( 14 ) قيام دولة اليعاربة 1624م لعل من أهم التجارب الناجمة عن حركة التاريخ أن التآلف والتجانس بن عناصر المجتمع تعد المقوم الأول لبناء قوته وبقدر ما يتحقق هذا التآلف فإنه ينعكس على قوة المجتمع , كان ذلك قديماً وقبل أن تتكون الدول القومية بمعناها الحديث وظل ذلك باقياً في كل عصر وفي كل مجتمع . والمتتبع تاريخ عمان يلاحظ هذه الحقيقة بشكل أكثر وضوحاً وخصوصاً مع إقتراب القرن الخامس عشر الميلادي من نهايته حيث عانت عمان من الفوضى السياسية مع إقتراب نهاية عصر النباهنة وبدات عوامل الضعف تنال من كيان هذه الدولة كنتائج طبيعية لإنقسامها إلى دويلات وممالك صغيرة مما عجل بنهايتها . والحقيقة أن تاريخ النباهنة لم يكن كله ضعفاً وإنما كانت هناك فترات قوة حيث حكم عمان عدد من الحكام العظام لعل أشهرهم فلاح بن محسن وفي فترات قوة الدولة وهيبتها تبدو الوحدة الوطنية أكثر وضوحاً وفي ظل حكام يتميز بقدر كبير من الحسم والإقدام تتبدد الأنانية ويقوى الوطن في ظل أهداف كبيرة ويبدو أن دولة النباهنة أخذت تنهار حينما بدأت تنهار هيبة حكامها حينما أسندت مناصب ولاة الأقاليم إلى من إشتد فسادهم حيث أهدرت حقوق الناس وراحوا يتطلعون إلى نماذج من الأئمة العظام . وإذا كانت الحروب الأهلية مع نهاية عصر النباهنة قد صرفت الناس عن الأهتمام بأمور معيشتهم مما أسفتر عن تدهور ملحوظ في الحياة الإقتصادية والإجتماعية إلا ان الغزو البرتغالي قد أجهز على البقية ولما كانت السواحل العمانية في مقدمة المناطق وقوعاً تحت السيطرة البرتغالية لذا فقد عمد البوكيرك إلى حرق المدن وتدمير السفن الراسية في الموانئ العمانية . وهكذا توافق غزو البرتغال مع أشد الفترات ضعفاً في تاريخ عمان مما سهل على الغزاة مهمتهم وعلى الرغمن من كل ذلك فقد سجل التاريخ صوراً من المقاومة العمانية الباسلة . واللافت للنظر أن كل القوى العربية والإسلامية كانت مستهدفة وعلى الرقم من ذلك فلم يحدث أي قدر من التنسيق بل إتسمت العلاقات بين كل القوى العربية والإسلامية بقدر كبير من التصارع فها هم العثمانيون يستبيحون عاصمة الفرس بينما المماليك ينسقون مع البنادقة بهدف التصدي للبرتغاليين أما بقية القوى العربية في الخليج كالنباهنة الجبور وهرمز فقد إتسمت علاقاتهم بصراع مرير مما بدد من قوتهم جميعاً . وبينما البرتغاليون يجهزون على كل القوى كانت عمان تشهد ميلاد عهد جديد أرسى دعائمه الإمام ناصر بن مرشد اليعربي المؤسس الحقيقي لدولة اليعاربة من 1624 إلى 1744م لقد إستوعب ناصر بن مرشد التجربة التاريخية بذكاء شديد فأية محاولة لتحرير عمان من البرتغاليين مشكوك في نتائجها بينما الوطن ممزق إلى دويلات صغيرة لذا فقد كان لزاما عليه أن يحارب في جبهتين الحرب من اجل الوحدة والحرب من أجل التحرير. ولا شك أن أجماع العلماء على إختيار ناصر بن مرشد إماماً عام 1624م يعد بداية عهد جديد في تاريخ عمان حيث وضع أسس دولة اليعاربة التي حكمت ما يقرب من مائة وعشرين عاماً تميز عهدها بملامح رئيسية لعل من أهمها تحقيق الأمن والإستقرار والرخاء كما تميز عهدها بتطور هائل في البحرية العمانية حيث أدرك الإمام ناصر أن الحرب بينه وبين البرتغاليين حرم بحرية في المقام الأول لذا أخذ على عاتقه بناء أسطول عربي يعتبر أول إسطول منظم أصبح في نهاية القرن السابع عشر القوة البحرية الأولى في مياه الخليج العربي والمحيط الهندي . وينتمى الإمام ناصر بن مرشد إلى قبيلة يعرب التي تعتبر بطناً من بطون بني نبهان وكانوا يتمتعون بإستقلال في إدارة شؤونهم الذاتية حيث إتخذوا من الرستاق مقراً لإقامتهم ونظراً لما إشتهر به الإمام ناصر بن مرشد من الإستقامة والنزاهة والإقدام والتدين لذا فقد أجمع أهل الرستاق على مبايعته إماماً , وتؤكد المصادر العمانية أنه بعد وصول الإمام ناصر إلى الحكم راحت تتهاوى حصون أنصار التجزئة الذين قاوموا بشراسة فكرة جمع شتات الوطن الكبير في دولة واحدة . وبما أن منطقة الرستاق في التي شهدت ميلاد إمامة ناصر بن مرشد لذا فقد كان عليه أن يبدأ بها , لهذا مضى ومعه جمع من أنصاره نحو قلعة الرستاق وكان المالك للرستاق مالك بن أبي العرب اليعربي وبعد حصار لم يدم طويلاً فتحها الإمام ناصر متخذاً منها نقطة إنطلاق لتوحيد الوطن كله . لقد إجمعت مصادر التاريخ العمانية على اهمية الدور الذي لعبة الشيخ خميس بن سعيد الشقصي الذي كان موضع ثقة اهل الرستاق حيث ساند الإمام ناصر في كل خطواته بدءاً من إختياره إماماً وإنتهاء بالجيوش التي قادها في سبيل تحقيق الوحدة ومن الصعب إغفال زعامات قبلية ودينية بذلت جهداً كبيراً من أجل الوحدة . |
( 15 ) جهود الإمام ناصر بن مرشد في إعادة الوحدة الوطنية ـ 1 ـ لعل في مقدمة الدروس التي إستخلصها الإمام ناصر بن مرشد من تاريخ عمان أن كل الأعمال الكبيرة التي أنجزها العمانيون تمت من خلال وطن موحد , تستثمر إمكاناته البشرية والإقتصادية بما يعود بالمصلحة على الجمييع ومن أجل ذلك كان العمانيون لهم السبق عبر الحضارات المتعاقبة وحينما تطل الفتنة برأسها وينقسم الوطن إلى ممالك ودويلات صغيرة يحدث الإنحسار والتدهور , لذا فقد إستوعب الرجل تاريخ وطنه بوعي وإدراك شديدين . لقد وضع الإمام ناصر بن مرشد أولويات العمل الوطني فلم يكن من المعقول أن يبادر بتحرير بلاده من القوات البرتغالية بينما الوطن مقسم , لهذا كان من الضروري أن يبدأ بجمع الشمل وتوحيد الكلمة وتجمع مصادر التاريخ على أن الإمام لم يبادر بإعلان الحرب إلا بعد أن إستنفذ كل الجهود الدبلوماسية , من أجل ذلك فقد كتب إلى أهل نزوى يدعوهم إلى جمع الشمل إلا أن هذه الدعوة لم تصادف رغبة بعض أهلها لذلك عجل بالسير إليها بنفسه وعندما ادرك أن الحرب واقعة لا محالة فضل العودة إلى الرستاق حيث جاءه وفد من سمائل برئاسة ملكها مانع بن سنان العميري معلنا مبايعته وبما أن نزوى كانت موضع إهتمام الإمام ناصر بن مرشد لأهميتها التاريخية والدينية فقد توجه إليها من سمائل حيث كان لعامل المباغته أكبر الأثر في إجماع أهلها على مبايعته . واللافت للنظر أن الإمام ناصر بن مرشد كان حريصاً على عدم إراقة دماء المسلمين لذا فقد إستخدم كل وسائل الإقنا والحجة وما كان يلجأ إلا إذا حتمتها الظروف وفرضتها المصلحة العامة . ونظراً لثقل المهمة التي كان يقوم بها الإمام وما كانت تحتمه من مواجهات عسكرية ضد أنصار التجزئة فقد كان يقيم في كل المناطق التي يدخلها عنوة بعضاً من الوقت ثم يغادرها إلى مناطق أخرى تاركاً بعض أنصاره لمواصلة مهمته في ترسيخ مبادئه ومواصلة دعوته التي اخذت تنساب في كل أرجاء عمان ومما يؤكد صعوبة المهمة التي مضى الإمام ناصر في سبيل تحقيقها كثرة الممالك التي أقيمت على مقومات قبلية بحيث يصعب التمييز بين القبيلة والحكومة . ومن الظواهر اللافتة في سياسة الإمام إنه كلما حقق قدراً من الإنتصارات في سبيل تحقيق الوحدة راح يتريث ترقباً لرد فعل قد يحول دون إراقة الدماء إضافة إلى التقاط الأنفاس وترتيب الجند والعودة لتفقد أحوال المناطق التي دخلت في حوزته وهي سياسة حكيمة تعددت فوائدها على كل المستويات . وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن تمرد منطقة الظاهرة كان من أصعب العمليات التي واجهها الإمام , حيث إستشهد أعداد كبيرة من بينهم شقيق الإمام جاعد بن مرشد مما دفع الإمام ناصر إلى أن يتولى بنفسه قيادة العمليات العسكرية مما كان سبباً في إعادة السيطرة على الموقف بعد أن إرتفعت معنويات الجند الذين قاتلوا بشجاعة منقطعة النظير في مناطق عبري وحسن الغبي وكافة مناطق الظاهرة وتأكد الإمام أن تمرد أهل الظاهرة مرده إلى مؤامؤات ناصر بن قطن الذي حوصر في قلعته إلى أن إستنجد بالإمام متوسلاً العفو منه . كما أدرك الجبور أن وحدة البلاد تتعارض مع مصالحهم المباشرة لذا فقد تمكنوا من إثارة القبائل التي تحت سيطرتهم ووصلت مخططاتهم إلى درجة التأمر على إغتيال الإمام ناصر , لذا فقد واجههم الإمام ودارت معركة كانت من أشد المعارك ضراوة وإنهزم الجبور وأتباعهم وقتل منهم أعداد كبيرة ويعلق الأزكوي على هذه المعركة قائلاً : لقد كثر القتل في البغاة حتى قيل إنهم عجزوا عن دفن موتاهم فكانوا يجعلون السبعة والثمانية في خبة . وقد إعتمد الإمام على سياسة النفس الطويل ولا بأس من مهادنة خصومه أحياناً ومباغتتهم في بعض الأحيان فها هو يبعث بسراياه إلى المناطق التي إستعصت عليه لمناقشة خصومة وبعد أن يستوثق من موقفهم يكون قرار الحرب . لقد ظهرت بطولات نادرة خلال الحروب التي لم تتوقف فها هو محمد بن غسان النزوي يقود العمليات ضد الجبور في منطقة الجو ناحية البريمي ثم يحقق إنتصاراً عظيماً يتوجه بعده على لوى التي إستعصى فتحها على قوات الإمام بسبب تحصيناتها وكثرة المدافعين عنها مما إضطر محمد بن غسان النزوى إلى طلب العون من القبائل القريبة من صحار التي كانت تتطلع إلى قوات الإمام وتترقب إنتصاراتها بهدف التعجيل بمواجهة البرتغاليين الذين أنزلوا بصحار وأهلها أبشع أنواع الممارسات مما دفع بأهل صحار إلى ترك مدينتهم واللجوء إلى المناطق البعيدة ترقباً لجولات أخرى , وهكذا كان الإمام ناصر بالنسبة إليهم بمثابة المنقذ من نير الإحتلال . وقد تمكن محمد بن غسان بمساعدة القبائل من السيطرة على لوى حيث بدأ التفكير عملياً في صحار وهكذا إستطاع الإمام ناصر خلال سنوات حكمه 1624-1649م من أن يعيد لعمان وحدتها وتماسكها ويؤمنها إلى حد كبير من الأخطار الخارجية وكانت محاولاته نحو الوحدة مبعث أمل كبير وينفرد هذا الإمام العظيم من بين أئمة اليعاربة بأنه حارب على جبهتين الساحل والداخل في وقت واحد فلكما هدأت الأوضاع في الداخل راح يواجه القوات البرتغالية على الساحل وكلما حقق إنتصاراً على الساحل عاد إلى الداخل لمواصلة حروبه من أجل أن تكون عمان وطناً موحداً وعند وقاة الإمام ناصر بن مرشد في إبريل 1649م كانت كل القبائل العمانية تحت لواء واحد وإنتهت إلى غير رجعة مرحلة التمزق والتشتت وبدأت مرحلة جديدة من الوحدة في ظل حكومة مركزية . أدرك الإمام ناصر بن مرشد أن مواجهة البرتغاليين على السواحل العمانية في حاجة إلى إمكانات أخرى تفوق تلك الإمكانات التقليدية التي إعتمد عليها اليعاربة في حروبهم ضد القبائل الرافضة لسلطة الدولة المركزية , لقد وقعت كل المعارك التي خاضها اليعاربة ضد القبائل على اليابسة أما البرتغاليون فقد كانوا أهل بحار ووسيلتهم في الحرب هي السفن , التي شهدت ظفرة كبيرة منذ الكشوف الجغرافية لذا فإن سياستهم الإستعمارية إعتمدت على إحتلالهم لكثير من المدن والقلاع والحصون التي تقع في طريق البحار والمحيطات دون اللجوء إلى التعمق في اليابسة . |
( 15 ) جهود الإمام ناصر بن مرشد في إعادة الوحدة الوطنية ـ 2 ـ وهكذا أدرك اليعاربة إمكانات عدوهم القادمن من أقصى الظرف الأوروبي كدولة بحرية خاضت معارك شرسة في سبيل الحفاظ على مصالحها الإستعمارية لذلك كانت العناية بالإسطول وتنمية الموارد الإقتصادية وتلاحم الشعب العماني في مقدمة الركائز الأساسية التي إعتمد عليها اليعاربة الذين طوروا إسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من الخبرة الإنجليزية في هذا المجال . وكان إنتزاع صور وقريات من أيدي البرتغاليين في مقدمة العوامل التي ضاعفت من تماسك العمانيين وكانت بمثابة إختبار عملي لنجاح الوحدة التي خاض اليعاربة من أجلها حروباً ضارية . لم يكن إنتزاع صور وقريات عملية سهلة فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفاءة القوتين المتنافستين إضافة إلى سياسة الوفاق التي إستجدت بين البرتغاليين وشركة الهند الشرقية البريطانية إبتداً من عام 1634م , لقد كانت المتغيرات السياسية سواء المحلية او الدولية في مقدمة عوامل كثيرة جعلت اليعاربة يناضلون في ظروف أشد قسوة إلا أن نجاحاتهم في تحقيق الوحدة الوطنية إضافة إلى المشاعر الدينية الجياشة التي فاقت أية مشاعر وطنية كل ذلك جعل عرب عمان يقبلون على التضحية بنفس راضية وبحماس ورغبة في الإستشهاد وهي عوامل كان يفتقدها البرتغاليون المتحضون في الثغور العمانية . ومن الملاحظ أن اليعاربة قد إستثمروا إمكاناتهم بكفاءة عالية ولعل صحار كانت إقليماً إستراتيجياً هاماً في سياسة اليعاربة لذا فقط ضربوا عليها حصاراً شديداًَ بينما تحصن البرتغاليون داخل القلاع والحصون وراحوا يمطرون قوات الإمام بوابل من نيران مدفعيتهم مما دفع الإمام إلى بناء قلعة لكي يتحصن فيها العمانيون في مواجهة القلعة البرتغالية . وبمجرد أن علمت القبائل العمانية بحصار صحار راحوا يتدفقون من كل صوب وخصوصاَ من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار وبينهما العمانيون قد ضربوا حصاراً على صحار , إذا بالإمام ناصر وقد بعث بسرايا أخرى إلى مسقط بقيادة خميس بن سعيد الشقصي وعلى الرغم من أن تلك السرايا لم تحقق نتائج حاسمة إلا إنها أربكت البرتغاليين في كل من صحار ومسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العمانية على كافة المعاقل البرتغالية . وقد كان إستيلاء الإمام ناصر بن مرشد على مدينة صحار عام 1643م نقطة تحول جديدة في المواجهة العمانية البرتغالية . لقد كانت قوات ناصر بن مرشد في أشد الحاجة إلى التقاط الأنفاس وعلى الرغمن من ذلك فقد تمكنت من تحرير كل المدن الساحلية العمانية ولم يبق إلا مسقط ومطرح التي تمكن المسعود بن رمضان من محاصرتها في وقت تفشي فيه مرض الطاعون بين البرتغاليين ولعلها كانت فرصة مناسبة لكي يجهز العمانيون على عدوهم خصوصاً وإن القصف المستمر لقوات مسعود بن رمضان كان عنيفاً لدرجة أربكت الحاميات البرتغالية بينما كان الطاعون يحصد ما يقرب من خمسين شخصاً في اليوم الواحد , ولم ينته هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وإنما نجم عنه إبرام هدنه جاء معظم بنودها في صالح العمانيين . وقد إمتد صراع اليعاربة ضد منافسيهم لفترات زمنية طويلة , تباينت فيها المواقف السياسية , إلا أن أصعب الفترات واخطرها هي فترة الإمام ناصر بن مرشد حيث كان يقاتل في سبيل التحرير والوجحدة معاً وقد كبده ذلك قدراً هائلاً من الجهد والوقت حيث إستخدم كل الإمكانات المتاحة بمهارة شديدة بما في ذلك المفاوضات السياسية التي لجأ إليها عام 1648م وعند وفاته سنة 1649م لم يبق تحت السيطرة البرتغالية إلا مسقط ومطرح . كما واصل سلطان بن سيف الذي بويع بالإمامة في إبريل 1649م جهاد الإمام ناصر بن مرشد حيث إزدادت طموحات العمانيين وأدركوا بأنهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من إحتلال دام أكثر من مائة وأربعين عاماً وادرك الإمام الجديد أهمية الوقت كعامل هام في الأجهاز على البرتغالين في الوقت الذي أخذ فيه البرتغاليون يضاعفون من تحصيناتهم في مسقط ومطرح وثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل إتجاه وزيادة في الحيطة حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار وعلى رؤوس الجبال بنوا مجموعة أبراج أقاموا فيه داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العمانية بوابل من نيران مدافعهم . وقد إستطاع سلطان بن سيف أن يضرب حصاراً على القوات البرتغالية وبينما الحصار قائماً تمكن بعض الهنود من تقديم معلومات للإمام على درجة كبيرة من الخطورة دفعت بقواته إلى الدخول بينما الحامية البرتغالية قد أخذت على غرة مما أفقدها القدرة على المواجهة ومن ثم كان الإنهيار والإستسلام في ديسمبر سنة 1649م . لقد أصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة حيث قتل معظم جنودهم وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لإمداد مسقط باءت بالفشل وبنهاية 1652م لم يبق للبرتغاليين في الخليج إلا وكالتهم في كينج . لم يتوقف العمانيون عن مطاردة خصومهم حتى بعد أن إعتصموا في وكالتهم في كينج على الساحل الشرقي من الخليج وراح العمانيون يتعقبون عدوهم في الهند وشرق إفريقيا مما جعل الملاحة بين الوكالة التجارية للبرتغاليين في كينج وبين شرق إفريقيا والهند تبدو مستحيلة في ظل أحكام العمانيين سيطرتهم على الخليج العربي والمحيط الهندي . لاشك أن اليعاربة قد إعتمدوا على قوتهم الذاتية مع قدر من المرونة الدبلوماسية في إطار العلاقات الدولية مستفيدين من تضارب المصالح بين القوى الأوروبية المتنافسة وهو جهاد لا يقل أهمية عن الحرب مما عاد على الدولة بقدر كبير من القوة والمنعة وخصوصاً فيما يتعلق بتطور البحرية العمانية إعتماداً على أحدث الخبرات الأوروبية في هذا المجال . لقد إنطلقت السفن العمانية لتصفية الجيوب البرتغالية على السواحل الفارسية مما إضطر الحامية البرتغالية في كينج إلى الإنسحاب نهائياً مما أوجد نوعاً من المواجهة المباشرة بين العمانيين والفرس الذين راحوا يتضامنون مع الإنجليز والهولنديين ضد النشاط البحري العماني بحجة محاربة القرصنة , التي لم تكن من وجهة النظر القانونية إلا نوعاً من مشروعات الكفاح المسلح ضد قوى أجنبية إستباحت لنفسها حق الغزو والإحتكار والنهب . وتشير المصادر التاريخية إلى الإزدهار الإقتصادي الذي حققه اليعاربة وخصوصاً مع نهاية عصر سلطان بن سيف فقد وصل درجة كادت تفيض البيضاء والصفراء من أيدي الناس على حد قول السالمي . لقد تجسدت ملامح الوحدة الوطنية في أبهى صورها حيث كان العدل هدفاً للراعي ونهجاً للرعية ولذا أقبل العمانيون على تشييد الحصون والقلاع وشق الأفلاج وغرس الأشجار مما عاد على عمان بالخير والمنفعة . |
( 16 ) الإسطول العماني في عصر اليعاربة لقد كان إتجاه اليعاربة ناحية البحر ضرورة إستراتيجية فرضتها الثوابت التاريخية والحقائق الجغرافية وبحكم موقع عمان التي يحدها الخليج العربي شمالاً وبحر العرب جنوباًَ وخليج عمان شرقاً وصحراء الربع الخالي غرباً لذا كانت الصحراء دائماً في ظهر عمان تدق بإستمرار على بابها الخلفي من أجل ذلك كانت قصة عمان مع الصحراء بمثابة فصل عادي في التاريخ العماني بينما كان البحر دائماً هو الركيزة الأساسية وبإتحاد البحر واليابسة معا شكلت كل فصول التاريخ العماني . وقد إستطاع آئمة اليعاربة سواء في فترة قودة الدولة أو حتى في فترات ضفعها أن يضعوا أيديهم على العنصر الفاعل في التاريخ العماني وهو إرتباط البحر باليابس بشكل متناغم إدراكاً منهم لخطورة الموقع وأهميته واللافت للنظر أن اليعاربة قد أدركوا أهمية الخطر الذي يواجههم والذي يعد في كثير من الحالات ظاهرة صحية حيث شحذ الوعي القومي وعمق الإحساس بالوعي الديني والوطني وفي جميع الحالات أبعد إحتمالات الإنغلاق على الذات واللامبالاة بالعالم الخارجي . لقد أدرك اليعاربة أن عدواً بعينه متربص بعمان يدفعها بقسوة ناحية الصحراء لأنه يرى فيها موطن الخطر ومكمن القوة ومفتاح المنطقة , وخلال هذا الصراع تشكلت الثوابت الإستراتيجية التي حددت ملامح دولة اليعاربة التي أجادت لعبة التوازنات بين كافة القوى الأوروبية المتنافسة على الخليج . وكنتيجة طبيعية لكل هذه التحديات فقد إقتحم اليعاربة حياة البحر ونجحوا إلى حد هائل في إعداد قوة بحرية إستطاعت تعقب البرتغاليين في الخليج العربي والمحيط الهندي ولم يكتف اليعاربة بخبرتهم المحلية بل طوروا سفنهم مستفيدين من التقدم الكبير الذي طرأ على صناعة السفن الأوروبية . ويبدو أن الإسطول العماني لم يتملك ناصية الموقف تماماً إلا عقب تحرير مسقط عام 1649م حيث راح الإسطول العماني يتعقب الإسطول البرتغالي على السواحل الهندية والإفريقية وشهدت الفترة من عام 1650 وحتى 1652 نشاطاً بحرياً عمانياً أقلق الإنجليز والهولنديين حيث تمكن الإمام سلطان بن سيف من الإعتماد بالكامل على السفن الحديثة بني بعضها في الهند والبعض الآخر تم شراؤها من الهولنديين , وإستخدم المدافع المتطورة بنفس كفاءة المدافع الأوروبية وكانت بومباي في مقدمة المناطق التي شهدت هجوماً عمانياً مكثفاً وفرض العمانيون رسوماً جمركية على مناطق عديدة مثل جوا وبرسالور ومتفالو وباتيكالا مما وفر لهم قدراً معقولاً من الأموال التي إستخدمت في تطوير السفن وإقتناء أفضل الأسلحة المتطورة . لقد كان تطور البحرية العمانية بشكل لافت خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر مؤشراً عملياً للتطور الإقتصادي الذي حققه العمانيون خلال هذه الفترة والذي شغلت التجارة فيه حيزاً هاماً خصوصا وأن نهاية الوجود البرتغالي في عمان يعد نهاية عملية لسياسة الإحتكار التي ألمت بالخليج العربي والمحيط الهندي منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي . أن تطور السفن العمانية بهذا الشكل الكبير لا يمكن أن يكون بسبب الإعتماد على السفن المشتراة من الإنجليز أو الهولنديون فقط وإنما إتخذ العمانيون من المراكز الصناعية في سورات ونهر السند وغيرهما من المناطق التي لم يعرف الإنجليز أو الهولنديون عنها شيئاً مراكز لصناعة سفنهم بعيداً عن أعين الأوروبيين وهو ما تشير إليه بعض المصادر الأجنبية . ويبدو أن الوصول بالإسطول العماني إلى الحد الذي تهابة أساطيل الدول الأوروبية لم يكن أمراً سهلاً فقد إستغرق ذلك جهداً ووقتاً وكانت عمليات التمويل في مقدمة الصعوبات إضافة إلى القلاقل والمشكلات الداخلية التي كانت تطل برأسها ما بين وقت وآخر . ووفقاً لتقرير كبته ويلمسون كمندوب عن الشركة الهولندية حينما إسندت إليه مهمة زيارة عمان عام 1774م حيث يبدي إندهاشه بسبب إفتقاد العمانيين إلى بحارة منقطعين للعمل على السفن العسكرية بل يتوافدون على السفن حينما يتطلب الموقف القيام بمهام عسكرية . والحقيقة أن هذه الملاحظة لها دلالتها على إعتبار أن النشاط الإقتصادي والعسكري كانا متلازمين ولم تعرف السفن العمانية الإحتراف بمعناه الدقيق ففي وقت السلم ينصرف البحارة لممارسة نشاطهم الاقتصادي والتجاري وإذا ما تأزمت الأوضاع إنصرف البحارة إلى مهامهم العسكرية بعكس ما كان يحدث على السفن الأوروبية التي كان لها بحارة منقطعون للعمل في هذه المهام فقط . لعل ذلك كان يضاعف من صعوبة المهمة التي يقوم بها اليعاربة الذين كانوا يبنون بيد ويحملون السلاح باليد الأخرى وهي ظاهرة لم تعرفها أوروبا . يمكن فهم طبيعة الموقف على ضوء الدوافع التي كان يقاتل من أجلها العمانيون حيث كان الجهاد من اجل الدين والوطن طريقاً إلى النصر أو الإستشهاد وهي دوافع كان يفتقدها البرتغاليون . وبوفاة سلطان بن سيف عام 1679م خلفه إبنه بلعرب بن سلطان الذي نقل مقر إقامته من نزوى إلى جبرين ومازال حصنة قائماً هناك بخطوطه ورسومات جدرانه فريداً في بنائه وشاهداً على ذوقه الرفيع , وتذكر بعض الروايات أن شقيقه سيف قد خرج عليه سنة 1689م وأرجعت هذه الروايات الخلاف بين الشقيقين إلى عزوف بلعرب عن الحرب وإبرامه إتفاقاً مع البرتغاليين أعتقد سيف بإنه يحمل شروطاً مجحفة بحقوق العمانيين لذا فقد قاد سيف بن سلطان جبهة المعارضة رافضاً الإعتراف بحقوق البرتغاليين وأحتل حصون مسقط وجبرين وتمكن من السيطرة على زمام الموقف وحسم الموقف لصالحه حينما توفي شقيقة بلعرب . لقد تعددت شهادات المعاصرين والمؤرخين في وصف البحرية العمانية في عهد سيف بن سلطان فقد كتب بروس قائلاً : كان الإسطول العماني هائلاً لدرجة أثارت الرعب في نفوس الأوروبيين وكل الدلائل تؤكد إنهم كانوا يسيطرون على الخليج كله . ويذكر دكتور فراير الذي زار الخليج في عهد سيف بن سلطان أن العمانيين قد إكتسبوا مكانات بحرية هائلة وأن نشاطهم يهدد بندر عباس لدرجة أن الفرس طلبوا من الإنجليز حمايتهم من العمانيين .. وقد أضاف لوكير الذي زار مسقط في عهد سيف بن سلطان وشاهد واحدة من السفن العمانية وهي مجهزة بسبعين مدفعاً وأضاف أن الإسطول العماني تمكن من أسر واحدة من أغنى سفن كلكتا وكانت تحت قيادة الكابتن ميرفيل وعلى الرغم من أعمال الإسطول العمانيي ضد السفن الإنجليزية إلا أن الشركات الإنجليزية التي تملك هذه السفن لم تقم بعمل مضاد ضد عرب عمان . لقد إدعا البرتغاليون إنتصارات اليعاربة عليهم إلى إنها بسبب إمدادات واسحلة تلقوها من الإنجليز وأن السفن العمانية كان يقود معظمها ضباط إنجليز وكانت ترفع العلم الإنجليزي . والحقيقة أن هذا الإدعاء حاولت أن تروج له الإدارة البرتغالية لكن لم يثبت صحته سواء من جانب الإنجليز أو الهولنديين ولم تشر إليه كتابات الرحالة الأجانب إضافة إلى أن الإسطول الانجليزي نفسه كان مستهدفاً من قبل البحرية العمانية وحدثت مصادمات كثيرة سواء في عصر سلطان بن سيف أو سيف بن سلطان . والحقيقة أن المؤرخين والرحالة الأوروبيين قد أبدوا أهتماماً ملحوظا بالتفوق الذي وصلت إليه البحرية العمانية ويذكر البعض أن أئمة اليعاربة قد إستطاعوا بفضل صداقتهم لأمراء الهند أن يضمنوا جلب الأخشاب اللازمة لبناء السفن , وهناك عدة إتفاقيات عقدها اليعاربة مع حاكم مقاطعة بجو في الهند ولعل ذلك ما دفع جون مالكولم إلى الإعتقاد بأن أحسن الوسائل للقضاء على البحرية العمانية هو قطع الصلة بين عمان وأمراء الهند . ويمكن التعرف على المدى الذي وصلت إليه البحرية العمانية في عهد اليعاربة من خلال كتابات هاميلتون الذي ذكر أن البحرية العمانية كانت تتكون من مئات السفن الكبيرة ذات الحمولات المختلفة من المدافع الكبيرة والصغيرة . ويضيف الرحالة فريرز إنه من الضروري عدم إستفزاز العمانيين إذ إننا لن نجني من وراء ذلك سوى ضربات تنهال علينا , ويعترف المؤرخ الإنجليزي كوبلاند بأن البحرية العمانية في بداية القرن الثامن عشر قد أصبحت تفوق أية قوة بحرية أخرى لدرجة إن الأساطيل الإنجليزية والهولندية كانت تخشى مواجهة العمانيين , ويضيف مايلز أن اليعاربة قد صارت لهم السيادة الفعلية على المحيط الهندي وأصبحت سفنهم تنشر الرعب في قلوب الأوروبيين لمدة قرن ونصف . وحينما شعر العمانيون بأن فارس تنسق مع البرتغال بهدف إعادة إحتلال مسقط راح العمانيون يشنون هجوماً على نطاق واسع ضد بندر كنج وبندر عباس ودمروا المدينتين وأستولوا على السفن الفارسية والبرتغالية وفي عام 1717م عاود العمانيون هجومهم بهدف تحرير البحرين من الإحتلال الفارسي ونجحوا في ضرب حصار بحري على السفن الفارسية وأخضعت قواتهم حصون جزيرة قشم ولارك وسيطروا على موانئ جنوب فارس ومنعوا السفن الفارسية من الملاحة في الخليج مما أحدث قلقاً شديداً لدى الدوائر الأوروبية وخصوصا بعد أن إتخذ العمانيون من هرمز قاعدة لنشاطاتهم البحرية , وتشير التقارير الهولندية إلى أن عدد الحامية العمانية في هرمز تقدر بألف رجل يتناوبون على حراسة المضيق . لقد إستنفذت فارس كل الوسائل الداعية لإقامة تحالف مع أي من الدول الأوروبية بهدف القضاء على البحرية العمانية والإجهاز عليها , إلا أن كل محاولاتهم قد باءت بالفشل وتؤكد كتابات المعاصرين لهذه الأحداث على سوء تقدير الفرس وتناقض مواقفهم بعكس العمانيين الذين أتسموا بصدق وإحترام شديدين وخصوصاً في معاملتهم لأهل الأديان الأخرى وحرية إقامة شعائرهم الدينية , ويذكر هاميلتون : لقد كان عرب عمان يشنون غارات ضد البرتغاليين على الساحل الهندي ويدمرون المدن والقرى ولكنهم لم يهاجموا الكنائس ولم يقتلوا أعزلاً أو طفلاً وكانوا يعاملون أسراهم معاملة كريمة بخلاف البرتغاليين الذين كانوا يعاملون أسراهم معاملة وحشية ويضيف هاميلتون : لقد كان العمانيون يمنحون أسراهم بدل أرزاق مثلما يعطون لجنودهم تماماً . |
( 17 ) اليعاربة والعلاقات الدولية تبدو إمكانات اليعاربة في مقدرتهم على الإستفادة من المنافسات الدولية في بحار الشرق وتقديرهم لأهمية العلافات المتوازنة مع القوى الأوروبية المتنافسة على الخليج العربي إبتداء من النصف الثاني من القرن السابع عشر وتتميز دولة اليعاربة بأنها قد تمكنت ومنذ عصر ناصر بن مرشد من أن تستثمر إمكاناتها الذاتية , حيث إمتزجت إمكانات البحر باليابس بطريقة متناغمة شكلت منظومة رائعة أعطت عمقاً إستراتيجياً دفع بعمان إلى أن تكون القوة العربية الوحيدة في منطقة الخليج القادرة على مواجهة كافة الأطماع الأجنبية والأقليمية . وتشير المصادر الأجنبية إلى أن الإمام ناصر بن مرشد تمكن من تحييد الإنجليز خلال صراعه مع البرتغاليين وبينما القوات العمانية تحكم الخناق على البرتغاليين إقتصادياً كانت شركة الهند الشرقية البريطانية تتفاوض مع العمانيين عام 1645م لإقامة علاقات إقتصادية وسياسية من خلال بعثة إنجليزية ترأسها فيليب وايلد الذي وصل إلى صحار وأبرم إتفاقاً مع الإمام ناصر بن مرشد يعطي للإنجليز حق حرية التجارة في مسقط وحرية ممارشة شعائرهم الدينية . وخلال عصر الإمام سلطان بن سيف 1649-1679م نجح العمانيون في إقامة علاقات متوازنة مع كل القوى الإوروبية ولم يجد سلطان بن سيف غضاضة في تنمية علاقاته مع الإنجليز وأستقبل الكولونيل رينسفورد بصفته مندوباً عن شركة الهند الشرقية عام 1659م وأثمرت المفاوضات عن منح الإنجليز أحدى القلاع في مسقط على أن لا يزيد عدد الجند بها عن مائة وأن يتقاسم العمانيون والإنجليز الإيرادات الجمركية مقابل العمل على تنمية موارد مسقط بما يحقق المصلحة للطرفين , إلا أن العمانيين لم يتحمسوا لتنفيذ بنود هذه الإتفاقية بسبب تنامي المصالح الهولندية في المنطقة وتراجع دور الإنجليز ولعلها كانت فرصة مناسبة لسلطان بن سيف الذي أدرك خطورة التنازل عن إحدى قلاع مسقط لواحدة من أكبر القوى الأجنبية ولعل ما يفسر تراجع سلطان بن سيف عن تنفيذ إتفاقية 1659م مع الإنجليز ذلك التفوق الهائل الذي حققه الهولنديون على الإنجليز خلال الفترة من 1654م وحتى 1684م حيث إنتزع الهولنديون معظم النشاطات الإقتصادية في الخليج . وعموماً فإن عدم تنفيذ إتفاقية 1659م لم يتسبب في توتر العلاقات العمانية الإنجليزية خصوصاً وقد إستخدم الإنجليز إسلوب الدبلوماسية المرنة حرصاً على مصالحهم المهددة في المنطقة والأكثر من هذا أن العلاقات العمانية الإنجليزية تنامت في عهد سلطان بن سيف 1649-1679م ونجح العمانيون في إقامة علاقات متوازنة بين الإنجليز والهولنديين مما ضاعف من نجاح المواجهة العمانية البرتغالية وراح الإسطول العماني يتعقب السفن البرتغالية في المحيط الهندي وسواحل شرق إفريقيا وسواحل الهند حيث هاجموا قاعدتهم في ياسين كما نجحت مجموعات عمانية أخرى في شن حملات مماثلة على سواحل كجرات وميناء بومباي وكانت معركة جزيرة سالت من أنجح هذه العمليات . ومما يجدر ذكره أن حجم الإنتصارات العمانية قد أذهلت القوى الأوروبية في الخليج العربي والمحيط الهندي لدرجة دفعت البرتغاليين إلى الإعتقاد بأن سبب الإنتصارات المتلاحقة للعمانيين يرجع إلى المساعدات الإنجليزية والهولندية ولعل إدعاء البرتغاليين يمكن تفسيره على ضوء مقدرة العمانيين على التعامل مع الإنجليز والهولنديين سواء من حيث إستثمار المنافسات القائمة بينهما والقدرة على تحييدها أحياناً والإستفادة من أسلحتها المتطورة في أحيان أخرى , أو من حيث أبرز حجم التناقضات القائمة بينهما من جانب وبينهما وبين البرتغاليين من جانت آخر ومقدرة الدبلوماسية العمانية على إستثمار عناصر التناقض وهو جهود لا تقل أهميتها عن الإنتصارات العسكرية العمانية . ويعتقد أحد الباحثيين بأن الإنجليز كانوا متعاطفين مع العمانيين بسبب الصراع المذهبي بين الإنجليز وبين البرتغاليين المتعصبين لمذهبهم الكاثوليكي مع الوضع في الإعتبار ما خلفه البرتغاليون من سمعة سئية بسبب سياسة الإحتكار التي بالغوا في تطبيقها مما ألحق ضررا بليغا بالمصالح الإقتصادية البريطانية . ويضيف بوكسر أن الإنجليز لم يقدموا مساعدات كبيرة للعمانيين وإن كان بعض الإنجليز قد عملوا كبحارة لدى العمانيين دون تكليف من شركة الهند الشرقية البريطانية ودون علم الحكومة البريطانية . ومع تقديرنا لوجهة النظر هذه إلا إنه إذا كان ثمة تعاطف إنجليزي مع العمانيين فإنه كان تعاطفاً تكتيكياً حكمته مصالح سياسية وإقتصادية يمكن فهمها في إطار سياقها التاريخي القائم وقتئذ بحكم القلق الذي إنتاب الدوائر البريطانية بسبب تصاعد القوة العمانية وتأتي إتفاقية 1661م بين الإنجليز والبرتغاليين تأكيداً لهذا المعنى حيث توجت بزواج الملك شارل الثامن من كاترين أوف برجنزا والتي نص في إحدى موادها على ان يقدم الإنجليز مسقط إلى البرتغاليين إذا ما قدر لهم في أي وقت السيطرة عليها , إضافة إلى أن العمانيين قد إعتادوا على مهاجمة السفن الانجليزية وأجبار بحارتها على مشاركتهم في الهجوم على القواعد البرتغالية لدرجة أن تقرير لشركة الهند الشرقية البريطانية في بندر عباس قد أقر بأن الإسطول العماني يعوق تجارة الشركة ويسبب لها خسائر كبيرة . وعلى الرغم من كل ذلك فقد حرص العمانيون على قيام علاقات متوازنة مع الإنجليز والهولنديين وتقديراً لأهمية هولندا ودورها في بحار الشرق فقد قدم الإمام سلطان بن سيف الأول مشروعاً يسهل للهولنديين نقل بضائعهم عبر الأراضي العمانية إلى البصرة بدلاً من جمبرون بعد أن بالغ الشاه عباس الثاني في فرض ضرائب باهضة على التجارة الهولندية . وعلى الرغم من تحسن العلاقات الهولندية مع فارس وعودة جمبرون كمركز تجاري للهولنديين إلا أن ذلك لم يكن على حساب المصالح العمانية الهولندية التي راحت تتحسن يوماً بعد يوم . وإذا كان العمانيون قد تمكنوا من تحييد الهولنديين بهدف الإجهاز على البرتغاليين إلا أن العلاقات العمانية الهولندية لم تصل إلى درجة التحالف بل العكس هو الصحيح فقد شعر العمانيون بأن الهولنديين يعتزمون الإنفراد بتجارة الخليج بدلاً من البرتغاليين ولم يكن اليعاربة على إستعداد لإستبدال النفوذ الهولندي بالنفوذ البرتغالي . لقد إنتاب الدوائر الفارسية قدراً كبيراً من القلق بسبب تنامي الإسطول العماني وأخذوا يستنجدون بالهولنديين أحياناً وبالإنجليز في أحيان أخرى . والملاحظ أن فارس لم تيأس من محاولة الإعتماد على القوى الأوروبية بهدف إحتلال مسقط وعلى أثر فشل محاولاتها مع الإنجليز والهولنديين قررت الإتجاه إلى فرنسا التي رحبت بهذا التعاون في البداية , وتمخض عنه إبرام معاهدة 1708م والتي تضمنت الكثير من البنود التي تنص في مجاملها على إحتلال مسقط إلا أن الدبلوماسية الفرنسية ما لبثت أن إكتشفت خطأ سياستها وكلما ضغط الفرس على الفرنسيين لبدء العمليات العسكرية راح الفرنسيون يتدرعون بكثير من الحجج في الوقت الذي كانت فيه الدبلوماسية العمانية تطور من تعاملها مع السياسة الفرنسية بينما كانت الأوضاع في فارس تتدهور بشكل ملحوظ . وفي عهد نادر شاه كانت أوضاع عمان قد أخذت في التدهور في ظل إمامة سيف بن سلطان الثاني , وأطلت الفتن برأسها من جديد ولم يهمل نادر شاه طلب إمام عمان العون منه , وإبحرت الحملة الفرنسية من بندر عباس سنة 1737م بقيادة لطيف خان وإجتاح الفرس عمان وإحتلوا مسقط ومعظم المدن الساحلية وهكذا أخذت تنهار دعائم الدولة بشكل لافت . والحقيقة أن عصر اليعاربة يمثل حالة إستثنائية في التاريخ العماني من حيث سرعة إنفراد اليعاربة بالحكم وتمكنهم من إستثمار كل مقومات النجاح وإعادة الوحدة الوطنية ومقدرتهم الفائقة على مقاومة خصومهم في الداخل والخارج , كل ذلك حدث في وقت قياسي لم يستغرق أكثر من عقد ونصف من الزمان , وبنفس السرعة أيضاً أخذت مقومات الدولة تتهاوى حيث أطلت الفتنة برأسها وأنقسم الناس بين مؤيد لهذا أو مناصر لذاك , وشاء القدر أن يخرج من نسيج المجتمع العماني رجل آل على نفسه أن يتصدى لكل عوامل الضعف ولأنه كان شخصية شديدة الإنضباط شديدة الجرأة , لذا فقد إتخذ من صحار رمزاً للوطن الكبير ومن هذه المدينة التاريخية إنطلقت المقاومة التي قادها الإمام أحمد بن سعيد مؤسس دولة البوسعيد عن إقتدار لكي ينهي عصر الضعف من أجل أن تبقى عمان وطنا أبدياً وفاعلاً وحياً . |
الساعة الآن 01:53 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية