رد: على جناح تنين..
مرحباً بك بيننا يا أختي مملكة الغيوم
يفرحني فرحك هذا بالرواية ومحتواها وشاكرة لك كلماتك الجميلة أحب الابتعاد في رواياتي عن الواقعية خاصة أن الواقعية هذه الأيام أصبحت مرادفاً للتعاسة والألم وفقدان الأمل لكن لابد أن تحوي الرواية جانباً من الواقع في مشاعر الشخصيات وصراعهم الداخلي أتمنى أن تروقك الرواية للنهاية وتستمتعي بخيالها |
رد: على جناح تنين..
الفصل الثالث عشر: نهاية الطريق قطعت رنيم برفقة كاجا الجزء الثاني من الرحلة بشكل أسهل وأكثر أماناً من السابق.. فرغم طول المسافة، لكنها حرصت على اتباع الطريق الذي دلّها عليه مزاحم واللجوء لأي جزيرة تمر بها لبعض الراحة والحصول على طعام لكاجا تحسباً لما بقي من الطريق.. وهكذا، فإنها لم تواجه أي مشاكل تذكر حتى وصولها لميناء (سربيل)، وهو الميناء الأشهر في مملكة كشميت.. كانت تعتزم البقاء في هذا الميناء وتراقب السفن لبضع أيام حتى تتأكد أن السفن التي تحمل الهوت تصل لهذا الميناء بالذات.. ولو لم يكن الأمر كذلك، فعليها أن ترحل بحثاً عنه في موانئ أخرى وقد يطول بها الوقت أكثر من اللازم.. لكن ما دفعها للقدوم لهذا الميناء بالذات أن مزاحم ذكر لها أنه الوجهة الرئيسية لسفن الكشميت الهامة نسبة لقربه من العاصمة (كاشتار).. لم يكن ميناء (سربيل) كما الموانئ التي رأتها سابقاً، بل كان أقرب لثكنة عسكرية مدججة بالجنود الذين لا يخلو منهم طريق ولا زقاق.. وليس ذلك غريباً، فهذه المدينة هي على رأس الخليج الذي يقود إلى عاصمة مملكة كشميت (كاشتار).. لذلك، تم اعتبارها كحصن يحرس العاصمة ويمنع أي هجوم يمكن أن يتخذ من هذا الخليج طريقاً له.. ورغم قلق رنيم من ذلك، فإنها مضت قدماً في خطتها للوصول لذلك الميناء ومراقبة السفن القادمة إليه.. كان يحيط بالمدينة سورٌ حصين يمنع عنها أي هجوم، لذلك جعلت رنيم التنين يتسلل بها إلى المدينة في إحدى الليالي المظلمة، وهبطت على سطح أحد المنازل محاذرة إصدار أي صوت أو لفت انتباه الجنود.. وبينما دفعت التنين للرحيل بعيداً، فإنها وجدت نفسها وحيدة في قلب مدينة معادية تجهل عنها كل شيء.. كل ما تمنته في تلك اللحظات أن تسعفها بديهتها للتعامل مع سكان المدينة دون أن تكشف هويتها، وأن لا تتأخر سفينة الكشميت عن الوصول إلى الميناء.. تلفتت حولها بحثاً عن أي عين قد تلحظها، ثم باستخدام بضع صناديق صفّت في أحد الأزقة، هبطت من سطح ذلك المنزل الذي لا يعلو إلا طابقاً واحداً، ووجدت نفسها وسط الزقاق المظلم وحيدة إلا من بعض القطط الهاربة.. كان الجو أكثر دفئاً مما عهدته في سهول الأكاشي وفي طوقا، لذلك لم تقلق من هذا الأمر إنما قلقها كان منصباً على هيئتها التي لن يغفل عنها أحد مع شروق شمس الغد.. تسللت عبر المكان متلفتة حولها مغمغمة "لن يكون الأمر بالسهولة ذاتها كما في طوقا.. الكشميت لا يتحدثون اللغة العربية بتاتاً، وأنا لا أفقه حرفاً من لغتهم هذه.. فما الذي سأفعله؟" لاحظت في ذلك الوقت في حديقة أحد المنازل القريبة حبلاً للغسيل وعليه عدد من الملابس تخصّ أصحاب ذلك المنزل.. قبعت في موقعها تراقب المكان للحظات، وتتطلع للملابس بتردد كبير.. لم تكن تملك ترف الاختيار، ولم يكن من السهل عليها الحصول على ملابس مشابهة لأهل المدينة وهي غريبة عنها.. واكتفائها بارتداء ثيابها هذه سيكشف أمرها بسهولة.. أخيراً، حسمت أمرها وتقدمت منحنية من ذلك الجانب من المنزل الذي لا يحيطه أي أسوار، فاختطفت بعض الملابس وعادت أدراجها نحو زقاق مظلم وقلبها يدق بقوة.. ولما تأملت الملابس في يديها، شعرت بسوء بالغ وهي تفكر فيما سيشعر به أصحابها في الغد عندما يكتشفون اختفاءها.. زفرت لتتناسى ذلك وهي تستبدل ملابسها بسرعة مستغلة الظلام في الموقع، وعدم وجود أي مصابيح إنارة قريبة قد تكشفها.. كانت تلك الثياب عبارة عن بنطال واسع مضموم عند القدمين، بلون أصفر باهت، وقميص بلا أكمام.. وفوقها رداء قماشي واسع يصل لقدميها بكمين واسعين ومفتوحٌ من الأمام، وله غطاء للرأس يساعد على إخفاء ملامحها أكثر من السابق.. ولحسن حظها لم تكن فضفاضة عليها بل ملائمة شيئاً ما.. تقوقعت في مكانها زافرة وتوترها يعجزها عن الحصول على بعض النوم قبل شروق الشمس الذي لن يبدأ إلا بعد بضع ساعات.. لكن، مع شروق الشمس وبدء نهار المدينة الصاخب عادة، فإنها نهضت من موقعها دون أن تذوق طعم النوم.. فخرجت من موقعها بتردد كبير وهي ترخي الغطاء على رأسها محاولة إخفاء ملامحها قدر استطاعتها.. لكنها مع رؤية عدد كبير من الأشخاص يعبرون الطريق القريب وملامحهم تدل على أصولهم المختلفة، أدركت أن هذا الميناء، كما كل الموانئ الأخرى، يضمّ خليطاً كبيراً من البشر.. لذلك غمرتها راحة كبيرة وهي تسير في الطريق محاولة معرفة أقربها للميناء الكبير الذي تتمحور المدينة حوله.. ظلت تسير في الطريق بخطوات مترددة وهي تحاول ألا تكثر من التلفت حولها لئلا تثير الانتباه.. لكنها رغماً عنها تغيّر طريقها وتسلك أقرب زقاق حالما ترى إحدى فرق الجنود التي تجوب شوارع المدينة عادة.. وفي كل مرة تتسارع دقات قلبها أكثر مع رؤية أحدهم خشية انكشاف أمرها، وهي تشعر أن كلمة (متسللة) مكتوبة على جبينها بخط واضح.. وبعد اجتيازها عدداً من الأحياء والأزقة، لاحظت تلك النوارس التي تحلق عند رأسها ورأت من بين المنازل القريبة صواري بعض السفن العالية.. تنهدت وهي تسرّع خطواتها نحو الميناء وتتجه إلى الطريق العريض المؤدي إليه.. وفور تجاوزها ذلك الزقاق، ارتطمت بأحد الأشخاص بقوة وهي تتراجع خطوة.. ولما رفعت بصرها شحبت بشدة لرؤية أحد جنود الكشميت يرمقها بامتعاض وهو يصيح بوجهها بحنق.. لم تعرف ما عليها فعله، فأحنت له رأسها باعتذار صامت وهي تتراجع خطوات.. لكنه قبض على ثوبها قبل أن تهرب وهو يتحدث بعبوس شديد.. بدا لها ينظر لها بشك، وربما هيأ لها ارتباكها هذا، لكنها حاولت تفادي شكوكه وهي تلوح بيديها وتشير لأذنيها مصدرة أصواتاً متقطعة بحلقها.. حاولت أن تفهمه أنها بكماء صمّاء لكي تتفادى هذا الموقف وتعللّ به عدم فهمها لما يقول.. فلو حاولت التحدث بأي كلمة، فهذا سيجعل شك الجندي يقيناً وسيلقي بها في قبضة الكشميت حتى لو لم تذنب ذنباً معروفاً.. وبينما حدجها الجندي بنظرات يمتزج فيها الشك والحنق، فإن رفيقاً له جذبه متحدثاً بشيء من الضيق.. رمقها الجندي بحدة، ثم دفعها بعيداً وغادر وهو يدمدم بحنق بكلمات لم تفهمها.. تراجعت رنيم وهي تختبئ في ذلك الزقاق لاهثة، فربضت أرضاً وهي تحاول تمالك أنفاسها المتسارعة وتهمس لنفسها بارتباك "رباه.. ما الذي سأفعله في الأيام القادمة؟.. لست أدري متى ستصل سفينة آرجان، هذا لو كانت ستصل لهذا الميناء بالفعل.. فما الذي سأفعله حتى ذلك الوقت؟.." بعد أن قضت نحو ساعة مختبئة في موقعها وهي متعجبة لأن الجندي لم يقبض عليها رغم ملامحها العربية الواضحة، لكنها أدركت أن هذه المدينة تغصّ بأنواع كثيرة من البشر بحيث لا يغدو وجودها مثيراً للشكوك.. ورغم ذلك، قررت أن تستمر بادعاء البكم والصمم لكي تتفادى أي أسئلة.. ومع هذه الخواطر، تمالكت نفسها وهي تخرج بهدوء من الزقاق وتسير بخطوات مترددة نحو الميناء القريب.. وبعد أن انفرجت المنازل القريبة سامحة لها برؤية الميناء بشكل واضح، فإن ارتياح رنيم خالطه شيء من القلق لرؤية عدد كبير من الجنود يتفرقون في الموقع الواسع.. لم يكن ذلك مستغرباً، لكن ذلك زاد من سوء موقف رنيم وهي تختبئ خلف أحد المنازل تراقب الطريق الذي يقطع الميناء والحركة الدؤوبة فيه.. وأخيراً، قامت بتشجيع نفسها وسارت بتردد نحو الميناء مخترقة عدداً من البشر الذين تجمعوا على رصيف الميناء منشغلين بالسفن القريبة منه.. لم تكن تذكر كيف كانت تلك السفينة التي حملت آرجان في قلبها بعد مرور كل تلك الأيام، لكنها عوّلت على ذاكرتها شيئاً ما وهي تدقق النظر في السفن القريبة محاولة معرفة إن كانت السفينة المقصودة بينها.. لابد أن تتعرف على السفينة المقصودة لو رأتها عيناً، لكن لو لم ترها فستضطر للتردد والمرابطة في هذا الميناء أوقاتاً طويلة حتى تتأكد من شكوكها.. لكن بعد عدة جولات في الميناء ووسط البشر المتزاحمين، أدركت أن ما تبحث عنها غير موجودة في هذا الميناء، فزفرت وهي تنطوي جانباً على أحد الصناديق بانتظار قدوم سفن أخرى.. كم يوماً مضى منذ اختفى آرجان في سهول الأكاشي؟.. لم تعد تعرف الجواب.. وكم يوماً سيمضي قبل أن تلتقيه مجدداً؟.. لا تعرف جواب هذا السؤال أيضاً.. ولا يسعها إلا الانتظار.. ********************* في تلك الليلة غادرت رنيم يائسة بعد أن عجزت عن تحقيق أي شيء.. فابتعدت عن الميناء الذي يضجّ بالحركة أغلب أوقات اليوم لتتفادى أن يراها شخص ما وهي تحاول الالتقاء بكاجا.. وبعد بعض الوقت، وبعض البحث الدؤوب، عثرت رنيم على منزل بدا لها مهجوراً من نوافذه المظلمة رغم توغل الليل ومن الحديقة الملحقة به والتي أصابها بعض الدمار وبدت أشجارها بحالٍ بائس.. دارت حول المنزل متفحصة، لتجد أنه يحوي بضع سلالم حجرية تقودها لسطحه ملحقة بالمنزل خارجه كما كانت أغلب منازل هذه المدينة.. وهذا نوعاً ما سهّل لها الوصول لسطحه بدون أن تقوم بأي ألعابٍ بهلوانية كما توقعت.. وعلى السطح، تلفتت حولها بحثاً عمن يمكن أن يلاحظ وجودها.. ولما تأكدت أن سكان المدينة قد أخلدوا للراحة في منازلهم، رفعت رأسها وأطلقت صفيراً حاداً مستدعية كاجا الذي غادر المدينة منذ الليلة الماضية.. استمرت رنيم تطلق صفيرها لوقت غير قصير وهي تقلب بصرها في الأفق المظلم، ولما لم تجد استجابة منه زفرت وهي تغمغم "أين ذهبت يا كاجا؟.. أرجو أن تكون بخير.." سمعت صوتاً من خلفها يقول "ومن هو كاجا؟.." استدارت بهلع وشيء من الاستنكار لترى الشخص الذي استرق السمع إليها وخاطبها بالعربية وسط ليل المدينة المظلم.. وعلى سطح منزل قريب لا يبعد إلا القليل عن المنزل الذي هي عليه، رأت شابة تقارب الثلاثين من عمرها، ويبدو من ملامحها أنها ليست من الكشميت الذين يمتازون ببشرة بيضاء شاحبة وعينان ملونتان وقامة طويلة نحيفة.. بل كانت الشابة على شيء من السمرة بشعر أسود طويل ضمّته في ضفيرة على صدرها وعينان سوداوان وملامح تحمل جذوراً شبه عربية.. التزمت رنيم الصمت وهي لا تدري ما عليها أن تفعله في هذه الحالة، فعادت الشابة تسألها بابتسامة "كاجا.. اسم غريب وغير معتاد هنا.. هل أنت غريبة عن هذه المدينة؟.." أشارت رنيم لأذنيها بحركة معتادة لتوحي للشابة بأنها صمّاء لا تسمع، لكن الشابة قالت بضحكة "لقد استدرتِ للتو عندما سمعتِ صوتي.. هل ستنكرين ذلك الآن؟" تراجعت رنيم بحركة حادة وهي تقطب بشدة لهذا الخطأ.. كانت لا تزال تفتقر للخبرة الكافية للتخفي بشكل آمن في هذه المدينة، وها هو أمرها قد كشف قبل أن يمر يوم واحد على وجودها في هذه المدينة.. تراجعت رنيم خطوات وهي تتلفت حولها وقد راودتها رغبة شديدة بالفرار، فسارعت الشابة تقول بشيء من الخيبة "لا تهربي.. لم أصدق أذناي عندما سمعتك تتحدثين بالعربية، وشعرت أنني محظوظة للقائك هنا في هذه المدينة الغريبة.." توقفت رنيم في موقعها للحظات، ثم قالت بهمس "من أنتِ؟.." ابتسمت الشابة قائلة "هذا أفضل بالتأكيد.. أنا لؤلؤة، هذا اسمي الذي لا يعترف به أحد في هذه المدينة.. لكن لا تقلقي، لن أفشي سرّك لأحد بتاتاً.." قطبت رنيم مغمغمة "سرّي؟!.." أسرعت لؤلؤة تقول "أعني تسللك لسطح هذا المنزل في غياب أصحابه.. ألهذا حاولتِ الفرار عندما رأيتني؟" لم تعلق رنيم وهي تقترب منها خطوات، وتقلب بصرها في السماء بحثاً عن كاجا الذي لم يظهر بعد.. عندها قالت لؤلؤة باهتمام "من أنتِ؟.. وما الذي يضطرك للاختباء هنا؟.. هل سرقتِ شيئاً ما؟.. هل يلاحقك الجنود؟" هزت رنيم رأسها بشدة، وقالت بشيء من التوتر "لا.. أنا غريبة عن هذه المدينة، ولا مكان آوي إليه إلا سطح هذا المنزل الذي بدا لي مهجوراً.. ولا آمن على نفسي لو بقيت في أحد الأزقة.." قالت لؤلؤة "هذا حق.. هذا المنزل مهجور بالفعل.. فقد رحل أصحابه إلى (كاشتار) منذ مدة قريبة.. لكنه مغلق ولن يمكنك دخوله بتاتاً.." نظرت رنيم للشابة متسائلة "من أنت؟.. وما الذي جاء بك إلى هذه المدينة؟.. أأنت عربية حقاً؟" تنهدت لؤلؤة مجيبة "يفترض بي أن أكون كذلك.. لكن للحقيقة لقد قضيت في هذه المدينة أضعاف ما عشته في موطني الأصلي.. لذلك لا أدري من أكون حقاً.." تساءلت رنيم بدهشة "أين موطنك الأصلي؟.. وما الذي يدعوك للبقاء هنا؟.." أجابت لؤلؤة "أنا ولدت في إحدى جزر الأرخبيل الأسود، وعشت هناك السنوات العشر الأولى من عمري.. لكن في آخر معركة خاضها الكشميت مع بني فارس، والتي كان موقعها في جزيرتنا بالذات، تم أسري ضمن بضع نساء وفتيات من الجزيرة وعاد بنا الكشميت إلى سربيل لبيعنا كجواري وأسرى حرب.." تساءلت رنيم بدهشة "ألم تنتهي الحرب الأخيرة بمعاهدة للسلام؟" ابتسمت لؤلؤة بجانب فمها معلقة "معاهدة السلام لا تشملنا نحن، ولسنا نقع ضمن اهتمامات ملك مملكة بني فارس.. لذلك لم يطالب بنا أحد ولم يحاول استعادتنا أي شخص.. وهكذا ترين أنني قضيت ما يقارب العشرين سنة في هذه المدينة، وأصبحت أتقن لغة أهلها إتقاناً تاماً.. لكني رغم ذلك مجرد جارية لا أهمية لها ولا تملك أي حقوق.." تساءلت رنيم بضيق "وما الذي يدعوك للاستسلام بهذه الطريقة؟" هزت لؤلؤة كتفيه "وما الذي سأفعله بهروبي؟.. هل سأعود لتلك الجزيرة وأجد أحداً يستقبلني بترحابٍ بعد كل هذه السنوات؟" نظرت لها رنيم بغير اقتناع، بينما قالت لؤلؤة باهتمام "الأهم من ذلك.. من أنت حقاً؟.. وما الذي جاء بك لهذه المدينة الغريبة.." جلست رنيم مستندة للحائط خلفها، ثم غمغمت مطرقة "أتيت بحثاً عن شخص ما.. هو أيضاً تم اختطافه ويبدو أنهم يسوقونه لمملكة كشميت بالذات.. وأنا أبحث عنه في هذا الميناء عسى أن أعثر عليه قريباً.." قالت لؤلؤة باهتمام أكبر "ومن يكون هو؟.. أهو أحد أفراد عائلتك؟" قالت رنيم زافرة "لا.. إنه شخص غريب عني، لكني مدينة له بالكثير.. ولذلك أبحث عنه.." غمغمت لؤلؤة بشيء من الإحباط "فقط؟.. ظننت أنك تحملين حكاية مثيرة قد أستمتع بسماعها.." سمعت صوت معدة رنيم التي أطلق صوتاً عالياً بوضوح، وبينما ضغطت رنيم على معدتها بحرج وقد احمرت أذناها بشدة، فإن لؤلؤة قالت بضحكة "ألا تملكين ما تسدّين به جوعك؟.. كيف أتيت لهذه المدينة حقاً؟" لم تعلق رنيم وهي مرتاحة نوعاً ما لغياب كاجا، فلا تريد أن ترى رد فعل لؤلؤة لرؤيته ولا تضمن ألا تشيع خبره لسكان ذلك المنزل ولأهل المدينة.. فقالت لؤلؤة بعد لحظة صمت "سأحضر لك بعض الطعام لو انتظرتني قليلاً.. لقد تهربت من أعبائي ولن أستطيع البقاء أكثر من هذا.. لكن أعدك بالعودة قبل منتصف هذه الليلة عندما يخلد أهل المنزل للنوم.." غمغمت رنيم بابتسامة "شكراً لك يا لؤلؤة.. سأكون مدينة لك بذلك.." قالت ملوحة بإصبعها "أنت مدينة للعديد من الأشخاص كما يبدو.. كيف ستعيشين حياتك دون الاعتماد على الآخرين.." لم تعلق رنيم وهي ترقب السماء المظلمة بصمت.. بالفعل، هي مدينة للكثيرين بكل ما هي فيه الآن.. ولا تعرف كيف ستتمكن من العيش وحيدة دون آرجان ودون كاجا.. تنهدت وهي تغمغم "أتمنى أن تصل سريعاً يا آرجان قبل أن ينفذ صبري فعلاً.." وبعد غياب لؤلؤة، عادت رنيم تطلق صفيرها الحاد وهي تقلب بصرها في السماء.. لم تعُد تخشى غياب كاجا، فهي قد وثقت به تماماً بعد عدد من المرات أثبت لها أنه يعود إليها مهما طال غيابه.. هي فقط تريد الاطمئنان عليه والتأكد أنه بخير في هذه الأرض الغريبة المعادية.. وبعد وقت قصير، رأته بالفعل هابطاً وقد بدا لها بالكاد عند هبوطه على سطح ذلك المنزل بسبب ظلام تلك الليلة.. اقتربت منه رنيم مربتتة على خطمه وماسحة رقبته وهي تهمس "أأنت بخير يا كاجا؟.. انتبه لنفسك يا صديقي، فلا أريد أن أخسرك أنت أيضاً.." وجدته يمسح رأسه بذراعها بألفة، فابتسمت وغمغمت "غداً سأحضر لك مكافأة بالتأكيد.. فكن بخيرٍ حتى نلتقي.." ودفعته للابتعاد قبل أن يلحظه أحد وقبل أن تعود لؤلؤة فتراه معها.. وبعد بعض الممانعة، ارتفع كاجا بصمت كما جاء وغادر المدينة معتلياً أسوارها دون أن يلحظه أحد الجنود للظلام المخيّم على السماء تلك الليلة.. أمضت رنيم أياماً طويلة في المدينة وهي متخفية عن أعين جنود الكشميت المتواجدين في كل موقع منها.. تمضي أيامها واقفة في جانب من جوانب الميناء محاولة عدم لفت الأنظار، وهي تتفحص السفن القادمة واحدة تلو الأخرى ببصرها بحثاً عن هدفها، بينما تنزوي في الليالي فوق سطح ذلك المنزل تلتقي بلؤلؤة أحياناً وتتبادل معها بعض الأحاديث.. ورغم أن لؤلؤة كانت تعينها ببعض الطعام والماء، لكن رنيم شعرت بالسوء لاعتمادها عليها فهذا الطعام تقتطعه من نصيبها كل يوم لتمنحه لرنيم.. ورغم تآلفهما، فإن رنيم لم تفصح لها عن هويتها أو هوية آرجان قط.. فهي لا تريد أن تفشل قبل أن تنجح في تحرير آرجان، ولا تريد أن تزجّ تلك الشابة الطيبة في مشاكل لو أدرك الجنود أنها كانت تتستر على وجودها في المدينة.. كما تفادت أن ترى كاجا قدر استطاعتها وهي تستدعيه قبل الفجر أحياناً لتطمئن عليه.. طالت الأيام برنيم وبدأ اليأس يستعمر قلبها دون أن تجد أثراً من آرجان، ولولا أنها رأت في أحد تلك الأيام سفينة تقف في رصيف الميناء ويهبط منها ثلاثة من الهوت مقيدي الأيدي والأقدام، لشكّت بأنها أخطأت بالقدوم لهذه المدينة.. ما أثار إحباطها في تلك اللحظات، أن آرجان لم يكن مع أولئك الرجال.. لذلك، بعد أن فقدت إحساسها بالأيام وأصابها إنهاك شديد من بقائها في العراء وتجوالها المستمر في الميناء، فإنها صدمت بشدة لما رأت الجنود يسحبون بعض رجال الهوت فاقدي الوعي من إحدى السفن وعبر الجسر المؤدي للرصيف ومنه لموقع آخر من الميناء.. ولما لمحت بوضوح آرجان بين أولئك الرجال وجنديين يسحبانه معهما بغلظة، فإنها كتمت شهقة كادت تصدر منها بصعوبة وهي تضمّ قبضتيها أمام وجهها وعيناها تغرورقان بالدموع.. لم تصدّق أنها ستراه مرة أخرى، ولم تصدق الانفعال الذي شعرت به عند عثورها عليه.. لقد افتقدت وجوده بشدة، وخشيت أنها لن تعثر عليه مهما طال بحثها.. وبينما كانت تتمتم حامدة الله على عثورها عليه بعد صبرها ذاك، زجرها أحد الجنود القريبين بغلظة، فابتعدت وتجاوزت صف البيوت القريبة من الميناء وهي تتبع الهوت متخفية لتعرف أين سيضعونهم.. عليها التفكير في وسيلة فعالة لتخليص آرجان دون كشف نفسها ودون السقوط في أيدي جنود الكشميت بدورها.. وعليها أن تفعل ذلك بأسرع وقت ممكن قبل أن يختفي من ناظريها مرة أخرى.. ********************* بعد أن اطمأنت رنيم للموقع الذي أخفى فيه الكشميت رجال الهوت، هرعت من فورها عائدة للبيت الذي اعتادت البقاء فيه في الأيام الماضية.. وفور وصولها لذلك السطح، رأت لؤلؤة التي جلست على حافة السطح المقابل كما تفعل كلما تهربت من أعبائها وهي تتأمل السماء الغائمة التي التهبت بأنوار الغروب الدانية.. فأسرعت إليها رنيم وقالت بلهفة "لؤلؤة.. لقد عثرت عليه أخيراً.. إنه هنا، في هذه المدينة.." نظرت لؤلؤة باهتمام لرنيم متسائلة "ذاك الرجل الذي تبحثين عنه؟.. هل وصل على ظهر إحدى السفن؟" قالت رنيم بانفعال وصوت مرتجف "أجل.. رأيته يصل قبل قليل، لكنه كان في حالٍ يرثى لها.. رباه.. ما الذي فعلوه به في الأيام الماضية؟" ودارت في موقعها وهي تضمّ قبضتيها وتقول بتوتر "عليّ أن أفعل شيئاً قبل أن يغيب مرة أخرى.. يجب أن أنقذه مما هو فيه ومن الجنود الذين يحيطون به.. لكن كيف سأفعل ذلك؟.." سألت لؤلؤة بدهشة "ما الذي ستفعلينه وأنت وحيدة؟.. أليس محاطاً بالجنود كما تقولين؟" هتفت رنيم بانفعال "لكنني يجب أن أفعل شيئاً.. سأفعل أي شيء لإخراجه.." ابتسمت لؤلؤة لرؤية انفعالها، ثم تساءلت "أتحبينه؟" نظرت لها رنيم بدهشة للحظات، ثم قالت بارتباك "أحبه؟.. لا.. ليس هذا ما هنالك.. ما الذي أوحى لك بذلك؟" قالت لؤلؤة ضاحكة "آثار الدموع في عينيك، والانفعال في ملامحك لرؤيته من جديد.. مما عرفته منك أنه شخص غريب لا تربطه بك أي علاقة، فلم هذا الانفعال للقائه مجدداً؟" قالت رنيم منفعلة "أخبرتك أنني أبحث عنه منذ وقت طويل.. أنا أدين له بالكثير، ولم أتمكن من التخلي عنه بهذه البساطة.." علقت لؤلؤة بابتسامة "وتتوقعين مني تصديق ذلك؟.." فقالت رنيم بإصرار "ليس الأمر كما يخيّل إليك.. هذا مؤكد.." وجلست جانباً بصمت وشيء من الانفعال، بينما مالت لؤلؤة ببصرها إليها متسائلة "أهو وسيم؟.." نظرت لها رنيم بشيء من الضيق، ولؤلؤة مستمرة في تساؤلاتها "لابد أن يكون كذلك.. أهو رقيقٌ معك؟.. وهل يحبك؟" قالت رنيم بانفعال "أخبرتك أن الأمر ليس هكذا.." ضحكت لؤلؤة معلقة "لا بأس يا صغيرتي.. لا داعي لكل هذا الانفعال.." سادهما الصمت وهي تتأمل السماء الغائمة من جديد، ثم علقت "هل سترحلين بعد أن تلتقي به؟" نظرت لها رنيم بقلق، ثم غمغمت "هذا لو تمكنت من إخراجه من السجن الذي هو فيه.." فقالت لؤلؤة بقلق "لا تخاطري بنفسك يا فتاة.. هو رجل، ويمكنه تدبر أموره جيداً.. أما أنتِ، فلو قبضوا عليك فسيسجنونك أو يبيعونك كجارية.. ولن تطيقي ذلك بتاتاً، صدقيني.." نظرت لها رنيم بشيء من الإشفاق، ثم قالت لها "لمَ لا تهربين معنا يا لؤلؤة؟" نظرت لها لؤلؤة بدهشة، ثم قالت ضاحكة "وهل أثق بأنك ستتمكنين من الهرب مع ذلك الرجل كي أنضمّ إليك أنا أيضاً؟" قالت رنيم بلهفة "لكنني أملك وسيلة مضمونة.. تعالي معي، وسأعيدك لموطنك بالتأكيد.." هزت لؤلؤة رأسها بابتسامة مريرة وقالت "لا أظن ذلك ممكناً.. لم يعد لي مكان هناك، ولا أرغب بتجربة حظي بعد كل تلك السنين.." ثم اتسعت ابتسامتها شيئاً ما مضيفة "ثم إن لي ابنة في هذا المنزل لا يتجاوز عمرها تسع سنوات.. ولا أريدها أن تخوض تجربة كالتي خضتها مع انتقالي من موطني لوطنٍ غريبٍ عني.. هنا هي مواطنة من الكشميت ولها حقوق ويحترمها الجميع.. لكن هناك، ستظل غريبة مكروهة ومنبوذة من الجميع.." نظرت لها رنيم بأسىً، ثم مدت يدها عبر المسافة القصيرة التي تفصل الجدارين وقبضت على يدي لؤلؤة بشدة قائلة "سأظل شاكرة لك يا صديقتي لكل ما قدمته لي.. بودّي لو أعدتك لموطنك، لكن لا يمكنني فعل ذلك رغماً عنك.. لكني سأذكرك على الدوام يا لؤلؤة.." شدّت لؤلؤة على يدها بدورها قائلة "كوني بخير يا صغيرتي.. ولا تخاطري بحياتك فيما لا تقدرين عليه.." لم تعلق رنيم على ذلك وهي تبتسم لها ابتسامة صادقة، ثم استدارت مغادرة من حيث أتت.. هي مغامرة غير محسوبة العواقب حقاً، ولكن مع كاجا فإن الكثير من الصعاب يتم تذليلها بكل سهولة.. ********************* مضت عدة ساعات وآرجان جالس في ذلك السجن بقيد يقيّد يديه متباعدتين في الحائط بحيث لا يمكنه تحريكهما ولا شدهما بعيداً، ولا يقدر حتى على الوقوف.. لا يدري ما يُراد لهم ولا يدري لأي مكان يُساقون.. الحسنة الوحيدة لوصوله لهذا المكان أنه سيعرف، عندما يصل لنهاية الطريق، السبب الذي لأجله اختُطف هو وبقية الهوت.. السبب الذي لأجله لم تعُد جايا لقريتها ولشقيقها بعد هربها من (الزهراء).. كان الجنود، بعد أن سجنوهم في هذا المكان، قد اختفوا في جانب آخر منه مطمئنين أن السجناء لن يقدروا على المقاومة والهرب.. ولم يعبأ أحد بحالهم ولا بالذين فقدوا وعيهم بسبب الضربة القوية التي تلقوها على رؤوسهم في السفينة.. وبينما كان آرجان يقاوم لئلا يفقد وعيه لشدة تعبه، بعد أن أوغل الليل وساد الصمت خارجاً، سمع صوتاً خافتاً يأتي من بعيد.. لم يعبأ للأمر في البدء وهو يشعر بغشاوة سوداء تغطي عينيه بشكل شبه تام.. عاد الصوت يتردد بهمس وانتبه بعد لحظة أنه ينادي باسمه.. فزالت الغشاوة على الفور وحواسه تعود له بقوة وهو يرفع رأسه متطلعاً لمصدر الصوت بدهشة.. كان الصوت خافتاً، لكن أن يسمع نداءً باسمه بصوت أنثوي في هذ المكان المحاط بالجنود، فلابد أن يثير ذلك في نفسه تعجباً كبيراً.. رأى عند مدخل المكان جسداً يغلفه الظلام وهو يتقدم متلفتاً حوله.. ثم لم يلبث أن رآه بشيء من الوضوح عندما اقترب منه، عندها تمكن من رؤية ملامحه رغم الظلام السائد وصدم لدى تعرفه على رنيم التي تسارعت خطواتها نحوه وهي تنادي اسمه بلهفة.. اتسعت عيناه بدهشة يغلب عليها الاستنكار وهو واثقٌ أنه يهذي.. أكانت الضربة التي أصابت رأسه بهذا السوء حتى هيأت له تلك الهلاوس البصرية السمعية العجيبة؟.. ظل على استنكاره حتى وجدها تهبّ إليه فتركع قربه وهي تحيط عنقه بذراعيها وجسدها يرتجف.. لقد فوجئت عند رؤيته بالتغيير الذي أصابه حتى أصبح شخصاً آخر لا يشبه آرجان إلا في الصوت فقط.. لقد نَحِل جسمه وبدت ضلوعه بارزة شيئاً ما.. واختفى البريق من عينيه بينما شحب وجهه وأصبح في حالٍ يرثى لها.. كان قيد يدي آرجان يمنعه من تحريكهما نحو رنيم، فاكتفى بأن أدار وجهه نحوها وهو يقول برفق "هذه عاطفة لم أتوقعها منك بتاتاً.. يبدو أنني فعلاً أرى هلاوس لا يصدقها العقل.." تراجعت رنيم وهي تهمس بعينين دامعتين وصوت متهدج "أنا آسفة يا آرجان.. لم أصدق أنني سأعثر عليك حقاً بعد كل هذا الوقت، لذلك غلبني انفعالي.." ابتسم آرجان وهو يتأمل ملامحها التي تغيّرت عن آخر مرة رآها فيها، وقال "ليس عليك الأسف لهذا.. فلا أسعد مني اليوم برؤيتك يا رنيم.." تخضّب وجهها بشيء من الحمرة وهي تتذكر تساؤلات لؤلؤة لدى رؤية انفعالاتها.. هل سيظن بها آرجان الظنون ذاتها مع تصرفها هذا؟.. نفضت تلك الأفكار وتشاغلت بالنظر لقيد يديه قائلة "علينا إخراجك قبل عودة أحدهم.." واتجهت إلى إحدى يديه محاولة نزع القيد عنها، بينما قال آرجان "كيف تمكنت من الوصول إليّ بعد كل هذا الوقت؟.. بل كيف قطعتِ كل هذه المسافة وحيدة؟" قالت بسرعة "لم أكن وحيدة.. كاجا معي حتى الآن.." غمغم وهو يراقبها "يبدو أن ولاء ذلك الشقي قد أصبح لك أكثر مما هو لي.. فهو لم يأتِ إليّ رغم أنني ناديته مراراً في سهول الأكاشي.." قالت وقد راودها شعور بالذنب "ربما لأنه كان ينقذني من الأكاشي في ذلك الوقت.. لذلك لم يتمكن من اللحاق بك قبل رحيلك على ظهر السفينة.." تساءل بتعجب "كيف تمكنت من التسلل لهذا المكان دون أن يراك الجنود؟" قالت بتوتر وهي تحاول التخلص من أحد قيوده دون فائدة "لقد هبط بي كاجا على سطح هذا المبنى.. وعثرت على سلالم جانبية تؤدي لنافذة علوية تسللت منها لهذا المكان دون أن يقابلني أي جندي.. فهم متجمعون في جانب من هذا المبنى بكل إهمال وهم واثقون من عدم قدرتكم على الفرار وعدم وجود من يمكن أن يفكر بتهريبكم.." ثم نظرت لوجهه المتعب مضيفة "لقد تحايلت كثيراً لأقدر على البقاء في الميناء ومراقبة السفن دون أن أثير الشبهات طوال الأيام الطويلة الماضية.. الحمدلله أن جهودي وانتظاري قد أثمرا في النهاية.." فقال آرجان بابتسامة متعبة "يبدو أنك قضيت أوقاتاً صعبة في هذه المدينة بانتظاري.. وأنا آسف لذلك بالتأكيد.." قالت بتوتر "ليس هذا هو المهم الآن.. خلال وقت قصير سيعود الجنود ويكتشفوا وجودي هنا.. علينا الرحيل بك قبل ذلك.. كاجا ينتظرني في موقع قريب وسأناديه فور أن نخرج من هذا المكان.." قال آرجان بحزم "مهلاً.. لديّ اقتراحٌ أفضل من هذا.." نظرت له بحيرة، فقال "فلتهربي أنتِ.. عودي إلى كاجا وغادري هذا المكان قبل أن يراك أحد.." تساءلت رنيم بحيرة مستنكرة "لماذا؟.. هل تريد مني التخلّي عنك؟" قال بإصرار "لا.. أريدك أن تعاونيني عندما أحتاجك.. ولستُ أحتاجك الآن.. استمعي لما أقوله ونفذيه بسرعة فلا نملك المزيد من الوقت.." استمعت رنيم له بتوتر لا محدود وهو يستطرد "أريدك أن تتبعيني حيث يقتادني الجنود دون أن تلفتي أنظارهم.. وبعد أن نصل لوجهتنا الأخيرة، ويسمع كاجا إشارتي، سيتدخل ويعينني على الفرار من ذلك المكان مع بقية الهوت الذين تمّ أسرهم من قِبَل الكشميت.." قالت باعتراض "لماذا؟.. تريد منهم أخذك للموقع الذي يسجنون فيه الهوت؟.. هذه خطوة خطيرة جداً.. قد لا أتمكن من معرفة موقعك وإنقاذك بها.." قال آرجان بإلحاح "هذا هو السبيل الوحيد لمعرفة سبب كل ما يجري.. أنتِ لديك ميزة تفوّق عليهم بامتلاكك لكاجا.. يمكنك الطيران فوقنا وملاحقة القافلة التي ستحملنا حتى نصل لنهاية الطريق.. ليس هدفهم إبقاؤنا في هذه المدينة وإلا لاصطحبونا إلى موقع أكثر أمناً من هذا الميناء.. إنهم ينتظرون من ينقلنا لموقع آخر، وأغلب ظني أنه في مدينة أخرى.." دمدمت بغير اقتناع وهي تحاول تحريره "هذه خطة غير موثوق بها.. سأحررك، وبعدها يمكننا أن نلحق بأي قافلة أخرى حتى نصل لموقع الهوت السجناء ونحررهم.." قال آرجان "أرجوك يا رنيم.. افعلي ما أطلبه منك.. اهربي قبل قدوم الجنود وقبل أن يتم القبض عليك.." نظرت لوجهه بتوتر وقلق، فقال مشجعاً "ثقي بي.." اعترى الضيق وجهها لكنها لم تعترض وهي تنهض وتتلفت حولها، ثم قالت له "سأثق بك بكل تأكيد.." وغادرت بخطوات خافتة وآرجان يراقبها حتى غابت عبر الباب.. عندها سمع صوت أحد الرجال من الهوت ممن كان مستيقظاً يقول له "أأنت أحمق؟.. كيف تضيّع فرصة نادرة للهرب؟.. لن تحصل على فرصة غيرها أبداً.." قال آرجان زافراً "لم أكن أريدها أن تخاطر ببقائها هنا لوقت أطول، وما من وسيلة لفك قيودنا بالفعل دون مواجهة الجنود.. كما أنني راغب بشدة في معرفة ما يخطط له الكشميت بعد كل هذا.." نظر له الرجل مقطباً باعتراض صريح، فأضاف آرجان "بعدها، يمكننا أن نهرب بمعاونة كاجا.. هذا شيء لن يكون عسيراً على تنين مثله.." أطلق الرجل ضحكة هازئة، بينما لم يعلق آرجان على هذا.. هي بالفعل خطة تحفها المخاطر، لكن هل يمكنه أن يتخذ طريقاً آخر؟.. بعد خروجها من ذلك الموقع، تلفتت رنيم حولها في الممر المؤدي لموقع آخر من ذلك المستودع الواسع، ثم عادت أدراجها من حيث أتت نحو الجانب المعاكس للمخرج.. وعبر ذلك الممر، ومنه خرجت من نافذة جانبية لتجد أمامها عدداً من السلالم التي تؤدي لسقف ذلك المستودع.. فركضت عبرها وهي تتلفت حولها بحذر.. وفي الأعلى، استدعت كاجا بصفير من فمها ليسرع إليها ويهبط على السطح قربها.. زفرت رنيم وهي تنظر للمستودع، والميناء الساكن في ذلك الوقت المتأخر من تلك الليلة، ثم امتطت ظهر كاجا وغادرت بهدوء وصمت مستترة بالظلام السائد كما جاءت.. يبدو أن رحلتها الشاقة لن تنتهي بالسهولة والسرعة التي تمنتها.. ********************* في فجر اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس وتنير السماء، وبينما رنيم قابعة فوق سطح منزل قريب من الميناء دون أن يلاحظها سكان المدينة، رأت الجنود يخرجون السجناء ويقتادونهم لعربات وقفت في جانب ذلك الطريق.. كانت عربتان خشبيتان تقودهما الأحصنة وعليها غطاء قماشي يحجب نور الشمس والأعين الفضولية عنها.. وبعد صعودهم إلى العربة، قام جنديان بالصعود خلفهم مجهزين ببنادقهم، وقام آخران بالصعود في مقدمة كل عربة ليقوداها في تلك الرحلة.. أسرعت رنيم تمتطي ظهر التنين الذي قبع قربها على السطح بسكون، ولما بدأت المركبات بالتحرك وابتعدت في طريقها الذي يقطع المدينة نحو أحد بواباتها، دفعت رنيم التنين للطيران والارتفاع بعيداً عن الأعين مستغلة الظلام السائد قبل شروق الشمس وهي تلاحق القافلة الصغيرة.. وسرعان ما رأتها تنضمّ لعربات أخرى حتى تجاوز عددها التسعة، وإن كان بعضها مكشوفاً ومحملاً بصناديق عدة.. خرجت القافلة من بوابة القلعة الجنوبية دون أن تجد أي عسر في تجاوز الجنود، وبدأت سيرها في تلك السهول المحيطة بالقلعة وعلى طول ذلك اللسان الذي اخترق البحر مكوناً خليجاً ضيقاً استعمرت العاصمة (كاشتار) نهايته.. وبعد سير بطيء والشمس قد ارتفعت وسط السماء، بدأت السهول الخضراء بالانحسار وحلّت محلها مساحات صخرية ورملية عظيمة.. بدت تلك المساحات الصفراء لعيني رنيم أشبه ببحر شاسع من الرمال امتد حتى الأفق.. ولولا حرارة الشمس التي أشعرتها بتعب كبير خلال وقت قصير، لكانت رنيم مستمتعة بما تراه للمرة الأولى في حياتها.. هذه خبرة جديدة تراها في رحلتها العجيبة هذه.. بحر من الرمال.. وقمم ثلجية.. أنهارٌ تخترق جبالاً عصيّة.. ومساحات لا نهائية من المياه المالحة.. لقد رأت تنوعاً كبيراً في الطبيعة من حولها بحيث أنها كلما رأت شيئاً جديداً، عاشت الانبهار ذاته وشعرت أنها لن ترى ما يفوقه روعة.. انتبهت رنيم من تأملاتها على صوت كاجا وتململه بشدة.. بدا يعاني عسراً في الطيران في هذه الحرارة التي تزايدت مع كل ساعة تمضي من هذا النهار.. فهو يعيش في جو أشد برودة من هذا، وقد لا يتحمل جلده الثخين هذه الحرارة القاسية.. كما أن اضطرارهما للحاق بالقافلة دون توقف، على مبعدة لئلا يلفتا الأنظار إليهما، جعل حصولهما على بعض الراحة أمراً صعباً.. أخيراً، عقدت رنيم عزمها فجذبت لجام كاجا ودفعته للتحليق بدورة واسعة بعيداً عن القافلة حتى تجاوزاها بمسافة كبيرة.. عندها سمحت للتنين بالهبوط قرب تشكيلٍ صخري ينتصب وسط الرمال ويلقي بظلٍ في مساحة محدودة قربه.. فور هبوطهم، لجأت رنيم للظل وهي تزفر بشدة، بينما دار كاجا بضيق شديد وهو يزمجر.. ولما اقترب منها صبّت بعض الماء في حلقه من القربة التي تحملها مغمغمة "تحمّل قليلاً يا صاحبي.. ستلتقي بصاحبك بعد قليل بإذن الله تعالى.." لجأ التنين للظل الذي لا يغطي إلا مساحة صغيرة نسبة لارتفاع الشمس في السماء بشكل عمودي، بينما جلست رنيم قربه مستشعرة حرارة الرمال وانعكاس نور الشمس عليها بشكل قوي.. وبعد راحة ساعة أو يزيد قليلاً، عادت مع كاجا للارتفاع والبحث عن القافلة التي لم تتجاوزهم بمسافة كبيرة.. سارت القافلة دون توقف إلا لأوقات قصيرة في كل مرة، متخذة طريقاً بدا واضحاً لعيني رنيم وهو يقطع جانباً من الأرض الصخرية تلك، بينما ارتفعت التلال الرملية في جزء آخر من الصحراء على شكل جبال صغيرة الحجم وهي تبدو من الأعلى كأمواجٍ ثابتة لا تتحرك.. عند نهاية ذلك النهار، انتبهت رنيم في تحليقها لتلك القلعة السوداء التي انتصبت وسط الصحراء وفي جانب صخري منها بحيث تبدو بارزة بشدة مع لونها المعاكس للون الأرض تحتها.. كانت قلعة متوسطة الحجم، من حجارة سوداء وبوابة واحدة هي عبارة عن جسر خشبي مدعم بالحديد يرتفع ليغلق البوابة ويمنع أي هجوم عليها.. ويحيط بالقلعة من الخارج خندق عميق يحوي تشكيلات من الصخور مدببة الأطراف لمنع أي كان من محاولة الوصول لسورها من الخارج.. ورغم ذلك، كان سورها عالياً يتجاوز عشرة أمتار على الأقل، ويحوي خمسة أبراج للمراقبة ترفرف عليها أعلام كشميت الضخمة.. نظرت رنيم للقعلة من بعيد دون أن تجرؤ على الاقتراب مغمغمة "ما بال هذه القلعة الحصينة؟.. إنها غريبة المنظر بشكل يثير في نفسي توجساً كبيراً.." لاحظت أن القافلة قد اقتربت من القلعة وبدأ الجسر الخشبي بالنزول استعداداً لاستقبالها في قلب القلعة.. فدارت رنيم بكاجا على مبعدة ودفعته للنزول على تشكيل صخري يمكنه أن يسمح لها بمراقبة المكان دون أن يكشف وجودها.. ومع الشمس الغاربة التي تلقي بنورها الأحمر على القلعة، ومع الظلال التي تطاولت وهي تمتد لمسافة طويلة، فإن توجس رنيم ازداد أكثر فأكثر وهي صامتة تراقب المكان الذي غرق في صمته بعد أن أغلق الجسر الخشبي بدويٍ هز المكان.. ربتت رنيم على كتف كاجا قائلة "لنسترح يا كاجا.. سننتظر إشارة من آرجان أو سنحاول التسلل بأنفسنا للقلعة هذه الليلة.." ناولته جزءاً من الطعام الذي أحضرته معها تحسباً لأي طارئ، لئلا تقع في نفس الخطأ السابق.. لكن كاجا زمجر باعتراض ثم أقلع بحثاً عن طريدته بنفسه رغم الصحراء القاحلة التي تحيط بهما.. أما رنيم، فقد وقفت بتوتر وهي تراقب القلعة الصامتة دون كلل لوقت طويل.. خشيت أن يحاول آرجان استدعاء كاجا في هذا الوقت، فلا يسمعه كاجا لو ابتعد أكثر من هذا.. عندها، ستضطر للتدخل بنفسها محاولة التسلل وإنقاذ آرجان مع بقية الهوت.. وهي مخاطرة كبيرة لتقوم بها وحدها دون أن تملك خبرة كافية.. ********************* عند وصول القافلة لقلب القلعة السوداء، توقفت وسط الساحة الحجرية الواسعة التي تتوسطها.. كانت تلك القلعة الغريبة تتكون من السور العالي الذي يحيط بالمكان كله، ووسط السور ساحة حجرية واسعة استقرت عربات القافلة فيها، بالإضافة لبئر في جانب المكان يوفر للجنود مصدراً دائماً للمياه العذبة.. وفي بضع جوانب منها رأى آرجان عدداً من المباني متوسطة الارتفاع بعضها لا يتجاوز الطابق وبعضها طابقين أو ثلاثة، وفي جانب آخر عدة أكواخ حجرية بدا أنها تستخدم كمستودعات للقلعة.. هبط الجنود الذين صاحبوهم في هذه الرحلة، واقتادوا الهوت المقيدين عبر الساحة إلى مبنىً جانبي يبدو أكبر من البقية وأكثر اتساعاً.. ظل آرجان يتلفت حوله محاولاً تقدير الوقت الملائم لاستدعاء كاجا حتى يتمكن من الهرب وتهريب بقية الهوت من هذه القلعة.. ما الذي يهدف له الكشميت حقاً من حمل الهوت كل هذه المسافة لموقعٍ ناءٍ مثل هذا؟.. ربما عليه الانتظار حتى يعرف السبب، ربما يمكنهم تفادي مثل هذه الحوادث مستقبلاً لو تمكنوا من معرفة سببها.. وصل بهم الجنود لباب ذلك المبنى الخشبي الذي كان يرتفع ارتفاعاً يتجاوز الأبواب العادية.. كان ذلك المبنى من الداخل عبارة عن مستودع كبير عالي السقف، فارغ من أي أدوات أو معدات أو حتى صناديق وأوعية.. وفي وسط المبنى، رأى آرجان ما صدمه بشدة وجعل حاجبيه يرتفعان بدهشة غامرة.. وكما ندّت أصواتٌ مستنكرة من بقية الهوت، فإن آرجان غمغم بانفعال "ما هذا؟.." ففي وسط ذلك المبنى، رأى الهوت تنيناً بلون أسود والحراشف تغطيه، فمه مدبب ولسانه المشقوق يتدلى منه، بينما جناحاه اللذان يشبهان جناحا الخفاش قد أصيبا بعدد من السجحات والجراح العميقة بسبب محاولاته المتكررة للطيران والإفلات من سجنه على مدى وقت بدا طويلاً لآرجان.. لكن السلاسل الحديدية التي تحيط بعنقه وجسده بشكل محكم لا تمنحه الفرصة لذلك.. أما عينا التنين، فقد كانتا باهتتان وهو مستلقٍ جانباً يصدر صيحاتٍ بصوت ضعيف ويبدو مريضاً بشدة.. مما زاد استنكار آرجان الذي صاح بالجنود القريبين "ما الذي تريدونه من هذا التنين؟.. أنتم ستقتلونه.." سمع صوتاً من خلفه يجيب "أتظن أننا تكبدّنا مشقة إحضاركم لهذا المكان لكي نقوم بقتل هذا التنين؟" التفت آرجان بعد أن سمع تلك الجملة بعربية سيئة جداً، فرأى رجلاً أثار توجسه أكثر من بقية الجنود جميعهم.. كان الرجل، كما هم الكشميت ذوي الدماء الأصيلة، ببشرة بيضاء شاحبة وشعر أشقر يميل للبياض بطول يصل للكتفين وقد سرّحه للوراء بإحكام، وحاجبين شقراوين.. بينما عيناه رماديتان باردتان وفمه رفيعٌ قاسٍ وذقنه مدببة.. ملابسه على النقيض منه سوداء منسدلة كعباءة واسعة تغطي جسده كله، ولا يظهر إلا ذراعاه بقميص أبيض وتزين أصابعه العديد من الخواتم الفضية بالأحجار الكريمة.. اقترب الرجل الذي وقف بقية الجنود باحترام لدى وصوله، فوقف أمام الهوت قائلاً وهو يفرد ذراعيه "أرحب بكم في قلعة (جمجات).. هذه القلعة ستكون موطناً لكم لوقت طويل، وحتى تنتفي حاجتنا إليكم.. وأنا أميركم هنا، لذلك أنتم تدينون لي بالطاعة ما حييتم.." قال أحد رجال الهوت بغلظة "موطننا نعرفه تمام المعرفة، ولا وطن آخر لنا.." قال الأمير بابتسامة "لم يعُد هذا صحيحاً منذ هذه اللحظة.." تساءل آرجان مقطباً "ما هي حاجتكم لنا؟.. وما الذي ستفعلونه بنا بعد حصولكم على ما تريدونه؟" قال الأمير بهدوء "هذا يعتمد على مزاجي عندما يحدث ذلك.. لو كنت أملك مزاجاً رائقاً، فقد أفكر بالإبقاء عليكم.. أما لو كنت بحالٍ أخرى، فلا أحد يدري عندها ما سيجري لكم.." ثم تقدم خطوة منهم قائلاً "والهدف من وجودكم بسيط جداً.. ولا أظنه يستعسر عليكم أبداً.." وأشار خلفه مضيفاً "الهدف الوحيد من وجودكم في هذا المكان هو تطويع هذا التنين.. كل ما نريده من الهوت هو معرفة الطريقة الأفضل لتسخير تلك الكائنات وكسب ولائها غير المشروط.." تزايد استنكار الرجال لهذا الطلب، ثم صاح أحدهم "هذا سُخف.. من قال إننا ننوي إعانتكم على هذا؟" قال الأمير بهدوء "أنا لم أدفع فيكم مالاً لأحصل على هذه الإجابة.." فصاح الرجل بحنق أكبر "ونحن لسنا عبيداً لأحد.." ضحك الأمير وقال "هذا ما قاله من سبقوك إلى هذا المكان.. وها هي أجسادهم تجففها الصحراء في مقابرهم خارج القلعة.." قطب آرجان بشدة وهو يستمع لما قيل.. هذا يفسد الأمور كلها، ويهدم خطته من الأساس.. لو حاول استدعاء كاجا الآن، فهذا سيمنح جنود هذه القلعة وأميرها فرصة ذهبية للحصول على تنين آخر، وسيفقد آرجان تنينه وصاحبه الذي عرفه منذ سنواتٍ طوال.. لذلك فخطته بأن يعتمد على كاجا في الهرب أصبحت مستحيلة التنفيذ.. عليه أن يبحث عن وسيلة أخرى، وأن يهرب هو والبقية دون الاعتماد على التنين.. لكن من قال إن الهرب من هذه القلعة الحصينة وسط الصحراء وفي قلب مملكة كشميت هو أمر سهلٌ ويسير؟.. سمع أحد الرجال يقول بسخرية "هل عجزت مملكة كشميت بكامل علومها أن تسخّر تنيناً واحداً؟.." قال الأمير ببرود وهو يتطلع للتنين المريض "لم يكن تنيناً واحداً.. بل ثلاثة.." نظر له الرجال بصدمة وهو يضيف بابتسامة جانبية "لقد فقدنا اثنان.. وهذا هو الثالث.. ولو لم نحصل على تعاونكم، فلا أظن التنين سيصمد لوقت طويل.. فهو يضعف مع كل يومٍ يمضي عليه هنا.." نظر الهوت للتنين بشيء من الارتياع والأمير يقول "ولا أظن الهوت يحبون رؤية هذه التنانين تقضي نحبها حبيسة القيود.. أليس كذلك؟.. لو تعاونتم معنا، فسيستعيد هذا التنين حريته.. سيبقى في خدمتنا طبعاً، لكن لن تظل القيود تقيّد جناحيه بهذه الصورة.. هذا سيكون أفضل بالنسبة له.. أليس كذلك؟" قال آرجان بحنق "أتظن ذلك حقاً؟.. لن يرضى التنين بخدمتكم، وسيموت بكل حال.. فما الذي ستجنونه من هذه الجريمة التي ترتكبونها بحق الجميع؟" قال الأمير بحزم "لن يحدث ذلك.. قطعاً لن أسمح لهذا المشروع بأن يخسر بسبب عناد تنين أو بضع رجال هم أقرب للرعاع غير المتحضر.. أنتم ستتجاوبون معنا، بإرادتكم أم رغماً عنكم.." وبإشارة من يده، وجد الهوت الجنود يسحبونهم بعيداً عن المبنى وهم يتبعونهم مصدومون لما رأوه.. وفي الساحة، تطلع آرجان للسماء بمزيج الصدمة والقلق.. لقد أصبح الوضع أعقد مما ظنه عليه.. لم يعد الأمر يتضمن تهريب الهوت من قبضة الكشميت، بل تقويض هذه القاعدة التي سخّرها الكشميت لأسر التنانين وتطويعها رغم إرادتها.. وهو أمر لا يرضى الهوت به أبداً ولا يستسلمون له.. لذلك كان عليهم فعل شيء لإيقاف مثل هذا المشروع وصرف نظر الكشميت عن هذه الفكرة.. فكيف يمكنهم ذلك؟.. ********************* مضت ساعات طويلة على رنيم وهي قابعة في موقعها مع كاجا بانتظار أي إشارة من آرجان.. وكلما تحرك التنين فإن رنيم تنظر له بشيء من اللهفة لترى إن كان نداء آرجان قد وصل لأذنيه الحساستين.. لكنه كان يدور في موقعه بتململ في كل مرة ويبحث في القربة المرمية أرضاً عن مياه يطفئ بها عطشه.. ورغم قلقها من نفاذ مخزونهما من المياه، إلا أنها لا تلبث أن تستسلم لطلباته وتسقيه ما تقدر منها محاولة منعه من القضاء على كل ما يملكانه.. وبعد أن قارب الوقت منتصف الليل، دون أن يتحرك كاجا ملبياً أي نداء ودون أن تبدو أي حركة غريبة في القلعة التي غرقت في هدوئها وسط ظلام تلك الليلة، فإن رنيم أخيراً شدّت عزمها على التدخل والاقتراب من القلعة بحثاً عن آرجان بنفسها.. دارت رنيم بالتنين فوق القلعة مستغلة غياب القمر هذه الليلة وإعتامها بشكل شبه تام.. ورغم المشاعل التي أشعلت في جوانب عديدة من المكان، إلا أن تحليقها في موقع مرتفع يمنع الجنود من رؤيتها في الوقت الحالي.. ظلت رنيم تدقق البصر في تفاصيل القلعة من الأعلى مهتدية بضوء المشاعل بحثاً عن وسيلة لاختراقها وإنقاذ آرجان منها.. لكن مع وجود الأبراج في جميع الجهات على السور، يكون من الصعب على رنيم الهبوط وسط الساحة دون أن تلفت الأنظار.. فكيف يمكنها أن تهتدي لموقع آرجان وتسعى لإنقاذه الآن؟.. تمنّت لو يرسل الإشارة المتفق عليها، وهو الصفير الذي يستدعي به كاجا عادة، لكي تعرف موقعه على الأقل.. بعدها يمكنها بكثير من الحظ أن تصل إليه وتخرجه دون خسائر.. فوجئت في تلك اللحظة بكاجا يطلق صيحة عالية، فنظرت إليه وقالت بتوتر "اصمت يا كاجا.. ستكشفنا بسهولة في سكون هذه الليلة.." لكن كاجا الذي دار حول القلعة بسرعة أطلق صيحة مزمجرة أخرى بدا لرنيم أنها أعلى من السابق.. وبينما تلفتت في الأسفل بقلق، لاحظت أن الجنود يبحثون عن مصدر الصوت بدهشة وتحفز.. فقالت "اهدأ يا صاحبي.. ما الذي يقلقك هكذا؟" فوجئت بأن التنين بدأ هبوطه نحو القلعة بسرعة كبيرة، فحاولت جذب لجامه وهي تصيح "ليس الآن يا كاجا.. سيكونون في انتظارنا بعد أن جذبت انتباههم بصياحك.." لكنه لم يعبأ لاعتراضها وهو يهبط بقوة وسرعة، ثم رفرف بجناحيه قبل وصوله للأرض بلحظات حتى خفف سرعته واستقر وسط الساحة بينما تعالى الصياح من حول القلعة.. تسارعت دقات قلب رنيم وهي تشد لجام كاجا وتتلفت حولها بشيء من الذعر.. بينما بدأ الجنود يتجمعون حول الساحة وهم حاملين أسلحتهم بتحفز ومحاصرين التنين.. لقد فوجئت رنيم بعصيان كاجا لأوامرها، ولا تعلم حتى اللحظة ما الذي وتره وجعله يسارع في اقتحام القلعة.. أهذا راجع لاستدعاء آرجان له؟.. حاولت أن تجبره على الطيران من جديد وقلقها يزداد للبنادق التي يحملها الجنود في أيديهم بتحفز وخشيتها من إصابة كاجا.. لكن كما أن كاجا رفض الانصياع لها من جديد، فإن الجنود رغم تحفزهم لم يحاولوا إطلاق النار عليه، كما لم يظهر عليهم رعب مشابه للذي تراه عادة على وجوه البشر لرؤية التنين، بل بدوا بتحفز كامل وكأن وجود التنين أمر طبيعي لا يثير فيهم أي ذرة خوف أو قلق.. غابت دهشة رنيم مع توترها للصياح الذي تعالى بين بعض الجنود وبعضهم يشير بيده، وكأنهم يبحثون عن وسيلة للإطاحة بهذا الدخيل مما أقلقها أكثر.. حاولت دفع التنين للرحيل وهي تصيح به "كاجا.. اهرب قبل أن يصيبوك ببنادقهم.." ومع عصيانه مرة ثالثة، وجدته يضرب الأرض بقدمه ثم يتقدم بخطوات سريعة نحو جانب الساحة حيث بناءٌ أكبر من البقية يحتل جانباً من القلعة.. تدافع الجنود من أمام التنين بينما أطلق كاجا صيحة أخرى هزت جوانب القلعة.. وفي سجنه، كان آرجان يستطيع سماع صوت كاجا بوضوح، فاعتدل متلفتاً حوله رغم قيوده التي تمنعه من الوقوف، بينما قال رجل من الهوت ممن كان سجيناً معه "أهذا صوت تنين؟.." قال آرجان بانفعال "ما الذي أتى بكاجا في هذا الوقت؟.. أنا لم أستدعِه بعد.." تساءل الرجل بدهشة "أهو تنينك؟.. هذا خطير جداً.. إنه في مأزق الآن.." قال آرجان بعصبية "هذا حق.. بعد كل ما رأيته هنا، أدركت الخطورة التي قد تحيق بكاجا لو حاول الاقتراب من هذه القلعة.. لذلك لم ألجأ لاستدعائه حتى الآن.." وجذب قيوده بشدة مدمدماً بحنق "تباً.. وهذه القيود لا يمكن التخلص منها أبداً.." قال الرجل بقلق "ما الذي ستفعله الآن؟.." قال آرجان بتوتر "وما الذي يمكنني فعله؟.. ما الذي سيمنع هذه الكارثة الوشيكة؟.." ورفع بصره للسقف المظلم وهو يدمدم بقلق شديد "لماذا عصيتِ أمري يا رنيم؟.. لماذا؟.." في تلك الأثناء، كانت رنيم تجذب لجام كاجا بشدة وهو يتقدم من ذلك المبنى بإصرار.. ولما أطلق زمجرة حادة تبعتها صيحة شديدة، انتبهت رنيم لصوتٍ آخر يتجاوب مع صياحه.. بدا لها في البدء أنه صدىً لصوت كاجا، ثم أدركت أن الصوت أضعف وأقل حدة، وأنه يصدر من ذلك المبنى بالذات.. اقترب التنين من المبنى غير عابئٍ بالجنود وتحايل لتجاوز جدرانه الخشبية دون فائدة.. ثم استدار جانباً ولطم المبنى بقوة بجسده لطمة كادت تسقط رنيم من على ظهره.. فصاحت وهي تتشبث بالسرج جيداً "ما الذي تفعله أيها الأحمق؟.." لم تعرف السبب الذي لأجله ثار كاجا بهذه الصورة، لكنها أدركت أن آرجان ليس في هذا المبنى.. الصوت الذي سمعته لم يكن يدل على وجوده، بل كان صوتاً مغايراً، صوتاً حيوانياً غريباً.. تراجع كاجا خطوتين ثم عاد يضرب الجدار بجسده بقوة، وفي هذه المرة وجدت رنيم نفسها تطير في الهواء لتسقط على الأرض الحجرية بعنف وجسدها يزحف لمسافة قصيرة قبل أن يسكن تماماً.. أنّت رنيم بألم محاولة الاعتدال وصوت الضربات يدوي من جديد، ثم سمعت خطوات الجنود تركض قربها وتتجاوزها، فاعتدلت رنيم جالسة تتطلع لما يجري.. رأت عدداً لا يقل عن خمس جنود يركضون نحو التنين ليتوزعوا حوله، وكل واحد منهم يحمل بندقية غريبة الشكل بفوهة عريضة.. اتسعت عينا رنيم بذعر بينما لم يلتفت التنين للجنود المحيطين به، وبعدما ضرب الجدار القريب من جديد بعنف، أطلق كل من الجنود طلقة من بندقيته نحو موقع يعلو موقعه لتنطلق قذائف كبيرة الحجم بشكل غريب فتنفجر بشكل محدود.. ومنها، ظهرت شباك رفيعة تلتمع خيوطها على ضوء المشاعل مما أوحى لرنيم أنها مصنوعة من معدنٍ خالص.. ولما فوجئ التنين بالشباك الخمس تسقط على رأسه وتقيد جناحيه، فإنه زمجر بغضب وهو يدور في مكانه ويطوّح يديه ويلف رأسه بقوة محاولاً الخلاص منها، لكن الأمر لم يكن هيّناً كما تصوّر.. وقفت رنيم وقد أدركت هدف الجنود من إلقاء الشباك، واندفعت نحو كاجا محاولة مساعدته للهرب قبل أن ينجحوا في القبض عليه.. لكن أقرب جندي إليها قبض على ذراعيها وأوقف اندفاعها وهو يصيح في وجهها بما لم تفهمه.. حاولت الإفلات وهي تصيح "اتركني.. ما الذي تنوونه لكاجا المسكين؟" لكن الجندي لوى ذراعيها خلف ظهرها بقوة آلمتها وجعلتها تسقط على ركبتيها مرغمة.. ولما رفعت بصرها للتنين الذي صاح بغضب شديد وهياج أشد، فوجئت بأحد الجنود يحمل محقناً كبير الحجم غريب الشكل ويحقن السائل الذي فيه في فخذ كاجا بغفلة منه.. اهتاج كاجا بشدة لما جرى له، وبعد لحظات من الهياج والمقاومة، فإن قدما كاجا قد بدأتا تتعثران وتخبط في وقوفه وهو يطوّح رأسه يميناً ويساراً قبل أن يسقط بدويٍ مرتفع على الأرض الحجرية ويسكن تماماً إلا من أنين خافت يصدر من حلقه.. صاحت رنيم وهي تقاوم الجندي "ما الذي تنوون فعله بالتنين؟.. أطلقوا سراحي.." لكن الجندي الذي لم يفهم قولها قد أنهضها بقوة وجذبها بعيداً نحو مبنىً آخر في الجانب المعاكس من القلعة، وبينما سارت رنيم معه مرغمة فإنها تلفتت خلفها نحو التنين الذي خفتت حركته بشكل تام.. عندها بدأ الجنود بربطه بسلاسل حديدية وسحبه نحو موقع آخر من القلعة لسبب لا تعلمه رنيم ولم تفهم مغزاه أبداً.. وبينما كان الجندي يشدّها خلفه بقوة، فإن رنيم شعرت بقلبها يغوص في صدرها لشدة قلقها على ما سيجري لكاجا، ولشعورها أنها قادت التنين للأسر بيديها الاثنتين وبقلة خبرتها المريعة.. ********************* |
رد: على جناح تنين..
الفصل الرابع عشر: مقبرة جمجات بعد أن اقتيدت رنيم نحو ذلك المبنى في جانب القلعة، أدخلها الجندي إلى غرفة في طابق علوي في المبنى ذات نافذة عريضة تطلّ على الساحة وما حولها.. كان المبنى من الداخل أكثر تطوراً وتحضراً مما بدا عليه من الخارج.. فللمرة الأولى ترى رنيم مصابيح غاز بهذا الشكل المتطور وترى بنادق الجنود الغريبة التي تختلف تمام الاختلاف عن البنادق المعتادة في بقية أرجاء العالم.. لاحظت بضع أشياء دلّتها أن حبّ الكشميت للعلوم والتطوير لم يكونا مجرد ادعاءٍ لا معنى له.. ولما دلفت الغرفة مع الجندي، رأت رجلاً يقف في الجهة التي تحتل النافذة العريضة أغلب ذلك الحائط، وقد أدار لها ظهره مراقباً ما يجري في الساحة بصمت.. وبعد أن تبادل الجندي معه بضع كلمات، فإنه أجبر رنيم على الجلوس على أحد الكراسي وقام بتقييد يديها بقيد حديدي وهي تتلفت حولها بقلق ممتزج بشيء من الفزع.. كيف ستتفاهم مع هؤلاء الكشميت؟.. بل الأسوأ من ذلك، كيف ستتخلص منهم وهم على ما هم فيه من كره للعرب ولمملكة بني فارس بالتحديد؟.. رأت ذلك الرجل يلتفت إليها بصمت ويتأملها بملامح جامدة.. فتأملته رنيم بشيء من التوجس، ثم قالت بحيرة "هل.. هل يعرف شخص هنا العربية؟" ثم دمدمت وهي تتلفت حولها "يا إلهي.. كيف سأتفاهم مع هؤلاء؟.." أتاها صوته يقول ببرود "هؤلاء.. يعرفون من لغتك ما يكفي لطرح هذا السؤال عليك.. ما الذي تفعله عربية في وسط مملكة كشميت وفي قلب قلعة (جمجات) المرهوبة من الجميع؟" نظرت له بدهشة وقد فهمت ما يقوله رغم لغته السيئة، فقالت بتردد "أنا.. أنا لست عربية.. أنا من الهوت.." نظر لها الرجل باشمئزاز قائلاً "وتظنين أنك تستطيعين خداعي؟.. ملامحك البلهاء تدلّ على هويتك بوضوح..كفي عن الكذب وأجيبيني.. ما الذي تفعله فتاة عربية وسط هذه القلعة؟.." ومال تجاهها قائلاً بصرامة "والأهم من ذلك.. ما الذي تفعله فتاة عربية على ظهر تنين؟" تذكرت ما فعله الجنود بالتنين، فقالت بتوسل "ما الذي تنوون فعله بالتنين يا سيد..؟.. أطلقوا سراحه رجاءً.." قال الرجل بأنَفَة "نادني بمولاي الأمير.." ترددت للحظات، ثم قالت "أنتَ لست مولاي ولن تكون.. أيها الأمير.." نظر لها بنظرة جامدة لا تظهر الغضب الذي يشعر به، ثم دار حولها معلقاً "التنانين، كما أعرف، لا تطاوع أي شخص سوى الهوت.. لذلك، كانت صدمتي كبيرة عندما عرفت أنك عربية رغم اختراقك لأسوار القلعة على ظهر ذلك التنين.. فكيف تمكنت من تطويعه؟.. ما الذي فعلته لجعله يغضّ البصر عن هويتك الحقيقية؟.." بدا لها مهتماً لأمر التنين أكثر من اهتمامه بسبب وجودها هنا.. فقالت بتوتر "لن أجيب على سؤال كهذا.. أطلق التنين ودعني أرحل.." قال الأمير بابتسامة ساخرة "المفترض أن تكفّي عن طلبٍ سخيفٍ كهذا.. أظننت أننا سنعتذر لك بكل تحضر ونطلقكما مع تمنياتنا لكما برحلة موفقة؟.." لم تتوقع رنيم هذا، لكنها لم تتردد وهي تقول "رغم ذلك.. لن تحصل مني على أي إجابة.. لذلك إطلاقي خيرٌ من سجني بدون أي فائدة.." نظر لها الأمير ببرود شديد وهي تبادله النظرات متحدية، ثم قال "إن لم أحصل على إجابات لأسئلتي فسأسلمك لرجالي لتقومي بتسليتهم قليلاً.. هذا المعسكر يحوي سبعون جندياً على الأقل.. ستكون أوقاتاً طويلة وممتعة حقاً بالنسبة لك.." صاحت رنيم بحدة "أهذا كل ما يفلح الرجال بفعله؟.. هل تهديدي والتعدّي علي سيريحكم ويمنحكم نوماً هانئاً هذه الليلة؟.." قال الأمير بهدوء "لكي تعرفي أنني لن أتوانى عن فعل أي شيء للحصول على إجابات.. ولا يهمني ما سيجري لك قيد شعرة.." تراجعت رنيم خطوة مقدرة ما ستخسره، فقال لها "ما الذي جاء بك لهذه القلعة بالذات في مثل هذا الوقت؟.. أهو أمرٌ يخصّ الهوت؟.. أم التنين؟.." نظرت له بدهشة واضحة، ثم اندفعت تقول "أنتم تحتجزون تنيناً لديكم.. أليس كذلك؟" ظل على صمته وهو يستمع لها، فقالت بجرأة أكبر "لهذا السبب ثار كاجا وبدأ يضرب جدران ذلك المبنى.. لقد سمعت صوت تنينٍ آخر من ذلك المبنى رغم ضعف صوته.. فكيف وضعتم يدكم عليه؟.. وما السبب الذي لأجله تحتجزونه هنا؟" ثم أضافت باهتمام أكبر "ولهذا السبب أنتم تختطفون الهوت.. أليس كذلك؟" وجدتـه يقـبض على مجمع ملابسها ويرفعها قائلاً بلهجة باردة حملت شيئاً من الاستنكار "هل تستجوبينني؟" نظرت له بتوتر لا محدود، فأطلقها بقوة وهو يقول بصرامة "ما الذي جاء بك للقلعة؟.. أأنت جاسوسة لملك بني فارس؟" قالت بسرعة "لا.. لست كذلك.." ثم بشيء من التردد قالت "لقد أتيت هنا بحثاً عن رجل.." نظر لها الأمير رافعاً حاجباً، فأضافت "اسمه آرجان.. لقد تم اختطافه وبيعه لكم في سهول الأكاشي، وأنا أريد إنقاذه بأي صورة كانت.." مالت شفتا الأمير بابتسامة هازئة وعلق "حقاً؟.. لم أكن أعلم أن من تقف أمامي جندي بأعلى مستوى من مملكة بني فارس.." قالت رنيم بحزم "لست أنتمي لمملكة بني فارس.." قال الأمير بشيء من السخرية "إذن لمن؟.. الهوت؟.." قالت هازة رأسها "لا.. لست أنتمي لأي مملكة.." ورفعت رأسها مضيفة "السماء هي موطني.. ولا وطن آخر لي.." طوّح الأمير رأسه بضحكة فاجأتها متخليّاً عن هدوئه المعتاد، وقال من بين ضحكاته "أتحاولين إقناعي بأنك ملاك؟.. وهل الملاك يقع في الأسر بهذه السهولة؟.." قالت رنيم مقطبة "لست ملاكاً.. إنما أنا فتاة عادية.." قال الأمير بابتسامة ساخرة "فتاة عادية؟.. أنت تذكرينني بفتاة أخرى تصرّ أنها عادية لا تستحق اهتمامنا، ولم تكن نهايتها تسرّ الأنظار.." نظرت له رنيم بفضول وشيء من الدهشة، أهو يعني فتاة من الهوت؟.. إنها لم تعرف إلا فتاة واحدة قبض عليها الكشميت، والتي لأجلها بدأت رنيم رحلتها الغريبة والطويلة هذه.. فتساءلت بشيء من الحذر "هل تعرف فتاة اسمها جايا؟.." رمقها الأمير بنظرة صامتة تخلو من أي انفعال، ثم قال "جايا.. أظنني سمعت اسماً كهذا من قبل.." ظلت رنيم تنظر له بدهشة.. بدا واضحاً أنه يعرف الاسم، ويعرف صاحبته.. فصاحت "هل تعرفها؟.. أين رأيتها؟.. أهي هنا في القلعة؟.." تساءل الأمير بسخرية "هل تبحثين عنها هي أيضاً؟" لم تعلق رنيم وهي تفكر بالأمر مبهوتة.. ربما كان القبض على آرجان واقتياده عبر رحلة طويلة لهذا المكان ليس سيئاً في النهاية.. فهو قاده للموقع الذي سجنت فيه جايا بالذات، وحقق هدفه من هذه الرحلة التي قام بها برفقة رنيم.. علق الأمير بعد صمتها "هذه الفتاة قد قدمت لي خدمة جليلة لن أنساها لها أبداً.." نظرت له رنيم بدهشة، فقال ضاحكاً "لقد سرقت تنيناً كان الملك عبّاد يحتفظ به في سجن خاص في (الزهراء).." تساءلت رنيم بدهشة "(الزهراء)؟.. كيف وصل التنين هناك؟" قال الأمير بسخرية "يبدو أنني لم أكن الوحيد الذي يحاول معرفة طريقة تسخير هذا الحيوانات، بل فكّر الملك عبّاد بالأمر ذاته.. لكن لحماقته فإنه اكتفى بسجن ذلك التنين دون أن يعرف طريقة ملائمة للحصول على ولائه.." ومال تجاه رنيم مضيفاً بشغف "لكني لست أحمقاً مثله.. باستخدام الهوت، يمكنني أن أحكم سيطرتي على هذا التنين وغيره من التنانين ما إن أضع يدي عليها.." قالت رنيم بحدة "لماذا تفعل هذا؟.. لمَ تسعى خلف هذه الكائنات بالذات؟" ضحك الأمير معلقاً "أنت حمقاء أيضاً.. هذا ليس غريباً على عربية.." ثم أضاف ملوحاً بإصبعه "أتعلمين ما الذي يمكن لتنين أن يفعله في هذه الحرب التي لا يستخدم فيها الطرفان إلا قواتهم البرية والبحرية؟.. عندما يمتلك أحد الطرفان قوة جوية، فإنه يملك نقطة تفوق وفرقاً شاسعاً في القدرات، ويعني حسم الحرب هذه بأسرع الطرق وأسهلها.." وقال بابتسامة ظافرة "عندها، تخيّلي ما سيجري لمملكة بني فارس عندما يفاجؤون بسربٍ طائر من التنانين التي تحمل جنود الكشميت بكل عتادهم المتطور.. ستسقط (الزهراء) خلال ساعات معدودة بعد أن صمدت أمامنا لمئات السنوات.. وستصبح مملكة كشميت هي الأقوى في هذا العالم.." شحبت رنيم وهي تفكر فيما يسعى إليه ذلك الأمير المجنون.. رغم اتفاقية السلام الظاهرية بين المملكتين، لا يزال الطرفان يسعيان خلف التفوق واستكمال تلك الحرب رغم كل الخسائر التي حاقت بهم في السابق.. أي متعة يجدها هؤلاء في قتل جنودهم وقتل الأبرياء للحصول على بضعة أميال جديدة تضاف لمملكتهم؟.. أي هناء يشعر به هؤلاء القوم وهم يشعلون محرقة تحرق العدو والحليف في آن واحد؟.. هذا شيء لم تفهمه قط.. أخيراً، بحلق جاف لشدة توترها، تساءلت "ما الذي فعلته بالهوت؟.. ما الذي فعلته بجايا؟" قطب الأمير شيئاً ما قائلاً "الأحرى بك القلق لما سيجري لك بدل القلق لأمر فتاة أخرى.." تساءلت بشيء من التوجس "ما الذي تنوي فعله بي؟.." لم يجبها الأمير وهو يقول "سأمنحك بعض الوقت للتفكير فيما طلبته.. وسأعود لك لأعرف أجوبة أسئلتي.. عليك أن تتوقعي أمراً لا يسرّك لو فكرت بالإصرار على عنادك هذا.." واستدار مغادراً، فزفرت رنيم بحدة وهي تفكر بكل ما جرى.. الآن تدرك أن وجود جايا هنا ليس مستغرباً أو مستنكراً.. فما دام الكشميت يسعون خلف الهوت، لن يكون مستغرباً أن يكون لهم يد فيما جرى لجايا بعد اختفائها من قصر (الزهراء) ومن السفينة التي انطلقت من ميناء (مارِج).. فهل تمكنوا من القبض عليها قبل أن تتمكن من الفرار فعلاً؟.. عليها أن تصل إلى آرجان بأي طريقة، وعليها أن تبلغه بما اكتشفته.. هل سيكون سعيداً بعثوره على جايا في هذا الموقع بالذات؟.. في تلك الأثناء، كان الأمير يهبط درجات القلعة تاركاً سطح الأرض خلفه ومتعمقاً في طابق أرضي من المكان يمتدّ بحجم القلعة ذاتها ولا تنيره إلا بضع مصابيع تعمل بالغاز.. بالإضافة إلى مراوح ضخمة في جانب المكان تؤمن التهوية الملائمة له عبر بضع أنابيب لها فتحات تؤدي للهواء الطلق.. وقد تم حجز جانب من المكان بأبواب معدنية مصمتة وتقسيمها كسجون ضيقة تقطعها ممرات أكثر ضيقاً.. سار الأمير عبر الممر الضيق محاذراً أن تتسخ ملابسه من الجدران الرطبة المكونة لذلك القبو، حتى وقف أمام باب معدني سارع أحد الجنود بفتحه له بصمت ودون سؤال.. فدلف الأمير عبر الغرفة الضيقة حتى وقف أمام فتاة أجبرت على الوقوف بربط ذراعيها بسلسلة مثبتة في جوانب الغرفة بوضعية الطائر، ورأسها متدلٍ على صدرها بصمت في غيبوبة عميقة.. ولما دخل الأمير ووقف أمامها، سارع الجندي للطمها بقوة ليعود لها وعيها.. ولما انتبهت من غيبوبتها ورأت الواقف أمامها، ابتسمت بجانب فمها قائلة "هل عدنا لهذا من جديد؟.. مرحى.." قال الأمير بهدوئه الشهير "وسنعود لهذا كل مرة حتى تخضعين لما نطلبه منك.." غمغمت الفتاة بتعب ورأسها يهوي من جديد دون أن ترفع بصرها "لمَ؟.. لمَ أنا بالذات؟" قال الأمير بابتسامة جانبية "لأنك صاحبة ذلك التنين.. هذا هو السبب الوحيد.." ثم مال تجاهها قائلاً بتشفٍ "هذا هو قدرك.. فهل تملكين الاعتراض عليه؟" لم تجب الفتاة بكلمة ورأسها يهوي على صدرها بصمت.. هل يمكن لأحد تغيير قدره بيديه؟.. ********************* في صباح اليوم التالي، وبعد شروق الشمس بقليل، وجد آرجان من يفك القيد الذي يقيده للحائط ويستعيض عنه بقيد حديدي حول رسغيه.. ثم وجد جندياً من الجنديين اللذين وقفا في زنزانته يجرّه معه خارجاً منها وعبر الدرجات التي تعود بهم لسطح الأرض.. ولما خرج من ذلك المبنى وواجهه نور الشمس القوي، شعر آرجان بألم حارق في عينيه وهو يجد الجندي يجذبه قسراً نحو ذلك المبنى الكبير في جانب الساحة.. وبعد دخوله من باب المبنى، لاحظ وجود ذلك الأمير الذي رآه في اليوم السابق عند قدومه للقلعة.. ورأى التنين ذاته الذي كان حبيساً بالأمس، وهو لم يزددْ إلا ضعفاً ومرضاً في الساعات القليلة الماضية.. الإضافة التي رآها آرجان في هذا الموقع هو كاجا الذي وقف في جانب آخر مقيّدٍ بقيود حديدية أخرى وهو يستعيد وعيه بعد غيبوبة عدة ساعات.. فزفر آرجان بضيق وهو يرى أسوأ توقعاته قد تحقق.. لهذا السبب لم يحاول استدعاء رنيم وكاجا فور دخوله للقلعة.. فلدى رؤيته هذا التنين في سجنه، ومعرفته بمَ يهدف إليه الكشميت من اختطاف الهوت، فإنه أدرك الخطورة التي تحيق بكاجا لو دخل بنفسه لهذه القلعة التي لن يضيّع جنودها فرصة ذهبية كهذه للحصول على تنين آخر.. ولما واجهه الأمير، قال آرجان بحدة "أين الفتاة؟" ابتسم الأمير بجانب فمه معلقاً "إذن أنت هو بالفعل.. أنت من تبحث عنه الفتاة.." واستدار إلى كاجا مضيفاً "وأنت صاحب هذا التنين.." لم يجب آرجان وهو عاقد حاجبيه، بينما أطلق كاجا صيحة متألمة وهو يحاول الإفلات من قيوده التي تتغلغل في جسده بقوة كلما حاول المقاومة أكثر.. فقال الأمير "ألا تتمنى إطلاق سراحك وسراح هذا التنين؟.. سأطلق سراح الهوت جميعاً، لو أنك قد أبلغتني بكل ما أريد معرفته عن هذه التنانين.." قال آرجان بجفاء "لن أتحدث حتى أرى الفتاة.. أين هي؟" مال الأمير نحوه قائلاً "أتظن أنك تستطيع إجبارنا على الانصياع لك؟.." كرر آرجان بتأكيد "لن أتحدث ما لم أرَ الفتاة.." قال الأمير بهزة من رأسه "لا بأس.. هذا مطلبٌ عادل.." وجده آرجان يتقدم منه فيمد يده ويقبض على رأسه بقوة، وضغط بأصابعه أسفل جفنيه بشكل مؤلم قائلاً بصرامة "سأحضر الفتاة، لكن في البدء سأخلصك من عينيك حتى لا تراها البتة.." قال آرجان بحزم "إذاً لن تحصل مني على كلمة.." قال الأمير وهو يتراجع خطوة "إذن أنت لن تخضع للتهديد.." واستدار فارداً ذراعيه قائلاً "حقاً.. ما الذي سيجبرك، أو يجبر بني قومك، على الاستجابة لطلباتي؟.. لم يتحلّى شعبك، مع التنانين، بهذا العناد الذي لم أرَ مثله من قبل؟.." ونظر لآرجان مضيفاً "أنتم شعبٌ أناني.. لمَ يجب على التنانين أن تطيع الهوت فقط ولا تطيع أحداً غيرهم؟.. ما الجريمة التي سنرتكبها باستخدام هذه الكائنات المذهلة؟.." قال آرجان مقطباً "نحن لم نختر التنانين، بل هي من اختارنا.." التمعت عينا الأمير وهو يقول "حقاً؟.. وكيف فعلت ذلك؟.. أهناك وسيلة أو خطوات معينة لحدوث ذلك؟" قال آرجان بسخرية "تظن أنني سأجيبك بكل بساطة؟.." أجاب الأمير بابتسامة "قطعاً لا.. لكن ماذا عن الفتاة؟" وبنظرة للخلف، فإن آرجان استدار بدوره ينظر خلفه ليجد جندياً يتقدم منه دافعاً رنيم أمامه مقيدة اليدين.. تقدم آرجان خطوة نحوها وهي تنظر له بعينين متسعتين، لكن الجندي القريب أوقف آرجان رغماً عنه والأمير يقول "وجود هذه الفتاة سيصبّ في صالحي حتماً.. فهي لم تكتفِ بإحضار تنين جديد لي، لكنها منحتني فرصة للضغط عليك بصورة أفضل من أي وسيلة للتعذيب.." هتف آرجان بحنق "الفتاة لا تعرف أي شيء عما تريد معرفته.." قال الأمير بابتسامة متسعة "لكن أنت تعرف.. أليس كذلك؟" قاد الجندي رنيم للموقع الذي ربط فيه كاجا والذي استمر بمحاولته للتخلص من قيوده.. عندها، قام بربط يدي رنيم خلفها في أحد الأعمدة الخشبية التي تنتصب وسط المبنى.. بينما قال الأمير "هذا التنين لم يحضَ بأي طعام منذ الليلة الماضية.. فحتى متى يمكنه الصمود على جوعه ذاك؟.. ولو طغت عليه حاسته الحيوانية، هل سيلتهم الفتاة التي كانت يطيعها بالأمس، أم أنه سيصبر على جوعه لأمدٍ غير مسمّى؟.." نظرت رنيم بشيء من القلق لوجه كاجا الثائر والغضب العارم في عينيه.. كان، في تلك اللحظة، يبدو لها مخيفاً كما كان في المرات القليلة التي رأته يفقد التحكم بنفسه فيها.. لكنها نوعاً ما تشبثت بأملٍ صغير بأنه لن يفعل ذلك.. هل لها أن تثق بعلاقتها بالتنين بحيث تسلّمه حياتها وهي آمنة؟.. سمعت آرجان يقول للأمير بغضب "أخبرتك أن الفتاة لا ذنب لها.. ضعني مكانها لو كنت تريد اختبار فكرتك هذه.." نظر الأمير للموقف بابتسامة جانبية معلقاً "هل تقول هذا لأنك غير واثقٍ أن التنين سيقاوم جوعه ذاك؟.. إذن يمكننا أن نصبر قليلاً ونرى ما سيحدث لحيوانك الأليف هذا.." استدارت رنيم إلى آرجان صائحة بانفعال وهي تحاول تخليص نفسها من قيودها "آرجان.. جايا.. جايا هنا.." اتسعت عينا آرجان بصدمة ورنيم تصيح "جايا حبيسة في هذه القلعة.." بهت آرجان لوقت طويل وكلماتها لا تكاد تصل لعقله، بينما ضحك الأمير معلقاً "أهذا الرجل يبحث عن الفتاة أيضاً؟.. هذا ممتع.. ربما سأضعها في مواجهة هذا التنين هي الأخرى.. ولنرَ من منكما سيختار لتكون وجبته الأولى.." فوجئ بآرجان يغافل الجندي القريب ويقفز عليه فيسقطه أرضاً وهو يجثم على صدره.. فأمسك عنقه بشدة رغم قيود يديه وهو يقول بغضب "أين جايا؟.. ما الذي فعلتموه بها؟.." ابتسم الأمير بجانب فمه بصمت، بينما تلقى آرجان ضربة على جانب رأسه بقوة رمته أرضاً وسط شهقات رنيم المذعورة.. وبينما صمّ كاجا آذانهم بصياحه المهتاج، فإن الجندي لم يتوقف عن ضرب وركل آرجان الذي لم يتمكن من مقاومته بسبب الدوار الذي ألمّ به.. ثم سحبه الجندي بخشونة نحو جانب المكان فقيّد يديه بدوره في أحد العوارض الخشبية والأمير ينفض ملابسه قائلاً "تعجبني هذه الجرأة التي تتحلّون بها عند قدومكم لهذه القلعة.." رفع آرجان بصره بتعب للأمير الذي أضاف وهو يحدق فيه "ويعجبني أكثر رؤية تلك الجرأة وذلك العناد يتهاويان على يديّ.." غمغم آرجان "تباً لك من حقير.." ابتسم الأمير بجانب فمه، بينما لم يتردد الجندي في ركل آرجان على وجهه ركلة مؤلمة.. ولمدة ساعة تقريباً، جلس الأمير في جانب المكان يتأمل بشغف واضح الضربات واللكمات التي تصيب آرجان من الجندي حتى أصيب الجندي بتعبٍ بالغ، بينم ظل آرجان على صمته وهو يلهث بشدة.. فصاحت رنيم المرتعبة التي أجبرت على رؤية كل ما جرى "أهذه وسيلة لاستجواب سجنائك؟.. هل تنوي قتلهم قبل الحصول على أي كلمة منهم؟" قال الأمير وهو يسترخي في موقعه "لم يكن هذا استجواباً.. بل عقاباً له على تجرؤه لمسي.. وليشكرني لأنني لم آمر بقطع يديه هاتين لما اقترفتاه بحقي.." ظلت رنيم تستمع له بارتياع وهي تنقل بصرها بين آرجان الصامت وبين كاجا الذي كان لا يفتأ يحاول تحرير نفسه.. بينما قال الجندي للأمير "يبدو أنه فقد وعيه لشدة الضرب.. هل أوقظه ببعض الماء البارد؟" قال الأمير باشمئزاز "لا.. لن أضيّع وقتي معه.. سأرى إن كان سيتحدث بعد أن يشاهد حيوانه الأليف يلتهم رفيقته.. عندها أشك أن يكون أكثر عناداً مما هو الآن.." ونهض نافضاً ملابسه، ثم استدار مغادراً المكان وهو يقول للجندي "ليبقَ جندي حراسة خارج هذا المكان طوال الوقت.. ولتخبرني فور هجوم التنين على الفتاة بلا إبطاء.." سارع الجندي ليفتح للأمير باب المستودع، ثم يغلقه بعد أن يغادره تاركاً المكان يغرق في ظلام جزئيٍ إلا من بعض النور الذي تسمح نوافذه العلوية بمروره.. تلفتت رنيم حولها بيأس وهي تحاول التخلص من قيودها، ثم صاحت "آرجان.. هل أنت بخير؟.. تحدث إليّ أرجوك.." سمعته يزفر قبل أن يقول بصوت خافت "لا تقلقي.. أنا بخير.." قالت وعيناها مغرورقتان بالدموع "كيف يمكنك أن تقول هذا بعد كل ما جرى؟.." عاد آرجان يزفر للحظات، ثم رفع وجهه بالكدمات التي ظهرت واضحة عليه وسألها "كيف علمتِ بأمر جايا؟.." أجابت "لقد أخبرني الأمير أنها سرقت هذا التنين من (الزهراء)، ثم تمكن الكشميت من القبض عليها وعلى التنين وإحضارها إلى هنا.." نظر آرجان للتنين بدهشة وغمغم "أهذا هو الكنز الذي تحدثت عنه تلك الملكة؟.. ذاك الملك وهذا الأمير.. ما الممتع في تعذيب هذه الحيوانات البائسة؟.. تباً لهم.." تساءلت رنيم وهي ترمق التنين "ما سبب تشبثهم بهذا التنين رغم مرضه؟" قال آرجان زافراً "لا أظنه مريضاً إلا بسبب هذه القيود.. التنانين تبغض الأسر والقيود، ولو لم تتمكن من الإفلات من سجنها فإنها تمرض وتضعف مع امتناعها عن تناول الطعام والشراب حتى تموت.. حريتها أهم بالنسبة لها من حياتها ذاتها.." نظرت رنيم للتنين المريض بإشفاق وهي تدرك شعوره تمام الإدراك.. ألم تكن تشعر بالأمر ذاته وهي في سجنها المزخرف ذاك؟.. ثم سمعت آرجان يتسائل بشيء من اللهفة "هل رأيتها؟.. كيف هي؟" فهمت أنه يعني جايا، فهزت رأسها قائلة "لم أرها.. فقد احتفظ بي الأمير في مبنىً آخر ولم أرَ أحداً من الهوت.." خفض آرجان رأسه بشيء من اليأس، وقال "لو كانت موجودة حقاً، فكيف سيكون حالها مع هذا الرجل المجنون؟.. كيف سأراها؟.. بل كيف سأنقذها؟.. نحن في أسوأ حالٍ ممكن في هذه القلعة.." صمتت رنيم دون أن تخبره بما قاله الأمير في نهاية جملته.. لقد قال إن مصير الفتاة لم يكن أمراً يسرّ الأبصار.. فهل يعني ذلك أنها قد قضت نحبها؟.. تفزعها هذه الفكرة، وما قد يشعر به آرجان لو علم ذلك حقاً.. لذلك فضّلت الاحتفاظ بهذه المعلومة لنفسها حالياً وهي تجاهد بإصرار للتخلص من قيودها بأي شكل كان.. بينما التزم آرجان الصمت بتعبٍ شديدٍ وهو يفكر في أمر جايا.. وبينما سكن التنين الضعيف أسود اللون بشكل شبه تام، فإن كاجا قد استسلم لتعبه بدوره وهو يسقط جانباً ويلهث بقوة وقد بدأت بعض السجحات تظهر على جناحيه مع شدة جذبه لهما للتخلص من قيوده المعدنية.. قالت رنيم وهي تراقب تعب التنين "اهدأ يا كاجا.. هيجانك هذا سيزيد من تعبك وألمك وجوعك.. عليك أن تحتفظ بطاقتك حتى نتمكن من إخراجك من هذه القلعة.." سمعت آرجان يعلق دون أن يرفع بصره "كاجا لن يلتهمك.. فلا تخشي شيئاً.." لم تكن خائفة من هذا الأمر، لكنها علقت رغماً عنها بتوتر "لقد حاول كاجا التهام صبي على إحدى الجزر التي مررنا بها لما عجز عن تجاوز جوعه.." قال آرجان بإصرار "كاجا لن يفعل.. أنا أثق به.. وعليك أن تثقي به أنت أيضاً.." ظلت رنيم تنظر للتنين الذي أخذ يلهث بشدة.. ودّت لو كانت طليقة لتربت على عنقه وتمسح على رأسه.. لو كانت قادرة على إطلاقه من سجنه الذي يبغضه بشدة كما بدا من هيجانه.. لكنهم بحاجة لمعجزة كبيرة ليطلقوا أنفسهم من هذا الأسر.. ولا يمكنها أبداً أن تعوّل على المعجزات في المحنة التي هي فيها الآن.. ********************* مع قرب ذلك المساء، ومع تطاول الساعات على رنيم وآرجان اللذين أنهكهما التعب والقيود التي تغلّ أيديهما، ومع الجوع والعطش الذي استبدّ بهما، فإن الصمت كان يخيّم عليهما بشكل كامل.. ومع اقتراب الشمس من مغيبها، رأت رنيم كاجا ينهض بعسر وغضب وهو يطلق صيحة حانقة ويشدّ السلسلة التي تقيد عنقه للعارضة الخشبية خلفه بقوة دون فائدة.. ظلت رنيم تراقب الهياج الذي كان فيه وهو يطوّح ذيله يميناً ويساراً بحنق شديد، وهي مدركة أن الجوع قد استبد به فوق طاقته.. ولما التفت إليها، ورأت الغضب الشديد في عينيه، فإن رجفة أصابت جسدها رغماً عنها.. من قال إن التنين لا يأكل البشر عندما يستبدّ به الجوع الشديد؟.. لم تكن ترى في عيني كاجا أي تعقل أو لطف مما عهدته سابقاً، بل كانت عيناه الخضراوان تلتمعان بجوعٍ حيواني وهو يزمجر بقوة تهزّ أرجاء المكان ولعابه يسيل من شدقيه.. اتسعت عينا رنيم وهي تنظر لثورته غير المتعقلة، وهمست بارتجافة "كاجا........" لم تكن عينا كاجا طبيعيتان.. كانتا أقرب لطبيعته الحيوانية مما عهدته طوال حياتها.. لذلك، لم يكن صعباً عليها تخيّل ما قد يفعله التنين الهائج الذي تضوّر جوعاً لساعات طوال بها وهي وسيلته الوحيدة لسدّ ذلك الجوع.. رأته ينقضّ عليها بسرعة مما أفزعها وهي تغمض عينيها بشدة، بينما هتف آرجان بقوة "لا تفعل يا كاجا.." تردد صدى صوته في المكان الخالي، بينما غاص قلب رنيم في ضلوعها لشدة الفزع.. لكنها شعرت بهزة قوية تهز العمود الذي قيّدت إليه وترجّها بقوة، ولما فتحت عينيها متوجسة رأت كاجا ينشب أنيابه في العمود الخشبي ويشدّه بقوة.. كرر ما يفعله عدة مرات وهو يقضم العمود بكل ما أوتي من قوة ويجذبه بيده ورنيم تراقبه مذهولة.. وبينما زفر آرجان بشيء من الراحة لما رأى ما يفعله كاجا، فإن الأخير لم يتوقف عما يفعله حتى بدأ العمود يتهشم تحت أنيابه الحادة، ولم يطُل به الوقت حتى انفصل عن جزئه العلوي ورنيم تجد نفسها تسقط أرضاً مع الجزء المهشم من العمود وهي تطلق صيحة متألمة.. وبسرعة، حاولت تمالك نفسها وهي تنهض وجذبت قيودها عبر العمود الخشبي حتى أخرجت القيد من الجزء المهشم وغَدَت حرة بشكل جزئي، وإن لم تتمكن من الخلاص من القيود التي تقيّد يديها بشكل كامل.. سمعت التنين يزوم بألم ورأت الدماء تسيل من شدقيه ممتزجة بلعابه، لكنه لم يلمسها وهو يمسح رأسه بذراعيها.. فقالت رنيم متنهدة وهي تمسح الدماء عن فكيه "شكراً لك يا كاجا.. وعذراً لما سببناه لك من شقاء.." سمعت آرجان يصيح بها وهو يتلفت خلفه "يبدو أن بعض الجنود قادمين بسبب هذه الأصوات العالية.. عليكِ استغلال هذه الفرصة.." لم تدرِ رنيم ما عليها فعله، لكن كل ما دار بذهنها أنها لن تسمح للجنود بأن يعيدوها للقيود من جديد.. تناولت أقرب أداة معدنية يمكنها استخدامها كسلاح مرتجل، وركضت نحو الباب وهي تسأل آرجان بقلق "هل يمكننا إغلاق هذا الباب حتى نخلّص كاجا من أسره؟" أجاب آرجان "أظن ذلك.. عليك أن........" وجدا الباب يفتح وأحد الجنود يدخل المبنى متفحصاً ما جرى فيه، ويبدو أنه لم يتوقع رؤية الفتاة طليقة إذ بقي واقفاً مشدوهاً للحظة كانت كافية لرنيم القريبة لترفع الأداة في يدها وتعاجله بضربة قوية على رأسه بكل ما تملك.. سقط الجندي متألماً بينما صاح آرجان "اجذبيه نحوي.. عليكِ بإغلاق الباب قبل قدوم المزيد منهم.." استغلت رنيم سقوط الجندي فسحبته من مجمع ثيابه بأقوى ما تستطيع نحو آرجان القريب دون أن تدري من أين واتتها القوة لفعل ذلك.. وقبل أن تصل إليه فوجئت بالجندي يقبض على يديها بقوة وهو يدمدم بغضب شديد.. وحاول الاعتدال ورنيم تجذب يدها لتحاول ضربه من جديد، لكنه لم يكد يعتدل حتى فوجئ بركلة قوية من آرجان الذي كان خلفه أسقطته أرضاً ليفقد وعيه هذه المرة.. ظلت رنيم واقفة ودقات قلبها متسارعة، بينما صاح بها آرجان "الباب يا رنيم.." استدارت على الفور وعادت للباب فأغلقته، وبنظرة إليه أدركت أنه يغلق باستخدام عارضة خشبية توضع على رأسين حديديين ثبتا في جانبي الباب فيمنع من كان خارجه من فتح الباب مهما حاول.. فحملت العارضة بشيء من المشقة ودفعتها لتسقط في موقعها وهي تلهث بشدة.. ولم تكد تفعل حتى وجدت الباب يهتز بقوة وطرقات تضربه من الخارج من بقية الجنود.. تلفتت رنيم حولها، ثم تقدمت من الجندي فاقد الوعي وفتشت جيوبه بسرعة.. لقد خمّنت أنه المسؤول عن مراقبتهما لأنه كان الأسرع في الوصول إليهما من البقية، لذلك لابد أنه يحتفظ بمفاتيح تلك الأقفال معه.. وبالفعل حصلت على سلسلة بها بضع مفاتيح، فهرعت لآرجان وبحثت عن المفتاح الملائم حتى استطاعت أن تفك قيوده التي سقطت أرضاً مصدرةً صوتاً عالياً.. قال آرجان وهو يفرك يديه "علينا أن نحرر كاجا والتنين الآخر.. ثم نبحث عن جايا بأسرع ما نستطيع.." تساءلت رنيم وهو يفك قيد يديها بدوره "أين سجنك الجنود مع بقية الرجال؟.." أجابها بسرعة "هناك سجون كاملة تحت سطح الأرض، في قبوٍ كبير بدا أنه يحتل مساحة تقارب مساحة هذه القلعة.. لذلك لا أشك أن جايا ستكون هناك، لو كانت هنا فعلاً.." هرع إلى كاجا الذي وقف متململاً بضيق شديد، ولما حاول إطلاق سراحه اكتشف أن القيود التي تقيّده لا يمكن فتحها بالمفاتيح، بل يجب أن يتم خلعها من العارضة الخشبية ذاتها.. ظل الطرق على الباب يتزايد بينما تلفت آرجان حوله بحثاً عن وسيلة لتحرير كاجا، ولما عثر على فأسٍ خشبية مرماة في جانب المبنى مع بضع أدواتٍ أخرى، أسرع يحملها ويعود للعارضة قائلاً "سيستغرق هذا بعض الوقت.. أتمنى أن يعيق الباب المغلق بقية الجنود عن اقتحام المكان.." نظرت رنيم للباب بقلق، بينما حاول آرجان خلع القيد الذي يقيد كاجا بضربات من الفأس في يده.. ورغم الألم الذي ينتشر في جسده كله بسبب ذلك الجندي، لكن آرجان حاول ما بوسعه إحكام ضرباته واستنفار عضلاته للتخلص من القيود بأسرع ما يمكنه.. بينما تعالت الضربات القوية من الباب والجنود يحاولون الدخول للمبنى دون نجاح كبير.. نظرت رنيم للتنين الآخر الذي ظل ساكناً مدة طويلة رغم أن عيناه مفتوحتان وهو يلهث بخفوت شديد.. فتساءلت رنيم بإشفاق "ما الذي سنفعله بالتنين الآخر؟" قال آرجان عابساً وهو يكمل عمله "سنفعل ما يجب فعله.." كان جوابه مبهماً بشدة، فتقدمت رنيم من التنين الذي التزم بالصمت وهو يراقبها بعينيه اللتين خبتت لمعتهما كثيراً وبدا بأسوأ حالٍ ممكن.. وقفت رنيم على بعد مترٍ واحد وهي تتأمله بإشفاق، ثم اقتربت بخفوت لئلا تثير غضبه وهي تهمس "أيها التنين الجميل.. أأنت بخير؟" مدّت يدها وربتت على خطمه، فبدا أضعف من أن يعترض على ذلك.. وسرعان ما لمس العطف الذي تحمله لمساتها الحانية وهي تقول بخفوت "علينا أن نرحل من هنا.. هل تقدر على النهوض أيها الكائن الرائع؟" سمعته يئن بألم شديد ويغمض عينيه بصمت، فقالت رنيم لآرجان بارتباك "ما الذي حلّ به؟.. إنه لا يفتح عينيه.." لم يجبها آرجان وهو مستمر بعمله حتى تمكن من إحداث شقٍ على شيء من الاتساع في العارضة مرقت منها السلسلة التي تقيّد كاجا، فسحبها بسرعة وقام بتحرير التنين بشكل تام ليجده ينتفض بقوة وهو يرفرف بجناحيه في المكان الضيق.. عندها هرع آرجان عائداً للجندي واستلّ خنجراً كان موجوداً في جرابٍ في حزامه، ثم عاد إلى رنيم التي قالت بقلق شديد "كيف سنتمكن من تحرير هذا التنين وهو بهذه الحالة؟.. هل يستطيع كاجا نقله بعيداً؟" غمغم آرجان مقطباً وهو يتأمل التنين "محال.." سمعا الباب خلفهما يتهشم بقوة للضربات التي تلقاها، وبدأ الجنود يتدافعون في المبنى بغضب شديد.. لكن كاجا الذي قاسى من حبسه طوال الساعات الماضية بالإضافة لتجويعه، لم يتأنّ في الانتقام من الجنود وهو يصيح فيهم غاضباً ويتقدم منهم بسرعة ليلتقط أحد الجنود بفكيه ويرميه عالياً خارج المبنى.. وبينما تلقى بعض الجنود ضربات بيده وأخرى بذيله الطويل، فإن رنيم قالت بانفعال "كيف سنهرب الآن؟" لم يجبها آرجان وهو يمسح على رأس التنين الذي يعلو صدره ويهبط بأنفاس ضعيفة.. ثم غمغم بلغة الهوت "سامحني يا صاحبي.. من العسير إنقاذك بعد كل هذا.." ولما التفتت رنيم إليه، وجدته يقترب من صدر التنين فيرفع خنجره عالياً، وبضربة قوية أخمد الخنجر في صدر التنين حتى نصله بينما انتفض التنين بعنف دون أن يملك القوة للدفاع عن نفسه.. شهقت رنيم بذعر لذلك المنظر وهي ترى الدماء التي انبثقت من الجرح فلطخت التنين وآرجان بقوة قبل أن يسكن جسد التنين الذي لم يطلق أنيناً واحداً طوال تلك اللحظات.. غطت رنيم فمها بكفيها وهي تنظر للتنين القتيل بارتعاب، بينما مسح آرجان الدم عن وجهه ويديه وهو يستعيد خنجره ويغمغم "لنرحل.." همست رنيم بعينين دامعتين "كيف أمكنك فعل ذلك؟" نظر لها بصمت للحظات ثم قال "كان هذا خيراً له مما هو فيه.." رغم رده الجامد، إلا أنها تمكنت من رؤية الأسى واضحاً في عينيه.. فلم تعلق وهي تعرف ما يعنيه التنين بالنسبة للهوت.. أسرع آرجان نحو الباب حيث كاجا يشق طريقه بين الجنود الذين حاولوا عدم إصابته ببنادقهم لئلا يطالهم غضب الأمير، ولما رأى البنادق ذات الفوهة العريضة بأيدي الجنود، صاح بكاجا "ارتفع عالياً يا كاجا.." قام التنين الذكي بما طلبه منه صاحبه وهو يرفرف بقوة ويرتفع بسرعة خاطفة ليتجاوز المبنى وأسوار القلعة بينما حاول الجنود إسقاطه بشباكهم دون أن يفلحوا بذلك.. ولم يلبث أن عاد لهم بعد أن اتخذ دورة سريعة في الهواء ليضرب مجموعة منهم جانباً بينما قام آخرون بتعبئة بنادقهم بقذائف جديدة تمهيداً لإسقاطه بها.. تلفت آرجان حوله بتوتر مستغلاً انشغال الجنود بكاجا وخوفهم من غضب الأمير لو تمكن من الفرار بالفعل.. كان وجود الجنود قرب الباب يمنعهما من الخروج منه دون أن يسقطا في أيديهم، ثم وجدته رنيم يتناول مشعلاً معلقاً قرب الباب ويعود به إلى مجموعة صناديق وبعض القش الذي وضع جانباً.. فألقى المشعل فيه وتراجع خطوات والنار تلتهم القش وتتعاظم بسرعة لا تصدق.. نظرت له رنيم بدهشة وتساءلت بقلق "لمَ تفعل هذا؟.. كيف سنهرب الآن؟" أجابها وهو يتراجع خطوات "لنترك الجنود ينشغلون بأمر هذه النار.. ونحن سنهرب من طريق آخر.." جذبها خلفه وهو يعود لقلب المبنى، وهناك لاحظت رنيم تلك النوافذ التي تقع في موقعٍ مرتفع من حائط المبنى الخشبي.. لم تكن النوافذ مغلقة بل كانت عليها قطعتان خشبيتان متقاطعتان يمكن تهشيمهما بسهولة.. رأت آرجان يقترب من الحائط بحثاً عن طريقه للصعود للنافذة، فقالت بقلق "أنا لن أستطيع صعود هذا الحائط يا آرجان.." تلفت حوله معلقاً "لا تقلقي.." راقبت رنيم النار التي اشتدّت بقوة، وصياح الجنود المتعالي خارجاً بعد أن التهمت النيران جانباً كبيراً من هذا المبنى المصنوع من الأخشاب الجافة سريعة الاشتعال.. ثم لاحظت أن آرجان حمل أحد القيود المعدنية ذات السلسلة الطويلة والتي كانت تقيّد كاجا، ثم لفّها حول ذراعه وبدأ صعود المبنى معتمداً على العوارض الخشبية وكل جزء يسهّل عليه تثبيت قدميه أثناء الصعود.. ظلت رنيم تقلب بصرها بينه وبين النار والجنود بقلق، ثم وجدته بعد مشقة يصل للنافذة فيدفع قبضته بضربة قوية تلتها أخرى حتى استطاع تهشيم الخشب الذي يسدّ النافذة، عندها تطلع للخارج محاولاً معرفة الوسيلة الأمثل للنزول دون أن يخاطرا بنفسيهما.. سمع رنيم تقول بقلق "أسرع يا آرجان.." عندها، دلّى السلسلة المعدنية بالقيد في نهايتها نحو رنيم قائلاً "تشبثي بهذه وسأرفعك.." قالت بعينين متسعتين "هذا مستحيل.. سأكون ثقيلة جداً عليك.. ألن تسقط مع مجهود كهذا؟" قال وهو يجلس على النافذة ويلفّ الجانب الآخر من السلسلة حول ساعده "لا تقلقي.. سأبذل جهدي لئلا أفعل.." بعد شيء من التردد، تقدمت رنيم من السلسلة وتشبثت بها جيداً بيديها، عندها قام آرجان برفعها وهو يسحب السلسلة بذراعيه شيئاً فشيئاً ورنيم تراقبه بقلق كبير.. لكن آرجان استمر بعمله وهو يرفعها بكل ما يملك عندما فوجئ بذلك الجندي الذي ركض إلى رنيم وشدّها من ساقها بقوة.. أفلتت رنيم السلسلة بسبب المفاجأة وسقطت أرضاً بعنف، فصاحت بألم وهي تحاول ركل الجندي بقوة، لكنه جذبها معه وهو يصيح بآرجان بعصبية بلغته.. نظر آرجان للموقف بتوتر، بينما هتفت رنيم به "ارحل يا آرجان.. ارحل واستعد جايا قبل أن يقبضوا عليك مجدداً.." نظر آرجان للنافذة القريبة، ونظر لرنيم بصمت.. بالفعل هذه هي فرصته الوحيدة لاستعادة جايا قبل أن يمنعه الجنود.. فهل يمكنه أن يفعل؟.. هل يترك رنيم وهو لا يعلم إن كان سيقدر على الوصول إليها من جديد؟.. سمعها تصيح بإلحاح "ارحل يا آرجان.." ظل الجندي يسحبها مبتعداً وهو يلوّح لآرجان بتهديدٍ واضح، لكن آرجان شدّ عزمه وانسلّ من النافذة بصمت ليهرب من المبنى، بينما رنيم تراقبه بمزيج الراحة وشيء قليل من الإحباط.. ربما كانت في دخيلة نفسها تتمنى لو عاد لها.. تتمنى لو تعرف أنه يهتم بها بقدرٍ كافٍ لئلا يتركها في أيدي الجنود، بعد أن قطعت نصف العالم بحثاً عنه دون يأس.. ********************* |
رد: على جناح تنين..
بهذا.. يبقى لنا الفصل الأخير وفصلان إضافيان كذلك..
ونكون قد أنهينا هذه الرواية بإذن الله |
رد: على جناح تنين..
يا الله
فصلين مؤثرين كتير حزنت كتير ع تفرقهم مرة تانية بس عندي امل انه ينقذ جايا معه ويرجع لرنيم ولو اني اتخيل هاﻷمير المعتوه ما رح يرحمها ورح يفرغ احباطه فيها مسكينة رنيم شو منتظرها كمان ؟!! يسلمو ايديك كل ما لي بتعلق بروايتك اكتر تقبلي مروري وخالص ودي «اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي» |
الساعة الآن 01:01 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية