لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-01-16, 09:17 AM   المشاركة رقم: 41
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

الفصل القادم سيجيب عن تساؤلاتك هذه يا عزيزتي
شاكرة لك تواجدك معي في هذه الرواية
سأضع الفصل التالي حالاً

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 11-01-16, 09:24 AM   المشاركة رقم: 42
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

الفصل الثامن {سنوات الرخاء}


توالت ضربات الموج القوي على ذلك المنحدر الحاد بصوتٍ مسموعٍ في الجزء الجنوبي من سهول الأكاشي، وتناثر الرذاذ على الصخور مكوناً شلالاً خفيفاً من القطرات التي تطايرت لمسافات غير معتادة.. قبل أن تنحسر الموجة عائدة للبحر الذي ينتظرها أسفل المنحدر وتتأهب لضربة جديدة رغم أنها لم تفلح في كسر ثبات المنحدر الصخري.. وفي جزء قريب من ذلك المنحدر، تناثرت الخيم ذات الأساس الخشبي التي يغطيها قماش سميك بلون أبيض مع بعض الزخارف مكونة مخيماً على شيء من الاتساع يخص قبيلة (أبناء الذئاب).. كان الضباب الخفيف قد بدأ ينسحب استعداداً لاستقبال شمس ذلك اليوم، بينما هدأت القبيلة في مخيمها الشتوي بعد أن استقرت في الموقع منذ عدة أسابيع..
وفي خيمة متطرفة، لا يزيد حجمها عن حجم أصغر خيمة في الموقع، استيقظ كين من نومه على تلك الرائحة المميزة التي احتشدت في المكان وأطارت النوم من عينيه.. نظر حوله في الخيمة ملاحظاً النار التي أشعلت وسطها، بينما جلس ذلك الشخص محني الظهر قربها وهو يعبث بغليونٍ بسيط في يده.. فنهض كين معلقاً "هل يجب أن تبدأ يومك في كل مرة بهذه الأعشاب التي تخنقني برائحتها الكريهة يا مينار؟"
غمغم مينار وهو يحشو غليونه بالمزيد من الأعشاب "لو جربتها مرة لما كففت عن تدخينها.."
علق كين وهو يغسل وجهه بماء في إناء جانبي "لا أريد الاعتماد على هذه الأشياء.."
تقدم من النار وجلس قربها وهو يقول بنفضة "لقد ازداد البرد هذه الأيام.. أليس كذلك؟"
قال مينار "لن تكون الأمور أفضل في وقت قريب بتاتاً.."
لم يعلق كين بل تساءل "هل استيقظت ججي؟"
أجاب مينار "لمَ تصرّ على مناداته بهذا الاسم رغم محاولاته العديدة لإقناعك بالعدول عن ذلك؟"
قال كين بإصرار "هل أتت أم لا؟"
فقال مينار "لقد أتى جام قبل فترة ووجدك نائماً.. فغادر متذمراً من كسلك الذي لا يطاق كما وصفه.."
علق كين بضيق "كان عليك إيقاظي عندها.. لابد أنها تركتني ورحلت كالعادة.."
فتساءل مينار "ما الذي ستفعله إذاً؟"
هز كين كتفيه مجيباً "سأذهب للبحث عن بعض الطرائد بنفسي.. الشتاء على الأبواب، ونحن بحاجة لمخزون إضافي قبل أن تقل الطرائد في هذا الموقع من السهول.."
تأمل مينار كين بصمت للحظات.. لقد مرت ست سنوات منذ انضمّ كين لقبيلة (أبناء الذئاب)، والآن وقد بلغ الثانية والعشرين من عمره فإنه قد اكتسب طولاً يقارب طول مينار، وإن بقي جسده نحيفاً بشكل بالغ رغم كل محاولاته للتغلب على ذلك.. استطال شعره حتى لامس كتفيه، وقد اعتاد على ربطه خلف عنقه، بينما اكتسبت بشرته شيئاً من السمرة لطول بقائه في العراء كما يفعل أغلب الأكاشي.. وقد أصبح أقوى وأكثر صلابة مما كان عليه عندما أحضرته ججي معها وهو لا يتجاوز السادسة عشر من عمره، رغم ما يبدو عليه من نحول ورغم أنه لا يزال أضعف من الأكاشي عموماً.. فعلق مينار بابتسامة "لشدّ ما تغيرت في هذه السنوات يا كين.."
نظر له كين بعدم فهم، فأضاف مينار "لقد أصبحت أشبه ما يكون بالأكاشي.."
غمغم كين وهو ينهض "أتمنى ألا أكون قد اكتسبت همجيتهم ووحشيتهم بعد.."
ضحك مينار لتعليقه، بينما حمل كين سيفه وقوسه، وغادر نحو مربط الخيول الواقع شرق المخيم ليفك رباط حصانه ذي اللون البني والعرف الأشقر مع نجمة بيضاء على جبهته.. فقام كين بتثبيت السرج على ظهره ثم امتطاه وتلفت حوله بحثاً عن الغبراء، لكنه أدرك أن ججي قد غادرت بالفعل بعد أن تأكد من غياب فرسها من وسط القطيع.. عندها لكز كين حصانه وركض به مبتعداً عن المخيم ومحاذياً المنحدر الذي يمتد لمسافات طويلة حتى الأفق..
رغم مرور السنوات على انضمامه للقبيلة، ورغم مرور الأشهر والسنوات عليه وهو يرافقها من مخيمها الصيفي للمخيم الشتوي بشكل سنوي، لكنه لم يجد في نفسه دافعاً للرحيل وحيداً.. رغم بلوغه مبلغ الشباب، لكنه لم يجد لديه القدرة على قطع هذه السهول دون مرافقين ومنظر تلك القافلة التي سالت دماء أصحابها وتناثرت أشلاؤهم في بقعة واسعة من ذلك الموقع لا تزال تقض مضجعه.. كما أنه لم يكن يملك وطناً يتلهف للعودة إليه وهو الذي غادر وطنه متسللاً هارباً من الجريمة التي ارتكبها والتي لن تمر مرور الكرام كما يثق تماماً..
عندما وصل لمخيم هذه القبيلة للمرة الأولى، أخذته ججي لمينار وطلبت منه استبقاءه معه واعتباره تلميذاً من تلاميذه.. ورغم اعتراض مينار بأنه لا يملك تلاميذ ولا يستقبل أحداً في خيمته التي يعيش فيها وحيداً، لكن ججي رجته بكل حماس وطلبت منه تغيير الفتى ليصبح أشد قوة وأكثر بأساً مما هو عليه.. ورغم تجاهل مينار لطلبها ذلك في البدء، لكن ججي استمرت في سحب كين معها كل يوم أثناء قيامها بالتدريبات.. ودفعته للتدريب بشيء من القسوة والإلحاح حتى اعتاد مينار على وجوده معهما وأصبح يتولى تدريبه بنفسه دون اعتراض هذه المرة.. ورغم كل شيء، لم يستمع أي منهما لاعتراض كين ولرفضه، ولم يعبأ أحدهما لرأيه في الأمر..
والآن، بعد السنوات هذه، لم يعد أحد يلاحظ وجود كين في المخيم أو يستنكره.. ورغم أن الكثيرين منهم ينادونه بالكشميتي، لكنهم يتعاملون معه كما يعاملون أي رجل آخر من رجال الأكاشي.. أما مينار، فسرعان ما تآلف مع كين وأصبح بالنسبة إليه أقرب للعائلة التي لا يملكها.. مع أنه في المعتاد لا يصرح بهذا بشكل علني، لكن كين يدرك أن مينار يستطيب وجوده معه ويستمتع بالخدمات التي يقدمها له كين عن طيب خاطر..
تنهد كين وهو يراقب السهول من حوله.. لقد تغيرت أمور كثيرة بالفعل طوال تلك السنوات.. ما عاد ذلك الفتى المذعور الذي يرتجف لرؤية رجل من الأكاشي.. ورغم أنه لا يشاركهم في مهماتهم ورحلاتهم الفردية، ولا يستمتع ببعض الاحتفالات الدموية التي يقومون بها عند القبض على بعض أعدائهم، لكنه أصبح أكثر اندماجاً معهم مما تخيل في أكثر أحلامه جموحاً.. ورغم أنه أصبح أكثر ثقة بنفسه، وما عاد يقلق لمغادرة المخيم وحيداً بحثاً عن الطرائد، لكنه لم يجرؤ على الرحيل قط.. وكلما مرت السنوات، قلّ لديه ذلك الدافع للرحيل مع استحالة عودته لوطنه.. ازداد ارتباطه بالقبيلة أكثر عن السابق، وأصبح يرى أن البقاء معهم ليس سيئاً حقاً كما تخيّل..
أحكم كين لف المعطف الجلدي حول عنقه اتقاءً للبرد، ولكز حصانه وهو يدور بعينيه حوله بحثاً عن طريدة يصطادها.. لابد أن ججي قد خرجت بدورها للبحث عن طرائد لعائلتها، ولابد أنها ستعيّره بما اصطاده كالعادة.. لكن هذه المرة، لن يسمح لها بالتغلب عليه أبداً.. سيتغلب عليها ولو مرة واحدة في حياته..

************************

بعد أن ارتفعت الشمس في السماء، وبعد أن أنهت النسوة أعمالهن اليومية وبدأن بالتحضير لغداء رجال القبيلة، فإن تينا قد هرعت عابرة الخيم التي تفصلها عن نهاية المخيم حتى انفرج المنظر أمامها عن تلك السهول الفسيحة الواسعة.. تلاحقت أنفاسها بانفعال وهي تزيح خصلات شعرها الأشقر للوراء متأملة الأفق بصمت.. الآن، وهي في الرابعة عشر من عمرها، قد أصبحت تينا أقرب شبهاً لأمها وبدت كنسخة مصغرة منها.. ورغم أن تينا كانت ذات جمال ملحوظ وقامة فارعة رغم صغر سنها، لكنها لم تكن تهتم بنظرات الشباب التي تلاحقها ولا بالغزل الذي يلقيه بعضهم على مسامعها.. لم تكن تهتم بشباب الأكاشي بتاتاً، ولم تكن تهتم بنظرات الإعجاب ولا بالكلمات الجلفة التي يظنونها غزلاً قد يوقعها في حبائلهم.. لم يكن يهمها إلا ذلك الشاب الهادئ الذي يبدو كنسمة هادئة مقارنة بخشونة شباب قبيلتها وقسوتهم..
ومع انعتاق ججي من مهام النسوة المعتاد، فإن أعمال عائلتها قد وقعت على كاهل تينا التي قامت بكل ما تطلبه منها ستينا دون أي تذمر.. شريطة أن تحصل على بعض الوقت تسترقه استراقاً من أعبائها لرؤية كين والتحدث إليه على وجه الخصوص..
تنهدت تينا وهي جالسة على صخرة بانتظار عودة كين.. عادة يعود عند انتصاف النهار ليحضر الطرائد التي اصطادها، وبقاؤها هنا كان وسيلة ممتازة للقائه بعيداً عن الآخرين وقضاء الوقت وحيدة معه.. وهو أمر بالكاد يحدث مع وجود ججي معه أغلب أوقات النهار.. تنهدت تينا مرة أخرى وهي تهمس "أين أنت يا كين؟.. لا تدعني أنتظر هكذا.."
كانت بشوق للحديث معه عوض استراق النظر إليه من بعيد كما تفعل عادة.. فهو إن لم ينشغل بتدريباته اليومية، فإنه يقضي أوقاته في مجالس الرجال يستمع لأحاديثهم وليعرف آخر الأخبار التي وصلت إليهم.. لذلك لا تجرؤ تينا على الاقتراب منه بسبب معاملة الأكاشي الدونية للمرأة وكرههم لوجودها في مجالسهم.. الوحيدة التي حصلت على استثناءٍ من هذا هي ججي، أو بالأصح جام، ولشد ما تحسدها تينا على هذا.. هي لا ترغب بأن تعامل كرجل، ولا تهتم بأمر بقية الرجال.. كل ما يهمها أن تكون قريبة من كين اللطيف وتستمع لصوته الهادئ وهو يتحدث بدون صخب وانفعال كما يفعل الأكاشي عادة..
لمحت في تلك اللحظة ذلك الحصان الذي يتقدم منها بشكل حثيث، فتلألأت عيناها وتورد خداها بشدة وهي تراقب الحصان وراكبه.. بدأ قلبها يخفق انفعالاً وخفضت وجهها بتوتر وهي تعدل خصلات شعرها الشقراء الناعمة التي تنسدل على جبينها.. ما زاد توترها اليوم هو عزمها على البوح لكين بمشاعرها.. لقد امتلأ صدرها بحبٍ قوي عجزت معه عن كتمانه ورغبت أن تفصح له عن هذا الحب بشدة.. إنها تكاد تجزم أنها يبادلها ذلك الحب.. لابد أنه يخجل من التصريح به بالنظر لشخصيته الهادئة، وهي لا تكره هذا ولا يهمها أن تكون هي البادئة.. ستصارحه بحبها، وستنال حبه بكل تأكيد..
بعد لحظة، سمعت الحصان يصهل وصاحبه يجذب لجامه لإيقافه على بعد خطوات منها، فاستدارت إليه بلهفة وانفعال لترى ذلك الحصان الأشقر الذي شاب لونه شيء من الحمرة، وعرفه الأشقر يتحرك مع تململه.. دهشت وهي ترفع بصرها للراكب على ظهره، وقد أدركت أن هذا ليس حصان كين.. فرأت رجلاً غريباً يتجاوز كين في العمر بعشر سنوات على الأقل، أسمر البشرة شيئاً ما بشعر بني أشعث ولحية كثة.. ومن بين ملامحه العابسة التمعت عيناه السوداوان الحادتان بينما برز جرح واضح على جبينه ممتداً حتى جانب أنفه..
دهشت تينا من منظره الذي أثار في نفسها بعض التوجس وهي مدركة أنه ليس من رجال قبيلتها، فتراجعت خطوة بينما قال الرجل بصوتٍ خشن "يا صغيرة.. أين الزعيم قادور؟.."
ابتلعت ريقها للحظة ثم أشارت للمخيم قائلة بصوت مبحوح "في خيمته وسط المخيم.."
لكنه لم ينطلق في طريقه بل لبث للحظة يتأملها بصمت مما أزعجها وهي تدير رأسها جانباً.. وأخيراً، سمعته يقول "إلى اللقاء يا صغيرة.."
وابتعد بسرعة على ظهر الحصان تاركاً تينا تدمدم بغيظ "من الصغيرة أيها الأعمى؟.."
كانت قد بلغت الرابعة عشر من عمرها، والفتيات في سنها يتزوجن وينجبن الأطفال ويصبحن مسؤولات عن عوائلهن.. فكيف يجرؤ هذا المعتوه على اعتبارها صغيرة؟.. إنها لا تستنكر زواجها في هذا الوقت، بل إنها تتمناه في هذه اللحظة.. تتمنى أن تتزوج من كين، وتحلم في أغلب الأوقات أن يصارحها بحبه لها وبأنه يعشقها منذ أمد بعيد.. ألن يكون ذلك رائعاً؟.. ربما هو لا يلتفت لها ويظهر عدم اهتمامه بها لأنه يخشى من أن يفتضح أمر حبه لها.. ربما يخجل من أن تلتقي عيناه بعينيها لأنها ستقرأ لهفته عليها فيهما بوضوح.. لابد أن هذا هو سبب صمته الوحيد وسبب عدم تصريحه لها بحبه الذي تكاد تقرؤه في ملامحه حتى لو هرب بعينيه منها..
بعد بعض الوقت، لاح لها كين بحصانه، فهبت واقفة بسرعة وانتظرت قدومه حتى اقترب منها وأوقف حصانه متسائلاً "ما الأمر؟.. أهناك ما جرى في المخيم؟.."
قالت بابتسامة وهي تدفع خصلة من شعرها خلف أذنها "لا.. فرغت من أعمالي وأحببت انتظار عودتك.. ربما تحتاج معاونة في الاهتمام بصيدك الذي جلبته.."
أشار كين لزوج من الأرانب ربطها من سيقانها خلفه، وقال "هذا كل ما حصلت عليه اليوم.. لقد لاحظت قدوم رجل غريب للمخيم، فأتيت لرؤيته ومعرفة سبب قدومه إلينا.."
دمدمت تينا رغماً عنها "آه.. ذلك المعتوه الذي بلا عينين.."
نظر لها بتعجب، فقالت وهي تقترب منه "تجاهل ذلك الشخص، فلا يبدو على رجلٍ أشعثٍ مثله أي أهمية.. ما رأيك بأن تصطحبني في جولة في هذا المكان؟.. أريد البحث عن بعض الأعشاب الطبية التي أوصتني بها أمي، ووجودك سيساعدني بالتأكيد.."
تساءل كين "ما الذي كان يريده الغريب من مخيمنا؟.."
قالت بضجر "يريد لقاء أبي.. أرجوك يا كين.. تعالَ معي.."
لكن كين قال وهو يترجل عن حصانه "فيما بعد يا تينا.. لابد أن الغريب يملك بعض الأخبار الهامة.."
وناولها الأرانب وهو يجر حصانه مبتعداً، فقالت تينا بغيظ "وهل أتيتُ من أجل الأرانب؟.."
وزفرت وهي تبتعد بدورها مدمدمة "تباً لذاك الرجل الغريب.. لقد أفسد يومي.."
وفي خيمة قادور، كان الرجل الغريب يجلس مع قادور الذي بدت الابتسامة الغريبة على وجهه بحيث دهش كين لها عندما ولج الخيمة.. ولما رآه الغريب ظل يراقبه بتعجب، بينما قال قادور "هذا هو كين.. أنت تذكره في صغره، أليس كذلك؟.."
تساءل الغريب بسؤال موجهٍ لكين في الأساس "أذكره، وأتعجب من استمرار وجوده في هذه القبيلة حتى الآن.. ما الذي يجبرك على البقاء وسط هذه السهول يا فتى؟.."
غمر الاستياء كين من الاستهانة الواضحة في صوت الغريب، لكنه أجاب بلهجة حيادية "أمورٌ شتى دفعتني للبقاء هنا.. وأنا لم أعُد فتىً لو لم تلاحظ هذا.."
قال الغريب "وما هي تلك الأمور؟.."
أجاب كين "لو أردت إيضاحها، لأخبرتك بها منذ البدء.."
فقال الغريب لقادور باستنكار "كيف تسمحون له بالبقاء بينكم؟.. ربما كان جاسوساً للكشميت.."
نظر له كين بضيق، بينما ضحك قادور قائلاً "لا تعبأ لما قاله يا كين.. فهو يحب التلاعب بمشاعر من حوله.."
تساءل كين بفضول لم يستطع كبحه "ومن هو هذا الغريب؟.."
أجاب قادور "هذا تبريق.. إنه أحد رجالي المخلصين، لكنه كان بعيداً في رحلة طالت بضع سنوات، ولم يعد إلا الآن.."
ثم التفت إلى تبريق متسائلاً "ما هي الأخبار التي جلبتها لي؟.. أتمنى أن يكون غيابك قد أثمر معلوماتٍ هامة ولا تكون قد قضيت تلك السنوات في السكر والعربدة.."
أجاب تبريق ملوحاً بيده "لا تقلق.. إن الحانات في المدن العربية لا تقدم إلا أسوأ نوع ممكن من الشراب.."
قال قادور بغيظ "أهذا هو العذر الوحيد الذي منعك من ذلك؟.."
ضحك تبريق معلقاً "وهل كنت تظنني أرتاد الحانات لمجرد المتعة؟.. تلك الأماكن هي الأفضل للتقصي وجمع الأخبار عن أي أمر.."
سمعا باب الخيمة يفتح في تلك اللحظة، ودلفت منه ججي قائلة بصوت تتعمد جعله جهورياً "هل استدعيتني يا أبي؟"
التفت الثلاثة إليها وقادور يقول "اقترب يا جام.."
اقتربت ججي حتى جلست قرب أبيها واضعة سيفها جوارها كعادتها.. لم تكن ججي في التاسعة عشر من عمرها تشبه الفتاة التي كانت عليها في الثالثة عشر بشيء.. فقد ازدادت طولاً حتى قاربت طول قادور، وأصبح جسدها أقوى مما تكون عليه الفتيات عادة وامتلكت ذراعين قويتين بشيء من العضلات الخفيفة لطول تدريبها الذي لا تتخلى عنه بشكل يومي، وشعرها الأحمر القصير قد استطال حتى لامس كتفيها بشكل مشابه لبقية الرجال في قبيلتها، وإن بقي غير مستوِ الأطراف وهي تقطعه بخنجرها الحاد بشيء من الإهمال.. ورغم ملامحها التي تحمل بعض جمال أمها، لكن تقطيبة حاجبيها الدائمة ونظراتها الحادة وتحدثها بصوت تتعمد خشونته جعل الأعين لا تلاحظ ذلك الجمال مطلقاً..
التفت قادور إلى ججي قائلاً "أنت تذكر تبريق.. أليس كذلك؟.. لقد أرسلته في مهمة طويلة منذ تلك المعركة التي هزمنا فيها الجيش العربي.. وقد عاد للتو من مهمته تلك.."
قالت ججي باهتمام "وما هي تلك المهمة التي استغرقت منه ست سنوات لإنجازها؟"
أجاب قادور "هذا أمرٌ لا يعرف به الكثيرون في القبيلة.. بعد انهزام الجيش العربي وعودته عبر الجبال لمملكته، خشيت أن تكون هذه خدعة من الملك حتى يحشد حشوداً أكبر ويستجلب مدداً أكبر من المدن القريبة.. وبما أن بقاءنا في ذلك الموقع من السهول كان عسيراً والقبائل تتحرق للعودة لمخيماتها التي تركتها شبه عارية من أي حماية، عندها كان الرأي الذي سيضمن به ألا يباغتنا الجيش من جديد هو في إرسال فرقة تتقصّى أمره في الجانب الآخر من الجبال.."
وأشار إلى تبريق مضيفاً "ولما استشرت تبريق بهذا الأمر، وهو من أخلص رجالي، فإنه رفض رحيل فرقة من الرجال للمملكة العربية.. ففرقة كاملة كفيلة أن تثير الانتباه وتلفت الأعين إليها خاصة مع الحرب التي انتهت وأخبارها تصل للمدن العربية كافة.. أما رحيل رجل واحد فلن يلفت الأنظار حتى لو كان من الأكاشي.."
غمغمت ججي "لكن الأكاشي لا يقومون بالتجسس على غيرهم.."
قال قادور بحزم "رغم كرهنا لذلك، لكن كان علينا أن نفعل هذا لنحمي أنفسنا من أعدائنا.. الاعتماد على الحظ وحده لن ينفعنا في مواجهة عدوٍ يعدّ العدة للهجوم علينا في أي وقت.."
التفتت ججي إلى تبريق متسائلة باهتمام "غيابك طوال هذا الوقت هو بشارة جيدة لنا.. أليس كذلك؟"
نظر له كين وقادور باهتمام مماثل، فقال تبريق "ربما.. فكما تعلمون، تراجع الملك العربي قبل بدء معركة (الليلة البيضاء) كما يطلق عليها العرب، وذلك بسبب بعض القلاقل والثورات التي حدثت قرب النهر الأبيض.. يبدو أنها قد أثارت قلق الملك فارس بشدة ليتراجع في مثل ذلك الوقت.. ومن نتائج ذلك أن تمكنا من القضاء على الجيش العربي وردعه عن سهولنا بشكل تام.."
علقت ججي قائلة "أتعني أننا لم نكن لنهزمهم لولا غياب الملك عن جيشه؟"
قال تبريق بابتسامة جانبية "لا.. لكن ذلك ساعد ولو بشكل محدود.. ومنذ رحيلي عن السهول قمت بتتبع آثار الجيش المهزوم حتى التحق بالجيش الذي يملكه الملك العربي وانضمّ إليه في مقاومة تلك الثورات التي قامت بها بعض المدن القديمة في الموقع.."
سأل قادور "وهل تمكن من ذلك؟"
أجاب تبريق "استغرقه الأمر عدة أشهر ليقوم بذلك، ثم عدداً آخر من الأشهر ليحفظ النظام ويعيّـن بعض الولاة ويعدّ جيشه من جديد.. وبعد أن انتهى واطمأن لذلك الموقع، انطلق بجيشه نحو موقع قريب من أحد الأنهار وسط القارة، ثم انشغل عندها ببناء مدينة جديدة وعظيمة.. ويبدو أنه يتهيأ لجعلها عاصمة له ومقراً لحكمه، وقد سمعت أنه أطلق عليها اسم (زهراء المدائن).."
تساءلت ججي باهتمام "أهذا يعني أنه صرف النظر عن احتلال السهول؟"
قال قادور عاقداً ذراعيه على صدره "لا أظن ذلك بتاتاً.. لابد أنه يرجئ ذلك لوقت آخر.."
فقال تبريق "ربما.. لقد ظللت أجوب المواقع القريبة من موقع الجيش وأتحسس الأخبار والشائعات التي يتداولها العامة بحثاً عن خبر يتعلق بحرب وشيكة بيننا وبينهم.. لكن الحديث كان في الأغلب حول الثورة التي قامت والمدينة التي يبنيها الملك الجديد.."
فقال كين معلقاً "لابد أنه أراد أن يؤسس ملكه ويشدّ قبضته على ما يملكه من أراضٍ بالفعل قبل أن يفكر بالتوسع في هذه المناطق.."
قال تبريق باهتمام "لقد خمّنت أنا ذلك أيضاً.. يبدو أن القلاقل التي حدثت وسط ملكه قد أشعرته بالتهديد، وبأن مملكته ليست بعيدة عن التفكك والانكسار.."
تساءلت ججي "لكن متى سيكف عن التفكير باحتلالنا وإجبارنا على الانصياع له؟.. لمَ هذه السهول بالذات؟"
أجاب قادور "لأنه يرى أن السهول ليست تحت سلطة ملك يحكمها، ولذلك فهي أرضٌ متاحة لكل من يقدر على السيطرة عليها.. لقد حاولت الممالك الشمالية فرض سيطرتها علينا والوصول لمنفذ أكبر للبحر القريب، لكنها فشلت في ذلك واقتنعت بأن هذه السهول لا يمكن أن تكون لغير الأكاشي.."
عندها قالت ججي بحماس "وسيدرك الملك العربي ذلك قطعاً.. لقد هزمناه مرة، ولن نتردد في هزيمته مرة أخرى.."
قال تبريق بهزء "هزمناه؟.. ألم تكن طفلاً وقتها؟"
نظرت له ججي مقطبة وقالت "لقد شاركت في تلك الحرب.. كنت مع الرماة، وقد أدّيت دوري كأفضل ما يكون.. ولو لم يمنعني أبي من المشاركة مع الأكاشي بسيفي، لما ترددت في خوض غمار المعركة.."
نظر تبريق إلى كين متسائلاً "وماذا عنك أيها الكشميتي.. هل شاركت في تلك الحرب أيضاً؟"
صمت كين بتقطيبة وججي ترمقه بابتسامة، ثم قالت ضاحكة "كين كان يحرس متاعنا عندها.."
ازدادت تقطيبة كين باستياء وهو يعلق "لستُ من الأكاشي، ولم يكن لديّ سبب قوي لأشارك في حرب لا علاقة لي بها.."
فقال تبريق بابتسامة "لكنك لم ترحل حتى الآن.."
نظر له كين عابساً وهو يقول "وهل تريد مني أن أفعل؟"
شعرت ججي بالضيق الذي بدا على وجه كين وبالتوتر الذي يشعر به في جلستهم هذه، فضربته بقوة على كتفه وهي تقول بابتسامة "لا داعي لهذا الانفعال.. نحن نمزح معك دون شك.."
حاول كين محو العبوس الذي يبدو على ملامحه، بينما قال قادور "لا أحد يتمنى رحيل كين.. فهو قد أصبح منا بالفعل.. وإن لا يزال رقيق القلب لا يتحمل طقوسنا الوحشية كما يصفها.."
تعالت ضحكات البقية على تعليقه بينما لم يتمكن كين من إخفاء استيائه هذه المرة.. ثم قفزت ججي واقفة وقالت "يبدو أن علينا الرحيل قبل أن ينفجر كين غضباً.. وهو أمر نادر الحدوث، لذلك لا يمكنني أن أضمن النتائج.."
نهض كين بدوره، وغادر الخيمة بصمت وججي تسير معه.. ثم قالت بعد خروجهما "هذا أمر نادر الحدوث بالفعل.. أن أراك غاضباً بهذا الشكل!.."
قال كين بضيق "بالطبع سأغضب لجعلكم إياي مادة للسخرية في مجلسكم ذاك.."
فقالت ججي ضاحكة "أتعتبر هذه سخرية؟.. كان عليك رؤية ما فعله الرجال بي عندما أعلنني أبي رجلاً.. ستعرف عندها كيف تكون السخرية مؤذية بحق.."
نظر لها كين بصمت ودهشة متعجباً من استهزائها بأمر كهذا.. لكن بدا أن ججي لا تحمل أي ذكريات مريرة بهذا الخصوص، ولم يبدُ أنها تبغض أحداً من رجال قبيلتها على ما كان منهم سابقاً.. ورغم السنوات التي قضاها مع ججي، ورؤيته لبعض تلك السخرية والإهانات التي كانت تطالها في صغرها، لا يزال متعجباً من قوة إرادتها ومرحها مع كل ما جرى..
بعد رحيل ججي وكين، قال تبريق "لقد تغيرت أمورٌ كثيرة في القبيلة منذ رحيلي.."
تساءل قادور "أي أمور تعني؟"
أجاب تبريق "قبل رحيلي، كان جام يواجه غضباً شديداً من رجال القبيلة ويتعرض للسخرية منهم بشكل يومي.. الآن، أرى أن الآخرين قد تقبلوا وجوده شيئاً ما وما عاد أمره مستنكراً.."
قال قادور بهدوء "ما يخص جام هو قرارٌ يخصني وحدي.. لذلك لا يحق لأحد الاعتراض عليه.. وجام قد أثبت أنه أفضل من كثير من شباب القبيلة، فلا يجرؤ أحد على السخرية منه بتاتاً.."
عاد تبريق يقول "لكنه بالفعل كان يواجه سخرية ومضايقات من الكثيرين.. لكن يبدو أن جام لم يكن يخبرك بشيء عنها.."
فقال قادور بحزم "لو أن جام اشتكى لي عن هذا الأمر، لكان هذا دليلاً على ضعفه وقلة حيلته.. ولم أكن لأرضى بهذا بتاتاً.."
غمغم تبريق "إذن كان من حسن حظه أنه لم يفعل.. لابد أن هذا كان اتباعاً لنصيحة مينار.."
تساءل قادور وهو يرمق تبريق "وهل شاركت أنت بتلك المضايقات والسخرية؟"
ضحك تبريق مجيباً "أتظنني سأخبرك أنني كنت كذلك بكل بساطة؟.. لكن اطمئن.. لم يكن لي دخل في الأمر، ولم يكن يهمني ما تفعله بجام.. فأنا لست من ذوي العقول المتشددة ولست أؤمن بهذا الحديث عن الشؤم الذي تجلبه المرأة.."
فقال قادور بهدوء "إذن، فزوجتيك تعيشان في نعيم بالتأكيد.."
ابتسم تبريق ابتسامة جانبية معلقاً "أتهزأ بي يا زعيم؟.."
ابتسم قادور بدوره دون أن يعلق.. ثم نظر لتبريق بجدية مضيفاً "أريدك أن تحدثني بما فعلته في السنوات الماضية بكل تفصيل يا تبريق.. وهذه المرة، لا تغفل عن أي تفصيل أو نقطة ولو بدت لك تافهة.. فلا ندري أي أمر قد يكون سبباً في تغيير حياتنا الهادئة هذه.."

************************

في ذلك اليوم، وبعد عودة كين من جولته المسائية على ظهر حصانه، وبعد أن ربط حصانه في المربط الخاص بالخيول في جانب المخيم وسار بصمت عائداً لخيمة مينار، تناهى لسمعه صوت ضحكٍ صادرٍ من الخيمة بشكل تعجب له.. ولما دلف الخيمة لاحظ على الفور تلك الرائحة الشهية التي تعبق في المكان، ثم انتبه لوجود تينا قرب النيران المشتعلة وسط الخيمة وهي تتحدث مع مينار وتضحك بتبسط.. وحالما رأته، التمعت عيناها وهي تقول "ما الذي أخّرك لهذا القدر يا كين؟.. كاد الطعام يبرد قبل أن تصل.."
تساءل كين "أأنتِ من حضّر هذا الطعام؟"
أجابت بابتسامة "أجل.. استخدمت زوج الأرانب التي أحضرتها صباحاً.. وحضّـرت لك بعض الأرز بلحم الأرانب والخضار.."
نزع كين معطفه ووضعه جانباً مع سيفه ونزع حذاءه.. كان الجو دافئاً في الخيمة مقارنة بخارجها.. فجلس كين قرب النار واغترف بعض الطعام من القدر في إناء صغير وشرع بتناوله بصمت.. ولما عيل صبر تينا وهي تراقبه منتظرة رأيه، سألته "ما رأيك؟.. أهو لذيذ الطعم؟"
رفع كين رأسه ونظر لها للحظة قبل أن يخفض بصره كعادته ويقول "بالطبع.. كل ما تطبخينه لذيذ الطعم عادة يا تينا.."
احمر خدا تينا بسرور واضح بينما غمغم مينار "لقد أخبرتك برأيي بالطعام منذ البدء.. لكن هذا لا يكفيك كما يبدو.."
قالت تينا باحتجاج "بل أنا أهتم برأيك يا مينار.. لكني خشيت ألا يعجب هذا الطعام كين.."
ونظرت لكين مطولاً وهي تقول "نحن لا نعلم نوع الطعام الذي يتناولونه في كشميت.. ربما كان طعامنا المحلي لا يناسب أذواقهم.."
علق مينار "لا يحق لكين التذمر بتاتاً، ولا أظنه يكره طعامنا بعد كل تلك السنوات.."
فقال كين "لم أقل إن طعامكم لا يعجبني.. بل إنه لذيذ حقاً.."
وأنهى ما في صحنه بينما قالت تينا باعتراض "أنت لم تأكل إلا القليل.. ألا تريد المزيد؟"
هز كين رأسه نفياً، بينما تعالى صوت ججي من المدخل وهي تقول "رائحة لذيذة.. لا تقولوا لي إن هذه رائحة الطعام الذي يحضره مينار!.."
التفت الثلاثة إليها وكين يقول بابتسامة "لا أظن مينار بقادر على تحضير طعام بهذه اللذة بتاتاً.."
فغمغم مينار بحنق "يا لك من ناكر للجميل.."
دخلت ججي دون حرج وكأنها معتادة على ذلك، وجلست قرب النار وهي تقول بشهية واضحة "أهو طعام تينا إذاً؟.. يا لك من بخيلة.. لمَ لمْ تستبقِ بعض هذا الطعام لي ولأبوينا؟"
غمغمت تينا بشيء من الكدر الواضح "هذا كان صيد كين، لذلك هو الأحق بتناوله.."
لم تعلق ججي وهي تضع الجزء الأعظم مما بقي من الطعام في صحن آخر وتبدأ بالتهامه بسرعة.. عندها علق مينار قائلاً "اذهب لمنزلك لو كنت جائعاً لهذا الحد يا جام.. أريد استبقاء بعض هذا الطعام للغد.."
قالت ججي باعتراض "أنت بخيل بما لا تملكه يا مينار.. هذا يفوق الحد.."
ابتسم كين مراقباً شجارهما الذي اعتاد عليه، بينما نظرت له تينا بكدر ثم رمقت ججي بشيء من الضيق الواضح.. كانت تتمنى لو لم تقاطع ججي جلساتها القصيرة مع كين، ففي حضورها كان انتباه كين ينتقل من تينا إلى ججي وتفشل تينا في الحصول على اهتمامه بشكل شبه تام.. لم تكن تينا تعزو اهتمام كين بججي إلا لأنها تجبره على ذلك بصوتها العالي وحديثها المتواصل وضحكاتها الخشنة.. في نظرها، فإن ججي بالنسبة لكين ليست إلا صديقاً مقرباً تجمعهما هوايات واهتمامات متشاركة.. بينما لا تتمكن تينا من الاجتماع بكين إلا للحظات قصيرة فقط كلما تسنى لها ذلك..
بعد أن أنهت ججي طعامها، انشغلت بحديث مع مينار حول بعض الأخبار التي سمعوها من تبريق هذا اليوم وتخصّ تحركات الملك العربي.. عندها وجدتها تينا فرصة للحديث مع كين وهي تميل عليه وتهمس بعينين متلألئتين "كين.. ما رأيك بأن نخرج لنسير قليلاً؟.. أكاد أختنق من هذه الخيمة الخانقة.."
نظر لها كين بشيء من الحيرة وتساءل "ألا تشعرين بالبرد في هذا الجو القارس؟"
رغم خيبتها لرده السريع، لكنها تساءلت بخفوت "هل تخشى عليّ؟"
قال كين بإخلاص "بالطبع.. أنت رقيقة ولا تتحملين هذا البرد الشديد.."
احمر خدا تينا بشدة وهي تهمس "حقاً؟"
ثم قالت بلهفة "لكن البرد لا يهمني ما دمت معك.."
ابتسم كين متعجباً من قولها، فخفق قلب تينا بقوة لابتسامته وهي تتأمل ملامحه بصمت.. بدت لها ابتسامته عذبة جميلة بشكل كبير، وما خفق له قلبها أن تلك الابتسامة كانت موجهة لها بالذات.. لها هي وحدها.. لكن قاطعتهما ججي وهي تقف قائلة "كين.. ما رأيك بنزال سريع بالسيف بعد هذه الوجبة الدسمة؟.. لا أظنني أستطيع النوم بمعدة متخمة كما أنا الآن.."
هز كين رأسه موافقاً على الفور، ونهض تابعاً ججي دون أن يعبأ ببرودة الجو الشديدة خارج الخيمة.. أما تينا، فقد وجمت وهي تراقبه بصمت وحيرة.. لماذا يتركها بعد كل ما جرى؟.. إنها لا تفهمه حقاً.. لقد حاولت مرات ومرات أن تدفعه ليبوح بمشاعره لها، لكنه لم يفعل ذلك ولا في أي مرة.. ما الذي يدفعه للهرب والمراوغة كما ترى منه؟.. أهو يخشى من غضب أبيها؟.. لابد أن ذلك هو السبب.. إنه يخشى أن يغضب زعيم القبيلة من تقرب كشميتي من ابنته وقد يعدّ ذلك تعدّياً على حرمة بيته.. لكن تينا لا تهتم لما قد يقوله أبوها، كل ما يهمها أن يبوح لها كين بما تهوى سماعه وتنتظره بشغف كل يوم..
سمعت مينار يسألها في تلك اللحظة "هل لك ببعض الشاي الساخن؟.. سيدفئ أوصالك في هذا البرد.."
غمغمت تينا وهي تنهض "لا.. لا أرغب بذلك.."
وغادرت الخيمة بصمت فقد انتفت حاجتها للتواجد في تلك الخيمة برحيل كين.. زفرت وهي تخرج لتتلقاها البرودة القوية خارجاً، بينما تناهى لسمعها صليل السيوف من موقع قريب.. هل تذهب لمراقبتهما عسى أن تسنح لها الفرصة للاختلاء بكين؟.. لكنها عدلت عن تلك الفكرة، فججي لن تسمح لها بذلك وستظل تلاحقهما بتعليقاتها وحديثها المتواصل طوال الوقت.. لماذا تشعر تينا بهذا القدر من الغيرة من ججي؟.. إنها مقتنعة أن كين لا يراها كفتاة.. فهي لا يمكن أن تبدو لأحد إلا كرجل حتى لو كانت تتصنع ذلك.. ومع ذلك، تصاب تينا بغيرة شديدة لقربها من كين وتبسطها معه بهذا الشكل..
عادت تينا تزفر وهي تقطع صفاً من الخيم باتجاه خيمة أبيها والمشاعل المتفرقة تنير طريقها، عندما سمعت صوتاً يقول بشيء من السخرية "من يرى تنهداتك هذه يظنك تحملين جبلاً من الهم على رأسك.."
التفتت بدهشة لتجد ذلك الرجل الغريب الذي عرفت أن اسمه تبريق يجلس جانباً وسيفه على ركبته.. بدا لها أنه كان يعتني بسيفه، وقد دهشت لأنه بدأ الحديث معها وهو يضيف "ما الذي يجعل فتاة صغيرة مثلك تزفر بهذه الحدة والكآبة؟"
شعرت بالضيق من جديد لنعته إياها بالصغيرة للمرة الثالثة هذا اليوم.. لم تكن بمزاج رائق للمزاح معه، لذلك قالت بشيء من الضيق "وما الذي يهمّك أنت بما أفعله؟.. اهتم بأمورك.."
ابتسم تبريق معلقاً "هذا أسلوب وقح للتعامل مع شخص أكبر منك.. ألا يمكنك إظهار بعض الاحترام؟"
قالت بسخرية "سأفعل ذلك بالتأكيد يا عماه.."
وغادرت بخطوات سريعة تاركة تبريق يغمغم بشيء من الحنق "عم؟!.. هل أبدو كبير السن لهذه الدرجة؟"
لم يكن عمر تبريق يتجاوز الثلاثين إلا بسنة أو اثنتان، ولذلك استاء من ذلك الوصف وهو ينهمك في العمل على سيفه قائلاً لنفسه "عندما غادرتُ القبيلة لم تكن تلك الفتاة إلا طفلة صغيرة.. والآن هي تهزأ بي؟.. يا للسخرية.."

************************

بعد مبارزة محدودة بالسيف في جانب من جوانب المخيم، توقف كين وججي بعد أن شعرا بالألم في ذراعيهما لذلك المجهود، وجلسا جانباً يتأملان السهول المظلمة والسكون الذي يعمّ الموقع وججي تقول "ها قد غلبتك كما أفعل في كل مرة.. متى ستكف عن إثارة مللي وتحقق بعض التغيير ولو لمرة في حياتك؟"
قال كين بهدوء "عندما تسمحين لي بذلك.. أنت قوية، وأنا لا أقدر على التفوق عليك مهما حاولت.."
تساءلت ججي "أأنت لا تقدر ذلك حقاً؟.. أم أنك تخشى غضبي لو هزمتني بالفعل؟"
علق كين "أنتِ تغضبين في كل الأحوال دون سبب لذلك.."
فقالت بتذمر "أنت لا تمتلك اللطف الكافي يا هذا.."
لم يعلق كين وهو يرمق السهول بصمت، بينما تساءلت ججي "لمَ لمْ ترحل قط يا كين؟"
تساءل بدوره "وهل كنت تتمنين رحيلي حقاً؟"
أسرعت تقول "لم أعنِ ذلك.. لكنك لم تكن راغباً بالبقاء في هذه السهول.. كنت تكرهها، وتكره الأكاشي.. ظننت أنك ستبقى معنا فترة قصيرة حتى تعثر على قافلة ترحل معها.. لكنك لم تفعل هذا قط طوال السنوات الماضية.."
هز كين كتفيه مجيباً "لم تراودني الرغبة بالرحيل عن القبيلة أبداً.."
فقالت ججي مفكرة "لكن هذا يثير تعجبي أكثر فأكثر.. ألم ترغب بالعودة قط إلى مملكة كشميت؟.. لابد أن البحث عنك قد خفت بعد هذه السنوات.. ألا تشتاق لعائلتك؟.. ألا يضايقك البقاء مع غرباء في هذه الحياة التي لطالما وصفتها بأنها قاسية ووحشية؟"
نظر لها كين قائلاً "أيسوؤك أنني قررت البقاء مع القبيلة التي أصبحت أقرب إليّ من عائلتي؟"
غمغمت ججي بدهشة "حقاً؟"
فنهض كين واقفاً وقال "كيف يمكنني أن أترك مينار وأنا أثق أنه سيكتفي بتدخين تلك الأعشاب الضارة دون الاهتمام بغذائه وصحته؟.. كيف أغادر متخلياً عن طعام تينا الذي لم أذق ما يفوقه لذة؟.."
ونظر لججي مضيفاً بابتسامة "وكيف أغادر وأنا أثق أنك لن تجدي أحمقاً يرضى بمنازلتك في ليلة باردة كهذه الليلة؟"
ابتسمت ججي بدورها وهي تنهض قائلة "أنت محق.. لقد بدأت أتجمد بالفعل.."
وضربت ذراع كين بقبضتها قائلة "سعيدة أن لديك ما يدفعك للبقاء هنا.. وكما قلت لك، لن يخيّب الأكاشي آمالك أبداً.."
وابتعدت نحو خيمة أبيها بينما وقف كين يراقبها بصمت.. ثم نظر للسهول الساكنة مغمغماً "كل ما أرجوه ألا تخيب آمالي بالفعل يا ججي.."
************************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 12-01-16, 04:57 AM   المشاركة رقم: 43
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
اميرة القلم


البيانات
التسجيل: Aug 2014
العضوية: 273354
المشاركات: 4,068
الجنس أنثى
معدل التقييم: برد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسي
نقاط التقييم: 4345

االدولة
البلدLibya
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
برد المشاعر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

سلمت يمينك خيال ‏

نقلتينا للمستقبل نقلة رائعة ورأينا كين الرجل وججي المرأة وإن في عين كين فقط فهوا يراها فتاة مهما فعلت وأضن إن ما تحلم به تينا قد نالته ججي ولم يلحظ أحد ‏

متشوقة جدا للقادم وأتوقع يرجع كين لموطنه ‏

 
 

 

عرض البوم صور برد المشاعر   رد مع اقتباس
قديم 12-01-16, 10:09 AM   المشاركة رقم: 44
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

أحياناً لا يرى الإنسان ما هو فيه بل يطمح لما لا يستطيع نيله
تينا ترى سعادتها فقط بوجود كين
وججي تطمح لأن تصبح رجلاً
لكن هل السعادة هي بتحقيق ما تطمحان إليه فقط؟
أم أن لها جوانب أخرى غفلتا عنها؟
سنرى المزيد في الفصول القادمة بإذن الله
شاكرة تواجدك يا عزيزتي برد المشاعر
سأضع الفصل الجديد الآن

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 12-01-16, 10:12 AM   المشاركة رقم: 45
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

الفصل التاسع {أهذا هو الحب؟}


بعد عدة أيام، وفي عصر ذلك اليوم والشمس تلقي أنوارها الصفراء على ما تطاله من خيمة قادور، جلست تينا في جانب الخيمة وفي يدها ثوبٌ أزرق اللون.. انشغلت بعملها بشكل شبه تام وهي تقوم بتطريز الثوب بأشكال هندسية بديعة يتخللها بعض الخرز الملون جميل المنظر.. كان هذا الثوب من ضمن مجموعة أثواب تقوم تينا بتطريزها وإعدادها كما تفعل الفتيات عادة لليوم الذي تزف فيه إلى زوجها ومنزلها الجديد.. وقد كانت تينا تستمتع بهذا العمل ولحظات الهدوء هذه التي تسمح لها بالتحليق في أحلام يقظة مخالفة للواقع الذي تعيش فيه..
وبينما انشغلت تينا في عملها بصمت، وصلتها أصوات عالية تقترب من الخيمة، ثم لاحظت دخول ججي للخيمة وهي تتحدث بصوتها العالي كعادتها يتبعها مينار.. ثم تبعهم كين بصمت كعادته، فتورد خدا تينا بشكل لا إرادي وهي تترك ما بيدها وتقترب منه متسائلة "الجو بارد بشدة في الخارج.. أليس كذلك؟.."
أجاب كين "بلى، ربما يهطل الثلج في أي لحظة.."
تجاوزها تابعاً مينار وججي، لكن تينا استوقفته وهي تمسك بيده قائلة "لو خلعت معطفك البارد هذا، فستشعر بالدفء أكثر قرب النار.."
تملكتها الدهشة لملمس أصابعه الباردة بشدة، فأمسكت يده بيديها قائلة بدهشة "يدك تكاد تتجمد من البرد.. كم بقيت في الخارج معرضاً للبرودة؟"
سحب كين يده معلقاً "ليس بالوقت الطويل.. لقد كنت أعتني بالأحصنة مع ججي، واستغرق ذلك منا بعض الوقت.."
لكن تينا تمسكت بيده قائلة باعتراض "كيف يمكن لججي القاسية أن تجعل شاباً رقيقاً مثلك يعمل في مثل هذا الجو القارس؟"
نظر لها كين بدهشة وشيء من الاستنكار، فأدركت تينا أنها قد أخطأت في اختيار كلماتها، بينما دمدم كين بضيق "أنا لست ضعيفاً لهذه الدرجة.."
وسحب يده بشيء من الحدة وهو يبتعد.. بينما وقفت تينا ضامّة يديها لصدرها وهي تهمس لنفسها بارتباك "لقد انزعج مني.. لابد أن كلماتي قد آذته.. ما الذي يمكنني فعله ليسامحني؟.."
سمعت صوتاً خلفها يقول بهزء "ما بالك؟.. تبدين مفزوعة كأنك رأيت غولاً.."
التفتت بحدة لتجد ذلك البغيض تبريق يتأملها بتعجب، فاستاءت لرؤيته وهي تبتعد عنه صامتة، بينما علّق تبريق "ما سبب تجاهلك لكل ما أقوله بهذه الصورة؟.. هل ترينني شبحاً أمامك؟"
لم تحاول الالتفات إليه والتعليق على كلماته البغيضة.. بينما ظل تبريق يراقبها بابتسامة، حتى لاحظ اقتراب قادور الذي قال "يبدو أن البرد هذه السنة سيكون أقسى من المعتاد.. أخشى أن تتأثر السهول بهطول ثلج كثيف فتتضرر الماشية من ذلك.."
دلفا الخيمة وجلسا قرب النار الدافئة مع البقية بينما علق مينار "ما رأيك بأن نحذو حذو طاغار؟.. لقد ابتنى حظيرة كبيرة وواسعة لتضمّ الماشية في أكثر من موقع من مخيمه.. وبذلك هو يجنّبها البقاء في العراء عندما تصبح الليالي أشد قسوة عليها.."
قال قادور مفكراً "هذا سيستدعي عملاً طويلاً ومجهداً من الرجال.."
فقال مينار "لكنه سيكون مثمراً على مدى شهور الشتاء كلها.. الثلج يزداد غزارة سنة بعد سنة دون أن نتخذ أي تدابير لتفادي خسائرنا كل سنة.."
فقالت ججي بحماس "ولمَ لا نأخذ باقتراح مينار؟.. الشباب لا عمل لهم في مثل هذه الأوقات، ولا تعوزهم القوة ولا الوقت.."
علق تبريق قائلاً "أرجو أن تعفوني من مثل هذه المهام.. لا أحب هذه الأعمال اليدوية.."
فقالت ججي بابتسامة جانبية "لا تقلق.. لقد حددتُ الشباب بالتحديد لهذا العمل، لذلك أنت مستثنىً بشكل تلقائي يا تبريق.."
قال تبريق بحنق "أتهزأ بي يا هذا؟"
في ذلك الوقت، جلست تينا في جزء منعزل بحاجز من الخشب المزخرف مع أمها، وتناولت الثوب الذي كانت تقوم بتطريزه بخيوط ملونة وهي تستمع للحديث الدائر وسط الخيمة بصمت بينما جلست ستينا في موضع قريب وهي تقوم بغزل بعض الصوف بمغزل خشبي يدوي يتكون من قطعة اسطوانية سميكة من الأعلى ونحيفة في الأسفل، وتعلوها قطعة خشبية دائرية.. كانت تينا تودّ لو تستمع لصوت كين مطولاً، لكن صوته هادئ وخافت لا تكاد تسمعه، بينما سرعان ما يغطي عليه صوت تبريق العالي.. فالتفتت إلى أمها القريبة متسائلة بضيق "من هو هذا الرجل المدعو تبريق؟.. منذ عودته وهو يلازم خيمتنا بشكل شبه يومي.. ألا يملك عملاً يقوم به؟"
أجابت ستينا وهي منهمكة بعملها "إنه من أحد الرجال المقربين لأبيك.. فهو كان من رفاق سيجان، وقد تدربا معاً على يد مينار في صغرهما ولازماه في كل مرة يجتمع فيها مع قادور.."
لم يكن هذا يجيب عن تساؤلاتها، فهي كانت تود معرفة الطريقة للتخلص من وجوده الذي يسبب لها الضيق.. إنه لم يكف عن الهزء بها والسخرية منها منذ عودته.. لم يكن يسبب لها هذا الضيق لاعتيادها على المديح والملاحقات من بقية شباب القبيلة، لكن ضيقها نابع من تواجده الدائم أمامها وإفساده لبعض الأوقات التي تستمتع فيها بالحديث مع كين..
عادت تينا تتساءل "أين عائلته؟.. لقد سمعت أنه يعيش في خيمة وحيداً.. ولا يمكن لرجل في عمره ألا يكون قد تزوج قط.."
علقت ستينا "لقد سمعت أنه متزوج بالفعل، ولديه زوجتان اثنتان لكن كل منهما تعيش مع قبيلة مختلفة.."
فقالت تينا بضجر "ولمَ لا يحضر زوجتيه وينشغل بهما عنا؟.."
نظرت لها ستينا قائلة "وما سبب ضيقك منه لهذه الدرجة؟.."
أدارت تينا وجهها بعيداً بسرعة وهي تجيب "لا شيء.. لكني لا أشعر بالراحة ولا حرية الحركة في الخيمة أثناء وجوده.. نظراته تسبب لي الضيق، وأشعر أنه ينظر لي باحتقار وسخرية دائماً.."
ابتسمت ستينا معلقة "وربما كانت نظرات إعجاب.."
انتفضت تينا شيئاً ما قائلة "لا.. لا يمكن ذلك.."
تأملتها ستينا وهي تقول بابتسامة متسعة "ولم لا؟.. وهل هناك رجل لا يرمقك بإعجاب في القبيلة كلها؟.."
ثم تنهدت وهي تعود لمغزلها مضيفة "أتمنى ألا يجني عليك جمالك هذا يوماً ما.."
نظرت تينا لأمها بشيء من الدهشة لهذا التعليق، ثم تنهدت بدورها وهي تتأمل التطريزات المنمنمة التي تزيّن الثوب بين يديها.. لا يهمها أن تكون جميلة، ولا يهمها أن تثير إعجاب أحد.. فهي لا تريد حباً ولا إعجاباً إلا من شخص واحد في هذه القبيلة كلها..

************************

مضت عدة أيام وتينا تلاحق كين بشكل شبه يومي.. كانت تتحين الفرص التي تنشغل فيها ججي مع أبيها فتنطلق تينا للبحث عن كين وتبادل حديث قصير معه.. ورغم كل تلك الأيام، لم تحظَ من كين إلا بقليل من الكلمات وأقل منها من النظرات وهو منشغل بشكل شبه دائم.. وفي الأوقات التي تجده منعزلاً يحدق في الأفق بصمت، كان عندها أقل تفاعلاً معها من أي وقت آخر..
لكن، مهما فعلت، يظل كين يشغل تفكيرها أغلب الأوقات حتى وهي بعيدة عنه.. لم تكن تدرك كيف يمكن أن يكون للحب سطوة كهذه عليها.. إنها تحلم به وهي نائمة ومستيقظة.. بل إنها خططت لحياتهما معاً حتى يصبحا جدّين لعدد كبير من الأبناء والأحفاد.. ومثل ذلك التفكير يشعل خديّها احمراراً وهي تهمس لنفسها "ستكون حياة سعيدة دون شك.."
وبعد تلك الأيام، انهمكت تينا بتحضير طعام العشاء لأسرتها وهي تخطط لما عليها فعله.. كانت تفكر بدعوة كين لتناول الطعام معهم في خيمة أبيها..لابد أن يعتاد ذلك لأنه سيصبح جزءاً من هذه العائلة بالتأكيد..
ابتسمت لنفسها بسعادة لهذه الفكرة عندما سمعت نداء أبيها لها.. فتركت ما بيدها واقتربت منه متسائلة "ما الأمر يا أبي؟.. أهناك ما تريد مني القيام به؟"
قال لها قادور "اجلسي يا تينا.. هناك حديث ضروري عليّ التحدث معك به.."
جلست تينا بدهشة من أمرها دون أن تفوتها نظرات التوتر من أمها الجالسة على مقربة.. ولما استقرت أمامه، قال قادور "اليوم، أتاني شخص لطلب يدك للزواج.."
خفق قلب تينا شيئاً ما وكين يتبدى لها في خيالها.. ثم قالت بارتباك "من الذي طلبني للزواج؟"
قال قادور وهو يرمقها بنظراته "إنه شخص أعرفه تمام المعرفة.. شاب مناسب لك ولا يمكن أن تحصلي على أفضل منه.. إنه شجاع ومقتدر مالياً ومعروف في قبيلتنا، لذلك هذا الزواج يناسب ابنة زعيم القبيلة بالتأكيد.."
لا تدري لمَ هيأ لتينا خيالها أن تلك الأوصاف تنطبق على كين.. رغم أن وصف (مقتدر مالياً) لا يمكن أن ينطبق عليه بحال، لكن باقي الأوصاف تدلّ عليه بالتأكيد.. هل تجرأ كين أخيراً وطلب يدها؟.. أيمكن أن يحمل لها هذا اليوم مفاجأة مذهلة كهذه بعد طول انتظار؟..
عادت تسأل بارتباك أكبر محاولة إخفاء لهفتها "من هو يا أبي؟"
أجاب قادور "إنه تبريق.."
بهتت تينا وهي تحدق في وجه أبيها وقد ظنت أن سمعها خانها، فعادت تسأل "من؟"
قال قادور بصرامة "ما بك؟.. ألم تسمعي ما قلته؟.. لقد طلبك تبريق للزواج.. وأنا قد وافقت عليه.."
غمر شيء من الهلع صدر تينا لقول أبيها، واندفعت تقول بدون مراعاة للاحترام المفروض عليها ناحيته "لكنه متزوج.. أليس كذلك؟.. سمعت أن له زوجتين في قبائل أخرى من السهول.."
قال قادور "هذا شأن يخصه ولا يخصنا.."
قالت بانفعال "لكنه يخصني.. لا أريد الزواج من رجل متزوج ويفوقني عمراً بكثير.. من قال إنه شاب؟.. إنه كهل يقترب من الشيخوخة بخطوات سريعة.."
علا صوت قادور قائلاً بصرامة "أنا لم أناديك لأطلب رأيك يا تينا.. أنت تعلمين أنك لا تملكين الخيار مادمتُ قد وافقت.. أنا أعرف الرجل حق المعرفة، وأعرف أنك لن تشقي معه.."
قالت بحرقة "لكن يا أبي...."
فقال قادور بحزم "لقد أعطيته كلمتي.. ولن أكسرها أبداً.. استعدي فسيقام العرس مع منتصف هذا الشهر.."
نظرت له تينا بصدمة وعدم استيعاب.. أحقاً يتوقع منها أبوها أن تتزوج ذاك الرجل المزواج ذو اللسان السليط؟.. كيف يجرؤ رجل مثله على طلب يد فتاة مثلها؟.. إنه لا يستحقها، وهي لا تستحق مصيراً كهذا..
أشارت لها أمها لتعود لأعمالها ولا تستثير غضب أبيها، فنهضت تينا متثاقلة وعادت لعملها بوعي غائب.. وبعد أن أطالت التفكير فيما جرى وهي مذهولة من السرعة التي نال بها تبريق موافقة أبيها، عزمت على التصرف بمفردها.. إنها واثقة أنها لن تجد أذناً صاغية لا عند أبيها ولا أمها.. لكن ربما استطاعت إقناع شخص آخر بإفساد هذا الزواج الذي لا يمكن أن تسمح له أن يتم..
بعد أن أنهى قادور عشاءه، وانشغلت أمها ببعض الأعمال، غادرت تينا الخيمة وسارت في جوانب المخيم متلفتة حولها.. وبعد بحث قصير، استطاعت أن تلمح تبريق الذي كان عائداً من وسط الساحة حيث يجتمع الرجال عادة، وقد همّ بدخول خيمته عندما سمع نداءً حاداً يناديه.. توقف تبريق متلفتاً حوله، فرأى تينا تقترب منه وحاجبيها منعقدان بشدة.. فابتسم متسائلاً "ما بال حاجباك معقودان بشكل دائم؟.. هل ولدتِ هكذا؟"
قالت له بشيء من الحدة "كيف تجرؤ يا هذا؟.."
قال رافعاً حاجبيه "أيغضبك قولي لهذه الدرجة؟"
شدّت قبضتيها بقوة وهي تقول بعصبية "لا أعني هذا.. كيف تتجرأ على طلب يدي من أبي؟.. من تظن نفسك؟"
صمت وهو يتأمل ملامحها الغاضبة، ثم غمغم "أيغضبك طلبي هذا؟.. لمَ؟"
قالت بحدة "لأنه أمر يثير الاستنكار.. ألست متزوجاً؟.. لمَ لا تحضر زوجتيك لهذه القبيلة وتكفّ بصرك عن بقية الفتيات؟"
فقال تبريق بابتسامة جانبية "هل وصلتك تلك الأخبار؟.. أهذا هو سبب غضبك الوحيد؟"
قالت بحنق "ليس هذا فقط.. أنا لا أريد الزواج من رجل كهل.. أنا لا زلت صغيرة، وأنت لا تستحقني.."
عقد تبريق ذراعيه على صدره وقال "فارق السن هذا ليس مستغرباً بين الأكاشي.. وهذا لم يمنع أباك من الزواج بأمك.. أليس كذلك؟"
اعترضت بحدة "لا يهمني أمر أبويّ.. ما يهمني هو رأيي أنا.. وأنا لا أريد ذلك.."
فقال بهدوء "ما المطلوب مني إذاً؟"
قالت بحزم "أن تذهب إلى أبي وتخبره بتراجعك عن هذه الخطبة.."
رفع تبريق حاجبيه قبل أن يبتسم معلقاً "بهذه البساطة؟.. أتظنين أن قادور لن يغضب لذلك؟.."
نظرت له معقودة الحاجبين، فمال نحوها قائلاً "ثم من قال إنني سأرضخ لطلبك هذا بكل بساطة؟.. لو لم يكن لديك سبب مقنع غير الذي ذكرتيه، وهو لا يقنعني أنا، فأقترح أن تغادري لئلا تلفتي إليك الأنظار بوقوفك معي هكذا.."
أسرعت تقول بغضب "كل أسبابي مقنعة.. وما يجب أن يقنعك أكثر أنني لا أحبك.. لا يمكنني أن أتزوج رجلاً لا أحبه، بل أبغضه بشدة.."
فقال تبريق بابتسامة جانبية "الحب ليس أساساً للزواج عند الأكاشي.. لابد أنك تدركين ذلك فأنت لم تعودي صغيرة.. أليس كذلك؟"
واستدار ليدخل خيمته، بينما وقفت تينا تتميز غيضاً من ردوده الباردة متجاهلاً غضبها وتصريحها بكرهها له.. ما الذي يريده هذا المأفون؟.. ولمَ يسعى خلفها هي بالذات؟.. لم كان عليه أن يختارها هي دوناً عن بقية فتيات القبيلة كلها ويحطم أحلامها التي بنتها لسنوات طوال؟..
لكنها لن ترضخ له ولما رسمه لها أبوها أبداً.. ربما عليها أن تكسر حاجز الصمت الذي التزمت به لسنوات، وتخطو الخطوة الأولى لعلّها تؤتي نتائجها هذه المرة..

************************

في فجر أحد الأيام، دلفت ججي كعادتها خيمة مينار وهي تقول "كين.. أأنت جاهز؟"
رأت مينار يجلس قرب النار يشرب مشروباً دافئاً، بينما لاحظت أن كين لا يزال في فراشه غارقاً في النوم.. فاقتربت من مينار وهي تقول بغيظ "ألم يستيقظ ذلك الكسول بعد؟.. لقد اتفقنا أن يصحبني اليوم.."
تساءل مينار "وأين تنوي الذهاب؟"
أجابت "لقد فقدنا فرساً ووليدها البارحة.. وقد أرسلني أبي للبحث عنها واستعادتها قبل أن يسرقها شخص ما.. لقد أصرّ كين على أن يرافقني، وانظر إليه كيف هو غارقٌ في أحلامه.."
قال مينار "دعه.. ربما كان متعباً.. هل استيقظ قادور؟"
أجابت ججي "أجل.. سيخرج بعد قليل لمجلسه.."
لم يعلق مينار وهو ينهض ويغادر، بينما زفرت ججي وغادرت بدورها حانقة وهي تدمدم "لا تقُم بلومي هذه المرة أيضاً يا أحمق.."
ساد الصمت المكان، وبقي كين نائماً وشيء من العبوس يغزو ملامحه وحبات العرق تحتشد على جبينه.. لا يدري كم بقي في نومه المضطرب ذاك، حتى استيقظ فجأة على أصواتٍ خافتة صدرت في جانب الخيمة.. فاعتدل جالساً وهو يلاحظ من النور الخفيف الذي بدأ يتسلل من جوانب الخيمة ذلك الجسد النحيف الذي قبع في إحدى الزوايا، فتساءل بحذر "من هناك؟.."
أتته شهقة خافتة والجسد يعتدل واقفاً، ثم سمع صوت تينا وهي تقول "لقد أفزعتني.."
قال كين بدهشة "ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟.."
أجابت مشيرة خلفها "أحضرت لك طعام الإفطار.. خشيت أن تنهض باكراً وترحل مع ججي كعادتك دون تناول شيء، لذلك ارتأيت أن أبكر بالفطور إليك.. وقد أخبرني مينار أنك لازلت نائماً.."
غمغم وهو يفرك جبينه "أنا لا أتناول شيئاً في المعتاد.. ما كان يجب أن تكلفي نفسك بعمل كهذا.."
شعر بصداع شديد، وتراءت له لمحات من الحلم القاتم الذي رآه في نومه ولم يوقظه منه إلا ضجيج تينا.. يذكر رؤية فرس ججي المفضلة، الغبراء، وقد اصطبغ سرجها وأجزاء من جسدها بالدماء.. وبدا من أقدامها المطلية بالدماء أيضاً أنها كانت تخوض في بركة دموية.. ولم يرَ أثراً من ججي إلا سيفها المغروز في السرج.. فهل هذه نبوءة بما سيجري؟.. أم أنها مجرد هواجس تمثلت في حلمه بتلك الصورة القبيحة؟.. لقد ساد سلامٌ غريب طوال السنوات الماضية التي قضاها هنا، فهل هذا على وشك أن ينتهي؟..
زفر وهو يعبس محاولاً تمالك نفسه، عندما شعر بتينا تجلس على فراشه قريبة منه وهي تتساءل بابتسامة "لمَ كل هذا العبوس والتنهدات؟.. ألم تحضَ بنوم مريح الليلة الماضية؟.."
قال وهو يرمقها بشيء من الدهشة لاقترابها من فراشه بهذه الصورة "لا.. إنه مجرد حلم بغيض.."
اتسعت ابتسامتها وهي تمد يدها لشعره الذي يصل لكتفيه، فتخللت خصلاته بأصابعها برقة وهي تغمغم "ما كان فحوى حلمك ذاك؟.."
ابتعد عنها شيئاً ما وهو يقول "كان الحلم يخص ججي، لكني لم أرها بل رأيت فرسها فيه.. ورغم ذلك، ربما لا يعدو الأمر مجرد هواجس........"
لاحظ أن تينا استعادت يدها وألقتها في حجرها وهي واجمة، فتساءل بشيء من التعجب "ما الأمر؟.."
غمغمت تينا بضيق واضح "ججي.. ججي.. أهذا كل ما تفكر به؟.."
أجاب بابتسامة صغيرة "أجل.. فهي لا تسمح لي بشيء آخر في الواقع.."
لكن لم يبدُ أن تعليقه سيدفع تينا للابتسام وتقطيبها يزداد وهي تقول بصوت بدا تهدجه واضحاً "لماذا؟.. ألا ترى غيرها حقاً؟.. ألا تنتبه لما حولك بتاتاً؟.."
رغم أنها كانت تحاول لفت انتباهه إليها بوضوح، لكنه لم يستوعب ما تقوله وهو يتساءل بحيرة "ماذا تعنين يا تينا؟.. أفصحي أرجوك.."
استدارت إليه وهي تتشبث بملابسه قائلة برجاء "أنت لم تلحظ وجودي بتاتاً ولم تلتفت نحوي أبداً.. ورغم ذلك، منذ وعت عيناي فأنا لم أرَ غيرك، وعيناي لم تلاحقا ظل شخص آخر أبداً.."
استمع لها كين بصمت وصدمة، بينما أحاطت عنقه بذراعيها قائلة بصوت هامس "ألم تدرك أنني أحبك يا كين؟.. ألا ترى حبي في عيني وفي ابتسامتي كلما رأيتك؟.."
شعر كين بصدمة أعجزته عن إجابتها وهي تضيف بتوسل "أنا أحبك يا كين ولا أطيق فراقك.."
جذبها كين لتفلته وقال برفق "لم أدرك ذلك للحقيقة يا تينا.. وأشكر لك مشاعرك الرقيقة هذه.. ولكن...."
نظرت له بشحوب وهي شبه متيقنة مما سيقوله، فيما أضاف كين "كما قلت لك قبل قليل، وكما تعلمين تمام العلم، فأنا لا أرى سوى ججي.. ولا أظنني سأرى غيرها بتاتاً.."
نظرت له وعيناها تترقرقان بالدموع وقالت بتهدج "لماذا؟.. لمَ لا ترى غيرها؟.. ما الذي يعجبك بفتاة مثلها دوناً عن الأخريات؟"
غمغم كين وهو يفرك عنقه "في الواقع، أود أن أجد إجابة لهذا السؤال أنا أيضاً.."
فقالت بمرارة "لم لا ترى حبي الكبير لك؟.. أنا لا أريد الافتراق عنك.. ولو لم تكن مهتماً بي فسوف.. سوف......"
خفضت وجهها والدموع تسيل على خديها وهي تقول بنشيج "سيزوجني أبي لرجل آخر رغماً عني.. وأنا لا أريد ذلك.."
وتشبثت بملابس كين قائلة بتوسل "لا أريد الزواج من رجل آخر يا كين.. ولن أطيق العيش مع رجل غيرك.. أرجوك، لنغادر هذا المكان.. لنهرب من هذه القبيلة ونرحل لأي موقع آخر تشاء الذهاب إليه.."
نظر إليها كين بصدمة وقال "نهرب؟.. لا يمكنني أن أفعل ذلك يا تينا.. ولا يمكنني الهرب بك من هذه القبيلة.. أتريدين من قادور أن يقتلني؟.."
خفضت وجهها بصمت ودموعها لا تتوقف عن الانهمار، فمسح كين دموعها بيده وهو يقول "لم لا تحدثين أباك عن رفضك لمثل هذا الزواج؟.. لا أظنه سيجبرك على الزواج بمن لا ترغبين به.."
ثم مسح على رأسها مضيفاً "أنا آسف لقول ذلك، لكني لا أستطيع أن أستجيب لمشاعرك هذه.. ادخري مشاعرك الجميلة هذه لشخص يستحقها ويقدرها يا تينا.."
قالت بصوت متهدج "ومن الذي يستحقها غيرك؟.. لا يوجد بين الأكاشي من يستحق حباً ولا إعجاباً.. إنما هم أجلافٌ همجيون لا يهمهم إلا القتل والتهام أعدائهم.."
لم يتعجب كين لرأيها بالأكاشي، لكنه قال بابتسامة محدودة "هل أحببتني يا تينا فقط لأنني لا أنتمي للأكاشي؟.."
نظرت له تينا بصدمة وصمت.. هذا القول يعني أنها لا تحبه هو شخصياً بل تحب هويته التي تختلف عن بقية الرجال من حولها.. فهل هي كذلك حقاً؟..
كان هذا أسوأ اتهام لها، وربما ما أزعجها أنها لا تنكر صحته ولو بشكل ضئيل.. نهضت وغادرت بصمت وخطوات متعثرة وهي تكبح دموعها.. الآن يئست من إثارة اهتمام كين واستمالته نحوها بأي شكل كان.. فما الذي سيجري لها بعد ذلك؟.. إنها لم تخبره بخطبة تبريق لها، فهل لو فعلت سيتغير كين ويبدي اهتماماً حقيقياً بها؟..
خرجت من الخيمة محتقنة الوجه وبغضب شديد وهي تفكر بججي.. ها هي خسرت مرة أخرى أمام ججي.. فهل ستبقى خاسرة طوال حياتها؟.. ولمَ تخسر دائماً كلما كان الأمر يتعلق بتلك الفتاة الخشنة التي تتشبه بالرجال؟.. لمَ كان يجب أن تكون منافستها هي شقيقتها بالذات؟..
كادت ترتطم بشخص يقف قرب مدخل الخيمة.. ولما رفعت بصرها إليه رأت تبريق يقف قربها وهو ينظر لها بصمت ووجه عديم الانفعال.. تراجعت خطوة ووجها يشحب شيئاً ما.. إنها تدرك ما سيجول برأس تبريق من أفكار لدى رؤيتها تخرج في هذا الوقت المبكر من خيمة كين.. لكن تبريق عوض إظهار غضبه لما رآه، فإنه قال بلهجة هادئة "هل اطمأن فؤادك الآن مع الجواب الذي حصلتِ عليه؟"
احتقن وجهها بشدة وقد أدركت أن الحوار الذي دار في الخيمة قد وصل لسمعه بوضوح، فقالت بجفاء "هل تتجسس عليّ؟"
قال بدون أن ينفعل "تقريباً.. لقد لمحتك تدخلين الخيمة في هذا الوقت المبكر، وأنا واثق أن مينار ليس بداخلها.. فلم أستطع لجم فضولي لمعرفة ما تفعلينه في خيمة شاب وحيد.."
قالت بهزء "ها أنت سمعت ما دار بيننا وأدركت مشاعري الحقيقية.. قد يكون هذا دافعاً لك للبحث عن أخرى تضمّها لقافلة نسائك.."
وأشاحت بوجهها وهي تحاول تجاوزه.. مهما يكن الأمر، عليه أن يدرك أنها لا تعبأ لما قد يظنه بها وبما قد يسمعه منها قيد شعره.. إنها تكرهه، ولن يهمها ما يدور برأسه من أفكار بتاتاً..
لكن تبريق أمسك ذراعها بقوة واستوقفها قائلاً "ما الذي تفعلينه بالتذلل لشخص لا يعبأ بك؟.. أهذا هو الحب الذي تلاحقينه بإصرار؟.. هل هذه هي السعادة التي تطمحين إليها؟.."
نظرت له معلقة بسخرية "ومنذ متى يعبأ رجل من الأكاشي بسعادة المرأة؟"
أطلق ذراعها وهو يتفحص ملامحها للحظة، ثم قال "لو ظننتِ لوهلة أنني سأصرف النظر عن زواجي بك بسبب ما سمعتُه، فأنتِ واهمة.. أنا أشد إصراراً الآن على امتلاكك أكثر من أي وقت مضى.."
نظرت له بصدمة وهو يستدير مبتعداً، عندها صاحت بغضب "لا أتوقع أقل من هذا من مأفونٍ مثلك.."
تجاهل ما تقوله وهو يبتعد فيما سمعت تينا كين من خلفها يقول "ما الأمر يا تينا؟.. ما سبب صياحك هذا؟"
نظرت له بمرارة شديدة ملاحظة القلق البادي في ملامحه، ثم استدارت مبتعدة بدورها.. هذا بالذات ما يزيدها حسرة على رفض كين لها.. إنها لم ترَ بين الأكاشي من هو أكثر رقة وعاطفة منه، بينما رجال قبيلتها يمتازون بقساوة وخشونة تسبب لها ضيقاً شديداً وبغضاً عارماً لهم.. حتى لو كانت عاطفة كين موجهة نحو ججي بوضوح، لكنها تمنت ولو للحظة أن يتغير حاله معها.. أن يرمقها بذات العينين الشجيّتين وأن يبتسم لمرآها بذات الابتسامة الصافية.. لكنها واهمة، وستظل كذلك حتى يزوّجها أبوها من هذا الرجل الجلف وتغدو جارية عند قدميه لما بقي لها من العمر.. كيف للحياة أن تكون أقسى مما هي عليه الآن؟..

************************

في الليلة السابقة لعرسها المرتقب، كانت تينا شاحبة الوجه بشكل واضح للأعين وهي تدور بتوتر في خيمة أبيها تحاول شغل نفسها بأي عمل ممكن.. ولما رأت أباها يدلف الخيمة ويجلس قرب النار المشتعلة متحدثاً مع ستينا، فإن تينا توترت بشدة وهي تحاول دفع نفسها لاتخاذ خطوة حاسمة لم يسبق لها أن اتخذتها.. قد يكون الوقت متأخراً جداً، لكنها ستصرّ على رأيها وستصمد أمام غضب أبيها مهما كانت النتائج..
بعد أن شدّت عزمها، اتجهت إليه ووقفت في موقع قريب قائلة "أبي.. أريد أن أحدثك في أمر.."
قال قادور دون أن يلتفت إليها "ما هو ذلك الأمر؟"
جذبت نفساً لتهدئة توترها بينما ألقت عليها ستينا نظرة قلقة.. وأخيراً قالت تينا "أنا لا أريد إتمام هذا الزواج.."
نظر لها قادور بنظرة صارمة، فأسرعت تقول قبل أن يحاول إيقافها "لن أتمّه، ولن أتزوج تبريق.. حتى لو بقيت بلا زواج لما بقي لي من العمر، فلن أتزوج رغماً عني.."
فقال قادور وهو يقطب بشدة "من قال إن لك رأياً في الأمر؟"
رغم أنها لا تجادل أباها في المعتاد، لكنها كانت عازمة في هذه اللحظة على أن تنال ما تريده.. فاندفعت تقول "لمَ لا يكون لي أي رأي؟.. ألستُ أنا من سيعيش تلك الحياة؟.. فلمَ لا يمكنني اختيارها؟"
قال قادور محتداً "لأنني أعرف مصلحتك أكثر منك.. ستتزوجين تبريق وستكونين تحت حمايته.. عندها سيتقلص الحِمْل على ظهري قليلاً.."
نظرت له تينا بمرارة.. أكل ما يهم قادور هو أن يتخلص من همّها بغضّ النظر عن الحياة التي ستعيشها هي بعد ذلك؟.. عندها قالت بمرارة وحنق "لن أتزوجه.. لمَ اخترت رجلاً يكبرني بكثير؟.. أفضّل أن اغمد خنجراً في صدري على أن يتمّ هذا........"
فوجئت بصفعة مدوّية من يد قادور على خدها ظل صداها يرنّ في أذنها.. بهتت تينا وهي تنظر لعيني قادور المشتعلتين وهو يقف أمامها قائلاً "إياكِ أن تتصرفي تصرفاً يدفن رأسي في الطين.. في الغد، ستنتقلين لخيمة زوجك، وبعدها لا أريدك أن تفكري بالعودة لهذه الخيمة بتاتاً.. أتفهمين؟.."
ثم قبض على ذراعها بقوة آلمتها وهو يضيف "ولو حاولتِ إبداء رفضك لهذا الزواج، فأنا من سيحز عنقك بسيفي هذا وسط ساحة القبيلة.."
وتركها مغادراً الخيمة بغضب ظاهر، بينما قبعت تينا أرضاً ودموعها تسيل بغزارة على وجهها.. رغم أنها لم تواجه أباها بهذه الصورة من قبل، لكنها لم تتوقع أن يكون رد فعله صادماً لهذه الدرجة.. إنه حتى هدد بقتلها دون هوادة وبشكل علني أمام القبيلة كلها.. فما الذي يمكنها قوله أو فعله بعد هذا؟..
ظلت تينا تبكي بحرقة بينما اقتربت منها ستينا قائلة بتوتر "هل أنت سعيدة لما جرى لك الآن؟.. لمَ كان عليك الرفض بكل صراحة وأنت تعلمين أن الرفض غير مقبول بتاتاً؟"
قالت تينا باكية "لكنني لا أريد الزواج به.. أنا لا أحبه بل أبغضه بشدة.. لمَ عليّ أن أتزوج شخصاً لا يحبني إنما يريد مني أن أنجب له الأبناء وأكنس له بيته وأحضر له طعامه؟.. أهذه هي الحياة السعيدة التي كنتُ أرجوها؟.."
تنهدت ستينا وهي ترى دموعها، ثم مسحت على شعرها الأشقر ورتبت خصلاته وهي تقول بخفوت "يا صغيرتي، الحب شيء رائع بالفعل.. لكن الأهم منه هو حياتك هذه.. لا يجب أن تفسدي أيامك تفكيراً بالحب الذي لم تحصلي عليه.. فهذا سيزيدك بؤساً وتعاسة ولن يتأثر بها شخص غيرك.."
فقالت تينا باكية "ولمَ يجب أن أعيش حياة دون حب؟"
نظرت لها ستينا بشيء من التردد، ثم تطلعت خلفها لتتأكد من غياب قادور.. فقالت عندها "أتعلمين يا تينا؟.. لقد كنت صغيرة مثلك عندما تزوجني أبوك.. كنت قد تجاوزت السادسة عشر من عمري بالكاد، وأنا كما تعلمين من قبيلة أخرى.. وفي تلك القبيلة، كنت أحب شاباً من شباب القبيلة لا يكبرني إلا بقليل.. كان شاباً شجاعاً، وكان لطيفاً جداً معي.. كنت أحبه وكان يحبني، وكنت موقنة أن حياتي معه ستكون أجمل حياة أرجوها.."
نظرت لها تينا بصمت وهي تمسح دموعها، فأضافت ستينا "عندما تقدم لخطبتي من أبي، رفضه على الفور لأنه كان معدماً.. حاولنا الهرب من القبيلة بعد رفض متكرر من أبي جوبه به في كل مرة، وكنا موقنين أننا نستطيع أن نحيا في موقع آخر بسعادة تامة.. لكن رجال القبيلة لاحقونا خلال وقت قصير، فأعادوني لأبي عنوة، حيث قام بتزويجي من أول طارق يطلبني منه.. وكان ذلك أباك.. وبالطبع لم يكن لي رأي في الأمر، فأغلب شباب القبيلة قد صرفوا التفكير بي بعد أن ارتكبت مثل تلك الجريمة التي يعتبرها الجميع شنيعة ومخجلة.."
تساءلت تينا بدهشة "وما الذي جرى لذلك الشاب؟.."
خفضت ستينا وجهها بمرارة لم تغِب عن عيني تينا، ثم تنهدت وقالت بصوت متغير "عندما أعادني الرجال للمخيم، بقي الشاب مع عدد من الرجال في العراء.. ولم أره بعدها أبداً.. ومع الأكاشي، أنت تعلمين نهاية من قد يرتكب جرماً مثلما حاول ذلك الشاب ارتكابه.."
نظرت لها تينا بإشفاق وستينا تضيف مرتجفة "لو أنني لم أحثّه على الهرب، لربما كان حياً الآن.. وربما تمكن من الزواج من أخرى وعاش سعيداً مع أبنائه.. لكنني جنيت عليه بحبي ذاك وبإلحاحي ألا أتزوج غيره أبداً.. ولم أفكر بعواقب ذلك عليه أبداً.."
خفضت تينا بصرها بحزن متذكرة حديثها مع كين وإصرارها على الهرب معه.. هل كان سيواجه المصير ذاته لو فعل؟.. أم أن مصيره سيكون أقسى لأنها ابنة زعيم القبيلة ولأنه غريب عن الأكاشي؟.. غلبتها نفضة في جسدها والدموع تترقرق في عينيها لذلك الخاطر، ثم خفضت بصرها وهي تقول بصوت مرتجف "لا تقلقي يا أمي.. لن أرتكب هذه الحماقة أبداً.. ولا يسعني إلا أن أطيع أمر أبي.."
ربتت ستينا على كتفها مشفقة، ثم غادرت بصمت تاركة تينا تفكر وغصّة تؤلم حلقها لما آل إليه حالها منذ جاء ذلك الرجل البغيض.. كيف له أن يقلب حياتها بهذه الصورة في أيام قلائل؟.. وكيف لها أن ترضخ بهذه السرعة رغم ارتعابها من هذه الفكرة؟..
في تلك الليلة، انزوت تينا في جانب الخيمة بعد نوم أبويها متجاهلة خدها الذي لا يزال محمراً ويؤلمها بعد تلك الصفعة التي نالتها من أبيها.. فتحت صندوقاً متوسط الحجم بزخرفات منمنمة وشكل بديع كانت تحتفظ فيه بمجموعة كاملة من الأقمشة المطرزة المعدّة لزواجها المرتقب كما تفعل الفتيات عادة في القبيلة.. فمنذ أن تبلغ الفتاة الثامنة من عمرها، تبدأ أمها أو إحدى النسوة في عائلتها بتعليمها الحياكة والتطريز لتقوم بتجهيز مجموعة كاملة من الوسائد والفرش والمفارش استعداداً لزواجها وانتقالها لبيت زوجها الجديد.. بالإضافة للثياب عامة وثوب عرسها خاصة.. وقد اعتنت تينا بتطريز ثوب عرسها بشغف وتفكيرها منحصر بكين.. أرادت أن تبدو أمامه يوم عرسها كأجمل فتاة في القبيلة، وهي كانت واثقة أنها لن تتزوج غيره أبداً.. أما الآن، بعد الرفض الذي واجهته من كل جهة، فإنها استخرجت ثوبها الأحمر الجميل بقماشه الحريري الناعم وتطريزاته الذهبية الدقيقة.. تأملته للحظات وهي تتذكر اعتراف كين بحبه لججي وحدها.. تأملت التطريزات المنمنمة الممتدة وهي تتذكر إعلان تبريق بكل صلافة أنه لن يتخلى عنها وأنه مصرّ على امتلاكها حتى لو كانت تحب غيره.. تأملت حواشي الثوب الجميلة وهي تتذكر الصفعة التي لم تشعر بمثلها قط من أبيها وهو يخبرها بكل قسوة أنها ستتزوج من تبريق وإلا قتلها بنفسه..
انهمرت دموعها على خديها لهذه الذكريات القاسية، وغامت الرؤية أمام عينيها وهي تدفن وجهها في الثوب وتنشج باكية دون أن يعلو صوتها لئلا تثير انتباه أحد فتلقى المزيد من التأنيب على ذلك..
غداً يوم عرسها الذي كانت تحلم به وتنتظره بكل لهفة وشوق..
غداً يوم عرسها، وليتها كانت تملك ثوباً أسود لترتديه حداداً على حياتها التي ستنتهي قبل أن تبدأ..

************************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
السماء.., ابنة
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 02:00 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية