منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   [قصة مكتملة] على جناح تنين.. (https://www.liilas.com/vb3/t201513.html)

مملكة الغيوم 20-12-15 11:30 PM

رد: على جناح تنين..
 
فصلين رائعين خيال
بزلت فيهم رنيم مشقه كبيره هى وكاجا للعثور على ارجان ولما وجدته فرقتهم الظروف مره تانيه خوفى عليها من الامير المجنون الاول كان عاوز اجا ياكلها عشان التنين دلوقت عحيعمل ايه بعدموت التنين الا سود وهل ارجان حيعرف ينقذها وينقذ جايا
استمتعت جدا بالفصلين وفى انتظار الباقى بكل شوق وياريت تخليها سلسله من الروايات على نفس النمط
دمتى بود ولكى حبى:55::55::55::55:

عالم خيال 21-12-15 07:20 AM

رد: على جناح تنين..
 
للأسف لم يبقَ الكثير على نهاية الرواية
لكني أتمنى أن تكوني قد استمتعت بها للنهاية يا بلومي
بالفعل هذه الرحلة قد فاقت توقعات رنيم
لكن سنرى في النهاية إن كانت ستندم على قرارها هذا أم أنها ستزيدها قوة


****

سعيدة بإعجابك بهذين الفصلين يا مملكة الغيوم
بالفعل راودتني رغبة بعمل عدة روايات في ذات العالم
لكني اكتفيت برواية أخرى لنفس العالم لكن بشخصيات مختلفة
وسأبدأ نشرها بعد هذه الرواية بإذن الله تعالى

عالم خيال 21-12-15 07:26 AM

رد: على جناح تنين..
 
الفصل الخامس عشر: حلم جايا


عندما وصل الأمير بعد الضجة التي أثيرت في القلعة ومنبعها المبنى الذي يحتفظ الجنود فيه بالتنين، فإنه وقف قرب المبنى المحترق يراقب التنين الميت والذي بدأ يتفحم وهو عابسٌ بشدة ويقول بغضب "كنت أظن أن سبعون جندياً يكفون لإيقاف رجلٍ وفتاة عن ارتكاب مثل هذه الجريمة.. رجل وفتاة تمكنوا من تخليص التنين الثاني وقتلوا الأول وأنتم تتفرجون على ما يجري بصمت؟"
ثم التفت إلى جنوده صائحاً بغضب "اقبضوا عليهما وأحضروهما إليّ.. واقبضوا على هذا التنين قبل أن يفلت، وإلا رؤؤسكم هي ما سيفلت من أجسادكم.."
تراكض الجنود القريبون لتنفيذ أوامره، بينما استدار الأمير رافعاً بصره للسماء قائلاً بغلٍّ "تباً للهوت.. شرذمة منهم تفسد خطتي بهذا الشكل؟.. أم أنها تلك الفتاة العربية؟.."
قبل ذلك بوقت قصير، كانت رنيم تجد نفسها تجرّ جراً عبر المبنى والجندي يغادره بسرعة هرباً من النار التي أوشكت على التهام ما بقي من الباب المهشّم مما يعني سجنهم في هذا المكان حتى يحترقوا أحياء.. وفي الخارج، كان كاجا مستمراً في إثارة معمعمة في صفوف الجنود والهرب من شباكهم في الآن ذاته..
صاحت رنيم بشيء من الأمل "إليّ يا كاجا.."
لكنه لم يسمعها مع صياح الجنود الذي شتّت انتباهه، بينما وقف بها الجندي خلفهم وهو يصيح برفاقه بعصبية شديدة..
تلفتت رنيم حولها بحثاً عن وسيلة للفرار، عندما فوجئت بآرجان يهبط أرضاً خلفها ويعاجل الجندي بضربة قوية على رأسه قبل أن ينتبه له.. ثم بضربة أخرى سقط الجندي أرضاً فاقد الوعي بينما صفّر آرجان للتنين بقوة..
قالت له رنيم بانفعال "لمَ لمْ ترحل؟.."
أجابها وهو يتناول بندقية الجندي الذي سقط وينظر للجنود أمامهما "وهل ظننتِ أنني سأتخلى عنك بسهولة؟.."
غمغمت وهي تدير بصرها فيمن حولها "ظننت ذلك لوهلة.."
كان بعض الجنود قد استداروا وتقدموا رافعين بنادقهم نحو آرجان ورنيم بتهديد.. لكن كاجا استدار في الهواء بسرعة وتقدم منهما لاطماً كل من يقف في طريقه من الجنود.. وفور وقوفه قرب آرجان بحدة، فإن الأخير قفز على ظهره بسرعة رغم عدم وجود سرج وجذب رنيم في اللحظة ذاتها التي ارتفع فيها كاجا متفادياً بقية الجنود..
تشبثت رنيم بآرجان بقوة وهتفت "ما الذي سنفعله بالبقية؟.."
لم يجبها وهو يراقب تحركات الجنود، ثم مال بكاجا قائلاً "إنهم يتوقعون أن نهرب.. لذلك تركوا المدخل الذي يؤدي للسجون تحت الأرض خالياً من أي حراسة.."
لم يكن تسيير التنين دون لجام سهلاً، لكن التفاهم بين آرجان وكاجا كان سريعاً والأخير يميل نحو جانب الساحة بينما قال آرجان لرنيم "سأهبط وأحاول تحرير البقية.. حاولي شغل الجنود باستخدام كاجا وحاذري أن يصيبوكما برصاص بنادقهم.."
هتفت رنيم "سأبقى معك لأساعدك.."
قال بسرعة "محال.."
فقالت بعناد "لا يمكنني التراجع الآن، وكاجا سيقوم بتشتيتهم بنفسه.. سأذهب معك.."
زفر آرجان وهو يدفع كاجا للهبوط دون اعتراض.. لم تكن رنيم تخشى على نفسها قدر قلقها على ما سيجري لآرجان.. ولم تكن تملك الصبر الكافي لتنتظره وهي شبه آمنة على ظهر كاجا دون أن يعصف بها ذعرها عليه..
فور هبوط كاجا الحاد الذي كاد يسقط رنيم من على ظهره، فإن آرجان ترجل بقفزة واحدة ورنيم تتبعه، ثم ضرب كاجا على فخذه صائحاً "اشغلهم يا كاجا.."
ارتفع كاجا على الفور بينما ركض الاثنان للمدخل القريب لذلك المبنى واختبآ داخله بعد أن وجداه بالفعل خالياً..
تعالى صياح عدد من الجنود مقتربين من المبنى، فحاول آرجان إغلاق الباب بينه وبينهم، لكن عدة طلقات من بنادق الجنود أجبرته على التراجع خطوات وهو يحتمي مع رنيم خلف طاولة معدنية.. نظر آرجان للجنود قابضاً على بندقيته الوحيدة بشدة، وقال لرنيم بتوتر "يبدو أنني لن أتمكن من التحرك من موقعي، وإلا لحقنا الجنود وقبضوا علينا.. حاولي إخراج السجناء بأسرع ما يمكن قبل قدومهم.. سأحاول تعطيلهم بكل ما أملك.."
قالت رنيم بقلق "هل تعرف استخدام هذه البنادق؟"
أجاب آرجان مقطباً "بالطبع.. لست جاهلاً لهذه الدرجة..’
لم تعلق وهي تتراجع قائلة "حاذر أن يصيبوك.."
غمغم وهو يراقب الجماعة التي تقدمت منه "لا تقلقي وأنجزي ما يمكنك إنجازه بأقل وقت ممكن.."
هزت رأسها موافقة واستدارت مبتعدة بتوتر كبير.. رغم أن كاجا قد أصبح طليقاً، ولم يبقَ الكثير على إطلاق بقية سجناء الهوت، لكن ما الذي سيفعلونه بعدها؟.. كيف يمكنهم تجاوز كل أولئك الجنود والهرب من هذه القلعة الحصينة؟.. القفز من أسوارها ليس خياراً متاحاً مع ارتفاعها ووجود تلك الصخور الحادة في الخندق أسفلها.. وكاجا لن يقدر على حمل أكثر من شخصين.. فما الحل لذلك؟.. لا يمكنهم العودة للسجن والسقوط في يد ذلك الأمير المجنون من جديد..
بعد عدة خطوات وجدت رنيم باباً معدنياً يحجز ذلك الجانب من المبنى بدرجاتٍ حجرية تقود للأسفل، فركضت عبر الدرجات دون تردد.. ومع كل خطوة تخطوها، كانت تسمع ثورة السجناء الذين بدؤوا يطرقون الأبواب بحدة مع رائحة الحريق التي تسللت إليهم من المراوح التي تقوم بتهوية المكان.. لقد ثارت ثائرتهم مع تلك الرائحة والخوف يتسلل إليهم من أن يتم إهمالهم حتى تطالهم النيران ويحترقوا أحياءً في سجونهم.. ولما وصلت لآخر الدرجات، تراجعت خطوة وهي تختبئ لاهثة بعد أن رأت أحد الجنود ممن يحرس المكان وهو يحمل عصاً بيده ويضرب الأبواب ليدفع السجناء للصمت والتزام الهدوء..
كانت رنيم لا تملك أي أسلحة تهدد بها الجندي، ولم يكن من السهل عليها مغافلته وهو يتحرك بتوتر شديد في ذلك الممر الضيق بين السجون بينما دخان الحريق يفعم المكان بقوة.. ظلت رنيم تراقبه من موقع خفيّ للحظات وهي تشعر بدقات قلبها تتسارع.. كل لحظة تمضي تجبر آرجان على الصمود أمام الجنود وتقلل فرصهم للنجاح.. لكن ما الذي يمكنها فعله؟..
راقبت الجندي المنشغل بضجيج السجناء وهو يذرع الممر جيئة وذهابًا، ولما أولاها ظهره وهو يضرب على أحد الأبواب بعصاه، عندها أسرعت رنيم تحمل الكرسي الخشبي الصغير الذي يجلس عليه عادة واندفعت إلى الجندي فضربته بالكرسي على رأسه بكل ما تملك..
لم تتوقع أن تكون ضربتها بهذه القوة وساق الكرسي تتهشم على رأس الجندي فيسقط أرضاً دون حراك.. وقفت رنيم تلهث للحظة لفرط انفعالها، ثم استولت على سلسلة المفاتيح التي عثرت عليها معلقة في حزامه، وركضت نحو الأبواب الحديدية التي تحجز الهوت في سجونهم فبدأت بفتح الأبواب وهي تهتف بهم "سارعوا بالهرب.. سيعود الجنود بعد وقت قصير ولن يترددوا في منعكم من الهرب بأي وسيلة كانت.."
سألها أحدهم بدهشة وهو يغادر زنزانته "من أنت؟.."
لاحظت رنيم آثار الاستجواب والتعذيب على أكثر من شخص منهم، لكنها لم تعلق وهي تقول بسرعة "ليس هذا وقت التفسير.. اخرجوا عبر الدرجات المؤدية للأعلى، وهناك ستجدون رجلاً آخر من الهوت وهو سيساعدكم على الهرب.."
لم يتباطأ الرجال الذين استعادوا حريتهم بعد وقت طويل وعسير من انتهاز الفرصة وهم يركضون نحو المخرج ويعينون من لا يقدر على السير منهم.. بينما فتحت رنيم الباب الأخير في الممر واندفعت داخله لتقف فجأة بصدمة تتأمل ما بقلب الزنزانة.. ثم وضعت يدها على فمها وهي تتأمل الفتاة الماثلة أمامها.. كانت تلك الفتاة الوحيدة في المكان، لذلك تيقّنت رنيم أنها جايا، خاصة مع الشبه الواضح بينها وبين آرجان..
كانت الفتاة معلقة في الحائط بسلسلة حديدية بينما تهاوت على ركبتيها دون أن تكون قادرة على الوقوف.. لاحظت رنيم الدماء التي سالت من فمها وأنفها، والكدمات المتفرقة في جسدها تشي بمقدار التعذيب الذي خاضته.. وبينما تجمدت الدماء التي سالت من إحدى عينيها رغم تضميدها، بما يوحي بأنها فقدت تلك العين تماماً، فإن دماءً أخرى قد سالت من جراح أخرى متفرقة في ذراعيها وبدا من تحت الضماد الذي يغطي يديها أنها فقدت إصبعين من أصابعها..
وقفت رنيم تنظر لها مرتعبة دون أن تجرؤ على التقدم.. رباه.. ما الذي سيقوله آرجان عندما يرى منظراً كهذا؟..

*********************

في تلك الأثناء، كان آرجان يطلق رصاصاته بغزارة على الجنود ليبعدهم عن هذا المبنى وهو يختبئ خلف طاولة قريبة قَلَبَها أمامه.. وبينما أطاحت رصاصاته بعض الجنود، فإن كاجا الثائر قد أسقط عدداً آخر منهم وهو يندفع أمامهم في طيرانه وذيله يصيبهم ويلقيهم أمتاراً عدة للوراء..
تلفت آرجان حوله بحثاً عن وسيلة للفرار من هذا المبنى بعد قدوم بقية السجناء، عندما لاحظ الأقدام التي اقتربت منه راكضة.. ولما التفت خلفه، رأى السجناء من الهوت الذين تخلصوا من سجنهم وهم يقتربون منه ويختبئون في جوانب المكان بتحفز وقلق كبيرين.. بينما اقترب الرجل الذي شارك آرجان سجنه واختبأ خلف الطاولة قائلاً "ما الذي سنفعله الآن؟.. ما نزال وسط القلعة وما يزال الجنود محاصريننا.. فكيف الهرب؟"
قال آرجان بحزم "علينا أن نشق طريقنا بينهم.."
علق الرجل بتوتر "سهلٌ عليك ذلك.."
تلفت آرجان خلفه وتساءل "أين الفتاة العربية؟"
أجاب الرجل وهو يراقب تحركات الجنود "ما تزال في الأسفل تساعد بقية السجناء.."
شعر آرجان بتوتر كبير وهو بلهفة للبحث عن جايا بنفسه، فرمى سلاحه للرجل القريب وهو يقول "حاولوا استغلال ارتباك الجنود بهجوم التنين لتهربوا نحو بوابة القلعة.. عليكم أن تشقوا طريقكم بالقوة وإلا أعادوكم لسجونكم تلك لما بقي لكم من العمر.."
واستدار راكضاً والرجل يصيح خلفه "ماذا عنك أنت؟"
لم يجبه آرجان وهو يتجاوز الدرجات الحجرية راكضاً بقلق شديد.. لو طال الوقت برنيم وجايا قبل عودتهما، فهل ستتمكنان من الهرب مع البقية؟.. ما الذي أخرهما حتى الآن؟..
وفي الزنزانة الأخيرة، فتحت الفتاة السجينة عينها الوحيدة عندما انتبهت لوجود رنيم في المكان، فتساءلت بصوت مبحوح بالعربية "من أنتِ؟"
اقتربت رنيم منها متسائلة "أأنت جايا؟"
اتسعت عين الفتاة وقالت "هل تعرفينني؟"
كان جوابها صريحاً على ذلك السؤال.. فأغمضت رنيم عينيها بقوة وهي تشعر بالأسى لما تراه وبالألم لما سيشعر به آرجان عندما يرى أخته على هذه الصورة.. ثم تقدمت من جايا متجاوزة انفعالاتها وهي تقول بتوتر "علينا الخروج من هنا.."
سألتها جايا بإلحاح "كيف تعرفين من أكون؟.. وما الذي تنوينه بإخراجي؟"
قالت رنيم وهي تنظر في وجهها "لقد جئت مع آرجان.."
بدت ملامح الذعر على وجه جايا أكثر من اللهفة لرؤية شقيقها الوحيد، فلم تسألها رنيم عن ذلك وهي تفك قيود يديها وقدميها بمفاتيح عثرت عليها ضمن سلسلة المفاتيح التي استلبتها سابقاً.. وقبل أن تتمكن من تخليصها من القيود بشكل كامل، سمعت آرجان يناديها بإلحاح من الخارج..
تعلق بصر جايا بالباب بينما أكملت رنيم عملها بصمت.. ولما اندفع آرجان من باب الزنزانة، توقف بعد خطوة مصدوماً وهو يحدق بالفتاة التي بادلته النظرات بصمت.. ثم قالت له بصوت ضعيف "ما الذي تفعله هنا يا آرجان؟"
لم يجب تساؤلها وهو يقترب منها قائلاً بصوت لم يملك ارتجافته "ما الذي فعلوه بك؟.. تباً.. من الشقي الذي فعل بك هذا؟"
لم تجبه جايا وهي تخفض بصرها، ولما فكّت رنيم قيد يدها الثانية، تهاوت جايا بتعب فأمسكها آرجان بذراعيه وهو يتمتم بارتعاب "رباه.. ما الذي جرى لك يا فتاتي؟"
قالت رنيم بقلق "علينا الرحيل مع البقية بسرعة قبل قدوم الجنود.."
لم يكذب آرجان خبراً وهو يحمل جايا على ظهره محاذراً إيلامها، لكن رغم أنها لم تصدر أي صوت فإن ملامح الألم بدت صارخة على وجهها.. وبعد أن نهض حاملاً جسد شقيقته الضعيف، حمل خنجره بيده الأخرى لمواجهة أي جندي قد يعترض طريقه وقال لرنيم بتوتر "لنغادر.."
تبعته رنيم بصمت وقلب واجف، بينما همست جايا "ما الذي جاء بك إلى هذا المكان القصيّ؟"
أجاب بسرعة "بحثاً عنك بالطبع.. أظننتِ أنني سأيأس من ذلك؟"
ابتسمت جايا وهي تسند رأسها على كتف آرجان مغمغمة "الآن يمكنني أن أغمض عيني بارتياح.."
فقال آرجان متوتراً "ليس الآن يا جايا.. ليس قبل أن نغادر هذه القلعة الخبيثة ونصل بك لموقع آمن.."
لم تعلق جايا وهي تبتسم بصمت بينما راقبتها رنيم بقلق، لكنها لم تعلق على ما قيل وهي تتبع آرجان عبر الدرجات المؤدية للأعلى.. ولما وصلا للطابق الأرضي، قال آرجان بتوتر "علينا الخروج حتى يتمكن كاجا من الوصول إلينا ونقلنا بعيداً.."
تساءلت رنيم بقلق "ماذا عن بقية السجناء؟.. وماذا عن الجنود؟.. لابد أن الساحة تعجّ بهم الآن.."
قالت جايا دون أن ترفع رأسها "اصعد هذه الدرجات.. ستؤدي بك لسطح هذا المبنى، وهو قريب من سور القلعة.."
نظر لها آرجان بدهشة متسائلاً "كيف تعرفين ذلك؟"
ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تجيب "لقد عبرت هذا المكان من قبل، في محاولتي الوحيدة للفرار والتي فشلت كما لكما أن تتخيلا.."
لم يعلق آرجان وهو يفعل ما طلبته منه ورنيم تتبعه بسرعة، لكن بعد عدة درجات سمعا صوت تصايح الجنود خارج المبنى وأصواتهم تقترب بسرعة مما دلّ على محاولتهم دخول المبنى بحثاً عن بقية السجناء.. تذكرت رنيم تفاصيل المبنى عندما دخلته في وقت سابق، فلم تتردد وهي تستدير عائدة أدراجها بينما هتف فيها آرجان "عودي يا رنيم.. ما الذي ستفعلينه؟"
صاحت به أسفل تلك الدرجات "هناك بوابة حديدية يمكننا غلقها وتفصل بيننا وبين الجنود.. يمكنني غلقها ومنع الجنود من الوصول إلينا.."
صاح آرجان بعصبية "عودي حالاً.. ستقعين في أيديهم دون شك.."
فقالت رنيم بإصرار "ارحل مع جايا يا آرجان.. أنا لا يمكنني مساعدتها، ولا يمكنني ترككما تقعان في أيدي الجنود من جديد.. سأغلق البوابة وألحق بكما بعدها بقليل.."
لم يكن أمام آرجان بدٌ من إكمال طريقه، فصاح بها "لن نرحل بدونك يا رنيم.. أتفهمين؟"
لم تعلق وهي تتجاوز ما بقي من الدرجات قفزاً ثم تعتدل وتركض نحو البوابة المعدنية التي تحجز السجون والسجناء عن باقي المبنى والقلعة من خلفها.. وهناك، رأت بضع جنود يتقدمون من باب المبنى الرئيسي حاملين بنادقهم.. فأسرعت تغلق البوابة المعدنية في وجوههم بينما تدافع الجنود محاولين منعها من ذلك.. ثم اقفلتها بالقفل المعدني المثبت فيها وهي تزفر بتوتر شديد والطرقات القوية تضرب البوابة من الجانب الآخر.. لم تتوانَ رنيم عندها من التراجع بسرعة عائدة لتلك الدرجات التي ستؤدي بها لسطح المبنى آملة ألا يتمكن الجنود من تجاوز هذه البوابة قبل تمكنهم من الهرب..
في الأعلى، وقف آرجان على سطح هذا المبنى يتلفت حوله حتى رأى كاجا الذي تشاغل بمقاتلة بعض الجنود المتجمعين في الساحة.. فصفّر له آرجان بقوة ليستدير التنين على الفور ويرتفع فوق السور قبل أن يهبط على السطح.. ولما وقف أمامهما مثيراً الهواء بقوة، غمغمت جايا بابتسامة "كاجا.. لقد اشتقت لك يا فتى.."
قال آرجان وهو يندفع إلى التنين "أتمنى أن تعود رنيم بسرعة.. أود الرحيل من هنا بأي ثمن.."
رفع جايا بذراعيه فتحاملت على نفسها لتجلس على ظهر التنين وتتشبث به رغم آلامها، بينما تلفت آرجان خلفه بتوتر مغمغماً "أين تلك الفتاة الآن.....؟"
رآها في تلك اللحظة تغادر المبنى راكضة، ثم تتوقف فجأة وتصيح "خلفك يا آرجان.."
نظر بسرعة خلفه ليرى على السور المحيط بالقلعة، والذي لا يبعد عن سطح المبنى الذي هم عليه إلا متراً واحداً ويوازيه في الارتفاع، رأى عدداً من الجنود يقتربون راكضين وأحدهم يطلق طلقة من بندقيته نحو كاجا.. وقبل أن يتفادى كاجا ذلك الفخ، وجد أن الشباك المعدنية قد سقطت على ظهره وقيدت حركته، فزمجر بغضب وهو يهز رأسه ويطوّح ذيله جانباً..
هتف آرجان وهو يحاول إيقاف التنين "مهلاً يا كاجا.. ستسقط جايا.."
تشبثت جايا بالتنين بكل ما تملك رغم صعوبة ذلك دون سرج، بينما التفت آرجان فرأى الجنود يقفزون نحو سطح المبنى متجاوزين المسافة القصيرة، فركض آرجان نحو أقربهم ودفعه بكتفه بقوة ليسقطه من فوق السطح، ثم ركل آخر على ساقه ليتعثر محاولاً إسقاطه بدوره.. وبينما تكالب الجنود الأربعة الباقون على آرجان، فإن رنيم هرعت إلى كاجا وحاولت تخليصه من تلك الشباك بسرعة رغم صعوبة ذلك بسبب حركته المتوترة..
وبعد جهد، استطاعت تخليص جناح واحد من تلك الشباك بينما كاجا يطوّح رأسه بقوة ويزمجر بغضب.. لكن جندياً من الجنود قد اقترب منها وجذبها وهو يلوي ذراعها خلف ظهرها بقوة.. وسمعا صوتاً يقول بغضب "من حسن حظي أنني لحقت بكم قبل هربكم.. كنت سأموت كمداً لو نجحت شرذمة مثلكم بالهرب من قلعة (جمجات) ذاتها.."
التفتا إلى مدخل المبنى ليجدا الأمير يقف مع خمسة من جنوده، مما جعل موقف آرجان ورنيم وجايا أكثر عسراً وصعوبة.. لكن كاجا تحرك في تلك اللحظة بعد أن تمكن من تخليص رأسه من تلك الشباك، فطوّح ذيله تجاه الجنود الذين يحيطون بآرجان بضربة قوية تسببت في سقوط ثلاثة منهم من سطح المبنى بينما هرب الرابع ليقف مع جنود الأمير.. فصاح الأمير وهو يرى آرجان يتقدم من كاجا "إياك أن تتحرك.."
لكن آرجان جذب الشباك بقوة ليخلّص جناح كاجا الثاني ويتخلص من الشباك تماماً، ثم ضربه على فخذه صائحاً "طِرْ يا كاجا.."
لم يتوانَ كاجا عن استغلال هذه الفرصة وهو يقفز عالياً ويرفرف بجناحيه ليدفع جسده للارتفاع بسرعة خاطفة.. فتجاوز سور القلعة بسرعة بينما هتفت رنيم وهي تحاول التخلص من الجندي "لمَ لمْ ترحل معها يا آرجان؟.."
قال آرجان وهو يرى ثلاث جنود يتقدمون منه "أما زلتِ تسألين هذا السؤال؟!.."
شدّ قبضته وهو يلكم أقرب جندي منه بينما تعالى صوت الأمير يقول بغضب شديد "اقبضوا عليه قبل أن يهرب.. لا تدعوا ذلك التنين يفلت من يدي.."
رغم أنه ألقى أمره بلغة الكشميت، لكن ما قاله بدا واضحاً لآرجان ورنيم.. تلفتت رنيم بقلق لتجد جنديين ممن يحملان البنادق ذات الفوهة العريضة يتقدما من السور وهما يصوّبان سلاحيهما نحو التنين الطائر.. ولما أطلق أولهما طلقة من بندقيته، انفجرت القذيفة لتسقط منها شباك أخرى محاولة إسقاط التنين الذي تفاداها وهو يميل جانباً حتى خشيت رنيم من سقوط جايا من على ظهره..
وبسرعة، دار آرجان حول الجندي الذي يواجهه وألقى خنجره بأقوى ما يملك نحو الجنديين اللذين يحاولان إسقاط كاجا.. وبينما أصاب الخنجر أحدهما في ظهره وهو يسقط جانباً بألم، فإن الثاني ارتبك للحظة كانت كافية ليبتعد كاجا عن مرمى قذائفه ويحلق نحو الأفق بأسرع ما يملك..
التفت الجنود إلى أميرهم بقلق، فوجدوه يتميّز غيظاً وهو يراقب ما يجري، ثم صاح برجاله "اتبعوا ذلك التنين واستعيدوه بأي ثمن.. بأي ثمن.."
ركض الجنود منفذين أمره، بينما انشغل اثنان منهم بقتال آرجان الذي لم يستسلم بسهولة وهو يتراجع خطوة ثم خطوتان.. ولما همّ الجندي بضربه بمؤخرة سلاحه، عاجله آرجان بركلة في بطنه بقوة، ثم لكمة أخرى في وجهه وهو يدمدم "بقي واحد.."
لكن ضربة قوية أصابت وجهه بعنف من الجندي الثاني وهو يتراجع خطوة، ثم عاجله الجندي بضربة أخرى بسلاحه فإذا بآرجان يجد نفسه يتعثر ويسقط من فوق سطح المبنى نحو الأرض من ارتفاع عشرة أمتار دون أن يجد ما يشبث به.. صاحت رنيم باسمه بارتياع، بينما قال الأمير للجندي الممسك بها وهو يتقدم منها "نفذ ما طلبته منك.. ولا تهتم بأمر هذه الحقيرة.."
وجدت رنيم الجندي يتركها ويهرع خلف رفاقه مع الجنديين الآخرين بعد أن فرغا من أمر آرجان، فاستدارت رنيم وانحنت من فوق السطح بقلبٍ واجف لترى ما حصل له.. لكنها أطلقت تنهيدة بعد أن وجدته قد أفلح في إيقاف سقوطه العنيف بالتشبث بجزءٍ بارزٍ لإحدى النوافذ في المبنى وهو يحاول الارتفاع والدخول من النافذة.. تلفتت رنيم حولها بحثاً عن وسيلة لمساعدته، عندما سمعت صوت الأمير يقول ببرود "أمازلت حياً أيها القط؟.."
نظرت إليه فوجدته قربها وهو يتناول بندقية قريبة من بنادق الجنود الذين سقطوا ويوجه فوهتها نحو آرجان.. فصاحت رنيم وهي تقفز نحوه "توقف.."
لم يجد آرجان، وهو يرى البندقية مصوبة نحوه، مفراً من السقوط أرضاً للهرب من طلقة مميتة.. وبعد نظرة سريعة للأرض، فإنه ألقى نفسه متجاوزاً الأمتار الباقية بينما طاشت الرصاصة بعد أن قفزت رنيم ودفعت يد الأمير بعيداً..
تمكن آرجان من تخفيف سقوطه عندما هبط على بضع صناديق فارغة رغم ما سببته له من ألم، لكنه نهض بعدها بدون أن يكسر ضلعاً أو يصاب بشجٍ في رأسه.. رفع بصره للأعلى بقلق وهو يسمع صياح الأمير الحانق، فصاح "رنيم.. أأنت بخير؟.."
لم يكن يستطيع رؤيتها، لكن صراخ الأمير بغضب دلّه على عسر موقفها.. تلفت حوله بحثاً عن وسيلة سريعة للوصول إليها، عندما استوقفته صيحة تعالت من السماء.. ولما رأى كاجا الذي اقترب من سور القلعة وهو يزمجر بغضب متوجهاً لرنيم، غمغم آرجان "أتمنى أن تكون قد عاملت جايا برفق يا صاحبي.."
وتلفت حوله مضيفاً "لا أظن رنيم بحاجتي مع وجود كاجا.. بقي الآن أمر بقية رجال الهوت المسجونين في هذه القلعة.."
انحنى متناولاً خنجره الذي سقط من يده، ثم ركض متجاوزاً ذلك المبنى ونحو ساحة القلعة حيث تجمع بقية رجال الهوت والنيران تلقي عليهم بضوئها الأحمر البشع..

*********************

في تلك الأثناء، وبعد أن نجحت رنيم في ضرب يد الأمير لتطيش الطلقة وتسقط البندقية من يده بعيداً، التفت الأمير إليها وقال بملامح مكفهرة "كيف تجرؤين على ذلك؟.. كيف يمكنك تحدّي مملكة كشميت أيتها العربية الحقيرة؟"
قالت مقطبة "أنا لم أتحدى أحداً.. جئت بحثاً عن الهوت الذين لم يجنِ أحدهم ذنباً ليعاقب بهذه الصورة.."
صرخ الأمير في وجهها وهو يستخرج خنجراً من ملابسه "لا يحق لك ذلك.. أتعرفين ما أفسدته بتدخلك في أمور القلعة؟.. كنا على وشك الوصول لكشفٍ هام فيما يخص التنانين.. وكانت مملكتنا ستستفيد من ذلك بشكل كبير.. والآن، ضاع كل ما بذلناه من جهد بسبب فتاة عربية تافهة.."
تراجعت رنيم خطوة وهي تقول بحدة "كشفٌ هام؟.. وهل الكشوف تأتي بتعذيب أبرياء لا ذنب لهم؟.. أهذا هو العلم الذي تسعون لتحصيله؟"
صرخ بقوة "علم؟.. ليس العلم هو المهم.. بل القوة.. السيطرة.. أن نكون الأفضل والأقوى.. أن نكسر خصومنا ونصبح السادة بلا نزاع.."
قالت رنيم بتقطيبة "لا يحق لكم ذلك.."
فوجئت به يصفعها بقوة بيده التي تحمل الخنجر حتى أسقطها أرضاً، فسقطت بعنف على ظهرها على سطح المبنى لقوة الضربة التي أصابت وجهها بينما شعرت بألم حارق في جبينها.. ولم تلبث أن شعرت بالدماء التي سالت من موضع الجرح الذي سببه لها الخنجر مع تلك الصفعة.. وقبل أن تنهض بالفعل، وجدت الأمير يركع فوقها واضعاً ركبتيه على ذراعيها لئلا تقاومه، وأمسك وجهها بيده بقوة بينما لوّح بالخنجر باليد الأخرى نحوها صائحاً بغضب شديد "ستندمين على ذلك.. ستندمين أيتها الحمقاء على تحدي مملكة عظيمة كمملكة كشميت.. نحن سنسود العالم.. سنصبح أسيادكم وسترين ذلك.."
غمغمت رنيم بدون انفعال ودون أن تعبأ بالأمير الذي ثبّتها أرضاً ووضع خنجره في موضع قلبها "كل الممالك تدّعي عظمتها على البقية.. لكن البشر كلهم سواء.. إن كانوا عرباً أم من الهوت أو الكشميت أو غيرهم.. لا أحد أفضل أو أكثر أحقية بسيادة هذا العالم عن الآخر......"
صاح الأمير بانفعال "اصمتي.. أنا لم أسمح لك بالتعليق على ما أقوله.."
سمعا زمجرة قوية تبعتها صيحة غاضبة من فوقهما، ولما رفعا بصريهما رأيا كاجا الذي اقترب بسرعة حتى هبط في موقع قريب والهواء القوي يندفع في المكان.. كان ظهره خالياً، وتساءلت رنيم عن الموقع الذي اختبأت فيه جايا عن أعين الجنود الذين سيلحقون بها.. هل هي بأمان حقاً؟..
نظر الأمير للتنين مقطباً، بينما أطلق كاجا صيحة غاضبة أخرى في وجه الأمير وهو يضرب الأرض بقدمه.. بدا أنه قد عاد باحثاً عن رنيم بعد أن أتمّ مهمته.. لكن الأمير لم يعبأ به وهو يدفع خنجره المنقوش نحو رنيم قائلاً بحنق "أتحاولين إخافتي بهذا الحيوان؟.. أتظنين أنه يقدر على فعل شيء وأنا أضع يدي عليك؟.. سيندم لو فكر بالتقدم خطوة.. وستندمين أنت على كل ما فعلته بحماقة شديدة.."
لكن رنيم كانت مدركة أن كاجا يقدر على أكثر من ذلك.. نظرت للتنين بصمت دون تعليق.. كانت تستطيع إيقاف غضبة كاجا بكلمة منها، لكنها لم تلجأ لذلك وهي تتذكر منظر جايا وهي مقيدة في محبسها.. تتخيّل عذابها في الليالي والأيام السابقة دون بصيص أمل، ويؤلمها مجرد تخيّل ذلك.. وبينما استمر الأمير بالصياح بغضب وانفعال شديدين، فإن رنيم خفضت بصرها بصمت وهي تسمع زمجرة كاجا تتحول لصيحة غاضبة.. وبحركة خاطفة، بعد أن رفض الأمير الانصياع لتحذيرات كاجا، فإنه قفز نحوهما والتقط رأس الأمير بفكيه وجذبه للأعلى بشدة.. وجدت رنيم نفسها ملقاة أرضاً والخنجر اللامع يقع قربها، بينما وقف كاجا قريباً رافعاً الأمير من رأسه والدماء تتصبب بغزارة وتسيل فوق ملابسه النظيفة فتغرقها وتسيل من قدميه المنتفضتين نحو الأرض.. لم ترفع رنيم عينيها ولم تنظر للمنظر الذي يبدو عليه كاجا ويشعرها بالارتعاب عادة، بل اعتدلت جالسة بصمت وهي تضع يدها على جبينها الذي سالت الدماء منه.. ولم يلبث كاجا أن ألقى الجثة جانباً بزمجرة محذرة، ثم مدّ رأسه نحو رنيم وكأنه يطمئن عليها.. مسحت رنيم على خطمه غير عابئة بالدماء التي تغطيه، ثم مدت يدها وتناولت الخنجر تتأمله للحظة متمتمة "سواء أكنت من الكشميت أم من العرب أم من أي جنس آخر.. الكل في الموت سواء.. هذه هي الحقيقة الوحيدة.."
ووضعت الخنجر في حزامها وهي تنهض وترى ما حولها.. كانت القلعة التي اشتعلت بنار لا تهدأ تضيء تلك الليلة بوضوح.. بينما تراكض الجنود في الساحة بين ملاحقة السجناء وبين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من القلعة.. ومن موقعها العلوي فوق سور القلعة، فإن رنيم وقفت واضعة يدها على التنين وهي تراقب ما يجري بصمت.. إنها مدهوشة كيف يمكن لجبروت الإنسان أن يتحطم بهذه السرعة والبساطة، وكيف لكبريائه أن يُمرّغ في التراب مع الجثة التي تفقد روحها وتسقط بلا حول ولا قوة..
رأت في تلك اللحظة جمعاً من الجنود ببنادقهم وهم يحيطون ببقية السجناء الذين لم يتمكنوا من عبور بوابة القلعة المغلقة، وآرجان يقف معهم حاملاً خنجره الذي لن يفيده في شيء أمام البنادق.. كان جنود الكشميت يصيحون في السجناء بعصبية آمرينهم بالاستسلام، وهذا لم يكن بحاجة لمترجم لترجمته بأي لغة، لكن بدا أنهم لم يتلقوا أوامر بإطلاق النيران على الهاربين من أميرهم.. فربتت رنيم على ظهر كاجا قائلة "هيا يا صديقي.. بقي القليل فقط لننقذ صاحبك وبقية الهوت.."
وامتطت ظهر التنين ولكزت بطنه، وفي الوقت ذاته كان رجال الهوت يتراجعون وهم يحملون أي شيء يمكن أن يفيدهم في الدفاع عن أنفسهم.. فؤوس، أخشاب، وبضع أدوات معدنية.. لكن الجنود المسلّحين ببنادقهم كانوا يشكلون طوقاً حولهم وهم يتقدمون بثبات من السجناء الذين منعتهم البوابة المغلقة خلفهم من التراجع أكثر.. فقال أحد رجال الهوت بعصبية "ما الذي استفدناه من الهروب ما لم نتمكن من تجاوز هذه البوابة؟.. سنعاقب على ما فعلناه، هذا لو لم يقرروا قتلنا بأمرٍ من أميرهم.."
قال آرجان بصرامة "قتلنا ونحن نحاول استعادة حريتنا خير من قتلنا ونحن في مخابئنا كالفئران.."
غمغم الأول بحنق "وما الفائدة لو كانت النتيجة موتاً في كل الأحوال؟"
قطعوا حديثهم مع رؤية جسد يسقط أمامهم وأمام الجنود.. تجمد الوضع للحظات بينما هبطت رنيم مع التنين أمام الهوت، ولما دقق الفريقان البصر في ذلك الجسد الهامد، أدركوا أنه جسد الأمير وعنقه يكاد يكون مفصولاً عن جسده.. وبينما غمر الارتياع الجنود لذلك المنظر، ولفقدانهم قائدهم، فإن صيحة غاضبة من التنين بالدماء التي غمرت شدقيه قد أثارت بلبلة قوية في صفوفهم وهم يتراجعون ومنهم من يفرّ لجانب آخر من القلعة رغم وجود البنادق في أيديهم..
تدارك آرجان الأمر فصاح ببعض الرجال من حوله "فليذهب بعضكم ليفتح البوابة.. كاجا سيطمئن أن الجنود لن يحاولوا منعكم من ذلك.."
أسرع ثلاثة من الرجال نحو جانب البوابة حيث الرافعة اليدوية التي تهبط بالبوابة كجسر فوق الخندق الذي أقيم حول القلعة وملأته الصخور المدببة.. بينما قال رجل لرنيم بحيرة "ها أنا أسألك من جديد.. من أنت حقاً؟.. ولمَ تقوم فتاة عربية بإنقاذ الهوت؟"
قالت رنيم بابتسامة محدودة "ليس المهم من أنا.. بل المهم ما أفعله.. أليس كذلك؟"
نظر لها الرجل بحيرة أشد، بينما بدأت البوابة تفتح بصوتٍ قوي حتى هبطت على الجانب الآخر من الخندق.. عندها أسرع الرجال لتجاوزها نحو الجانب الآخر دون تردد بينما وقفت رنيم في موقعها على ظهر كاجا وآرجان قريب وهما يتأملان القلعة المحترقة.. ولما نظر آرجان لرنيم ورأى جرح جبينها، سألها بقلق "أهذا الجرح سببه ذاك الوغد؟"
قالت رنيم بابتسامة "إنه مجرد جرح سطحي.."
وبعد أن اطمأنّا أن السجناء قد ابتعدوا عن قبضة الجنود الذين لم يحاولوا اللحاق بهم بعد موت أميرهم، فإن آرجان امتطى ظهر كاجا قائلاً "لنرحل.. جايا تنتظرنا.."
لم تعلق رنيم وهي تدور ببصرها في المكان، بينما دفع آرجان كاجا ليرتفع متجاوزاً سور القلعة ثم يتّجه حيث ترك جايا في المرتفعات الصخرية التي تنتصب عند الأفق..

*********************

لم يكن الموقع الذي اختبأت فيه جايا بعيداً عن القلعة، لكنه كان وسط مرتفع صخري ينتصب في الصحراء وفيه من المغاور ما يسمح لها بالاختباء عن الأعين.. لم يستغرق منهم الوصول إليها إلا بضع دقائق، وفور هبوط كاجا على موقع مرتفع قرب إحدى المغارات فيه، فإن آرجان قفز من على ظهره وركض حيث كانت جايا مستلقية في جانب من تلك المغارة تراقبهم بصمت.. وعندما ترجلت رنيم بدورها، وجدت كاجا ينطلق طائراً على الفور بحثاً عما يسدّ جوعه الذي اشتدّ بعد كل تلك الأحداث في القلعة.. لم تشعر رنيم بأي قلق لذلك، بل تقدمت من آرجان وجايا بصمت، ولما رأتها أدركت أن حال جايا كان سيئاً بالفعل، بينما ركع آرجان أرضاً قربها وهو يضمّ جسدها إليه بحنوٍ ممزوج بأسىً واضح..
لم تنبس رنيم بكلمة وهي تجلس جانباً بصمت بينما آرجان منشغل كليّة بجايا ولا يكاد يرى غيرها.. فسمعته رنيم وهو يقول بحنق "تباً لهؤلاء الكشميت.. كيف يفعلون هذا بك؟.. كيف يمكنهم أن يستخدموا الهوت للحصول على نقطة تفوق لهم في هذه الحرب؟.. أليس للأبرياء أي حق باختيار مصيرهم؟.."
غمغمت جايا بتعب "لا تحزن لهذا يا أخي.. فلم يعد هذا مهماً.."
نظر لها بأسى، وقال "لمَ فعلت هذا يا جايا؟.. لمَ استسلمتِ لذلك التعذيب ولم تتصرفي لتجنّبه؟.. لو أنك استجبت لهم وأخبرتهم بما يريدون معرفته، لربما كان حالك أفضل مما أنت عليه الآن.."
هزت جايا رأسها رفضاً وقالت "لم أقدر على ذلك.. إنهم لا يملكون إلا تنيناً واحداً.. أتعلم ما يعنيه ذلك؟.. عندما يدركون أن التعامل مع التنين ليس بالصعوبة التي تخيّلوها، فسيسعون لوضع أيديهم على كل من يطالونه من التنانين.. والهوت، الذين لن يصمتوا على ذلك، سيدخلون في حرب مع الكشميت بكل ما أوتوا من قوة.."
ونظرت لآرجان مضيفة "كلما تخيّلت ما قد يجري للهوت على يديّ لو تكلمت، يهون لعيني عذابي وتصبح آلامي أقل حدة وعنفاً.. لا يمكنني أن أحمل ذنب الهوت على كاهلي، ولا أطيق أن أراك تتأذى بسببي يا أخي.."
قال آرجان بصوت مرير "هل صمدتِ أمام كل ذلك التعذيب لأجلي ولأجل الهوت؟.. ألا تظنين أن ذلك سيسبب لي الألم على ما جرى لك؟.."
ابتسمت وقالت "قد أكون أنانية، لكني لا أريد أن أتألم أنا عندما أراك تتأذى على أيدي الكشميت.. وتمنيت حقاً ألا تصل إليّ لترى ما أنا عليه.."
ثم أطلقت ضحكة بشيء من العسر وهمست "الكشميت، رغم كل علومهم وعقولهم، حمقى حقاً.. ألم يدركوا طوال تلك الشهور التي دأبوا فيها على اختطاف الهوت والتنانين ألا وجود لوسيلة خاصة للتعامل مع التنانين؟.. أنها بحاجة لبعض العطف والرعاية، وفوق ذلك بحاجة للحرية؟.. لم يدركوا مع كل ذلك التعذيب الذي طالني وطال بقية الرفاق أن التنين يعاملك كصديق أولاً قبل أن تكون سيداً عليه.. ورغم ذلك، كل ما حاولوا فعله هو إجبارها على إطاعتهم بكل قسوة وعنف.. وهذا ما أثمر نتائج عكسية.."
لم يحوّل آرجان بصره عنها وهو يقول بقلق "جايا.. هل يمكنك تحمل رحلة كهذه؟.. سأعود بك للقرية بأسرع ما أستطيع.. ستكونين بخير ببعض العلاج.."
ابتسمت جايا مغمغمة "وما الذي ستفعله بتلك الفتاة؟.. هل ستتخلى عنها؟"
نظر آرجان لرنيم التي جلست جانباً بقلق وتوتر واضحين وهي تستمع لهما دون أن تفهم شيئاً، بينما أضافت جايا "لا تفعل ذلك.. إنها لا تستحق ذلك.."
قال آرجان بتوتر "لم أنتوِ فعل ذلك إطلاقاً.. لكن لا يمكنني التخلي عنك.. لا يمكنني تركك على ما أنت فيه.."
غمغمت جايا "هذا حالٌ ميؤوس منه.."
نظر آرجان لرنيم قائلاً "رنيم.. هل تستطيعين اصطحاب جايا معك عائدة للقرية؟.. يجب أن تفعلي هذا بأسرع ما يمكنك ومع أقل ما يمكن من الراحة.."
همست جايا "لا تفعل هذا.."
علقت رنيم وهي تقف بتوتر "ماذا عنك؟.. ما الذي ستفعله أنت؟"
قال متلفتاً حوله "سأرحل مع البقية نحو أقرب ميناء ومن هناك سنحاول العودة للقارة العظمى.. لا تقلقي لشأني.. المهم أن تصل جايا للقرية لتتمكن الحكيمة من علاجها وإعادة صحتها لها.."
ضحكت جايا بشيء من السخرية المريرة لقوله وعلقت "أي شيء ستعيده لي الحكيمة بأعشابها وأدويتها؟.. ألا ترى ما حلّ بي؟.."
قال آرجان لرنيم متجاهلاً تعليق جايا "عليك الرحيل حالاً يا رنيم.. حتى لو كان كاجا متعباً، فببعض التشجيع يمكنه أن يقطع مسافات طويلة دون راحة...."
مدت جايا يدها وأمسكت ذراع آرجان بقوة قائلة بحزم رغم صوتها الضعيف "آرجان.. ألا تراني حقاً يا أخي؟"
نظر لها آرجان بتوتر، وهو يشعر بيدها التي فقدت بعض أصابعها تضغط على ذراعه بشيء من القوة، فابتسمت مضيفة "ألم ترني حقاً؟.. هل ترى أي حياة في عيني هذه؟"
قال آرجان بحدة "هذا حديث لا معنى له.. أنت متعبة، وببعض الراحة والعناية ستعودين بأفضل مما كنت؟"
نظرت له بثبات وحزم، فأضاف آرجان بلهجة متوسلة "ستكونين بخير يا جايا.. لا تستسلمي.."
زفرت جايا بتعب وهمست "لا تتعبني أكثر مما أنا فيه بالفعل يا أخي.."
ظل ينظر لها بمرارة وأسى وهي تتنفس بشيء من العسر مغمضة عينها، ثم همست "يبدو أن هذا أقصى ما يمكنني الوصول إليه في حياتي هذه.. ولستُ آسفة على شيء قدر أسفي على تركك وحيداً يا أخي الحبيب.."
ثم ضحكت ضحكة صغيرة وهمست "ما يؤلمني أنني لم أسأله عن اسمه قط.. يا للسخرية.."
سألها آرجان "من تعنين؟"
قالت بابتسامة "منقذي الأسطوري.. هو صاحب المحاولة الوحيدة التي قمتُ بها للهرب، وفشلت فشلاً ذريعاً.. والآن، ما عاد لهروبي أي أهمية.."
اعترض آرجان بصوت مرير "لا تستسلمي بهذه الصورة يا جايا.. لقد صمدتِ لأيام وأسابيع طوال.. لن يضيرك الصبر ليوم أو يومان حتى نصل القرية.."
هزت جايا رأسها نفياً، ثم قالت بابتسامة "آرجان.. أريد رؤية السماء.."
كتم آرجان انفعاله بصعوبة وهو يرى ابتسامتها المتعبة، ثم حمل جسدها الضعيف بخفة وسار نحو كاجا الذي عاد قبل وقت قصير وأقعى جانباً بصمت.. فعاونها على الجلوس على ظهره وامتطى ظهر التنين خلفها ثم ارتفع به بسرعة ليحلق في السماء تاركاً رنيم تنظر له بانفعال.. رغم أنها لم تفهم شيئاً من حديثهما، إلا بضع كلمات هنا وهناك، ورغم أن آرجان رحل دون تفسير ودون أن يطمئنها بكلمة، لكنها نوعاً ما أدركت أنه لن يغادر ويتخلى عنها.. لذلك لم تشعر بالقلق لغيابه قدر شعورها بالألم للحال التي عليها جايا وللأسى الذي بدا في عيني آرجان..
وعلى ظهر كاجا، أحاط آرجان جسد جايا الضئيل بذراعه متمسكاً بالتنين بيد واحدة وارتفع به لأقصى موقع يمكنه الوصول إليه.. سمع جايا تتنفس بعسر وشيء من الألم، ثم رفعت بصرها ونظرت حولها بعد أن استقر كاجا في طيرانه، وتنفست بعمق قبل أن تقول بصوت ضعيف "لو كنتُ سأشتاق لأمر، لاشتقت لهذه الحرية.. أعشق هذا الاتساع، وأعشق الشعور بأن السماء تضمّني بقوة ورفق.. كيف لإنسان أن يحتجز إنساناً آخر ويحرمه من أن يرى السماء ويستنشق رائحة الطبيعة التي لا تقاوم؟.."
لم يعلق آرجان وهو يضمها لجسده بقوة، فهمست "اعذرني يا آرجان.. ستمنحك هذه اللحظات ذكرى قاسية ومؤلمة ستبقى معك لوقت طويل.. اعذرني، فلم أتمنّ يوماً أن تأتي لإنقاذي ورؤية ما أصبحت عليه"
غمغم آرجان بصوت متغيّر "لم أكن لأهدأ وأنا لا أعرف في أي أرض أنت ولا ما حلّ بك.. أنت شقيقتي الوحيدة التي لا غنى لي عنها.."
رفعت جايا بصرها إليه، ثم ابتسمت بمرارة قائلة "أرأيت؟.. حزنك وألمك يبدوان بوضوح على وجهك يا آرجان.. هذا ما جنيتُ به عليك، وهو ما لم أكن أود أن أراه أبداً.."
ولمست وجهه بيدها بحنو هامسة "هل ستبكي لأجلي يا أخي؟.. لا تفعل هذا أرجوك.. لا تفعل هذا.."
أمسك آرجان يدها بقوة، ورغماً عنه أفلتت دمعة من عينه سالت على خده، بينما أغمضت جايا عينها باستسلام هامسة "لا تحزن يا أخي.........."
احتضن آرجان جسدها بقوة أكبر وهو ينظر للأفق بصمت.. انحدرت دموعه على خديه دون ممانعة منه وهو يزمّ شفتيه بقوة ومرارة.. سكن جسد جايا بهدوء وصمت، بينما الرياح تعبث بخصلاتها التي تدلّت على جبينها.. رحلت جايا، تاركة قلب آرجان مفعماً بمشاعر لم يشعر بقوتها وبإيلامها له من قبل.. رحلت، والمرارة التي خلفتها في صدر أخيها لم تكن لتهدأ لما بقي له من العمر..

*********************

عندما عاد آرجان للأرض على ظهر كاجا، محيطاً الجسد الضئيل أمامه بذراعه بإحكام وحنو، رأى رنيم تهبّ واقفة وهي تتطلع إليه وفي عينيها أثر للدموع التي ذرفتها وحيدة.. ولما رأت ملامحه القاتمة، ورأت فمه الملتوي بمرارة، سالت دموعها من جديد دون أن تقترب منهما وكأنها تخشى أن تكسر الحاجز اللامرئي الذي أقامه آرجان حوله وحول شقيقته الوحيدة..
هبط آرجان عن ظهر كاجا الذي أخذ يزوم بحزن واضح، ودفع خطمه نحو جسد جايا يتشممه ويدفع ذراعيها اللتين تدلتا دون حراك.. وضع آرجان جسد جايا الساكن أرضاً وسقط على ركبتيه قربها.. ظل خافض الرأس بصمت ويدين معقودتين بشدة، بينما ظلت رنيم بعيدة تراقبه مانحة إياه الفرصة ليخلو بنفسه وحيداً..
أي مشاعر تعتمل في صدر آرجان بعد أن سعى خلف شقيقته عابراً الممالك والبحار لإنقاذها، فقط ليحظى برؤيتها للحظات معدودة قبل أن تسلم روحها ويسكن جسدها الضئيل المثقل بآثار تعذيب قاسية؟..
أي أسىً، وأي مرارة يمكن أن تفيض من روحه في مثل هذه اللحظات؟..
ظلت رنيم تراقبه دون أن تتمكن من إيقاف دموعها المنهمرة.. حزناً على جايا الشجاعة التي لم يكتب لها الفرار من سجنها إلا لتقع أسيرة جسدها المريض.. وحزناً على آرجان الذي جاب العالم بحثاً عن شقيقته ليحميها، ليجد أنها ما عادت تحتاج لحمايته..
حزناً لهذه الحكاية التي كُتب عليها الشقاء حتى النهاية..

*********************

مرّ يومان، قضتهما رنيم في ذلك الموقع الذي يطلّ على قلعة (جمجات) والمقابر القريبة منها، وهي تراقب آرجان الذي التزم الصمت التام وانزوى بعيداً في موقع قرب المقابر تلك.. في هذين اليومين، انشغل كاجا في نقل رجال الهوت على دفعاتٍ نحو أقرب موقع من الساحل ليحاولوا الهرب عبر البحر عائدين للقارة العظمى، بعد أن استعاد الرجال سرجه المخلوع من القلعة.. بينما بقيت رنيم ملتزمة الصمت التام وهي تحدق في الأفق محاولة عدم التفكير فيما يشعر به آرجان في تلك اللحظة..
ورغم كرهه لتلك القلعة التي أصبحت خراباً وهجرها جنودها بعد موت أميرهم، لكن آرجان لم يجد بداً من دفن جايا جوار رجال الهوت الذين قضوا نحبهم قبلها، في المدافن التي تقع خارج أسوار القلعة.. فأن تكون جوارهم خير لها من أن تبقى وحيدة في هذه الأرض الغريبة.. ونقلها للمقابر قرب قرى الهوت صعب جداً لبُعد المسافة ولإشفاقه عليها بعد كل هذا..
حرصت رنيم على أن تبقى بعيدة وقريبة في الآن ذاته من آرجان.. قريبة كي يشعر أنه ليس وحيداً، ويشعر بتعاطفها معه علّ ذلك يخفف حزنه عليها.. وبعيدة كي تمنحه بعض الفسحة ليتمكن من ذرف حزنه وألمه الشديد مع دموعه لكيلا تبقى حبيسة صدره.. كانت تدرك أنه يبكي حينما لا تراه، وحينما يعلم أن أحداً من البشر لن يراه.. تسيل دموعه على خديه، ولا يبقى منها إلا احمرار عينيه عندما تقترب منه لتطمئن عليه..
ورغم هزاله وضعفه، فإنه بالكاد يتناول أي نوع من الطعام أو يشرب أي ماء مما يعود به الرجال من البئر الوحيد في القلعة القريبة.. فبعد أن هجر الجنود القلعة بعد موت أميرهم ولم يحاولوا تتبع أثر الهوت، فإن رجال الهوت قد استولوا على ما بقي من طعام في مخازن القلعة واستفادوا من المياه التي يزخر بها البئر وسط ساحتها..
وبعد هذين اليومين، بعد أن أتمّ كاجا نقل رجال الهوت بعيداً، بقي قريباً يراقب آرجان ورنيم بصمت ولا يغادر إلا للحصول على بعض الطعام من الحيوانات النادرة التي تعيش في هذه الصحراء.. وبعد أن قضى آرجان هذين اليومين يحدق في تراب الأرض بصمت، وجدته رنيم في تلك المرة يحدق في السماء بصمت أيضاً.. فأدركت أن شيئاً ما قد تغيّر.. ربما قد نجح في تجاوز حزنه شيئاً ما واشتاق للسماء من جديد.. هذه بادرة جيدة لم تتمكن رنيم من تجاهلها وقررت استغلالها.. فجلست قربه تتأمل الأفق حيث الشمس مالت لمغيبها، وقالت برفق "كيف أنت الآن؟"
لم يجبها كعادته في الأوقات السابقة، لكنها لم تيأس هذه المرة وهي تقول "ألا تنوي المضيّ قدماً بعد الآن؟.. هل تنوي قضاء ما بقي من حياتك عند قبرها يا آرجان؟"
قال آرجان متنهداً "لا.. لكن قلبي لا يطاوعني على تركها هنا وحيدة في هذه الأرض القاسية الغريبة وأنا أعلم أنني لن أتمكن من العودة إليها أبداً.."
علقت رنيم بابتسامة "لم أتوقعك رقيق القلب هكذا يا آرجان.. أنت تدهشني.."
غمغم آرجان "لو عرفتِها، لأدركتِ أي شيء خسرته بموتها.."
خفضت رنيم بصرها قائلة "بل أدرك خسارتك بالفعل.. رغم أنني لم أرها إلا لوقت قصير، لكنني تمكنت من رؤية أي شخصٍ هي، وما تتميز به ويجعلها تبدو لعينيّ كأشجع وأجمل من أي أسطورة قرأتها.."
لم يعلق آرجان وهو يزفر من جديد بمرارة واضحة.. فصمتت رنيم بدورها وهي تجلس قريبة تتأمل السماء بصمت وسكون تاركة آرجان يغرق في أفكاره دون مقاطعة.. وبعد مرور بعض الوقت وهما على هذا الحال، تساءل آرجان أخيراً وهو يتطلع إليها "ما الذي تنوين فعله بعد الآن؟.. إن كنت ترغبين أن أعيدك لمملكة أبيك فأنا لن أتردد في ذلك.."
هزت رأسها نفياً بشدة، فقال مقطباً "إذن أين تنوين الذهاب؟.. هل تنوين العودة لقرية الهوت؟.. أنت تدركين أنك غير مرحب بك هناك أبداً.."
قالت خافضة وجهها "لا.. لا يمكنني أن أسبب المزيد من الضرر لأهل تلك القرية.. لذلك لن أعود لها أيضاً.."
فقال آرجان بحيرة "وأين تنوين الذهاب إذاً؟.."
نقلت السؤال إليه قائلة "ماذا عنك؟.. هل ستعود للقرية الآن؟"
زفر آرجان وهو يدير بصره جانباً مجيباً "لا.. ليس الآن على الأقل.. لا أريد أن أواجه أي أسئلة، ولا أريد من يذكرني بجايا ليل نهار.. لا أريد بتاتاً رؤية الشفقة في أعينهم عندما أعود وحيداً كما غادرتهم وحيداً.."
فقالت رنيم برجاء "إذن، ألن تأخذني معك؟.. كما اصطحبتني لأول مرة عندما غادرنا قرية الهوت، فأنا أود الذهاب معك هذه المرة أيضاً.. وكما قلت سابقاً، سأحاول ألا أكون عبئاً عليك بتاتاً.."
نظر لها آرجان بغير اقتناع وقال "أبعد كل ما مررتِ به بسببي تريدين الاستمرار في هذه الرحلة؟.. محال.."
قالت بشيء من التوسل "لمَ لا؟.. ما الذي يمنعك من ذلك حقاً؟.. أنا مسؤولة عن نفسي وما سيجري لي سأتحمله بمفردي.."
غمغم آرجان وهو يتطلع للموقع حولهما "وأين تأملين أن نذهب؟.. هذا العالم الواسع لن يسعنا أنت وأنا بالذات.. أنا من الهوت، وغير مرحّب بي في أي مكان كما تعلمين.. وأنت، بما كنتِ عليه قبل كل هذه الأحداث، ستظلين بخوف من أن يعثر عليك أحد من مملكة أبيك ويستعيدك.. والأسوأ من ذلك أن يعاقبوك على كل ما فعلتِه منذ فارقت قصر (الزهراء).."
فقالت رنيم "وما الذي فعلته؟.. هل هي جريمة أن أبحث عن حريتي؟.. أهي جريمة أن أرفض القيود؟.. أهي جريمة أن أعيش حياتي كما أريد أنا لا كما يريد لي الناس؟.."
غمغم آرجان "هي جريمة في أعين بعض البشر حقاً.."
قالت وهي تتطلع للسماء "ولمَ علي أن أعبأ بذلك؟.. لمَ عليك وعلي أن نسير كما يريد لنا الآخرون؟.. هذه حياتنا ولنا الحق في اتخاذ القرار الذي نراه يوافقنا.."
سمعا صيحة أطلقها التنين من موقع قريب وهو عائد من رحلة صيده.. وعوضاً عن الهبوط قربهما فإنه اتخذ دورة واسعة وهو يطير بكل حرية مطلقاً صيحات يتردد صداها في الصحراء الخالية هذه.. نظرت رنيم للتنين بابتسامة وهي تذكر ذكرى بدت لها بعيدة.. ذكرى تلك الليلة التي نامت فيها باكية بؤساً على حالها، واستيقظت مرتعبة لذلك الشبح الذي وقف وسط جناحها يلوّح بسيفه في وجهها.. ولم تدرِ وقتها أي حظ سيسوقها إليه ذلك الشبح الغريب..
غمغمت وهي تتطلع للتنين "أتذكر تلك الليلة التي جررتني فيها من سريري واختطفتني عنوة؟"
زفر آرجان وقال "أذكر ذلك.. ولم أندم على شيء في الأوقات الماضية قدر ندمي لما جررتك إليه.."
نظرت إليه قائلة بعتاب "ألم أقل لك أنك قد غيّرت حياتي؟.. كان ذلك للأفضل، وحقق لي أمنيات كانت محض خيال في ذلك الوقت.."
غمغم آرجان "رغم كل ما مررتِ به؟"
أجابته بخفوت "رغم كل ما مررت به...."
وعادت ببصرها للتنين مضيفة "عندما رأيت كاجا، أصبت برعب لم أشعر بمثله بتاتاً في حياتي.. كان يبدو لعينيّ شرساً، شديداً، لا أكاد أطيق النظر لعينيه ولملامحه التي بدت بغيضة منفرة.."
علق آرجان على قولها "لو سمعك كاجا لأصيب بصدمة كبيرة.."
ابتسمت مكملة "أما الآن، فأنا أراه لطيفاً وأليفاً بشدة.. أصبحت أشتاق إليه كلما غاب عن عينيّ، وأصبح بالنسبة لي أكثر من صديق.."
نظر آرجان لكاجا قائلاً "التنانين لا تقترب ولا تتجاوب مع أي شخص كان ما لم يكن من الهوت.. هذا سرٌّ لم نعرف حتى نحن تفسيره.. وهذا ما حاول الكشميت معرفته وتفسيره دون فائدة.. ربما يعود الأمر لبدء استيطان الهوت تلك البقاع وتعاملها مع التنانين التي تعيش في تلك السلاسل الجبلية دوناً عن باقي العالم.."
ثم نظر لها بابتسامة جانبية مضيفاً "إلا أنت.. حتى الآن لا يمكنني معرفة كيفية تسخيرك لكاجا بكل سهولة وفي زمن قصير جداً.."
قالت رنيم مبررة "لأنك أنت سهّلت هذا الأمر عندما كنت تجرّني قبل الفجر لمعاونتك في العناية به.. ربما وثق بي كاجا بعد الثقة التي أوليتني إياها.."
غمغم آرجان "لا.. هذا ليس عذراً كافياً.."
فابتسمت رنيم وهي ترقب كاجا في طيرانه بكل حرية في السماء قائلة "ربما.. وربما لأن كاجا تنين مميز جداً.."
أمسك آرجان بخصلاتها القصيرة بصمت للحظات، ثم قال "وربما كنتِ أنت شخصية مميزة وغير عادية.. فما رأيته فيك في الشهور الماضية لم أره في أي فتاة قط في حياتي.."
نظرت له رنيم بدهشة لهذه الكلمات، فأضاف وهو يلمس خدها بظاهر إصبعه بخفة "لهذا وجدت نفسي غارقاً في هواك دون أي مقاومة مني.."
اشتعل خدا رنيم وهي تنظر له مبهوتة، وهي التي لم تتوقع تصريحاً منه بذلك ناهيك عن أن يحمل لها مشاعر حقاً.. ثم قالت بصوت مرتبك "ما هذا الذي تقوله.. أهذا وقت مزاح الآن؟.."
قال آرجان بابتسامة صافية "أتظنين أنني أمزح حقاً؟.."
رغم أنها تمنّت في اليومين الماضيين أن ترى ابتسامته هذه، لكنها لم تقدر على النظر إليها في هذه اللحظة فنهضت واقفة بارتباك وقالت "لا أصدق هذا.. من قد يعجب بفتاة سلبية عديمة الشخصية مثلي؟.. أنت تهذي.."
قال آرجان وهو يمسك يدها قبل أن تهرب منه "هذا ما ترينه أنت في نفسك، لا ما يراه الآخرون فيك.. ولولا روحك المتوهجة هذه، لما وافقت على اصطحابك معي في هذه الرحلة.."
ظلت رنيم واقفة بوجه غزاه الاحمرار حتى الأذنين بينما ارتجفـت يدها في يد آرجان بشكل ملحوظ.. ثم جذبت يدها مغالبة انفعالها وهي تتمتم "أنت تهذي.."
وصفّرت لكاجا الذي رفرف بجناحيه قبل أن يهبط بكل سرعته، بينما قال آرجان بشيء من القلق "هل سبب لكِ ما سمعته الضيق؟"
ابتسمت رنيم وهي ترى كاجا يهبط أمامها ويمسح رقبته بذراعها الممدودة، ثم التفتت إلى آرجان وابتسامتها تتسع وتزداد إشراقاً قائلة "أتظن ذلك حقاً؟"
وامتطت ظهر التنين بكل سهولة لينطلق بعدها على الفور شاقاً السماء نحو الغيوم التي بدت بعيدة.. لكنها لم تكن بعيدة بتاتاً عن كائن قوي كالتنين.. وبينما اتسعت ابتسامة آرجان وهو يراقبها، وقد وصله جوابها بليغاً مع ابتسامتها الجميلة تلك، فإن رنيم تشبثت بكاجا بقوة في طيرانه حتى وجدته يخترق الغيوم الأدنى من الأرض ليدور حول نفسه بمهارة ويبدأ بالتحليق بكل سلاسة نحو الأفق الزاهي.. استنشقت رنيم تلك الرائحة التي أصبحت تعشقها، ومسحت على عنق كاجا بحبٍ متمتمة "أنت كائن رائع يا كاجا.. كم أحسدك على جناحيك هذين.."
رغم كل ما واجهته رنيم في رحلة كهذه من أحداث لم تتوقعها، عندما خطت الخطوة الأولى نحو كاجا لتلتقط يد آرجان الممتدة لها بعرض لم تتمكن من تجاهله، فإن رنيم سعيدة وروحها تكاد تطفو في السماء.. مع كل ما يجري، ومع كل ما تواجهه، فإن كل ذلك يُمحى فور أن تشعر بالريح تضرب خديها وجسدها يعلو ويعلو بسرعة لا تصدق لتتجاوز الغيوم وترتفع أعلى من أي قمة على الأرض.. مهما كان ما تمر به قاسياً، فإن ذلك لا يقارن بسعادة تحصل عليها من رحلة خيالية كهذه يحملها كاجا على ظهره طواعيه..
ومهما جرى لها على الأرض.. تظل رنيم مرفوعة الرأس وبصرها معلق بالسماء دون كلل..

*********************
http://www.mediafire.com/convkey/ca5....jpg?size_id=5

الخاتمة: أسطورة بين دفتي كتاب


فوق هضبة عالية تطل على بحر أزرق لامع، وقرب ذلك المنزل البسيط بجدرانه الخشبية التي طليت باللون الأبيض وسقفه القرميدي الأحمر والنوافذ التي وضعت أمامها أصص لزهور زاهية اللون.. وفي جانب منه، حيث يلقي المنزل ظلاً بارداً بينما يلتمع جانبه الآخر بأشعة الشمس الدافئة التي أنارت جزءاً كبيراً من تلك الهضبة العالية، استندت فتاة لا تكاد تتجاوز الثالثة عشر من عمرها بشعر بني متماوج وعينين خضراوين بدتا متناقضتين مع بشرتها الذهبية اللامعة.. وبيديها الصغيرتين، كانت تمسك كتاباً سميكاً ذا غلاف مهترئ لكثرة الاستخدام وهي تقرأ حروفه بلهفة وانغماس شديدين.. ولم تنتبه لذلك النداء الذي تعالى باسمها وهي سارحة بخيالها مع سطور ذلك الكتاب المثير..
لم تنتبه من استغراقها في القراءة إلا عندما وجدت يداً تجذب الكتاب من بين يديها وترفعه عالياً وصوتٌ يقول بشيء من التأنيب "نادين.. ألم تسمعي ندائي المتكرر لك؟.. هل نسيتِ ما عليك من مهام؟"
قالت نادين وهي تنهض محاولة استعادة الكتاب "كنت ذاهبة لإنجاز ما عليّ الآن.. بعد لحظات فقط.."
قالت المرأة التي لا يتجاوز عمرها الأربعين بابتسامة جانبية "حقاً؟.. سمعت هذا القول منذ ساعات.."
ونظرت للكتاب مضيفة "ألا تشبعين من قراءة هذا الكتاب؟.. لقد أتممتِه عشر مرات على الأقل.."
قالت نادين وهي تتطاول لتناول الكتاب "لأنني أحب قراءته.."
واستعادت الكتاب بشيء من العسر فضمّته لصدرها قائلة بتقطيبة "كيف تريدينني أن أملّ حكاية مثيرة كهذه يا أمي؟.."
اتسعت ابتسامة الأم بينما نظرت نادين لغلاف الكتاب حيث بدت كلمات بحروف مذهبة تتوسطه وفوقها رسم جميل لفتاة لا تكاد تتجاوز العشرين بكثير، بشعر بني متموج طويل وعينين خضراوين، ترتدي أحد أردية الهوت البسيطة، وتقف جوار تنين أبيض اللون ينفث اللهب من فمه.. مسحت نادين بيدها على العنوان معلقة "حتى الآن لا يمكنني تصديق الحكايات التي يحكيها هذا الكتاب.."
ونظرت لأمها متسائلة باهتمام شديد "أأنت متأكدة أن هذه الحكايات تخص جدتي الكبرى؟"
أجابت الأم وهي تتأمل الغلاف بدورها "أجل.. أتظنين أنني أجهل ذلك؟.. لقد رأيتها عدة مرات في صغري، ولطالما حدثتني عن مغامراتها بتفصيل، لكني للأسف نسيت أغلبها فقد كنت صغيرة جداً.."
ثم أضافت ضاربة الكتاب بأصابعها "لكني دعيني أؤكد لك، بعض تلك الحكايات مبالغ فيه كعادة الكتّاب.. فجدتي لم تكن تطير، والتنين لم يكن ينفث النار.. كانت امرأة بسيطة بريئة يصعب التصديق بأنها خاضت تلك المغامرات بكل جرأة وشجاعة.."
ثم قرصت خد نادين بلطف قائلة "أنت تشبهينها كثيراً.. لديك الشعر والعينان ذاتهما، ولديك حب القراءة والفضول الشديد ذاته.."
ضمّت نادين الكتاب لصدرها قائلة بلهفة "أتظنين أنني قد أصبح شخصية خرافية كجدتي حقاً؟"
ضحكت الأم معلقة "خرافية؟.. ربما.. هذا يعتمد على شجاعتك وإرادتك.."
ومسحت على شعرها بلطف بينما قالت نادين وهي تحدق في عنوان الكتاب المذهب "أتمنى ذلك حقاً.. أتمنى أن أكون قوية وشجاعة وذات شخصية تخلب الألباب.. تماماً كما كانت جدتي الكبرى رنيم.."
ابتسمت الأم مغمغمة "ستكونين كذلك يا طفلتي.. حتماً ستكونين مثلها تماماً.."
وجذبت نادين معها وهي تسير هابطة من ذلك المرتفع مضيفة "سيكون كتاباً ضخماً ذلك الذي سيحكي عنك.. عنوانه (حكايات نادين.. حفيدة رنيم ابنة قصي الرابع.. أميرة مملكة بني غياث وصاحبة التنين الخرافي كاجا).."
قالت نادين باحتجاج "هذا عنوان طويل جداً.. ثم إنه يتحدث في أغلبه عن جدتي لا عني أنا.."
قالت الأم "ربما.. لكن جدتك شخصية لا يمكن نسيانها.. كانت امرأة مذهلة يصعب تصديق أنها لم تتجاوز التاسعة عشر من عمرها عندما بدأت رحلتها هذه.."
وأضافت مغمغمة وهي تتأمل الأفق الذي يزهو بنور الشمس الدافئة "رحلة مذهلة حول العالم.. على جناح تنين....."

*********************
.: تـمـت :.

عالم خيال 21-12-15 07:29 AM

رد: على جناح تنين..
 
فصل إضافي 1: حكاية جايا والمنقذ الأسطوري


"ألا زلتِ في وعيك؟.."
رفعت جايا بصرها حيث كانت حبيسة الجدران المصمتة والقيود تغلّ يديها بقسوة.. لقد مضت عدة أيام منذ قدومها لهذا المكان، وأمير هذه القلعة يهددها باستجواب قاسٍ لو لم تتعاون معه.. ومن بين هواجسها بهذا الشأن، فإنها فوجئت بهذه الجملة التي ألقيت عليها ودفعتها لترفع بصرها نحو المتحدث.. فرأت ذلك الوجه الذي يتكرر أمامها كل يوم بصمت حتى اعتادت وجوده.. كان ذلك أحد الجنود الذين يحرسون المكان في مناوبات متتالية، ولكن عوضاً عن الصخب والعربدة التي يثيرها أولئك الجنود في غفلة من رؤسائهم، فإن هذا الحارس كان يؤدي مهامه بصمت ولا يتعمد إثارة أعصاب السجناء بصخبه أو يتطاول عليهم بالضرب..
أخيراً نطقت جايا بحلق جاف وبالعربية "ما الذي تبغيه مني؟.."
قال وهو يحمل كرسياً ويضعه وسط زنزانتها "لاشيء.. مجرد تبادل الأحاديث.."
غمغمت "لن تعرف مني ما يريده رؤساؤك بهذا الأسلوب.."
ابتسم معلقاً "لست هنا لاستجوابك.. إنما لتبادل حديث عادي كما يحدث بين أي شخصين.."
قالت بضيق "ولمَ لا تتجه للسجناء الآخرين؟.."
هز كتفيه مجيباً "لا أحصل من بقية السجناء إلا الشتائم واللعنات، وهذا لا يُعدّ حواراً ناجحاً برأيي.."
زفرت وهي تدير بصرها جانباً، فقال وهو يسترخي على كرسيه "لا داعي لكل هذا الجفاء، لن يكون الأمر سيئاً صدقيني.."
فقالت بضيق "ما الذي تبغيه مني بالضبط؟.. محاولة استدراجي للحديث فاشلة بالتأكيد.."
قال باعتراض "كما قلت لك، لا أحاول استدراجك.. أنا لا أكاد أغادر القلعة، ولا أجد من أتحدث معه عادة.. وهذا سيصيبني بالجنون.."
فقالت بهزء "ورفاقك؟.. هل يبادلونك الشتائم واللعنات أيضاً؟.."
أجاب بابتسامة "أجل.. هذا ما يحدث عادة.."
نظرت له بشيء من الحيرة، فقال "ألم تلاحظي أنني الوحيد بين الجنود الذي يتقن العربية؟.."
لم يكن لهذا أي معنىً لديها فظلت تنظر له بالحيرة ذاتها، فقال وهو يستند بظهره على كرسيه "أنا لي بعض الجذور العربية.. جدي لأمي كان عربياً، وقد حرص هو وأمي على أن أكتسب اللغة رغم كوني من كشميت.. لذلك يمكنك تخيّل الكره الذي أواجهه من بقية بني قومي وهم يرون الملامح العربية واضحة في وجهي.. ولهذا السبب لم أحصل على عمل يتجاوز عمل جندي حراسة عادي مهما كنت متفانياً.. فلا أحد يقدّر عملي حتى لو كان ربعي عربياً فقط.."
تساءلت "وما الذي يجبرك على البقاء هنا مادمت تجد معاملة الآخرين ظالمة لك؟.. لمَ لا تذهب للعيش مع أجدادك العرب؟.."
قال بابتسامة "أتظنين أن حالي سيكون أفضل في الممالك العربية؟.. لا تنسي أنني أحمل دماء الكشميت، وهذا سيجلب عليّ نقمة العرب أيضاً.."
لم تستنكر قوله، بالنظر للكره الذي يواجه الهوت في الممالك العربية.. فقالت بعد لحظة صمت "أتتوقع مني تعاطفاً وأنا على هذا الحال؟.."
قال ضاحكاً "لست بائساً لهذه الدرجة.."
زفرت جايا بضيق وهي تنتظر اللحظة التي سيتركها فيه هذا الجندي لتخلو لنفسها ولهواجسها.. لتغرق في قلقها على حال آرجان، وقلقٌ أكبر على حالها هي.. لكن الجندي قاطع أفكارها من جديد قائلاً "الهوت أيضاً منبوذون في مملكة فارس.. أليس كذلك؟.. ما الذي يجبركم على البقاء في الموقع واحتمال ذلك الكره والتطاول من ملك المملكة؟.."
قالت بجفاء "أتتوقع منا أن ننهزم ونولّي الأدبار دون سبب مفهوم؟.. أجدادنا كانوا رحّلاً، لكننا استقررنا في تلك الأرض منذ عشرات العقود.. فلمَ علينا أن نتخلى عن هذه الأرض لأهواء ملك يملك آلاف الأميال من القارة العظمى؟"
غمغم معلقاً "معك حق.."
ثم تلفت خلفه قائلاً "يبدو أن موعد رحيلي قد جاء.."
ونهض حاملاً الكرسي مضيفاً "حسناً.. هذا كان حواراً ممتعاً.. أتمنى أن نكرره مرة أخرى.."
استوقفته جايا قائلة بصوت خفيض "ماء.."
نظر لها بتساؤل، فتجاوزت جفاف حلقها لتقول "على الأقل، اسقني بعض الماء لكي أتمكن من مواصلة الحديث معك.."
لم يجبها الجندي وهو يتلفت حوله، ثم خرج وأغلق الباب خلفه بصمت.. عندها ابتسمت جايا ابتسامة ساخرة وغمغمت "بالطبع لن يعبأ جندي من الكشميت لطلبٍ كهذا.."
وزفرت بحدة وهي تسمع الخطوات التي اعتادت سماعها كل يوم، وتنبئ بأن جلسة استجواب قاسية ستبدأ بعد قليل..

*********************

لا تعلم جايا، وهي حبيسة هذا السجن وسط الصحراء، كيف وصلت لهذا المكان.. ولا يمكنها تحديد كيف بدأ هذا كله، وكيف انهارت حياتها المسالمة في أحضان تلك القرية الجبلية برفقة أخيها الذي تحبه وتفخر به كثيراً..
هل يمكنها أن تحدد البداية بذلك الهجوم الغادر الذي قام به الملك عبّاد على قريتها وقتل عدداً من رجالها لتسقط هي وبقية الفتيات في الأسر؟.. هل بدأ هذا كله عندما تم نقلهن لقصر الملك في (الزهراء) ليعملن في خدمة الملك وحاشيته كأي جواري يمتلكهن؟.. أم عندما فكر الأمير زياد، وهو واقع تحت تأثير الشراب، أن يتفاخر أمامها بما يملكه الملك ويحط من قدر الهوت؟.. عندما أخبرها بلسانٍ مثقلٍ أن الملك قد وضع يده على أحد التنانين، وأنه قد قام بأسره في جانب من قصره بعيداً عن الأعين وينوي ترويضه لإضفاء المزيد من الهيبة والقوة لنفسه، فإنها لم تتمكن من الصبر على كل ما تسمعه.. علاقة الهوت بالتنانين علاقة مقدسة بالنسبة لهم، وتتجاوز علاقة شخص بحيوانه المروّض، بل هي أقرب لأخوّة غير مكتوبة وعلاقة وثيقة لم تتمكن معها من الصمت وترك التنين حبيس سجنه.. فالتنين الذي يطول حبسه يسقط مريضاً ويؤدي به ذلك للموت.. التنانين، كما الهوت، كائنات طليقة، تعشق الحرية وتعشق السماء.. تعشق الانطلاق وتكره القيود بأشكالها..
لذلك، كانت فرصة جايا الوحيدة هي في استجواب الأمير زياد.. فدأبت على مجالسته كل ليلة وصبّ الشراب في كأسه حتى يثقله السُّكر وينطلق لسانه بكل ما تريد معرفته عن ذلك التنين.. وأخيراً، بعد أيام طويلة، تمكنت من التسلل لذلك المبنى الذي سجن فيه التنين حاملة ورقة ممهورة بتوقيع الأمير زياد.. فأطلقت التنين السجين وهربت معه عائدة لقرى الهوت..
لكن، إن لم تكن تلك هي البداية، فهل كانت عندما غافلها بعض قطاع الطرق وأسروها مع التنين الذي كان واهناً بعد سجنه لوقت طويل في (الزهراء)؟.. لا تدري لمَ تم نقلها لميناء (مارِج)، ولمَ تم بيعها لرجل أدركت من النظرة الأولى أنه من الكشميت.. ولا تدري لمَ سيقت لمملكة كشميت ولقلعة (جمجات) بالذات رغم محاولاتها المتكررة للهرب..
لكن هنا، في هذه القلعة المحصّنة، وجدت القيود تطوّق يديها وعنقها، وبدأ أمير القلعة استجوابها بكل صرامة محاولاً الوصول لسرّ الهوت مع التنانين.. لمَ يعشق الجميع أسرَ تلك الكائنات الرائعة بهذه القسوة والعنف؟.. لماذا لا يؤمنون أن التنين لا يتخلّى عن حريته إلا بالموت؟.. لشد ما تجهل سبب ذلك..
واليوم، لم يتوانى الأمير عن استجوابها مستخدماً بعض العنف لإجبارها على إطاعته.. تباً له.. وتباً للكشميت.. وتباً للملك عبّاد وللعالم كله.. متى ستتمكن من الراحة من كل هذا الهمّ؟..
في تلك الليلة، وبعد أن أظلم المكان بشدة وجايا جالسة في موقعها بتعب وإنهاك بعد أن حرمها الأمير من الماء ومن الطعام إلا ما يمنعها من السقوط جثة هامدة، انتبهت لخطوات خافتة تقترب من بابها.. ولما فتح الباب، ورأت وجه الجندي الذي حادثها في ذلك الصباح، قالت بضجر وتعب "ارحل الآن.. لست في مزاج، ولا حالة، تسمح لي بالاستماع لتفاهاتك.."
لكنه لم يغادر وهو يتلفت حوله بحذر، ثم يقترب منها هامساً "عليك أن تقدّري المخاطرة التي أقوم بها بعصيان أوامر الأمير الصارمة.."
رأته يقدم لها كوباً فخارياً بائس المنظر يحوي بعض الماء، فلم تتردد جايا من تناوله وشرب الماء سيئ الطعم حتى الارتواء.. ولما أعادت الكوب إليه، قال بابتسامة جانبية "عليك أن تصبري كل يوم حتى الليل.. لا يمكنني منحك أي شيء في وضح النهار.."
تساءلت "ما هدفك من هذا كله؟"
نهض واقفاً وقال بابتسامة متسعة "كما قلت لك.. مجرد تبادل الأحاديث.."
ذهب ليخفي الكوب عن الأنظار، ثم عاد وجلس جانباً متسائلاً "أخبريني عن قرى الهوت.. كيف هي؟.."
قالت بسرعة "لن أتحدث عن أي شيء يخص الهوت أو التنانين.. اسأل عن أي شيء عدا ذلك.."
زفر مفكراً للحظة ثم قال "إذن ماذا عن (الزهراء)؟.. سمعت أنك كنت أسيرة لدى ملك بني فارس.. فكيف هي؟.. هل تختلف كثيراً عن (كاشتار)؟.."
قالت "لم أرَ (كاشتار) هذه في حياتي.."
فقال الجندي "إنها مدينة كبيرة ومنظمة كثيراً.. لكن ما يعيبها هو كثرة الأسوار حولها.. هناك ثلاث أسوار عالية تحيط بها.. الأول يحيط بقلعة الملك وحاشيته، ويضمّ أيضاً العلماء وأي شخص يمكن أن يساهم في تقدم المملكة وتطورها.. الثاني يحيط بالعامة من الشعب.. والثالث يحيط بالبشر الأكثر فقراً والمهاجرين من المناطق الأخرى.. في الواقع بدأ الكشميت في استيطان المناطق خارج السور أيضاً بحيث تمددت المدينة أكثر مما رُسم لها.."
تساءلت جايا "وفي أي جزء عشت أنت؟"
هز كتفيه قائلاً "أنا لم أكن هناك.. لقد جئت إليها فقط عندما حاولت الانضمام للجيش.."
فسألته جايا بشيء من الفضول "كيف قبلوا بضمّك للجيش رغم كرههم لك وللدماء العربية في عروقك؟.. هذا لا يمكن الاقتناع به.."
ابتسم الجندي مجيباً "لحسن حظي، أو لسوئه، كان أمير هذه القلعة موجوداً عندما تقدمت للانضمام للجيش.. كان في بداية تخطيطه لهذه العملية، وبحاجة لأي معاونة كانت للقبض على التنانين والهوت معهم.. لذلك عندما رآني، ولمح ملامحي العربية الواضحة، طرأت له فكرة ضمّي للجيش واستخدامي كجاسوس له في مملكة بني فارس.. بهذه الصورة، وبإتقاني للعربية، لن يشك أحد في أمري لو جُبتُ أرجاء المملكة بحثاً عن التنانين.."
غمغمت بغير اقتناع "لكنك مجرد جندي حراسة الآن.."
فقال دون أن تخفت ابتسامته "لأنني فشلت في مهمتي من اللحظة الأولى.. أتعرفين السبب؟"
وإزاء نظراتها المتسائلة، ضحك الجندي بقوة قائلاً "لأن العرب قد شكوا بكوني جاسوساً وقبضوا عليّ منذ البدء، وحجتهم بذلك أن ملامح الكشميت واضحة فيّ بشدة.. أرأيت شيئاً أكثر سخرية من هذا؟"
قالت جايا بتعجب "كيف يمكنك أن تهزأ من أمر كهذا؟.. ألا تشعر بالضيق للتناقض الذي تعيش فيه.."
هز كتفيه مجيباً "لا.. بل أراه يدعو للسخرية.. فبعد كل هذه الأعوام، لم تعد هذه الأمور تثير مرارتي وغضبي بتاتاً.."
ثم تلفت خلفه معلقاً "يبدو أنني أنا من قام بكل الحديث هذه الليلة.."
ثم لوّح بإصبعه نحوها مضيفاً "دورك في المرة القادمة أن تحدثيني عن الزهراء.. اتفقنا؟"
وغادر دون أن يحصل على إجابة منها وهي تغمغم "من الذي وافق على ذلك أيها الأبله؟"

*********************

كانت الأمور تزداد سوءاً لجايا يوماً بعد يوم، وبدأ الأمير يستخدم قسوة واضحة لإجبارها على التعاون معه، وكلف جندياً من الجنود للتفنن في تعذيبها لعلّها تتخلى عن عنادها.. ورغم ذلك، دأب الجندي على الجلوس معها بضع ساعات كل مرة والحديث في مواضيع شتى متفادياً التحدث عما لا تحبه.. كانت لا تزال تحتفظ بشكّها فيه، لكن ذلك لم يمنعها من استغلال وجوده لتناسي الحال التي هي فيها والمخاوف التي لا تتناساها لحظة واحدة..
ولما فقدت جايا عينها اليسرى، فقدت الوعي أيضاً لشدة الإنهاك والضعف في جسدها.. ولما استيقظت، وجدت أنهم تركوها حيث هي والجرح في وجهها ينزف دون أن يعبأ شخص لما قد يحدث لها..
أصدرت أنيناً متألماً ويداها المقيدتان متباعدتان عاجزتان عن الوصول للجرح وإيقاف الدماء بأي شكل كان.. لم تدرِ كم من الوقت مرّ عليها، ولما رأت الباب يفتح، أصابها شيء من الارتعاب خشية أن يعود الأمير لاستجوابها وهي في حالة يرثى لها.. لكنه كان ذلك الجندي الذي يصرّ على التحدث معها أثناء مناوبته.. رأته يقترب منها متعجلاً، وبقطعة قماشية وبعض الأدوية قام بتنظيف موضع الجرح وهو يتمتم "اصبري قليلاً.. سيزول الألم بعد أن ننتهي.."
نظرت له مغمغمة "ما الذي تفعله؟.. سيعاقبونك.."
قال بسرعة "لن يفعلوا بالتأكيد.."
نظرت له بحيرة، فقال بتوتر "لقد حملت شكواي إلى الأمير قبل قليل.. أخبرته أن الجندي المكلف باستجوابك سيتسبب بقتلك بسبب سوء تقديره، وأنك مهمة لنجاح التجربة التي يقوم بها، لذلك وافق على أن أقوم بعلاجك متجاوزاً أمره السابق لمرة واحدة.."
قالت بصوت خافت "لمَ تفعل ذلك؟.."
نظر لملامحها المنقبضة بألم مجيباً "الشفقة.. ربما؟.."
ضحكت بهزء معلقة "تشفق عليّ وأنت سجّاني؟.."
قال بتوتر "أنا أطيع الأوامر فقط.. لم أسعَ لما أنتِ فيه ولا يعجبني.. ولا أشارك فيه لو لم تلاحظي ذلك.."
غمغمت "لكنك من الكشميت.."
ربط رباطاً على عينها وحول رأسها قائلاً "كما أخبرتك.. أنا لست من الكشميت.. ولست عربياً كذلك.. في الواقع أنا لا انتماء لي.."
تساءلت "ولمَ لا ترحل؟.."
أجاب وهو يتفحص رباط عينها "إلى أين؟.. لا مكان لي في أي أرض أخرى.. ولا يبقيني في هذا المكان إلا لأنه أفضل من أرض لا أعرفها وبشر لم أرهم قط.."
أمسكت يده بيدها بقوة وقالت "ارحل.."
نظر لعينها التي تبدّى فيها بعض الأمل وهي تقول بشيء من اللهفة "ارحل.. وخذني معك.."
نظر لها بشيء من الاستنكار، فقالت محاولة إقناعه "سآخذك لقريتي.. الهوت لا يكرهون أحداً بسبب هويته.. صحيح أننا منغلقون على أنفسنا في قرانا، لكنهم سيرحبون بك بشدة لو علموا أنك قد أنقذتني.."
قال باعتراض "لا يمكنني خرق الأوامر بهذه الطريقة.."
نظرت له بسخرية قائلة "أوامر من؟.. أتعبأ حقاً بهذه الأوامر وأنت سجين هنا؟.."
نظر لها بدهشة، فقالت بإصرار "بلى.. أنت سجين كما أنا سجينة بالضبط.. وظنُّك أنك تستطيع الرحيل متى شئت هو خدعة بالتأكيد.. قيودك هي الأوامر والتعليمات التي تقيد روحك لهذا المكان ولمدة لا يعلمها أحد.."
ظل يستمع لها بصمت وبعض التفكير، لكن سرعان ما نفض هذا كله وهو يلملم أغراضه ويقف قائلاً بإصرار "مستحيل.. لا يمكنني فعل ذلك.."
وغادر تاركاً جايا تراقبه بضيق، ثم أسندت رأسها للجدار خلفها وهي عاجزة عن الاستلقاء بسبب قيودها القصيرة التي تثبت ذراعيها للجدار.. لوهلة، تناست الألم القوي الذي تشعر به عندما راودها بصيص أمل بأن تتمكن من الخروج من هنا.. لكن ذلك الجندي المستسلم لحياته الشقية قد أزال كل أمل راودها ولو للحظة.. فغمغمت لنفسها زافرة "هذا الجندي يحتاج لدفعة صغيرة، وبعدها سيدرك واقعه بشكل أفضل ويسعى للحرية كما أسعى لها أنا.."

*********************

في الليلة التالية، استدعت جايا سجانها من موقعها الذي لا تكاد تغادره، ولما رأته ينظر لها من كوّة في الباب الحديدي، قالت "أتخشى من دخول زنزانتي هذه المرة؟"
تلفت حوله للحظات، ثم فتح باب الزنزانة متسائلاً "ما الأمر؟.. هل عاد الألم من جديد؟"
قالت بابتسامة شاحبة "لا.. لقد سئمت من بقائي وحيدة هنا وأريد تبادل الحديث معك.. أليس هذا ما طلبته مني سابقاً؟"
نظر لها بتعجب، لكنها لم تعبأ لدهشته وبدأت تحدثه عن كل ما عرفته ورأته في سنواتها الأربع والعشرين.. حدثته عن الجبال العالية التي تحتضن تلك القرية الصغيرة في قلبها.. حدثته عن القرية ومنازلها الجميلة وطرقاتها الحجرية.. حدثته عن شعب الهوت الذي يمتاز باللطف، ما لم يعتدِ عليه أحد، عندها ينقلب الكلب الأليف إلى ذئب شرس لا يتردد في الانتقام ممن تسبب في إيذاء رفاقه.. حدثته عن تاريخ الهوت في ذلك المكان.. حدثته عن كل بقعة رأتها في رحلاتها مع أخيها على ظهور التنانين.. تحدثت غير عابئة بجفاف حلقها وبتعبها وألمها على أمل أن تبث بعض العزيمة في ذلك الجندي.. ولما رأت عيناه تتسعان وهو يستمع لها باهتمام، أدركت أنها كسبت هذه الجولة.. بقي فقط أن تحصل على النتائج التي تمنتها..
ولما ختمت حديثها، مع طلائع الفجر التي لاحت من النافذة الصغيرة في أعلى الجدار خلفها، غمغم الجندي سارحاً "يبدو أنك عشت حياة جميلة وهانئة في أحضان تلك الأرض.."
ظلت تنظر له بشيء من الأمل وهو يفكر بحيرة بكل ما سمعه، ثم رأته ينهض بصمت ويغادر المكان دون أن تبدر منه إشارة لعزمه على الرحيل.. فزفرت جايا بشيء من الضيق، وحاولت الاستسلام للنوم علّ ذلك يهدئ آلام جسدها العديدة.. لكن هيهات أن تحصل على بعض النوم في هذا المكان البائس..
وبعد نهار طويل واستجواب عسير صمدت فيه جايا وكل ما تفكر فيه هي قريتها المسالمة ووجوه أهلها الباسمة، فإنها مع غروب شمس ذلك اليوم استسلمت لضعفها وذرفت الدموع ببؤس وهي مطرقة في سجنها المظلم الكئيب.. سالت دموعها وهي بلا حول ولا قوة، لا تقدر حتى على مسح ما بلّل خديها.. حتى متى عليها أن تصبر على كل هذ؟.. حتى متى عليها أن تقاوم؟.. حتى متى؟..
وبعد بضع ساعات غرقت فيها جايا في البؤس والعذاب، سمعت الباب يفتح وصوت الجندي يسألها بهمس "أأنت بخير؟"
لم تجبه وهي تودّ لو تسخر من هذا السؤال، لكنها لم تكن تملك أي طاقة لذلك، فتقدم منها متسائلاً بقلق "ما الأمر؟.. سمعتك تبكين لبعض الوقت، وأقلقني هذا بشدة، لكني لم أستطع التدخل قبل الآن.."
قالت بمرارة وصوت يرتجف "ألا ترى في حالي ما يبكي؟.. أترى أنني يجب أن أقضي أيام السجن والعذاب هذه ضاحكة؟.."
زفر وهو يتطلع لدموعها التي عادت تنهمر من عينيها، ثم قال لها "هيا بنا.."
رفعت بصرها إليه بدهشة، ففوجئت به يفتح أقفال يديها وقدميها بمفاتيحه، ثم ساعدها على النهوض وهي تسأله بدهشة "ما الذي تنوي فعله؟"
قال بتوتر "ما تطلبينه مني كل يوم.. أن نهرب من هذا المكان.."
نظرت له باستغراب، فقال "لقد فكرت في حديثك طويلاً منذ البارحة.. ولا أجد ما يجبرني على احتمال هذه الصحراء واحتمال قسوة سكانها.. سنرحل، ولنأمل أن تكون الحياة هناك جميلة كما تصورينها.."
وجدت جايا نفسها عاجزة عن الوقوف بتعب بعد أن هزلت ساقاها لقلة الطعام الذي يُمنح لها ولجلوسها دون حراك ساعات طويلة، فوجدته يحملها على ظهره بخفة وهو يقول "لنذهب.. علينا استغلال هذه الفرصة قبل أن تفلت من أيدينا.."
قالت بخفوت وقلق "ماذا عن بقية الجنود؟"
أجاب الجندي "لقد اجتمعوا للاحتفال في جانب القلعة ولم يبقَ، أو يتطوع، غيري لحراسة السجناء.. فاليوم هو يوم توحيد المملكة، والأمير يسمح لهم ببعض التسيّب لبضع ساعات فقط.."
رفعت جايا حاجبيها بدهشة لهذه المصادفة التي ستصبّ في صالحهما بالتأكيد.. بينما سار بها الجندي بقلق وهو يتلفت حوله حتى عبر الممر الضيق بين السجون ووصل للدرجات التي تؤدي للأعلى.. فهمست جايا "ألن ننقذ البقية؟"
قال بسرعة "هل تريدين الإعلان عن هربنا في هذه اللحظة؟.. علينا أن نهرب بأسرع ما نستطيع لنبتعد عن القلعة قبل أن يفطن أحد لغيابنا.. وبعدها، يمكنك أن تبلغي عشيرتك بكل ما يجري هنا وتطلبي منهم إنقاذ هؤلاء البؤساء.."
لم تعترض جايا وهي أضعف من أن تجادل.. لقد كانت قد قررت القرار ذاته عندما هربت بالتنين من قصر الملك عبّاد عازمة على استدعاء بقية الهوت لإنقاذ الفتيات الأسيرات.. ولم تعتبر ما فعلته أنانية أو خسّة منها تجاه الباقيات.. والآن تفعل الأمر ذاته مرغمة مع هؤلاء السجناء..
سار بها الجندي عبر الدرجات الصاعدة، لكنه لم يتوقف عند الطابق الأرضي ويغادر هذا المبنى، بل أكمل سعيه للمواقع العليا منه بخطوات حثيثة.. وفي أعلى موقع تصل بهما هذه الدرجات، رأت جايا أن الباب المفتوح أمامهما يؤدي بهما لسطح المبنى ولموقعٍ قريبٍ من السور المحيط بالقلعة ولا يفصلهما عنه إلا متر واحد يمكنهما تجاوزه قفزاً.. لم يتردد الجندي وهو يطلب منها التشبث به، وركض ليتجاوز بقفزة محدودة تلك المسافة الصغيرة ويصل بها إلى السور الذي يحيط بالقلعة كلها ويطل على مساحات شاسعة من رمال الصحراء.. كتمت جايا تنهيدة وهي تنظر للسماء بشوق واضح، بينما تلفت الجندي حوله قائلاً بقلق "أرجو أن يكونوا مستمرين في عربدتهم لوقت أطول.. وقوفنا هنا سيفضحنا على الفور لو مرّ جندي في ساحة القلعة.."
وتقدم من موقع معين في السور وجايا تسأله "كيف سنهبط الآن؟.. وما الذي سنفعله بعد أن نصبح في الجانب الآخر من القلعة؟"
قال بسرعة "لقد تدبرت الأمر.. جهزت حبلاً أخفيته في جانب السور في موقع غير مرئيّ.. سنهبط بواسطته حتى نصل لموقع هيأته ليعاوننا على تجاوز الخنادق المحيطة بالقلعة.. وهناك سنمتطي حصاناً ينتظرنا في ذلك الجانب سينقلنا لأقرب مدينة يمكننا الاختباء فيها حتى نرحل بواسطة سفينة من السفن.."
فتحت جايا فمها لتعلق على ذلك، عندما تعالى صوت من خلفهما يقول ببرود "ما هذه الخطة الساذجة؟"
استدار الجندي بسرعة وشيء من الارتعاب ليرى الأمير يقف خلفه مع أربعة من جنوده دون أن تبدو على ملامحه الهادئة أي غضب.. فأضاف الأمير "لو كنتَ تفكر بخيانتي، فعليك أن تستخدم خططاً مبتكرة.. بهذا، على الأقل، أشعر بشيء من الإعجاب لجرأتك.. لكن بخطة هزيلة كهذه، ما الذي تأمل بفعله حقاً؟"
تلعثم الجندي وهو يتراجع خطوات متسائلاً "كيف؟.. أنت......"
ابتسم الأمير ابتسامة قاسية وهو يقول "أنا ماذا؟.. أظننت أنني غافل عن أمرك بهذه الصورة؟.. لقد كانت لي شكوكي، وأنت أكدتها عندما توسلت لعلاج الفتاة من ذلك الجرح.. عندها، أدركت أنك ستقوم بتهريبها في أقرب فرصة ممكنة.. ولا يمكن لشخص عاقل أن يقوم بتفويت فرصة كهذه الليلة.."
وبإشارة من يده، قام أحد المرافقين للأمير بالتقدم من الجندي فجذب الفتاة منه بقوة والتي انهارت على الفور أرضاً دون أن تتمكن من الوقوف.. وبينما تقدم الأمير من الجندي الذي تراجع خطوات أخرى، فإن جايا صاحت بصوت مبحوح "كيف يمكنك أن تكون بهذه القسوة؟.. هل ما تتمنى تحقيقه يستحق كل هذا العذاب الذي نمر به؟.. هل يمكنك أن تنام كل ليلة بعد كل الألم الذي تسقيه لسجنائك؟"
نظر إليها ببرود مغمغماً "أمن المفترض أن يحرك هذا القول مشاعري؟"
نظرت جايا له بمرارة وقد أدركت أن هذه قد تكون فرصتها الأخيرة للفرار، ولو كانت تملك بعض القوة في جسدها لنهضت وقفزت من فوق السور نحو الجانب الآخر من القلعة حتى لو عنى ذلك موتها.. ثم رأت الأمير يتقدم من الجندي ويمسك مجمع ملابسه دون أن يقاومه الجندي المرتعب، بينما قال الأمير بقسوة "كنت أدرك أن دماءك القذرة لن تسمح لك بإطاعة الأوامر بشكل كامل.. أنت لست من الكشميت، ولم تكن منهم أبداً.. كان عليك أن ترحل من هذه المملكة التي لا تنتمي إليها.. لكنك فضلت البقاء وفضلت طعني في ظهري بكل صفاقة، أليس كذلك أيها العربي؟.."
فتح الجندي فمه بتلعثم، لكن الأمير لم يتمهل للحظة وهو يدفعه بقوة، ليجد الجندي نفسه يتجاوز السور ويهوي من ذلك الارتفاع الذي يتجاوز عشرة أمتار ليسقط بصمت وسط الحجارة المدببة التي حرص الأمير على أن تحيط سور القلعة من كل الاتجاهات..
صاحت جايا بارتعاب وهي تشهد ما جرى "ما الذي فعلته؟.. أليس هذا جندياً من جنودكم؟"
قال الأمير وهو يتقدم منها فيجذبها بقسوة من ذراعها "لا.. لم يكن كذلك منذ البدء.."
قرّبها من حافة السور وأجبرها على النظر من فوقه قائلاً "انظري.. هذه هي حريتك.. لقد صارت أشلاء لا رجاء منها.. لذلك، عليك أن تستسلمي وتتعاوني معي.."
صمتت جايا بشفتين ترتجفان وهي تحدق رغماً عنها في ذلك المنظر الذي لن تنساه ما بقي لها من العمر.. حاولت أن تتذكره وهو يحدثها مبتسماً في زنزانتها، حاولت تذكر بعض ما كان يقوله لها في تلك الليالي.. لكن كل ذلك كان يختفي مع منظر جسده الساكن وسط الحجارة المدببة والدماء التي أغرقت جانباً كبيراً من تلك الحجارة وملامح وجهه التي غابت عن عينيها من بين الدماء..
وبينما أفلتت دمعة من عين جايا، فإن الأمير قال بسخرية "أتمنى أن يكون هذا المنظر دافعاً معنوياً كبيراً لك لتتجاوبي معي كما أرغب منك.."
لو كان الكشميت يعاملون رجلاً منهم بهذه الصورة، فما الذي سيفعلونه في قرى الهوت عندما يحاولون وضع أيديهم على التنانين؟.. دفعت جايا نفسها لتقول بصوت مرتجف "لن أتحدث.."
ابتسم الأمير وقرّب وجهها منه بأصابع قاسية وهو يقول "ستتحدثين.. صدقيني يا فتاة ستفتحين فمك ولن تغلقيه إلا بعد أن تخبريني بكل ما أبغيه.."
قالت جايا وهي تحاول تخليص وجهها من أصابعه "أتراهن على ذلك؟.."
اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يجيب "أراهنك.. أراهنك على ذلك بحياتي يا فتاة.."
واستدار مبتعداً تاركاً جايا تنظر للجسد الساكن من فوق السور وتغمغم بمرارة "يا للبؤس.. أنا لم أسأله عن اسمه قط..."
وجدت أحد الجنود يسحبها دون رفق عائداً بها لزنزانتها.. وبينما استسلمت جايا ولم تحاول المقاومة، فإنها شعرت بروحها تظلم بشكل تام، وذلك النور الذي كان يبدو لعينها ويتسلل منه الأمل، قد انقطع بشكل تام ولم يبقَ إلا الظلام الحالك الذي ساد كل شيء..

*********************

ورد الخال 21-12-15 07:29 AM

رد: على جناح تنين..
 
شكراً ولك مني أجمل تحية .......


الساعة الآن 01:07 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية