![]() |
9- حاولت أن تنسى انها تغرس نبتة شقائها مع هذا الحب ، سيكون لها متسع من الوقت لتفكر بذلك ، أما الآن فعليها إقتناص هذه الليلة النادرة مع من تحب.
إنبلخ الفجر يضيء أطراف المخيم المتثائب ، ووقف بيتر بجانب سيارة الجيب لتلقي تعليمات فريزر الأخيرة ، فهو سيتولى مسؤولية الإشراف على العمل في غياب القائد ، وبرز مارك من خيمته يحوم حول السيارة ، كالح الوجه ، كئيب المظهر ، أحست كوري أنه يتمنى لو يستطيع منعها من الذهاب ، لكنه إختفى بإلقاء تحية الوداع ، موصيا إياها بالإحتياط والحذر. كان الفضاء يستحم بشعاع يوم جديد عندما غادرت السيارة المخيم ، شعرت كوري بلسعة برد خفيفة ، فتلحفت ببطانية زوّدها بها فريزر ، جلست صامتة على الطرف الأقصى من المقعد ، لا تدري ما تخبئه لها الأيام المقبلة ، وخامرها إحساس غريب بتطورات جديدة ستقلب حياتها رأسا على عقب . إعتصم فريزر بالصمت أيضا ، يقود السيارة فوق منبطح متعرج مليء بالحفر ، يحتاج الى تركيز تام ، وراحت كوري بين الفينة والأخرى تختلس النظرات اليه ، بدا كما توقعته دائما صارما ، حازما ، مسيطرا على زمام الأمور. منتديات ليلاس فكرت في الحياة الزوجية معه ، وبما تنطوي عليه ، لم يخامرها شك أنه سيكون الشريك المهيمن ، ولكن زوجته ، إذا كانت تحبه ، ستجد سعادة في العيش مع رجل بهذه الصفات ، إذ أن شخصيته المهيمنة تعني أيضا الأمان المادي والنفسي ، والإطمئنان الى قدرته على معالجة أية مشكلة طارئة. هل تقبل زوجته الجانب السيء من طبيعته ؟ ولم تتردد كوري في الإجابة على سؤالها بنعم كبيرة ، إنه يخفي وراء هذا التفوق العالي حنانا عميقا ، حارا ، اوهكذا إرتأت كوري أن تتصوره.... زوجا محبا ، يفيض عاطفة وحنانا. " هل تستغرقين في أحلامك؟". رن صوته كالجرس في تلك السكينة ، فنظرت اليه مندهشة ، كانت واثقة من إنهماكه في التركيز على الطريق الصعب ، فلم يتبادر الى ذهنها أنه يعبأ بها ، يا لقوة ملاحظته وحدة ذكائه. قالت له: " كنت أفكر في هذه الصحراء وغرابتها". علّق يطمئنها: " إنها حقا صحراء غريبة ". ولم يفت كوري ان الحديث لم يكن يدور حول الصحراء ، القت نظرة من النافذة وقالت: كل هذه الأعشاب ، والمستنقعات ، كنت اتوقع مجرد بحار من الرمل". قال متمهلا: " وتوجد رمال أيضا ، وبكثرة وغزارة ، ولكن من الصحيح القول أن التنوّع هو سمة هذه الصحراء ، وهذا ما يعجز عن فهمه اللذين لم يسبق لهم المجيء الى هنا ". إستطردت ، وهي ترى سربا من الظباء يعدو فوق العشب اليابس بحركات منتظمة: " كم كان والدي سيعجب بهذا المشهد". فوافق بصوت هادىء ، متعاطف : " لا شك في ذلك". سألته دون ان تلتفت اليه: " أنت لا تكرهه إذن؟". " لم اكرهه في حياتي ، إختلفنا في الراي ، ولكن إحترامي له ظل كما هو ( ولمست يده ذراعها ) إنظري يا كوري ، هل شاهدت ذلك الفيل؟". بلعت ريقها : " ما اغباني ، خلته في البداية صخرة من الصخور". " إنه فيل". إزدادت إهتماما : " هل هو خطر ؟". " في بعض الأحيان ، إن خطره يتوقف على كيفية تصرفنا". هل يحدثها بعبارات مبطنة مرة أخرى ؟ لم تعد تبالي ، إنها تعرف الآن مدى إعجابها به ، ورغبتها في إختراق اسراره الدفينة ، وهي تعيش لحظات مليئة بالمفاجآت والإبتهاج والتوقع. وشعرت باصابعه تلتف بقوة حول ذراعها وكأنه يقرأ أفكارها : " تمتعي بهذه الأيام النادرة يا كوري". ولاحت إبتسامة خفية فوق شفتيه ، فسرت في فؤادها غبطة عارمة : " هذا ما أنوي فعله". وتبدلت الأجواء بعد ذلك ، لم يعد محتما عليها الإستمرار في الحديث بل اخذت الأمور تبدو طبيعية ، عفوية ، وزال أي توتر أوشعور بالضغط والتكلف ، كان فريزر يعرف الصحراء جيدا فراح يدلّها على اشياء جديدة من الصعب أن تتبيّنها وحدها . إزدادت الشمس سطوعا ، ترسل أشعتها الحارقة فوق الشجيرات والأعشاب والرمال ، وتوالت المشاهد الطبيعية أمام عيني كوري ، زرافات وفيلة ، ظباء ، وقطعان من الوعول ذات القرون الحادة ، القوية. وتراءى في البعيد صف من التلال الواطئة، تعانقها أكوام هائلة من الصخور ، وبدا فريزر يتجه مباشرة نحو الصخور ، هتف بعد قليل : " هل الكاميرا جاهزة؟". أوقف السيارة على مقربة من الصخور ، وامسك بيدها يساعدها على السير فوق الرمل الناعم ، لم ترفض مساعدته ، مع انها كانت قادرة على تدبّر أمرها. وها هو بثقة عارمة جازمة يشير الى الرسوم الصخرية ، تلك التي داعبت أحلام والدها ، وشغلت ايامه ، وملكت جوارحه ، حبست كوري أنفاسها ، وهي لا تكاد تصدق عينيها. إنها تراها الان كما هي منحوتة ، بارزة، رائعة ، توقفت طويلا امام المشهد الأول ، الذي يظهر مجموعة من الصيادين يطاردون جاموسا. كانت هناك رسوم عديدة ، يروي كل منها قصة مختلفة ، ولم تتمالك من إبداء إعجابها بمهارة هذا الفن القديم وهي تمعن النظر بدقة وكأنها في حلم جميل . مضى بعض الوقت قبل ان تتذكر آلة التصوير المتدلّية من كتفها ، وإنكبت تلتقط الصور بلهفة وشغف وحماس. وحان وقت إستئناف الرحلة ، حيث توغّلا في قلب الصحراء أبعد فابعد ، وعثرت على مزيد من الصخور والرسوم ، وتابعت إلتقاط الصور بينما كان فريزر منهمكا في امور أخرى. |
إلتفتت كوري حولها ، منتبهة الى إقتراب المساء ، وإمتداد الظلال ، سيهبط الظلام بعد فترة وجيزة وهما على بعد أميال من المخيم ، كانت تعرف منذ البداية ، انهما سيقضيان الليل وحيدين في الصحراء ، ولكن معرفتها أصبحت الان واقعا ملموسا داهما.
أوقف فريزر السيارة قرب كومة من الصخور ، واطفأ المحرك ، وأعلن : " سننصب الخيمة ، ونبيت الليلة هنا ". وافقت بوجّس : " نعم ، إنها بقعة ملائمة ". حدجها قائلا : " ماذا دهاك ؟ يبدو عليك القلق يا كوري". ردّت بسرعة: " لا تكن سخيفا". قالت مبتعدة عنه: " نعم ، لا يوجد ما يدعو الى القلق ، الم يسبق لنا ان تقاسمنا خيمة واحدة ؟ يكاد الظلام يداهمنا ، فلنبدأ بنصب الخيمة يا فريزر". راته يكبت ضحكة خبيثة ، إنه يفهم مشاعرها ، فكّرت بحزن ولا سبيل االى إخفائها عنه. وسمعته يقول موافقا وهو يتجه نحو السيارة: " إنها فكرة صائبة". نصب الخيمة بسرعة فائقة ، وأوقد النار لإتقاء لسعات البرد ، بدت الخيمة صغيرة ، موحشة معزولة ، فوق بقعة شبه قاحلة ، تحيط بها الرمال من كل جانب ، رمال مترامية في كل إتجاه الى ما لا نهاية . حمل فريزر صندوقا ثقيلا من السيارة ، ورماه بجانبها ، عرفت كوري أنه يحتوي مآكل متعددة. كان الليل يرخي سدوله ، وهما يتناولان طعامهما ، وفوجئت كوري بشهيتها ، وإلتهامها الأكل إلتهاما ، رغم إعداد فريزر لهذه الوجبة المرتجلة ، المكونة من لحوم المعلبات المالحة. غمرتها الطمأنينة ، وهي تجلس قرب النار ذات الهسهسة المتناغمة والسنة اللهب المتراصة ، إنها ليلة ستظل محفورة في ذاكرتها مدى الحياة ، غدا عندما تعود الى منزلها ، والدها والمدينة وضوضاءها ، ستحملها أجنحة الخيال الى هذه البقعة بخيمتها الصغيرة ، ونارها الدافئة ، وستغرورق عيناها بالدموع وهي تستعيد قصة حبها الجامح ، المجنون. نعم ، إنها تحب فريزر ، وهي تدرك ذلك الآن ، منعها عنادها وكبرياؤها من الإعتراف بهذه الحقيقة قبل هذه اللحظة ، خالت مشاعرها في ذلك الحين مجرد نزوة عابرة لا تلبث أن تزول ، إنها تحب فريزر ليس لانه شخص جذاب فقط ، بل لأسباب أخرى كثيرة ، تعشق قوته ، وحنوّه ، وتحب عقله الحاد الذكاء وإستقامته وأمانته. تحبه كما لم يسبق لها أن أحبت احدا من قبل ، كم تبدو علاقتها بصديقها أريك سطحية وتافهة أمام هذا الحب الجارف ، الصادق ، لم يعد اريك أكثر من ظل باهت لا يحتل حيزا من وجودها. ستحب فريزر الى الأبد ، هذا ما أدركته الان ، وأدركت أنها تغرس بنتة شقائها مع هذا الحب ، إذ أنها لا تعني له شيئا ، لم يبادلها عواطفها ، ولا يفكر إلا في رغباته الخاصة. حاولت طرد شبح الشقاء من مخيلتها ، سيكون لديها متسع من الوقت لمعاناة كل ذلك في المستقبل ، أما الآن فعليها إقتناص هذه الليلة النادرة والتنعم بوجودها مع الرجل الذي تحب. راحا يتجاذبان أطراف الحديث ، وإكتشفت كوري صفات كثيرة مشتركة تجمعهما، كلاهما يحبان العيش في الهواء الطلق ، والتمتع بجمال الطبيعة ، يستمتعان بالألحان الموسيقية نفسها ، ويهويان مطالعة الكتب عينها ، حدّثها فريزر عن مشاريع بالنسبة الى مزرعته ، ومتاعب تربية الأغنام وإيجابياتها أيضا ، وظلت صامتة تصغي بينما يروي لها أحلامه وآماله ، وجدت غبطة عارمة في الإصغاء اليه يسترسل في الكلام ، فتمنّت لو تمكث معه قرب النار الى الأبد. ثم كف عن الكلام ، غارقا في تفكير عميق ، وسمعته يسالها برقّة: " وما هي مشاريعك يا كوري؟ لا بد انك تتوقين الى إستئناف عملك ، والعودة الى عالم الأضواء والتالق". همست ، تخنق غصّة: " هذا ما يراه الجمهور من عالم الأزياء ، ولا علاقة له بالواقع". ألحّ قائلا: " أنت تتوقين الى العودة". أرادت أن تقول له : ( كلا ، لا أرغب في العودة ، وعلى الأقل ليس الى العالم الذي عرفته ، اريد الذهاب معك الى مزرعتك والعيش وإياك طول العمر ) كيف ستكون ردّة فعله ؟ هل يحتقرها ويسخر منها ؟ أم يتجاهلها ويمضي في سبيله لا يلوي على شيء ؟ لا تستطيع تحمل تجاهله وإنقطاعه عنها ، وقالت بصوت مرتفع: " هذه هي مهنتي يا فريزر". تمهّل في الجواب ، ورأته يحمل قطعة من الخشب ثم يرمي بها فوق لهب النيران ، وخرجت الكلمات من فمه بتأن وأسى ، فأدركت إساءة فهمها لنواياه وعواطفه : " نعم عليك الإهتمام بعملك كما عليّ الإهتمام بعملي". وسألته وكأنها لا تدري مغزى عبارتها : " هل تظن أننا سنلتقي ثانية؟". نهض واقفا ، يحدق في البعيد: " أنا لا أتردد على معارض الأزياء ، تقدّم الليل يا كوري ، هيا بنا الى النوم". سبقته الى الخيمة ، تلك كانت عادتها ، وكان يتمهل قليلا في الخارج الى أن تخلع ثيابها وتأوي الى فراشها ، أما في تلك الليلة فلم تشعر باي دافع الى لإسراع ، والحذر من العيون المتربصة ، تعمّدت أن تخلع كل قطعة من ثيابها ببطء وهدوء ، وكأنها وحيدة في غرفتها لا يقلقها أحد ، ولا تتوجس خيفة من هجوم مفاجىء ، وسمعت وقع خطواته الوثيدة تقترب من الخيمة ، وها هو يدخل ويمضي الى زاويته ، إستدارت صوبه ، لم يتحرك ، وباشر بإعداد فراشه رابط الجاش فاتر الأحاسيس ( يا له من ثعلب مخادع) خاطبت كوري نفسها ، إرتدت ملابس النوم ، وهو مطرق الراس ، يرفض رفع بصره أو الإيحاء بأي إهتمام. |
إقتربت منه بدلال أنثوي ، وقلب خافق ، كادت تلتصق به ، توقعت أن يذوب الجليد ، ويجذبها نحوه بحنّو وشغف ، لكنها سمعته يزمجر صارخا:
" عودي الى مكانك ، كفى خبثا ومراوغة". وصاحت بصوت جريح: " ما الذي تعنيه يا فريزر؟". " أنا اعرفك جيدا ، وأعرف مؤامراتك والاعيبك ، تآمرت عليّ ، وتسللت الى رحلتي في ثياب رجل ثم دبّرت مكيدة للإيقاع بين مارك وبويد ، وماذا تحيكين الآن من مكائد ؟". إسودّت الدنيا في وجهها ،وهتفت: " يا لك من وغد وقح ، أخرج من الخيمة الان ". وراته يندفع الى الخارج كالثور الهائج. لم يعد الى الخيمة إلا بعد أن تكومت في فراشها ، وظن انها تغط في نوم عميق ، وأحست به ياوي الى فراشه بهدوء ، ظلت مستيقظة يؤرقها قلق عاصف ، يا لها من فتاة غبية ، ها هي تتعرض للغهانة ، مرة تلو المرة ، ومع ذلك يضطرم حبه في فؤادها ، وتهيم عشقا برجل فظ ، متحجر القلب. وشعرت بحركة خفيفة حول فراشها ، بإنزلاق شيء ما ، حملقت في الظلام ، وكادت ان تصرخ مذعورة لولا أن صوتا في داخلها منعها من إرتكاب حماقة كبرى. كانت أفعى طويلة ملساء تتمدد قربها ، إنها افعى سامة تدعى الكوبرا. عليها الإحتفاظ بهدوء اعصابها ، عن اية حركة ستؤدي الى عواقب وخيمة. هل توقظ فريزر ؟وكيف دون أن تجفل الكوبرا ؟ لا بد لها من التصرف بحذر شديد إذ أن زلّة واحدة تقضي عليها إلتفّت الأفعى منزلقة نحوها ، فتجمد الم في عروقها ، ارادت أن تمسك الأفعى وتقذفها بعيدا ، أرادت ان تصرخ ملء حنجرتها ، ولكنها كانت تدرك مغبة أعمال طائشة كهذه. همست : " فريزر". إستيقظ لتوه ، نظر اليها مستفهما. " ماذا؟". تابعت همسها ، مشيرة الى الأفعى: " صه ، كوبرا". تمتم بهدوء: " لا تتحركي ، سأتولى أمرها". تناول عصا كان يحتفظ بها ، وإنقض على الفعى يشبعها ضربا ثم رماها عن الفراش وسحق رأسها على الأرض ،وحملها بطرف عصاه الى خارج الخيمة جثة هامدة. وعاد بعد قليل وكوري لا تزال ترتجف ذعرا ، سألها بلهجة حارة صادقة: " هل أنت بخير يا كوري؟". نظرت اليه ، وفغرت فمها لا تستطيع التفوه بكلمة ، سقطت ارضا مولولة ، محطمة الأعصاب . رفعها بيديه القوييتين ، مردّدا : " كوري.... كوري ، لا تخافي ، لا حاجة الى كل هذا الآن" كان وجهه باهرا ، نبيلا لا أثر للإزدراء أو السخرية في ثناياه ، وتمتمت: " ليلة البارحة..". " اعرف ، تصرفت بغضب". سالته بإستغراب: " لماذا غضبت؟ ماذا فعلت لأثير غضبك؟". " لا شيء يا عزيزتي ، كنت رائعة وجميلة كعادتك". " وماذا بعد؟". " سأشرح لك كل شيء في وقت لاحق". وعانقها بحرارة وكأنه يكفر عن كل ذنوبه ، ويعتذر لها مبديا أسفه لعنجهيته ، وتصرفاته الفظة ، وكلماته النابية ، وتهمه الباطلة. نهضا صباح اليوم التالي إنسانين جديدين ، وجلسا يتناولان طعام الفطور ، ويحتسيان القهوة ، والشمس تطل براسها فوق الافق البعيد ، مرسلة اشعة دافئة ، منعشة ، لم يتبادلا سوى بعض العبارات المقتضبة ، كان الحب الذي يجمعهما أبلغ بيانا وأرقى تعبيرا من أية كلمات ، مهما سمت معانيها. وتأكدت كوري أن الندم لن يزورها بعد الآن ، ولن تعرف للأسف مكانا في قلبها. ولم يتبادر الى ذهنها ، إلا بعد وقت طويل ، ان فريزر لم يقل لها انه يحبها بعد أن أعترفت بحبها له. تابعا رحلتهما وسط الصحراء، وإنطلقت بهما العربة فوق كثبان الرمال والنباتات الشائكة ، وفجأة أطفأ فريزر المحرك وترجل من السيارة ، إعتقدت كوري أنه يبحث عن شجيرات وارفة الظلال لإتقاء الحر الحارق الذي أخذ يندلع من تلك الشمس الساطعة وهي تتوسط الفضاء ، قال لها : " إنتظري هنا ، ساعود بعد لحظة". راته يحث الخطى نحو أجمة من الشجار ، ويدور حولها كأنه يفتش عن شيء ، ولم يلبث أن قفل عائدا ، وفتح لها باب السيارة لتترجل ، نظرت اليه مندهشة ، لا تجرؤ على الإستفسار عن معنى كل ذلك مشت وراءه الى الأجمة، وكانت الحرارة حارقة تكوي نعليها كيّا ، وتابع فريزر المسير غير عابىء بظل شجرة عارية ، ففطنت الى أنه لا يفكر في الحر الخانق الان. لم يقع نظرها على الصخور الى أن أصبحت على بعد خطوات منها ، إستدار فريزر وأومأ اليها بالتقدم . لم يقل شيئا ، لكن عينيه تألقتا ببريق غريب ، اثار إستغرابها وزادها حيرة ، جمدت مكانها تجيل النظر حولها ، هدا روعها وغمرها شعور عارم بتوقع مفاجأة سارة طالما حلمت بها ، أمسك فريزر بيدها ، ليعبرا ممرا ضيقا بين الصخور ، يؤدي الى كهف شبه مظلم. كانت أكوام من الحجارة تحجب المدخل ، فكادت تتعثر وهي تتبين معالم درب ضيق كسته العشاب والنباتات الشائكة ، ضغط فريزر على يدها يساعدها ، ويجرّها الى الأمام. وها هما يقفان داخل الكهف ، خفق قلبها دهشة ، مبهرة لا تصدق عينيها. كانت رسوم الحيوانات الصخرية مطابقة لوصف والدها لها... منظر صيد يغطي حائطا باكمله ، وأدركت سر توق والدها ، وهيامه بهذه الرسوم وهي تلمس الدليل القاطع لمس اليد. وراحت عيناها تتنقلان بين رسوم حيوانات متعددة ، متنوعة ، بارزة الأطراف ، واضحة التفاصيل ، تكاد تقفز من مكانها بعفوية طبيعية رشيقة الحركة ، سريعة العدو. |
رمقت فريزر ببصرها ، كان يراقبها وفي عينيه ألف سؤال ، عجزت عن النطق أو التعبير عن مشاعرها الجياشة ، تبدلت ملامحه وإرتسمت فوق ثغره إبتسامة دافئة ، عذبة ، وطوق منكبيها بذراعه مؤكدا إعتزازه بها، وإغتباطه بمشاطرتها هذه اللحظات النادرة.
عاد الى العربة لجلب ىلة التصوير ، وإلتقطت كوري عددا هائلا من الصور ، وتمنت لو تستطيع الإتصال بوالدها ، وإبلاغه نبأ إكتمال حلم حياته وعمله. جلست في العربة تطير فرحا وسعادة ، ترقب فريزر وراء المقود متوجها بها في طريق العودة ، تململت في مقعدها ، تسأله وهي تعرف الجواب سلفا : " هل أتيت بي الى هنا للعثور على الرسوم الصخرية؟". " نعم". إستطردت: " إذن كنت تؤمن منذ البداية بوجودها؟". فأجاب مبتسما: " إن والدك رجل عنيد يا كوري ، وهو ايضا حكيم وداهية ، كنت واثقا من نظريته وبعد نظره ، ولم يخب ظني ". وصلا الى أطراف المخيم ، ورات فريزر يوقف العربة وسط دائرة من الأشجار ، طلب منها إلتقاط بعض الصور في تلك البقعة دون ان يوضح لها مغزاها او اهميتها ، وإنكبت على عملها وهي مدركة أن الفيلم في الكاميرا شارف على نهايته ، ووقف فريزر يدلي برايه ، ويشير عليها بإلتقاط هذه الصورة أو تلك. وفجأة سمعت حركة ثقيلة ، ووتا عميقا كالبرق ، إلتفتت مذعورة فرأت فيلا هائجا يهجم عليهما ، أسرع فريزر يجرها من يدها للفرار قبل فوات الأوان. وأطلقت ساقيها للريح راكضة صوب العربة ، سقطت آلة التصوير من يدها فوق خرة ناتئة ، وتناثرت شظاياها فوق الرمال ، أرادت ان تعود لعلها تنقذ الفيلم الذي يضم شريطه حلم والدها ومحور حياته وعمله ، غير ان فريزر دفعها الى الأمام ، وهو يعرف أن تعرّض الفيلم للضوء قضى عليه وافسده. ابدى فريزر أسفه وهو يدير محرك السيارة ، لم يكن في وضع يسمح له بالعودة الان ، بدأ الطقس يتغير ، وتجمعت سحب قاتمة تنذر بعاصفة رهيبة ،وهما قرب المخيم الان ، وكادت الرحلة تنتهي ، لن يهدر فريزر مزيدا من وقته الثمين ، ويريد مغادرة الصحراء قبل أن يقع ضحية تطوّرات مباغتة. إنضما الى الرجال في المخيم ، وإنصرف فريزر الى اعماله المتعددة، لاحظت إهماله وتجاهله لها ، وغرقه في أحاديث خاصة مع المجموعة ، يا لبؤسها وشقائها ، ماذا تفعل الآن ؟ وقعت في حب رجل غريب الأطوار ، وأعترفت له بصدق مشاعرها الدفينة ، وها هو يمر أمامها وكأنها شخص عادي ، لا يعبأ بها ، ولا يبالي بأعابها المرهقة ، وإضطرابها وقلقها. أوت الى فراشها في وقت مبكر ، ولم يزرها النوم إلا برهة وجيزة ، ظلت مؤرقة ، تشعر بالم موجع وعذاب نفسي طاغ ، ودخل فريزر الى الخيمة في ساعة متأخرة حيث خلع ثيابه بسرعة، وغط في نوم عميق مطمئن البال ، لا يعكر صفو ليلته شيء مطلقا. نهضت باح اليوم التالي ، فاخبرها الاخرون ان فريزر ذهب قبل إنبلاج الفجر الى مكان ما خارج المخيم ، ظلت امتة ، تتأجج في داخلها نيران الغيظ والحيرة. تقدم منها مارك يلقي التحية بخجل وإحترام ، ودعاها للسير معه في نوهة قصيرة ، لم ترفض بل قفز قلبها فرحا ، إن مارك صديق مخلص تعتمد عليه ، وترتاح الى رفقته ، وما أن سارا بضع خطوات حتى توقف فجأة ، واطرق براسه ، وبغريزة الأنثى توقعت كل كلمة سينطق بها ، وما لبث أن سالها بعفوية مدهشة: " كوري.... كوري هل تتزوجينني؟". أجابته بلطف وكياسة: " مارك ، يا صديقي العزيز ، اتمنى من أعماق قلبي أن أقول نعم ، ولكنني لا أستطيع". إحتضن يدها برقّة: " ساوفر لك كل السعادة والأمان". " أعرف ذلك". يا ليتها لم تقع في حب فريزر ، خاطبت نفسها ، إن مارك أكثر لطفا واشد نبلا من أي رجل عرفته ، ولكانت أحبته حبا جما لولا شبح فريزر الذي لا يبارحها ، إن مارك يمثل كل الصفات التي تتمناها في الزوج المثالي الذي تحلم به. ولكنها تحب شخصا آخر ، ولا يجوز لها أن تظلم مارك وتخدعه ، وقال بصوت مضطرب: " كوري". " مارك ، لا استطيع ، انا آسفة". " هناك شخص آخر ( وعندما لم تجبه تابع بحدّة ) فريزر ، اليس كذلك؟". إغرورقت عيناها بالدموع يمزقها صراع حاد ، وإزداد مارك عنفا : " إن فريزر لا يليق بك يا كوري". " لا يليق...". " إنه لا يؤمن بالزواج". قالت متنهدة: " انا اعرف هذا ". جذبها نحوه برفق: " إذن.... لن تقضي حياتك وحيدة ، إنني أحبك يا كوري". إعتصمت بالصمت ، وإستسلم مارك للأمر الواقع ، قفلا عائدين الى المخيم ، وكأن رابطا خفيا كان يشدّهما الى بعضهما إنقطع فجأة ، كانا يسيران على ارض المخيم بوجل ، وتوجس ، وإلتفت مارك نحوها: " وداعا يا كوري ، لا أعتقد اننا سنلتقي ثانية ، علينا الإستعداد الآن للرحيل من هذا المكان والرجوع الى المدينة ". أرادت كوري ان توضح مشاعرها الحقيقية إتجاهه ، وتؤكد مدى إعجابها به وإعتزازها بداقته ، ثم فطنت الى وجود فريزر يقف على بعد أمتار منهما يراقبهما بحذر وترقب ، راحت تنادي اسمه، وقد أذهلها بعودته الى االمخيم : " فريزر ... لم أتوقع عودتك بهذه السرعة". إكتفى بهزة من رأسه ، وتوجه الى خيمته عابس الوجه ، متثاقل الخطى ، ثم قفل راجعا ، وسمعته يعطي أوامره الى الرجال بحزم الأمتعة ، والإستعداد للرحيل خلال ساعة من الزمن. |
وها هي تقود سيارتها وحيدة ، تعبر منعطف الجبل الحاد ، مسرعة قلقة ، تنظر الى ذلك الضباب المتكوم فوق القمة، وكأنه يذكّرها بفريزر ، وغموضه وإستعلائه ، وكيفية وداعه لها بكلمات جافة مقتضبة ، تفوح عنجهية وتكلّفا.
دخلت المنزل فهبّ والدها من كرسيه يرحب بها ، ويعانقها بفرح وعطف أبوي ، وبعد ان طمأنته عن نفسها ، وهدأت من روعه لإكتشافه سبب غيابها الحقيقي ، اخذت تشرح له مأساة الرسوم الصخرية ، وتحطّم آلة التصوير ، وتلف الفيلم ، أصيب بخيبة الأمل ، ثم لم يلب ثان إستعاد مرحه وحيويته ، وهي تروي له كيفية إكتشافها للرسوم ، نسي الصور الفوتوغرافية ، وضياعها في حادث مؤسف ، وغمرته سعادة لا توصف ، لتأكده اخيرا من وجود الرسوم الصخرية ، وتحوّل حلمه الى حقيقة ملموسة. اتت على ذكر فريزر مرة واحدة، وبعد مرور أسبوع على عودتها ، لم تشبع فضول والدها ، وتعطشه للإطلاع على أخبار رجل كان صديقا له في غابر الأيام ، كان فريزر موضوعا مؤلما حاولت تجنّب الخوض فيه ، أو الإيحاء لوالدها بما يضج في داخلها من أحاسيس ومعاناة. خرجت ذات صباح الى المدينة تتجول في أسواقها ، وتنتقل من مكان الى آخر ، وكأنها تهيم على وجهها دون هدف او غاية ، قررت دفن أحزانها في ضوضاء المدينة ، وصخبها ، بعيدا عن الأجواء الهادئة التي تحملها عن التفكير بقصة حبها الناقصة ، وكانت لا تزال حائرة في موقفها من مهنتها كعارضة أزياء ، تارة تعقد العزم على إستئنافها ، وطورا تتردد وتقرر الإنتظار حتى تنجلي الأمور ، وتسيطر على مخاوفها واعصابها المتوترة. عادت قبل المغيب تقود سيارتها نحو منزلها ن رأت سيارة طويلة فضية امام المنزل لم يقع عليها نظرها من قبل ، وظنت ان أحد الأشخاص اتى لزيارة والدها. منتديات ليلاس ترامت الى أذنيها الأصوات من غرفة الجلوس ، وسارت نحو الباب ثم تجمدت في مكانها ، لم تتبين معالم الزائر ، غير أن قلبها حدّثها بهويته. خطر لها أن تدير ظهرها ، وتفر الى مكان آمن تختبىء فيه ، وخطت تهمّ بالإبتعاد عن الباب ، فسمعت والدها يناديها: " كوري ". اجابته بتافف: " نعم يا ابي؟". " عندنا زائر ". دخلت غرفة الجلوس ببطء شديد ، واحست بالوهن يتسرب في قدميها ، والدماء تتجمد في عروقها. إستدار نحوها بوجهه الأسمر ، وبعينيه الضاحكتين: " مرحبا كوري". فردّت بصوت خافت : "مرحبا يا فريزر". لماذا اتى الى هنا ؟ لم يسبق له أن فكر في زيارة والدها ، لماذا الآن بالذات ؟ هل جاء ليضاعف عذابها؟ وهتف والدها وكانه يقرا أفكارها : " لقد جلب لنا فريزر هدية". ردّدت الكلمة كالصدى: " هدية؟". " هدية خاصة جدا". هدية خاصة جدا ، ما الذي يعنيه والدها ؟ أشار والدها الى الطاولة في الزاوية ، فرمقتها بإرهاق ، وخالجها شعور داخلي أنها تعرف ما ينتظرها. تبعثرت صور الرسوم الصخرية على الطاولة ، مبرزة تفاصيلها الدقيقة ، وتبزّ صورها فنا ودقة. كانا يراقبانها بصمت ، وكأن الغرفة تشهد حدثا خرقا ، تنعقد امامه الألسنة ، ونهض والدها من مقعده ، يستأذن بالذهاب الى مكتبه. إستبد بها الإضطراب وهي ترى والدها يغادر الغرفة ، ثم سألته: " أنت إلتقطت هذه الصور؟". هز راسه موافقا ، معتدا بنفسه. وبلعت ريقها : " شكرا يا فريزر ، يا له من عمل رائع". " هذا اقل ما يمكنني القيام به بعد ذلك الحادث المؤسف". " كنت تعرف مدى أهمية هذه الرسوم بالنسبة الى والدي ( وفكرت قليلا وهي تستطرد) ولكن بإستطاعتك إرسال الصور بالبريد ، لماذا قطعت كل هذه المسافة لجلبها؟". وقال بحرارة وجدّية: " لأنني اردت يا عزيزتي أن أرى فرح والد زوجة المستقبل بنفسي". خفق قلبها طربا: " فريزر ، ما الذي تقوله ؟ أنت لا تعني ...". " نعم انا أعني كل كلمة اقولها ، وها انا أسالك رسميا ، وأطلب يدك للزواج ، هل تقبلين الزواج مني؟". " نعم ، نعم ، كيف يمكنني أن أرفض ( ثم فكرت قليلا ) ولكن اين موقفك من النساء ونظرتك الضيقة اليهن؟". إبتسم بحنو : " هذا كان رايي الى أن إلتقيت بك ، لم اقرر الوقوع في حبك ، يشهد الله انني قاومت الشعور طويلا ، ولكن دون فائدة". عانقها عناق العاشق المتيم ، ثم رفع راسه قائلا: " هيا بنا نزف النبأ السعيد لوالدك ، إنه ينتظرنا بفارغ الصبر". تمت |
الساعة الآن 11:07 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية