لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-07-17, 03:05 PM   المشاركة رقم: 96
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2017
العضوية: 326331
المشاركات: 35
الجنس أنثى
معدل التقييم: عيوش بنت محمد عضو على طريق التحسين
نقاط التقييم: 80

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عيوش بنت محمد غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي

 

~ 1 ~

‎" لنا حديث في وقت آخر إذاً وبحضور جدك .... تصبح على خير "

‎أبعد الهاتف ونظر لشاشته وشتم بهمس وهو يرميه داخل السيارة
‎بعنف متمتما

‎" أنا من سينسيكم أسلوب التهديد هذا ويريكم من هو الذي له الرأي "


(نجيب)


~ 2~

‎, قبضت أناملها على الهاتف بقوة تصارع نفسها لفعلها , لا حل آخر أمامها فرماح في لندن والكاسر دفنته منذ أعوام بعيدة فلم يبقى سوى جبران حلها الأخير

اتوقع غسق ممكن انو رعد اختفى او مرض وتبغا احد يساعدها ومو قدامها الا جبران 🙄


~ 3 ~

‎ما جعل الدماء تتجمد في عروقها حد الوجع هو الهتاف العالي لهم وبصوت موحد وهم يرددون عبارة واحدة بصوت جهوري يرتفع تدريجيا (( (( ......................

غسق لماا يرجع مطر وترحيب وفرحة الشعب برجوعه

~ 4 ~

‎فتح عينيه مفزوعا وأمسك بذراعي الواقف فوقه وكأنه سيرميه بعيدا

تيم والواقف فوقة اتوقع ف الطايره يا قاسم او دي جي لما يوصلون ارض الوطن تحمست ف التحليل😂


~ 5 ~

‎شهقت من فورها بصدمة على صوت ضحكة ........ وقد قرص خدها المستدير الناعم قائلا
‎" لا تخافي لأنه رفضه فورا "

‎وأمسك أنفها الصغير قائلا بابتسامة
‎" بل ولأول مرة أسمع مطر يكذب وهو يقول له ابنتي عريسها ينتظرها "

‎جحدته بنظرة مستغربة وقد حك لحيته مفكرا وهو يقول
‎" أم بظنك صادقا ككل مرة وفعلها بالفعل وعريسك ينتظرك ؟ "

دي جي وتيما <واناا اتوقع انو مطر عارف بسالفة بنته وعارف انو قاسم هو الي انقذهاا>

~ 6 ~

‎ابتسم قائلا " كم تعشقن أنتن النساء قلب الطاولة على رؤوسنا "

ما ادري بس يمكن غسق مع رعد

~ 7 ~

‎دفع كرسيه للخلف ليقف لكن يدها سبقت حركته وأمسكت برسغه موقفة له وقد قالت برجاء
‎" لن أتحدث عن الأمر أقسم لك فلا تغادر "

اتوقع الاجنبيه إيلينا مع وقاص


~ 8 ~

‎استطاعت أن ترى من بين تلك المياه المالحة التي تحرق عينيها ذاك الخيال الذي وقف أمامها مباشرة فمسحتهما بظهر كفها بقوة وظهر لها جليا تلك الملامح والنظرة والابتسامة الساخرة فالتفتت فورا تنوي المغادرة لولا أمسكت تلك اليد بذراعها وأدارتها بقوة لتنظر لوجهها وعينيها مجددا

تيم ومارياا

~ 9 ~


‎لن تفعلها أبدا ولن تتزوج ولا بمن في مثل سنها منهم مهما عاشت وامتد بها العمر وإن عاش ذاك الحبيب أم مات وهي من رفضت من أجله كل من تقدموا لخطبتها منذ كانت في السابعة عشرة

استريا

~ 10 ~


‎, اتكأت بجبينها على الحديد البارد لذاك السياج وأغمضت عينيها

‎ببطء هامسة " عد يا مطر شاهين .... عد أرجوك فثمة من يحتاجك حد
‎الضياع "

كمان اتوقع استريا

~ 11 ~

‎سحب السماعة من أذنه ونظر لها بجمود قبل أن يدسها في جيب
‎سترته متمتما بضيق وهو يركب سيارته " وواثقة جدا من رؤيتي لاحقا ؟ "
‎وانطلق بسيارته مسرعا والابتسامة الساخرة تعلو شفتيه القاسية فهو
‎يعلم جيدا أنه لن يكون هنا ولن يرضي غرور مراهقة في جسد امرأة
‎تعشق كل ما مُنع عنها

شاهر كنعان و غيسانه

~ 12 ~

‎حركت تلك عينيها للأعلى بضجر وقالت
‎" محاضرة رائعة لكن لست أراها سببا لتوافقي على ذاك الشاب "

‎ثم تابعت تنظر لها بنصف عين
‎" أو لا يكون أعجبك أنه ابن عائلة الشعّاب المعروفة هناك أو أنه ابن شقيقة مطر شاهين توافقين عليه وعينيك مغمضة "

اخت يمان صاحب ابان 🤔 مع اني اشوفها باقي صغيره بس مافي غيرهاا واعتقد فيه رد ل برد تقول انو فيه بطلة اصغر من تيما لذالك ممكن تكون هياا🙄

~ 13 ~


‎قالت بذات
‎سخريتها اللاذعة
‎" سأشتري واحدا لحبيبي هل لديك أي اعتراض ؟ "

‎لم تتوقع ضحكته المجلجلة تلك والتي أشعلت غضبها فورا وعلمت أنه
‎حينها إن كان أراد بذلك النيل منها فقد نجح وهو يسخر من كلامها ,
‎قال ما أن أنهى ضحكه ونظره على شعرها المنسدل على كتفيها حتى خاصرتها
‎" وهل يعلم سعيد الحظ ذاك أنك تخدعينه بلون شعرك هذا يا متحولة ؟ "

بصراحه احترت عندي احساس يقول انه شاهر كنعان مع غيسانه 😤واحساس ثاني يقول انه ممكن يكون رواح وساندرين 🤔


~ 14 ~


‎لم تشعر بنفسها إلا وهي تصرخ وقد قفزت عليه وجسده ارتد للخلف
‎ضاحكا يمسك نفسه ويمسكها بيده الأخرى كي لا يقعا للخلف خارج
‎السرير , تمسكت بعنقه بقوة

جوزاء وقت زوجهاا يقولها انو اخوها مطر رجع للوطن

ان شاء الله تكون توقعاتي صائبه🤔😍

 
 

 

عرض البوم صور عيوش بنت محمد   رد مع اقتباس
قديم 12-07-17, 04:29 PM   المشاركة رقم: 97
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
اميرة القلم


البيانات
التسجيل: Aug 2014
العضوية: 273354
المشاركات: 4,068
الجنس أنثى
معدل التقييم: برد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسي
نقاط التقييم: 4345

االدولة
البلدLibya
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
برد المشاعر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 

مرحبا يا حلوات ‏

هذي نتائج التوقعات لفصل اليوم ‏

آمال العيد 5/14

**

زارا 4/14

**

نوار حوران 7/14

**

قطة ناعمة 5/14

**

منى سعد 5/14

**

عيوش بنت محمد 6/14

**

أنايا 7/14

**

أنة غريبة 14/5

**

توباز 14/9

**

آمال العيد14/5

**

انجوانا 14/8

**

جارة القمر14/ 8

**

ميما 95 14/6

aisha 7/14

**

amalaza 6/14

**

أميرة الوفاء‎ ‎9‎/14 ‎

**

زينة4 8 /14

**

fezoo 4/14

**

fatima 5/14

**

ay gul 8 /14

**

نجمة المساء 8/14

**

فروحهه 14/7

**

ola 86 3/14

**

sara*suan‏ ‏6/14

**

ديجوو 14/10

**

bottajojo 5/14

*****

‏**


وبكده تكون الفايزة لهالأسبوع ديجوو بعشرة إجابات صحيحة



زارا شكل فيتامين صابتك بعينها على هالنتيجة ههههه ‏

الزوري أنا بحل لغزك لفيتامين وجهزي الهدية ‏،،،،‏ إنتي عرفتي إنه وقاص مع معجبة من عبارة ‏‏( ابتسم بفتور ‏‏) ....‏ صح ‏؟؟

 
 

 

عرض البوم صور برد المشاعر   رد مع اقتباس
قديم 12-07-17, 05:58 PM   المشاركة رقم: 98
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jul 2017
العضوية: 326333
المشاركات: 21
الجنس أنثى
معدل التقييم: المتشردة الصغيرة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 46

االدولة
البلدMorocco
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
المتشردة الصغيرة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي

 

السلام عليكم و رحمة الله ... بداية عيد مبارك و ينعاد عليكم ان شاء الله ( بعرف متأخرة بس عدوهالي )

هاد أول رد ليا مش عارفة حتى اذا كان راح يطلع بمكانو الصح او لاء .... لاني صراحة ما الي في المنتديات و لا اعرف شلون تشتغل ( فرجاء لو في غلط او ايشي مش بمكانو تغاضوا عنو )


رحلتي مع روايات برد المشاعر بدأت بمنازل القمر طبعا كنت اقرأها بصفحة على الفيسبوك بس كانوا لسا مش منزلين كل الرواية .... فرحت لجوجل لحتى اكملها ... و طبعا من منازل القمر لقيت نفسي بملامح تختبئ خلف الظلام و بعدها أشباه الظلال و بعديها حصون من جليد و كانت أول رواية الك بقرأها بمنتدى ليلاس ... بس كانت لسا ما خلصت ...لحقت عليكم بالفصول الاخيرة منها ... اكتر ايشي حبيتو وقتها غير الرواية ... الردود اللي بين الاعضاء و الكاتبة .... انو هيك في ايشي ( بفففف مش عارفة كيف اشرح بس انو كتير حلو هالتفاعل بين الكاتب و القارئ ) .... و بعد ما خلصتي حصون من جليد رحت ع أوجاع ما بعد العاصفة ( على فكرة العناوين تبعك كتييييير حلوة و كتيييير حبيتها ) .....و هيك بكون خلصت كل رواياتك ( طبعا بعد ما خلصتهم و قبل ما تنزل جنون المطر اعدت قراءتهم كلهم )


و بعد شهور نزلت جنون المطر روايتي المفضلة لاني تابعتها معاكي من الأول ... يعني هيك حسيت اني كمان وحدة من الركاب اللي بالمركب مش عاليابسة و بسمع من الركاب وش اللي صار بالرحلة ( احس ان مخترع التعبير المجازي بيقوم من قبره يقتلني ... اسفة ) .... بس كمان كنت اعصب لاني ما بعرف كيف ارد او كيف اعلق عالاحداث و هيك ....باخر فصلين من الجزء الاول عرفت انو زر "شكرا" بمثابة "اللايك" عالفيس فياااااي اخر فصلين عليهم بصمتي ...


طبعا قبل لا انسى في بنت اسمها مس ليلاس او مس ليلي مش متاكدة ... شكرا كتيييييييير الك عالبسمة ( قهقهة في غالب الاحيان ) لي كانت ترتسم على وشي كل ما اقرا رد من ردودك عن جد شكرا


نهاية شكرا كتييييييييير الك برد المشاعر ( او ميشو زي ما شفت الاغلبية بينادوكي ) على هالروايات الحلوة اللي كل وحدة فيهم خلتني اعيش جواها و كاني جزء منها ...... و مليووووووون شكرا على جنون المطر ... رواية أكثر من رائعة


اسفة من جديد لو طلع هالرد بغير مكان او عليه ايشي غلط .... و اسفة عاللهجة بعرف كلها اغلاط ... بس انا من المغرب و عشان تفهموا علي اضطريت احكي هيك


تقبلوا مروري ... في أمان الله

 
 

 

عرض البوم صور المتشردة الصغيرة   رد مع اقتباس
قديم 12-07-17, 06:45 PM   المشاركة رقم: 99
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
اميرة القلم


البيانات
التسجيل: Aug 2014
العضوية: 273354
المشاركات: 4,068
الجنس أنثى
معدل التقييم: برد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسي
نقاط التقييم: 4345

االدولة
البلدLibya
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
برد المشاعر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 

شكرا للغوالي الي سجلو عشان روايتي وللإطراء الي أعطاني أكبر من حجم قدراتي البسيطة

سعيدة جدا بقرائة كلماتكم ويا رب أكون عند حسن ظنكم بي للأخير

وحبيبتي الأنيقة الصغيرة مش المتشردة لأن أحرفك ما تدل إلا على الأناقة شكرا لك بحجم السماء

 
 

 

عرض البوم صور برد المشاعر   رد مع اقتباس
قديم 12-07-17, 06:54 PM   المشاركة رقم: 100
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,162
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




الفصل الثالث

الفصل اهداااااااء للغالية deegoo


المدخل ~

بقلم / نجمة المساء

في عبق الصفحات رواية . .
تروي القلب بنهر أماني!
(جنون المطر)تظل الغاية . .
بجزئيها اﻷول والثاني
ومضات ٌ نقرأها سطرا . .
وهي ألوف ٌ بمعاني
وحروف يكفي رونقها . .
أن يغمر كل كياني
حب ٌ حرب ٌ سلم ٌ أمن ٌ . .
وشرور ٌ في كل مكان ِ
أمل ٌ لا بد سيبقى . .
ألم ٌ يرحل . .وبإذعان ِ
أرض بلادي وسماها . .
وهواها ..مهوى وجداني
ﻷجلك كم ترخص أرواح ٌ. .
أموت لكي تحيا أوطاني . .


******


وقفت مكانها منتصف الغرفة تنظر بصدمة لشاشة التلفاز المسطحة
الكبيرة وللصورة فيها وقد احتلها المبنى العاجي اللون الشبه دائري
تلتف حوله أعمدة حجرية ونوافذ طويلة , بابه البارز الطويل والمقوس
يتراء للعيان من خلف السياج الحديدي والأشجارالتي تزين المكان
حوله وثمة دخان رمادي يتصاعد من أحد جوانبه , كان هناك تجمع
كثيف لرجال شرطة وسيارتان للجيش وصوت المراسل الصحافي يرتفع
بكلام لم تستطع ولا التركيز فيه وقد خفق قلبها بجنون وترقرقت
الدموع في عينيها وهي ترى الخبرالمرسوم فوق شريط أحمر أسفل
تلك الشاشة ( مجموعة كبيرة ومسلحة تطوق مبنى البرلمان والأعضاء
بداخله والشرطة وقوات الجيش تعجز حتى الآن عن فعل أي شيء
خوفا على الأعضاء بالداخل(

انهارت على الكرسي خلفها وقد رفعت راحة يدها لجبينها والأخرى
على صدرها وهمست ودموعها نزلت تتدحرج على خدها
" رعد شقيقي"

قبل أن تتحول لشهقات وهي تمسك فمها بيدها فتوجه الكاسر نحوها فورا وجلس بجوارها ممسكا بيدها وقال بقلق " أمي ستكون الأمور بخير لما البكاء , أرجوك "

لكن ذلك لم يكن ليفد شيئا وعيناها لازالت شاخصة في شاشة التلفاز
أمامها والدموع تنزل منها كحبات المطر الغزير ولازالت عبراتها
تتصارع بين حلقها وصدرها

يعجز عن إيجاد كلمات قد تطمئنها كما يعجز عن إيقاف دموعها الغالية
على قلبه وكم لعن نفسه في سره على خروجه من غرفته وقد كان كل
غرضه النزول لغرفة الحرس في الخارج ومحاولة الاتصال بأحد
الحراس الشخصيين لعمه رعد وفهم مايجري معهم وأين يكون تحديدا
وما يحدث في الداخل وما حجم الإصابات لكنها فاجأته بخروجها
المفاجئ في وجهه وهو من كان يعلم بأنها لن تغادر إلى مكتبها
في الجمعية قبل الساعة التاسعة , راقبها بعينين وجلة وهي تقف مجددا
بصلابتها التي ما تنفك ترجع وتتمسك بها ما أن تفقدها للحظات , وقف
وتبعها بخطوات بطيئة وهي تخرج من غرفته ووقف مكانه متنهدا
بعجز حين دخلت غرفتها مغلقة بابها خلفها


*

*

نظر من النافذة لنور الصباح الذي بدأ يتسلل من خلف البحر ولازالت السيارة تشق طريقها قربه لم تفارق الخط الساحلي , يحار ما كل هذا الانفراد الذي قالواعنه وهل يلزم الأمر أن يبعدوه عن صديقه يمان كل هذا القدر كي لا يسمع ماسيدور بينهم !! أم أن الأمر تعدى ذلك بكثير ؟ سند خده براحة يده المثبتة بمرفقه

على حافة إطار النافذة ونظر للجالس في الأمام بكسل قائلا " إن كنتم تنوون

قتلي فأخبروني على الأقل أخبر والدتي تتوقف عن البحث عن عروس لي "

التفت له أحدهما وقال مبتسما " أخبر والدتك إذاً تستمر في بحثها "

عبس متمتما " لما لا تهددونها بقتلي أو أن تُخرج تلك الفكرة

الغبية من دماغها "

ضحك الجالس بجانبه وقال في أول خروج له عن صمته " لأول مرة في

حياتي أرى شخصا يأخذونه للمجهول ويأخذ الأمر بفكاهة مثلك "

رمقه أبان بطرف عينه قائلا ببرود " وأنا لأول مرة في حياتي أرى خاطفين

بثياب أنيقة وأسلوب لبق وابتسامة ودود مثلكم , لا يمكنكم خداعي أبدا "

قابل ذاك بروده بابتسامة قائلا " لأننا مجرد طرف سيوصلك لشخص يريد

رؤيتك في مكان معين , ولا تخف هو أيضا لا يفكر في أذيتك "

وما أن أنهى جملته تلك حتى دخلوا مدينة يعرفها أبان جيدا وهي مدينة ( بينبان ) أقصى

غرب مدن الحالك ولم يفهم سبب جلبه من ( تيمور ) غرب الهازان حيث يعيش وعائلته

لأن عمل والده كان هناك منذ توحيد البلاد ليوصلوه هم هنا من الشمال للجنوب !! شقت

سيارتهم طرف المدينة وقد استغرب الانتشار الكثيف لرجال الأمن والبوابات التابعة

للشرطة بشكل لم تعهده ولا المدن هناك في الهازان !! توقفت السيارة بعد عدة أميال

عند ارتفاع الشمس لكبد السماء تتسلل أشعتها من بين الغيوم المتفرقة التي تجمعت

لتحجبها عنهم ولم يكن الطقس شبه معتدل كذاك الذي تركه خلفه في تيمور فلازالت

مدن الحالك تحافظ على طقسها الذي يميزها عن باقي البلاد , وما هي إلا لحظات حتى

وقفت في مواجهتهم سيارة سوداء نزل منها رجلان لهما هيئة جعلته يتوجس فورا وقد

فتح الجالسون معه أبوابهم ما أن اقتربا منهم ففتح بابه أيضا وترجل من السيارة فحرك

شعره الأسود هواء البحر القوي الذي لفحه فضيق عينيه في مواجهة الريح واستقام في

وقفته وأغلق الباب ممتثلا بما فعله مرافقيه وتحرك معهم دون أن يطلبوا منه ذلك ولا

أن ينتظر أوامر منهم ونظره كان على القادمان من هناك يسيران بخطوات واسعة

واحدة وكأنهما رجل واحد , ملامح أحدهما عابسة والأخر جامدة جمود الصخر

توقف والتفت خلفه ما أن توقف السائرون معه وتراجعوا للخلف فنظر أمامه للذيّن

اقتربا حتى وقفا على بعد خطوتين فقط منه , مد يده لجيب بنطلونه الخلفي وأخرج

مسدسه وحرك زناده ثم رفعه في وجهيهما قائلا " ليكن بعلمكم جميعا أني

لا أخشى الموت لكني سأآخذكم معي له أيضا "

شقت ابتسامة طفيفة تلك الملامح الجامدة المقابلة له وقد تحركت شفتاه القاسية

قائلة " لن نتوقع الجبن أبدا من رجل خاله يكون مطر شاهين "

كان وقع الكلمات عليه كرصاصة اخترقت صدره جعلته ينزل سلاحه ببطء وتوتره

يزداد , صحيح أنه لا يذكر الكثير عن خاله ذاك لأنه رآه لمرات معدودة قبل اختفائه

لكنه يعرف جيدا ما فعل وما قدم للبلاد فلازال ذكره يحتل مجالس كثيرة ولازالت

الناس تتذكره رغم مرور الأعوام ولازالت شخصيته المهيبة تلك محفورة في ذاكرته

حتى الآن , نقل نظره بينهما ثم قال بتوجس " ما الذي يمكنني أن أخدمكما به ؟

ولما جلبتموني إلى هنا إن لم يكن الغرض قتلي ولا اختطافي "

رفع أحدهما يده لتكشف عن مجموعة أوراق فيها أخذها منه فورا
وألقى عليها نظره سريعة
قبل أن يرفع نظراته المصدومة لهما
فقال أحدهما من فوره " منشورات مؤكد عرفتها فورا , ويتم توزيعها بين طلبة الكليات والمدارس بشكل ممنهج وقوي "

عاد بنظره للأوراق التي تتلاعب بها الريح بين يديه ثم عاد ونظر لهما وهمس

" هذا تحريض صريح للانقلاب على حكومة البلاد "

هز ذاك رأسه بإيماءة بسيطة وقال " من هم مثلنا ومثلك قد يدركون خطر كل هذا لكن من هم في سن ووضع طلبة المدارس والكليات الأمر
مختلف , والبلاد تُجر للفوضى أكثر "

مد له الأوراق فأخذها فورا وقد قال بحيرة
" وبما يمكنني المساعدة إذا ؟ "

وأضاف بعدما نظر حوله
" لا أضن أن هذا سبب لجلبي كل هذه المسافة ! "

كتف الواقف أمامه يديه لصدره وقبضته تمسك الأوراق بقوة كي لا تحملها الريح وقال مبتسما " ذكي كما علمت عنك وتوقعت "

وتابع بجديه ارتسمت سريعا على ملامحه
" رجالنا يحاصرون مبنى البرلمان منذ ساعات الفجر الأولى وبعض الأماكن غيره ولدينا مطالب معينة "

نظر له أبان غير مستوعب ما يقول قبل أن يهمس
" تحاصرون ماذا ؟ "

تابع ذاك حديثه وكأنه لا يسمعه
" بما أن مطر شاهين لم يبقى منه سوى أسطورة

وفقدت الناس الأمل في ظهوره من جديد وبما أن عمه صقر خرج من البلاد بعده بفترة قصيرة ورفض أي أمر له صلة بالحكم هنا فلم يبقى من عائلة شاهين غير أبناء ابنته وأنتم الأولى بحكم البلاد كما كان يجب أن يكون وأن لا يخرج حكمها عن الحالك وعن عائلتكم تحديدا "

فغر أبان فاه وكأنه يستمع لحكاية من الخيال غير مصدق ما يسمع وما يقال أمامه , شعر بجفاف شديد في حلقه ولم يعرف بما يعبر فقال الآخر بثقة

" لن يستطيع أحد أن يجحد حق الحالك في الحكم هذه المرة "

عبست ملامح أبان وقال بحزم
" لكني ابن صنوان وليس الحالك ولست أيضا أعبئ لهذه المسميات , ثم هل ترون فيما تفعلونه صوابا ؟
إن علم خالي مطربما يجري هل سيرضى بذلك ؟ ألم تفكروا في مصلحة البلاد ؟ أليست أنانية هذه !! "

اشتدت ملامح الواقف أمامه وقال بجمود
" نحن من يعلم مصلحة البلاد أكثرمن غيرنا وإلا ما كنا أطلعناك على ما بدأ ينشر في الخفاء والله أعلم من ورائه تحديدا , وابن شراع إن وافق على تسلم أمور البلاد سيكون مصيره كوالده بالتأكيد , ولا تفكر في اتهامنا بذلك فلسنا ورائه منذ البداية وشراع صنوان كان يحبه الجميع "

ضغط فكيه بقوة حتى برز عظميهما من تحت بياض بشرة لحيته الخفيفة

وهمس من بين أسنانه " أنتم تنوون إرجاع البلاد لنقطة الانقسام لثلاث

محاور , والنتيجة حرب أهلية من جديد "

قال ذاك من فوره
" بل إبقائها على ما هي عليه سيكون نتيجته حربا وشيكة

لذلك تحركنا وسيحتاج ما نفعله الآن لثلاث أو أربع سنوات حتى ينصب

رئيس البلاد الجديد وثمة رجال مهمين في الجيش سينظمون لنا
وينتظرون الإشارة فقط "

شد أبان قبضتيه بقوة ويعلم أن الحديث لن يفيد ولا الصراخ والاعتراض مثلما يعلم أن حال البلاد بالفعل يحتاج لمن يتحرك قبل أن تتشتت من جديد , لكنه لا يثق ولا بكلام هؤلاء الرجال , قال بعدما طال الصمت الذي لا يكسره سوى صوت الأمواج الغاضبة
" آسف لا يمكنني مشاركتكم كل هذا ولا تفكروا
في شقيقي غيهم فهو متصلب جدا من هذه الناحية "

أومئ الواقف أمامه بالموافقة وقال " نعلم ما يكون شقيقك وكنا نفكر فيك أنت تحديدا كرجل قانون وبما أنه هذا رأيك فلن يجبرك أحد "

قال الآخر بعده مباشرة " ولن نخبرك أنه من مصلحتك أن لا يعلم أحد
عما دار بيننا هنا والآن "

وتحركا من فورهما ما أن أنهى كلامه وركبا سيارتهما مغادران


*

*


مررت ظهر كف يدها الممسكة بالهاتف على وجنتها واليد الأخرى تحمل جهاز التحكم الخاص بالتلفاز ولازال على ذات المشهد والصورة والقناة التي تعرض ذاك المبنى الذي لازال يضم داخله أفراد برلمان بلادها وأحد من تعدهم أشقائها

تراقب عن كثب كل ما يجري مباشرة ويصلها جديد ما يحدث حتى غرفتها عن بعض المساعي الداخلية التي تبوء حتى الآن بالفشل الكامل ويعجز الجميع عن تلبية مطالب تلك المجموعة المسلحة وحتى عن ردعها بالقوة , وبعض المساعي الخارجية التي أقل كما يقال عنها أنها أشبه بالنفخ في الريح لا شيء لديهم سوى بعض التصريحات وإدانات لا تخيف عصفورا صغيرا وكأن الحال والوضع الراهن يعجبهم , نظرت للهاتف في يدها مجددا ولا تعلم ما بيدها تفعله فجلوسها هنا لم يعد
يعجبها وخروجها سيواجهه حرس منزلها بالرفض في ضل الظروف الراهنة فوضعهم أبناء شراع صنوان في خطر منذ مقتله على أيدي المجهولين , قبضت أناملها على الهاتف بقوة تصارع نفسها لفعلها , لا حل آخر أمامها فرماح في لندن والكاسر دفنته منذ أعوام بعيدة فلم يبقى سوى جبران حلها الأخير لتفهم منه على الأقل ما يجري هناك أو لعله يملك أي معلومات عن تلك المجموعات وما يريدون فقد حاصروا خلال الساعة المنصرمة حتى مبنى القصر الرئاسي والمحكمة العليا
للقضاء والناس في هرج ورعب شديدين , طلبت رقمه بأصابع مرتجفة تكره التحدث معه بعد حديثهما الأخير أو شبه الشجار القوي الذي دار بينهما وكلماته الجارحة التي رماها بها بقسوة , تعلم أن جرحه منها أكبر من جرحها بكثير وعلى مر أعوام طويلة مضت ولن تنسى كيف استغلت مشاعره نحوها لتدخل الحالك وقتها وما انتهى له الأمر

فحين واجهها بأنها من وافقت عليه ووعدته ثم تخلت عنه بسهولة لم تستطع الدفاع عن نفسها ولا قول شيء إزاء الحقيقة المرة , راقبت شاشة هاتفها وأسمه فيها بأمل أخير وصورة رعد أمام عينيها , وما لبث أن تكرر الرنين حتى رمته جانبا ومررت أصابعها في شعرها حين قطع الاتصال عليها متعمدا وهذا ما لم تتوقعه منه وصدّقت
الآن أن شكوك رماح قد تكون صحيحة وأن جبران بالفعل ينوي أن يدمر نفسه وغيره

هدأت من تنفسها وأمسكت الهاتف مجددا , حاولت الاتصال بمن يعرف بالقائد الأعلى لقوات الجيش لديهم لكن رقمه كان مشغولا على الدوام ولا سبيل لها غيره بعدما انقطع عليها سبيلها الوحيد لتلقي المعلومات وهو وزير العدل الرجل الذي كان بعمر والدها شراع وكانت تكره أن تكون على اتصال برجل غيره , فقدت الأمل في كل ما قد يحمله
لها هاتفها المحمول مهما كان متطورا ونقلت بصرها للتلفاز وبدأت تقلب قنواته بحثا عن القنوات الإخبارية فأمامها نصف ساعة فقط ثم عليها المغادرة لمكتبها في الجمعية

فستجد أمامها سيل لا نهاية له من المشاكل التي ستتوالد مع الأحداث الأخيرة اليوم

استقر بها الأمر أخيرا على إحدى القنوات المحلية حيث كانوا يناقشون وضع البلاد

وكأنها قطعة حلوى أمامهم أحدهم يرى أن حلول مشاكلها يكون من الداخل ومثلما ولدت عليها أن تموت وآخر يرى بأن الغرب هو من يرفض ويريد لتتداخل الآراء

فصرح أحد الخبراء في الوضع العربي وقال جملة واحدة
( الوضع يحتاج لرجل واحد برأي واحد وتجمع شعبي واحد , قيادة موحدة يثق بها جميع من في تلك البلاد وبجميع أطيافهم(

رفعت يدها وعادت لضغط طرف أصبعها على زر تغيير القنوات فلطالما كرهت كل تلك الترهات التي يلقيها من لا يعيشون داخل الوضع الذي يتحدثون عنه ولا يعرفون ما يكون ولا شيء لديهم سوى فلسفات سخيفة لا تتعدى أنوفهم
جمد إصبعها مكانه ويدها معلقة في الهواء حين وصلت لإحدى القنوات الإخبارية العالمية المعروفة وتعالت ضربات قلبها لا إراديا وهي ترى النقل الحي والمباشر لإحدى مدنهم الكبرى
وللتظاهرة الكبيرة وكم الناس الذين يكتظ بهم الطريق الطويل وسط المدينة
لم يكن ما جعل ضربات قلبها تضرب كطنين في أذنيها عددهم الكبير ولا اللافتات الطويلة التي يحملونها لأنها لم تنظر ولا لما كتب عليها بل ما جعل الدماء تتجمد في عروقها حد الوجع هو الهتاف العالي لهم وبصوت موحد وهم يرددون عبارة واحدة بصوت جهوري يرتفع تدريجيا (( نريد مطر شاهين .... نريد مطر شاهين((

رمت جهاز التحكم دون وعي منها ليصطدم بالشاشة صارخة " جبناء
حتى متى ستعلقون الآمال عليه ليجبر كسوركم "

وقفت وتوجهت للخزانة وسحبت بابها بقوة تخرج ثيابها منها لحظة دخول عمتها جويرية وقد وقفت الكلمات على رأس لسانها ما أن رأت جهاز التحكم المحطم على الأرض والشاشة التي شقت لنصفين وقد تداخلت الصورة فيها وتقطع صوت الهتاف الخارج منها وأصبح غير مفهوم وتذكرت فورا ما حكاه لها الكاسر عن تحطيمها لجهاز
الهاتف قبل يومين !! حولت نظرها المصدوم للتي تخرج الثياب وترميها على الأريكة المقوسة بعنف , وها هي ترى وجها آخر لها غير غسق التي عرفوها رغم تقلباتها ِمن تلك المرأة البعيدة الصامتة بعد عودتها من الحالك للحزينة الحازمة بعد وفاة والدها الذي
رباها والآن الغاضبة الثائرة التي تخلف حطاما بعدها كلما أثارها أمر لازالوا يجهلونه

خرجت الكلمات منها بحزم قائلة " غسق هل أفهم ما الذي يحدث معك هذه الأيام ؟ "

وراقبتها وهي تتوجه للحمام دون أن تنظر جهتها وقد همست من بين أسنانها

" لا شيء حتى الآن عمتي "

ودخلته مغلقة الباب خلفها بقوة أكبر من التي أغلقت بها باب خزانتها




*

*



فتح عينيه مفزوعا وأمسك بذراعي الواقف فوقه وكأنه سيرميه بعيدا عنه وسرعان ما تنفس بارتياح حين تبين تلك الملامح من بين تلك الغيمة البنية للشعر المموج الكثيف كاشفا عن حدقتين رمادية واسعة تنظران له بذهول , حرر ذراعيها وجلس يمسح وجهه مستغفرا الله بهمس فالكوابيس لم تتركه طوال فترة نومه القصيرة تلك وهو يرى أبان مقتولا رغم اتصاله به بعد وصوله هنا وطمأنته له بأنه سيكون بخير وأن الأمور ليست بخطيرة

" يمان هل أنت بخير ؟ "

رفع رأسه ونظره للواقفة فوقه ثم مسح قفا عنقه قائلا " بخير يا يمامة

لما أيقظتني هكذا ؟ كدت تخلعين لي كتفي "

قالت بتوجس " كنت أريد أن أسألك عن السيارة التي في الخارج , هل

أنت من أحضرها يا يمان ؟ "

استلقى على السرير مجددا وقال بصوت مرتخي " نعم "

نظرت له من فوقه قائلة بريبة " من أين أحضرتها ؟ "

نظر لعينيها الواسعة بطرفيها الناعسان ورغم أن شعرها المبعثر بتجعيدته السميكة كفيل بأن يخفي جزءا منهما لكنه يراها ويدرك جمالها مثلما تقتله النظرة الحزينة فيهما , أنف صغير وفم يماثله في صغر الحجم وبشرة ناعمة منسجمة مع ملامحها وشعرها رغم التناقض الكبير مع الطبع الناري لذاك الشعر
مررأصابعه في شعره المبعثر بسبب النوم قائلا
" السيارة لصديق لي , لا تخافي يا يمامة فأنا لم أسرقها "

تنهدت قائلة " أنا لست أتهمك بسرقتها يا يمان بل خائفة عليك من

والدي إن رآها في الخارج "

تثاءب مطولا ثم انقلب موليا ظهره لها قائلا بنعاس
" لا تقلقي إذاً فوالدك لن يستيقظ إلا قرب الظهر وسيكون صاحبها جاء لأخذها وقتها , وإن لم يأتي سآخذها بنفسي لشقيقه فاتركيني أنام هذه الساعة "

عبست ملامحها الطفولية الجميلة ثم قالت برجاء
" حسنا هل لي أن أراها من الداخل ؟ "

التفت لها برأسه وكان سيتحدث فجمعت كفيها أمام شفتيها قائلة برجاء أكبر

" لم أرى واحدة بجمالها عن قرب هكذا , لن أفعل لها شيئا يا يمان

فقط أركبها واراها من الداخل أرجوك "

تنهد بعجز أمام رجائها وهو من يعجز دائما عن تلبية ما تريد وتتمنى وإن لم تفصح عنه , السيارة أمانة لديه ويخشى من فضولها وعبثها بها لكنه أيضا يقدر شعورها نحو سيارة فارهة كتلك وهي من لم تركب حياتها ولا واحدة أسوأ منها , استلقى من جديد قائلا
" المفاتيح في جيب بنطلوني وإياك يا يمامة من العبث بأي شيء فيها "

قفزت من فورها وأخذت البنطلون بمفتاحه وركضت جهة الباب قائلة

" شكرا يا يمان سأعيد المفتاح سريعا أعدك "


*

*


دارت للناحية الأخرى من جسده تحرك يدها الفارغة بمبخرة وهمية وكأنها تحيطه بأبخرتها المتصاعدة وهو يعدل قبعته الخاصة ببذلة الطيران على رأسه ولا يحاول أبدا أن يخفي العبوس والتجهم في ملامحه , ضربها على يدها ما أن أنهى عمله

فقالت مبتسمة " الحق علي أردت حراستك من عين زكية وسنية وذات البشرة الحنطاوية "

وضحكت فور إنهائها عبارتها تلك فنظر لها وابتسم رغما عنه , فوحدها من تفلح في تعديل مزاجه دائما .. شقيقته ذات الثلاثة عشرة عاما من تتصرف مع كل فرد في العائلة وكأنها أصغر منه بعام واحد فقط فتجدها قريبة من الجميع وتفهم كل واحد منهم وكأنها ليست بذاك السن والحجم الضئيل , ضرب طرف أنفها بإصبعه وقال ببرود "

ابتعدي عن طريقي يا بثينه أو كسرت لك أسنانك الجميلة هذه وأفسدت ابتسامتك التي توزعينها في جميع الأركان "

فركت أنفها بملامح متجعدة من الألم وقالت " الحق علي أريد أن أطرد عنك الأعين الشريرة وأنت تخرج بلباسك هذا لأول مرة منذ تخرجك "

تمتم ببرود وقد انحنى لحذائه
" ليست سوى رحلات تدريبية لست فيها ولا مساعد طيار يا مضحكة "

تخصرت تراقبه حتى اعتدل في وقفته تحار كيف لا يرى نفسه وكفاءته وذكائه الحاد منذ أن كان طالبا بل ومظهره هذا في هذه البذلة التي لم تزده سوى جاذبية وقوة وتنهدت عندما توصلت للسبب دون تفكير , قالت تراقبه وهو يعدل قبعته مجددا

" رغم أن الطيران لم يكن رغبتك أبدا لكنك أفلحت فيه وبشهادة معدلك
المرتفع وأساتذتك وستصبح طيارا ماهرا بالتأكيد عما قريب "

وضع يده على رأسها وبعثر شعرها القصير الناعم بأصابعه مهديا إياها ابتسامة صغيرة وتحرك من هناك قائلا
" ننتظر نتائجك أنتي عما قريب يا مجدة لترفعي رؤوسنا "

لوت شفتيها بعبوس وتبعته وهو يغادر غرفته وما أن خرجت من الباب حتى وقفت لوقوفه المفاجئ ما أن ظهرت والدته في طريقه ونظرت له نظرة شاملة , لتلك البذلة الزرقاء الغامقة وخطوطها الذهبية تحضن جسده الطويل المتناسق حتى عادت بنظره لوجهه وعيناها قد غشتهما دموع عبّرت عنها السعادة التي ظهرت على وجهها وأمسكت وجهه بكفيها هامسة
" حمدا لله الذي أحياني حتى رأيت هذا الزي عليك ورأيتك رجلا كما أريد , لا امرأة أسعد مني هذا اليوم "

شعر بشيء ما اعتصر قلبه بشدة ولم يستطع التحكم في تلك المشاعر التي غزته فلن ينسى حرمان هذه المرأة منهما لأعوام وكيف عوضتهما عن كل ذاك الحنان الذي فقداه ما أن عادت للعيش معهم وجعلتهم يروا ابتسامة والدهم وضحكاته الصادرة من القلب التي لم يروها إلا بعد أن أرجعها زوجة له ما أن توحدت البلاد , كانت مثالا للأم الحنون التي
لا تخلو تربيتها من القسوة في كل ما كان فيه صالحهما , وما خفف عليه الآن بعض ضيقه السعادة في ملامحها وعينيها حين رأته كما أرادت وتمنت رغم أن الأمر كان ضد إرادته ورغبته ووافق عليه مرغما , كان هو من أمسك وجهها هذه المرة وقبّل رأسها قائلا

" لا حرمني الله من رؤية هذه الفرحة في عينيك ولا من وجودك بيننا "

أمسكت يديه من وجهها ونظرت له مبتسمة بفخر عجز لسانها عن التعبير عنه وقالت بحنان
" أتم الله فرحتي لأراك عريسا وأحمل أبنائك "

ثم سرعان ما تحولت تلك النظرة للاستهجان وهي تقول ناظرة حولها " وأين ذاك المجنون شقيقك ؟ ألا يكفيه أن نام خارج المنزل ولم يخبرنا سوى متأخرا وترك قلبي يتآكل انشغالا عليه "

نظر بحده للواقفة بجانبه وهي تمسك فمها تحجز ضحكتها التي سرعان ما تحررت وقالت ضاحكة
" حمدا لله على سلامتك جوزاء الحالك ضننا أنك لن تعودي "

وفرت هاربة ما أن ارتفعت تلك اليد جهتها ولحقها صوت والدتها لسيرها خلفها

" جهزي نفسك لتذهبي لمدرستك أفضل يا أم لسانين "

راقبهما مبتسما ثم هز رأسه وتحرك من هناك ونزل السلالم بخطوات سريعة فبعدما

تمنع متعمدا حتى عن الرحلات التدريبية عاد وأسقط ذاك البرج الحجري من رأسه كما تقول والدته فلعله يرتاح الآن على الأقل من سماع النصائح الدائمة ممن يعنيه ولا يعنيه الأمر , خرج من المنزل مغلقا الباب خلفه ومتنهدا باستسلام فلعله كما قالت له
شقيقته بثينة مرة ( لعل طاعتك لها وبرك فيه خير لك(



*

*

سحبت قطعة خبز أخرى من الصينية أمامها ودهنتها بمربى التوت وقضمتها متلذذة بما تفعل ونظرها على العينان اللتان تنظران لها بسخط ، مسحت المربى من طرف شفتيها بإصبعها ثم لعقته متمتمة " حسنا لما اتصلت بي من أول الصباح إن كان مزاجك سيئا هكذا ؟ "

ضمت الجالسة فوق السرير لازالت ببجامة النوم ساقيها بذراعيها وقالت بضيق

" إن انتهيت من ابتلاع فطوري فأخبريني لما لم تخبري ابن خالتك زائغ العينين ذاك أني متزوجة "

رمت زهور الملعقة الصغيرة من يدها مصدرة رنينا مرتفعا لارتطامها بالصينية النحاسية وقالت بضيق مماثل " لأنه ما كان ليساعدك قيد أنملة إن علم أنك كذلك

ابن خالتي وأعرفه جيدا يفقد عقله أمام النساء الجميلات مثلما ينفر من المتزوجات مهما كانت حسناء فما كان أمامي سوى أن أخفي عنه حقيقة زواجك الزائف ذاك

كي يساعدك ولا يتحجج بأي شيء فقط كي أصرف الفكرة من رأسي "

أنهت جملتها الطويلة تلك وتنفست بعمق تسترجع هدوئها وهي تراقب ملامح الجالسة أمامها وقد أشاحت بوجهها ونظرها بعيدا عنها واستغربت أنها لم تعلق هذه المرة كعادتها حين وصفت زواجها من تيم بالزائف ! تنهدت بهدوء وهي تراقب انسدال تلك الرموش الطويلة وقالت " يبدوا أنه لا أخبار جيدة ؟ "

وأضافت حين لم تحصل على جواب " على ماذا تحصلت من معلومات أم لاشيء ؟ فلن يكون سبب ضيقك هذا ابن خالتي فقط فأنتي أكثر من تكيف واعتاد على مضايقات الناس وكلامها الجارح "

" لا شيء ولا معلومات "

همست ماريه بتلك الكلمات الباردة الجوفاء وأصابعها تداعب طرف اللحاف ونظرها عليه
فقالت زهور مشككة " أقسمي لي بذلك لأرى ؟ "

رمقتها بطرف عينيها بنظرة باردة فرفعت حبة زيتون وقالت وهي تمضغها

" ماذا علمت عنه ؟ يبدوا الأمر مهما ويستحق "

وتابعت وهي ترمي عظم الزيتونة
" واجزم على أنها معلومات سيئة جدا من مزاجك الصباحي هذا "

غادرت ماريه السرير قائلة " رافقتك السلامة ... الزيارة انتهت "

ضحكت زهور وقالت " طردة محترمة لكنها غير مقبولة بالنسبة لي

ولن أغادر حتى أعلم ما حدث "

وقفت مقابلة لها ويديها في وسطها يفصلها عنها السرير الواسع بأغطيه أقحوانية اللون وقالت زهور قبل أن تواجه مزاج ماريه الذي بدأ يشتعل كما لاحظت

" هل جلبتني هنا لتطرديني فقط ؟ ماريه أنــ.... "

" سأذهب للجامعة "

فغرت زهور فاها غير مصدقة ما سمعت وقد همست " الجامعة !! "

أشاحت ماريه بوجهها جانبا وارتخى صوتها وهي تقول

" سأداوم ابتداءً من بداية الأسبوع "

أشارت لها بيدها بحماس قائلة " هيا عودي للجلوس وأخبريني ما هذا الذي حدث جعلك تغيرين قراراتك هكذا ؟ ولا تقنعيني بأنه لا شيء "

مررت الواقفة هناك أصابعها في شعرها ترفعه للأعلى عن وجهها قبل أن تتحرر تلك الخصلات من بين أناملها متساقطة لترجع مكانها ونظرت للأعلى وكأنها تحاول سجن تلك الدمعة التي تكابد لتنزل من حدقتيها العسلية الواسعة

فهمست زهور بحزن ونظرها معلق بها
" هل المعلومات سيئة لهذه الدرجة ؟ "

نظرت لها ومسحت جفنيها بظهر كفها قائلة " لا شيء مهم "

تنهدت تلك بعجز وقالت بصبر " حسنا هل تأكدت منه أم لم تدخلي

الموقع من أساسه "

أومأت برأسها ببطء وهمست ببحة " بلا دخلته ولم تكن صورة الشخصية

موجودة لكن المعلومات تنطبق عليه العمر لون الشعر والعينين ... "

حثتها زهور للمتابعة بحركة من رأسها فكتفت يديها لصدرها وتنهدت قائلة

" لا شيء آخر "

وعلقت حين رأت النظرة المستنكرة في عيني صديقتها " أعني لا شيء مهم "

أبعدت زهور الصينية من حجرها ووضعتها جانبا قائلة " حسنا لن

أضغط عليك أكثر رغم يقيني من وجود خطب ما "

ثم وقفت وقالت " قررت الصواب يا مارية وسنرى ما فاتك حتى الآن لتدركيه "

وسارت بخطوات سريعة جهة باب الغرفة حتى فتحته ثم التفتت ومقبضه لازال

في يدها ونظرت للتي لازالت واقفة مكانها وقالت بتوجس من فتحها للموضوع

" وماذا بشأن قضية الطلاق ماريه ؟ هل اتخذت موقفا حاسما يخصها أيضا ؟ "

لم يفتها ملاحظة بريق الدموع في عيني صديقة طفولتها الواقفة هناك وتمنت لحظتها بصدق أنها لم تثر ذاك الموضوع وصبرت قليلا على الأقل حتى تجتاز الصدمة التي تجهل كنهها وتستغرب إخفاء ماريه لها عنها !! لم تتوقع جوابا منها

ولم تنتظره بل خرجت مغلقة باب الغرفة خلفها بعدما همست قبل خروجها

" فكري فيما يكون لصالحك فقط ماريه ولا تعبئي برأي أحد ولا أنا "

نزلت بعدها السلالم تشعر بالحيرة والضياع فلطالما كانت مشاكل صديقتها تلك تعتبرها شأن من شئونها وتتفهم معنى ما مرت به حين كانت طفلة وما عناه ذاك الفتى لها فهو ووالدته يعتبران النقاط البيضاء المضيئة الوحيدة في سجل حياتها الباهت الكئيب وأنهما
كانا يعنيان لها ( العائلة , الأمان والقوة ) ومن الصعب أن تنسى أو تتناسى وجوده فهي ترى بعينها أنها لم تستطع حتى الآن ولا نسيان والدته المتوفاة فكيف به هو ؟؟؟
لكنها تلومه حقا وتكرهه بعض الأحيان لابتعاده وتركه لصديقتها تعاني ما عانت وهو يدرك جيدا ما ستمر به حتى إن كان لا يعلمه , وتراه السبب وراء الجزء الأكبر فيما حدث وأن تنصله لا مبرر له وأنّ تمسكه بعقد زواجه منها بشراسة هكذا رغم هجرانه للبلاد
لا يعد حسنة في حقه ولا يجب أن تتخذه ماريه مبررا لترفض التعاون في قضية الطلاق التي رفعها عمها فمن حقها أن تنال حريتها من قيده الوهمي ذاك وتتزوج من غيره لتكف عنها ألسن الناس ولتتحرر من عائلة عمها البشعة تلك كما تصفها .

غادرت المنزل وتوجهت لمنزلها المجاور لهم كما كان منذ سنوات طويلة وكلها أمل أن تجد صديقتها المقربة حلا لجميع مشاكلها ما أن تتحرر من نقطة ضعفها المتمثلة في المدعو تيم فهي تراه سببا حتى لتغير الطقس عندما يسوء


*

*


حركت الملعقة في كوب القهوة أمامها تنظر مبتسمة للجالس مقابلا لها
ولا حدود لمخيلتها مع روعة ملامحه في نظرها مع الخلفية الواقعة
ورائه حيث اختارت هذا المطعم خصيصا لعشائهما الموعود كما سمته
وهي تنتظر هذه الأمسية بفارغ الصبر لأنه من كان دعاها لها على غير
العادة , كانت الإطلالة فريدة من نوعها للمطعم الواقع على ضفاف نهر
التايمز حيث تلألأت الأضواء من عَمارات لندن الكبيرة من خلال نوافذه
الواسعة التي ترتفع من الأرض وحتى السقف فكان جلوسه
مقابلا لها وذاك الجمال العمراني خلفه بمثابة لوحة فنية جمعت الشرق
والغرب في نظرها , تنهدت بيأس من أفكارها ونزلت بنظرها لكوب
قهوتها ووضعت الملعقة جانبا حين لاحظت أنها كادت تذيبها في السائل
الأسود الذي يملأ كوبها من كثرة تحريكها لها فيه , كان العشاء مميزا
أحبه كلاهما رغم تحفظه ناحية بعض المأكولات ففي المرات القليلة
السابقة التي تناولا فيها الطعام معا كان هو من يختار المكان
ويأخذها لمطاعم تعد الأكلات الشرقية أو تدمجها مع أخرى غربية
وآسيوية لكنها ترتبط لديه بعبارة واحدة ( مطاعم الأكل الحلال ) وكانت
تحترم رأيه ولا تعارضه أبدا بل كانت تسعد بتلك الفرصة وإن قضياها
على صخرة في الصحراء يأكلان الأعشاب البرية لذلك اختارت هذا
المكان الهادئ نوعا ما والذي يتميز بتصميمه البريطاني بسيط المظهر
ولكن رفيع المستوى وهو من المطاعم الفاخرة المشهورة

وكما كان الطعام ممتعا برفقته فقد كان الحديث أكثر متعة بالنسبة لها
فلم تتوقف عن التحدث طوال فترة العشاء والتحلية وطرحت عليه جميع
مستجدات الأمور في شركتها الصغيرة ومشاريعها المستقبلية القريبة
وهو ينصت لها بانتباه واهتمام ويقدم لها النصح كصديق قبل إرشاداته
كمحامٍ , ورغم استرسالها المتواصل في سرد حتى مشاكلها التافهة
البسيطة لاحظت أنه وكالعادة يستمع لها أكثر مما يتحدث ويتحدث عنها
وليس عن نفسه , رفعت نظرها من السائل المستمرفي الدوران رغم
إبعادها الملعقة عنه ونظرت له وقالت مبتسمة
" ماذا عنك أنت يا وقاص ؟ لقد أزعجتك بكل ما يخصني ولم تتحدث عن مستجدات الأمور معك "

وضع الفنجان من يده وقال " الجديد في حياتي تعرفينه مسبقا ولن
أزعجك بسرد ما حدث معي في رحلتي الأخيرة لأنها لا تخص سوى
العمل "

أمالت شفتيها الرقيقة وقالت " هل تعني أني أزعجك بأمور عملي منذ

أكثر من ساعتين "

ابتسم قائلا " كم تعشقن أنتن النساء قلب الطاولة على رؤوسنا "

خرجت منها ضحكة رقيقة مرتفعة وقالت

" أفهمك يا وقاص كنت أمزح فقط "

وتابعت تبعد خصلات من شعرها الأشقر خلف أذنها " أحسد زوجتك

على زوج مثلك يعرف كيف يكون مستمعا جيدا للمرأة كما لا أحسدها

أبدا على انغلاقك على نفسك "

أنهت جملتها تلك وهي تشتت نظراتها بعيدا عنه وتحاول إخفاء المرارة
في صوتها من ذكرها للمرأة التي ارتبط بها دوناً عن جميع النساء
وأولهم هي التي كانت على استعداد لمنحه كل ما يريد , نظرت له
مجددا ورسمت ابتسامة مشاكسة تخفي بها ألمها ككل مرة وقالت
" يبدوا لي أن مركزك الجديد لم يرق لجميع أفراد عائلتك "

رفع حاجبه بتهكم وقد تابعت بضحكة صغيرة " سمعت إحدى زوجات

والدك تقول أنك لم تتحول سوى من مدافع عن المجرمين لمحقق معهم "

اتكأ للخلف مرخيا ظهره على ظهر الكرسي وكتف ذراعيه لصدره ولم يعلق على ما سمع فهو يعرف جيدا من تكون زوجة والده تلك دون أن يسأل , قالت الجالسة أمامه مبتسمة
" لا أرى رأيها سديدا فمركز مساعد المدعي العام يحلم به كل

محام ناجح "

حرك كتفيه قائلا بلامبالاة " البعض يحتاج لأن يفهم الفرق الحقيقي بين
المحقق والمدعي العام وهذا عائد لجهل الناس وليس لسوء مركزي "

حركت يدها أمام وجهها قائلة بابتسامة مداعبة
" أجل فهي بالتأكيد تحتاج لأن تقف في مكتبك كمجرمة لتعرف الفرق
بينهما جيدا "

خرجت ضحكة وقاص كقهقهة مكتومة بادئ الأمر ثم سرعان ما تحولت
لضحك مرتفع لم يستطع السيطرة عليه وهو يتخيل زوجة والده تلك
مدانة في مكتبه لتعرف الفرق بين عمله وعمل المحققين , أنهى ضحكه
ونظر للجالسة أمامه تنظر له نظرة عميقة يملأها الشغف وهي تراه
يطلق العنان لمشاعره بكل حرية هكذا وبسبب كلمات منها هي تحديدا ,
رفع كوبه ورشف منه مجددا يشتت نظره عنها وما أن وضعه

حتى وصله صوتها المنخفض كالهمس
" نمت خارج المنزل البارحة يا وقاص ؟ "

رفع نظره لها ورفع حاجبه مستنكرا فأسدلت جفنيها تراقب حركة
أصبعها الدائرية على طرف الكوب وقالت
" لا تبتعد بتفكيرك كثيرا فصديقة لي تعمل مضيفة في الفندق الذي
نمت فيه البارحة "

وتابعت ببحة اخترقت صوتها وقد رفعت نظرها له مجددا " كنت سأفقد

عقلي لولا أخبرتني صباحا أنك لم تستقبل أي امرأة في غرفتك "

شد أصابعه الطويلة في قبضة واحدة مشدودة وقال بنبرة لم تخلو من الحزم

" إيلينا أنــ... "

قاطعته بصوت متهدج يوشك لأن يتحول لبكاء مع ترقرق الدموع في
حدقتيهاالخضراء
" وقاص توقف عن توبيخي كلما تحدثت عن الأمر , وعدتك

أن نكون أصدقاء لكني لم أعد أحدا أني سأتوقف عن حبك "

دفع كرسيه للخلف ليقف لكن يدها سبقت حركته وأمسكت برسغه موقفة له وقد قالت برجاء
" لن أتحدث عن الأمر أقسم لك فلا تغادر "

حرك رأسه بنفاذ صبر وعاد لجلوسه على كلماتها الهادئة ونظرتها الحزينة

" هل تعاني من مشاكل مع زوجتك ؟ اعتبرني صديقة فقط وتحدث ولو

مرة عما يزعجك "

حك حاجبه يتجنب النظر لها فأكثر ما يكره إطلاع الآخرين على أموره
الخاصة تحديدا لكن معرفتها بمكانه البارحة وضعه في موقف لا يمكن
تجاهله ولا الدفاع عنه , قال ببرود " مشاكل بسيطة تعترض حياة أي
زوجين وستحل سريعا "

تنهدت الجالسة أمامه بصوت مسموع تنهيدة لم تدل على ارتياحها أبدا ثم تمتمت بصوت بالكاد فهمه
" حمقاء تلك التي تجعلك تنام بعيدا عنها "

ثم سرعان ما قالت قبل أن يعلق على جملتها تلك
" كنت أعتقد دائما أن الزواج الغير مبني على حب لا ينجح أبدا "

وتابعت وقد سرحت بنظرها للمنظر خلفه تريح خدها على كف يدها

" لذلك على المرء أن لا يقدم على تلك الخطوة الخطرة دون أن يحسب

حسابا لعواقبها "

ابتسم الجالس أمامها بسخرية وعلق
" للزواج أسس كثيرة إيلين الحب جزء واحد منها فقط وعلى المرء أن
لا يضيع الفرص الجيدة بحثا عما يسمى حباً "

كانت ستعلق لكنه قاطعها وهو ينظر للساعة في معصمه قائلا

" عليا المغادرة الآن والنوم مبكرا "

تنهدت بعجز ووقفت قائلة
" معك حق فغدا يومك الأول في مكتب المدعي العام "

وتابعت تراقبه وهو يقف
" أتمنى لك حضا موفقا من كل قلبي وقاص "

ابتسم لها شاكرا وغادرا المكان ما أن دفع الحساب وكالعادة غادر كل
واحد منهما في سيارته متجنبا طلب توصيلها كما تأملت مرارا في
الماضي حتى فقدت ذاك الأمل الكسير مع مرور الأعوام فشقت سيارتها
شوارع لندن متجهة لشقتها القابعة في أشهر وأغلى شوارع لندن في
منطقة ( بيلغرافيا ) وسط المدينة والذي سمي بشارع

الملايين لغلاء العقارات فيه , تضغط قبضتاها البيضاء على المقود بقوة
وكأنها بذلك تعتصر الألم داخلها ولازالت كلماته تجرحها كنصل سكين
حاد وهو يلمح بأنه عليها أن تقتنص الفرص الجيدة مع الرجال ولا
تنتظره وتعيش على الأمل الميت , وبينما توارت سيارتها خلف أضواء
المباني المتلألئة غادرت سيارته شوارع لندن مسرعة تاركا إياها خلفه
ليصل إلى ضاحيتها الغربية ( بريستول ) إحدى القلوب النابضة في
بريطانيا ومن أكبر مدنها الاقتصادية وحيث منزل عائلته الذي عاش فيه
منذ صغره وحيث شركتهم وأعمالهم المتمثلة في صناعة الطائرات
المدنية وإصلاحها وتصدير قطع الغيار الخاصة بها , تجارة امتدت
معهم لأعوام وكبرت بكل ذرة مجهود لديهم حتى أصبحت شركتهم من
أهم الشركات في المدينة التي اشتهرت بتلك الصناعات تحديدا ,
استغرق الطريق منه فوق الساعة ونصف رغم سرعته الكبيرة ففي
السرعة الاعتيادية هي تبعد عن لندن مسافة ساعتين ورغم أنه اعتاد
ذاك الطريق يوميا إلا أنه شعر بثقلها الكبير الليلة وبأنها تمتد إلى حيث
لا تنتهي أبدا , كان حذرا حين خرج من المنزل البارحة وقضى ليلته في
غرفة لإحدى الفنادق في لندن كي يجنب نفسه سؤالا سيطرحه عليه
البعض في ذاك المنزل ولم يتخيل أن الأعين تترصد له من خارجه وأن
الصدف تلعب دورها دائما , مرر أصابعه في شعره الأسود تتلاعب
به الريح الباردة القوية الداخلة من النافذة ويده الأخرى تتحكم في
حركة المقود قبل أن يتكأ بمرفقها على إطار النافذة المفتوح وأطراف
أصابعها تلامس المقود , اختار الهروب ليلة البارحة لأنه يعرف جيدا
ما سينتج عن نومه هناك خاصة بعد دخوله غرفته فور انتهاء الحفل
ورؤيته للفساتين السوداء الممزقة المتناثرة على الأرض وصوت بكاء
تلك يخرج من خلف باب الحمام المغلق , أراد بما قاله لها قبل الحفل
أن تتخلص من تلك العقد بنفسها وبمساعدته هو لا أن تتخلص من تلك
القطع السوداء من الخزانة وتبقى عالقة في داخلها , عرض عليها
زيارة مختص نفسي وأن يكون معها لتتحرر من كل تلك الأفكار التي
تتحكم بها لا أن تسجن نفسها في الحمام وتبكي داخله لساعات , أراد
أن يهرب من ذاك المنزل ليعطي لكليهما الفرصة لتجنب تفاقم المشكلة
رغم أنه يعلم بأن ذلك لن يجدي شيئا وهو بالفعل سئم الوضع الذي
تحمله بصبر لثلاثة أعوام مضت فمنذ الأسبوع الأول لزواجهما كان
مضطرا لتهدئتها وإسكات بكائها المرتجف وهي تتحدث عما سمعت
من كلام النسوة عنهما .
أوقف سيارته بجانب سيارة رواح التي وكالعادة يوقفها بشكل عمودي
يحار حتى كيف يستطيع ركنها بهذا الشكل الغريب ! ولا يستغرب ذلك
منه فهو يحب مخالفة الطبيعة في كل شيء , نزل منها ممتنا لوصوله
لتنقطع كل تلك الأفكار مع صوت ضربه لبابها وكأنه يأمل بأن تبقى
عالقة فيها , دخل المنزل الساكن تماما فمن عادة ساكنيه النوم مبكرا
وأغلق الباب الزجاجي الذي يتميز بكتمه لأي صوت قد ينجم عنه
وتحرك بخطوات واسعة مجتازا بهو المنزل الضخم المستدير وما أن
وصل منتصفه حتى أوقفه الخيال الذي خرج له من الظلام فتنفس
بعمق ما أن تبين صاحبه

" وقاص أين أنت حتى هذا الوقت بني ؟ "

كانت النبرة القلقة في صوتها أكثر ما كان يعشق فوحدها تذكره بأن له
والدة لم تمت بعد وإن دفنوا التي أنجبته تحت التراب , لامس بإبهامه
وجنة الواقفة أمامه تنظر له بقلق وقال مبتسما
" الساعة الآن الثانية عشرة فقط خالتي وأنا ما عدت طفلا "
عقدت حاجبيها وظهر الضيق في صوتها رغم انخفاضه
" بل الواحدة إلا ربع وليس من عادتك التأخر كثيرا يا وقاص , واليوم
لم تزر المنزل مطلقا لقد شغلتني عليك "

أمسك وجهها وقبل جبينها وهمس " أنا بخير كنت في لندن وأعدك أن
لا أفعلها مجددا , هل يرضيك هذا ؟ "
تنهدت بعمق ونظراتها على ملامحها التي تخفي انفعالاتها الأضواء
الباهتة والظلام النسبي لكانت قرأت الإرهاق فيها وعلمت أن هذا الوقت
الأنسب لوصوله , قالت برجاء
" لا تُحل المشكلات بالهروب يا وقاص , إن علم جدك فلن يضمن أحد
ردة فعله , عليك إصلاح الأمر بسرعة "
نظر لها باستغراب ولم يفهم الجزء الأخير من كلامها لكن جوابه كان
تنهيدة حانقة
فيبدوا أن خبر نومه البارحة خارجا وصل الجميع , راقب خطواتها
وهي تغادر حيث السلالم الغربي المؤدي لتلك الجهة من الطابق الثاني
حيث جناحها الخاص , وما أن توارت خلف الظلام حتى صعد السلالم
القريب منه والذي سيقوده لذات الطابق حيث الجهة الشرقية من ذاك
المنزل الضخم , صعد السلالم بخطوات واسعة لكنها خافتة وشق طريقه
عبر الرواق القصير الذي انتهى بردهة نصف مستديرة بأثاث كلاسيكي
عاجي اللون وكانت تفتح على ثلاث أروقة أخرى تشمل تقسيما
مختصرا لذاك الطابق المقسم لصالات وأجنحة واسعة , وعند المنتصف
رُبط ذاك الطابق بالطابق الثالث والأخير بواسطة سلالم نصف دائري لا
تخفى عن الواقف في تلك الردهة تفاصيله لقصر عتباته واتساعها
عرضا , وقف مكانه وارتفع نظره للجسد الذي كان يجلس في منتصف
السلالم يغطي نصفه السفلي ورقة بيضاء كبيرة وأنامل اتكأت عليها
تمسك قلم حبر سائل طويل خصص للكتابة على الأسطح التي يصعب
تحريك قلم الحبرالجاف عليها , كانت الإنارة في ذاك الطابق تشبه تلك
التي في الأسفل اقتصرت على أضواء مخفية خافتة ومصابيح صغيرة
تتدلى من قواعدها المعلقة على جدران السلالم وأروقة المكان ,
إضاءة لم تساعده مطلقا في رؤية ملامح التي وقفت على طولها ما أن
شعرت بوجوده تقبض بيدها بقوة على قطعة القماش التي ضن أنها
ورقة بيضاء كبيرة ولم تكن سوى قطعة قماش واسعة بيضاء قد تدلت
على العتبة تحت قدميها الحافيتين , وقد عكس بياضها الناصع على
بياض ثوبها الذي وصل لركبتيها كاشفا عن ساقين رغم الضوء الخافت
كان جليا بياض بشرتهما المصقولة كما ذراعيها العاريان لم يساعده
ضوء المصابيح خلفها على رؤية تلك الملامح جيدا لكنه كان يرى
نظرتها المركزة على عينيه تماما مثلما أن تلك الأضواء كانت تساعدها
على روية وجهه جيدا ونظرته التي هامت على جسدها قبل أن تستقر
على وجهها وعلى عينيها تحديدا , مرت الدقائق طويلة وكلاهما على
هذا الحال نظرته العميقة الساكنة وكأنها تحاول اختراق دواخلها وفهم
تلك النظرة الثابتة الجامدة التي لم تزحها عن عينيه , وجمود جسدها
وكأنها تمثال جيري لجسد امرأة نحيل متناسق ومغري في ذاك الثوب
الحريري القصير والضوء الخافت وسكون المكان , ارتفعت يده ببطء
وحياها بحركة بطيئة منه لعلمه المقتصر على أنها لا تستطيع السمع
فلا يمكنه فعلها بالكلمات , ولم يكن يفكر في بحث كيفية خروجها

من جناحها المؤمن جيدا ووصولها إلى هنا لأنه يرى أن هذا حق من
حقوقها وأن معاملتها كحيوان شرس إجحاف في حقها وتدبير مبالغ فيه
, كان رد فعلها الوحيد على حركته تلك أن ركضت صاعدة السلالم
وقطعة القماش تتبعها على العتبات وخصلات شعرها الطويل
في انعكاس النور الخفيف تمايلت مع ركضها كذيول أشعة الشمس حتى
اختفت فأنزل يده ونظره لازال حيث توارت عن ناظريه , فتاة بقدر
سكونها وصمتها تثير في المكان الذي تكون فيه ضجيجا لا مرئيا لا
يستطيع فهمه ولا تفسيره وكأن كل شيء حولها وحتى الجدران يتحدث
بدلا عنها , قبض أصابع يده التي ارتفعت لها قبل قليل ثم تحرك من
هناك وشق طريقه وسط أحد تلك الأروقة التي انتهت لصالة استقبال
واسعة خصصت له وزوجته تحديدا يقسمها لنصفين جدار زجاجي وقد
صممت إحدى جهاتها كشرفة تطل على الطبيعة في الخارج بينما القسم
الآخر كان يحوي على شاشة تلفاز ضخمة صممت ضمن الجدار
وأريكة طويلة مقوسة وضعت مقابلا له , يفتح على القسم
الخاص بالشرفة الزجاجية باب جناحهما وبابان آخران أحدهما مطبخ
مجهز تجهيزا كاملا والآخر يفضي لردهة صغيرة حوت حماما وغرفة
مستقلتين , دخل الجناح الساكن في ظلامه المعتاد وتوجه فورا لباب
غرفة النوم الشبه مفتوح ودفعه مستغربا ليس فقط فتحها له على غير
العادة بل والظلام التام الذي لم يعتدها تنام فيه ! فرقع أصبعيه مصدرا
صوتاواضحا في صمت المكان فاشتغلت الأنوار فورا متسلسلة ابتداءً
بمصابيح الجدار وانتهاءً بمصباحي السرير الجانبيان , غضن جبينه
ينظر باستغراب للسرير الفارغ والمرتب وكأن أحدا لم يستخدمه
لساعات ! وسرعان ما تحول نظره جهة باب الحمام المفتوح ولا
أصوات تصدر عنه وأنواره مطفأة تماما فعلم فورا أنها على ما يبدوا
حذت حذوه وقررت المبيت خارج المنزل الليلة إلا إن كانت في مكان
آخر من المنزل الواسع وذاك احتمال وارد رغم أنها لم تفعلها سابقا
ولم يعهد منها الغضب الذي يجعلها تغادر أو حتى تهجر غرفتهما فلم
تتخذ يوما قرارا أقوى من شخصيتها المهزوزة , لفت نظره الورقة
المعلقة على أحد أبواب الخزانة بل وعلى باب خزانته تحديدا , توجه
نحوها بخطوات واسعة واستلها بقوة لتتحرر من الشريط الشفاف
اللاصق الذي كانت مثبتة به , رفعها أمام وجهه وقرأ الكلمات المكتوبة
عليها بقلم حبر وخط مرتجف بشكل واضح ( لقد عدت لمنزل والدي يا
وقاص وإماالعملية أو لن أرجع لهذا المكان مجددا وواجه أنت جدك
ووالدي وأخبرهم بما قلت ليلة أمس(

جعد الورقة في يده بقوة وفهم حينها معنى كلمات زوجة والده , رمى
الورقة المجعدة بطول يده شاتما بهمس " سحقا لعقلك يا جمانة , ليس
أنا من يُهدد بجده ووالدك أبدا "


*

*


نزل من سيارة الأجرة وهاتفه في يده يتأفف بسبب صاحب الرقم الذي
لا يجيب ضرب باب السيارة بقوة متمتما
" هل عليك أن تُقفل باقي المزاج يا يمان"
نظر من النافذة للجالس خلف المقود ينظر له نظرة قطة جائعة منتظرا
ثمن توصيله له وقال
" انتظرني هنا قليلا فقط وسأعطيك ضعفي أجرتك "
ابتسم له الشاب بحبور فهو لن يتوقع أن يخدعه من نوع الثياب التي
يلبسها ورائحةعطره الفرنسي المميز لأنه سبق وأن عمل سائقا بأجر
في فندق عالي المستوى في البلاد ويعرف جيدا أنواع هذه العطور وكم
ستكون تكلفتها وإلا ما صدق أنه قد يختفي ليخرج له مجددا من هذا
المكان حيث كانت مدينة قد أحاطت منازلها مزارع تخص ساكنيها
فتجدها متباعدة عن بعضها بمسافة لا تقل عن العشرين إلى الخمسين
مترا لوح له بيده موافقا فتحرك أبان من هناك يدس هاتفه في جي
بنطلونه الخلفي لا يعلم يلوم نفسه على تركه لمحفظته ومعطفه في
السيارة قبل نزوله منها أم يلوم صديقه على تجاهله لاتصالاته الملحة
ووضعه في كل هذا المأزق ، اجتاز السياج الحديدي الشائك حيث كان
وحده الشيء الذي يفصل أملاك الناس هنا عن بعضها وعن الطرقات
الترابية التي تعبر منها السيارات وحيث أن الأسيجة هنا بدون أبواب
فلا يصعب على أحد اجتيازها ولم يهتم أحد أبدا بفعلها فلا خروق في
مثل تلك البلدات التي يزرع أهاليها البسطاء ذات الأنواع من الأشجار
المثمرة فلن يخشى الجار جاره ومعظم مزروعاتهم هي لأشجار التين
والزيتون وبعضها تكون مزارع صغيرة لأشجارالفستق واللوز ، تحرك
بين الأشجار المتقاربة نسبيا يرى المنزل المتواضع لصديقه من
خلفها ... ( يمان ) الفتى الهادئ والشارد الصامت غالبا والصادق
المحترم كما عرفه منذ كانا بالمدرسة الثانوية واستمرت لسن الجامعة
, الصديق الكتوم الذي لولا أنه عرض عليه أن يقوم بتوصيله يوميا
لجامعته البعيدة منذ أربعة أعوام ما علم أنه يعيش هنا ولا أنه يعمل
في هذه الأرض بيديه مع والده وهو لم يخبره فكل ما كان يعرفه عنه
أنه فتى منعزل عن البقية تقريبا في المدرسة , متفوق ومنافس كبير
له وأنه كان يصل المدرسة عن طريق حافلة صغيرة مشتركة ومزدحمة
بالطلاب , وأغلب أيام دراستهم كان يصل متأخرا ليتلقى عقابا قاسيا
لأن تلك الشاحنة الصدئة كما كان يسميها أبان قد تعطلت بهم وأكملوا
الطريق سيرا على الأقدام , ولن ينسى الأيام التي كان يصل فيها
المدرسة مبتلا تماما بسبب المطرالذي داهمهم في الطريق يرتجف كأيل
صغير عبر النهر وحيدا فكان يتشارك معه ثيابه حتى تجف تلك فكان
أحدهما يرتدي القميص الصوفي والآخر يرتدي السترة أوالمعطف وحده
دون ثياب , ولا ينسى تلك النظرة في عيني يمان حين كان يرفض أن
يعيد له سترته ما أن تجف ثيابه بل يتقاسما ثياب يمان أيضا دون أن
يشمئز من بساطتها ولونها الباهت القديم ولا يتبادلا ثيابهما إلا في
اليوم التالي خاصة وأن والدته لم توبخه يوما على فعلها ذاك الوقت
وهي أكثر من كان يغرس فيه كل تلك المبادئ التي لازال يقدرها حتى
اليوم , وفي المرات القليلة التي وافق فيها تحت إصرار وضغط كبيرين
منه أن يتناول إحدى الوجبات معه في المنزل أو أن يدخل عند زيارته
له لأمر يخص دراستهم كانت والدته جوزاء ترحب به وتستقبله
بترحاب فعزز ذاك الأمر صداقتهما أكثر لتمتد لأعوام , ولازال يمان ذاك
الصديق الغامض بالنسبة لأبان ولازال لا يعلم عنه إلا القليل جدا , فلا
شيء سوى أن والدته توفيت وهو في الثانية عشرة من عمره وتركته
وشقيقة أصغر منه وأن والده تزوج من أخرى فوروفاتها فلا يعلم حتى
كم من الأشقاء لديه من والده فلم يدخل منزلهم يوما واحترم أنه لم يقم
بدعوته لفعلها فنظرته الكسيرة كلما زاره هنا نبأته بأنه يصعب عليه
استضافته لأمركان ولازال يجهله وهو يحترم صمته عنه .

" ها هي ... "

تنهد أبان بتلك الكلمتين وهو يسير بخطوات واسعة جهة سيارته
المتوقفة خلف المنزل ففوق اجتيازه لتلك المساحة المزروعة بالأشجار
كان عليه الدوران حول منزلهم الأرضي واسع البناء بحثا عنها وكما
توقع كان يمان سيختار جلبها هنا على تركه لها في أي مكان مهما كان
آمنا ، كانت المساحة خلف المنزل لا تقل اتساعا عن واجهته غير أنها
لم تكن مزروعة كتلك وكانت تحوي بئري ماء كبيرين مع ساقية وثمة
جرّار زراعي صغير متوقف فيها وشاحنة صغيرة وقديمة يبدوا أنها
معطلة من إطاراتها الناقصة حيث ترتكز على إطارين وحجري طوب
لتتوازن فلا تقع , كما لاحظ وجود قن للدجاج وتلك المخلوقات

الصغيرة تطوف حوله وفي الأنحاء دون قيود , وأيضا قد أخذ جزأ من
تلك المساحة سياج حديدي شائك ومقفل بإحكام يحوي ما لا يقل عن
عشرة نعاج وثلاث أو أربع خرفان بقرون كبيرة ومخيفه تأكل بنهم من
طعام يبدوا وضع لها حديثا , وكان هذا بالنسبة لأبان جزء آخر من
عالم يمان المجهول !! اقترب من السيارة يُخرج بطرفي إصبعيه
المفتاح الموجود في الجيب الأمامي لبنطلونه الجينز وحمد الله أنه أخد
المفتاح الاحتياطي لها معه ولم ينساه كما فعل مع محفظة النقود ، قرر
أن يأخذها من هنا بما أن الوقت مبكر وسيرسل له رسالة يخبره
فيها أنها معه كي لا يضن أن ثمة من سرقها رغم أن ذلك أمر يصعب
فعله إلا مع خبير في سرقة السيارات ، وقف فجأة ما أن كانت المسافة
التي تفصله عنها مجرد خطوات قليلة جدا وهو يرى بنطلون يمان
مرمي جانبا على رف خشبي قديم قد ركنت السيارة بجانبه ولم يكن

يتبين ما بداخلها بسبب زجاجها المعتم ، غضن جبينه ونظر لها بتركيز
عاقدا حاجبيه الأسودان وقد لاحظ باب السيارة الأمامي المفتوح أيضا
فما يفعل يمان داخل السيارة وبنطلونه خارجها !!
تبادر ذاك السؤال في ذهنه ولم يجد له جوابا أو كان يهرب فعلا من
الجواب الوحيد عنه فهو يعرف صديقه جيدا ويثق في أخلاقه أكثر من
ثقته في نفسه ، انفتحت عيناه على اتساعهما من الصدمة حين اهتزت
السيارة بشكل خفيف وخرج منها صوت تلك الضحكة الأنثوية
الرقيقة جدا بل .... ! تمتم أبان من بين أسنانه
" في سيارتي يا يمان وفتاة قاصر أيضا "
تحرك مجددا ناحية السيارة لا يصدق أبدا ما يحدث هنا فآخر من قد
يفكر أنه يفعل هذا هو صديقه القديم ذاك ! لكن البنطلون له يعرفه جيدا
فلا يراه يغير بنطلونه إلا باختفاء السابق أي لا بنطلونان لهذا الشاب
أبدا ، اقترب حتى وصل مؤخرة سيارته المرتفعة الفاخرة وعض شفته
بقوة كاتما غضبه وهو يسمع تلك الضحكة والصوت مجددا

"يمان ستقلب السيارة بنا توقف هيا "
كاد يفقد عقله حين سمع تلك الكلمات وأول ما فكر فيه أن صديقه ذاك
يواعد فتاة بل شبه طفلة وسط مزارعهم هنا واختار سيارته هذه المرة
كغرفة فندق فاخرة لهما ، حاول أن يزيح تلك الأفكار والظنون من
رأسه وأن يتعوذ من الشيطان ولا يضن بصديقه سوءا لكن الوقائع
أمامه أعجزته عن فعلها ، تقدم أكثر حتى كان عند الباب المفتوح
لسنتيمترات قليلة جدا لم تكن تكفي سوى لخروج ذاك الصوت
والضحكات الرقيقة ولا يسمح برؤية شيء في الداخل ، كاد يركل الباب بقدمه بقوة ويخرج من فيها جرا على الأرض حين قال ذاكالصوت من الداخل ضاحكا
" حسنا لن ألمسها مجددا أبعد يدك عنها واتركني أراها "
صر على أسنانه بقوة حتى كاد يحطم فكيه وتنفس بغضب مستغفرا الله
بهمس وقد توقف ذاك الصوت عن التحدث والضحك وكأن من فيها قد
مات واختفى تماما حين ضرب بيده على سقف السيارة وخرجت
الكلمات القاسية من بين أسنانه ونظره على شق الباب
" يمان اخرج لي وحدك الآن وفورا "

*

*

انكمشت عند باب كرسي السائق مقابلة للباب الذي بجانبه تضغط
قبضتاها بقوة ودون شعور على النظارة السوداء الأنيقة بين يديها
وزاغ نظرها المرتعب جهة الباب الذي دخل منه ذاك الصوت الغريب ,
ليس صوت والدها وهذا هو المهم لكنه ليس صوت شقيقها يمان أيضا
ولم تسمعه سابقا ؟ وليست تعلم إن كان صاحب السيارة أم غيره وهذا
ما لم تحسب حسابه , لقد عاشت حياتها سجينة جدران هذا المنزل
والمزرعة المحيطة به ومنذ طفولتها ولعبها في الشارع لم ترى رجلا
وانحصر عالمها بين شقيقها ووالدها وأخوتها الصغار ولم يعد للجنس
الآخر وجود في حياتها سوى ما تراه وتسمعه في التلفاز مصادفة فهي
عليها أن تكون نشيطة طوال الوقت لذلك الجلوس أمام التلفاز ليس من
ضمن مهامها اليومية الكثيرة ولا يُسمح لها بمشاهدته إلا خلسة ,
سمعت صوت طقطقة خفيفة فأرخت أصابعها وعضت شفتها بقوة تنظر
بعينان بدأت تغشوهما الدموع للنظارة التي ترتجف بين أصابعها , لقد
كسرتها هذا ما هي متأكدة منه جيدا وأصبحت المصيبة اثنتين ولازالت
تتضاعف وهي تسمع ذاك الصوت الرجولي الغاضب يردد مجددا
" قلت اخرج يا يمان أو فتحت الباب الآن "

بلعت ريقها بصعوبة لجفاف حلقها تماما ولا تعلم لما يصر ذاك الشخص
على أن يمان هومن في الداخل ! دست وجهها بين ساعديها تخفي
نفسها في ساقيها المضمومتان لصدرها حين انفتح الباب بقوة وتسرب
الضوء أكثر للسيارة , سادت لحظة صمت طويلة ظنتها لن تنتهي أو
أنها ماتت من الخوف لذلك لم تعد تسمع شيئا !! حركت جفنيها ترمش
بسرعة وكأنها تتأكد من أنها لازالت ضمن الأحياء فابتسمت من بين
خوفها وظنت بالفعل أن كل ما حدث كان كابوسا وانتهى حتى رفعت
رأسها ببطء ونظرت بعينين فزعة للشاب الواقف عند الباب مقابلا لها
ينظر لها بصدمة لم تفهم سببها !! واكتشفت حينها هوية ذاك الشخص
فهو بلا ريب صاحب السيارة فلن تتخيل أن أحدا من هنا يمكن أن
يكون بكل هذه الأناقة وهذه الملامح الغريبة والشعر والعينين الأسودان
كالليل , بقيت ترمش بعينيها دون توقف .... إنه كأولئك اللذين تراهم
في التلفاز تماما وكأن أحدهم خرج لها منه

" من أنتي ؟ "

كانت تلك الكلمات الوحيدة التي كسرت الصمت بينهما وكل واحد يحدق
في الآخر من نظراتها المختلطة بين الخوف الممتزج بالفضول الغريب
ونظراته التي اجتازت صدمة أنه لا وجود لما كان يتوقع هنا وأصبحت
نظرات مستغربة تبحث عن تلك الملامح بين غيمة الشعر البني المجعد
الذي وصل لحد كتفيها حتى أنه أخفى أغلب ملامحها , والجسد الضئيل
المنكمش عند الباب , كرر السؤال بحزم حين لم يجد منها جوابا

" قلت من أنتي ؟ "

خرجت الكلمات من بين شفتيها المرتجفة التي تخفيها في ذراعيها
الملتفتان حول ساقيها تحضنهما بقوة

" يمامة "

غضن جبينه مستغربا فرفعت يدها الصغيرة المرتجفة من الخوف
بحركة لا إرادية ورفعت بها خصلات شعرها المموج عن وجهها
لتكشف حركتها تلك عن تلك الأحداق الرمادية الواسعة وكأنها قطعة
زجاجية مطلية ومصقولة تلمع في الضوء الخافت وحاجبان بنيان
رقيقان وطويلان وجبين صغير جدا مساحته تكاد تكون كأصبعين ,
حررت تلك الخصلات سريعا من بين أصابعها لترجع على وجهها لكن
بوضع أفضل من السابق أتاح لها الرؤية أكثر وللواقف هناك حرية أكبر
في حركة حدقتيه المتأملة لها , أمال ابتسامة متهكمة علت شفتيه
وقال " لست أعني أي أنواع الطيور تكونين فمن أنتي ؟ "

زمت شفتيها بسخط من سخريته ولهجته وقالت برجفة ما أن ضربت يده سقف السيارة بقوة
" شقيقة يمان "
دس يده في جيب بنطلونه وقال بنفاذ صبر
" قولي هذا منذ البداية , انزلي بسرعة من السيارة وأخبري شقيقك أن
لا يترك أغراضا لا تخصه في أيدي الأطفال "

خرجت من قوقعة خوفها أخيرا وقالت بضيق " لست طفلة "

أمال وقفته أكثر وقال متهكما
" حقا ! وفي أي سنة تدرسين يا كبيرة ؟ "

حركت أصابعها فورا ونظرها عليهم لتحسب من في مثل عمرها في أي
عام دراسي سيكونون الآن وهو ينظر لها مستغربا حتى رفعت نظرها
له مجددا وقالت

" في الصف الثاني الإعدادي "

حرك حدقتيه السوداء الواسعة لتنتهي على وجهها مجددا ونظر لها بنصف عين

وقال بشك " طائر صغير كاذب "

رفعت رأسها مبعدة هذه المرة شفتيها وذقنها الصغير عن ساعديها
وقالت بضيق

" لست كاذبة وعمري بالفعل ثلاثة عشرة عاما "

حرك سبابته قائلا
" هيه لا تغضبي يا صغيرة كنت أمزح معك وهيا انزلي من

السيارة عليا أن أغادر وثمة من ينتظرني في الخارج "

شعرت بحجم ورطتها حينها ورفعت يدها في محاولة جديدة منها لإبعاد
تلك الخصلات المجنونة عن مرمى نظرها لكن هذه المرة في محاولة
لدس جزء منها خلف إحدى أذنيها

وقالت بصوت ضعيف مستجدي
" لن تخبر يمان أنك وجدتني هنا أليس كذلك ؟
سيغضب مني إن علم "

نقر بإصبعه على سقف السيارة حيث لازال كفه مستندا بها وقال
" جميل ... هو لا يعلم إذاً أنك سرقت بنطلونه وأخذت المفتاح وحولت
سيارتي لفندق لك ؟ "

قررت أن يبقى على ضنه بها ولا تخبره أنه من أذن لها بأخذه كي لا
تتسبب له بمشكلة معه فاستجدته مجددا بنبرة رجاء طفولية
" أنت لن تخبره أليس كذلك ؟ سأغسلها وأنظفها من الداخل وأقوم بكل
ما تطلبه مني فقط لا تخبره ولا تغضب منه "

هز رأسه بحسنا دون أي تعليق ثم قال
" شكرا على العرض السخي , هيا انزلي "

لكنها لم تتحرك من مكانها وهمست وهي تنكمش على نفسها مجددا

" وثمة أمر آخر "

نقر بأصابعه جميعها هذه المرة مصدرة صوتا متسلسلا لتلك النقرات أعلى السيارة وقال
" رائع .... ما الذي فعلته أيضا يا كرة الشعر "

امتلأت عيناها الواسعة بالدموع فورا فلوح بيده قائلا
" هيه أنا آسف أسحب كلمتي لا تفتحي لي مناحة يا فتاة "
أدخلت يدها في حجرها ثم أخرجتها ونظاراته السوداء فيها وقالت ببحة
وقد كسرت الأحرف عبرتها المكتومة
" لقد كسرتها دون قصد "

نظر ليدها بصدمة وقال
" كسرتها ؟؟ هل تعلمي كم ثمن هذه النظارة وكم يكلف إصلاحها ؟ "

زمت شفتاها تكابد الدموع التي أصبحت بالفعل على وشكل النزول
وهزت رأسها بالنفي

فتنهد بضيق وعدل وقفته حتى اختفت أغلب ملامحه عنها سوى لحيته
الخفيفة جدا والمنسقة بعناية وشفتيه المتساوية وقال
" هيا انزلي لن أخبره بأي شيء من كل هذا وخذي هذه الخردة معك
فلا يمكن إصلاحها مجددا "

لم يسمع بعدها سوى همسها شاكرة له ثم صوت الباب وهو يُفتح ,
راقب من فوق سقف السيارة ذاك الجسد النحيل الذي ركض مبتعدا حتى
دخلت من الباب الخشبي القديم الموصول بالمنزل ثم حرك رأسه
مبتسما ودار حول السيارة وركبها وغادر من هناك

*

*



ركضت مسرعة تشق طريقها بين المنازل ترفع فستانها بيديها كي لا
يعيق حركتها وشعرها البني المموج يتطاير مع حركة رأسها يمنه
ويسرى وكأنها تبحث عن شيء ومكان تجهله رغم أنها تحفظ كل شبر
في تلك البلدة وتسير فيه وعيناها مغمضة لكن عقلها في تلك اللحظة لم
يستطع تركيب أي شيء وكأن ثمة من رماها في متاهة مغلقة وصلت
أخيرا لوجهتها التي ركضت نحوها بسرعة أكبر ما أن ظهرت لها حيث
تجمع بعض الشبان عند الباب المفتوح لمقهى البلدة الوحيد وهو
المبنى الوحيد أيضا المزود بجهاز تلفاز موصول بالأقمار الاصطناعية ,
ضربات قلبها تصرخ بين أضلعها بجنون تحاول الرؤية من فوق تلك
الرؤوس لتتأكد مما يقال وسمعت الناس تلغط به منذ قليل وصوت
الحديث عنه في ذاك الجهاز يصلها من بين الضجيج في الداخل ,
حاولت الدخول دافعة الواقف أمامها من كتفه ولم تستطع سوى إزاحته
قليلا ليظهر لها جزء من الشاشة المعلقة في آخر الجدار المطلي
بالأخضر الزيتوني , جمدت نظراتها على الخبر أسفل الشاشة فقبضت
أصابعها دون شعور منها على قميص الواقف أمامها وكل شيء
داخلها يصرخ بألم , كل ما سمعته من أخبار تتداول هنا مؤخرا وبعد
مقتل رئيس البلاد أن ابنا له دخل البرلمان وأن اسمه رعد , وأصبح
أسمه يتكرر في بلداتهم الصغيرة كل يوم بعد أن كان مغيبا عن كل
المشهد طيلة الأعوام الماضية ولم يكن يذكر اسمه أحد سوى بأنه ثمة
ابن لشراع صنوان لم يدخل المعترك السياسي ولم يكن له أي نشاط في
البلاد وأنه أقصى نفسه عن كل ما يخص الحكم والسياسة , وأن
أوضاع البلاد الأخيرة كانت السبب في ظهوره , حتى أن البعض اتهمه
بأنه يسعى لأخذ مكان والده بإظهار نفسه في الصورة أغمضت عينيها
بقوة وألم وعاد طيفه الذي لم يفارق ذاكرتها وقلبها لأعوام .. الشاب
الذي رحل حاملا معه قلبها ودموعها التي ذرفتها عليه على مر أعوام ,
الشاب الذي تعاهدت معه على الوفاء للأبد وعلى أن تنتظره مهما قست
الظروف , وما كانت لتتخيل أن ذاك الوعد سيكون ثمنه أعواما لا تنتهي
, بل ما كانت لتكون لغيره ولا لقلبها أن ينبض لسواه لكنها كانت تأمل
بأن تعيش على الأمل , أمل هي على استعداد لسقايته كل يوم كي لا
يذبل ويموت , أمل بأن تراه وتلقاه يوما من جديد , لكن أن يختار
الثنانيون أن يستقلوا بأنفسهم !أن تتوحد البلاد ليكون ثمن وحدتها
فراقها عنه للأبد ! أن يكون أحد بنود اتفاق ذاك التوحيد أن يقرر
الثنانيون مصيرهم دون أن يستقصوا من حقهم فيها !! ذاك ما لم
تتخيله أبدا ولم تجهز نفسها له , فلم يعد يمكن لأي سلطة ولأي كان ولا
للرئيس نفسه أن يفرض عليهم عكس ما اختاروه , بل كانت الضربة
القاصمة لقلبها حين كان ذاك الاختيار وبإجماع منهم أن يعيش
الثنانيون في قراهم يرفضون أي دخيل عليهم وأي خارج منهم , فكيف

ستكسر هي القاعدة وهي ابنة زعيمهم وهو ابن رئيس البلاد ؟ أي من
يُلزمان بالتنفيذ أكثر من غيرهم والمخالفة حين تكون من واحد منهما
معناها حرب وشيكة بل وأكيدة بين الجانبين فكيف إن كانت المخالفة
من كليهما , تراجعت خطوتين للوراء تمسك عبرتها وعيناها غشيتهما
سحابة من دموع أحالت عليها الرؤية , لا يمكنها تحمل ذلك أبدا ,
ترضى أن تعيش باقي عمرها على أمل شبه ميت على أن تفقده للأبد ,
على أن تعيش وهي تعلم أن لا لقاء يجمعهما مهما امتدت الأيام , تؤمن
بالمعجزات وبأن الله قادر على جمعهما في أشد الظروف قسوة لكن أن
يجتمع حي وميت أمر مستحيل تحقيقه, بل كيف يعيش حي بعد ميت
هويعيش أساسا على انتظاره وعلى أمل اللقاء به وهي من نذرت قلبها
له منذ كانت ابنة الخامسة عشرة ؟

استطاعت أن ترى من بين تلك المياه المالحة التي تحرق عينيها ذاك
الخيال الذي وقف أمامها مباشرة فمسحتهما بظهر كفها بقوة وظهر لها
جليا تلك الملامح والنظرة والابتسامة الساخرة فالتفتت فورا تنوي
المغادرة لولا أمسكت تلك اليد بذراعها وأدارتها بقوة لتنظر لوجهها
وعينيها مجددا وقد قالت بسخرية لاذعة

" ما رأيك فيما يجري هناك آستريا ؟ "

لم تتحدث ولم تزح نظرها عن العينين الخضراء المحدقة بها وقد تابعت
تلك دون اكتراثلمن التفتوا يستمعون لحديثها
" ضننت أنه ثمة امرأة واحدة كانت تعيش على أمل لقاء أبدي يجمعها
بعربي مسلم , لكن ظهر أن لها شبيهة كانت تحديدا تسخر منها "
وانطلقت ضحكتها عالية جعلت الرؤوس التي تلتفت لهما تزداد عددا
وإن كان البعض انصرف غير مهتم لما يدور خلفه , فإما عاد لمتابعة
الأحداث عبر التلفاز أو غادر غيرمكترث بتلك الحرب الكلامية بين
عدوتان مشهورتان بين الثنانيين رغم أن إحداهما كانت ابنة الزعيم قبل
أن يدركه الموت قبل خمس سنين لتصبح شقيقة الزعيم الجديد والابن
الأكبر لزعيمهم السابق ( سنمار ) بعدما تولى الزعامة فور وفاة والده
والأخرى أرملة الزعيم التي اعتصمت عن الزواج ورفضت أعدادا لا
تحصى منهم وبعد وفاة زوجة الزعيم بمرض مميت فتاك اختارت أن
تكون هي زوجته وفاجأت الجميع وهي تتزوج برجل بلغ الخامسة
والخمسين , وإن لم يكن كبيرا جدا فهي كانت ابنة الخامسة والعشرين
وقتها , ولأنها بعد وفاته يمنع عنها الزواج لأنها أرملة الزعيم وهكذا
هي قوانينهم عاشت كأرملة تحصي باقي سنين عمرها حتى تنتهي .
كان جواب الواقفة أمامها لم يتعدى ابتسامة تشبه ابتسامتها ورفضت
ككل مرة وعلى مر الأعوام أن تكون فريسة لسخريتها وتهجمها الدائم
عليها حتى بعد أن أصبحت زوجة والدها وعاشتا لأعوام في منزل واحد
قبل أن يأخذه الموت , تحدثت تلك حين لم تجد منها إلا الصمت قائلة مجددا
" لعلك بعد موته تقبلين بأحد عجائز الثنانيين يا شقيقة الزعيم فقد
دخلت الثامنة والعشرين وضاعت عليك الفرص "

كانت تعلم أنها تُذكرها بكلامها حين ثارت عليها غاضبة وقت تزوجت
والدها ووالدتها حديثة وفاة ولازالت دموعها لم تجف عليها بعد , لكن
ما لا تعلمه أنها لن تفعلها أبدا ولن تتزوج ولا بمن في مثل سنها منهم
مهما عاشت وامتد بها العمر وإن عاش ذاك الحبيب أم مات وهي من
رفضت من أجله كل من تقدموا لخطبتها منذ كانت في السابعة عشرة
وبدأت العروض تنهال على والدها وهو من رفض أن ينكث عهده
القديم لها بأن تتزوج بمن تختار ووقتما تريد حتى بات رجال ثنان
يلقبونها بـ ( آزهوا ) وهو اسم يطلق عندهم على الشيء المحرم الذي
تراه وتتمناه ولا يمكنك ولا الاقتراب منه , لم تكن تريد مجابهتها

في الكلام وأن تتجاهلها كما كانت الأمور بينهما طيلة الأعوام الأخيرة
فهي لم تعد تلك الفتاة المراهقة التي تتحدث عن كل ما يزعجها وتعطيها
الفرص دائما لإغاظتها ولا يهنئ لها بال إن لم ترميها عوض الكلمة
بعشرة , لذلك تجاهلتها تماما والتفتت مجددا لتغادر فأوقفتها

كلماتها من خلفها وقد تعمدت رفع صوتها أكثر ليسمعها أغلب
الموجودين هناك

" لن يأخذ شيئا ومصيره كمصير والده فانتظري أكثر لتتحقق مطامعك "

التفتت لها وقتها ولم يعد لديها ذرة تحمل أخرى وصبر الأعوام انقلب
ضدها الآن خاصة بعد الخبر الذي سمعته اليوم , رفعت صوتها مثلها
تعي لجميع الأعين المحدقة بهما قائلة

" ليس لأنك لا تنظرين سوى لزعيم القبيلة أن تكون جميع الفتيات مثلك
, فبعدما أصبحت أرملة الزعيم السابق وعُرف القبيلة يمنعك من
الزواج من غيره صرت تلفين حبالك حول ابنه الزعيم الجديد لعل
الأعراف تتغير هذه المرة بما أن العريس الجديد زعيما أيضا وفاتك أن
سنمار يحب زوجته ولن يرضى استبدالها بأخرى فكيف إن كانت واحدة
مثلك "

علا صوت الشهقات المستنكرة من خلف الواقفة أمامها فخرجت عن كل
تعقل هي أيضا وصرخت بكل صوتها
" توقفي عن قول الأكاذيب يا حبيبة ابن شراع , يا من بسببه

ترفضين الزواج مطلقا كي لا يفتضح أمرك بين الثنانين بعدما رماك
خلفه وغادر دون أن يلتفت لك "

شدت قبضتاها بقوة ونظرت للذين يتهامسون حولهما وتعلم الآن أن ما
كانت تسربه هذه المرأة بين البعض في الخفاء سيصبح الآن بسببها
على كل لسان ولن يستطيع ولا أشقائها لومها لأن جميع الحاضرين
الآن سيشهدون بأنها من بدأ برميها بتهمة محاولتها إغواء شقيقها
سنمار , وهذا ما هي متأكدة منه جيدا كما سنمار وزوجته أيضا ,
صرخت تنظر لمن حولها
" لا تصدقوا ما تقول هذه الكاذبة , ليست ابنة زعيمكم من تفعلها

لكان والدي أول من طبق قانون القبيلة بشأني "

صاحت تلك أيضا تنظر للأعين المحدقة دون أن يعلق أحد
" لتبرهن لكم إذا وتقبل بأحد الرجال زوجا أو لتخبر عن سبب رفضها
لكل من تقدموا لها من هنا ومن خارج الحدود "

حدقت عيناها العسلية الواسعة المذهولة بالأعين حولها والمحدقة بها
بفضول وذهول مشابه لم تستطع قول شيء فالحقيقة سجين سكن
أضلعها لأعوام ولا يمكنها إخراجه , وتبرئة نفسها بالكلمات لن تفيد
شيئا وستجد الكثيرين ممن سيستمعون لما قالت أنجوانا وسيصدقونها
ويطالبون بالدليل , انسحبت من هناك وغادرت تدفع بأدب كل من كان
في طريقها بعدما أصبحتا مطوقتان بجمع كبير ممن شدهم المشهد
للمشاهدة ومن ثم نقل الخبر في كل مكان , تعلم جيد أن انسحابها ذاك
لن يكون إلا دليلا ضدها وأن الألسن سوف تلتهما أكثر بعدما وجدوا
سببا مقنعا لرفضها التام للزواج بل وأي علاقات عابرة مع الرجال طيلة
تلك الأعوام , ابتعدت بخطواتها وسارت دون أن تلتفت خلفها أبدا حتى
غادرت أطراف القرية ولم تعد ترى إلا الحجارة والشجيرات حولها
مبتعدة عن الجميع لا تريد رؤية ولا سماع أحد منهم , وما أن أصبحت
في ذاك الفضاء الواسع وحدها حتى ركضت تمسح الدموع التي تسربت
من عينيها ترى من خلالها ذاك السياج الحديدي المرتفع والممتد حتى
وصلته وأمسكت حديده الشائك بقبضتها بقوة متجاهلة ألمها واختراق
أشواكه الحديدية لحم كفيها تنظر من بين دموعها لذاك الفضاء ولتلك
المساحات الشاسعة خلفه والتي تفصلهم عن باقي مدن وقرى البلاد ,
حدود وهمية صنعوها هم وفرضوها على الجميع بحجة حماية الثنانيين
وغرسوها أشواكا في قلبها حين حُرمت من ذاك الرجل للأبد بسبب تلك
الحرية التي حضوا هم بها كما يرددون فتحرروا وقيدوها هي وانفصل
الجزء الشرقي من جنوب البلاد عن باقي مدنها وأراضيها وشطروا
بذلك قلبها لنصفين , تدحرجت دمعة جديدة من جفنها لوجنتها ووصلت

للأرض وحدقتاها المرهقة تعانق زرقة السماء البعيدة وقريبا ستودع يوما جديدا من حياتها

تعلم أنها لن تراه فيه , اتكأت بجبينها على الحديد البارد لذاك السياج وأغمضت عينيها

ببطء هامسة " عد يا مطر شاهين .... عد أرجوك فثمة من يحتاجك حد الضياع "


*

*


غطت كف تلك اليد الكبيرة على ذاك الجهاز النحاسي الصغير الذي كان
يصدر صوتا مزعجا ومتواصلا فاق حجمه بأضعاف المرات ثم قفز ذاك
الجسد الضخم برشاقة وكأنه لم يكن يسبح في نوم عميق لشدة تيقظه
التام كما اعتاد سنوات نشأته في هذه البلاد , توجه لباب الحمام
المشترك مع غرفته وما هي إلا ثواني ولم يعد يسمع سوى صوت تدفق
المياه القوي لما اعتاده وهو ينام بالشيء القليل الذي يستر جسده ,
وما هي إلا لحظات أخرى حتى خرج بمنشفة على رأسه يفركها خلال
شعره الكثيف بقوة قبل أن يرميها جانبا ويرتدي ملابسه في وقت
قياسي وكأنه لازال ضمن جدران مبنى تلك المنضمة التي كانوا يعيشون
فيها على نظام واحد دائم وقاسي حتى اختار وبإرادته الانفصال عنها
والعيش في شقته الحالية كما فعل الكثيرين من أعضائها حيث كان
الخيارفي ذلك متروكا لهم مع التزامهم التام مع أي نداء أو مهمة
مستعجلة توجه إليهم . حمل سترته بعدما تأكد من أن سلاحه مثبت فيها
جيدا وتبث الآخر في ساقه تحت جوربه ولبس حدائها الثقيل وخرج من
الغرفة ونظر باستغراب للمرأة ذات القامة القصيرة الواقفةأمامه , بل
لباقة الأزهار الضخمة التي كانت تخفي وجهها وهي تمسكها بذراعيها
الممتلئتان وكأنها تضمها لصدرها , تنحى رأسها جانبا لتظهر له عينيها
وتلك التجاعيد حولهما دليل ابتسامتها المختفية عنه وقد قالت باسمة
" زهور جميلة أليس كذلك ؟ "

لبس سترته وهو يقترب منها وهي تضعها فوق الطاولة الأقرب لها وقد
قالت مدبرة المنزل التي تجاوزت الخمسين عاما مبتسمة وأناملها
تداعب وريقات الأزهار الصفراء الناعمة
" سعداء الحظ فقط من يتلقون مثلها في الصباح الباكر "

وتابعت بابتسامة ماكرة وهي تخرج بطاقة مذهبة منها وتمدها له
" قد تفكر في إخباري ممن هي وتشبع فضول العجوز الجميلة "

سحب الورقة من بين أناملها وملامحه الجامدة تشتد برودا وهو يقرأ
الكلمات التي كتبت عليها بحبر ذهبي وكتابة منسقة
( صباح الأزهار العبقة يا تيم(

ثم اسم المرسل في التوقيع أسفلها مزينا ومزخرفا , جعد البطاقة
الصغيرة بين أنامله

وقبضته القوية ونظر للتي تحولت نظرتها للصدمة ثم تحرك من هناك
قائلا ببرود

" خذيها إن أعجبتك أو ارميها خارج الشقة "

وما أن وصل الباب حتى أوقفه صوتها قائلة
" لما نرمي أزهار جميلة مثلها بغض النظر عن هوية مرسلها ؟
سأضعها في مزهرية وسترى جمالها في المكان كيف سيبدو "

فتح مقبض الباب قائلا بذات بروده
" أنا لا أدخل هذا المكان سوى ليلا لأنام فلا حاجة بي لرؤيتها فخذيها
معك "

وخرج مغلقا الباب خلفه ونزل العتبات بخطوات سريعة وعيناه على هاتفه في يده تتنقل حدقتاه السوداء بين أسطر بريده الخاص حين
أضاءت شاشة الهاتف برقم غريب ومميز , وصل سيارته وفتح بابها
مع فتحه للخط وقد وضع سماعة الهاتف في أذنه وهو ينحني عند
أسفل كرسي السائق ليفتح صندوق مقدمة السيارة فوصله الصوت
الأنثوي الرقيق بلكنته الانجليزية الواضحة
" أتمنى أن تكون الأزهار نالت إعجابك تيموثي "
استقام على طوله وضرب باب السيارة بقوة وقد مر أمامه فورا طيف
تلك الفتاة في حفلة البارحة بعد أن أنهى مهمته وعاد للقاعة ورضخت
هي على ما يبدو للأمر الواقع وعادت أيضا لتلك الصالة المكتظة بأهم
الشخصيات , وكيف لحقته بنظراتها وابتسامتها ترفع كأسها في وجهه
محيية كلما التقت نظراتهما مصادفة , قال ببرود متوجها لمقدمة
السيارة
" لم أكن أعلم أني شخص مهم لهذه الدرجة لتجمعي هذا القدر من
المعلومات عني ؟ "

علت في ذبذبات الهواء الداخلة لأذنه ضحكتها الرقيقة المرتفعة وقد
قالت

" كيف سأجهل الاسم الذي اختصر له أسمك لـ ( تيم ) ووالدك وجدك
يونانيان "

فتح باب صندوق السيارة بقوة على صوتها متابعة بحماس
" أجل علمت أيضا أن جدك والد والدتك كان من سلالة ملكية عريقة إذا
أنت أيضا سموالأمير تيموثي منذ اليوم "

تحركت أصابعه بحرفية متفحصا الأجزاء الواضحة في سيارته للتأكد
من سلامتها وقال ببعض الحدة وهو يغلق صندوق السيارة بقوة

" اسمعيني جيدا يا سـ...... "


قاطعته قبل أن ينهي جملته " لوسي أسمي لوسي فقط وإن لم يعجبك
فهو لوسيندا

دون اختصار , وأعلم أني أزعجك في وقت تكون فيه مشغولا أردت
فقط أن تعلم

أن هذا الرقم يخصني , أراك لاحقا تيم ..... وداعا "

سحب السماعة من أذنه ونظر لها بجمود قبل أن يدسها في جيب
سترته متمتما بضيق وهو يركب سيارته " وواثقة جدا من رؤيتي لاحقا ؟ "

وانطلق بسيارته مسرعا والابتسامة الساخرة تعلو شفتيه القاسية فهو
يعلم جيدا أنه لن يكون هنا ولن يرضي غرور مراهقة في جسد امرأة
تعشق كل ما مُنع عنها


*

*

أوقفت السيارة بقوة حتى ارتدا جسديهما للأمام قليلا فقالت الجالسة بجانبها بضيق

" ساندرين منذ متى وأنتي حمقاء هكذا ؟ "

نزعت المفتاح من مكانه بقوة وقالت بضيق مماثل
" منذ أن تعرفت عليك آنسة كنانة طبعا "

سوت تلك خصلات غرتها القصيرة التي تبعثرت بسبب ارتدادها في كرسيها

وقالت بحنق
" وما علاقتي أنا بوقوفك السيئ هذا ؟ وكأنك تقودين السيارة لأول مرة في حياتك "

فتحت ساندرين بابها ونظرها لازال على الجالسة بجانبها وقالت بتملق ساخر

" الحق عليك طبعا فبسبب غبائك وما تقولين نسيت أننا وصلنا لموقف السيارات وكدت أقفز بك وبالسيارة فوق الرصيف الفاصل لولا مهارتي التي تسخرين منها "

ازداد الحنق في نبرة الجالسة بجانبها ووجها مقابل لوجهها وهي تقول

" وما الذي قلته يفقدك صوابك هكذا ؟ حياتي هي أم حياتك أنتي "

تحولت ملامح ساندرين للاشمئزاز وهي تقول بعدما أخرجت لسانها جانبا

" توافقين بكل حماقة على أن تكوني زوجة لرجل لم تريه يوما ولا
يعرفك وكأنك تعيشين في القرون الوسطى ولست مضيفة في شركة
كبيرة ومعروفة للطيران وقد عاندت والدك حتى أقنعته بوظيفتك تلك !!
لا أصدق عقلك الصدئ هذا كيف أقنعك بالموافقة ! "
حركت أصبعها في حركة كم استخدمتاها صغيرتان تدل على العناد على
الرأي وقالت بتملق
" هذه الطريقة تزوج بها والداي ووالداهما ونجحت على مر العصور , ما أريد برجل أرسم له صورة فارس الأحلام ليدمرها في لحظة ومعها حياتي معه "

ثم لوحت بيدها أمام وجهها قائلة قبل أن تعلق الجالسة مقابلة لها
" أعلم رأيك فيما قلت دون حديث , ثم والدته سألت والدتي بطريقة
غير مباشرة فقط من قال لك أن الموضوع جدي "

شخرت ساندرين ساخرة وقالت مجعدة ملامحها
" وتطلب من والدتك أخذ رأيك بالأمر لماذا إن لم يكن جديا يا ذكية ؟ "

تأففت كنانة في وجهها قائلة
" هل عليا أن ألقنها لك بالحرف لتفهميها ؟ هذه فرصة ذهبية بالنسبة
لي لأعيش في بلادي , حلم لم يتمكن والداي من تحقيقه لي أبدا
لإصرارهما على العيش هنا لباقي حياتهما , فكم تمنيت العيش فيها
وأحلم بها منذ صغري وكرهت حقا هذه البلاد وأناسها وحياتهم "

حركت تلك عينيها للأعلى بضجر وقالت
" محاضرة رائعة لكن لست أراها سببا لتوافقي على ذاك الشاب "

ثم تابعت تنظر لها بنصف عين
" أو لا يكون أعجبك أنه ابن عائلة الشعّاب المعروفة هناك أو أنه ابن
شقيقة مطر شاهين توافقين عليه وعينيك مغمضة "

حركت رأسها بيأس وهمست " لن تفهم واحدة بمثل أفكارك ما تفكر فيه واحدة

مثلي تحب فعلا الاستقرار وإنشاء عائلة في محيط بلادها "

رمت يدها في وجهها قائلة بحنق
"كان عليا أن لا أنسى أنك ابنة الهازان فالغباء متأصل في الدماء التي
تجري في عروقكم "

أمسكت تلك وسطها بيديها قائلة بضيق
" لا يا ابنة الحالك يا من كل من رآك ضن أنك خماصية من الهازان
بسبب لون شعرك وعيناك "

ثم رفعت يديها وعينيها لسقف السيارة متضرعة في الدعاء همسا
" زوّجك الله يا ساندرين الحالك من رجل من عمق الهازان وأراني
فيك يوما وأنتي تذوبين من نظرة من عينيه "

ضربتها بيدها قائلة بحدة
" لا بارك الله في لسانك ولا دعواتك , انزلي هيا قبل أن يغلق السوق
أبوابه بسبب تشريفك له بالزيارة الموقرة "

ضحكت كنانة وهي تنزل من السيارة وقالت وهي تغلق بابها ونظرها على التي ضربت بابها بقوة
" لو أعلم سبب كرهك اللامبرر للهازان "

وسارت خلفها حين تجاهلتها سائرة من هناك وتعمقتا في أحاديث
أخرى ضاحكتان وهما تدخلا مجمع التسوق وقد صعدتا فورا بالمصعد
للطابق الثالث وأشارت كنانة وهي تسحبها معها قائلة
" تعالي ها هو المحل إنه متخصص بتلك الماركة من العطور وسنجد
طلبنا لديه "

وما أن اجتازتا الواجهة الزجاجية للمحل وكانتا في الداخل حتى وقع
نظرهما فوراعلى البائعة الواقفة خلف الطاولة الزجاجية المقوسة وقد
غطى الجدار خلفها أرفف زجاجية أنيقة تبتت في ذاك الجدار كديكور
تابع له وصُفّت عليها قنينات بعدد محدود تحمل ذات الشعار لذات
الشركة وإن اختلفت أسمائها , لكن ما وقع نظر ساندرين عليه ليس
مجموعة تلك العطور التي سرقت نظر الواقفة بجانبها فورا بل الشاب
الذي كان يقف منحن يتكئ بذراعيه على الطاولة الزجاجية ويتحدث
بانسجام ونبرة باسمة مع البائعة الواقفة مقابلة له بقوامها الممشوق
وبشرتها العاجية وشعرها الأشقر المقصوص حتى أذنيها وقد شقت
ابتسامتها الواسعة وجهها , كشرت مجعدة ملامحها ما أن تعرفت
على هوية الذي لا ترى سوى جانب وجهه وقد عرفته فورا رغم أنها
لم تره منذ كانت في الثالثة عشرة تقريبا حين التحق بجامعة سانت
اندروز في اسكتلندا ولم يعد يزور لندن كثيرا , لكن ملامحه التي لم
تتغير عما عرفته عليه منذ طفولتها جعلتها تتعرف عليه بسرعة , بل
كيف تنسى من كان يفعل كل ذلك بها وسخريته الدائمة منها , ومن لم
يكن يترك موقفا يتيح له الفرصة ليجعلها سخرية للجميع إلا ويستغله
بكل ترحاب

" هيه ساندرين "

انتبهت لهمس الواقفة بجانبها تشد كم سترتها وقد قالت بضيق
" ما بك أصابك الصمم فجأة وما بها ملامحك وكأن ثمة من سكب
عصير ليمونة حامضة في جوفك مباشرة "
ثم وكزتها تغمز جهة الواقف هناك متابعة همسها
" هل تعرفين ذاك الشاب الذي لم تبتعد عيناك عنه ؟ "
لوت لسانها داخل فمها حين التفت ناحيتهما وقد سجنت الكلمات التي
كانت ستهمس بها مجيبة حين ثبت نظره عليها وعلى وجهها تحديدا
والتوت شفتاه بسخرية بعد تلك النظرة العميقة الصامتة التي رماها بها
وعلمت فورا أنه تعرف عليها أيضا رغم تغييرها للون شعرها وعينها
ومرور كل تلك السنوات , سخرت من نفسها وأفكارها فما كان سينسى
طبعا مصدر تسليته الوحيد والدائم لأعوام , رفعت رأسها بكبرياء
وتوجهت رأسا جهة البائعة التي يقف أمامها ونظرت لقوارير العطور
خلفها وقد لحقت بها كنانة من فورها ووقفت بجانبها فقالت تخاطبها
بالعربية متعمدة أن لا يفهمها أحد سوى الواقف على بعد خطوتين فقط
منها وبلهجة ساخرة
" يبدو أن هناك خطأ في عبارة أن العطور نسائية فقط أو أننا أخطأنا
قراءة اللافتة يا كنانة "
نظرت لها الواقفة بجانبها باستغراب رافعة حاجبيها قبل أن تنقل نظرها
للذي يقف قريبا منهما ونظره على وجه الواقفة بجانبها يتفرس
ملامحها مبتسما بتسلية ثم نقله ليقع عليها وأشار لها بإبهامه إشارة
أشعرتها بالصدمة ولم تفهمها حتى قال وقد عاد بنظره للتي حولت
نظرها من زجاجات العطور له
" وما تفعلين هنا إذا إن كان كما اكتشفت يخص الرجال سمو الأميرة
ساندرين ؟ "

شملته بنظرة تقييميه مستنقصة من قيمته من وجهه حتى حدائه
الجلدي اللامع مرورا بملابسه الفاخرة وجسده الذي اكتسب عضلات لم
تعرفها في جسده النحيل الطويل ذاك في آخر مرة رأته فيها منذ ستة
أعوام مرت , وما أن عادت بنظرها صعودا لوجهه حتى قالت بذات
سخريتها اللاذعة
" سأشتري واحدا لحبيبي هل لديك أي اعتراض ؟ "

لم تتوقع ضحكته المجلجلة تلك والتي أشعلت غضبها فورا وعلمت أنه
حينها إن كان أراد بذلك النيل منها فقد نجح وهو يسخر من كلامها ,
قال ما أن أنهى ضحكه ونظره على شعرها المنسدل على كتفيها حتى خاصرتها
" وهل يعلم سعيد الحظ ذاك أنك تخدعينه بلون شعرك هذا يا متحولة ؟ "

صرت على أسنانها بقوة وقالت ببرود تمرر أصابعها خلال خصلاته
الناعمة الكثيفة

" لا علاقة لك فهو يحبني كما أنا , وابتعد عن الفتاة الملتصق بها قليلا
لترى ما أريد "

سوى وقفته حينها ونظره لازال على عينيها مبتسما يمرر لسانه على
شفته السفلى ثم نظر للتي تنظر لهم لا تفهم من حديثهم شيئا وقال وهو
يخرج لها بطاقة صغيرة من جيبه ويمدها لها

" سأمر بك في وقت لاحق يا جميلة فوفري طلبي حينها اتفقنا ؟ أو
اتصلي بي لإعلامي "

ابتسمت له تلك من فورها وأخذت البطاقة من بين أصابعه بسرعة

خاطفة قائلة

" على الرحب والسعة .... سأنتظر قدومك "

ثم غادر من فوره ونظره على الواقفة مكانها تنظر له بكره واشمئزاز
قبل أن تعود بنظرها للتي كانت تدون الأرقام من تلك البطاقة في هاتفها
بسرعة وعلى وجهها ذات تلك الابتسامة الواسعة لم تختفي فتمتمت
ببرود
" هذا هو مستواك يا حشرة "

وكزتها كنانة بمرفقها حين رفعت تلك نظرها لهما وقالت

" هل أخدمكما بشيء آنستاي ؟ "

سحبت ساندرين الواقفة بجانبها من يدها وخرجت بها مرغمة وهي تتمتم

" شكرا لكرم الضيافة "

وما أن خرجتا حتى سحبت تلك يدها منها قائلة
" ساندرين ما بك ! ألست تبحثين عن ذاك العطر ؟ لن نجده في مكان
آخر فهذا المحل مخصص ببيع تلك العطور الباريسية تحديدا "

تحركت من مكانها قائلة ببرود

" غيرت رأيي ولم أعد أريده "

لحقت بها ما أن تذكرت قائلة
" انتظري ... من أين تعرفين ذاك الشاب الذي ناداك باسمك وتحدث
بالعربية "

ثم أمسكتها ولفتها جهتها قائلة " ومن هذا الذي قلت أنه حبيبك وستشتري له

عطرا ؟ هل تخبئين الأمر عني ؟ "

ضربتها على رأسها بقبضتها قائلة بضيق

" ما الذي يوجد داخل هذا الرأس الغبي ؟ كيف أشتري عطرا لرجل من
محل عطور نسائية ؟ "

ثم غادرت مجددا متمتمة بحنق
" أفسد مزاجي زير النساء ذاك دبورالشقراوات العفن "

وأسرعت في خطواتها وتلك تركض خلفها منادية

" ساندرين انتظريني "

ووقفت مكانها بسبب اليد التي سحبتها جانبا ورفعت نظرها بصدمة
للذي يقف أمامها وقد اكتشفت أنه ذات الشاب الذي وجداه في المحل
منذ قليل وقد دس ورقة في يدها

قائلا بابتسامة لعوب
" أعطي هذه لصديقتك تلك وقولي لها يقول لك رواح

لا تغضبي فها قد أعطيتك واحدا أيضا "

وغادر من هناك يدندن لحنا مختلطا بصوت ضحكته الرجولية ونظراتها
المستغربة تتبعه قبل أن تنقلها ليدها وقد ابتسمت ابتسامة واسعة
سرعان ما تحولت لضحكة مكتومة ما أن اكتشفت أن تلك الورقة لم
تكن سوى بطاقة لأرقام هواتفه كالتي أعطاها لتلك البائعة رفعت نظرها
للمصعد في الجهة المقابلة وهو يغلق وأشارت بإبهامها مبتسمة للواقف
بداخله ردا على إشارته التي وجهها لها ما أن رفعت نظرها له ثم
تحركت من هناك ما أن أغلق ذاك المصعد أبوابه وركضت بحماس
خلف التي اختارت السلالم الكهربائي ونزلت منذ وقت فها قد وجدت ما
تسخر به منها


*

*



مررت كفها وأصابعها البيضاء الرقيقة ببطء على زجاج الشرفة المغلقة
تراقب حدقتاها الزرقاء ارتطام حبات المطر القوي بأوراق الأشجار
والضباب لازال يغلف ذاك الجو الصباحي الكئيب , تكره أن تفكر في
أنها اجتازت المرحلة الإعدادية وأمامها الآن تجربة جديدة كم تخشى أن
تقضيها في سكن للطالبات في إحدى المدارس الداخلية وهذا ما تتوقعه
فظروف وجودهم هنا حكمت عليهم بالتخفي والكتمان طوال الوقت فكان عليها أن لا تحتك بأحد في مدرستها , لا صديقات لا جيران ولا
أحد يجب أن يعلم شيئا عنها غير أسمها المستعار , وحتى منزلهم هذا
لم يكن يعلم عنه أحد فهكذا كانت القوانين التي كان عليها أن لا تخترقها
, قوانين كان عليها إتباعها حرفيا دون أي أخطاء من أجل سلامتها
وسلامة والدها قبلها بل ومجموعة كبيرة ستكون في خطر إن هي
تهورت في شيء , هذا ما أفهمها إياه والدها ومنذ صغرها فعاشت
وتأقلمت مع الصمت وتنفيذ الأوامر والوحدة التامة , حتى مربيتها التي
أحبتها طوال عمرها ومنها تعلمت كل شيء عن أمور هذه الحياة من
أبسطها حتى أكثرها تعقيدا وأكثرها حساسية فقدتها أيضا وللأبد , تلك
المرأة البسيطة الرائعة التي سرقها منها المرض الذي لازمها لعامين
كاملين قبل أن يسلبها حياتها فرحلت وتركت لها فراغا صعُب عليها
ملأه والتأقلم معه فهي كانت الشخص الوحيد الذي يمكنها التحدث إليه
عن كل شيء وأي شيء , من لو كانت موجودة الآن ما سمحت لها
بأن تخضع لضغوط عمتها وخرجت تلك الليلة متسللة من هنا حيث
الخطر والمجهول . أغمضت عينيها ببطء واتكأت بطرف جبينها على
زجاج الشرفة وصورة ذاك الشاب ارتسمت أمام عينيها فورا فهي لم
تنسى من تفاصيل ملامحه شيئا ... شعره الأسود المرتب عيناه ونظرته
الحازمة الواثقة .. ملامحه التي تنطق وسامة وشخصيته التي تكاد
تجزم أنها جزء من شخصية والدها , قبضت أصبعها على الزجاج
البارد وليست تفهم لما لا يغيب عن تفكيرها ؟؟ لماذا لا يفارقها طيفه لا
في صحوتها ولا نومها !

فتحت عينيها التي امتلأت حدقتاها الواسعة بالدموع وهمست بحزن
" لو فقط أعلم إن كنت بخير , لو فقط تتحاح لي الفرصة مجددا لكي
أشكرك وأعتذر منك "
أجفلت مبتعدة ونظرت خلفها سريعا ما أن سمعت تلك الطرقات على باب غرفتها

فمسحت عينيها بسرعة بظهر كف يدها الذي مسحته سريعا في قميص
بيجامتها السميكة الدافئة وخرجت منها الحروف مختنقة بعبرتها
المكتومة وهي تقول

" تفضل الباب مفتوح "

دار المقبض ببطء وانفتح الباب كاشفا عن صاحب ذاك الجسد الطويل
الذي أغلقه خلفه فورا فابتسمت له بحنان هامسة " .... جدي "

فتح ذراعاه لها فركضت جهته فورا وارتمت في حضنه وقد طوقها
بذراعيه بقوة وقبل رأسها متمتما بابتسامة " كيف هي صغيرتي
الجميلة ؟ "

رفعت نظرها له وقالت بابتسامة مماثلة
" حتى الآن تناديني بالصغيرة ؟ لقد كبرت جدي "

ضحك وأبعدها عنه وقال ناظرا لجسدها بنظرة تقييميه شاملة
" أممممم كبرت أجل لكنك صغيرة أم نسيت كم عمرك ؟ "
أنكست رأسها للأسفل تدس خصلات شعرها خلف أذنيها وكم شعرت
بالخجل من ملاحظته تلك وشتمت نفسها لأنها السبب فيها , فكم خجلت
سابقا من نمو جسدها ومعالمه الأنثوية بسرعة وفي وقت مبكر حتى أن
الجميع يعطيها فوق سنها , وصلتها ضحكة الواقف أمامها وقد رفع
ذقنها الصغير بأصابعه ونظر لعينيها وابتسامتها الخجولة قائلا بضحكة
" كبرت أجل يا تيما ولك أن تتصوري وجه والدك وأحدهم يخطبك منه لابنه "
شهقت من فورها بصدمة على صوت ضحكة دجى وقد قرص خدها المستديرالناعم قائلا
" لا تخافي لأنه رفضه فورا "

وأمسك أنفها الصغير قائلا بابتسامة
" بل ولأول مرة أسمع مطر يكذب وهو يقول له ابنتي عريسها ينتظرها "

جحدته بنظرة مستغربة وقد حك لحيته مفكرا وهو يقول
" أم بظنك صادقا ككل مرة وفعلها بالفعل وعريسك ينتظرك ؟ "

شعرت بخديها يشتعلا إحراجا وحركت رأسها فورا برفض وهمست

" لا أظنه يكذب ولا أظنه يفعلها "

ثم تنهدت متابعة
" وإن فعلها حقا لن أعارضه أبدا "

ابتسم الواقف أمامها قبل أن يقول بضحكة
" لا أستغربها منه وهو من فعلها
مع والدتك أيضا وزوجها لنفسه وهي ابنة الثمانية أعوام "

نظرت له بصدمة فاغرة فاها الصغير قبل أن تهمس
" ثمان سنين فقط !! "

رفع يديه جانبا وقال
" انظري لوالدك وأفعاله , لا تستغربي إذا أن يفعلها معك "

حضن بعدها كتفيها بذراعه وسار بها جهة سريرها الواسع قائلا
" تعالي فثمة لعبة سنلعبها وستعجبك حد الجنون "

سارت منصاعة له تنظر له باستغراب حتى جلسا على السرير متقابلان
وقد رفع ساقه وجلس عليها وأمسك كفاها الصغيران بقوة ونظر لعينيها
قائلا بابتسامة

" تمنى أمنية يا تيما "

نظرت له باستغراب فقال بضحكة
" أغمضي عينيك وتمنى أمنية بصوت مسموع ومارد المصباح دجى
سيحققها لك "

أغمضت عينيها فورا وهي تضن أنها مجرد لعبة صغيرة كما اعتاد
الجالس أمامها أن يفعل معها منذ أن كانت طفلة يلاعبها دائما كلما
زارها في تلك المرات القليلة جدا وليست تعلم أن لعبتهم هذه المرة
حقيقية وأنه يتوقع جيدا ما ستتمنى وتطلب , تنفست الصعداء وشعرت
بالدموع تحرق جفنيها فأمنيتان فقط هما ما تريد تحقيقهما الآن ولن
تستطيع إخباره سوى بواحدة , همست بحزن وكأنها وحدها في هذا
المكان
" أتمنى أن أرى والدتي وإن ليوم واحد في حياتي "

وفتحت عينيها الدامعة حين شعرت بكفي جدها الدافئتان على خديها
وجانب وجهها ونظرت لابتسامته المحببة من بين الدموع التي ملأت
حدقتيها وقد قال
" وإن قلت أن أمنيتك هذه ستتحقق قريبا "

لم تشعر بنفسها إلا وهي تصرخ وقد قفزت عليه وجسده ارتد للخلف
ضاحكا يمسك نفسه ويمسكها بيده الأخرى كي لا يقعا للخلف خارج
السرير , تمسكت بعنقه بقوة وقالت بعبرة
" قل قسما أنها حقيقة جدي , أقسم لي أني سأراها حقا "

ضمها بذراعيه بقوة قائلا بحنان
" حقيقة يا تيما , حقيقة هي يا حفيدتي الحبيبة فوالدك قرر العودة
للوطن في وقت قريب "

ابتعدت عنه تخفي وجهها في كفيها وتبكي دون توقف وقد عجز لسانها
عن قول أي شيء وإن كان غير مفهوم , مسح الجالس أمامها على
شعرها الأسود الحريري

قائلا بحنان شابه بعض الحزن
" كم تمنيت هذا اليوم قبلك يا تيما فلست وحدك من يفتقدها ويريد أن
يراها "

ارتمت في حضنه تواصل بكائها الموجع فيه فضمها بذراعه القوية
بقوة وقبّل رأسها قائلا
" لا تلومي والدك يا تيما فهو كان مكرها على أخذك منها مثلما لم يكن
خطط لأن يبقيك بعيدة عنها كل هذه الأعوام , عليك أن تعذريه يا
أميرتي الصغيرة فالظروف حدته على ذلك "

دفنت وجهها في صدره العريض وحركت رأسها نفيا هامسة بعبرة
" لم ألقي باللوم عليه يوما جدي أقسم لك لكني أشتاق لها وأحتاجها
بل وأتلهف لرؤيتها حد الجنون "

مسح بكفه على شعرها وقبّل رأسها مجددا هامسا بحزن
" جميعنا نحتاجها ونشتاق لها يا تيما وجل ما أخشاه أن لا أجد في
قلبها الغفران لتقصيري معها وما رأته بعدي وبسببي رغم أني كنت
مرغما "

ابتعدت عنه ونظرت بعينين دامعة لعينيه التي طغى عليها الحزن
وخرجت كلماتها تخنقها عبرتها المكتومة

" هي تحتاجك الآن جدي .. أنت من بقي لها كيف لا
تسامحك والظروف أرغمتك حتى على ترك بلادك وأهلك ؟ "

أمسك وجهها وقبل جبينها وقال بابتسامة حزينة

" عزائي الوحيد في السنوات الماضية أني أرها فيك وأنا من حُرمت
من رؤيتها من قبل أن تولد , كما وجود والدك فردا من عائلتي التي
دُفن نصفها دون أن أراهم وأودعهم "


نزلت دمعتها منسابة ببطء على وجنتيها المشتعلة وهمست ببحة
" جل ما أخشاه أن لا تغفر لوالدي , أخبرتني سابقا أنه جلبني هنا
وتركها دون أن يشرح لها أسبابه , لا أريدها أن تغفر للجميع إلا هو جدي "

مسح دمعتيها بظهر أصابعه مبتسما وهو يهمس مثلها
" إن كانت تحبه ستغفرله يا تيما رغم أن ذاك الغفران لن يكون سهلا
وقريبا أبدا "

ثم أبعد يده ونظره ناظرا للأسفل وتنهد بعمق قائلا
" قد لا أستطيع العودة مثلكم الآن أو أن أدخل البلاد بغير شخصيتي
الحقيقية , أي أن لقائي بها قد لا يكون قريبا حتى ننظر في حكم
المحكمة وما حدث مع ذاك الرجل "

مسحت أنفها بظهر كفها ناظرة له باستغراب وقالت
" هل تحكم المحكمة في القضية بعد كل هذه الأعوام ؟! "

هز رأسه بالنفي هامسا
" لا أضن ذلك لكن فكرة القتل والانتقام لن نضمن أنها خرجت من
رأس ذاك الرجل حسب ما قيل وشيع عنه مؤخرا "

فغرت فاها الصغير بصدمة قبل أن تغرس أسنانها في شفته بقوة تكابد الدمعة التي تغلبت عليها ونزلت متدحرجة على خدها وقد تبعتها عبرتها تخنق كلماتها

" لا تذهب له جدي إن كان يريد قتلك , ما جدوى رجوعك إن فقدت
حياتك "

رفع رأسه ونظره لها وقال وقد عاد لمسح دموعها مجددا
" سئمت هذا الحال يا تيما , إنها أكثر من ثلاثين عاما من الغربة
والهروب طفلتي ولم يبقى في العمر ما أتحسر عليه "

عادت دموعها للنزول تحرك رأسها برفض وعاد هو لمسحها قائلا
" لا تقلقي فوالدك فكر في جميع الاحتمالات وأنا سلمت الأمر له "

قالت بلهفة تمسك يده بيديها
" حقا لديه حل لتلك المشكلة ؟ "

قال بابتسامة
" فلنأمل ذلك , أما الآن فحال البلاد هو الأهم فوضعها ينزلق للأسوأ
خاصة بعد تعدي مجموعات من الحالك على بعض المقار الحكومية "

غطى الوجوم على ملامحها الحزينة الباكية وهمست بأسى
" هل ستنقذونها جدي ؟ أنا خائفة عليها حقا "

مسح على طرف وجهها بيده الأخرى قائلا بثقة
" والدك إن أراد شيئا لا يردعه عنه شيء يا تيما ومثلما حارب لأجلها
من أعوام وضحى بالكثير لن يقف الآن مكتوف اليدين , وبما أن التمرد
من الحالك فالحل بعد الله لديه وحده "

اتكأت في حضنه هامسة بحزن
" ليحفظه الله لنا ولها جدي لا أعلم لولا الله ثم هو حالها ما كان
سيكون "

مسح على شعرها بحنان قائلا
" الله وحده يعلم ما كان سيكون صغيرتي ولا أحد له أن يتصوره ,عليك
الآن فقط أن تفكري في رحلتكم القريبة وجهزي نفسك وأغراضك
جميعها "

دفنت نفسها في حضنه أكثر وسعادتها لا تضاهيها سوى دموعها التي
ترفض التوقف فقد بدأت تفقد الأمل حقا في رؤية والدتها وإن من بعيد
وتعلمت مع مرور تلك السنوات أن تتعايش مع الأمل الميت ولم تتخيل
أن يحيا اليوم من جديد وصلها صوته الرجولي الخشن الحنون مبتسما

" أرأيت مارد المصباح وعجائبه ؟ هيا إن كان لديك أمنية أخرى ما
عليك سوى إغماض عينيك وقولها "


مسحت عيناها بظهر كفها مبتسمة بحزن ثم أغمضتهما ببطء وضربات
قلبها تتصاعد تدريجيا وهي تفكر في تلك الأمنية التي تمنتها قبل قليل
عند الشرفة وفي حضن ذاك الرجل الغريب الوحيد الذي جربته في
حياتها , ارتجف قلبها بقوة وعضت طرف شفتها هامسة بابتسامة

" لقد تمنيت "

وصلتها ضحكته المكتومة وقد انحنى لرأسها ورفع وجهها له ممسكا
ذقنها الصغير بأصابعه وقال مبتسما بمكر

" وكيف يا مخادعة لمارد المصباح أن يحقق أمنية لا يعلم ما تكون "


دست وجهها في حضنه الدافئ مجددا هامسة بحياء

" ادعوا الله معي أن تتحقق إذاً "



*

*



شد الحلقات الموصولة في السلك المطاطي لجهاز تقوية الجسم الذي
اختاره خصيصا من أجهزة تلك الصالة الرياضية كعادته وزفر الهواء
من شفتيه بقوة وهو يكرر حركاته صعودا ونزولا بنصف جذعه نائما
على ظهره حتى كانت عضلات جسده المشدودة تكاد تتمزق من قوة
الشد وبروزها مع حركته تلك

أفلت الحلقتان من قبضتيه واتكأ برأسه للخلف على مسند الجهاز
المخصص يزفرالهواء من رئتيه بقوة وتسارع تتمدد معه أضلع صدره
العريض العاري نزولا وصعودا ثم وقف ورمى المنشفة على عنقه
ونظر للذي أوقف ساعة التوقيت الصغيرة في يده بضغطة من إبهامه
وأمال وقفته متكأ بساعده على اليد العلوية للجهاز وقال

" خمس وعشرون دقيقة باستثناء الأجزاء الصغيرة من الثانية "


ثم دس الساعة في جيب بنطلونه الرياضي القصير وقال بسخرية مراقبا
ملامح الواقف أمامه يمسح وجهه وعنقه بطرف المنشفة

" كنت تجتاز النصف ساعة بارتياح يا قاسم ! ما بك يا رجل ؟ ولا
تتعذر بالجرح فتيم قال أنه سطحي "

سحب قارورة الماء الصغيرة المثبتة في أحد جيوب تلك الآلة الرياضية
ورفع رأسه وسكب ما فيها على وجهه وشعره ثم حركه بقوة تناثرت
معها قطرات ذاك الماء في كل اتجاه حوله ورماها في سلة القمامة
القريبة برمية واحدة موفقة ثم انحنى ورفع قميصه القطني ولم يعلق
فأخرج رواح الساعة مجددا وقال وهو يلعب بحلقتها في أصبعه بحركة
دائرية ونظره على قفا الواقف أمامه

" أيشغل بالك سفركم القريب لهذه الدرجة ؟ "

لبس قميصه بحركة سريعة وتمتم يعدله على حزام بنطلونه الجينز القصير

" أستغرب قرارات الزعيم مطر بشأن سفري معهم "

نظر له رواح باستغراب فالتفت له برأسه وقال ببرود

" لا أفهم لما اختار أن تكون رحلتي منفصلة عنه وحتى عن خالي
دجى , حتى خروجي من لندن سيكون عبر القطار وفي رحلة مستقلة
حتى عن تميم وعمير "

لوح رواح بيده قبل أن يضرب كتفه بخفة قائلا

" لا أرى الموضوع بتلك الأهمية التي تُحمّلها له فالهدف واحد
والنتيجة واحدة والمطار الذي ستنزلونه واحداً يا رجل "

هز رأسه بحسنا دون أن يعلق ورمى المنشفة مكانها بعدما رفعها عن
الأرض لحظة شعوره بذراع رواح تلتف حول عنقه وقد همس في أذنه

" لم أقتنع أن ذاك هوالسبب فتحدث هيا "


دفعه عنه بقوة متمتما بضيق

" سيرى مسرب الإشاعات ذاك عقابه مني "

ضحك رواح ووقف جانبه ولكزه في خصره هامسا ينظر له بطرف
عينيه

" من وصفه لها تبدوا مذهلة يا رجل "

نظر له نظرة حارقة وخرجت الحروف من بين أسنانه قائلا بحدة

" أوقف هذا الحديث أو كسرت أسنانك بقبضتي , الفتاة أنقذتها كواجب
إنساني وذهبت في حال سبيلها , وإن لم تكن في سن صغير ما لحقت
بها من أساسه "

أخرج له لسانه وعضه بأسنانه ثم ضحك قائلا
" كف عن المراوغة يا رجل وأجب هل بحثت عنها وعلمت أين تسكن ؟ "

وجواب قاسم لم يكن سوى أن هز رأسه بيأس منه وتحرك من هناك
مجتازاصفوف الآلات الرياضية المتعددة التي قد شغل أغلبها أجساد
تتحرك فوقها بآلية

ولحق به ذاك حتى سار بجانبه قائلا

" حسنا فقط لا تغضب علينا , تيم لم يجب على اتصالاتي اليوم أتعلم
أين يكون ؟ "

حمل حقيبته الرياضية السوداء وأخرج منها هاتفه قائلا ونظره عليه
" سافرصباحا لبيترهاد مع رجال من المنظمة ولن يرجع قبل يومين أو
أكثر "

تمتم رواح وهو يدس يديه في جيبي بنطلونه القصير

" تملص منها إذا "

رمى الحقيبة على كتفه الأيمن قائلا بضيق

" بل في مهمة فليس تيم من يتهرب من مواجهة أحد حتى إن كان
والده وماضيه "

وخرج من الباب الزجاجي المعتم لتلك الصالة وقد أُغلق خلفهما ما أن قفز رواح خلفه مناديا

" هيه انتظر فهو قريبي قبل أن يكون صديقك المقرب ووالده

خالي وأفهمه أكثر مما تفهمه "


لم يعلق قاسم وقد عاد رواح للسير بجواره وهو يخرج هاتفه الذي رن
بصوت رسالة وقد ضحك ما أن فتحها وضحكه لم يتوقف حتى وصلا
موقف السيارات فاتكأ قاسم على باب سيارته قائلا
" ما يضحكك فيما أتاك لهذه الدرجة ؟ "

مد له هاتفه فورا فأخذه منه مستغربا ضحكه الذي عاد من جديد وقرأ أسطر الرسالة

التي حمل رقمها أسم ( المتحولة ) وكان فيها ( لست أنا من تغضب
لأجل دبور يحوم في المستنقعات لأني لست من ذاك المستوى .... ولا
تحاول استخدام هذا الرقم لأني سأحضر جميع أرقامك السخيفة(

ابتسم ما أن أنهى الرسالة ومد له هاتفه قائلا

" وما في هذه الرسالة يضحكك هكذا ؟ أم يعجبك وصفها لك بالدبور ! "

وتابع بسخرية

" ثم من تكون هذه التي تسجل رقمها لديك من قبل أن يصلها رقمك
أنت ؟ وما هذه المتحولة ؟ "

سحب هاتفه من بين أصابعه قائلا بابتسامة ماكرة وهو ينظر لشاشة
هاتفه

" لا علاقة لك بالأمر فلست وحدك لديك أسرار وأمور لا تريد البوح بها"


هز رأسه بيأس وركب سيارته مغادرا تاركا خلفه الذي لازال واقفا قرب
سيارته البروش السوداء وقد فتح بابها وركب وأخرج هاتفا آخر من
صندوقها وأرسل كلمات رسالته من رقم آخر غير المدونة في بطاقته
تلك( شكرا على الإطراء يا متحولة وها قد أثبث أكثر أنك تغارين منها)
وضحك ما أن جرب الاتصال بها بعدها ووجد أنها حضرته فورا


*

*


تحركت حدقتاها الزرقاء الصافية في ملامح الجالسة أمامها تستمع بانتباه لحديثها الهامس وكأنها تتوقع أنه ثمة من يراقبهما أو ثمة أجهزة تنصت في ذاك الجناح

وهي من لم تستغرب أن يفعلوا أي شيء لإيذاء صغيرتها التي اعتنت بها لأعوام

ويكتشفوا أنا تسمع وتتحدث , همست زيزفون وكأنها تجاريها في شكوكها حول مراقبتهما قائلة
" وقاص يا خالة ماذا قالت عنه هو تحديدا ؟ "

حركت تلك يديها بحماس قائلة
" أجل كيف نسيت خبرا مهما كهذا "

أخفضت صوتها أكثر هامسة بخفوت
" قالت أن زوجته تركت المنزل منذ ليلة أمس وأنها نظفت غرفة
نومهما من قطع زجاج ثلاث زجاجات عطر كسرها على أرضيتها
الرخامية وأنه خرج فجرا ولم يرجع بعدها "

ثم أخفت شفتيها بيدها وهمست لها عند أذنها
" وقالت أنها وجدت ورقة مجعدة في سلة القمامة وأنها متأكدة من
أنها بخط يد زوجته وقد هددته فيها بجده ووالدها "

لم يكن هذا ما تريد معرفته عنه ولا تعنيها حياته الخاصة تلك لكنها
رغما عنها وجدت أفكارها تقودها لليلة البارحة وللقائهما الغير مخطط
له وهي تجلس عند السلالم تنهي تفاصيل رسمها ذاك , مرت ملامحه
أمام عينيها وكأنها تراها الآن , الملامح التي رغم الإضاءة الخفيفة
للمكان ظهر لها بوضوح تقاسيمها الرجولية الارستقراطية وذاك الأنف
الإغريقي الذي تتميز به عائلة ضرار سلطان تحديدا مستوي يكاد يكون على خط مستقيم مع الجبهة , شخصيته البارزة من حركته وطريقة وقوفه وكأنه صورة مثالية علقت على الجدار , كانت أسنانها البيضاء
الصغيرة تغرس في طرف شفتها لا إراديا تحاول طرد ذاك السؤال الذي
تغلب عليها وخرج نهاية الأمر هامسة
" وما المشكلة بينهما ؟ هل زواجهما فاشل بذاك الشكل ؟ "

حركت تلك كتفيها بلا اهتمام هامسة

" لم أفكر في سؤالها عن ذلك لأنك لم تطلبي مني فعلها لكن ما قالته
تلك الخادمة كان مبهما وغريبا ( زواج مصلحة للجد فقط وتلك المرأة
لا تليق بسيدي وقاص ) هذا فقط ما علقت به عن الأمر حين تحدثت
عنه "

أمسكت بعدها كف الجالسة مقابلة لها على الأرض وقالت بقلق

" زيزفون عليك توخي الحذر بنيتي أنا أخشى عليك حتى من تلك
الخادمة "

حركت رأسها بإيماءة تفَهُم هامسة
" لا تقلقي خالتي فتلك الخادمة لا تهتم سوى
بمن يدفع لها المال ونحن نعطيها بسخاء , ثم تعاملها معك أنتي وليس أنا وأنا من يخشى عليك منها ومنهم "

تنهدت الجالسة أمامها وقالت
" بل أنا التي لست الآن سوى خادمة لديهم كل ما يستطيعون فعله
طردي من هنا أما أنتي فلن يتوانوا عن إيذائك , اقسم أني لم أنم
البارحة ولم يغمض لي جفن منذ عدت لغرفتك مسرعة وقلت أن أحدهم
دخل المنزل متأخرا وخشيت أن يلحق بك أو يزورنا أي منهم اليوم
للتحقيق في خروجك من هنا "

سحبت يدها من كفيها الدافئان وهمست وعلى وجهها نظرة شاردة
" لا تخافي خالتي فلن يأتي للتحقيق معي ولا معك ولن يخبر أحدا "

نظرت لها باستغراب هامسة
" وما أدراك أنه لن يفعلها ؟ ومن يكون ذاك الذي تثقين به هكذا في
عائلة كهذه ! "

شردت بنظرها بعيدا ومررت أصابعها على ذراعها العاري هامسة
بشرود ساخر

" لن يفعلها ذاك الشخص تحديدا لأنه سبب جلبي إلى هنا خالتي , لن
يفعلها اطمئني "





*

*


أمسكت بيديه وهما يجلسان وقالت بحنان ناظرة لعينيه
" كيف حالك يا شاهر ؟ لما لا تتذكر شقيقتك إلا من شهر للآخر "

شد على كفيها الدافئان بين برودة كفيه وقال بهدوء ناظرا لهما
" لأني مشغول أغلب الأيام يا رقية لكنت أزعجتك بزيارتي لك طوال
الوقت "

تنهدت بصمت فنظر لعينيها وقال
" وما أخبار ضرار وسلطان وباقي زوجاته وأبنائهم ؟ رواح ووقاص رأيتهما من وقت قريب "

أومأت برأسها هامسة
" جيدون جميعهم وضرار الصغير منهمك في اختباراته
والبقية لا ضير عليهم "

ثم ركزت نظراتها على عينيه المسدلة جفنيها للأسفل ما أن سحب يديه وقالت

" ألم ترى تيم ؟ ما هي أخباره ؟ "

حرك رأسه بالنفي ونظره للأسفل متمتما
" لم أراه ولا أعلم عنه سوى أنه في شمال إنجلترا حاليا "

تنهدت بأسى ومسحت بيدها على ذراعه هامسة برقة " سيلين قلبه يا
شاهر , السنين كفيلة بفعل ذلك وسيدرك يوما أنك كنت مجبرا على
تركه , وحين يرزق هو بابن سيعرف مشاعر الأبوة وأنك ما كنت
لتتخلى عنه بسهولة "

شرد بنظره بعيدا وقال بابتسامة ساخرة
" هو لا يلومني على تركه بقدر ما يلوم الجميع على تخليهم عن والدته
ولا يريد أن يصدق أنها من اختار ذلك وحجتها سلامتي وأن يبقى
أحدنا له مستقبلا "

جمعت كفيها لبعضهما وضمتهما عند شفتيها هامسة بحزن
" وها هو كبر دون أن يحتاج لأحد , حتى عمه وعم والدته وأنا عمته
شملنا في غضبه الأسود ولا يريد أن يعترف بنا أقارب له , ليته فقط
يتركني أراه من حين لآخر يكفيه عيشه وحيدا طوال عمره , ما
ذنبي أنا المرأة في حقده المدفون من الماضي "

وصلها صوت شقيقها أجوفا جافا
" سلمي للأمر الواقع يا رقية فلا مكان للغفران في قلبه أبدا , لو
تفتشي قلب تيم فستجدي بأنه يلوم حتى حجارة جدران الغرفة التي

ماتت فيها والدته وكل فرد في تلك البلدة بل وتلك البلاد جميعها فكيف
بنا نحن ؟ "

وغطت المرارة على صوته وهو يتابع
" عدا طبعا تلك الطفلة التي أصبحت زوجته والرجل الذي أخرجه من
البلاد بعد وفاة والدته , شخصان فقط اعترف بهما تيم في حاضره وإن
نصف اعتراف "

حركت رأسها بيأس قائلة
" وكيف يعترف بها وهي في بلاد وهو في آخر ؟ إنها
سنوات مرت يا شاهر ولم يحضرها ولا ذهب لها ! أي اعتراف هذا وهو هنا وهي هناك ؟ "

قال ونظره للأرض
" لو لم يكن معترفا بها في حياته ما كان تركها زوجة له حتى
الآن .. ابني وأعرفه جيدا , ثم لا تنسي تلك القصة فمهما كان تيم قاسيا
وغير مبال بأحد ولا شيء فهو لن يترك تلك الفتاة تعاني ويلات ما
حدث وهو كان ضلعا فيه ولن يؤثر أحد في أي خيار سيتخذه بشأنها
حتى إن نبذها وتركها هناك "

تمتمت بأسى
" لا أستغرب أن تحقد علينا تلك الفتاة أيضا "

ثم رفعت نظرها له تتفرس ملامحه المتجهمة ونظرته الشاردة , تعلم أن
موضوع تيم والشرخ الكبير بينهما ليس حديثا وما كان ليقلقه الآن
هكذا !! قالت بتوجس

" لا تعجبني يا شاهر هذه المرة ! وكأن ثمة ما لديك يقلقك "

حرك رأسه بالنفي هامسا " لا شيء يقلق "

ثم نظر لها وقال بنبرة مترددة
" لقد خطبت "

انفتحت عيناها على اتساعها وعلت شفتيها ابتسامة واسعة وتمتمت غير مصدقة
" خطبت يا شاهر ؟ حقا تنوي الزواج !! "

أبعد نظرها عنها وهمس
" ليس في الوقت الحاضر على ما أضن "

واشتدت قبضتاه وهو يتذكر تلك المرأة التي أجبر نفسه على تسميتها بخطيبته وما فعلته

في آخر مرة رآها فيها , ومنذ ذاك الوقت لم يلتقيا ولم يتعرض لها لكنه
مصمم على جعلها تندم على ما فعلت وأن يمضي في الأمر ويقدم
لشقيقها الانتقام الذي يبرد قلبه رغم أنه يجهل سببه , كانت أفكاره قد
عادت تدور في دوائر مغلقة ومشاعره تزداد اشمئزازا من الفكرة كلما

غاص فيها أكثر , بينما كانت مشاعر الجالسة بقربه مختلفة تماما وهي
تشعر بسعادة لا تضاهى فلطالما ألحت عليه ومنذ سنوات أن يتزوج
ويبني عائلة , خاصة أنه سافر شابا وترمل وهو في منتصف الثلاثين ,
ورغم أنه ناصف الأربعين الآن لازالت تراه رجلا قويا إن في بنيته
وجسده أو شبابه وحيويته , حتى نظرته لازالت كما عرفتها لسنوات
تحمل ما ورثه من رجال عائلته

(الذكاء الحاد والفطنة والقوة ) وموضوع تيم الأمر الوحيد الذي لازال
يُظهر شاهر ضعيفا ومهزوزا , وغيره لم تسمعه يوما اشتكى من شيء
ولا تغلب عليه أي أمر مهما كان شديدا تنهدت بابتسامة قائلة
" ما أجمله من خبر يا شقيقي , من هي العروس ؟ "

تمتم دون أن ينظر لها
" هي عربية الأصل ووالدتها انجليزية وتعيش هنا منذ ولدت "

لم تكترث لتعريفه المبهم لعروسه تلك ولا لعبوس ملامحه وهروبه من النظر لعينيها وهو

يخبرها بل قالت بحماس
" حسنا سأنتظر حتى تُعرفني بها , ما خططتما للأمر ومتى

سيكون الزواج ؟ "

وقف على طوله ودس يديه في جيبي معطفه مع وقوفها معه قائلا ببرود
" أخبرتك أن الحديث في كل هذا مؤجل حاليا ولم ندخل في التفاصيل
بعد ووقتها ستكونين أول من يعلم بالتأكيد "

تنهدت قائلة
" لا بأس , أتمنى أن يحدث ذلك فعلا ولا يعرقله أي شيء يكفي ما

ضاع من عمرك من أعوام وحيدا "

وتابعت بتوجس ونظرها معلق بملامحه " هل علم ابنك ؟ "

دار بجسده مغادر وقد قال
" قريبا سيعلم ولا أعتقد الأمر سيغير شيئا "

لحقت به بخطوات سريعة قائلة
" شاهر لما لا تبقى قليلا بعد , لم أشبع من رؤيتك ولا الحديث عن
أخبارك "

تابع خطواته السريعة دون إبطاء ولا التفات قائلا
" مرة أخرى يا رقية , ورائي أمور مهمة , وكلها أيام وسأتفرغ
لحياتي أكثر "


*

*


توقفت أصابعها الرقيقة البيضاء الطويلة عن الحركة السريعة على اللوحة الالكترونية أمامها ما أن اجتاز باب مكتبها صاحب ذاك الجسد الطويل ببذلته السوداء الفاخرة ومشيته الأنيقة الواثقة , وما أن رفعت نظرها المخدر لوجهه حتى تعلق به وهو يقترب منها

ووضع الحقيبة التي كانت في يده على طرف طاولتها قائلا ونظره على
البطاقة المعلقة في ثيابها تحوي اسمها كاملا
" صباح الخير آنسة فيتال ... جدي في مكتبه بالتأكيد "

حركت رأسها كالبلهاء مجيبة بنعم فدفع حقيبته على طاولتها الزجاجية

السوداء حتى وصلت عندها وغادر من عندها جهة باب المكتب قائلا

" سآخذها منك وقت خروجي "

تنفست الصعداء تدير حدقتاها الزرقاء للأعلى متمتمة
" اجزم أن أسبوعي الأول هنا سيكون الأخير , ما هذا بحق السماء ؟ "

وحملت الحقيبة ووقفت بها تمسكها شبه محتضنة لها ونظرها على
الذي وصل الباب المشترك مع مكتبها وفتحه ودخل من فوره دون
يلتفت ولا مجرد التفات كما تمنت وهو يغلق الباب بعد دخوله , ولو كانت تعلم عن مزاجه المشتعل وقتها ما فكرت في ذلك ولا تمنته , فما أن أغلق الباب نظر للجالس خلف طاولته وقال بجمود متجاهلا من كان يجلس معه

" إنها السكرتيرة الثالثة هذا الشهر جدي ! كيف لك أن تنظم عملك وفي
كل حين والآخر ثمة عارضة أزياء جديدة في الخارج "

أشار له الجالس خلف مكتبه بكل وقار وسيطرة بالقلم في يده للكرسي
الآخر أمامه قائلا

" لم أجد سكرتيرة ذات كفاءة حتى الآن بعدما خسرنا أماندا , ثم والدك
من يتولى المقابلات معهن ويختار , تعال اجلس يا وقاص فثمة خبر
جيد فالمناقصة رست على شركتنا "

تنهد بيأس ملوحا بيديه دون كلام ثم اقترب حتى وقف عند الطاولة
المستديرة ودس يديه في جيبي بنطلون بذلته ينظر جانبا للذي وقف من
فوره متمتما ببرود

" فكر فيما تحدثنا فيه جدي , سأراك الليلة في المنزل "

وتوجه للباب ونظرات وقاص الساخطة تتبعه حتى خرج ثم نظر للجالس
خلف مكتبه وقال بجمود

" ما جديده هذه المرة ؟ "

كتف الجالس على كرسيه الجلدي يديه لصدره متكأ بظهره للخلف وقال بجمود مماثل
" أتركنا من نجيب الآن وما الجديد لديك أنت ؟ "

حرك كتفيه بلامبالاة وكفاه لازالا سجينا جيبي بنطلونه الأسود الأنيق وقال

" كان يوما كسابقيه مزدحما بالأعمال في مكتب المدعي العام "

فك ضرار يديه وأمسك بهما طرف الطاولة ونظره معلق بالواقف فوقه وقال بلهجة يفهمها كلاهما
" ليس عملك هناك أعني فاجلس يا وقاص لن أقولها للمرة الثالثة "

تنهد بضيق وجلس على مضض بعدما فتح زر سترته متجنبا النظر
جهة الجالس خلف الطاولة الواسعة وقد وصله صوته الجاف
" هل أرجعت زوجتك ؟ "

نظر له نظرة قوية يتفرس ملامحه القاسية الجامدة والخالية من أي
تعبير فليس السؤال ما أزعجه بل طريقة نطقه له وكأنه أمر مسلم به ,
نظر للأرض تحته وقال محتفظا بجموده
" خرجت من نفسها ترجع من نفسها أنا لم آخذها إلى هناك ولا طلبت

منها الذهاب "

وصله ذاك الصوت متحدثا بجدية أقرب للحدة
" ما كلام الأطفال هذا يا وقاص ؟ هل هذا حديثك يا نائب المدعي العام
في أول مرة تخرج فيها زوجتك من المنزل غاضبة "
نظر له وركز نظره على عينيه في نظرة ثابتة لا يهزها شيء وكأنه
يريه أن له ما ورثه هو تحديدا منه من الإصرار والعناد فهو أكثر من
يكره تدخل غيره في أموره الخاصة أو يتحدث عنها أمامه حتى جده
ومع كل احترامه الشديد له , هي كما قال المرة الأولى التي تخرج فيها
من المنزل غاضبة لكنها ليست المرة الأولى التي تكون فيها غاضبة
بسبب أشياء تافهة وأوهام سخيفة وهو من عليه مراعاتها وإرضائها
في كل مرة كالطفلة

نطق بعد تبادلهما تلك النظرة العنيدة لعدة لحظات قائلا بجمود لم يخلو
من احترامه المعتاد له
" إن كان ثمة أمر غيره تريدني فيه أو سأغادر فثمة نشاط لإحدى
الجمعيات الحقوقية وعليا التواجد فيه مبكرا "

وقف حينها ضرار على طوله وقال بنبرة صلبة لم تخلو أيضا من
اللهجة الآمرة

" والدها اتصل بي وأنا أخبرته أنك ستذهب اليوم لإرجاعها "

وقف هو أيضا وقال ببرود رافعا ذقنه بإصرار
" وأنا حين وافقت وتزوجتها أخبرتك أنه لا دخل لك ولا لوالدها في
حياتي معها ومن قبل حتى أن أعرفها وأراها وأنت وافقت , فإن خرقت
اتفاقنا جدي فعليك أن لا تلومني على أي شيء "

صر ذاك على أسنانه وقد حاصره بما دار فعلا بينهما من ثلاث سنوات حين عرض عليه مناسبة تلك العائلة , خرج من صمته أخيرا وقال ببرود
" أنت بهذا إما ستُخسرنا العلاقات المشتركة بين العائلتين أو تُخسر
نفسك علاقتي بك "

شد قبضتيه بقوة يكره التهديد المبطن فيما قال وهو يعلم أنه يعني بذلك أنه سيخسر علاقته به في كلا الحالتين , قال بحروف مشدودة
" كن واثقا بأني على استعداد لأن أخسر كل شيء ولا أرضى أن يتحكم أي كان في قراراتي أو يملي أوامره في أمور تخصني وحدي "

اشتدت نبرة الواقف أمامه بحدة أكثر ولوح بقبضته صائحا

" وتقول عن نجيب أنه طائش ومعتوه ولا يعرف كيف يفكر ويقرر ؟ بما تسمي نفسك أنت الآن ؟ تخيلت من الجميع أن يعصوا أوامري ويكسروا كلمتي إلا أنت يا وقاص يا تربية يدي "

حاول أن لا يشتعل هو هذه المرة واحتفظ باحترامه للرجل الذي رباه فعلا وصنع منه رجلا , قال بلهجة ثابتة
" جدي وأحبك وأطيعك في كل شيء وأي شيء إلا حياتي وقراراتي الخاصة , ويوم أرى نفسي أتصرف وأقرر كنجيب فبنفسي سأقتلع عيناي "

تمتم ذاك بسخط وهو يعود لجلوسه
" أبلهان كلاكما على ما يبدوا لي ولاتُستأمنان على النساء"

بدأت أعصاب الواقف مكانه تخرج عن السيطرة هذه المرة وكأن كلمات جده تلك حركت جمرة تختبئ في مكان ما داخله لا يمكنه السيطرة عليها فقال بحقد
" ماذا فعل لتلك الفتاة
أيضا أو يخطط له وأنت تصمت عنه مجددا ؟؟ "

رفع ضرار نظره له وقال بضيق
" يتوقع مني أن أوافق قراره الغبي بإخراجها والعيش
معا في منزل مستقل ! بل وخارج بريستول أيضا !! ويقول أنها زوجته والقرار له أحرق لي دمي وجئت أنت تنهي على ما أبقى "

خرجت حمم غضبه هو هذه المرة متجاهلا كل ما كان يجبر نفسه عليه منذ دخوله هناوقال بغضب
" وزوّجته بها لماذا وأنت تعلم من البداية أنه صاحب قرارات وأفكار
ناقصة ومجنونة ؟ ما يريده يستفرد بها بعيدا وجميعنا يعلم جيدا عن حالتها وظروفها الصحية "

أشار له الجالس مكانه بسبابته محركا لها قائلا بغضب مماثل
" انظر لنفسك أولا ولقراراتك يا ابن سلطان ضرار فيبدوا أنه تعلّم العناد منك "

ثم رمى أصبعه جانبا متابعا بحدة
" وتوقف عن إعادة أسطوانتك هذه كل مرة زوجتها وقررت ووووو ... حفيدتي وأريد أن أطمئن أنها تحت حمى أحدكم "

وأشار له مجددا وتابع بذات نبرته الحادة

" لو كنت أنت تحديدا طلبت أن أزوجها بك ما رفضت فلم يفعلها إلا نجيب "

شعر أن كلماته تلك ضربته على وجهه كالعاصفة حتى كاد يشعر بارتداد جسده القوي الثابت للخلف , همس بغير تصديق

" تهددني بعلاقتي بك من أجل ابنة صديقك وشريكك ثم تقول أنك كنت ستزوجني بزيزفون عليها إن طلبت ذلك !! "

وقف ضرار مجددا وقال بحنق
" حفيدتي أهم عندي من شريكي كما تقول والشرع حلل التعدد , وبعد أن اختارها نجيب بنفسه لا أحد يحق له التدخل بينه وبينها أيضا أم ستناقض نفسك يا وقاص "

تحول كل ذاك الغضب لحظتها لمرارة وملئت وجهه تلك الابتسامة الساخرة وقد قال

" لكن الفرق كبير بين هدفك وهدفه من الزواج بها , فهو لم يردها أبدا ليحميها أو ليكون وصيا عليها وأنت تعلم ذلك جيدا "

قال ضرار مباشرة

" الأمران سيان ولا مانع من أن يكون لأحدكم عائلة كاملة وليس طفلا واحدا قد يأخذه حتى الموت "

أبعد شفتيه ليتحدث وأثار الصدمة والاستنكار لازالت بادية على ملامحه بوضوح لولا قاطعه صوت طنين هاتف المكتب تلاه صوت السكرتيرة الرقيق يملأ المكان

" عذرا سيدي على مقاطعتك لكن موعدك مع السيد هادلي بعد حوالي العشرة دقائق فهل ستستقبله أم أتصل للاعتذار منه ؟ "

وقبل أن يقول شيئا أو يرفع يده عن جهاز الاتصال الداخلي كان الواقف
أمامه قد غادر بخطوات واسعة سريعة جهة الباب وفتحه وخرج دون
أن يضيف شيئا مغلقا له خلفه بقوة وتوجه لطاولة التي هبت واقفة من
فورها وحملت الحقيبة من جانب ساقيها ودارت بها خارج طاولتها بدلا
من أن تضعها له فوقها كما أعطاها إياها , ناولته إياها قائلة بابتسامة
وكأنها لم تسمع أصوات الشجار في الداخل وإن لم تفهم فحو الحديث
" آسفة سيدي إن كنت قاطعت حديثا مهما لكني خشيت أن يغضب
السيد ضرار إن لم أذكره بـ... "

قاطعها متمتما ببرود وهو يغادر من هناك
" خيرا صنعت "

وخرج ترافقه تنهيدتها الطويلة تهف بيدها على وجهها بينما سلك هو
ممرات طابق الإدارة لا يرى شيئا حوله من شدة حنقه وغضبه , ونزل
مستقلا المصعد الخاص بالمدير وغادرالمبنى يرخي ربطة عنقه الزرقاء
الغامقة ما أن قابله الهواء البارد راشفا منه ملئ رئتيه المتشنجة من
اشتعال كل ذاك الغضب بداخله وكلمات جده تتكرر وتعاد في أذنيه
كالطنين

ركب سيارته بعدما رمى حقيبته على الكرسي بجانب كرسيه وغادر من
هناك قبضتاه تشتدان على المقود بقوة حد شعوره بالألم فيهما , غرس
أصابع يده اليمنى في شعره بقسوة حتى كاد يشده وهمس شاتما وقد
ضرب المقود بقبضته

" سحقا "

لا يصدق أن نوايا جده في تزويج نجيب بها كما قال له ! وحتى إن فرض ذلك فكيف له أن يثق في حمايته لها وهو يعلم ما كان عليه قبل أن يعاقبه بطرده للشارع لأشهر حتى عاد يكاد يزحف مترجيا بعدما علم
هو ووالده عن تلك الرحلات وأولئك الرجال الشاذين عاد لضرب المقود براحة يده هامسا من بين أسنانه

" تبا .. تبا .. تبا له ولي أيضا "

وشتم مجددا مقسما في قرارة نفسه أنه لو كان يعلم أن جده سيزوجه
بها إن طلبها لنفسه لكان فعلها دون أدنى تردد ليس لأي سبب سوى أن
يحميها منهم جميعا وجده معهم أيضا حين تصير تحت حكمه وحده وما
كان ليلمسها ولا بإصبعه ولكان علم كيف يحميها كما أشار جدهما
وتوهم أن يفعل نجيب , لكن الأوان قد فات الآن على كل هذا , يعلم أنه
فات ولا مجال للرجوع بالزمن للوراء


*

*


" اشطبي هذا السؤال أيضا "

اللهجة الحادة الآمرة في عبارتها تلك جعلت الجالسة أمامها تحرك قلمها على الورقة بسرعة وحده ثم وضعت يديها فوق الأوراق ونظرت لها قائلة
" سيدة غسق هذا السؤال الرابع الذي تلغيه لي , بهذا الشكل
المقابلة لن تنجح أبدا "

علقت بضيق

" أسئلة شخصية ممنوع يا آنسة قلت ذلك منذ البداية "

نظرت تلك للأوراق تحتها ورفعت إحداها وأرتها إياها مرفوعة وقالت
" كل ما سألتك عنه المظاهرات الأخيرة في حوران وفزقين ومطالبة
الناس بالزعيم مطر شاهين وعن رأيك في استجابته لنداء الوطن وأنتي
من عاش معه وعرفه , السؤال ليس شخصيا أبدا "

ثم أعادت الورقة مكانها متابعة بمطلق الهدوء والاحترام ونظرها معلق بالحدقتين

السوداء الواسعة المركزة على عينيها
" سيدتي الأسئلة الروتينية أشياء يجدها القارئ في أي مقال سابق كتب عنك أو أي لقاء صحفي لكـ... "

قاطعتها بحنق
" لكن أغلب أسئلتك عن الأوضاع الأخيرة في البلاد وأعتقد
أن هذا يكفي لتكون مقابلة مختلفة "

شدت أناملها على قلمها وتمتمت
" ظننت أن السيد عُقبة وعدني بمقابلة
تستحق عناء رحلتي من بينبان إلى هنا "

شدت الجالسة خلف الطاولة أمامها أصابعها بقوة , تكره لهجة تلك الصحفية التي تذكرها

بها بأنها موصى عليها من ذاك الرجل تحديدا , الرجل الذي فوق مكانته في البلاد تكن له احتراما كبيرا وله أفضال جمة عليها وعلى جمعيتها خاصة في الآونة الأخيرة , تشعر بتوتر يدمر أعصابها ولم تعد تستحمل ضغطا أكثر فأحداث الأيام الأخيرة كفيلة بجعلها تنهار بعد صمود دام لأربعة عشر عاما عرفت حتى هي فيه غسق جديدة عنها , قالت
بلهجة صلبة

" لولا توسط السيد عُقبة لك ما حظيت بهذه المقابلة من أساسه ولا كنت تحملت حتى الآن متابعتها "

كسرت الجالسة أمامها نظرها للأسفل وتبدوا تذكرت أخيرا أن تخجل من تهديدها المبطن وتمتمت بلهجة صادقة

" آسفة سيدتي "

تنهدت الجالسة أمامها ناظرة للأعلى قبل أن تنظر لها مجددا وتنفست بقوة هامسة

" لننهي المقابلة إذا وأعدك أن أجيب عن باقي الأسئلة المدونة في لائحتك قدر استطاعتي "

نظرت لها تلك وقد شع وجهها بالأمل واتسعت ابتسامتها بشكل علمت
منه الجالسة أمامها فورا أنها لازالت تحمل في جعبتها الكثير من
الأسئلة المشابهة للتي أجبرتها على إلغائها سابقا فتنهدت باستسلام
ممررة أصابعها في غرتها التي انفكت سريعا بسبب حركتها تلك
من المشبك لكريستالي الذي كانت تثبتها به وتحررت متدرجة على
طرف جبينها , وما أن تنبهت الجالسة أمامها من سرحانها في ملامحها
وهي تصارع تلك الخصلات الناعمة وكأنها ريش نعام يرفض الانصياع
عادت سريعا لطرح باقي الأسئلة في لائحتها الطويلة التي ستختار منها
فيما بعد ما سيتم نشره تحاول بقدر ما استطاعت أن تسحب من
الجالسة أمامها كل ما سيكون سبقا صحفيا لم ولن يسبقها له غيرها ,
ورغم تحفظها في أجوبتها المقتصرة درجة جعلتها ستشد شعرها إلا
أنها نجحت في سلبها الكثير وتحرير صمتها الدائم والمعروف عنها ,
بينما كانت دقائق تلك المقابلة تمر كالجحيم على الجالسة خلف طاولة
المكتب الداخلي لمنزلها , وتعلم جيدا أن أعصابها المشدودة وتحكمها
الوهن جدا في انفعالاتها وما تقول جعلها تدلي بأشياء قد تندم عليها
لاحقا , بعد ساعتين مرتا منذ بداية تلك المقابلة المثيرة للأعصاب كما
تراها وقفت مودعة تلك الصحفية المعروفة

والتي تعمل لصالح جريدة مشهورة عالميا , وما أن خرجت تلك برفقة
الخادمة حتى انهارت على كرسيها الجلدي ونفخت الهواء من شفتيها
بحنق لا تعلم من نفسها أم من تلك المرأة التي لم تزد حالها إلا سوءا ,
دست رأسها بين يديها وأصابعها تتخلل شعرها الحريري المشدود
للخلف في منتصف ظهرها وأغمضت عينيها تشعر بثقل شديد في


جفنيها المرهقان , عليها أن تتصل غدا بتلك الجريدة وتطلب إلغاء
المقابلة وإعادتها مجددا ولأنها جريدة معروفة ولها سمعتها هي موقنة
من أنهم لن يغامروا بالرفض أوتسريب أي شيء مما كتبته تلك
الصحفية وإلا كانت ستفقد وضيفتها تلك وهي تعلم ذلك جيدا , رفعت
رأسها ونظرت لهاتفها الذي صدح صوت رنينه في صمت ذاك المكتب
الخالي من سواها واتسعت عيناها وقد ارتسمت تلك الابتسامة على
ملامحها المرهقة وسحبت الهاتف سريعا وأجابت بلهفة

" رعد هذا أنت ؟ أنت بخير يا شقيقي ؟ "

وصلها صوته الرجولي مفعما بالرقة مرحبا
" مرحبا بشقيقة رعد الوحيدة .. أجل بخير يا غسق لا تقلقي وتُقلقي
الناس معك أكثر "

وتابع بلهجة مبتسمة

" حتى قائد الجيش اتصل بي ليخبرني أن أتصل بك وأطمئنك

على صحتي , لم أكن أعلم أن سلطتك لازالت عالية في البلاد "

مسحت عينيها ورموشها التي بللتها دمعتها الحبيسة قائلة بحزن
" وكيف لا أقلق عليك بعدما حدث ؟ هل ترى ما حدث أمراً مسلياً
ومجموعة مسلحة حاصرتكم يوما كاملا وكدنا نفقدك أيضا "

وصلها صوته هادئا هذه المرة وهو يقول
" كان مجرد تهديد يا غسق , لن يستطيعوا إيذاء أحد منا وهم يعلمون
ذلك جيدا كما نعلمه نحن , إنها وسائل للضغط فقط , أنتي لا تعرفين
طرقهم تلك "

تحولت لهجتها للضيق معلقة

" لن نعوّل على ذلك يا رعد , لن تكون في كل مرة تهديدا فقط , أنا
أخشى عليك حقا من النفق الذي أدخلت نفسك فيه بعد وفاة والدي "

سمعت بوضوح تنهيدته الطويلة التي شعرت بها تهشم ضلوعها
ووصلها صوته قائلا

" المسألة مختلفة جدا يا غسق , أعلم أنك ستكرهين ما سأقول لكن
عليا أن أوضح لك , آخر ما وصلنا منذ قليل معلومات سرية عن
تحركات عند حدود مدن الحالك ويبدوا أنهم يفكرون في سد الطرق
المؤدية لها

" فغرت فاها بغير تصديق ورغم تردي حال البلاد في الآونة الأخيرة
إلا أنها لم تتوقع أن يأخذ هذا المنحى , خرجت الحروف من شفتيها
مخنوقة حين همست

" لا تقلها يا رعد لن تنقسم البلاد مجددا "

وصلها صوته مباشرة

" لا أعتقد ذلك يا غسق , أخبرتك أنك لا تفهمين طريقة تفكير هؤلاء الفئة من الناس فمخططهم مختلف تماما "

حركت رأسها بعدم فهم وهمست بصعوبة
" أين الجيش يا رعد ؟ أين الشرطة ؟ "

لم تصدق وهي تسمع نبرته الجادة قائلا

" هل تري أن تدخل الجيش سيكون حلا ؟ هو سيعقد الأمور أكثر فلا
تنسي أنه يضم جميع أطياف البلاد , وثمة قادة مهمين فيه سمعت أنهم
مستعدين للانشقاق في وقت قريب "

صرخت هذه المرة ضاربة قبضتها على الطاولة بقوة

" كيف يفعلون ذلك ؟ ولائهم يجب أن يكون للوطن لا للقبيلة , كيف
يشاركون في تدمير البلاد هكذا يا رعد ؟ ما بنا وكأن ثمة من يجرف
البلاد للهلاك يوما بعد يوم منذ ثلاثة أشهر "

تنهيدته التي وصلتها هذه المرة كانت مختلفة جدا عن سابقتها ونبرته كانت ثابتة بشكل مريب حين قال

" هي وسيلة ضغط جديدة فقط يا غسق , هؤلاء الرجال لن تصدقي

لو أخبرتك أنهم كانوا من أقرب رجال ابن شاهين في الماضي وقد
خدموا البلاد بعد رحيله وقت توحيدها بشكل فاق التوقعات "


حركت رأسها بعدم تصديق وأصابعها تتغلغل في غرتها ولم تعد
تستوعب شيئا مما تسمع , همست بخفوت لولا تقنية الاتصال عن بعد
ما سمعه

" رجاله !! رجال مطر ؟ "

كانت المرة الأولى التي يسمع فيها اسمه من شفتيها منذ عادت لهم
تحمل في أحشائها طفله واختفى هو كالسراب من حولهم , لم يسمعوا
من شفتيها ولا لقبه الذي يستخدمه الكثيرين وهم ينادونه بابن شاهين ,
لم تتحدث عن ذاك الرجل ولا تلميحا من بعيد ولا بصفة النكرة , لذلك لم
يكن وقع اسمه من شفتيها على مسمعه أمرا عاديا وعابرا هذه المرة
مما جعل الصمت المميت يكون جوابه لعدة لحظات , صمت رافقه
ضجيجاً صاخباً في أذنيها حد الألم حتى أنها أمسكت صدغيها بأصابعها
بقوة وهي تشعر بصداع قوي كالزلزال يجتاحهما , كانت تعلم أن تبعات
تلك المقابلة الصحفية الفظيعة ستمتد معها لوقت وبوادرها بدأت تظهر
من الآن , وصلها صوته كاسرا الصمت الذي كان كفيلابجعل أعصابها
تتدهور للأسوأ

" لن يصدق أحد يا غسق أن أولئك الرجال قد يفعلون ما فيه ضرر
للبلاد وهم يساندون ويصمتون الآن عما يجري في الحالك وإن من
تحت الطاولات , غرضهم فقط الضغط على مطر شاهين , ذاك ما لا
يستطيع الجميع فهمه مما يجري هذا الأسبوع وهذه الأيام , هم موقنون
كما الجميع أن ما يجري لا يخفى عنه وأنه إن لم يخرجه هذا للعلن فلن
يخرج أبدا وسأكون أنا حينها أول من يعترف مقتنعا بأنه ميت من
أعوام "

انزلقت أصابعها لعنقها تفركه بقوة وكأن أنفاسها انقطعت وتحاول أن
تجد لها سبيلا للدخول , سندت جبينها على قبضة يدها الذي تثبت
مرفقها على الطاولة وقد وصلها صوته يحمل نبرة اعتذار واضحة

" أعلم أني أكدرك بكل ما أقول يا غسق وأنك تكرهين الحديث في أمره
لكن توضيح الوضع يلزم مني الوصول لهذه النقطة لتعرفي حقيقة ما
يجري فعلا في البلاد "

قبضت بأصابعها بقوة تحت جبينها المتكئ عليها ولم تفتها نبرة التردد في صوته وهويتابع

" لكن الخطر يبقى قائما يا شقيقتي فإن حدث لي شيء أريدك قوية كما عرفتك دائما , وثمة أمر مهم أريد أن تفعليه من أجلي , بأن توصلي الرسالة الموجودة في درج مكتبي للشخص المدون اسمه عليه مهما كلفك الأمر "

ولم يعطها أي مجال لتخرج من صدمتها بكلامه ذاك ولا لتعلق على ما قال وقد قال متابعا

" ثمة أمور مستعجلة عليا فعلها يا غسق ولن أعطلك أكثر أنتي

أيضا , أحبك شقيقتي .... وداعا "

وأنهى المكالمة تاركا إياها تتأرجح بين الماضي الذي توشك بقاياه أن
تعود وبقوة بعدما دفنته مع مشاعرها وأمومتها من أعوام وبين حديثه
الأخير عن موته , رمت هاتفها من يدها على الطاولة أمامها وحضنت
وجهها بكفيها وأصابعها البيضاء الرقيقة متمتمة بأسى

" لا قدر الله ذلك يا رعد ,لاقدر الله ... توقفوا عن قتلي معكم أرجوكم "


*

*


سنّد ساعده على سقف سيارته ومد يده الأخرى لداخلها وسحب الهاتف
الذي أزعجه برنينه منذ أكثر من نصف ساعة وكأن المنغصات تتكالب
عليه حد أن تفسد العزلة التي اختارها لنفسه للحظات , نظر لرقم جده
ضرار على شاشة الهاتف وتنهد مستسلما وهو يجيب مسويا وقفته
حين وصله صوته الحاد

" لما لا تجيب على هاتفك ؟ "

كتم حنقه وقال ببرود

" ها قد أجبت "

لكن تلك الإجابة على ما يبدوا لم تعجب من في الطرف الآخر وقد صرخ بحدة

" لا أريد أن الصق بك لقب الطفل يا وقاص فكن عاقلا ورجلا كما
أعرفك طوال عمرك ومنذ كنت صغيرا , وأجب حالا على السؤال "

مرر أصابعه في شعره الأسود الذي تداعبه ريح الليل الباردة وتنفس
بقوة مناشدا نفسه المزيد والمزيد من الصبر والحكمة والتعقل كما
عرف هو نفسه طوال الوقت قبل غيره , وقد نجح الأمر حين خرج صوته متزنا وهو يقول
" كان هاتفي في السيارة وأنا كنت خارجها "

بدا الجمود واضحا على نبرة جده حين وصلته فورا

" أنا في المطار الآن ستقلع طائرتي بعد أقل من نصف ساعة ولن
أرجع قبل عدة أيام "

نظر للساعة في معصمه فورا وقال مستغربا

" الساعة تقارب منتصف الليل ! ما هذا القرار المفاجئ وإلى أين
مسافر؟ "

وصله صوته قائلا باختصار " إلى دندي ومنها بالمروحية إلى جزيرة
مينلاند "

وأضاف بحزم قبل أن يعلق

" ولا أريد حديثا ولا شجارا بينك وبين نجيب , هو
فهم جيدا أن ما طلبه مرفوض ولي حديث معه ما أن أرجع "

وقطع معه الاتصال دون أن يوضح له أكثر ولم يحتج الأمر لذلك فهو
على علم مسبق باتفاقيتهم الجديدة مع شركة هدسون باي حيث تحتل
سفنها التجارية ميناء سترومنيس هناك ويعلم جيدا ما يعني الأمر لجده
خاصة في بداية كل عقد أو اتفاق جديد ولن يستغرب أنه لم يطلب منه
هذه المرة أن يدرس المشروع دراسة نهائية ويعطي وجهة نظره فيه
كمحام قبل الشروع في الأمر بعد النقاش المحتدم بينهما اليوم أو
الشجار العنيف الذي أعقب إخباره بالصفقة الجديدة المبرمة قبل أن
يغادر نجيب مخلفا خرابا ورائه ككل مرة , كان سيرمي الهاتف مجددا
على كرسي السيارة لولا عاود الرنين وهذه المرة كان رقما هو متأكد
من أنه من ضمن الأرقام التي أزعجته فترة النصف ساعة الماضية ,
وها قد علم الآن سبب اتصال جده وغضبه الأسود من أنه لا يجيب على
هاتفه , رفع الهاتف لأذنه مجددا وقال بكل ما استطاعه من هدوء
ورصانه

" مرحبا عمي "

قال من في الطرف الآخر من فوره
" قال جدك أنك قادم اليوم وتأخر الوقت ولم نرى ولا أضواء سيارتك
تقترب من هنا "

ولم يعطه المجال ليعلق على ما قال وهو يسترسل في حديثه الفض

" جمانة لا تتوقف عن البكاء ولم نفهم جيدا السبب الحقيقي لشجاركما
وتركها المنزل , فهل أفهم منك أنت السبب بما أنك لا تبكي وتنوح ؟
وما هذا الكلام الذي قلته لها يا وقاص ؟ "

ما كان يريد قوله أنها لم تتوقف عن البكاء من حين عرفها لكنه حمد
الله أن عقله لازال يحمل ولو قليلا من ذرات التماسك العالقة في أحد
زواياه , قال ببرود


" جمانة تهول الأمور دائما , وحين خرجت من المنزل لم تطلب رأيي
في قرارها الجديد ذاك "


كان متأكدا من أن محدثه ذاك يحاول مثله إمساك جميع أوتار أعصابه
المتشنجة كي لا يخطئ معه ولا برفع صوته فلطالما كان الاحترام
متبادلا بينهما وطالما أشاد وأمامه بإعجابه الكبير بشخصه ونجاحه
وتفانيه في عمله كمحام وكعضو في إدارة شركة عائلتهم الناجحة ,
وكانت علامات السعادة والذهول واضحين على ملامحه حين صرح له
شريكه ضرار سلطان برغبتهم في خطبة ابنته الصغرى له تحديدا من
بين أحفاده , وعامله دائما كابن له واحترمه هو كوالد , وصله صوته
هادئاً بعض الشيء

" ما أعلمه وموقن منه جيدا أني سلمت ابنتي الصغرى ومدللتي لشاب
يقاس بالذهب ولن تضام معه أبدا "

التفت للخلف وملامحه لا تزداد إلا قسوة ونظر للأضواء المتلألئة
المنعكسة على سطح مياه النهر أمامه فأكثر ما يكره هو أسلوب
الحصار الذي يتبعونه معه تحديدا , خرج من صمته الطويل قائلا بنبرة
صلبة

" مؤكد جدي أخبرك بما قلت ودار بيننا وعن رأي في
الأمر , ابنتك خرجت من المنزل وهي ترجع له إن أرادت الرجوع , لم
يطردها أحد ولن أمنعها من العودة "

بدا الضيق يغزوا نبرة الصوت الذي وصله من هاتفه

" هل تعني أنه إن كان أنت من أخرجها ستأتي لإرجاعها ؟ هل تلعب
بعقولنا وكأننا أطفال يا وقاص "

مرر أصابعه في شعره يمسك تأففه بشق الأنفس وقال بجمود

" إن أنا أخرجتها فلا توجد قوة على الأرض سترجعها لي , ولازلت
حتى الآن أمسك نفسي عن فعلها حقا

حين توقف ابنتك بكائها وأشك في ذلك أفهمها أن ما تريد فعله سيكون
ثمنه زواجنا كما هددت هي , ويوم تفكر في العذول عن أفكارها تلك
المنزل مفتوح لها , وغيره مرفوض ولن يجبرني أحد على تغيير ما أقول "

كان صوت والد زوجته حانقا هذه المرة وهو يقول

" أنت بذلك تتسبب بمشاكل بيننا يا وقاص , لا أريد للعلاقات الوطيدة
أن تفسدها أمور تافهة أول ما ستتسبب به طلاق متهور ثم مالا يحمد
عقباه "

شد قبضته حتى كاد يمزق جلد أصابعه وقال بعناد أشد

" ما لدي قلته يا عمي وابنتك السبب في وصول الأمور لهذا المنحى
فتفاهم معها وليس معي "


وتابع قبل أن يتحدث ذاك منهيا الجدل بينهما بلباقة

" تأخر الوقت والرحلة لبريستول تأخذ وقتا ... أراك في وقت قريب "

وصله صوت تنهد ذاك بوضوح وقد قال ببرود

" لنا حديث في وقت آخر إذاً وبحضور جدك .... تصبح على خير "

أبعد الهاتف ونظر لشاشته وشتم بهمس وهو يرميه داخل السيارة
بعنف متمتما

" أنا من سينسيكم أسلوب التهديد هذا ويريكم من هو الذي له الرأي "

ولف حول السيارة وركبها منطلقا من هناك ومطلقا العنان لمحركها
القوي فقد كره حتى لحظات الخلوة تلك التي اختارها لنفسه بعيدا عن
جميع مشاكله , كانت الساعتين التاليتين اللتين قضاهما في قيادة
سيارته أسوأ من سابقاتها والأفكار تتزاحم على رأسه ففوق مشاكل
القضايا في مكتبه بدأت حياته الخاصة في التدهور وعلاقته بجميع من
حوله تتآكل تدريجيا وعليه أن يكون الابن الصالح المطيع الذي هو
نفسه لا يعرفه كي يرضى الجميع عنه رغم كل ما فعله ويفعله من أجل
جميع من حوله , لكن وقاص الآخر لم يعرفوه بعد لم يظهر وهو
موقن من أنهم ينبشون عنه ليخرجوه قريبا وسيعرفون حينها مميزات
وقاص الماضي , دخل بسيارته لباحة المنزل المضيئة وركن سيارته
كالعادة بجانب سيارة رواح المركونة بشكل يوحي بشخصيته المعكوسة
في كل شيء , نزل من السيارة حاملا حقيبته وضرب بابها بقوة

وتوجه من فوره جهة باب المنزل ونظره على الساعة في معصمه فقد
تجاوز الوقت الثالثة فجرا .. سيستحم وينام قليلا قبل أن يغادر مجددا ,
غضن جبينه عاقدا حاجبيه وقد تباطأت خطواته وهو ينظر لخيال
المرأة الذي خرج راكضا جهته واحتاج لوقت كي يتبين ملامحها ويعلم
من تكون رغم أن قصر قامتها وامتلاء جسدها جعلاه يشك في هويتها
مسبقا , وقف مكانه ما أن وصلت له وارتمت تحته ممسكة يده وصوت
بكائها المتقطع يخرج كأنين ظبية مجروحة وهي تنحني ليده المرمية
جانب جسده وألصقت بها شفتيها صارخة ببكاء


" أرجوك سيدي أرجوكم أن ترحموها لا أحد لها غيركم هنا ... ليرحمهما أحدكم "

اجتاز صدمته مما يجري أمامه بصعوبة فسحب يده وأوقفها قائلا بقلق

" ما بك ماذا يجري معـ... ؟ "

ولم يحتج الأمر أن يسأل ولا أن تشرح له وقد رفع رأسه عاليا بسرعة
حيث طوابق هذا المنزل الضخم وتحديدا تلك النافذة ما أن وصله صوت
ذاك الصراخ الأنثوي مخترقا الأبواب المفتوحة فرمى الحقيبة من يده
دون شعور منه وركض جهة المنزل صارخا بغضب

" سحقا لك يا نجيب "


المخرج~
بقلم / همس النهاية

هل توقف الوقت ولم يعد يمضي أم ماذا؟!
هل توقف ليختبر مدى صبري؟
أم مدى عشقي وجنوني للجنوني!
إن كان للصبري فصبري نفذمنذ أخر حرف همست به غسقي
وأما عن عشقي لها فهو أزلي
.

******

نهاية الفصل
موعدنا الأربعاء القادم الساعة العاشرة مساء ودمتم

في رعاية الله وحفظه

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook



جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 05:29 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية