4- لم استطع نسيانك
وضعت كاريسا الخاتم حول أصبعها ونظرت اليه بإمتعاض ، ماذا لو سقط سهوا ؟ لا بد ان تربط حوله خيطا رفيعا كي تطمئن تماما . صباح اليوم التالي نهضت باكرا لتعد طعام الفطور قبل نزول كايد ، في الأيام الثلاثة الماضية وضعا معا نوعا من الروتين لحياتهما اليومية ، كانا يخرجان صباح كل يوم للتنزه في أحضان الطبيعة ، بين الأشجار أو قرب البحيرة، أما بعد الظهر فكانا يسبحان في البحيرة ومن ثم يستلقيان بتكاسل تحت أشعة الشمس فوق الرمال الدافئة ، بعض الحيان كان كايد يضع ذراعه حول كتفيها أو خصرها ، ولم يكن بإمكانها مقاومته حفاظا على دورها كعروس جديدة ، وخشية وجودمن يراقبهما من بعيد. كانت احاديثهما مهذبة وشبه رسمية ، ورغم أنه كان يلفظ اسمها بصوت دافىء وعاطفي ، التوتر السائد بينهما لم يكن ناتجا عن الخطر الذي يهددهما ، بل بسبب كونهما معا في مكان منعزل وحالم ، حاولت كاريسا أن تنسى ما حدث قرب البحيرة ، ولم يجرب كايد أن يذكّرها به ، لكن اثر ما جرى ما يزال عالقا بينهما كمتفجرة تحتاج الى لمسة بسيطة لتحدث كارثة ما ، كان عليها ان تكون شاكرة له لأنه لم يحاول لمسها مرة ثانية. منتديات ليلاس ولازما المنزل حتى قام بات وستان بإستكشاف كل ارجاء المنطقة المجاورة للكوخ ، ودل تقريرهما على عدم وجود أي إشارة تدعو الى القلق ، فالتحريات اكدت ان أحدا ما لم يهتم أو يسال عن سكان المنزل الريفي ، وإنه لم يكن بإمكان أحد التسلل الى المكان لأن كل الطرق المؤدية اليه تمر قرب الكوخ الذي يشغله الحارسان. وعبّر كايد عن رغبته في التنزه في الغابة القريبة ، فأكّد له بات انه بإستطاعته ان يفعل ذلك بدون خوف ، وهو في أي حال ، لن يدعه يغيب عن ناظريه . وأنطلق كايد وكاريسا الى التلال القريبة من البحيرة. " أريد ان اصل الى قمة اعلى تلة يا كاريسا ، ما هو الوقت الذي تستغرق الرحلة؟". " ثلاث ساعات". " هل تستطيعين تحمل مشاق السير؟". "نعم ، لا تقلق ، قمت بهذه النزهة مرات عدة". " حسنا ، سنخبر بات وستان بإتجاهنا ، ونكمل المسير". وبعد نصف ساعة من السير إلتقى كايد وكاريسا ببات وستان يخرجان من أحد الدروب الصغيرة ، كانا يرتديان ثياب الصيادين ، تقدمهما ستان ،وظل بات في المؤخرة. لم يقل كايد شيئا لكن كاريسا احست بإنزعاجه الشديد من وجودهما ، كان يكره ان يشعر بانه تحت المراقبة. سمعت تغريد عصفور فتوقفت قليلا ، ورفعت عينيها الى الأشجار بتحدد مصدر الصوت إقترب منها كايد ، فهمست : هل رأيت عصفور ( التوي ) من قبل ( طير يعيش في نيوزيلندا )". وأشارت بيدها الى طائر اسود اللون ، حول عنقه هالة من الريش الأبيض ، وإستمعا اليه يغني بسعادة لكنه ما لبث أن هرب عندما شعر بوجودهما ، فتابعا طريقهما ، وبعد دقائق كادت كاريسا تتعثر بغصن شجرة ، فتلقاها كايد بين ذراعيه. " آسفة". قالت بسرعة وهي تحاول الإبتعاد عنه ، لم يدعها تذهب ،وعانقها برقة ، وبعفوية بادلته شعوره ، فتوقفت فجأة وتركها تلملم أنفاسها ، والعالم ما يزال يدور في راسها حتى كادت تشعر أنه سيغمى عليها . قطب كايد حاجبيه وسار أمامها مسرعا وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ، وبعد لحظات ظهر ستان من وراء احد المنعطفات ، وعندما وصل ثلاثتهم الى اعلى التلة وجدوا بات في إنتظارهم ، جلسوا جميعا لتناول الطعام الخفيف الذي اعدّته كاريسا ، وإستغرقوا بعد ذلك في تأمل المناظر الطبيعية الرائعة ، وتركهما الرجلان بعد قليل، للعودة الى مراقبة الطريق. أسند كايد ظهره الى جذع شجرة يابسة ، وشغلت كاريسا نفسها بإعادة ترتيب أواني الطعام في الحقيبة الصغيرة ، ثم جلست بعيدا عنه لتستمتع بجمال الطبيعة ، تسللت نسمة هواء شقية الى شعرها فنثرته خصلات فوضوية تطايرت سعيدة بحريتها. وإستعادت العصافير حيويتها فأخذت تثرثر بمرح ، غير عابئة بهمس الأغصان التي كانت تتمايل على إيقاع موسيقى خفية ، ولمعت البحيرة عن بعد كبقعة فضية صغيرة ، تنتظر المركب كي تحيا من جديد. إستسلمت كاريسا للسكينة المحيطة بها ، وأذابت حرارة الشمس كل الصقيع الذي كان يجمد داخلها في اليام القليلة الماضية، ما أروع الهدوء ! إنه خير علاج للاعصاب المرهفة. واعادها صوت كايد الى الواقع ، همس بمودة وحنان: " تعالي هنا". لا ، لن تذهب ، لن تلبي النداء. " كاريسا ، تعالي". لا سترغم نفسها على عدم التجاوب مع ندائه ، ماذا يريد منها ؟ لماذا لا يدعها وشأنها ، يكفيها كل ما حدث حتى الآن ، هل يظن أنها رهن إشارته ، وأنها لا تستطيع مقاومته ؟ تصرفت بجنون عندما بادلته عناقه ، لكنها لم تستطع أن تقنع نفسها بأن عليها ان تندم على ما فعلت.... لكنها ستكون بلهاء فعلا لو رضيت بتكرار التجربة ، كايد يريد ان يلهو قليلا ليمضي بعض الوقت ، بعد ايام سيخرج من حياتها مجددا ، وسينساها ، تماما كما فعل من قبل . " كاريسا ! ". ناداها برجاء ، أن تتجاهله مرة أخرى يعني تحديا لرجولته ، تنهدت وهي تنهض من مكانها قائلة : " آن وقت الرحيل ، سيقلق علينا بات وستان ". رفع يده اليها وجذبها بقوة نحوه، فسقطت على صدره. " لا ، أرجوك ، لا ". ونظر اليها بإستغراب ، ومن ثم ذكّرها قائلا : " لكنك لم تمانعي من قبل ". " هذا كان من قبل ". " غيرت رأيك إذن ". " نعم غيرت رايي ". " سأجعلك تغيرينه مرة ثانية ! ". واشاحت بوجهها عنه ، لكن بدون جدوى . " توقف ، ارجوك كايد توقف". "ولماذا؟". " أرجوك ! ". لم تتمكن من الإجابة ، كل ما تعرفه انها لا تريده أن ينتصر على إرادتها مرة اخرى . |
أخذ يهمس لها كلمات رقيقة بالأسبانية ، هذه الكلمات أعادت ذكريات تريد ان تمحوها من ذهنها .
لم تكن تعرف معنى الكلمات ، كل ما تعرفه أنها كلمات حب ، وأنها سمعتها قبل الآن ، لم يكن يعنيها وقتها وهو لا يعنيها الآن ، وبكل ما تبقى لها من قوة دفعته عنها ، ووقفت تتحداه. " قلت لك إبتعد عني ، أنا لا اريدك ". وقف هو الاخر وإقترب منها. " انت تكذبين يا كاريسا ، أنا اعرف النساء جيدا ، انت تحبينني، حتى الرجل الأعمى يستطيع ان يرى ذلك ... هذا إذا كان يعرف شيئا عن النساء " . "وأنت تعرف الكثير ؟ لقد أقمت علاقات عابرة مع الكثيرات ، أليس كذلك؟". " ماذا تعنين ؟". سكتت كاريسا وإبتعدت عنه وهي تتمنى لو لم تقل تلك الكلمات ، لحق بها وأرغمها على النظر اليه. " هل تغارين لأنني عرفت نساء أخريات في حياتي؟". وحاولت جاهدة أن تخفي حقيقة شعورها : " لا تكن سخيفا ، الأمر لا يهمني من قريب أومن بعيد ، أنت حر في حياتك ، وحر في عدد النساء اللواتي تعرف ، كل ما أريده هو ان تفهم بانني لن أكون واحدة منهن". "منذ عشر دقائق لم تمانعي. وإعترفت ببساطة : " انت رجل جذاب ، وأعترف انني ضعفت امامك لحظة ، لم أكن اقصد ذلك ". " هل هوموريس؟". " ماذا؟". أنزل يديه عن كتفيها وقال : " أنت فتاة موريس أليس كذلك؟ كان عليه ان يصارحني بالحقيقة بدل اللف والدوران ". "وهل لف ودار في حديثه معك ". "نعم ، أخبرني بطريقة ما ان أبتعد عنك ولكنه لم يشرح لي السبب ، الان افهم قصده ، بل لنقل أنني فهمت ونحن في السيارة في طريقنا الى المنزل الريفي". وردت كاريسا بهدوء: " آه ، فهمت ". لم تفهم شيئا ، إنما من الأفضل أن تدّعي ذلك ، لم تذكر أنها قالت أي شيء يمكن أن يدل أنها على علاقة بموريس ، او انهما أكثر من رب عمل وموظفة ، لكن إن ظن كايد انهما على علاقة ، فمن الفضل ان تدعه يصدق ذلك ، ربما كانت هذه افضل طريقة للتخلص منه ، لكنها لم تكن سعيدة في اعماقها لهذه الفكرة. لم يشاهدا الحارسين إلا عند اسفل التلة ، في آخر الدرب المؤدي الى البحيرة ، إقترب منهما ستان قائلا : " كل شيء على ما يرام ، لا شيء مقلق حتى الآن ". شكره كايد وتوجهّا الى المنزل ، صعدت كاريسا فورا الى غرفتها لتأخذ حماما دافئا وتغير ثيابها . ارتدت ثوبا قطنيا ناعما تزينه تطاريز رقيقة عند الياقة والكمين ، حرّرت خصلات شعرها من قيد المشابك ، وسرحتها جيدا بالفرشاة حتى اخذت تلمع ، ومن ثم نزلت الى المطبخ ، لتعد طعام العشاء ، ولم تكد تنتهي من مهمتها حتى لحق بها كايد ، شعره الرطب دل على أنه أيضا اخذ حماما دافئا ، كان يرتدي سروالا داكنا وقميصا فاتحا يناسب سمرته الجذابة. وجلسا لتناول الطعام ، دهشت كاريسا لأقبالها على الأكل رغم كل ما مر بها ، وكان من الواضح ان كايد يستمتع بطعامه ، وفور إنتهائهما ونهوضهما عن المائدة عرض كايد ان يساعدها في غسل الصحون لأنها تبدو متعبة من النزهة الطويلة ، وعاد بعد فترة يدعوها الى نزهة قريبة قرب البحيرة. كانت الشمس تميل نحو الغروب ، ترددت كاريسا قليلا ، لكن الحرارة الخانقة في المنزل شجعتها على الخروج للإستمتاع بالهواء النقي. " حسنا ، الفكرة جيدة ، فلنذهب". كانت الرمال باردة في المساء ، ولم تكن هناك نسمة واحدة تعكّر هدوء هذه الأمسية ، سطح البحيرة كان ساكنا تلونه أشعة المغيب ، امسك كايد يدها بقوة ، وبعد محاولة اولى لسحبها ، إستسلمت كاريسا لقبضته ، وإرتاح هو لأنها لم تكرر المحاولة. " إستمتعت كثيرا بالنزهة ، أنا لم أقم بمثلها منذ زمن طويل ". " لم تكن تستطيع ذلك قبل....". " قبل ان استعيد بصري ، صحيح لم اكن أجد متعة في التعلق بذراع شخص ىخر طيلة الوقت ، ولم يكن بإستطاعتي رؤية ما يبصر ". " لا بد ان العملية الجراحية غيّرت حياتك كلها ". " طبعا". " آسفة كانت ملاحظة مزعجة.....". "كفي عن الإعتذار ". وتوقف ليمسك كتفيها بشدة : " ولم تكن الملاحظة مزعجة بل كانت حقيقة..". وإرتعشت كاريسا للمسة يده فسألها : " هل تشعرين بالبرد ؟". " لا ". إبتعدت عنه قليلا ، فانزل يديه عنها ، وتابعا المسير ، سألته: " هل وجدت العالم مختلفا بعد الجراحة؟". " بعض الأشياء ، نعم ، هل تعرفين أنني لا اقدم حفلات حية هذه الايام ؟هل تعرفين ذلك ؟ او لنقل نادرا ما أظهر على المسرح". " لماذا ؟". " لأن الأمور إختلفت ، الآن استطيع ان أرى جمهوري ، من قبل كنت أشعر به فقط ، أفضل الإحساس بالحالة الأولى ". " لماذا ؟ هل تشعر بإضطراب لدى مواجهته؟". " لا ، هذا إحساس لا أستطيع وصفه ، كل السحر ذهب ". ورفع عينيه الى السماء ليحدّق في الأضواء الصغيرة التي بدأت تتراقص في القبة العالية ، وتابع حديثه: " انا اركّ زحاليا على التأليف وتسجيل الأسطوانات ، ولذا أستطيع ان أبقى هنا فترة معينة ". " لا بد انك سعيد بإستعادة بصرك ، خاصة في هذه الظروف ... أعني المجرم الذي يلاحقك ، لا بد أنك كنت ستكره ضعفك امام عدو لا تستطيع رؤيته ، أليس كذلك؟". |
ونظر اليها كايد بدون أن يقول شيئا ، لكنها لاحظت إبتسامة خفيفة تتراقص على زاويتي شفتيه فقالت:
" انت تفضل ان تذهب للبحث بنفسك للبحث عنه ، عوضا عن الجلوس هنا في امان ، أليس كذلك ؟". " نعم ، هل يبدو ذلك على وجهي ؟". " بوضوح ، ماذا حدث في ملبورن ؟ موريس قال انك هوجمت ". " ولم يصيبوا الهدف ، ارسلوا رجلا ليهاجمني بسكين ... فإنتهى في المستشفى". " هم ؟". "عصابة صغيرة". الصدمة جمدتها في مكانها للحظات ... وأخيرا قالت : " تقصد ... مثل المافيا ؟". "نعم لكن على نطاق اصغر" . " لكن لماذا ؟ ماذا فعلت لهم ؟". " لا شيء ، هناك رجل يعتقد أنه يحقد عليّ لسبب ما ، والعصابة تريد إكتسابه الى صفوفها ، والثمن الذي طلبه.... هو القضاء علي". " شيء لا يصدق". " ما قلته مجرد تخمين ، لكنني أعتقد ان هذا ما حدث فعلا ". " هل كان لك حراس في ملبورن؟". " لا ، لم أعتقد أنه سيلحق بي الى هناك". وأضاف : " رجال الشرطة في بلادي كانوا يملكون معلومات دفينة عنه ، ولذا إعتقدت أنهم سيلقون القبض عليه قبل إنتهاء جولتي الفنية". " كيف إنتهى الرجل الذي يحمل سكينا في المستشفى؟". حتى في الظلام الدامس تستطيع أن ترى السعادة في إبتسامته . " عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري ، كنت اركض في شوارع نيويورك مسلحا بسكين ، كنت عضوا في عصابة صغيرة ، والعادات القديمة لا تموت بسرعة ، كان يعتقد أنني هدف سهل ، ومغالاته في ثقته بنفسه أساءت اليه ، كسرت فكه و ...". وقاطعته كاريسا وهي تشعر بالإشمئزاز : " يبدو انك إستمتعت بذلك ! ". ألتفت اليها غاضبا : " لا ، لم استمتع بذلك ، لكنني سعيد جدا لأنني ما زلت على قيد الحياة ، ولأنه لن يستطيع إيذاء أحد لفترة طويلة، ربما لن يمسك سكينا في يده مرة اخرى ، هل تعتبرين هذا إحساسا غير طبيعي ؟ هل يجعلني هذا وحشا في نظرك؟". " لا ، لم أقصد..... أنا ......". همست بخوف وهي تحاول ان ترى وجهه وعينيه ، ولم تستطع أن تكمل إعتذارها لأنه أسكتها وهو يقول: " فليذهب موريس الى الجحيم ". حاولت ان تقاومه ....دون جدوى ، وانقذها ضوء مفاجىء جعل كايد ينتفض ، وإقترب منهما ستان : " آسف يا سيد فرانكلين ، كنت أتفقد الجوار". " يا ألهي ! ". هتف كايد غاضبا فأجاب ستان بسرعة : " رايناك تخرج من المنزل ، وعندما هبط الظلام ولم تعد ، فكرنا انه من الأفضل أن نتأكد من ... اعتقد انك على ما يرام ، آسف ، ليلة سعيدة ". وإختفى ظله في الظلام ، وساد صمت عميق ، حاولت كاريسا ان تبدو طبيعية وهي تقول : " من الأفضل أن نعود ". ومشيا بصمت ، وفور دخولهما الى المنزل قالت : " أنا ذاهبة الى الفراش ". ناداها قائلا : " لو كان موريس يريد ان يتزوجك لوضع خاتما حول أصبعك ، أنت تضعين خاتمي حول أصبعك ! ". وبعد لحظة صمت أجابت كاريسا : " هذه مجرد تمثيلية ". " لماذا لا تبقين معي". " لأنني لست من النوع الذي يحب الوعود العابرة ". ورفع حاجبيه وهو يبتسم بسخرية: " لم ألتق حتى الآن بإمراة تعترف بأنها كذلك ، الرجال اصدق.......". " مع أنفسهم ربما ، لا مع النساء". " وماذا يعني هذا؟". " أن الرجال يدّعون الحب للوصول الى ما يريدون ، يمنحون الوعود هكذا". "وهل وعدنك انا بشيء ؟ هل قلت لك أنني أحبك ". " لا". " انا اريدك ، ألا يكفي هذا ؟". " لا يكفيني انا ! ". " هل تفضلين ان كذب عليك ؟". " طبعا لا ، لكنني لا أريد رجلا بدون حب ". " انا لا أعرف كيف احب ، لم أتعلم في حياتي معنى الحب ". وإرتعشت كاريسا وهي تسأل : " أي نوع من الحياة عشت ؟". " حياتي علّمتني ان العالم غابة يعيش فيها الأقوى ، وأنا عشت... رغم فقداني بصري عشت ". " بدون حب". " الحب ليس ضروريا ". " لا أحد يستطيع أن يقول هذا ! ". " أنا أقول". كان يتحداها ، يا له من رجل أناني ، لن تحركها كلماته ، أجابته بلا مبالاة : " إذن بالتأكيد انت لست بحاجة الي". " قلت أنني اريدك ، ولم اقل انني بحاجة اليك ، ولا بانني احبك ". وفجأة إحتضنها بين ذراعيه وهو يهمس : " تريدين الحب ، علميني كيف أحب يا كاريسا ، علميني كل شيء عن الحب". احست به يسخر منها ، فراحت تقاومه بشراسة ، مما جعله يرفعها بعنف بين ذراعيه ليصعد بها السلم الى غرفتها ، وأخذت تركله بقوة فإكتفى بالقول : " كفي عن هذا سنقع معا وربما كسرنا عنقينا ، لن أدعك تفلتين مني هذه المرة". وإستكانت بين ذراعيه حتى وصلا الى قمة الدرج ، وعندما دفع باب غرفتها بقدمه غرزت أظافرها في وجهه ، أحست بالرضى عندما راته يحاول أن يداري ألمه ، وألقاها بعنف على سريرها ، فأخذت تصرخ: " لا تقترب مني ، أنا أكرهك ". " لا بد انك نسيت وعودك لي في سيدني ". وفجأة صمتت ، المفاجأة اخذتها على حين غرة ، فقالت بصوت خافت : " سيدني؟". " نعم ، منذ ثماني سنوات ، لم تنسي يا كاريسا، ما من إمرأة في الدنيا تنسى حبيبها األول". كادت تبكي ، كانت متأكدة تماما أنه لم يتذكرها عندما قدمها اليه موريس. " ما بك إختفى صوتك ؟ أصبحت في غاية الهدوء فجأة ". همست بضعف : " كنت أظن أنك نسيت إسمي ، وأنك لم تعرفني". قال بقسوة: " أنا لا انسى أشياء كهذه ، حاولت دون جدوى ، هل ظننت بأنني نسيت إسمك ؟ عندما تكلم موريس عنك كان يدعوك كاري ، لكن عندما قدمك بإسم كاريسا مارتن عرفتك فورا ، إسمك ليس عاديا ، أنت الفتاة الوحيدة التي عرفتها بإسم كاريسا ، ولحظة سمعت صوتك تأكدت من شخصيتك ، أنت فتاة أذكرها جيدا". ولم تسمعه كاريسا يغادر الغرفة ، لكن عندما أنزلت يديها عن عينيها كان قد ذهب. لم تتمكن من البكاء ،وجرجرت نفسها خارج السرير لتغير ثيابها ، ظل حلقها يؤلمها حتى إستسلمت اخيرا للنوم في أولى ساعات الصباح. |
5- لا أريد شفقتك
كان من الأفضل لو بكت تلك الليلة ، فربما خففت الدموع شيئا من التوتر الذي يمزقها ، بدات تتجنب كايد بعد تلك الحادثة ، وعرفت أنه يتضايق من تصرفاتها ، لم تفتها تلك النظرة الساخرة. كلما تناولت كتابا في الأمسيات ، لتجلس بعيدا عنه وتدّعي انها مستغرقة في القراءة. ها قد مرّ اسبوع على وجودهما هنا ، ولم يتلقيا بعد أي كلمة أو إشارة من موريس ، اما الحارسان فلم يلاحظا أي تحركات مشبوهة في المنطقة. مساء الأحد جلست كاريسا كعادتها تقرأ ، اما كايد فكان يحدّق في النافذة وكأنه يرى شيئا مهما ، فجأة قال لها: " تعالي معي لنذهب في نزهى قصيرة". قلبت الصفحة بهدوء وأجابت : " لا شكرا ، إذهب بمفردك ". " أريد رفقتك ". رفعت عينيها اليه بإصرار : " آسفة لا ارغب بذلك ". ظلّت للحظة أنه لن يكرر الطلب، لكنه قال : " فهمت من موريس أنك هنا للترويح عني وتلبية كل رغباتي ... طبعا بإستثناء رغبة واحدة ". وإنتظرت عدة ثوان ، قبل أن تضع كتابها جانبا وتنهض من مكانها : " آسفة يا سيدي ، اين ترغب بالذهاب؟". أحست بغضبه وظنت انه لا بد سيغيّر رايه هذه المرة ، لكنه أجاب: " الليلة بارد ، انت بحاجة الى سترة صوفية ". صعدت الى غرفتها ونزلت بشال صوفي لفته حول كتفيها ، اتى كايد بضوء صغير وخرجا تلفهما الظلمة. لم ياخذ طريق البحيرة بل سبقها الى الدرب المؤدي الى التلة القريبة ، وجلس كايد على جذع شجرة يابسة يتامل الحياة الليلية والحيوانات الصغيرة التي لا تخرج من أوكارها إلا عند حلول الظلام ، وهمس كايد حالما : " يا لها من منطقة جميلة ، إنها مثالية للأطفال ، اليس كذلك؟ ". " اعتقد ذلك ؟". " هناك اماكن رائعة للأطفال في الولايات المتحدة ايضا ، لكنني لم أعرفها إلا بعد فوات الأوان ". " فوات الأوان على ماذا ؟". توقف قليلا قبل ان يتابع حديثه: " عليّ انا ، نشات في طرقات نيويورك ... بل لنقل في الزواريب الخلفية منها ، لا اريد هذه الحياة لأولادي ". " وهل تنوي الإنجاب؟". ظنت أنه لن يجيب على هذا السؤال ، لكنه علّق قائلا : " تعتقدين أنني اضع العربة أمام الحصان ، اليس كذلك ؟ الحب والزواج أولا ثم الأطفال ثانيا ". وضحك بمرارة قبل ان يتابع حديثه: " أنت عاطفية وحالمة أليس كذلك؟ رفضت إرتداء خاتم والدتي ، لأن الزواج مقدس بالنسبة لك ، لا تقلقي الخاتم إشتراه جاك من سوق للأشياء المستعملة ". الغضب والألم جعلاها لا تنطق بكلمة واحدة ، ولم يحاول هو قطع الصمت ، وبعد دقائق : " ما رأيك بالنزول الى البحيرة ؟ وما رأيك بالسباحة في ضوء القمر". " المياه باردة في هذه الساعة". " أنت خائفة من البرد أم مني؟". " طبعا أنا لست خائفة منك ". " إذن ربما كان عليك أن تخافي؟". " هل تريد ذلك ؟". " ان أخيفك ؟ لا ، انت تعرفين جيدا ماذا اريد ". " لن تستطيع الحصول عليه ! ". " لن استطيع؟". " لن اكون رقما على لائحتك ، أنت تعرف ذلك جيدا ". نهض من مكانه وعادا بصمت الى المنزل ، وما ان فتحت الباب حتى قال لها : " اريد ان اسبح ، تعالي معي ". " ارجوك، لا ارغب بذلك ". "حسنا ، تعالي معي فقط ، إجلسي على الرمال ، إنني بحاجة لرفقتك " إستسلمت لرغبته ، وخرجا معا الى البحيرة. منتديات ليلاس جلست على الرمال تتامله وهو يسبح في المياه الفضية ، كم هو وسيم ! تلاعبت نسمات الليل في شعرها ، ورفعت طرف شالها ، فاغمضت عينيها وأسندت رأسها الى ركبتيها ، حاولت ان تغلق قلبها عن رنة الندم لأنها لم تلحق به ، لا ، عليها الا تقع تحت الإغراء ، ستندم ، إنها لعبة خطرة. ولم تشعر بخروجه من المياه ، إلا عندما أحست بنقطتين باردتين تسقطان على عنقها ، رفعت وجهها اليه ، ونهضت بسرعة : " هيا يا كايد ، الليلة باردة ، انا تعبة أريد أن أتناول شيئا ساخنا وأذهب الى الفراش". " حسنا هيا بنا". وعلى بعد بضعة امتار من البيت امسك بها كايد فجأة ، وأرغمها على التوقف ، نظرت اليه بتساؤل ، ومن ثم إلتفت الى مصدر إنتباهه فرات ظلا قرب باب المنزل ، وأحست به يدفعها بقوة فسقطت ارضا ، وبعد لحظات سمعت صوت رجل يصرخ عاليا : " أنا بات يا سيد فرانكلين ، لا تخشى شيئا". " يا لك من أحمق ! لو كنت احمل مسدسا لكنت قتلتك ، ماذا كنت تفعل هناك ؟". " إعتقدت أنني سمعت صوتا مريبا قرب السياج فجئت لأتحقق من الأمر ، لم ار احدا ، لكنني وجدت انه من الأفضل أن أتحقق من المنزل ، انت لم تغلق الباب بالمفتاح ". " المرة المقبلة سأفعل ذلك ، أنت تؤدي عملك جيدا ... لكن اتمنى أن تعلمني عن وجودك مرة أخرى ". " لم أقصد إخافتك يا سيدي ، آسف ". " حسنا ، يمكنك ان تعود الى منزلك الآن ؟". " أفضل أن أبقى حول المنزل فترة... لمزيد من التأكد لا تهتما بي ...". وإختفى في الظلام ، نهضت كاريسا ، واخذت تسوي ثيابها وهي تشعر بالم في جانبها ، جرحت ذراعها عندما دفعها كايد أرضا ، كان شالها ما يزال مرميا على الأرض ، فإنحنى كايد ليتلتقطه ، ثم وضعه حول كتفيها . " هل أنت بخير ؟". "نعم ". |
أمسكك كايد بذراعها فإبتعدت عنه بسرعة ، غضب ، امسك معصمها بقوة وشدّها الى داخل المنزل ، اضاء الأنوار وأقفل الباب جيدا وراءه .
" آسف ، دفعتك أرضا لأحميك من أي خطر مفاجىء ". تكلم بنبرة توحي بأنه يحاول جاهدا التعبير بهدوء. " أعرف". " لماذا إبتعدت عني عندما لمست ذراعك؟". لم تجب ، فنظر اليها بتساؤل ، قبل ان يرفع الشال عن كتفيها ، ويرى خطا رفيعا من الدم على ذراعها ، سارعت الى القول : " لا شيء ، مجرد جرح بسيط ، هذا كل شيء ". " دعيني أراه". ولم ينتظر موافقتها ليقترب منها ويتفحص ذراعها ، وعندما راته يقطب حاجبيه قالت : " لا تخشى شيئا ، عندما أنظف الجرح لن يبدو بهذا السوء". " انت شاحبة ، هل تشعرين بالم في أي مكان آخر ؟". " لا ، مجرد رضوض بسيطة ، ستختفي بسرعة ". " إصعدي الى الحمام ، وعندما تنتهي سأهتم بتضميد الجرح ". ودفع بها الى غرفتها ، وعندما إنتهت من حمام المياه الساخنة ، دخل الغرفة وهو يحمل صندوقا من الإسعافات الأولية ". " إجلسي هنا". جلست على حافة السرير كطفلة مطيعة ، وفتح كايد زجاجة فيها سائل مطهر ، اصفر اللون وقوي الرائحة ، وضع كمية منه على قطعة من القطن الأبيض أخذ يمررها فوق ذراعها وهو يقول : " آسف ، لم أكن اقصد ، حين أشعر بالخطر أتصرف بصورة عفوية ". وضحك قبل أن يقول : " حتى لو كان الخطر خياليا ". " أسامحك ، كان من الممكن أن يكون الخطر حقيقيا ، أين تعلمت أن تتفاعل مع الخطر بهذه الطريقة ؟ في عصابة الشوارع التي أخبرتني عنها ؟". " وقبل ذلك ايضا ، أمضيت معظم طفولتي في إصلاحية ، اعرف .... ليس هذا ما كنت تقرأينه في الصحف ". كان يتكلم بمرارة فاجأتها : " كل هذا الكلام الذي قيل عن إعالتي لأمي المقعدة المسكينة ، وشقيقتي الطفلة ، كان من إختراع جاك ، هل تذكرين جاك ؟". هزت راسها إيجابا وهي تحاول أن تبدو في غاية الهدوء واللامبالاة . " هل ما يزال معك ؟". " لا استطيع التصرف بدونه ، هو الذي صنع مني كاديز فرناند ". وبنبرة ساخرة أضاف : " لا أدري أين كنت سأصبح بدونه ، ولا من أكون ، أحيانا أتساءل انا نفسي اين هي الحقيقة ، وأين هي إختراعات جاك ". وقاطعته برقة : " لا ، أنت تعرف جيدا من انت ... كنت دائما تعرف ". " وهل تعرفين انت من أنا ؟". وإعترفت بالم : " ظننت مرة بأنني أعرفك ، كنت صغيرة وقتها ... وفي غاية السذاجة ، قلت لي ذلك ، وكنت محقا ". " كنت أيضا في غاية الرقة ". وضع كايد قطعة القطن جانبا ، وأمسك ضمادة بلاستيكية ألصقها بنعومة على ذراعها : " سأجيئك الآن بالشراب الساخن الذي كنت تريدين ". وغادر الغرفة بسرعة قبل ان تشكره على إهتمامه وعاد بعد قليل بكوب من الكاكاو الساخن. " كاكاو ، هل تحبينه؟". نعم ، شكرا لك يا كايد ". وأمسكت بالفنجان ترشف محتوياته ببطء ، وكي تقطع الصمت الذي خيّم عليهما سألته : " أما زالت والدتك على قيد الحياة ؟". اجاب ببرود لا اثر فيه لأي إنفعال: " لا أعتقد ، لو كانت على قيد الحياة لجاءت تبحث عني عندما عرفت من الصحف انني بدأت أكسب الكثير من المال ". ورفعت نظرها اليه فأضاف: " صدمتك اليس كذلك ؟ لم ارها ... أعني امي .... بل لنقل أنها لم ترني منذ فقدت نظري في معركة عصابات في الشارع ". " معركة ؟ قرات ...". " إحدى قصص جاك لا ريب ، تلك القصة التي تقول انني فقدت بصري وانا انقذ صديقي من تحت عجلات شاحنة ؟ لم أكن أبدا رقيق الإحساس ". " ولا حتى مع عائلتك ؟". " أي عائلة ؟ انا لم اعرف والدي ، ولا أعرف إن كانت امي تعرف من هو ، كان هناك الكثير من ( الأعمام ) في طفولتي ، والقليل من الحب ، كانت امي إمرأة انانية.... اما شقيقتي فهربت من المنزل وهي في الثالثة عشرةمن عمرها ، لا أعرف اين هي الآن ، غادرت امي المدينة عندما كنت في المستشفى ونسيت أن تترك عنوانها ، كل ممتلكاتي في الدنيا كانت غيتارا وتصميما على الخروج من النفق الذي ولدت فيه ، سمعني جاك أعزف الغيتار ، فاعجبته وقرّر مساعدتي لسبب ما ". واحست كاريسا أن كايد يشك حتى في دوافع جاك ، ليس غريبا إذن أنه لم يتعلم في حياته كيف يحب. ومرر كايد يده في خصلات شعرها ، وللمرة الأولى أحست أنه يلمسها بحنان وليس برغبة ، وفجأة إبتعد عنها بسرعة وهو يقول : " لا ، لن اقبل شفقتك ". " ماذا تعني ؟ أي شفقة؟". " لم تحاولي هذه المرة الإبتعاد عني ، تشفقين على هذا اليتيم المسكين الذي قست عليه الحياة ، أنا رجل قوي الآن ولا احتاج لشفقتك ، ولا الى عاطفة الأمومة لديك ". وغادر الغرفة غاضبا . |
الساعة الآن 06:10 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية