لما رفع في المرة الثانية. العلم أخذته الريح بعيداً دون أن يمسه أحد.
هناك من يحاول إفساد هذه الحكاية فيقول، إن عربة من جنود عرب، جنود إنقاذ العلم، دخلوا الخربة بصمت واقتلعوا العلم والسارية ثم رحلوا تحت جنح الظلام.
جدتي (آمنة) تقول إن جنودا فضائيين، بأضواء مختلفة، حضروا على ظهر ناقلة غريبة وأنجزوا سرقتهم على عجل ورحلوا. لا أحد صدق. أمي ظلت تقول إن سارية العلم ستكون لعنة على غير أصحابها.
طاواس تفكر كقارة
أصدر المختار قراراً، يحكم بأن يقضي الناس حاجتهم (أن يتبولوا) في أماكن محددة، وبإزالة كل البراز المتفرق في عدة نواح من الخربة، وبالخصوص عند مداخلها وأطراف الطريق الترابي الموصل إليها.
لا أحد يعرف كم مرسوماً اصدر مختار طاواس. هناك من يعتقد أن الوثائق والأختام ورموز الخربة جميعها موجودة في الخربة عند أحد سكانها، ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.
ومن طرائف طاواس عدم رغبتها في استخدام عملة أخرى غير الجنيه الفلسطيني. وظلت الخربة تتعامل بالنقود الفضية الذهبية ولم تستخدم الشيكل الإسرائيلي إلا في السنوات الأخيرة بعد أن فك الأردن ارتباطه بالضفة الغربية عام 1988. وحسب رواية شهود عيان، قالوا، إن جنوداً عربا حملوا مئات الجرار الذهبية من هذه الخربة ، بعد سقوط فلسطين.
قال أحد سكان الخربة: توجد صكوك فخرية في الخربة لزوارها وحراسها والقائمين على بقائها والمحافظين على وثائقها(كأنها جمهورية مستقلة).وهناك من يروي أنها أعلنت استقلالها ذات يوم، وحضر حفل إعلان الاستقلال شخصان : واحد من السموع والثاني من دورا كتبا محضر الاجتماع كضيوف.
يختلف الناس حول عمق إيمان سكان طاواس. هناك من يعتقد أنهم قوم من الطاهرين وأولياء من أحفاد الشيخ عبد الرحمن،ومنهم من يرى في سكان طاواس مجموعة من السحرة والكفرة والشياطين، ولو كانت قرية مؤمنة حقاً لكان فيها جامع بمئذنة حقيقية أسوة بالقرى الأخرى.
قال إبراهيم، وهو من سكان طاواس ورحله الإسرائيليون إلى الأردن: أهل طاواس يتسمون فعلا بالطيبة. المختار هو الوحيد الذي يملك بابه مفتاحاً ولا أعتقد أن ارض طاواس نجسه كما يتوهم الحساد. والحساد يتهمون طاواس بأبشع الاتهامات كون سكانها يتخاطبون بلغة خاصة بهم هي اللغة الطاواسية وهي لغة قريبة من أصولها الكنعانية اكثر منها إلى العربية الحديثة.
قالت لي أمي من (آل عرقوب وسلالة عمر بن الخطاب عليه الصلاة والسلام) أكثر من مرة:
ـ يتهمونها بالنجاسة. الأنجاس. يقولون لو أنها طاهرة لما اختلف كلام أهلها عن كلام الله في كتابه العزيز. هم لا يعرفون أن النبي نوح زار طاواس أكثر من مرة، وأنها مقدسة وان مقاماً للنبي نوح يجب أن يقام فيها.
يزور السياح طاواس. و يؤمها الشعراء والفنانون. أحد بيوتها القديمة يوجد على قطعة قماش لفنان فرنسي من فناني القرن التاسع عشر. ويحج إليها يومياً عشرات الرجال والنساء والأطفال يتطيبون بهوائها ويشربون من مائها. يسترشدون برشاد شيوخها، يتطلعون للشفاء والصفاء ويتبركون بترابها وحجارتها، ويستخدمون أتربتها كاحجبة مع تعاويذ أحفاد الشيخ عبد الرحمن.
حاليا يكتنف السواد هذه القرية. يراها الزائر معتمة غارقة في السواد، ولكني لا اعتقد ذلك، يقول إبراهيم، ولكنها متشحة بسرية وبرهبة ووقار، نعم إنه الوقار والقدسية. وعلى مدخلها شجرة تين شوكي(صبير).
للغرباء رائحة أخرى تشتمها الأنوف الطاواسية، فيخرج أبناؤها لاستقبالهم بالابتسامات والترحاب. المؤتمنون يبقون حتى الصباح. يتحاشاها أهالي المدن والقرى الأخرى ليلاً. في الليل تصير طاواس ضيقة، تنحصر وتضيق كالخاتم. لا يغرب أهل طاواس بناتهم، إنهم يتزوجون من بعضهم بعضا. الإخوة يزوجون بناتهم وأولادهم من بعضهم بعضا، إما بدلا ( أي أعطيني ابنتك وخذ ابنتي ) أو يتزوج الفتى بنتاًً من بنات عمه أو خاله، وهكذا دواليك. وتبقى الدائرة مغلقة، وكأن أهالي طاواس يمارسون (أورغيا) عائلية متواصلة.
يموت الناس هناك. يعزى ذلك لفقدان المناعة أو لأسباب أخرى يعرفها أولو الأمر من المعنيين في طاواس. جدتي كشفت أوراقاً تشير بأصابع الاتهام إلى أجهزة عربية وإسرائيلية.
حجاب من طاواس
المثير في طاواس انك تستطيع فيها الحصول على الحجاب الذي تريد وهناك مئات الأنواع .فأهل طاواس يصنعون الخرز والمسابح والحرز والأحجار المقدسة والأحجبة والتعاويذ والتمائم التي تحفظ من كل الشرور وتخزي عين الشيطان وتبعد الأرواح الشريرة وتطرد إبليس وقومه وتصد السيئات وتحفظ من الأخطار.
لما تحدثت مع ( إبراهيم ) عن طاواس وأهلها، قال لي إنها غابة من السحر غير معروف رأسها من رجليها، إنها مصنع سري للأحجبة . هادئة طاواس ولكنها تشتعل في الداخل. وجوه الناس صافية ولكنها عميقة. يصعب قراءة الواقع من وجوه الناس. تخدعك ابتساماتهم وترحابهم. طيبون، نعم، ولكنهم حكماء، كلامهم مغمّس بالشعر والحكمة.
ـ كيف تصنع الحجب في طاواس؟
إنها مهنة لنا نرتزق منها, لولاها لماتت طاواس وهجرها أهلها ولما زارها زائر أو حاج - قال إبراهيم وتابع - الحجاب يصنع من القماش أو الفضة. وهو متعدد الأشكال ويعلق بسلسال من الفضة ويكون على شكل مثلث أو علبه أسطوانية أو مستطيلة، وداخل العلبة توضع مادة الحرز(الحجاب) وهي في الغالب كتابة يعدّها الشيخ، وأقول لك المشعوذ. وشعر إبراهيم بشغفي للاستماع فبدأ في وصف الحجاب وتعداد أنواعه كأنه يطرح برنامجاً دعائيا وسياحيا لقريته:
" الحجاب هو التميمة المحفوظة في قطعة مثلثة من القماش (على الأغلب) وتعلق على ملابس الطفل أو الشخص المعني لدرء الشر ومنعه، أي رد العين الشريرة أو الحسودة، وجلب الخير والبركة له. ويستعملون الحجب في التطريز بشكل خفي والثياب الفلسطينية مليئة بها، والحجاب في التطريز مثلث الشكل من الحرير أو القصب يشبه شكل التميمة، ويظهر بكثرة على القباب التي تزين صدر المرأة وبخاصة أسفل فتحة الصدر.
ـ ولكني شاهدت حجبا على شكل دائري، قلت.
توجد في القلادة التي يتدلى منها ذلك الوعاء الخفيف، مثلث الشكل أو المستطيل وربما الدائري، حسب ما تختار يد الصانع، الورقة (الحرز) التي يكتبها الشيخ أو كاتب الحرز(المشعوذ)، ومن ذلك الوعاء تتدلى قطع من العملة العثمانية. وإذا سألتني لماذا العثمانية لتضف هيبة على الذي يحمل الحجاب. ويضاف إلى العملة العثمانية الهلال.
وقال: أحياناً يختصر الصانع الحجاب بأن يصنعه على شكل هلال. والحجاب يكون عادة مكتوباً أو أداة من الحجر أو الخرز أو الفضة يحمله المريض أو المصاب بتأثيرات شريرة على أمل أن يحجب الأذى عن حامله. وكثيراً ما يكون الحرز (الحجاب) عبارة عن ورقة يكتبها شيخ أو درويش، وتكون مخطوطة بأسطر غامضة وآيات من القرآن ورموزً غريبة وأشكال فنية عجيبة. تؤخذ الورقة هذه فتوضع في غلاف من القماش، مثلثاً أو مربع الشكل. ويخاط الغلاف ثم يعلق الحجاب في ملابس الإنسان أو يـُدسّ في ثنايا هذه الملابس.
ـ وقد يكون الحجاب على شكل خرز أو حجارة كحجر الكهرمان، أضفت.
ـ قد يكون الحرز على شكل خرزة أو حجر كهرمان. حجر الكهرمان يحمي من الأمراض أو الروماتيزم. أما الخرز فيحمي من الشرور. وهناك مئات الأنواع من الخرز: خرزة الكبسة - وهي تحمي المرأة من الكبسة - أي الأذى الذي يسببه دخول امرأة غير طاهرة على الأخرى وهي في فراش الولادة، وتحمي المرأة من النجس والأم من العين. وهذه الخرزة لا تختلف عن خرزة النحس وخرزة الوكزة وخرزة البزل. وكلها ضد حزب الشياطين وأبناء الجن وقومهم.
وهناك حجر السمن والعسل وهو من الحجب ذات السمة الاجتماعية، وإذا حملته المرأة صارت علاقتها مع زوجها رائعة روعة السمن والعسل في البيت. وهناك حجر القبلة الذي يتوسل به المحبون ليجدوا تقبلاً (عند من) يحبون.
وهناك الخرز الأزرق ويضاف إليه حذو فرس وبيضة مفرغة تعلق مع الشبّة على باب الدار لتطرد الشياطين وتبعد الشرور عن أهل الدار، وكثيراً ما يستخدم الخرزة الزرقاء السائقون الذين يأملون أن تبعد عنهم شر الحوادث والاصطدام.
كان لا بد من درس الشيخ إبراهيم، لكي أتعرف على إمكانيات طاواس في صياغة الشر ومحاربته. واكتشفت مؤخراً أن الأولياء الصالحين هم من تنفع أحجبتهم. وعندما كانت أمي ترقد قرب قبر الشيخ (عبد الرحمن) كانت تخاطبه " يا سيدي، ويا حبيبي ويا أشرف الأولياء الصالحين". وعرفت أيضاً أنها تملك حجاباً (حرزاً) خاصاً يسمى حرز الشيخ (عبد الرحمن). يُمنح للأتقياء والمؤتمنين والصالحين والدراويش. ويفقد مفعوله كل خمس سنوات، وعلى المرء إعادة شحنه أو تبديله أو مباركته.
******************
البحث عن عبد المنعم
صارت روح (عبد المنعم) تزورني يومياً. كل مساء تأتي لتؤنبني تارة ولتخاطبني تارة أخرى. لا أعرف إن كان (عبد المنعم) على قيد الحياة أو انتحر أو اختفى اختفاء مدبّراً.
(نجوى) لم تعد تسأل عني. (عبد المنعم) غادرنا بشكل مباغت وبصمت القبور. أما صديقي (عارف) فختم رسالته تقريباً وكأنه أدى الأمانة. أحتاج إلى أحد منهما ليخلصني من حيرتي الموحلة. لا أستطيع القول إن اختفاء (عبد المنعم) كان بسببي. أتمنى لو أحييه لدقيقة واحدة ليشهد لي بذلك وأموت، حتى يرتاح ضميري أمام (نجوى) وغيرها.
هل اختفى (عبد المنعم) لأسباب أمنية؟ لا أعرف. لا أعرف إن كانت (نجوى) تحاول ابتزازي. هل تم تهريب (عبد المنعم) خارج البلاد؟
ـ متى أراك يا (عبد المنعم) مرة أخرى لتقول لي الحقيقة. ناجيته. وإن زيّف قبرك فلن يمزّق بصيرتي كل هذا الزيف. أعرف أنك لم تمت وما بدلوا تبديلاً. لا أدري أيضاً إن كان أهلك قد اشتركوا في عملية التزييف هذه وسفّروك إلى الخارج. ولكن لماذا كل هذه الطقوس. وهل هذا معقول؟!. لا أصدّق..!
****************
الوصول إليه

كان قراري النهائي أن أصل إليه بطريقة خاصة تعلمتها من أهل المعرفة. لبست نظارات سوداء شمسية وصرت أبحث بصمت. أمي وأخوتي ظنوا أنه أصابني مس أو لوثة من حرارة الشمس. لم ألتفت إلى أقوالهم. صحيح أن أشعة الشمس تضرب الرأس كمطرقة، لكن الأمر عندي مختلف.
بدأت أزور المكان المعهود الذي كنا نتقابل فيه. صرت أزور تلك الصخرة وحفافها المطلة على المزبلة المهملة. كانت تنتابني بين الفينة والفينة هواجس بأن سر اختفائه متعلق بأخيه السجين.
(عبد المنعم) لا يحتمل الاعتقال ولا التعذيب، فقرر الاختفاء أو الموت عن أعين المخبرين. وساعده في ذلك جيش من المزيَفيّن.
الصخرة كانت أشبه بقلعة من الحجارة تحترق. الدخان يتصاعد منها أو من حواليها. ومن بعيد تُشاهد انفجارات صغيرة كأنها عبوات ناسفة. لعل في الأمر انقلابا أو ثورة.
اقتربت بحذر من الصخرة. بدت هذه المرة هائلة وممتدة وعالية كأنها تصل السماء. أصابني ارتياب. بدأت كل حواسي تعمل برتابة غير عادية. المحيط كان هادئاً على غير العادة. كأنني في صحراء من الصمت الهائل. أشعة الشمس الحارقة تشوي الجلد. تلسع كعقرب.
تحترق في المزبلة أمتعة وأدوات خربة مختلفة. بلاستيك وأقمشة وإبر وضمادات وغير ذلك من أدوات تُستخدم في المستشفيات والمصحات والعيادات. ربما هي من القمامات المصدرة إلى هذه البلاد من الخارج. لا حول ولا قوة إلا بالله. كم هو متخلف هذا البلد حتى يعيش على فتات القمامة.
المزبلة تصعد بدخانها. لم تكن كبيرة بهذا القدر. ولكنها امتدت حتى بدأت بالاقتراب من المكان المقدس الذي كنا نتقابل فيه أنا و(عبد المنعم). أصبحت على مشارفه. صناديق بمختلف الأحجام ملقاة هكذا. ملأت المكان.
سقطت الشمس عمودية من وسط السماء. امتلأ المكان بدخان سيء الرائحة. وضعت جريدة على رأسي وبحلقت في الأفق البعيد. لاحت منه مئذنة لم تكتمل بعد. لما كنت من رجال "الدعوة" زرت ذلك الجامع أكثر من مرة على الرغم من الأثر السيء الذي تركه في نفسي مطلع السبعينات.
الجامع الذي أطلت مئذنته عليّ صار رمزاً للفرز والإذلال.كنت أرتاده، ولكني أفضل جوامع أخرى. بالإضافة إلى ذلك كله، الجامع مرتبط في ذاكرتي بوقائع غريبة، ذات معان مزدوجة، كانت تجري تحته، في قبو قيد البناء. هناك كان أولاد الحي يلاطفون ابن المؤذن. هؤلاء الأبالسة كانوا يستغلون وقت الأذان لفعل ذلك. ابن المؤذن كان يعي ذلك تماماً. فوالده مشغول بالدعوة إلى الصلاة. لم أنس ذلك.
اقترب الدخان من مجلسي، وانحرفت الشمس قليلاً إلى الغرب. (عبد المنعم) لم يطل بعد بهيئته السريالية. وقعت يدي على علبة مغلقة. شب منها عفريت وأشياء أخرى كانت مضغوطة. وفاحت منها روائح كريهة.
ألقيت العلبة مباشرة في النار التي التهمتها كجائع. ارتفعت النار وانطفأت، أما الدخان والغازات المنبعثة من المزبلة فقد فعلت فعلها في رأسي الصغير القابع تحت شمس الظهيرة. هل أذهب أم أغفو قليلاً؟ النعاس كان أشد. غفوت.
صحوت على أصوات وهمهمات. تحت الصخرة زُجّت قطعة من القماش. سحبتها. في داخلها شعر وأظافر وورقة طويت بعناية. فتحتها بحذر. آية الكرسي مروّسة بالبسملة ومختومة بصدق الله العظيم. هناك أشخاص يؤمنون بالتعاويذ والتمائم والأحجبة. كيف لا، وقد فقدوا ثقتهم بكل شيء، بالحكومات والجوامع وبالعلماء والسياسيين والمستشارين والخبراء، وفقد بعض الناس ثقتهم بالناس، بمحيطهم، بعائلاتهم وبالروابط القومية أيضاً، وبدأوا يبحثون عن منقذ. أصبحوا يؤمنون بصنّاع المعجزات والسحرة والمنجمين وحكماء عصرهم.
قمت متثاقلاً. وللحظة شبّت من النار الخامدة تحت الرماد صاعقة. ارتميت مرتعداً مرتعباً. أهي رؤيا أم حقيقة؟! لا أدري. رأيته بين الوعي واللاوعي واقفاً. إنه(عبد المنعم) يقف فوق رأسي، مبتسماً:
ـ ماذا تفعل هنا؟ .. سألني
ـ أبحث عنك.. أجبته
ـ وأنا كذلك. منذ فترة طويلة وأنا أحاول اصطيادك. لم أرغب في المجيء إلى بيتك خشية أن تكون مراقبا.
ـ ومن يراقب؟ سألت ببلاهة.
ـ اعتقلوا أخي (ليث) وأنا مهدد. وربما أنت أيضاً. لا أحد يعرف أين أنا. الأهل زيّفوا قصة موتي وينوون ترحيلي إلى خارج البلاد. المثير للضحك أن السلطة لا تقوم بحملتها هذه للانقضاض على الشيوعيين فحسب، وإنما شملت كل القوى الوطنية.
ـ ولكن ما دخلي أنا؟ لا أنتمي لأي حزب.
ـ هذا الأمر لا يعنيهم. يكفي أنك تحتك بكافة القوى وأفكارك وطنية ونهضوية أو تنويرية، وهذا يكفي كي تكون أنت مستهدفاً أيضاً. السلطة لا تحتاج إلى أشخاص غير منخرطين في دعمها.
ـ ولكن من نكون نحن؟ إننا حفنة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
ـ السلطة تخشى أية بؤرة.
ـ هذا مضحك، ويثير الإعياء.
ـ هذا عالم من المتناقضات. عالم صفيق مثير للاشمئزاز والبكاء لا الضحك.
ـ لم تعد (نجوى) متيّمة. هجرتني ولا تريد رؤية وجهي. هي تفكر أنني سبب موتك أو اختفائك. سأقول لها الحقيقة.
ـ أي حقيقة تريد أن تقول؟! دعك من ذلك. هذه الفتاة غريبة الأطوار. هي كثيرة الحركة وتثير الشبهة. كالدجاجة تحمل برازها بقدميها. دعك منها.
وعاتبني معاتبة الصديق للصديق. انتعشت روحي قليلاً. ولم أعد أشعر بالإثم يعتصر قلبي.
وتابع (عبد المنعم):
ـ لو عرفت (نجوى) بوضعي لحاولت الاتصال بي، وهذا ما لا أريده. قد تُعتقل بشكل احترازي وتعترف بكل شيء. قصة موتي أصبحت حقيقية، ويستطيع كل الناس زيارة قبري.
ضحكت وبكيت في الوقت نفسه. شعرت بزيف العالم والواقع. كيف تموت ولا تفارق الحياة. إن المسألة تحتاج إلى بعد نظر ونوع من الفانتازيا.
ـ وأين تعيش الآن؟ سألت
ـ في إحدى مدن البلاد. أعمل وأطالع وأعيش كبقية الناس باسم مغاير لشخص هاجر وترك وثائقه كلها.
ـ كأنني أحلم أو أعيش فصول رواية خيالية. كيف أراك مرة أخرى؟
ـ أنا أحضر إليك وأتيك إذا دعوتني. تعال هنا قبل غروب الشمس بدقائق متى تشاء، وستجدني في انتظارك، أو أجيء إليك في الحال.
رحل (عبد المنعم) مبتعداً في عين الشمس. نظرت إليه وهو يبتعد. غطّت الشمس عيني. جلست كالمصعوق. ضغطت رأسي غير مصدق. إنه سحر ما رأيت. دققت على صدري لأتأكد من أنني لا أحلم، وقرصت عيني فتوجعت.
بقيت مكاني كجثة هامدة إلى أن اختفت الشمس وهدأت النار المشتعلة في القمامة واختفى الدخان واقترب المساء. نهضت متثاقلاً. قدماي كانتا كالحجارة. جرجرتهما كمن يريد الانتحار في نهر.
حركة الشوارع تسير بانتظام. هدوء مشبوه. لا اكتراث شامل. بلادة تعم كل الأشياء. إعياء عام. وصلت إلى البيت. ولجت إلى الداخل دون سؤال أو جواب. لم يصفعني أبي بلطف كعادته ولم يتفحص وجهي بسبب تأخري كعادته. الوالدة في صحن الدار دعتني بحنان نحوها وسألتني عن سبب الاصفرار والشحوب اللذين ظهرا على وجهي. لم أجب. أحضرت أمي طعام العشاء وكأنه العشاء الأخير. أكلنا جميعاً بصمت. كأن مكروهاً مترقباً سيحدث. أمي حدسها شفاف وعميق. تحاشت النظر في عيني كأن خطبا سيلم بي. طلبت من أخي أن يحضر عنقوداً من العنب الأسود من الشجرة التي تعرّش علينا. لما هم أخي بالصعود إلى قطف تدلى، فر من هناك (خفاش) كان قد تدلى. حلق فارتطم بحائط الزينكو فأصدر زعيقاً وأصواتاً مثيرة دبت الرعب في قلبي.
ذهبت إلى النوم منقاداً من يدي. كان عليّ أن أحضّر دروس اللغة الإنجليزية. كنت أدرس في المعهد البريطاني دروساً خصوصية. ارتميت على سريري الذي صرّ بإزعاج وبدأت أكرر مقطعاً لشكسبير كان مطلوباً مني إتقانه. نظرت أمي إلي من الكوة في أعلى الجدار وطلبت مني أن أنام.
ـ تعوذ من الشيطان الرجيم وارتح قليلاً، فالصباح رباح يا ولدي. لا تصفر فالصفير يحضر الشياطين.
غفوت بعد أن قرأت المعوذتين، ولم أكمل آية الكرسي حتى النهاية. في المعهد كنت منقبض النفس كالمتلبس. الكلمات زاغت وتداخلت. خواء شامل إلا من الشعر. ما أجمل الشعر في واحة من الطمأنينة والأمان. وما أجمل الشعر في مواجهة المحن والصعاب. قطعة لـ (ت.س. إليوت) أو (شكسبير) قد تفك طلاسم الروح، أما شعر توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش فيبعث الروح بعد موتها.
تعالوا أيها الشعراء، تعالوا أنقذوا أرواحنا العليلة. جميل أن يؤمن المرء بالشعر عندما تموت الثقة بكل المحسوسات والقيم. الشعر ينقذ أحياناً. الشعر ملجأ لنا إذا ما هاجمتنا الهواجس وقدم الظلام. الشعر ضميرنا.
غفوت كمن لم ينم في حياته. بحثت عن عارف وعبد المنعم وبحثت عن الذين عرفتهم. جاءتني صور الأصدقاء والرفاق تباعاً. اختلط الواقع بالحلم، كأن لا فاصل بين الأشياء. لا فرق بين الحرية وطعم القيد، لا فرق بين الحياة والموت، بين الشر والخير، بين المع وبين الضد..الخ.
*********************
أبجد هوّز
نهضت في المساء في الزنزانة المعتمة بعد أن قرع الحارس العبيط على الباب الحديدي بعصاه الغليظة،وفتح طاقة الزنزانة ليمد بالبيض المسلوق وقطع الخبز الناشف.هذه الضيافة اليابسة في العمارة الزرقاء لم ترق لي منذ اليوم الأول.
الأبجدية هي الحل!.صعدت هذه العبارة إلى رأسي بسرعة هائلة وأثارت في قلبي النشوة. الطرق بالقبضة والأصابع آلية سرية للتواصل. هناك سبعة مقاطع من أبجد هوز، والدق بالقبضة يعني المقطع والطرق بالأصابع يعني الحرف. وإذا طرقت بكثرة وبتواصل يعني أنك تسأل الشخص المقابل إن كان يفهمك أم لا. وإذا فهمك الآخر فيدق لك مرة وإذا لم يفهمك فيطرق لك بأصابعه بسرعة كما طرقت له وهكذا.
أيام وليال استمرت من القرع والطرق اللذيذ. وبنشوة المنتصر على القيود والحواجز، كنا نتسامر ونضحك ونسخر من هؤلاء الذين قيدونا بالأغلال. كنا نحتفل بالطرق والقرع في حفلة كلام راقص. وفي الحال ، باشرت البحث عن عارف، صديقي المهذار وعارف الأسرار . احتجت إليه في هذا الضيق المطبق. إنه يملك الحل، فهو فارس الحلول. فلا عقدة عنده إلا ولها حل.
بادرت أنا بالطرق:
- عارف (دقيت بالقرع والطرق)
- نعم (رد صديقي بالطريقة نفسها)
- كيف أنت.
- لا بأس وأنت.
- حسناً. أنا (فرج الله).
- كيف اعتقلت.
- هكذا. وأنت؟ (أجبت وسألت)
- من الشارع.
- أنا من المدرسة.
- كيف المعنويات.
- حديد.
- واصل.
- سأواصل.
- أنا دائماً معك
- أشكرك.
- أتعرف كيف تدعو ربك؟ سألني.
- لا..(وضحكت، فقد عادت حليمة لعادتها القديمة)
- بالدعاء
- نعم
- والذكر
- نعم
- والتسبيح
- نعم
- والاستغفار
- نعم
- والحمد لله
- نعم
- والتوبة
- نعم
- والاستعاذة
- نعم
- والتقوى
- نعم
- والعبودية المطلقة
- نعم
- والقسم
- نعم
- وطاعة الله
- نعم
- والربانية
- نعم
- والتوكل على الله
- نعم
- والتضرع
- نعم
- وقراءة القرآن
- نعم
- سأكمل لك ذلك عندما نخرج من السجن ونلتقي في الهواء الطلق.
- نعم
- أتعرف كيف تنتصر على نفسك وعدوك؟
- لا
- بالشعر
- بالشعر
- بالشعر
- بالشعر
- بالشعر
- ...
- ....
وانفجرنا معاً في ضحك متواصل. وتعالت القهقهات التي قطعها السجان بفتح طاقة الزنزانة طالباً منّا الصمت والنوم. لكننا صحونا للتو . نعم، نهضنا من غفوتنا العميقة ، بعد أن تمزقت حبا ل الأحلام.تعالت القهقهات: هاه هاه هاه ...


الساعة الآن 02:59 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية