رد: على جناح تنين..
سلمت يداك شكرا على البارتين واكيد رنيم حياتها مابتكون ورديه بس ماتوقعت يلي وصلوله لدرجه يظطرو ياكلو قلب بشر شخصيه ارجان حبيتها شهم وعنده حكمه بس الله يعينه على رقه رنيم وتهورها لانه حيقاسي كثير ليحميها في انتظارك حبيبتي
|
رد: على جناح تنين..
لا تخشي شيئاً يا عزيزتي فيت
ستكون هذه القبائل هي أقسى ما ستمر به رنيم في رحلتها هذه (ربما؟) يسعدني أن تكوني متعاطفة مع آرجان ^ــ^ فهو بالفعل طيب رغم أنه يتعامل مع الأمور بطريقة قاسية نوعاً ما وبعد نهاية الفصل السابق، سنرى إن كان آرجان هو من سيحمي رنيم أم أن الأمور ستنقلب على رأسها بالفعل |
رد: على جناح تنين..
الفصل الحادي عشر: طوقا وما خلفها عندما فتح آرجان عينيه، بعد مدة طويلة قضاها في غيبوبة بعد تلك الضربة التي أصابت رأسه، لاحظ على الفور القيود التي تغلّ يديه وقدميه بإحكام، بينما تم وضعه في عربة خشبية تجرها بعض الأحصنة بالإضافة لأمتعة وصناديق عديدة بحيث لا تمنحه إلا جزءاً ضئيلاً ليجلس فيه.. نظر آرجان لما حوله بشيء من الدهشة، ملاحظاً أن تلك العربة كانت جزءاً من قافلة متوسطة الحجم تسير على طريق من الطرق التجارية التي تقطع سهول الأكاشي.. ظل بصدمة لما يراه وهو يحاول تذكر ما جرى له.. لقد كان على وشك الانتهاء من غسل جسده من الدماء التي غمرته، والآن هو مقيدٌ في عربة خشبية بجذعٍ عارٍ ورأسٍ مضمدٍ بإهمال وصداعٍ شديد.. فما الذي جرى؟.. وأين رنيم؟.. أين رنيم؟.. تململ محاولاً التخلص من قيوده وشيء من التوجس يملأ صدره، عندما سمع صوتاً مرحاً يقول "هل استيقظت أخيراً يا زعيم؟.." التفت لمصدر الصوت ليرى ذلك المدعو باكين يسير قرب العربة على ظهر حصانه وهو يضيف "جيد أنك قضيت الوقت كله نائماً، فلم أكن أرغب بأي متاعب.. نحن على وشك الوصول لوجهتنا، وعندها سأتخلص منك كما ستتخلص مني بالتأكيد.." فقال آرجان بحدة "ما معنى هذا؟" قال باكين بابتسامة ساخرة "معناه أنني اختطفتك من المخيم وأنت الآن على بعد عدة أميال منه.. ولديك موعد هام مع قدرك، وقدري، في ميناء (طوقا).." صاح آرجان "لماذا؟.. ما هدفك من هذا كله؟.. وأين الفتاة؟" أجاب باكين ضاحكاً "الفتاة؟.. لا تزال في المخيم مع جماعة الأكاشي اللطيفة تلك.. وبعد اختفائك، فإن طائلة ذلك ستقع عليها هي.. فلا تقلق لشأنها بتاتاً.." أصاب آرجان غضب شديد لما يسمعه وارتياع لكل ما جرى.. لكن مهما حاول التخلص من قيوده فإن جهوده باءت بالفشل.. فقد تم مدّ ذراعيه متعاكستان على جذعه، وربطهما بحبل قوي يحيط بجسده من الخلف، بينما قيّدت قدماه بإحكام بحيث لا يقدر على تحريكهما أبداً.. فكفّ عن المقاومة التي تنهكه وهو يفكر بوجهتهم.. لمَ فعل هذا الرجل ما فعل؟.. ولمَ يذهب به لذلك الميناء؟.. لو كان يريد قتله لفعل ذلك في المخيم.. فما الداعي لاصطحابه هذه المسافة كلها؟.. سمع باكين يعلق على نظرات القلق التي تبدت في عينيه "لا تتعب نفسك بالتفكير.. ستعرف كل شيء خلال ساعة على الأكثر.." ولكز حصانه ليتقدم من قائد تلك القافلة ويحثه على الإسراع في سيره.. بينما زفر آرجان وهو يرفع بصره بمرارة شديدة للسماء فوقه، وللسهول التي امتدت حولهم على امتداد البصر.. ترى، ما الذي جرى لرنيم الآن؟.. وأي مصير تواجهه في هذه اللحظات دون أن يتمكن من العودة إليها بأي شكل من الأشكال؟.. ********************* عندما بدأت رنيم رحلاتها هذه، كانت تدرك أن الحياة لن تكون جميلة وسلسة كما كانت في قصر أبيها.. كانت تدرك أن الشقاء والبؤس قد يعكران صفوها، وكانت واثقة أنها ستعاني الكثير لتمضي الأيام دون أن تهزمها المصائب.. لكن ما حملها لاتخاذ هذه الخطوة، هو وجود آرجان كعونٍ لها، ووجود كاجا كوسيلة أكثر أمناً للترحال بعيداً عن المخاطر على الأرض.. لكنها في أيام معدودة فقدت هذين الإثنين، وأصبحت بلا حماية وبلا معين فيما تواجهه.. وما تواجهه الآن قد يكون أقسى من أي شيء تخيلته في حياتها، هذا لو بقيت على قيد الحياة بعدها.. فلا تزال الجثث التي افترشت الأرض في موقع غير بعيد عن هذا المكان حاضرة في ذهنها في تلك اللحظة.. وفي تلك الخيمة التي منحتها الأمان والدفء لليلة واحدة، ووسط جمع من الرجال خبيثي الشكل والرائحة والأفكار، وفي اللحظة التي التقت عينا رنيم بقالان، أدركت أنه لن يكون في عونها أبداً.. العبوس الواضح في ملامحه يخبرهـا بمدى غضبه لاختفاء آرجان، وصمتـه لما قاله الرجـال بدا موافقة ضمنية لهذه الاقتراحات.. لذلك لم تتأخر رنيم ثانية في اتخاذ التصرف الوحيد للنجاة من هذا الموقف، إذ استدارت ورفعت جانب الخيمة خلفها وانسلت منها بأسرع ما تستطيع قبل أن يفطن أي من الرجال لما تفعله.. وبينما أطلقت ساقيها بالركض وسط المخيم، سمعت الصياح الذي اندلع من الخيمة، وأدركت أنهم سيكونون على إثرها في لحظات معدودة.. لكن أين يمكنها الهرب في مخيم مفتوح كهذا؟.. وجّهت نفسها نحو الحل الأمثل، وهو مربط الخيول الواقع في جانب المكان، لكن كيف ستهرب بإحداها وهي لا تملك القدرة على امتطائها؟.. هل يشبه ركوب التنانين ركوب الخيول بأي شكل من الأشكال؟.. لم تملك ترف البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة وهي تسمع الصياح يتعالى من خلفها والأقدام تدك الأرض بشدة.. وبعد برهة قصيرة وجدت تلك اليد التي شدتها من ملابسها غير عابئة بصراخها وأسقطتها أرضاً بعنف، وظهر أمامها وجه أحد الرجال وهو يصيح بابتسامة وحشية "لديك الصفاقة الكافية للهرب يا ضئيلة.." شعرت رنيم بقلبها يقفز عند حلقها لقوة دقاته وهي تنظر للرجل بعينين متسعتين، ثم حاولت أن تركله أو تعضه لتهرب قبل وصول آخرين، لكنه صفعها بقوة وثبتها في موقعها بيد واحدة.. ثم وجدت عدداً آخر من الرجال يحيط بها والأيدي تمتد إليها بلا تمييز.. انكمشت رنيم بذعر مميت وهي تحاول المقاومة وتسمع أحد الرجال يقول ضاحكاً "ليت ذلك الجبان هنا ليشهد ما يحل بامرأته.. ستكون رؤية انفعالاته ممتعة حقاً.." قال آخر "أيها الأحمق، لو كان مهتماً بها لما هرب وتركها.." دوّت كلمته في رأس رنيم وهي منكمشة على نفسها وقلبها يكاد يتوقف من الذعر والدموع تطفر من عينيها.. ومن بين صراخها المذعور، ومن بين الضحكات المقيتة، سمعت صرخة ذعر جمّدت الرجال من حولها للحظات ودفعت رنيم لتفتح عينيها بقلب واجف.. فكان كل ما رأته، من بين جمع الرجال من حولها، هو جسد أحد الرجال الذي طار في الهواء ليرتمي جانباً.. وبينما التفت الآخرون لما حولهم بدهشة، فوجئوا بآخر يرتفع عالياً مطلقاً صيحة مرتعبة قبل أن يطير بدوره أمتاراً عدة ويسقط أرضاً بكل عنف.. التفتت رنيم، كما فعل الرجال، لذلك الظل الذي هيمن عليهم، عندها فوجئوا برؤية ذلك التنين أبيض اللون الذي أطلق صيحة مزمجرة في وجوههم وهو يضرب رجلاً بيده ذات المخالب ويلطم آخر بذيله بعيداً.. تصايح الرجال بذعر لمرأى التنين الذي لم يروا مثله في تلك الأنحاء، وسرعان ما انفضّ الجمع من حولها والرجال يتراكضون مبتعدين بحثاً عن أسلحتهم.. عندها لم تكذب رنيم خبراً وهي تقفز واقفة وتندفع نحو التنين الهائج بساقين ترتجفان وقلبها يدق بقوة.. لم تصدق أن النجدة ستأتيها في لحظة يائسة كهذه، ولم تصدق أنها ستكون عبر كاجا الذي ظنت أنها لن تراه مرة أخرى.. أطلق التنين صيحة غاضبة أخرى نحو الأكاشي المتجمدين برعب لم يشهدوه من قبل، ومما زاد ذهولهم رؤية رنيم التي اندفعت نحو التنين غير عابئة بصياحه، فأسرعت تمتطيه بشيء من الجهد قبل أن تربت على عنقه وهي تقول "يكفي هذا يا كاجا.. لنرحل.." كان الأكاشي قد تمالكوا أنفسهم بعد أن أدركوا نيّة رنيم للهرب، وتقدم بعضهم حاملاً سيفاً وهو يطلق صيحة قتالية.. لكن التنين ارتفع بقفزة واحدة وأثار الغبار في الموقع بجناحيه قبل أن ينطلق بسرعة مرتفعاً في السماء.. أطلقت رنيم زفرة قوية وهي لا تكاد تملك جسدها من الارتجاف.. كيف يمكنها أن تتناسى موقفاً قاسياً كالذي مرت به؟.. كيف تنسى ما شعرت به في اللحظات القصيرة تلك من ذعر ورجفة وخوف؟.. نظرت للمخيّم الذي بدا صغيراً وتافهاً من الأعلى.. لم تكن تعرف كم تبدو المشاكل هينة تافهة من بعيد، وكم تبدو الأرض جميلة سهلة من الأعلى.. لكن الاقتراب منها يظهر قسوتها وعسر تضاريسها وقسوة أهلها وظلمهم لبعضهم البعض.. ندت منها التفاتة لجانب المخيّم فرأت قالان يقف منعزلاً عن البقية الذين تجمهروا في الوسط يراقبون ذلك التنين الطائر بدهشة وتعجب.. فتذكرت رنيم ذلك الحديث الذي سمعته خلسة من مخبئها في جانب المخيّم في أول ليلة لها فيه.. عندها ربّتت رنيم على عنق التنين قائلة "بقدر سروري لعودتك حيّاً يا كاجا، بقدر ما أنا متوجسة من اختفاء رفيقك المفاجئ.. ويبدو أننا يجب أن نتصرف وحدنا للعثور عليه.. لذلك أتمنى أن تطيعني لو كنت تفهمني حقاً يا صديقي.." وفي المخيم، حيث الرجال يراقبون التنين الطائر، صاح أحدهم وهو يشير إليه "إنه يعود.. حاذروا.." قال آخر "لابد أن الفتاة ستحاول الانتقام منا لما فعلناه.. لكن، كيف يمكنها أن تتحكم بهذا التنين بهذه الطريقة؟" هتف آخر وهو يلتفت حوله "ليناولني أحدكم سهماً وقوساً.. سأسقط هذا الشرس بضربة واحدة.." لكن التنين مرق من فوقهم بسرعة متجهاً لجانب المخيم على ارتفاع منخفض.. وقبل أن يتدارك قالان الأمر، فوجئ بالتنين يمرّ به بسرعة خاطفة، ومخالبه تنغرز في كتفيه ليجد نفسه ينجذب بعنف ويرتفع عالياً والمخيم يتضاءل من تحته بسرعة.. صرخ قالان بألم وذعر لم يملكه وهو يجد ساقيه معلقتان في الهواء بينما المخالب الحادة تثير في كتفيه آلاماً لا تصدق.. وبينما خلّف التنين مخيم الأكاشي خلفه وهو يرتفع شاقاً السماء بكل سلاسة، فإن رنيم صاحت لقالان بصوت عالٍ ليصل صوتها إليه من بين صراخه "استمع إليّ.. أريدك أن تخبرني بما جرى لآرجان.. ما الذي فعلتم به؟" قال قالان متألماً "لو كنا نعلم ما جرى له لما استجوبناك.. أأنت تفعلين هذا انتقاماً منا؟" قالت مقطبة "أنا لا أحب الانتقام ولا أسعى إليه.. أريد معرفة ما تعلمه عن آرجان.. والكذب لن يفيدك.. لقد سمعت حوارك مع ذلك المدعو باكين.. لقد كنتما تخططان لفعل حقير، فلا داعي للإنكار الآن.." صاح قالان وهو يتشبث بقدمي التنين بذراعيه للتخفيف من آلامه "لست أدري عن هذا شيئاً، ولست أفقه ما تتحدثين عنه.." عندها قالت رنيم بحزم "يمكنني أن أطلب من التنين إفلاتك من هذا الارتفاع.. صدقني لن يكون هذا شعوراً محبباً للنفس.." نظر قالان للأرض بذعر وهو يتشبث أكثر بالتنين صائحاً "حتى لو أخبرتك بما جرى له، فأنت ستلجئين للانتقام مني بالتأكيد.." قالت رنيم بسرعة "أخبرتك أنني لا أحب هذه الفكرة.. لك كلمة مني أنك ستهبط على الأرض بسلام بعد أن أعرف ما جرى لآرجان.." ثم تساءلت بشيء من التردد وكثير من القلق "هل.... هل قتلته؟.." قال قالان بسرعة "لا.. لم أفعل ذلك.. لن أستفيد شيئاً من قتله بغفلة من الآخرين.." ثم أضاف وهو ينظر للأرض "أطلبي من التنين الهبوط أرضاً.. يكاد كتفاي ينخلعا بمخالبه القاسية هذه.." ربتت رنيم على ظهر التنين لتهدئته، ثم جذبت العنان لتقوده للهبوط في موقع بعيد عن المخيم.. وعند اقترابهم من الأرض، أفلت التنين قالان الذي سقط أرضاً والدماء تتصبب من موضع الإصابة في كتفيه، بينما هبط التنين على شيء من المبعدة عنه ورنيم تظل في موقعها على ظهره استعداداً للهرب به في أي لحظة.. لم تكن تأمن قالان حتى وهو جريح وبعيد عنها، فربما كان ينتوي خداعها بهبوطهم أرضاً.. فقالت له وهو يعتدل جالساً بألم واضح "حاذر من خداعي.. هذا التنين قادرٌ على فصل رأسك من جسدك بلحظة خاطفة.. والآن أخبرني أين آرجان.. ما الذي فعلت به؟" أجاب قالان وهو حائر في كيفية إيقاف الدماء المتصببة من جرحي كتفيه "هل سمعتِ عن الكشميت؟.." قالت رنيم "ومن لا يعرفهم؟.. هذه مملكة أكبر من أن تكون مجهولة.." قال وهو يعبس لشدة الألم "لا أعني المملكة هذه، لكني أعني بعض جواسيس الكشميت اللذين انتشروا في هذه السهول وفي أجزاء أخرى من الممالك القريبة.. لقد دأبوا منذ عدد من الشهور على البحث عن الهوت وبذل الكثير من الأموال لمن يقبض على رجل منهم.." تذكرت رنيم حكاية ذلك الرجل الذي هرب من الأسر في خليج (مارِج)، فتساءلت بدهشة "لمَ الهوت بالذات؟.." أجابها "لا أحد يعلم الجواب، وهم لا يفصحون عن السبب أبداً.. مطالبهم هي القبض على أي رجل من الهوت ونقله لميناء (طوقا) أو (مارِج) بسرية ودون أن يشعر ملك بني فارس بأي شيء، ومن هناك يرحل بسفينة من سفنهم متخفية كسفينة بضائع ولا نعلم ما يجري له بعدها شيئاً.." علقت رنيم "لكن قرى الهوت معروفة وليس صعباً الوصول إليها، فلمَ اللجوء لهذه الأساليب؟.. وما هدفها؟.." قال قالان وهو يحاول الوقوف بعسر "وقوع قرى الهوت في الجانب البعيد من القارة ووسط تضاريس طبيعية عسيرة يجعل من الصعب التسلل إليها دون لفت الانتباه.. كما أن من الصعوبة بمكان اختطاف أحدهم من قريته ومواجهة رجال القرية مجتمعين لما عُرِف عنهم من بأس شديد وبسالة كبيرة.. كما أن الهوت لا يغادرون قراهم ولا يخالطون بقية الشعوب إلا فيما ندر.. لذلك تدركين أي فرصة أتيحت لي بوجود هذا الرجل بعيداً عن قريته ووحيداً.. لذلك لم أتردد في استغلالها عندما تيسّر لي الأمر.." أنهى جملته وهو يطوّح ذراعه بقوة بخنجر في يده، لكن رنيم التي لاحظت يده المتسللة بين طيات ثيابه سعياً وراء الخنجر كانت قد دفعت التنين للقفز قبلها بلحظة.. فوجد قالان خنجره ينغرس أرضاً بينما انقض التنين عليه وجثم على صدره بعد أن رماه أرضاً.. زمجر التنين بحدة ولعابه يسيل على وجه قالان المرتعب، فقالت رنيم مقطبة "لا تحاول هذا مرة أخرى.. لقد حذرتك.." عبس قالان وهو يشعر بألم مضاعف في صدره من ثقل التنين ومخالبه التي تخدشه، بينما قالت رنيم بصرامة "هل قمتَ ببيع آرجان؟.. لمَ الآن دوناً عن باقي الأيام؟.. ولمَ لمْ تفعل هذا منذ البدء؟.." أجاب قالان بعسر شديد في التنفس بسبب ثقل التنين عليه "في البدء خشيت من غضب كابور، والذي سيستلب الأموال لنفسه ولن يمنحنا شيئاً منها، ولم يكن التخلص من الزعيم بشيء يسير عليّ.. أما رجل الهوت هذا، فقد قدّم لي عوناً كبيراً بتخلصه من كابور، وباختفائه، يغدو وصولي لزعامة الأكاشي ميسّراً وسهلاً جداً.." كانت رنيم تشعر بالضيق مع كل كلمة يقولها قالان، لكنها كتمت غيظها وهو يضيف لاهثاً "لقد أخذته قافلة معها إلى (طوقا).. وخلال بضع ساعات سيبلغ ميناءها ويتم تسليمه لجواسيس الكشميت ومن ثم ترحيله عبر إحدى سفنهم المتخفية، بينما نحصل نحن على الأموال من الكشميت.." تساءلت بتقطيبة "وأين (طوقا) هذه؟" أجابها قالان مشيراً بيده "في الجنوب من هذه السهول.." زفرت رنيم مقطبة، ثم لكزت بطن التنين الذي أطاعها على الفور وهو يرتفع بقفزة كبيرة تاركاً قالان ملقى على الأرض العشبية يلهث بشدة والعرق يغمره ممتزجاً بدمائه.. انطلقت رنيم بالتنين في السماء وقلبها يخفق بقوة وتسارع.. لم يمضِ على نومها هذه الليلة سوى ساعات قليلة، لكنها استيقظت لتجد أن كل شيء قد تغيّر بضربة واحدة.. آرجان اختفى، والأكاشي حاولوا الانتقام منها والتعدّي عليها، ولم ينقذها إلا عودة كاجا بعد أن نجا بمعجزة ما، والآن هي تسعى خلف القافلة التي اختطفت آرجان لمقايضته بما يملكه الكشميت من أموال.. فكيف حدث هذا كله؟.. نظرت للتنين الذي بدا لعينيها منهكاً ولم يتعافَ بعد مما أصابه، فمسحت على جسده قائلة بعطف "حمداً لله على عودتك يا كاجا.. ما الذي فعلته لتنجو من ذلك السم؟.. أم أنه لم يكن كافياً لقتل حيوان ضخم مثلك؟.." أصدر التنين صوتاً خفيفاً من حلقه تجاوباً معها وهو يرفرف بجناحيه بقوة، بينما تذكرت رنيم ما قرأته في بعض الكتب عن تصرف الحيوانات عند تعرضها للتسمم بواسطة بعض النباتات الطبيعية السامة.. فمنها ما يلجأ لمضغ أعشاب تحمل دواءً واقياً في جذورها أو أوراقها، ومنها ما يكثر من شرب المياه المالحة مثل مياه البحار أو الينابيع التي يتركز فيها الملح بشكل كبير، وتقيؤ ما تناوله من سموم عن طريق الفم.. فهل تفعل التنانين الأمر ذاته؟.. هذا لحسن حظها بالتأكيد.. نظرت رنيم للأفق المظلم بصمت وتنهيدة طويلة.. كان افتراقها عن آرجان متوقعاً منذ بداية الرحلة.. لكن لم تتوقعه بهذه السرعة وقبل أن تحقق الهدف المرجو منها.. وبالأخص قبل أن تتأقلم رنيم على العيش وحيدة ودون حماية ورعاية.. لكن هل يمكن لرنيم أن تصمد وحيدة في هذا العالم دون وجود كاجا لجوارها على الأقل؟.. يبدو هذا عسيراً جداً بالنظر لكونها فتاة.. فحياة الفتاة، دون عون ودون حماية، قاسية جداً.. أقسى مما تخيلته في حياتها كلها.. ********************* لم يمضِ الكثير على استيقاظ آرجان عندما وصلت القافلة لمدينة (طوقا)، والتي اتسعت على مساحة واسعة من جانب السهول التي تنتهي بمنحدر صخري حادٍ نحو الخليج الواسع التي تطلّ عليه.. وفي وسط ذلك المنحدر، انخفضت الأرض لتشكل سهلاً على شيء من الاتساع احتلته المدينة بشكل كامل واستخدمت الموقع الذي يصل السهل بالبحر كميناء حيوي يعدّ من أشهر الموانئ في الجانب الشمالي الغربي للقارة.. وقبل أن تجتاز القافلة طرقات المدينة، اقترب باكين من آرجان قائلاً بانزعاج واضح "ألن تكف عن هذا الصفير المستمر؟.. لقد أصبتني بصداع.." قال آرجان وهو ينظر للسماء دون أن يلتفت إليه "وهل عليّ أن أهتم حقاً بجعل حياتك سلسةً رائعة؟" وعاد يطلق صفيراً حاداً طويلاً.. فلطمه باكين بشدة على رأسه قائلاً "ما رأيك بالصداع الذي ينتج عن ضربة على رأسك الجريحة هذه؟.. هذا ما أسميه أمراً ممتعاً.." لم يتفوه آرجان بحرف وهو يقطب بشدة.. كان قيده المحكم يمنعه من الرد على ذلك الرجل بما يناسب أفعاله، وبحثه عن كاجا الذي استمر لمدة طويلة وهو يناديه بصفير حاد لم يثمر أي نتيجة أبداً.. كان يحاول التشبث بأي أمل أن يكون كاجا قد عاد بحثاً عنه، وعندها لن يفوته سماع ذلك الصفير بأذنيه الحادتين المرهفتين.. لكن ربما كان آرجان يتشبث بأملٍ واهٍ جداً.. بدأت القافلة تتفرق في طرقات المدينة، وبدأت العربة التي تحمل آرجان تسير شاقة طريقاً مستقيماً نحو الميناء في الجانب الآخر منها.. لم يكن منظر آرجان يثير أي تعجب في المدينة التي اعتادت رؤية العبيد والجواري أثناء نقلهم من وإلى السفن ونحو جوانب أخرى من هذه القارة.. لذلك سارت العربة بكل سلاسة حتى وصلت للميناء ووقفت في جانبه القصيّ.. عندها قفز باكين من على ظهر حصانه وتقدم من رجل يقف جانباً فتبادل معه حديثاً والابتسامة تشيع على وجهه.. تقدم الرجل من آرجان وتأمله باهتمام، بينما قال باكين "كما ترى.. هو من الهوت بلا جدال.. ملامحه لا يمكن إنكارها.." فقال الرجل وهو يرمي بصرّة ثقيلة نحو باكين "حسناً.. هذا يوم سعدك ولا شك.." تحسس باكين الصرة بشغف وهو يزنها بيده، ثم قال ملوحاً لآرجان "استمتع بوقتك يا زعيم.. كان لي الشرف بخدمتك بإخلاص.." وأطلق ضحكة على النكتة التي ألقاها وهو يمتطي حصانه من جديد مغادراً الميناء دون إبطاء.. فوجد آرجان أن الرجل القريب يشير لرجلين آخرين لإنزاله وهو يقول له "يحسن بك أن تكون مطيعاً.. لا أريد أن تتلقى ضربة جديدة على رأسك.. قد لا يشتريك أحد عندها.." قال آرجان بحدة مقطباً "لماذا يريد الكشميت شراء الهوت بالذات؟" تلفت الرجل على الفور حوله بتوتر، ثم قال لآرجان بحنق وهو يقبض على خنجر في يده "أتريد أن أقطع لسانك يا هذا؟.. كف عن الحديث واستسلم لما نطلبه منك.. لم ندفع تلك الأموال الطائلة فيك لنرميك في عمق البحر بعدها.." جذب الرجلان آرجان بعد أن فكا قدميه، فحاول آرجان الإفلات منهما وهو يدفع قدمه بركلة لأحدهما في بطنه، ثم ارتطم بكتفه بالآخر وهو يستدير ليركض في الاتجاه المعاكس.. لكن الضربة التي أصابته في رأسه من جديد أسقطته أرضاً بعنف ودوار قوي يغلف وعيه، بينما حمله الرجلان من ذراعيه المقيدتين وسحباه على الرصيف وفوق الجسر الذي يؤدي بهم إلى ظهر تلك السفينة.. وهناك، رأى رجلاً غريب الهيئة في هذه البقاع وقد وقف وسط السفينة وقال بلكنة شديدة السوء "أهذا هو الأخير؟" أجاب الرجل الذي اشترى آرجان "بلى.. لا أظننا سنعثر على آخر في وقت قريب.." فقال الرجل الغريب يلقي بصرتين متضخمتين نحو الرجل "هذا نظير خدماتك.. عليك أن تحتفظ بما تعرفه سراً، وسنعود للتعامل معك مرة أخرى.." أخذ الرجل يلهج بالشكر العميق وهو يختطف الصرتين، ثم أسرع لمغادرة السفينة بينما قال الغريب للبحارة القريبين وهو يعود لغرفته "فلننطلق بالسفينة حالاً.." وجد آرجان نفسه، دون مقاومة، يُحمل إلى قاع السفينة دون أن يفك أحد قيد يديه.. وهناك، رمي في أسفل السفينة في قفص حديدي بدا مهيأً ليكون محبسه طوال تلك الرحلة التي لا يعلم كم ستطول بالتحديد.. وبعد رحيل الرجلين، اعتدل آرجان زافراً بحدة وهو يلمس مؤخرة رأسه ليجد المزيد من الدماء قد بدأت تسيل من موضع جرحه السابق.. قطع الصمت صوت مفاجئ يقول "أأنت بخير؟" التفت جانباً بدهشة متعاظمة، بعد أن أدرك أن السؤال قيل بلغة الهوت التي لا يعرفها سواهم.. وعلى الضوء الخافت الذي يتسلل من كوّة علوية في المكان، أمكنه رؤية بضع أقفاص أخرى صفّت بين صناديق البضائع متفاوتة الأحجام.. وفي تلك الأقفاص، رأى عدداً من الرجال لا يتجاوزون الخمس، وهو سادسهم.. ومن ملامحهم التي لا يمكن إغفالها تيقن أنهم ينتمون للهوت، وإن لم يكونوا من قريته بل من قرىً أخرى.. اعتدل آرجان جالساً ببعض الدوار وتساءل بلغة الهوت "كيف قبضوا عليكم؟.. وكم عددكم حقاً؟.." قال الرجل الأقرب إليه "كل منا له حكاية مختلفة.. أنا قبض عليّ بخديعة من أحد التجار الذين أتعامل معهم لصالح قريتنا.. ماذا عنك أنت؟.." زفر آرجان بضيق وقصّ عليهم حكايته بكلمات سريعة.. فعلق أحدهم "الفتاة التي تبحث عنها.. جايا.. هل اختفت بالطريقة ذاتها؟.." هز رأسه إيجاباً، فقال آخر بحنق "لقد دأبوا على نعتنا بأبشع الأوصاف وتوارثوا كرهنا جيلاً بعد جيل.. والآن يعاملونـنا بكل حقارة ويختطفون فتياتنا ويبيعوننا كالعبيد.. فمن هو الأشبه بتلك النعوت والأوصاف؟.." علق آخر "قولك لن يغيّر من واقعنا شيئاً.." تساءل الأول "هل تعرف لمَ يسعى الكشميت لشراء الهوت؟.. لا أظنه مجرد هوس ببني جنسنا دوناً عن غيرهم من الممالك.." قال آرجان "لا أعلم.. هذا لغز لم أجد له معنىً بعد.. ولا أتمنى أن أكمل هذه الرحلة لنهايتها لأعرف المغزى من هذا كله.." فقال الأول "هناك سرٌ ما.. سر يتجاوز مجرد اختطاف بضع أفراد لا أهمية لهم ولا معنى لاختفائهم.. سرٌ أكاد أجزم أنه يتعلق بتلك الحرب التي لا تكاد تهدأ حتى تشتعل من جديد.." غمغم آرجان بضيق وهو يستند إلى القفص الحديدي بظهره "أتمنى فقط ألا تكون جايا منغمسة في هذا كله.. أتمنى أن يخيب ظني وأن تكون قد هربت مع بقية الرجال وهي في طريقها للقرية الآن.." ثم نظر لرفاقه مضيفاً "علينا، قبل كل شيء، أن نسعى للفرار من هذه السفينة قبل أن تخرج من الخليج وتصل للبحر المفتوح.." قال أحد الرجال بهزء "حاولنا ذلك بالفعل في الأيام الماضية دون نجاح يذكر.." فقال آرجان بإلحاح "علينا أن نحاول مرة بعد أخر ى.. علينا أن نتضافر لنفعل ذلك.." لم يعلق أحد الرجال بكلمة وإن وَشَت نظراتهم بعدم اقتناعهم بقوله.. بينما كان آرجان يشعر أن الحياة لن تكون بهذه السلاسة والسهولة بتاتاً.. ولن تتحقق أمانيه فقط لأنه تمناها.. ********************* عندما وصلت رنيم بكاجا إلى ميناء (طوقا)، كانت قد أدركت أنها تأخرت كثيراً.. فطوال الطريق كانت تبحث عن أي أثر لقافلة تسلك الطريق الوحيد الذي يؤدي للمدينة، لكن الموقع كان خالياً تماماً.. مما أكد لرنيم أمراً من اثنان.. إما أنها تأخرت وقد أصبح آرجان في الميناء، وربما على ظهر إحدى السفن بالفعل.. وإما كان قالان يكذب عليها بكل صفاقة.. هل كانت حمقاء لتصديقه دون أي إثبات؟.. كان عليها إحضاره معها لتطمئن أنه لم يكن يخدعها.. لكن لم يعد لهذا الحديث أي فائدة.. دفعت كاجا للهبوط في موقع بعيد من المدينة شيئاً ما لئلا تلفت الأنظار، ووقفت قربه ترمق المكان بصمت.. ثم ربتت على ظهر التنين وقالت له "سأستدعيك متى ما احتجتك يا كاجا.. فكن قريباً لكن حاذر من السقوط في أيدي البشر.." أخذ كاجا يتشمم ملابسها ويزوم باعتراض، فربتت على خطمه قائلة بابتسامة "لست أملك أي مكافأة لك يا صاحبي.. لكني سأتأكد من الحصول على واحدة في المدينة، رغم أني لا أملك أي مال.." واستدارت متجهة للمدينة بخطوات سريعة، بينما وقف كاجا يراقبها بتململ، ثم ارتفع دون إبطاء في السماء ودار دورة واسعة قبل أن يبتعد دون أن تتمكن رنيم من رؤيته.. راودها خاطر أنه لن يعود لو حاولت استدعاءه، فكيف ستتمكن من الالتقاء به مجدداً؟.. لكنها، نوعاً ما، كانت تثق به.. فسارت وتفكيرها منحصر بالمدينة الكبيرة أمامها، وبرفيقها الذي اختفى بين ليلة وضحاها.. كانت تلك المرة الأولى التي تسير فيها رنيم في مدينة كبيرة كهذه وحدها على الأقدام، ودون رفقة أي من حرس أبيها.. لذلك كان توترها كبيراً وهي تسير متلفتة حولها وتشعر كأنها مجردة من الثياب لشدة ما لفتت الأنظار في سيرها.. لكن ربما كان ذلك راجعاً للحال البائس الذي بدت فيه، بحيث ظنها سكان المدينة مشردة بلا هوية.. ظلت رنيم تسير في طرقات المدينة وهي تبحث عن الميناء حيث يمكنها الوصول للسفينة التي ستحمل آرجان على ظهرها.. وببعض السؤال، تمكنت من الوصول للميناء العامر بعدد كبير من السفن وحركة دؤوبة وفي جانبه سوق شعبي صغير أقيم في أحد الأزقة لاستقبال الوافدين إلى المدينة عبر البحر.. سارت رنيم بتوتر متلفتة حولها.. لم تتوقع أن الميناء سيكون عامراً بهذه الوفرة، بحيث عجزت عن معرفة الوسيلة الملائمة للبحث عن آرجان.. ظلت تسير في أرجائه ذهاباً وإياباً، وتحدق في جماعات العبيد التي تمرّ بهم والذين وفدوا للمدينة من أنحاء أخرى من العالم، حتى وجدت رجلاً يزجرها لتبتعد عنهم.. زفرت رنيم وهي تشعر بساقيها تؤلمانها بعد كل ذلك السير، وبمعدتها تتضور جوعاً وتطلق اعتراضات متتالية.. لكن دون مال لا يمكنها الحصول حتى على شربة ماء.. فعادت لدورانها في الميناء وهي تتساءل إن كانت قد فقدت فرصتها في اللحاق بآرجان مرة أخرى.. كم ساعة قد مضت على اختفائه؟.. هل رحلت السفينة التي تحمله على ظهرها بالفعل؟.. أم أنه تمكن من الهرب ورحل بعيداً دون أن تعرف عنه شيئاً؟.. غمغمت لنفسها وهي تحدق في البشر من حولها "لن أعرف جواب أي سؤال ما لم أسأل.." استجمعت شجاعتها وهي تتلفت حولها.. لابد لمن يحاول شراء رجل من الهوت دون علم جنود مملكة بني فارس أن يفعل ذلك متخفياً.. وبعد بعض البحث، استقر أمرها على رجل وجدته يقف في جانب المكان بلا عمل ويبدو من ملامحه الحادة أنه ينتظر أمراً ما.. فتقدمت منه بشيء من التردد، ثم همست عندما رأته يقطب وهو يلاحظها "اسمع.. أتعرف شخصاً يشتري رجال الهوت من الكشميت؟.." زمجر الرجل وهو يطردها بعيداً، فتراجعت بسرعة وبحثت عن شخص آخر لتسأله.. لابد أن الأمر سيستغرق بعض الوقت قبل أن تصل لمرادها.. فاتجهت لآخر جلس على أحد الصناديق منشغلاً بعدّ ما لديه من نقود، وكررت عليه السؤال ذاته بهمس متلفتة حولها.. فحصلت على رد الفعل ذاته.. لكنها لم تيأس وهي تبحث في جوانب الميناء دون كلل.. لا يمكن أن تكون قد تأخرت أكثر من اللازم.. لا يمكن أن تفقد فرصتها الأخيرة لإنقاذ آرجان.. وبينما زفرت بحدة وهي تجلس على صندوق صغير في جانب الميناء، وقد أعجزها الجوع والدوار عن إكمال بحثها، فإنها فوجئت بيد تمسك ذراعها وتجذبها لزقاق جانبي بعيد عن الأعين.. التفتت رنيم لصاحب اليد بشيء من الذعر لم تملكه، بعد كل ما جرى لها في مخيّم الأكاشي، فرأت أحد الرجال ممن سألتهم سابقاً قد وقف مقطباً وهو يسألها بخفوت وشيء من الحدة "ما الذي تفعلينه؟.. أنت تعلنين للجميع عما نفعله هنا.. أتريدين أن يقبض عليك جنود الملك؟" قالت بارتباك "لا.. لكني سمعت عمن يشتري رجال الهوت، وأنا أعرف واحداً.. لذلك أتيت للسؤال عن ذلك الشخص للوصول لاتفاق معه.." فهم الرجل من قولها أنها تنوي بيع رجل من الهوت، فجذبها خلفه قائلاً "اتبعيني بصمت.." لم تعترض رنيم وهي تراه يقودها لسفينة تقف في جانب الميناء، متوسطة الحجم بحالة جيدة ويبدو من الصناديق المحملة على ظهرها أنها سفينة بضائع.. قادها الرجل في السفينة لغرفة وحيدة على سطحها حيث رأت رجلاً غريب الهيئة بشعر أشقر يقارب البياض وبشرة بيضاء وعينين زرقاوين.. ولما رآهما قال للرجل بلكنة غريبة ولغة سيئة جداً لم تكد رنيم تفقه حرفاً منها إلا بصعوبة "ما الذي أتى بك الآن والسفينة على وشك الرحيل؟" قال الرجل مشيراً إليها "هذه الفتاة تريد بيع رجل من الهوت.." نظر لها الرجل الثاني بشيء من الحدة، فأدركت رنيم أنه ينتظر منها إخباره عن الرجل الذي تنوي بيعه، لكنها قالت بحلق جاف "في الواقع، لست هنا لأبيع، بل لأستعيد رجلاً تم بيعه هذا اليوم.." لم تدرِ رنيم كم أثارت حنق الرجلين إلا عندما وجدت نفسها ملقاة على رصيف الميناء الخشبي والرجل الذي أحضرها يقول بغيظ "لا تستهزئي بنا يا فتاة.. ارحلي خيراً لك.." نظرت له رنيم وقالت بحدة "سأبلغ الجنود بما تفعلونه لو لم تعيدوا الرجل إليّ.." تقدم منها الرجل بعين تنطق شراً بينما لاحظت أن الجسر الذي يصل السفينة بالرصيف قد تم رفعه والسفينة بدأت تعدّ عدّتها للرحيل.. عندها قفزت رنيم واقفة وأطلقت صفيراً طويلاً وهي ترفع بصرها للسماء.. بينما اقترب الرجل منها قائلاً بغلّ "أتجرؤين على تهديدي أيتها الحقيرة؟" عادت رنيم تكرر صفيرها بإلحاح دون أن تجد أي استجابة، وكان هذا يحقق مخاوفها عندما رأت التنين يرحل بعيداً.. لكن لم يكن الوقت مناسباً للإصابة بالذعر، فاستدارت وركضت مبتعدة وهي تشعر بخطوات الرجل تلحق بها بسرعة.. عبرت رنيم عدة أزقة وهي ترفع بصرها للسماء بين لحظة وأخرى وتطلق صفيراً حاداً بشيء من اليأس.. ولما صاح الرجل خلفها بغضب، وجدت رنيم عدداً من الرجال حولها يتدافعون للإمساك بها وقد ظنوها لصّة سرقت شيئاً ثميناً من ذلك الرجل، ولم تكن هيئتها تشفع لها بأي حال.. حاولت رنيم الإفلات منهم وهي تتخذ زقاقاً جانبياً مظلماً محاولة الهرب لطريق آخر.. لمْ تدرِ لمَ يلاحقها ذلك الرجل بهذا الإلحاح.. ألأنها هددته بإبلاغ الجنود؟.. عضّت شفتها السفلى مغمغمة بحنق "حمقاء.. أنا حمقاء لأتصرف بهذه الطريقة.." لم يكن الوقت وقت ندم، فتجاوزت الزقاق بأسرع ما تقدر رغم ألم ساقيها.. وفي الطريق المقابل الذي كان أصغر من الطرقات الأخرى استدارت رنيم محاولة الهرب عبر زقاق آخر، لكن مع استدارتها فإن تشنج ساقها اليمنى قد جعلها تتعثر وهي تسقط على وجهها سقطة عنيفة.. ولم تكد ترفع رأسها حتى وجدت الرجل يجذبها من ملابسها بغير رفق ويوقفها قائلاً بغضب "سنرى ما الذي ستفعلينه الآن أيتها المتشردة.." حاولت رنيم الإفلات من قبضته، لكن وجود عدد آخر من الرجال جعل الوضع أكثر عسراً وهي تصيح بحدة "أطلقني.. لمَ تلاحقني؟.. أنا لم أفعل شيئاً.." جذبها الرجل قائلاً "سنرى ذلك.." سمعا صيحة عالية في تلك اللحظة، ومَرَق جسد ضخم فوق رؤوسهم ألقى بظلاله على الطريق.. تجمد الرجل للحظة ورنيم ترفع بصرها للسماء بشيء من الأمل.. وعندما سمعت الزمجرة الغاضبة دون أن ترى صاحبها الذي دار فوق الموقع بغضب، أدركت أن كاجا لا يقدر على الهبوط في هذا الطريق الضيق دون أن يؤذي جناحيه.. فاستغلت ذهول الرجل الذي يراقب ذلك الكائن المرعب وأفلتت من قبضته وهي تحاول استغلال بضع صناديق صفّت جانباً للارتفاع عالياً.. انتبه الرجل لمحاولتها الهرب فصاح وهو يلحق بها "عودي أيتها الحقيرة.." لكنها أسرعت في ارتقاء تلك الصناديق حتى وصلت لأعلاها وأطلقت صفيراً عالياً قبل أن تصيح "أنا هنا يا كاجا.." اقترب التنين وهو يرفرف بجناحه محاولاً الوصول لموقعها دون الارتطام بالمنازل القريبة، ولما وجدت قدمه المخلبية قربها قفزت وتعلقت بها ليرتفع التنين على الفور مبتعداً عن ذلك الطريق الضيق.. وبشيء من العسر، تسلقت رنيم ظهر كاجا محاذرة من السقوط من ذلك الارتفاع، ولما استقرت على ظهره ربتت على ظهره بسرور قائلة "ظني بك لا يخيب أبداً يا صاحبي.." ثم شدّت لجامه قائلة بحزم "والآن، لنستعدْ صاحبك قبل أن يتعذر علينا ذلك.." أطلق كاجا صيحة وهو يندفع في طيرانه بسرعة متجاوزاً المدينة التي توقفت الحركة في طرقاتها مشدوهة من رؤية التنين الطائر، بينما قادت رنيم التنين نحو الميناء الذي لم يهدأ للحظة واحدة والسفن المغادرة والقادمة تملأ الخليج الواسع أمامه.. فتشت رنيم بعينيها بين السفن المغادرة مستثنية الصغيرة منها وهي تحاول معرفة أيها كانت تلك التي التقت فيها بذلك الرجل.. فهو الوحيد الذي استجاب لسؤالها في الميناء، وبدا بوضوح اهتمامه بما قالته ظناً منه أنها تعرف موقع رجل آخر من الهوت بحيث يمكنها مقايضة تلك المعلومات ببعض المال.. انتاب رنيم توتر شديد واللحظات تمر دون أن تتمكن من معرفة السفينة المقصودة، وفيما كانت تدير بصرها بسرعة وقلق، انتبهت لتلك السفينة التي كانت تسير بسرعة أكبر من البقية مبتعدة عن رصيف الميناء وهي تفتح أشرعتها لتسمح للريح بدفعها بشيء من البطء حتى تتجاوز منطقة الصخور فتنطلق بأسرع ما تستطيع بعدها.. ربتت رنيم على رقبة التنين قائلة "يبدو أن هذه هي المقصودة.. لنذهب.." كان ما تحاول فعله تهوراً.. لكن هل من سبيل آخر؟.. هل تكتفي بملاحقة السفينة حتى تصل لوجهتها وتزداد الحراسة من حولها؟.. لم يكن هذا خياراً متاحاً، فقادت التنين ليقترب من السفينة بسرعة، حتى استطاع أن يهبط بشيء من العسر في المنطقة المفتوحة من سطحها مثيراً بلبلة بين بحارتها ومتسبباً باهتزاز السفينة بعنف مع ثقل التنين الضخم.. تجمع البحارة في جوانب السفينة بعيداً عن التنين الذي زمجر بحدة متلفتاً حوله، بينما صاحت رنيم دون أن تترجل من على ظهره "أريد رجل الهوت الذي قمتم بشرائه اليوم.. أطلقوه حالاً دون مقاومة.." قطب البحارة بشيء من الحنق وبعضهم يتناول ما يملكه من عصيٍ وخناجر قريبه، لكن كاجا الذي أطلق صيحة مرعبة جمدهم في مواقعهم وهم يتلفتون بذعر.. بينما تقدم رجل من الغرفة التي تقع على سطح السفينة قائلاً بغلظة "ما الذي يجري هنا؟" كان الرجل يختلف عن الرجل الآخر ذي اللكنة السيئة، فصاحت رنيم "أريد رجل الهوت الذي تخبئونه في السفينة.. أطلقوه حالاً.." صاح الرجل بحنق "كيف تجرؤين على إحضار هذا الوحش لقلب السفينة؟.. أتريدين تحطيمها؟" قطبت بحدة صائحة "أريد رجل الـ............" قاطعها بغلظة "لا أدري ما الذي تتحدثين عنه، ولا نحمل رجالاً معنا سوى البحارة.. هذه سفينة بضائع، وليست سفينة مسافرين أو عبيد.." تلفتت حولها بتوتر وهي عاجزة عن معرفة الوسيلة المثلى لإجبارهم على إطاعتها.. فصاحت "أين رجل الكشميت الذي يختبئ في تلك الغرفة؟.. أخبره أنني أريده حالاً، وإلا ذهبت لجنود الملك وأبلغتهم بما يجري من تجاوزات في هذا الميناء.." تبادل البحارة النظرات بينما أشار الرجل للغرفة قائلاً "يمكنك تفتيش الغرفة، والسفينة، كما تشائين.. نحن سفينة بضائع، ولا علاقة لنا بأي شخص من الكشميت كما تدّعين.. غادري فهذا خيرٌ لك.." قالت رنيم بحيرة "ولكن....." انتبهت في تلك اللحظة لأمر لم تره من قبل.. كانت هذه السفينة تختلف اختلافاً كبيراً عن السفينة التي رأتها في الميناء.. هذه أكبر حجماً، وتحوي عدداً من الغرف على سطحها بينما لم تملك تلك إلا غرفة وحيدة.. بالإضافة إلى بعض العلامات الأخرى التي تجعلها متيقنة من الخطأ الذي ارتكبته.. شحب وجه رنيم شيئاً ما وهي تتلفت حولها متمتمة "ليست هذه.. ليست هذه.." زمجر الرجل "حسناً.. ما الذي تنتظرينه؟.." نظرت إليه وهي تعذره لغضبه، فهي المخطئة فيما فعلته.. فلم تتردد وهي تحني رأسها قليلاً قائلة بصوت يرتجف "سامحني.. لقد أخطأت في السفينة.." وجذبت اللجام ليرتفع كاجا بسرعة وتعود رنيم للسماء وهي تحدق في السفن التي تقطع الخليج جيئة وذهاباً.. من الأعلى، كانت كل السفن متشابهة، وكلها ذات أشرعة بيضاء ولون واحد.. تختلف الأعلام، لكنها للأسف لم تنتبه للعلم الذي حملته تلك السفينة قبل رحيلها ولم تدرك أن تلك كانت الطريقة الوحيدة لتعرّفها.. والآن هي عاجزة عن العثور على سفينة آرجان، لو كان حقاً في تلك السفينة بالذات.. وعاجزة عن معرفة ما عليها فعله مع ذلك الدوار والتعب الذي تشعر بهما.. بعد أن أصابها اليأس، وجّهت كاجا للهبوط على صخرة مرتفعة ذات رأس مسطح عريض تنتصب وسط الخليج ضمن مجموعة صخور تسبب رعباً وقلقاً دائمين للبحارة عند عبورها.. فهبط التنين على الصخرة، وترجلت رنيم من فوق ظهره والدوار يزداد بشدة مع التعب والجوع اللذين ازدادا حدة بعد ما مرّت به.. ولم تدرك رنيم، وهي تجلس مرغمة على الصخرة جوار التنين، أن وعيها سيغيب عنها لساعات طوال بعدها.. وبعد أن فقدت وعيها حيث جلست، فإن كاجا ظل يزوم وهو يحرك ذراعيها ورأسها محاولاً دفعها للنهوض من جديد.. لكنها لم تشعر به بتاتاً، فاستسلم كاجا وهو يقبع جوارها ويضع رأسه على يديه الممتدتين على الأرض بصمت وسكون.. ********************* استيقظت رنيم بعد وقت طويل قضته في غيبوبة بسبب الإنهاك والجوع.. اعتدلت جالسة وهي بالكاد ترى ما حولها للضباب الذي عمّ الموقع في الساعات الأخيرة من النهار والبرودة تشتدّ مع الرياح القوية في الموقع.. انكمشت رنيم على نفسها وهي تستدير خلفها، فرأت كاجا يقبع قريباً وهو يلتفت إليها مصدراً صوتاً خافتاً.. اقتربت منه واحتضنته محاولة الحصول على بعض الدفء من جسده مغمغمة "هل كنت بانتظاري يا صديقي؟.. يبدو أنني أصبحت بائسة الحال ومنهكة بشدة.." وجدته ينتفض فينفضها بعيداً عنه شيئاً ما، ولما نظرت إليه بدهشة، وجدته يقفز من الصخرة ويدفع جناحيه بقوة فيرتفع عن سطح الماء ويصعد للسماء ليغيب بين الضباب الكثيف ورنيم تراقبه بصمت.. ثم قالت "لابد أنه جائع.. المسكين لابد أنه ظل ينتظر استيقاظي.." انطوت رنيم على نفسها وهي تفكر بهذا التنين الذي أصبح أقرب صديق لها.. تذكرت اللحظة التي رأته فيها في شرفة قصر (الزهراء)، والثورة التي أثارتها لتبتعد عنه في ذلك الوقت.. فتعجبت لحالها كيف انقلب بهذه الصورة الكبيرة خلال أسابيع قليلة.. وكيف تغيّرت معاملتها لما حولها.. للهوت.. ولآرجان.. وللتنين.. وللعالم الغريب الذي وجدت نفسها في قلبه بين ليلة وضحاها بعد أن كانت تراقبه من نافذة برج خيالاتها العاجي في قصر أبيها.. طال الوقت ورنيم تحدق في البحر من حولها وفي السفن العابرة والتي لا تراها بسبب الضباب الذي خيّم على الموقع بكثافة.. ما الذي عليها فعله الآن؟.. لقد وصلت لطريق مسدود.. وأمامها خيارات كثيرة عليها أن تختار الأفضل منها وتتحمل عواقبه مهما كانت.. هل تستسلم وتعود أدراجها بعد أن اختفى كل أثر لآرجان؟.. وهل سيرضى كاجا بذلك؟.. لقد صمت خلال الساعات الماضية ولم يعلن احتجاجه عن اختفاء سيده، ولابد أنه أدرك أنها تبحث عنه.. لكن ماذا لو حاولت دفعه للرحيل بعيداً؟.. وهل يستحق آرجان أن تتخلى عنه بهذه الصورة؟.. إذاً ما الذي يمكنها فعله؟.. هل تعود لقرية الهوت وتبلغ أهلها بما جرى له؟.. ربما ببعض العون وبعدد أكبر من التنانين يستطيعون تكثيف البحث بصورة أفضل.. لكن، كيف تعود للقرية بعد أن طردوها بتلك الصورة؟.. لاشيء يضمن لها أنهم سينصتون لها ناهيك عن مد يد المساعدة في بحثها هذا.. ماذا لو أنهم استلبوا منها كاجا وتركوها ترحل خالية الوفاض؟.. لا يبدو هذا الحل مثمراً.. يمكنها أن تذهب للزهراء وتنذر المملكة مما ينتويه الكشميت في هذه الأنحاء.. (الزهراء)؟.. تذكرت ذلك المكان الذي يبدو في خيالها مظلماً وقد بهتت تفاصيله.. يا له من زمن طويل ذاك الذي مضى منذ رحيلها عن (الزهراء)!.. أحقاً يمكنها العودة لذاك المكان بكل ارتياح؟.. وهل يمكن للأمير.. عفواً.. الملك زياد أن يعبأ حقاً لأمر الهوت مهما دلّ ذلك من خطورة على المملكة ذاتها؟.. لا يمكن للكشميت أن يتحركوا في أمر إلا وله دلالة خطيرة في الحرب التي ما خَفَتَ أوارها إلا في السنوات القليلة الماضية.. هذا خيارٌ غير مطروح إذاً.. نظرت للخليج ومن خلفه البحر الواسع وهي تزفر بقوة.. الوسيلة الوحيدة لها هي في الذهاب خلف تلك السفينة.. أن تسعى خلف آرجان بنفسها وتحاول استعادته بأي سبيل ممكن.. هل يقدر كاجا على عبور بحر السلام الشاسع هذا؟.. عليها أن تحاول على الأقل.. بعد أن يعود من رحلته بالطبع.. بعد مرور بعض الوقت، لمحت التنين عائداً بسرعة لموقعها وهبط فوق الصخرة الضيقة بشيء من الحدة والهواء الناتج عن رفرفة جناحيه يدفعها بقوة.. ولما استكان في موقعه، والدماء تخضّب أنيابه وفمه كالعادة، لاحظت شيئاً في فمه رماه عند قدميها وهو يصدر صوتاً خافتاً ويلعق ما لطخ وجهه من دماء.. نظرت لذلك الشيء، فأدركت على الفور أنها فخذ لجدْيٍ متوسط الحجم غارق في دمائه.. ذكّرتها الدماء بذكرى قبيحة لا تزال تستطعم أثرها في فمها، فغلبها غثيان شديد وهي تشيح بوجهها جانباً.. ولما سمعت اعتراضاً من كاجا على الهدية التي جلبها لها، ربتت على خطمه القريب قائلة "شكراً لك يا كاجا.. لم أتوقع أن تحضر هذا لأجلي.." عادت تفكر بجوعها الشديد.. لا يمكنها التحرك خطوة دون أن تنتهي من هذا الأمر، وعليهم الاستعداد لرحلتهم الطويلة عبر بحر السلام.. عادت ببصرها لكاجا الذي وقف بصمت، ثم قالت مبتسمة "هل يمكنك الطيران الآن يا كاجا؟.. علينا أن نستفيد من هذه الغنيمة التي أحضرتها لي.." وبعد لحظات قصيرة، وفي جانب من المدينة بعيد عن الميناء، في حيّ تقل فيه المنازل وتخفت حركة البشر عن بقية المواقع في المدينة، فوجئ سكان ذلك الحيّ بتلك الفتاة التي ظهرت في بداية الطريق الذي يقطع المكان وهي تحمل بين ذراعيها فخذ جدْيٍ بحجم كبير والدماء تقطر منه وتلطخ ذراعيها وملابسها بشكل أثار ذعر بعض الصبية في الطريق.. لكن رنيم سارت في الطريق متوترة حتى عثرت على عربة صغيرة تبيع بعض الخضار والفواكه، فتقدمت من صاحبها الذي حدق بها بدهشة كبيرة، وقالت له بتوتر "هل تشتري مني هذا؟.. سأرضى بمبادلته ببعض الفواكه والخضار.." قطب الرجل وهو يقول "من أين حصلت على هذا؟.. أنتِ لم تصطاديه بالتأكيد.. هل قمت بسرقته؟" أجابت بثبات "لا.. لقد اصطاده حيواني الأليف.. فهل ستشتريه؟" نظر الرجل حولها بشيء من الشك، فقالت بإلحاح "أنا أعرض عليك لحماً سيكون أثمن بمراحل من بضع فواكه تمنحني إياها.. فهل ستبادلني أم لن تفعل؟" ظل الرجل يقلب بصره بين قطعة اللحم كبيرة الحجم وبين ملامحها الثابتة، ورغم ثقته أنها قد سرقت اللحم من شخص ما، إلا أنه لم يتمكن من مقاومة ذلك العرض وهو يقول بابتسامة جانبية "لا بأس.. سأبادلك بكل تأكيد.." فقالت بسرعة "وأريد أن تضعها في جراب أو ما شابه، فأنا لا أمتلك واحداً.." لم يمانع الرجل وهو يغيب في منزله القريب، ثم عاد بجِرابٍ قماشي متوسط الحجم وبدأ يضع عدداً من الخضار والفواكه فيها ورنيم تقول "أريد المزيد من التفاح.." بعد أن ملأ الرجل الجِراب، ناولته رنيم قطعة الفخذ بصمت، وتناولت الجِراب منه بشيء من اللهفة.. فانحنت له شاكرة واستدارت راكضة من حيث أتت، بينما غمغم الرجل وهو يزِنُ اللحم بيديه "يالك من حمقاء..!" ركضت رنيم حتى غادرت ذلك الحي وأصبحت خارج المدينة.. وفي جانب بعيد منها رأت التنين ينتظرها متململاً، فأسرعت إليه وامتطت ظهره قائلة بابتسامة "لنذهب يا كاجا.." مدّ كاجا رأسه نحوها، فقالت بإلحاح "فيما بعد أيها الشره.. لنذهب الآن.." طاوعها كاجا بصمت وهو يطير من فوق ذلك المنحدر العالي الذي تضرب الأمواج جانبه بقوة وعنف.. دارت رنيم معه محاولة رؤية شيء من الضباب الكثيف، ثم قادت التنين لجانب من تلك المنحدرات تنخفض فيه بعيداً عن المدينة لتتلاقى مع البحر مكونة شاطئاً رملياً ضيقاً.. وبينما قبع كاجا على الشاطئ الرملي يعبث ببضع تفاحات وضعتهن رنيم أمامه، فإن رنيم كانت تقف وسط المياه التي تضرب ساقيها بشيء من القوة.. وبينما كانت تحاول التوازن لئلا تجرفها المياه معها، فإنها خلعت ملابسها محتفظة بقميص داخلي قصير مطمئنة لخلو الموقع الذي هم فيه من أي بشري.. انشغلت بغسل ملابسها التي كانت في حالٍ يرثى لها بعد أيام لم تفارق فيها جسدها.. ثم رمت الملابس على صخرة قريبة وبدأت غسل جسدها بالمياه الباردة الصقيعية.. ورغم الرجفة التي غلبت شفتيها، لكنها لم تتوقف عن ذلك وهي تفرك جسدها بقوة محاولة إزالة آثار كل تلك الدماء التي لطختها.. كانت تستطيع رؤية السفن الضخمة كأشباح سوداء وهي تخوض في ذلك الخليج متجهة نحو البحر خارجه، بينما غطى الضباب الموقع بشكل كامل وخفتت الأصوات الصادرة من الميناء بحيث شعرت رنيم أنها في عزلة تامة في ذلك الموقع.. وكأنها وحيدة في هذا العالم ولا وجود لشخص آخر فيه.. وبعد الأيام التي قضتها مرتعبة في سهول الأكاشي، فإن الراحة التي شعرت بها في هذه اللحظات كانت نعيماً لا يصدّق، ولا يعكر صفوها إلا قلقها على ما جرى لآرجان.. كل ما هي مطمئنة له أنه لا يزال حيّاً.. فلا يمكن أن يكلف شخص نفسه نقله كل هذه المسافة إن كان ينوي قتله في الأساس.. لكن ما الهدف الذي سيجنيه الكشميت من خطفه، وخطف الهوت بالتحديد، بهذه الصورة المريبة؟.. عادت رنيم أدراجها وهي ترتجف، فعلقت ملابسها على فرع شجرة قريبة، ثم قبعت قرب كاجا واحتضنته وهي تغمغم بصوت ينتفض "للأسف، لا أعرف كيف أشعل ناراً البتة، لذلك علينا احتمال هذا البرد حتى يخفت الضباب ونتمكن من مواصلة سيرنا بإذن الله تعالى.." لم يعترض كاجا هذه المرة، وهو يقبع بصمت ورنيم تستشعر دفء جسده القوي وتستمع للصمت من حولها عدا عن ضربات الأمواج الخافتة من البحر القريب.. منذ الغد، ستبدأ رحلتهم الطويلة عبر البحر.. لا يمكنها أن تتخيل كيف سيكون الأمر، لكن ما تدركه أنه لن يكون أسهل مما مرت به بالفعل.. لكن هل تملك خياراً آخر؟.. صبراً يا آرجان.. لابد أن أعثر عليك مهما كلفني الأمر.. ********************* |
رد: على جناح تنين..
الفصل الثاني عشر: لا تفعل هذا.. كان قرار رنيم بدء تلك الرحلة مع كاجا بعد مغيب الشمس بساعات غريباً، بالنظر للطريق الذي سيسلكانه ولكونهما يجهلان ما سيواجهانه فيه.. فالرحيل فوق الأرض يختلف تمام الاختلاف عن الرحيل فوق البحر الواسع، حتى لو كانا سيحلقان في السماء.. لكن رنيم كانت قد شعرت بالضيق لاضطرارها الانتظار ساعات طويلة وهي وحيدة في العراء، وخشيتها من ابتعاد السفينة بآرجان أكثر فأكثر مع كل ساعة تمضي.. ثم إن السماء صافية والقمر ينير الأفق بشكل يجعلها أكثر اطمئناناً وثقة.. ربتت على كتف كاجا الذي نظر لها بصمت، ثم قالت "فلنرحل بحثاً عن صاحبك الآن يا كاجا.. وأتمنى أن يكلل مسعانا بالنجاح.." وامتطت ظهره ليبدأ التنين تحليقه على الفور بنشاط.. تجاوزا تلك المنحدرات الصخرية التي تنتهي بها سهول الأكاشي الدموية، وسارا فوق الخليج ونحو البحر الواسع.. نظرت رنيم خلفها لتلك السهول التي بدت قاتمة سوداء في هذه الليلة، ثم زفرت وهي تتذكر كل ما مرت به منذ قدومها إليها.. كم يوماً مضى عليها في هذه السهول؟.. يومان؟.. ثلاثة؟.. لم تعد تذكر.. كل ما بدا لها أن دهراً قد مضى منذ كانت في قرية الهوت وحتى تمكنت من الهرب من الأكاشي على ظهر كاجا.. دهرٌ كامل مضى فيه الكثير، ورأت فيه أكثر من طاقتها على التحمل.. ولولا وجود هدف أمامها الآن لظلت منطوية في موقع منزوٍ وهي سجينة الهواجس التي تراودها والذكريات البشعة التي رأتها.. أما الآن، فاللحاق بآرجان يحتلّ أولوياتها ويطغى على تفكيرها.. ورغم كل التأخير الذي حصل، فإنها واثقة أن التنين يستطيع تجاوز تلك المسافة بأسرع من البرق.. لذلك فإنها وجهته للبحر الذي يبدو أمامها ودفعته للطيران بأسرع ما يستطيع موجّهة نفسها نحو ما قدّرت أنه الجنوب.. كانت رنيم، مع قراءاتها الكثيرة، تستطيع تحديد الاتجاهات بشكل تقريبي فاعتمدت على الموضع الذي غابت منه الشمس لتحدد بقية الاتجاهات.. والآن، فإنها تطير مع كاجا نحو الجنوب الغربي بسرعة متجاوزين الأمواج الفضية التي تعكس نور القمر القوي بينما تمرّ فوقهم الغيوم المتفرقة بسرعة كبيرة.. وبعد ساعة أو يزيد، انتاب رنيم شيء من القلق وهي تتلفت حولها ملاحظة خلو البحر حولها من أي سفينة.. كانت واثقة من مسارها، وواثقة أن السفينة لن تسير في البحر بسرعة تتجاوز سرعة التنين، فأين ذهبت؟.. هل أخطأت؟.. حاولت اتخاذ دورة واسعة في المنطقة بحثاً عن أي أثر لها عند الأفق، ثم عادت لمسارها الأصلي مع كاجا وهي تقول له بقلق "هل أخطأنا في أمر يا كاجا؟.. أين ذهبت تلك السفينة؟.." بدا لها البحر من هذا الارتفاع أشد اتساعاً وامتداداً مما كان عندما كانت على ظهر تلك السفينة في طريقها للزهراء.. تزايد قلقها مع كل لحظة تمضي وهي تفقد ثقتها السابقة وتراودها الهواجس الكثيرة.. هل أخطأت الطريق؟.. أما أنها تأخرت كثيراً؟.. هل السفينة متجهة لقارة الثنايا، ولمملكة كشميت حقاً؟.. أم أنها اتجهت لموقع آخر؟.. ربما لم يكن آرجان على ظهر تلك السفينة فعلاً.. ربما تمكن من الهرب وعبرت هي مع التنين فوقه أثناء محاولته العودة لمخيّم الأكاشي.. كل تلك الوساوس قد تدافعت في ذهنها وبدأت تصيبها بدوار، بينما استمر التنين في طيرانه نحو الجنوب.. عندها جذبت رنيم لجامه ودفعته للهبوط على سطح المياه وهي تتساءل إن كان التنين قادراً على البقاء فوقها بدون أن يغوص في أعماقها.. لكن التنين هبط بسلاسة مسبباً اختلالاً قوياً في سطح البحر والمياه ترشّه وترش رنيم بغزارة.. ولما استقر على المياه، والأمواج الهادئة ترفع التنين وتهبط به بحركة سلسة، ظلت رنيم تحدق في الأفق المظلم حولها وهي تفكر بالحلّ الأمثل والخطوة الملائمة لهما بعد الآن.. هل تنتظر قدوم إحدى السفن وتتأكد من مسارها؟.. قد يطول انتظارها لأيام فهي ليست متأكدة من مسار السفن المعتاد، وهي لا تملك كل هذا الوقت لتضييعه.. فهل تتقدم نحو مملكة كشميت وهي لا تعلم في أي ميناء سترسو تلك السفينة ولا وجهتها حقاً في قارة كبيرة كتلك؟.. أخيراً، شدّت عزمها على التوجه لقارة الثنايا حيث تحتل مملكة كشميت جانباً كبيراً من الجهة الشرقية فيها.. وخلال الطريق، ستبحث فيما تعثر عليه من السفن عن تلك السفينة التي تذكرها بشكل باهت.. كان موقفها يزداد سوءاً، لكن رنيم لم تتردد لحظة وهي تضغط على بطن التنين وتجذب لجامه لتدفعه للارتفاع.. وبينما غادر كاجا البحر مواجهاً السماء، غمغمت رنيم لنفسها "ما يقلقني الآن هو العثور على جزيرة في الطريق لننال بعض الراحة ونستزيد من المؤن التي نملكها.." ألقت نظرة على الجِراب الذي علقته على السرج بإحكام، والذي يحوي جزءاً صغيراً من الفاكهة والخضار التي حصلت عليها من ذلك الرجل.. لم تكن تلك تكفي التنين كوجبة كاملة، لكنها لا تزال تأمل في العثور على جزيرة يستريحان فيها ليتمكن كاجا من الحصول على الوجبه التي تسدّ جوعه.. وبعد وقت طويل قضياه يطيران فوق المساحات المائية الشاسعة، عثرا على مجموعة جزر صغيرة الحجم لا تتجاوز حجم قرية من قرى الهوت، صخرية بالكامل ولا ترى فيها أثراً لشجرة ولا أي كائن حيّ.. توقفا على إحدى تلك الجزر ورنيم تتأمل ما حولها بشيء من الإحباط، ثم قالت لكاجا وهي تترجل عن ظهره "سنحاول الحصول على بعض الراحة على الأقل.. مازلنا نملك بعض الطعام.." بشيء من المشقة، أنزلت السرج عن ظهر كاجا الذي انتفض براحة بعد أن أثقل السرج كاهله لأيام عدة.. ثم ارتفع مغادراً رنيم بحثاً عن طعام في الجزر القريبة.. أما رنيم فقد جلست جانباً وهي تتأمل الجِراب الذي تحمله والذي يحوي على أقل من عشر حبات من الفاكهة.. هذه لن تكفيهما بتاتاً، وكاجا يتضور جوعاً بعد رحلة طويلة كهذه.. فما الذي يمكنها فعله؟.. إنها لم تحسب حساباً لهذا أبداً، وهذا سوء تقدير منها بالتأكيد.. إنها لا تملك أي خبرة في الترحال وما يلزمه من إعداد سواء أكانت وحيدة أم على ظهر تنين.. لكن، كان عليها اتخاذ احتياطاتها فيما يخصّ الطعام على الأقل دون الاعتماد على الحظ.. تنهدت وهي ترى كاجا يعود إليها وهو يصيح بتذمر شديد.. ولما هبط قربها أفرغت الجِراب أمامه ليلتهم ما يحتويه بينما احتفظت لنفسها بحبة فاكهة واحدة فقط.. وماذا عن الماء؟.. لقد فقدا القِربة التي كان يحملها آرجان في مرحلة ما من رحلتهما بعد هبوطهما في سهول الأكاشي.. والآن العطش يستبد بها وبرفيقها رغم المساحات المائية الهائلة المحيطة بهما.. وقد حاولت بالفعل تذوق شيء من مياه البحر رغم معرفتها بملوحته، فهي لم تذُق مياهه من قبل، لكن التجربة لم تكن محببة وتركتها عطشى أكثر من السابق.. وأخيراً، بعد حصولهما على ما يحتاجانه من راحة، أعادت رنيم السرج لظهر كاجا المعترض بشيء من العسر وصعوبة كبيرة.. وبعد جهد شديد، تمكنت أخيراً من تثبيته بإحكام، بعد أن كانت تراقب آرجان في عمله سابقاً في القرية بشغف كبير.. ولما امتطت ظهر كاجا، غمغمت وهي تدقق في أربطة السرج التي تحيط ببطنه "أتمنى ألا ينفك السرج ونحن في عرض السماء.. سيكون هذا مأزقاً مضحكاً.." وجذبت عنان التنين ليرتفع في السماء مواصلاً رحلته الطويلة نحو الجانب الآخر من بحر السلام.. ********************* بعد عدد من الساعات، والشمس قد ارتفعت في السماء وأصبح وهجها أكثر حدة، فوجئت رنيم بهزيم الرعد والتماعة البرق من الغيوم الكثيفة السوداء التي تغطي الأفق أمامهما.. نظرت رنيم للموقع بقلق بينما شعرت بتوتر كاجا الشديد وهو يدير رأسه جانباً ويصدر أصواتاً معترضة.. كان طيرانهما في هذا الاتجاه مع العاصفة الوشيكة خطراً، فالطيران وسطها مرعب وخطر بينما البقاء على سطح الأمواج التي ستثور مع الرياح القوية والأمطار الغزيرة سيكون أكثر خطراً وصعوبة.. ولا تكاد ترى أي لمحة لجزيرة أو سفينة عابرة حيث يمكنهما الالتجاء ولو مؤقتاً.. كان التعب قد بدأ يحل بكاجا، لكنها قالت وهي تربت على عنقه "عليك أن تحتمل هذا يا كاجا لفترة أطول.. لا أريد أن نواجه هذه العاصفة الآن.." كانت الغيوم السوداء تمتد لمسافة كبيرة أمامهما، وقد لاحظت أن الأمطار قد بدأت تهطل تحتها بغزارة وبدأت الأمواج ترتفع لمسافات عالية وتغدو أشبه بجبال مصغرة ترتفع ثم ترتطم ببعضها البعض بقوة والرذاذ يتطاير في مساحة كبيرة.. ولاتساع تلك العاصفة، كان الدوران حولها أو تجنبها مستحيلاً، لذلك دفعت رنيم التنين ليرتفع عالياً قبل الولوج في قلب العاصفة قدر استطاعته وهي تحثه على بذل جهده لتجاوز تلك الغيوم والطيران فوقها.. وبشيء من الصعوبة، تمكنت من تجنب العاصفة وارتفعت مع التنين فوقها وإن كان صوت الرعد والتماعة البرق التي تشق الغيوم تصيبها برجفة شديدة وتوتر التنين بقوة.. كانت العاصفة تغطي مساحة واسعة من ذلك البحر، وبدا أنها قد أثارت البحر بشدة وارتفعت أمواجه معها بثورة.. فتساءلت رنيم عن حال السفن في مثل هذه الأوقات، وحمدت الله أنها مع كاجا يتمكنان من تفاديها ولو بصعوبة.. ورغم سرعة كاجا، فإن وقتاً طويلاً قد مر عليهما وهما عاجزان عن تجاوز تلك العاصفة، وعاجزان عن الهبوط على أي جزيرة قد يمران بها.. لاحظت رنيم أن كاجا بعد مرور ذلك الوقت قد بدأ يفقد توازنه، فربتت على عنقه قائلة بإلحاح "قاوم تعبك يا كاجا.. لو اضطررنا للهبوط وسط تلك العاصفة فسنغرق في لحظات.. بقي القليل فقط ونتجاوزها بإذن الله تعالى.." صاح كاجا بضيق شديد وهو يرفرف بقوة ويدفع نفسه دفعاً للاستمرار بالطيران مدة أطول.. وبعد أن كادت رنيم تيأس من تجاوزهما تلك العاصفة، بدأت الغيوم تخفت وتتفرق، وبدأ البحر الأزرق يبدو من تحتها مشرقاً بنور الشمس القوية.. فتنهدت رنيم وهي تحدق بالغيوم السوداء خلفهما، ثم عادت ببصرها للأفق مغمغمة "الحمدلله أننا تجاوزناها.. الآن لو نتمكن من الوصول لإحدى الجزر التي تنتشر في البحر كله، لكانت الحياة أكثر روعة.." وبالفعل، بعد وقت قصير، لاحظت وجود جزيرة عند الأفق واللون الأخضر يغطيها وقمة جبل بركاني تنتصب وسطها والمياه حولها تبدو بلونٍ لازورديٍّ جميلٍ وصفاءٍ يخلب الألباب.. وحال الاقتراب من الجزيرة، لاحظت رنيم وجود قرية صغيرة في أحد جوانبها بميناء بسيط وعدد قليل من السفن والقوارب الخاصة بالصيد.. بينما بدت بقية الجزيرة غير مأهولة وتحتل الغابة أغلبها.. فغمغمت رنيم "جيد.. يمكن لك أن تعثر على طريدتك في الغابة بسهولة.. أليس كذلك يا كاجا؟" فوجئت به ينحدر للأسفل بسرعة وزمجرة حانقة، ووجدته يتجه نحو أقرب موقع من الجزيرة.. عند تلك القرية، وعند شاطئها، وقرب تلك القوارب حيث بعض الصبية ممن هم تحت العاشرة يلعبون بالحجارة ويراقبون التنين بدهشة وذهول.. فوجئت رنيم بهبوط كاجا في ذلك الموقع دون طلب منها، ودهشت لرؤية الإصرار في عينيه وهو ينحدر لذلك الموقع بالذات مزمجراً بغضب أشعرها بتوتر كبير.. فجذبت لجامه بقوة قبل أن يصل للأرض وصاحت "كاجا.. توقف.. ما الذي تفعله؟" أفلحت جذبتها في لجمه للحظات وهو يهبط على الشاطئ بقوة مثيراً الرمال من حوله، بينما تدافع الصبية مذعورين لذلك المنظر عدا صبيين صغيرين سقطا أرضاً برعب.. وفور هبوطه، اعتدل كاجا بسرعة نافضاً الرمال عنه، ثم تقدم من الصبيين وهو يطلق زمجرة اعتراض بينما جذبت رنيم لجامه بقوة وهي تلكزه محاولة دفعه للرحيل صائحة "ما الذي تفعله يا كاجا؟.. ما الذي تحاول فعله؟.." لكنها كانت تدرك ذلك بنظرة واحدة لعينيه.. كان الجوع الشديد قد استبدّ بالتنين مع الطيران الطويل ومع العاصفة التي منعتهم من الهبوط لوقت أطول، وتحول جوعه لشراسة لم ترَ مثلها من قبل وتناستها مع الألفة التي شعرت بها تجاهه في الأيام السابقة.. هل ينوي حقاً التهام أحد الصبية لسدّ جوعه الشديد؟.. ولما رفض الانصياع لها وهو يميل برأسه يميناً ويساراً محاولاً التخلص من اللجام الذي يشدّ فمه بعيداً، فإنها سارعت للترجل من على ظهره والوقوف أمام الصبيين عسى أن يسترد إحساسه بما حوله برؤيتها ويعيَ ما يفعله حقاً.. فمدّت ذراعيها وهي تصيح به "كاجا.. استفق لنفسك.. يمكنك أن تتناول ما تشاء من تلك الغابة.. لكن لا تأكل البشر لتسدّ جوعك.." صاح كاجا في وجهها بغضب شديد بينما بدأ الطفلان بالبكاء وهما يرتجفان.. وفي الآن ذاته تجمهر بعض القرويين في جانب المكان بذعر لمرأى التنين الغاضب وللفتاة الضئيلة التي وقفت أمامه بحزم، وإن لم يجسر أحدهم على التقدم وإنقاذ الصبيين الباكيين.. كانت رنيم واثقة أن كاجا لا يمكن أن يكون بتلك الشراسة، ولا يمكن أن يلجأ للوحشية لسدّ جوعه الشديد.. سيستفيق لنفسه مع صوتها ورؤيتها، وعندها سيطيعها بكل تأكيد.. ورغم ذلك، لم تملك نفضة اعترت جسدها للشراسة التي تراها في ملامحه المنقبضة وعينيه بحيث بدا غريباً عليها.. وعندما مال برأسه مزمجراً محاولاً تجاوزها نحو الصبيين، وقفت في وجهه وهي تمد يدها لتبعده صائحة "استفق يا كاجا.." لكنها فوجئت به ينقض عليها فيقبض على أعلى ذراعها اليمنى بأسنانه الحادة التي انغرست بقوة مثيرة آلاماً لا تطاق.. لكن رنيم لم تصرخ وهي تعضّ على شفتيها بقوة حتى أدمتها.. خشيت أن يستثير صراخها التنين أكثر، وهي بحاجة لتهدئته الآن أكثر من السابق.. وبينما تراكض الصبيان بعد أن تمالكا نفسيهما، فإن رنيم التي سقطت على ركبتيها لشدة الألم والتنين متشبث بذراعها قد رفعت يدها الأخرى وأحاطت رأسه وهي تضمّه بقوة وتقول بصوت مرتجف "كاجا.. ما الذي جرى لك يا صاحبي؟.. استفق لنفسك وعُدْ كما كنت.. كاجا اللطيف الأليف الذي يعشق التفاح.." زمجر التنين بغضب للحظات والدماء تسيل من ذراعها وتغرق يدها، ثم وجدته يفتح فمه ويستخرج أسنانه من ذراعها متراجعاً خطوات وهو يزوم بألم.. تململ في وقفته وهو يقلب بصره بينها وبين القرية.. ثم استدار وارتفع بقفزة عالياً ليطير في السماء نحو الغابة القريبة تاركاً رنيم تراقبه بشيء من الألم وكثيٍر من الراحة.. لو التهم كاجا أحد أولئك الصبية، فلن تقدر على رؤيته من جديد ولن تملك الإرادة على نسيان ذلك بتاتاً.. ستضطر للتخلي عن رفيق رحلتها للأبد وهو شيء كانت ستكرهه بشدة.. زفرت بقوة وهي تمسك ذراعها بألم محاولة إيقاف الدماء المتصببة، وسمعت لغطاً بين القرويين بعد أن ابتعد التنين الذي سبب لهم رعباً وأحدهم يقول بحنق لرنيم "من أنت؟.. ولماذا أحضرت هذا الكائن الشرس لجزيرتنا؟" صاحت إحدى النسوة وهي تضمّ الصبيين الصغيرين "كان سيلتهم الصبيين.. أرأيتموه؟.. لقد انقضّ على صاحبته دون رحمة وكاد يلتهم ذراعها.." ردد آخر "رحماك يا ربي.. هل سيبقى هذا الكائن في جزيرتنا؟.." لم تتعجب رنيم للغضب البادي في الوجوه، ولا للكلمات الجارحة التي وصلت لأذنيها.. فهذا ما اعتادته على أي حال.. أليس كذلك؟.. بعد لحظات مرت وهي صامتة تحاول الوقوف على قدميها، شعرت بيد تجذبها لتعينها على الوقوف ورأت رجلاً في الخمسين من عمره بجسد نحيف وطويل، وعينين داكنتين عليهما عوينات بإطار معدني ربطت حول أذنيه بخيط سميك لتثبيتها فوق أنفه، وبشعر أبيض ثائر ولحية صغيرة بيضاء وملابس بسيطة.. نظرت له رنيم بدهشة، فقال لها "تعالي.. سأعالج جرحك.." تعجبت رنيم من معاونته لها، لكن لم تقوَ على الرفض وهي تتبعه باستسلام ملاحظة النظرات الحانقة من حولها.. بينما قال الرجل للمرأة التي ضمّت الصبيين لها "لقد أنقذت تلك الفتاة الصبيين.. عليكِ أن تكوني شاكرة لها على الأقل.." قالت المرأة بغضب "هي من جاء بذلك الشرس لجزيرتنا، وعليها تحمّل تبعات عملها ذاك.." لم تعلق رنيم وهي تتبع الرجل بخطوات سريعة وقطرات من دمها تسيل خلفها على الأرض الرملية البيضاء.. وفي كوخ خشبي قريب من شاطئ البحر، بحجم متوسط وقد ملأته أدوات متنوعة لم تعرف رنيم ماهيتها، فإنها جلست في جانب المكان بصمت تتأمل ما حولها حتى جلب الرجل بضع أربطة قطنية وسائلاً شفافاً.. فمزق كمّ ثوبها الذي أصبح مهلهلاً بالفعل بعد أن عبثت فيه أنياب التنين، وتحته ظهرت آثار الأنياب واضحة في ذراعها التي تشوهت بتلك الجروح العميقة.. فقال الرجل "سيؤلمك هذا.. لكنه ضروري لتنظيف الجرح.." لم تعلق رنيم والرجل يصبّ على جرحها من ذلك السائل ليعود لها الألم مضاعفاً بشكل جعلها تئن من الألم وتضرب قدمها بالأرض بقوة.. فغمغم الرجل وهو ينظف الدماء من ذراعها بقطعة قماش نظيفة "تحمّلي هذا حتى أنتهي.." حاولت رنيم التحمل بأقصى ما تستطيع وهي تشعر بصداع عنيف ينبض في رأسها والعرق يحتشد على جبينها.. وبينما انشغل الرجل بربط الجرح بقوة، فإن رنيم عضّت على شفتيها وهي تتمنى أن ينتهي بسرعة لعلّ الألم يخفت بعدها.. وبعد أن انتهى، نظر الرجل لرنيم قائلاً "يمكنك أن ترتاحي قليلاً حتى يزول هذا الألم.. للأسف لا أملك مكاناً مريحاً يمكنك الاستلقاء عليه، لذلك عليكِ الاكتفاء بهذا الكرسي.." وأشار لكرسي من القصب بلون بنيّ جميل وعليه بعض الوسائد الوثيرة.. فلم تتذمر رنيم وهي تجلس على الكرسي فتنطوي فيه وهي تسند رأسها لذراعها اليسرى.. كان الألم لا يطاق، وشعرت بحاجة كبيرة للنوم وتناسي ذلك الألم خاصة بعد رحلة طويلة قطعتها مع كاجا مستيقظة.. ألقت نظرة على الرجل الذي تركها وانشغل بغسل يديه وتنظيف ما تلطخ من كوخه بدمائها، ثم أغمضت عينيها بشيء من الاستسلام.. هي لا تعرف هذا الرجل، لكنها نوعاً ما شعرت بشيء من الثقة تجاهه وأدركت أنه لن يمسّها بسوء.. تتمنى فقط ألا يخيّب ظنها فيه.. ********************* عندما استيقظت رنيم، بعد ساعة أو يزيد، وجدت الكوخ خالياً من حولها.. حاولت الجلوس على الكرسي باعتدال مستشعرة الألم الذي ينبض بقوة في موضع الجرح المضمّد.. نظرت لذراعها ملاحظة أن الدماء قد لطخت أجزاء منه، لكن لونها المتغير قد أوحى لها أن الجرح لم يعد ينزف الآن.. تنهدت متطلعة حولها للصمت الذي يعمّ المكان، ثم سمعت صوتاً قوياً يصدر من فوقها ناتجٌ عن سقوط شيء ثقيل.. نظرت للأعلى بدهشة، وتلفتت حولها لتنتبه لوجود درجات خشبية تؤدي لموقع علوي في هذا المنزل.. ببعض التردد، اقتربت من الدرجات وتطلعت من الجزء المفتوح في الأعلى بشيء من الفضول، ولما انتبهت لما تراه من ذلك الجزء المفتوح، صعدت الدرجات بخطوات متسارعة لتجد نفسها في عليّة واسعة باتساع الكوخ كله.. وفي كل جوانب العلية، وعلى الجدران، وعلى الأرضية الخشبية اصطفت عشرات وعشرات الكتب مختلفة الأحجام والألوان.. منها القديم الذي حال لونه أو فقد غلافه وغدا مجرّداً، ومنها الحديث الذي لا يزال عنوانه واضحاً وصفحاته بيضاء نظيفة.. ووسط هذا الموقع، عثرت على مضيفها الذي انحنى يتناول بعض الكتب التي سقطت من يده، ولما انتبه لها قال "أأنت أفضل حالاً الآن؟.." قالت رنيم بانبهار دون أن تجيب على سؤاله "لا أصدق ما أراه.." تساءل الرجل بابتسامة "أمِنَ العجيب رؤية الكتب في هذه الجزيرة النائية وهذا الكوخ الحقير أم العجيب اهتمامي بها؟" قالت هاتفة "الاثنان كما أظن.. أأنت من جمع كل هذه الكتب؟" قال الرجل وهو يجلس على كرسي منخفض من القصب يخلو من أي مسند لليدين أو للظهر "أجل.. جمعتها في رحلاتي أثناء شبابي.. والآن بعد أن أعجزني العمر عن استكمال تلك الرحلات قمت بوضع يدي على كل ما يمكنني الحصول عليه من السفن العابرة.." دارت رنيم في الموقع منبهرة وهي تغمغم "منظر لم أكن أتخيّل رؤيته في هذا الموقع بالذات.. لقد مضى زمن طويل منذ آخر مرة قرأت فيها كتاباً.." سألها الرجل بفضول "أأنت تُحسنين القراءة؟.. من علّمك؟" ترددت للحظات وهي عازفة عن كشف هويتها رغم الطيبة الظاهرة على وجه الرجل، ثم تذكرت معلمها الذي كان يعمل في قصر أبيها معلماً لإخوتها، والذي رضِيَ بتدريسها خلسة دون علم الملك.. فقالت بابتسامة "علّمني إياها رجل طيب.." غمغم الرجل وهو يتأمل أحد كتبه "قلّة من الرجال من يوصفون بهذا الوصف.." قالت "أنت أيضاً رجل طيب.. فأنت لم تعبأ لأمر التنين الذي جئت معه وقمت بعلاجي وإيوائي فوق ذلك.." نظر لها الرجل متسائلاً "ما حكايتك يا فتاة؟.. أنا لم أرَ تنيناً في حياتي ولم أسمع به إلا في متون الكتب.. لذلك من الغريب أن أرى شابة مثلك ترتحل على ظهره بكل سهولة.." لم تجد رنيم مانعاً من إخباره بحكايتها، وإن اكتفت بالجزء الأخير منها والخاص برحلتها مع آرجان بحثاً عن جايا وما جرى لها بعد ذلك.. فعلق الرجل بدهشة بعد أن فرغت من حكايتها "هذه رحلة غريبة وصعبة جداً.. ما الذي جمع بين رجلٍ من الهوت وفتاة عربية في رحلة كهذه؟.." قالت ببساطة "الأقدار فعلت ذلك.." لم يعلق الرجل وهو ينهض تاركاً ما بيده من كتب جانباً وقال "اسمعي يا فتاة..." أسرعت تقول "اسمي رنيم.." فقال بابتسامة "اسمك جميل كهيئتك.." التمعت في ذهن رنيم ذكرى بعيدة، عندما قابلت الملكة في (الزهراء) وعلقت على اسمها بأنه لا يليق بها.. شتان بين هذين التعليقين، وشتان بين هاتين الحياتين.. استخرجها الرجل من ذكرياتها وهو يقول" اسمعيني يا رنيم.. اعتبري هذه الدار هي دارك.. أنا أسكن هنا، ولا أحتاج إلا لجزء صغير من الكوخ أفرش فيه فراشي وأنام فيه.. لذلك لا يمكنني منحك الكثير.. سأزودك بالطعام ومكان ترتاحين فيه حتى تقرري الرحيل.." قالت بسرعة "أنا شاكرة لك ذلك.. لكني سأرحل فور عودة التنين.. ألم تره أثناء نومي؟" هز رأسه نفياً وقال "لا.. لكن على الأقل سأحضر بعض الطعام لك، وهو ليس بالكثير.. لابد أنك جائعة.." ثم استدار هابطاً الدرجات، فسألته قبل أن يبتعد "وبمَ يمكنني أن أناديك أيها الرجل الطيب؟" أجاب دون أن يلتفت إليها "اسمي مُزاحِم.. يكفيك أن تناديني بهذا الاسم.." نظرت رنيم لظهره المحنيّ وهو يهبط الدرجات نحو الجزء السفلي من الكوخ، ثم نظرت للكتب من حولها وهي متعجبة من قدرها الذي ساقها لهذه الجزيرة بالذات، ولهذا الكوخ بالذات، لتعثر على هذا الكنز المخفيّ عن الأعين.. ولولا المهمة التي تسعى إليها، لقَبِلَت عرض الرجل دون تردد واستوطنت هذه العليّة لأيام وأيام حتى تشبع من هذه الكتب العزيزة على قلبها.. ********************* قضت رنيم اليومين التاليين تكاد لا تغادر الكوخ الصغير بتاتاً.. فهي لا تكاد تقطع خلوتها بالكتب في العليّة إلا لتقف عند باب الكوخ ترقب السماء بقلق وتطلق صفيراً عالياً على أمل أن يستجيب لها كاجا.. ظلت على أمل عودته عدة ساعات تحولت ليوم ويومان دون أن يبدو لها عند الأفق.. هل أصابه شيء؟.. أم أنه غضب منها وفضّل الرحيل وحيداً؟.. هل قرر البقاء في الغابة وعدم العودة إليها؟.. وعندما تيأس من رؤيته كانت تعود للكوخ فتعاون مزاحم بما تقدر عليه، وهي التي لا تعرف عمل شيء بنفسها بتاتاً.. وعندما يستغني مزاحم عن خدماتها التي لا تفيد أحداً فإنها تنزوي في العليّة الضيقة تتصفح الكتب وتشمّ رائحتها التي اشتاقت لها أمداً طويلاً.. رغم أن هذه المكتبة البسيطة لا تقارن بمكتبة أبيها الضخمة، لكن الراحة التي تشعر بها هنا لا تقارن بالضيق الذي شعرت به هناك.. ولا يؤرقها في تلك الساعات إلا التفكير في كاجا وفي آرجان.. هل حتّم عليها أن تفقد كل شخص، وشيء، تتقرب منه؟.. هل قدّر لها أن تكون وحيدة الآن في رحلتها هذه، كما كانت وحيدة في ذلك القصر الواسع ووسط عائلتها الكبيرة التي لم تفهمها يوماً؟.. وعندما نقلت هواجسها هذه لمزاحم قال لها وهو يبحث بين الكتب "سيعود.. لو كان أليفاً ومطيعاً كما تخبرينني عنه فلابد سيعود مهما طال الوقت.." تساءلت رنيم بقلق "لكن، كيف سأبقى هنا بانتظاره؟.. أرأيت كيف غَضِب القرويون لقدومي؟.." ثم دفنت وجهها في الكتاب أمامها مغمغمة "رغم أنني أواجه الغضب ذاته حيثما ذهبت.." قال مزاحم "لا أظن الغضب كان موجهاً لك أنت شخصياً.. فنظرة إلى وجهك تجعلهم يدركون أي فتاة لطيفة ومسالمة أنت.. غضب أهل القرية منك كان بسبب الذعر الذي عاشوه وارتبط بقدومك.. لك أن تعذريهم على ذلك، فظهورك المفاجئ ارتبط بتجربة قاسية تتمثل في التهام وشيك لصبيين من صِبْية القرية أمام أعين أهلها.. ولولا لطف الله تعالى لحملتِ إثمهما على كاهلك.." قالت رنيم "لكني لم أهدف للهبوط في هذه القرية بتاتاً.. لقد فقدت السيطرة على كاجا عندما رأى الجزيرة وأفقده الجوع تركيزه.." ثم تنهدت وهي تنظر للسقف الخشبي الذي علاه الغبار مغمغمة "ربما كان هذا خطئي بالفعل.. أنا لم أخطط لهذه الرحلة بتاتاً.. ظننت أن هذا البحر يحوي العديد من الجزر التي ستوفر لنا مصدراً آمناً من الطعام وموقعاً للراحة طوال الطريق.." قال مزاحم باهتمام "ليست الحياة بهذا اليسر يا فتاة.. عليك فعلاً أن تخططي لطريقك بشكل أكبر.." ونهض متجهاً لجانب من العليّة حيث صفّت أوراقٌ قديمة متفاوتة الأحجام، فاستخرج ورقة كبيرة الحجم وتقدم من طاولة جانبية ففردها أمامه.. تقدمت رنيم بفضول فرأت أمامه خارطة للعالم، تم التركيز فيها على بحر السلام بجزره وموانئه ومسارات السفن المعتادة فيه.. فهتفت رنيم "هذا رائع.. ستفيدني هذه حقاً.." قال مزاحم منذراً إياها "لا تحلمي بأن أعطيك هذه الخارطة.. عليك تدبّرها جيداً واختيار طريقك الأنسب.. ولو رغبتِ يمكنني تعليمك كيفية تحديد اتجاهك في أي مكان وأي وقت.. وهي وسيلة سهلة ولا تعتمد على أي أدوات خاصة.." قالت رنيم بامتنان "هذا سيعينني حقاً.. لا أعرف كيف أشكرك على كل هذا يا مزاحم.." تجاهل مزاحم قولها وهو يشير لجزء من الخارطة قائلاً "أنتِ قدمتِ من مدينة (طوقا).. هذا هو موقعها.. وهذه هي جزيرتنا.. بهذا يكون المسار الذي اتخذتِه بهذا الشكل، بينما مسار السفن المعتاد والتي تتجه نحو قارة الثنايا تتخذ طريقاً آخر مغايراً بعض الشيء.." استمعت رنيم لشرحه باهتمام شديد وهي تحاول حفظ الطريق في ذاكرتها.. بالنظر للخارطة، فهي في إحدى جزر الأرخبيل الأسود المتطرفة، وهي تقع في منتصف المسافة بين القارتين، وعليها قطع المسافة ذاتها التي قطعتها في قدومها لهذه الجزيرة.. هذا لو كانت حسنة الحظ وعاد إليها كاجا مطيعاً وأليفاً كما كان.. فما الذي يمكنها فعله لو لم يَعُدْ؟.. وبعد هذين اليومين، وبينما كانت تقف خارج الكوخ تتأمل السماء الزرقاء الصافية وتسمع حفيف الأشجار المثمرة القريبة من الكوخ، فإنها صفرت بأعلى ما تملك وهي تدير بصرها فيما حولها.. لا تدري متى ستفقد الأمل حقاً.. لكن ليس اليوم.. بالتأكيد يمكنها أن تتحلى ببعض الصبر لعدة أيام بعد.. وبينما كانت تدير بصرها في الأرجاء، سمعت صوت حفيف الأجنحة القوي الذي تعرفه تمام المعرفة.. فاستدارت بلهفة لترى التنين الأبيض يقترب منها وهو يهبط برفق على الأرض الرملية مثيراً عاصفة من الرمل.. كتمت رنيم صيحة فرح وهي ترى كاجا يقف أمامها بهدوئه المعتاد، واقتربت منه قائلة بابتسامة "عوداً حميداً يا كاجا.. يبدو أنك تحب أن تختفي من ناظريّ بين فترة وأخرى.." وجدت التنين المتململ يقترب منها بشيء من التردد وهو يزوم ويلمس ذراعها الجريحة بأنفه.. فربتت على رأسه مغمغمة "لا تقلق يا صاحبي.. كل شيء على ما يرام.." وجدته يلعق وجهها فجأة وهي تتراجع بدهشة.. ثم ضحكت وهو يمسح رأسه في ذراعيها، وضمّته قائلة "أهذه قبلة اعتذار؟.. لقد أخجلتني يا كاجا.." سمعت مزاحم يقول من خلفها "يبدو أن ذلك التنين يحبك بشدة.." قالت رنيم بابتسامة وهي تربت على خطم التنين المسترخي أمامها وتحك رقبته "ليس تماماً.. نحن مرتحلان بحثاً عن صاحبه الحقيقي.. وأنا بديلٌ عنه حتى نعثر عليه وننقذه.." قال مزاحم مبتسماً "بل هو يحبك بالفعل.. ومن قد لا يفعل؟.." أحرجها قوله فلم تعلق وهي تراقب التنين بابتسامة.. لقد شعرت براحة شديدة لرؤية كاجا يعود لنفسه ويستعيد هدوءه السابق ولطفه الذي لا يمكن أن تغفل عنه.. لا تلومه على ما جرى، فهي قد أجبرته على بذل مجهود أكبر من المعتاد واحتمال الجوع لوقت طويل لم يكن معتاداً عليه.. لذلك هي تتحمل نتائج عدم تقديرها ذاك ولا يمكنها لوم التنين المسكين على هذا.. وقفت رنيم، فوقف التنين بدوره بتأهب وهي تسرع لامتطاء السرج.. ثم نظرت لمزاحم قائلة "شكراً لك على كل شيء يا سيدي.. لن أنسى أنك استضفتني في منزلك اليومين الماضيين وتحملت عبئي بكرم.." قال مزاحم "انتظريني هنا.." وغادر عائداً لكوخه ورنيم تراقبه بتعجب، ثم عاد إليها بعد لحظات حاملاً جراباً قماشياً وقربة بيده وناولها إياها قائلاً "هذا يحوي ما تحتاجين إليه من طعام وماء لرحلتك هذه.. ولا تنسي أن تتزودي بالمزيد في أي جزيرة تعبرين قربها لئلا تقعي في الخطأ السابق ذاته.." نظرت رنيم للجراب والقربة مغمغمة بشيء من الذنب "لقد أسديتَ إليّ خدمة كبيرة يا مزاحم.." وخفضت رجهها بانحناءة خفيفة مضيفة "سأظل مدينة لك بكل ما قدمته لي طوال عمري.." فقال وهو يعدل عويناته "عودي إليّ في رحلة عودتك للقارة العظمى.. يمكنك عندها أن تطلعي على ما تشائين من كتب قدر ما تشائين.." قالت رنيم بابتسامة "سأفعل ذلك بالتأكيد.." وجذبت لجام التنين الذي اندفع نحو السماء دون تردد، بينما غمغم مزاحم وهو يراقبهما "بالتوفيق يا فتاة.." وبينما وجّهت رنيم التنين نحو وجهتهما كما علّمها مزاحم، فإنها راقبت الأفق الأزرق بصمت.. لقد تأخرت في طريقها أكثر من اللازم.. هي لا تعرف كم يوماً تستغرق السفن للترحال قاطعة بحر السلام الشاسع هذا.. لكن تتمنى أن تتمكن من الوصول لجانبه الآخر قبل وصول السفينة، وقبل أن يغيب آرجان في قلب مملكة كشميت دون أن تعثر له على أثر.. ********************* مضت ثلاثة أسابيع على آرجان وهو حبيس في قلب تلك السفينة لا يُسمح له بالخروج من القفص الذي بالكاد يتسع له بالقدر الكافي.. ورغم كل محاولاته مع رفاقه في السجن، كان هربهم مستحيلاً إذ شدّد البحارة الحراسة حولهم بعد هرب المجموعة السابقة من الهوت بوسيلة ما.. ولذلك، رغم عدم استسلامه للأمر، لم يملك آرجان إلا الصمت على ما يُساق إليه.. ورغم كل تساؤلاته، لم يجبه أي رجل من البحارة أو رئيسهم من الكشميت عن سبب اختطافهم للهوت وجلبهم لمملكة كشميت.. ظل هذا لغزٌ يؤرقه ويحيره بشدة.. ما الفائدة التي سيجنيها الكشميت من أسر الهوت دوناً عن العالم كله؟.. وبعد ذلك الوقت، وقد بدأت السفينة بالتباطؤ في إبحارها مما جعل آرجان يشك أنها تسير وسط خليج ضيق أو تقترب من ميناء يقع وسط تضاريس صعبة.. بعدها، وجد السفينة ترسو قرب الميناء الذي كانت أصوات الحركة فيه تعلو بوضوح يدلّ على هويته.. وخلال بضع ساعات، بعد أن أتمت السفينة إفراغ صناديقها، جاء عدد من الرجال لإخراج السجناء واصطحابهم للخارج.. تبادل آرجان مع رفاقه النظرات الصامتة.. ولما رأى البحارة وقف باستعداد ليدفعهم لإخراجه هو في البدء.. كانوا خمسة، وكل واحد منهم مكلفٌ برجل من الهوت، ولما فتح البحار القفص وطلب من آرجان التقدم ليوثق رباط يديه، فإن آرجان قفز نحوه وأسقطه أرضاً وهو يلكمه بقوة.. وأثناء ذلك استلب سلسلة المفاتيح الخاصة بالأقفاص ورماها لأحد رفاقه في الأقفاص الأخرى والذي كان بانتظار تلك اللحظة.. وبينما انشغل رفاقه بإخراج أنفسهم من سجونهم، فإن آرجان قد وقف أمام بقية البحارة بعد أن سلب خنجراً من الأول.. ورغم أن البحارة الأربعة قد تدافعوا نحوه بغضب شديد، لكن آرجان لم يتردد وهو يقفز وسطهم ويحاول تعطيلهم بشتى الطرق لئلا يحاولوا القبض على رفاقه قبل نجاحهم في الخروج.. فطوّح خنجره نحو أحد البحارة بضربة أصابت وجهه بجرح عميق بينما دفع ذراعه الأخرى بضربة حمّلها كل قوته نحو صدر آخر شهق لها بقوة وهو يجد عسراً مفاجئاً في التنفس.. تكالب الآخران عليه بينما نهض الأول وهو يصيح برفاقه بغضب ليمنعوا رجال الهوت من الهرب.. وبينما قبض أحد البحارة على آرجان من الخلف محيطاً كتفيه بذراعيه القويتين، فإن الآخر قفز نحوه بضربة قوية موجهة نحو بطنه.. فما كان من آرجان إلا أن يضع ثقله على الرجل خلفه ويرفع قدميه بقوة ليحيط بهما عنق المهاجم ثم يجذبه للأسفل بقوة حتى فقد توازنه وارتطم رأسه بالأرض بعنف.. عندها انثنى آرجان ورمى الرجل الذي يقيّده من فوق ظهره فوق البحار الذي سقط أرضاً.. كان يدرك أن معركته خاسرة بمفرده، لكن لم يكد ينتهي من هذين الرجلين حتى وجد رفاقه يقفون قربه ويهجمون على من بقي من البحارة ببسالة.. وخلال وقت قصير، كان البحارة مكوّمين أرضاً بينما انطلق آرجان يتبعه البقية عبر سلالم السفينة نحو سطحها وهو يقول لهم "سنجد مقاومة كبيرة من بقية البحارة.. علينا أن نحاول اختراقهم بأسرع ما نستطيع.. ولنتجه لحافة السفينة المعاكسة للميناء، فهم لن يسمحوا لنا بالفرار إليه قط.. بعد أن نصل لحافة السفينة، سنقفز في المياه ونشق طريقنا مبتعدين بأسرع ما نستطيع.." لم يعترض أحد الرجال بكلمة على قوله وهم يتجاوزون عدداً من السلالم حتى وصلوا لسطح السفينة.. وعندما سمعوا تصايح البحارة ممن انتبهوا للأمر وشكلوا سدّاً بينهم وبين مخرج السفينة الوحيد، فإن آرجان ورفاقه استداروا على الفور نحو الجانب الآخر المؤدي بهم للبحر المكشوف.. لكن ما رأوه أمامهم كان عدداً من الرجال برداء جنود الكشميت وهم يقفون صفاً واحداً، وتلقّتهم البنادق الثقيلة في وجوههم بضربات قوية أسقطتهم أرضاً دون حراك.. ومن لم يفقد وعيه منهم، مثلما حدث لآرجان، شعر بالقيود تقيّد يديه خلف ظهره وبجنديين يحملانه من ذراعيه ساحبينه نحو الميناء دون أي شفقة.. وخلال وقت قصير، في بناء واسع قرب الميناء استخدم كمستودع للبضائع، تم وضع الرجال في سجن جانبي وتقييد أيديهم وأرجلهم للحائط خلفهم.. ثم تُركوا هناك وحدهم دون حراسة بثقة كبيرة، وتجمع الجنود في جهة أخرى من ذلك المستودع بانتظار من ينقل هؤلاء السجناء من هذا الميناء، ونحو هدفهم ومصيرهم الأخير.. ********************* |
رد: على جناح تنين..
سلمت يداك
لم اقرأ الفصلين بعد وبالتأكيد لي عودة بتعليق إن شاء الله بعد القراءة لم احب ان اقرأهما على عجل فانا استمتع كثيرا واحبان اكون في حالة جيدة بعكسي اﻵن متوعكة وعندي موعد مع الطبيب فالتمس العذر تقبلي خالص ودي «اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي» |
الساعة الآن 01:03 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية