كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورجمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
البارت صاخب بالمشاعر ، إن شاء الله ما تشوفونه قصير أحس طوّلت بكتابته :(
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،
بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(77)*2
انفعـل بشدّة، هذهِ المرّةَ شعرَ بالغضبِ منه كما لم يشعُر من قبـل. أعـاد الاتصـال مرّاتٍ ومرّاتٍ وهو يصرُّ على أسنانِه، كـان في بادئ الأمر يرنّ حتى يتوقّف، ومن بعدِ مرّتينِ أصبح يُخرسـه هو ، لا يريد الردّ ولا يهتمّ! .. لا ! يدرك أنّه يهتم، يدرك أنّه الآن يموتُ في صراعٍ ولا يحياه ! ... حكّ شفتهُ العُليا بصفّ أسنانِه السُفلى، أعـاد الاتصـال من جديد، وهو يقسِم في نفسِه أنّه هذهِ المرّة إن لم يردّ سيترجّل سيارته ويمضي إليه ، لكنّ سلطـان ردّ هذهِ المرّة، ردّ صارخًا بصوتٍ حمـل انفعالاتٍ كثيفةٍ وغضبٍ مـا ، غضبٌ جارف، وحزنٌ قديمٌ يعاد، ككلّ الأيـام : نعـــم ! أيش تبغاني أسوّي فيه مثلًا؟ خلّه يموت .. خلّه يموت الله لا يردّه.
عنـاد يزفُر مُهدّئًا انفعالاتِه هو الآخر، أغمـض عينيهِ لوهلة، ومن ثمّ عـاد ليفتح عينيهِ ويلفظَ بحزم : بمرّك الحين .. أنا في المستشفى عنده توني وصلت بس بجيك وأسحبك لهنا.
سلطـان بسخريةٍ حـاول أن يتسلّح بها صوتُه إلا أنّه غصّ في مرارةِ شعورِه قسرًا : بأي صفة؟ بصفة إنّه قاتل أبوي؟ وإلا بصفة إنّي ولد قتيله؟
عناد يتنهّد، وبهدوءٍ ظاهريّ : بصفـة إنّك ولد أخوه ... ومثل ولده!
عضّ سلطـان شفته بقهر، أغمـض عينيهِ بشدّةٍ وهو يُشيح وجههُ جانبًا، لازال يتّكئ على الجدار، ويتفحّص بعينيهِ بياضه، يراهُ سوادًا ، ويراه السوادُ مـاءً بأحزانِه ، عُكِّر ، وسيُضيفه تلوّثًا .. همسَ بمرارةٍ ساخرة : بكون خاين ، وغبي ، ونذل لو رحت له!
عناد بحدة : محد بيدري بصفتك هذي على قولتك!
سلطان بقهر : يهموني؟ أكيد لا ! .. وإن كان أيه فلا تنسَى إنّ الإشاعة صدّقها كثير .. مثل ما كنت أتمنّى ،
عناد بحدةٍ تحرّكت أقدامـه ونيتُها " باب المشفى "، يصرُّ في هذهِ اللحظـة أن يجلبه إلى هنا ولو زحفًا : بتجي .. واجب عليك تجي ... وأمّا عن موته فتطمّن ، للحين ما مات ..
سلطـان وشفتهُ السُفلى تميل بلذعة : أحسن وأحسن وأحسن ... هالموتة ظلم تجاه شخص مثله، ماراح يريّحني غير عقـاب .. عقاب يستاهله ، عقاب يتعذّب فيه قبل لا يموت .. بعدد الرصاصات اللي اخترقت جسم أبوي . . . . ما بروح له ، لا تحاول ولا تهمني نظرة الناس، لأني أبيهم كلهم يدرون، أبي العالم كلّه يعـرف .. إنّه اللي قتل أبوي !
لم ينتظِر أن يسمـع أكثر، الكلمـاتُ تستفزّه أكثر مما تفعلُ الأحداثُ المتناغمـةُ حولُه بنبرةٍ جلِفـة، بنبرةِ جفـاف، احتكاكٍ ربّما ! تشعلهُ بالقهرِ أكثر وتولّد فيه طاقـةً للحقد، ماذا يعني لو مات؟ ماتَ بسهولة ! ماذا يعني؟ غير القهر أكثر، لا حزن ... لن يكون هناك حزن، لن يشعُر تجاهه كما شعر في موتِ والده ، لن يبكِي على صدرِه، ولن ينـاديهِ بـ " يُبه " ويناجِي روحه بأن لا ترحل وتتركَه ، لن يحزن ولن يهتم، من هو؟ ليهدر عليه القليل من وقتِه ويكتئب؟!
أنهى الاتصـال في عُزلـةِ انفعـال، وترنيمةُ وجـعٍ تُخرس الكلمـاتَ عن الاسترسـالِ بحقدٍ كافٍ .. تحرّكت أقدامه وهو يتنفّس بقوّةٍ مُنفعلـة، سمـع ضجيجًا، مواءً من حيثُ تمكثُ سالِي ومعها قطّة غزل ، استطـاع أن يستنتج أنّها الآن نائمة ، ففي العادةِ لا تتركها إلى حينَ تنام أو تخرج . . .
مرّر لسانه على شفتيه، أغمـض عينيه ، وهو يهمسُ لنفسه " لو يموت عادي "! ماذا يعني أن يموت؟ فليذهب للجحيم!
من جهةٍ أخرى ، تتكـالب عليها ذكريـات ، تتساقطْ ، وكأنها الآن ينقصها مزيدٌ من الحزن ومزيدٌ من الانكسار!
بأي حقّ، جـاءَ ليصفعَ أمـلي الوحيد، والشيء الوحيد الذي أردْته بشدّة ، وأراه المُنصِف لي في دنيا كئيبةٍ كهذه، بأيّ حق؟ بأيّ حق !!
كـانت تلك حجّتها للكـره الأول، للحقدِ الأول ، كيفَ يجيءُ فجأةً ليبتُر حلمًا؟ بل طموحًا مُهلكًا لصدرِها الذي شبّ على النقصـان وحينَ جاءَ من يُكمـله يأتِي هذا الـ " سلطان " فيمحـق آمالها؟ . . . تنفّست بتحشرج، تجتذبُ ذرّات الأكسجينِ إليها، تُغمـض عينيها، بينما صوتُ عبدالعزيزِ يأتِيها حيرانًا، خافتًا، غامضًا! : بيزوّجك؟
غزل تبتلـع ريقها المتخثّرِ بكلمـاتِ والدها الثقيلةِ على مسامعها " مالك شور، وبتتزوجينه "! ، همسَت بغصّة : ما أبيه .. أبيك أنت ، ليه يجي الحين ليه يخرّب عليْ كل شيء؟ ... * أردفت بجنونٍ وضياعٍ كمَن فقدَ القدرة على التفكير * تقدّم لي ... مافيه شيء يمنعك الحين ، تعال يمكن ترضي أبوي أكثر.
من الجهةِ الأخـرى، ارتسمَت ابتسـامةٌ على شفتيْ عبدالعزيز، كانت ابتسامةً عابثـة، لا معنـى لها إلّا المكر .. همسَ بخفوتٍ وكأنّه يتحدّث بخطط عقلِه لا بإجابةٍ تُشفي صدرها : نتزوج? .. ليه لا؟
غزل تبتسمُ بغصّةِ فـرح، كمراهقـةٍ غَنّاها الحُب وحرّكها على إطـار " سذاجـة " ، على صراط دُنيـا ، فتداعَت إلى جحيمها مباشرة، أو لجنّةٍ خدّاعة! .. همسَت باختنـاقٍ وهي تضغطُ على فمِها فيختنقُ صوتُها أكثر : أحبك ، والله أحبك.
فتحَت عينيها بسرعةٍ وجسدها تسرِي فيهِ رعشـةٌ خافتـة وهي توجّه عينيها للبـابِ الذي فُتح، نظـرت بإجفالٍ لسلطـان الذي دخـل وبدخولِه قاطـع نمطَ تفكيرها من الاتزان في " ماضي " والإبحار على سطحِه ، أن تطفو ولا تغرق ، تقتنع أخيرًا أنّ كلّ شيءٍ حدَث وانتهى، وهي السبب! ومن ثمّ يبدأ عقلها بالإدراك، بالإيمان أنّ ما بينها وبينه انقطـع ، وبهذا تُصبح أكثر إصرارًا ! .. تحاول ، لكن هل ستنجح؟ . . . زمّت شفتيها بألمٍ وهي تُشيح بوجهها عنه، هل سأنجح؟ وأنا التي اختزلَت الإيمان فيك، كيفَ أرتدُّ بأن أبتعِد؟
نظـر لها سلطـان بصمت، وتعجّنُ ما بينَ حاجبيهِ يُخبرها أيّ مزاجٍ جـاءَ بِه لو أنّها نظـرت إليه، لكنّها كانت تصدُّ بعيدًا ، للجدار، تعدُّ خطواتِ عينيها عليه وتتشاغَل عن جلوسِه بجانِبها والذي أرعشَها أكثر واغتالَها بربكـةٍ قصوى.
في حينِ مـال سلطـان إلى قدميه كي يخلعَ حذاءه، بالرغمِ من استنكـاره لصحوتها الآن مقابـل هذا الخمولِ إلا أنّه صمت، فكّر بأنّ هذا السُكون لهُ علاقةٌ بقرارها الجديد .. وفضّل الصمتَ أكثر، فهو لا يريد المواجهـة بمزاجٍ كهذا قد يؤذيها بِه دون أن يشعُر.
بينما مرّت ثوانٍ قصيرةٌ في صمتٍ قبـل أن تعقد غزل حاجبيها، وكأنّ قلبها في هذهِ اللحظـة شعر بِه، أنفها اشتمَّ رائحـةَ حُزنٍ مـا ، يخفيه عن نفسِه ، ويُكذِّبه، لكنها شعرَت بِه .. كيفَ لا وهي التي ذاقتْ الحُزن بكلِّ فنونِه؟ .. أدارَت رأسها بحركةٍ تلقائيّة، نظـرت لظهرهِ الذي تصلّب ، يضـعُ كفيه على السريرِ بعد أن انتهى من عملـه الذي شعرَ أنّه طـالَ زمنًا بحجمِ ما تقيّأ انفاسَ خيبـات، انفعالاتٍ وحُرقةٌ ما تغشـى أحشاءه. ينظُر للأسفـل ، للأرضِ المُشبـعةِ بالجفاف، تجاعيد ، يراها الآن تُنقـشُ عليها بعد أن تسرّبت من قلبِه الجـاف، تُطبَـعُ على صفيحتها كنقوشٍ فرعونيّةٍ على أهراماتِ الأسـى، كأُهزوجةِ عراك، كطبولِ حرب ، ضجيجها يا الله لا يُحتمـل! هذا التوتر الذي تجلبه لا يحتمل !
نظـرت لهُ لوهلـة ، صمتت لكنّ الصمتَ تبرّأ منها أخيرًا بعد أن حرّك لسانها القلق : وش فيك متضايق؟
تشنّج جسدهُ للحظة ، توسّع بؤبؤه في حينِ انخفضَت أجفانـه ، قبـض كفيهِ على المفـرش، ومن ثمّ تنهّد وهو يسحبهما ليتقدّم بجذعـهِ للأمـام، لم يُرِدها أن تتكلّم الآن، ليسَ الآن تحديدًا . . . قـاومَ نبرةَ العُنفِ في صوتِه، والانفعـال الذي نمى على بسمتِه المهتزّةِ وهو يلفظُ بخفوت : ارجعي نامي .. مافيه شيء.
تضاعفَت عُقدةُ حاجبيها وهي تجلُس باستنكـارٍ هاتفة : تدري إنّي مو نايمة .. شفيك متشوّش؟
أغمـض عينيهِ وزفـر بعمقٍ وهو يشدُّ على قبضتيه فوقَ فخذيه، وبهدوءٍ ظاهريّ : ماني متشوّش ..
اقتربَت منه بقلق، قلبها انقبـض ونبرتهُ تجلبُ فيها أعاصيرَ من التوجّس ، هذهِ النبـرة التي يكتنزُ فيها الضيق، " سلطان متضايق "! جملةٌ كفيلة بأنْ تُحيل مشاعِرها لرمادٍ أمـام خشيتِها عليه. وضعَت كفّها على عضدِه ، لتهمس : سلطـــ ...
لكنّه قاطعـها فجأةً حين سحبَ عضدهُ بحدة، ومن ثمّ انكبّت ملامحه على كفيه، غطاها زافـرًا للمرةِ المائة ، هواءً ما ، مليئًا بغبـارِ مشـاعِره السابقة، المتّسخـة، والممرّغة في وحلِ الكره والأحقـاد .. صراع ، صراعٌ يعيشه الآن ويجعله يختنق، انفعالاتٌ تكـادُ تجعله ينفجـر في أيِّ لحظـة " عمي سلمـان .. شخص هاجمه بعد صلاة الفجر ، وهو الحين بالمستشفى وحالته ما أدري عنها "!! ماذا فعلت بِي تلك الجملة؟ ماذا فعلت؟ غير أنها خلقَت تناقضات، تضَادات ، شيءٌ ما ، ما بينَ ترقّبٍ بحزن ، وآخر بحقد ، أريده أن يموت وأن لا يموت ، أن يموتُ لأرتـاح، وأن لا يموت لأن هذهِ الطريقة في الموت بسيطةٌ تجـاه ما فعـل ، ولأنّني من جهةٍ أخـرى، لا أريد أن أحزنَ أكثر ! .. أكرهه ، نعم أكرهه ، وأتمنّى بحجمِ ما فعـل أن ينالَ عقابه، بحجمِ خداعـه لي ، ولأجل خمسـةَ عشرَ سنةٍ قضيتها في كنفِه مخدوعًا .. نعم أكرهه ، لكنّني الآن حزين ، حزينٌ جدًا!! نعم أكرهه، لكنّني الآن ، أتمنـى ألاّ يموت ، لأنّني لا أريد أن أفقده !
عضّ شفته بقوّة، كتـم آهةً مـُثقلةً بالوجع، ومن ثمّ أخفـض كفيه عن وجهه لينظُر للأعلى وهو يهمس بـ " يارب "! لم يعتد حتى الآن، كيفَ لم يعتد؟ ألم تكفيني هذهِ الأشهر حتى أستوعب؟ ألم تكفيني حتى أدرك أنّه بالفعـل مخادع؟ أم أنّ بضعةَ أشهرٍ أمـام خمسَة عشرَ سنةٍ لا تكفي؟ لا تكفي حتى يستوعب عقلي .. – أنّه ليسَ أبي -؟!!!
تنفّس بقوّة، وأحشاؤه يشعر أنها تحترق، حنجرته تجفّ، يشعر أنها صاخبـةٌ بكلماتٍ تريدُ أن تخرج ، لم تكن مجرّدَ كلمات! كـانت دعوات، دعواتٌ بأن يبقيه سالمًا ، بأن لا يموت ، بأن يحترق من تجرّأ على أذيّتِه ، ... يـــا الله !! كيفَ أفعلها؟ كيفَ أفعلها!!!
عند تلك النقطـة ، فقدَ نفسه! .. عند تلك النقطـة غرقَ في الصخبِ والضيـاع، شعر أنّه يخون أباه " فهد "، شعر بأنّه يحمـل كلّ الصفاتِ السيئةِ وقد اكتشف أخيرًا أن الأسبـابَ التي صنعها والتي لفظها لعناد كانت كاذبة، نيته لم تكُن في المقـامِ الأوّل أن يحضى بعقابٍ أشدّ، نيتهُ كـانت ... أن يبقى بخير! فقط .. أن يبقى الجزءُ الذي عاشَ معه بخير !! ليسَ سلمـان المجرم ، بل أبيه !
ابتسمَ في تلك اللحظـةِ بسخرية، ابتسامـةً مختنقـةً بانفعالاتِه التي انفجـرت أخيرًا وسرَت في بادئ الأمـر في رجفـة، أن يبقى أبوه بخير ، يعني أن يكون المجرم كذلك ... هل يقتنع عقله أنّهما شخصٌ واحد؟
بينما رجفـة الانفعـال التي اغتالته كـانت قد شعرت غزل بِها، شعرَت بحلقها يجف، باكتواءٍ في صدرها، وهي هذهِ المرّة تقبضُ على عضدِه بقوّةٍ وقد انفعلَت هي الأخرى من أوجِ انفعالِه ، من عدمِ الرضا بأن تؤذيهُ مشاعرُ بهذهِ القوة، بهذا الحزن ! .. في حينِ انحدَر صوتها بحدةٍ قلقّةٍ من حنجرتها لافظًا بتساؤل : وش صار عشان تكون بهالشكل؟ منت طبيعي !!!
سلطـان بصوتٍ لا تعبيرَ فيه، ينظُر للأمـام وقد باتَ كلّ الأمـامِ فراغًا ، جسدهُ رغمَ رجفتـهِ إلا أنه كـان جامدًا من الداخِل، كـانت مشاعِرهُ منتهكة، تائهة، ضائعةٌ في عينيّ الخيانة ! : ابعدي عني بهالوقت يا غزل.
ابتلعت ريقها رغمًا عنها، هذهِ الجملـة وهذا الصوتُ لا يأتيان من حنجرته إلا في حينٍ واحِد، حين يكونُ منفعلًا بدرجةٍ قد تجعله يؤذي من حوله، حين يكون منفعلًا بسببه هو .. بسبب سلمان !
تراجعَت للخلفِ بتوتّر ، لكنّها سرعـان ما نهرَت نفسها للحظـةِ التردد هذِه ، كيف تتركه هكذا دون أن تحاول؟! على الأقلِّ تحاول أن تخفّف عنه وإن خشيَت من ردّة فعله !! . . . عادَت لتقتربَ منه بإصرار، تعقدُ حاجبيها، تستقيمُ على ركبيتها، وتجثُو بجانِبه وتضعُ كفّها على كتفِه ، لتلفظ بخفوتٍ شديد : ما أقدر أبعد وأنا أشوفك بهالوضع !!
سلطـان بنبرةٍ مكتومةٍ وهو يشعر أن دفءَ يدِها يُشعله أكثر : هالوضع خاصـةً ما أبيك تكونين فيه بوجهي .. ابعدي عني !
غزل تمسحُ على كتفِه وبنبرةٍ ناعمةٍ تحاول بها أن تلطّفَ مزاجه : هالوضع خاصّةً أكره نفسي إذا صرت فيه بعيدة عنّك .. محد له الحق يسوّي فيك كذا ، لا أنـا .. ولا حتّى هو!
عند تلك النقطـة، لم يشعُر بنفسه إلا وهو يستديرُ إليها بقوّةٍ أجفلتها ، نظـر لها بنظراتٍ منفعلـة ، الآن استطاعَت أن ترى أحداقـه ، كانت مشتعلة! مخضّبةٌ بغضبٍ صاخِب ، ومزيجٌ من الحقد، والحزن، والكثير من الخذلان.. استطـاعت أخيرًا أن ترى مقدار الانفعـال الذي كان يكتمـه ، كـان يُخفيه في صدره ، والآن انفجر ! وأوّل عتباتِ الانفجـار، أنِ اقتربَ منها بشكلٍ مفاجئٍ أفزعها ، ورغمًا عنها خافَت وهي تتراجـع وعينيها المذعورتين معلّقةٌ بنيرانِ عينيه .. شهقَت بقوّةٍ ما إن دفعها من كتفيها ليسقطَ ظهرها على السرير! .. كـان يريد أن يفرّغ مشاعرهُ في أيّ شيء! في أيّ شيءٍ يستنفدُ طاقتـه الانفجاريّة، يريد أن يستعيدَ وعيهُ الشعوري ، ألّا يحزن لأجله ، ألّا يخاف عليه، وألّا يدعو لهُ بأن يبقى سليمًا ، يريد أن ينفجـر ، أن ينفجـر ، فهذا الصمتُ جعله يشعر بأشياء كاذبة، بأشياء لن تحدث ، كيفَ قد يبقى يحبّه؟ كيف؟
عند تلك النقطـة، لم يشعر بكفّيه التي حفرَت خصرها بعنف، بأنفاسِه التي تسارعَت والتهبَت أمام نحرها لتّذيبها بدأً من جلدِها وانتهاءً بعظامِها الذي تفتّت فجأة ، أظلمَت أحداقها ، ارتخَت كفوفها/تجمّدت وبرودةٌ قتلتْ مقدرتها على محاولَة دفعه عنها ، أفرجَت شفتيها ببهوتٍ وهي تشعر بِه يجتاحها بلمساتٍ حارقـة. كانت الصدمـة تلجمُ عقلها عن الاستيعاب وكأنّها لم تتوقّع أبدًا أن يأتِيها انفجـارهُ من هذا البـاب، أن يحطّمه دون بوادِر قدوم ، هكذا فجأة ، حتى أنّها فقدَت مقدرتها على الصد ، مقدرتها على المقـاومة . .
شدّها من خصرها إلى صدرِه وجسدها باتَ فجأةً كورقةٍ خريفيّةٍ جافّةٍ يستطيع النسيمُ تحريكها، فكيف بإعصارٍ كإعصارِه الآن! . . لم تكُن الرعشـة الخافتـة قد غادرتْ جسده، انتقلَت رويدًا رويدًا إليها، إلى جسدها الذي انتظـر للحظـاتٍ قليلة قبل أن ينفجـر فجأةً برعشـةٍ اجتاحتها ، شهقَت بهلعٍ وهي ترفعُ كفيها المرتعشتين بعد أن أدركت ما يحدث، أدركت انفجـاره، وأدركت أنّه غاضب .. غاضب ، وأراد ما يفرّغ بِه هذا الغضب ولم يجِد حوله الآن سواها ... سوى جسدِها !
وضعَت كفيها على كتفيه وهي تئنُّ بضعف، تنتفضُ كحمامةٍ بلّلها المطر، بللتها برودةُ قطرات، وابل ! كـان وابلًا وليسَ محضَ قطرات ، بلّلها بعنفِ سقوطِه من سماءِ القهر ... لا تريد ، لا تريد أن تُصيبه بنجاستها ، كلّ شيءٍ لا شيء! لكنّ نقاءه أكبـر ، أكبـر من أن تتقبّله وتلوّثه !! .. كان ليؤذيها كثيرًا أن يستخدمها كشيءٍ للتفريغ، لكنّ الأهم كان - هو ! هو فقط .. كيفَ تتركه يمضي فيما هو خاطئ؟!
حاولّت دفعـه بضعف، لكنّها لم تستطِع أمام قوّةِ جسدِه .. أغمضَت عينيها بقوّةٍ ودموعها فرّت رغمًا عنها، أحاطَت كتفه بإحدى ذراعيها، ومن ثمّ أمالَت وجهها إلى جانِب وجهه الملتصِق بعنقها، لامسَت بأنفاسها أذنه، وصوتًها المغروسِ في نبرةٍ كهلة اخترقَ فجوتها بخفوتٍ متداعِي، باختنـاق ، برجـاء : سلطـان اللي أعرفه .. أنقى من إنّه يفرّغ غضبه بهالطريقة وما يهتم لأذى غيره ...... أثق فيك ، أثق فيك ثقة الضرير بعصاه.
،
دخـل إليها في غمرةِ توحّدها بالهاتِف، كانت تحادِثُ هديل وتعدُها بأن " تحاول " القدوم إليهم اليوم، فهي لا تدرِي إن كـان أدهم سيوافق أم لا .. تجدُ نفسها رغمًا عنها ملزمـةً بالطاعة، مهما كرهته، مهما احتقرت بيئتها هنا، إلّا أنه حتى النهاية ، يُسمّى – زوجها -.
رفعَت رأسها ما إن سمعَت خطواتَه، عقدَت حاجبيها وهي تضعُ الهاتفَ جانبًا، وبتساؤلْ : مين جايّك بهالوقت؟
أدهم بإيجاز : صديقي.
إلين تقطّب ملامحها، تُميل فمها بانزعاجٍ وهي تمسحُ سطحَ الأرضِ بأقدامِها العاريـة : قلّة الذوق كانت عادة له واكتسبتها أنت منه وإلا العكس؟
ابتسم رغمًا عنه، لكنّه رفـع حاجبه الأيسر وهو يلفظ : أقول قومي لا أسمع حسّك .. مو من الذوق بعد تتعاملين مع ضيفْ كِذا.
إلين بانزعاج : وش تبي مني يعني؟
أدهم : غبيّة أنتِ وإلا وشو؟ قومي جهّزي الضيافة نعنبو بليسك وتقولين أنا السبب برسوبك؟
إلين تقفُ وحمرةٌ كسَت وجهها من شدّةِ حرجِها، وبحنق : وليه ما تقول عقلي طار مع الدراسة؟
أدهم : رقعي رقعي ..
إلين تنفخُ فمها بغيظٍ ومن ثمّ تتحرّك مبتعدةً باتّجاه المطبخ وهي تُتمتمُ بتذمّر : ثقيل دم أنت وصديقك المعفن ذا.
ابتسمَ دونَ تعليق، ومن ثمّ عـاد أدراجـه إلى المجلس.
،
" عسى بس فكّرتي تسمعين كلمتـي من غير عناد؟ طبعًا ما يفرق معي بس عشان نفسيتك. "
رمقتـه ببرود، وتلك الجملـةُ كـانت المفتـاحَ للثورانِ الذي تزعزعَ في صدرِها، وظهر بحلّةِ الانفجـار .. لا! لن تنفجـر، لن تنفجـر ، ستبقى كمـا هي ، ستبقى بالوضعِ الذي نتجَ عن تفاقُمِ بطشِه ، ما معنى العطـاءُ إن ردَّ عليه بالشحُّ في مشاعره؟ هو حتى لم يعترف، هو حتى لم تردعـه مشاعره! أبدًا . .
أشاحَت نظراتها ببرود، تنظُر للأرضِ نظرةً لا تعبيرَ فيها ، بينما تحرّك سيفْ دون تعبيرٍ حتى جلَسَ على الأريكـةِ المزدوجَةِ بجانِبها، وباستفزاز : تعالِي جنبي.
يدرك أنّها ستأتِي ، لأنّ أقـل من يومٍ لا يكفـي حتى تتمرّد، بالتأكيدِ ستعيشُ حالاتِ صراع، بأن لا تهتمَّ وأن لا تتأثـر ، وكـان توقّعه في محلّه .. انفرجَ فمه في ابتسامةٍ لم تفهمْ معنـاها وهي تقتربُ منه، تجلسُ بجانِبه دون أن ينبعثَ صوتُها بتعلِيق، تتوسّدُ حرارةَ جسدِه المنبعثـةِ منه ولا تلامسه، تضعُ كفيها على فخذيها، تنظُر لجانِب وجههِ الذي ينظُر للأمـامِ وابتسامةٌ ترتسمُ على شفاهِه بشفافيّةٍ انسكبَت من كلماتٍ خافتـة، من اختلاجاتٍ لم يلفظها حتى همسَت بتساؤلٍ جامد : وش تبي مني؟
ليلفظَ مباشـرةً وهو يوجّه نظراته إليها ببطء : كمّلنا أربع سنين.
ارتبكَت نظراتها رغمًا عنها، لكنها لم تُوضِح ذلك وهي تُشيحُ بأحداقِها عنه، لم تردّ عليه، بينما مدّ سيفْ كفيه ، ربّما بات الكبتُ عن مشاعرِه صعبًا بعكـس السابق، باتَ عائقًا أمـامَ بسمةٍ وراحـةٍ تكتنزُ فيه وتتشعّب ، باتَ يحبُّ أن يفضِي إليها بمشاعِره، أن ينطُق كلماتٍ تعني " أحبك " بطريقةٍ وأخرى. وضـع كفّه اليُمنى على ظاهرِ كفّها اليُسرى المستريحةِ على فخذها ، ليُردف بخفوت : عمرنا أربع ..
ديما بنبرةٍ باهتَة وهي تنظُر لكفّه التي خضعَت كفّها لها : أقل من نص سنة.
عقدَ حاجبيْه دون فهم، بينما رفعَت ديما عينيها إليه، لم تستطِع أن تكتُم السخريةَ في صوتِها، وهي تُردِف موضّحة : عمرنا كم شهر .. من يوم قلتها لي ، اللي قبل ما أشوفه عمر.
" من يوم قلتها لي " كـانت تعني مشاعِره ، أحبّك! .. أتـرى بأنّ البدايـة كانت هنـاك؟ حين نطقها؟ هل يعنِي الصمتُ أنّ الحيـاةَ لم تبدأ؟ أيُّ منطقٍ هذا !!
انبسطت عُقدةُ حاجبيه، لكنّ ملامحه كـان يظهر عليها عدمُ الرضـا ، لفظَ بجمود : ينطبـق هالمفهوم عليك وبس!
هزّت كتفيها بسخريتها ذاتها : مو مهم.
انعقدَ الصمتُ بينهما بعد جملتها البـاردةِ تلك، أمـال فمه بانزعـاج، ليقفَ أخيرًا وهذا الجوُّ الكئيبُ يخنقه ، لا يريد أن يغضبْ وهذا اليومُ في عينيهِ استثنائي، لا يريد أن يغضب !
تحرّك خطوتين فقط، وتلك لخطوتينِ كـانت كافية ، زمنُها الذي ولِد فيها كـان كافٍ لانفجـاراتٍ – هادئة -! لأنْ يتمرّد صدرها فجأة على العهود، لأن تنقضَ الوعودَ التي عقدتها مع كبريائها في يومٍ مـا ، لأنْ تخدعها عينيها في نظـرةٍ حزينة ، نحوه! وتغدر بها شفاهها بابتسامـة حسرة .. تفاقمَت حتى طالتْ صوتُها الذي لفظ .. بعدَ خطوتينِ – كافيتينِ – فقط : بمثل هاليوم ، في السنة اللي فاتت ... قدّمت لك باقة توليب أبيض بعد! وبخاطري كنت متأكدة، بيجي هاليوم من جديد ، ويكون ولدنا بيننا ، بسنته الأولى ، والرابعة لنا .... كانت الخطة قبل سنة يكون بيني يديني اليوم، ليه ماهو بين يديني اليوم يا سيف؟!
،
كـانت الأنفـاسُ بينهما هي العِمـادُ الأوّل للضجيج، ترتفع ، بانفعالاتٍ لا تهدأ ولم تكُن تريد هدوءً الآن ، ترتفعُ لأقصى مراحِل القسوةِ التي ضغطَت على صدرِه بعدَ همسِها الواهِن ، جعلته يبتعدُ ببطء، وملامحه تشحبُ وكأنّه استعـادَ وعيـه بعدَ غيبوبةٍ مرض ، ما الذي كـان يفعله؟ ما الذي شارفَ على ارتكابِه ! . . . ارتخَت كفوفه عن خصرِها، ليُسقطَها أخيرًا على السرير، ويبقى محاصرًا لها، بكفّيه، وبعينيه التي بقيَت معلّقـةً بوجِهها الباهِت، الغارِق في بحرِ عيون، هذهِ المرّة، العيون انفجـرت ، ليسَ حزنًا ممّا يصيبُ نفسها، بل بسببِي ! بسببي أنا !!!!
أغمـض عينيهِ بقوّة ، بينما كـانت أنفاسها تهدأ تدريجيًا، تنظُر لهُ بصمتٍ صاخِب ، رحلـة الشفاهِ تصرخ ، تصرخُ بصمت! تصرخُ بوجَع، بانهزام ، وإغماضـةُ أجفانِه تضاعِف من دمْعِها، من نزيفِ حنجرتها التي سكبّت كلماتًا مرتعشـة، واهنـة، تحمـل الرجـاء ذاته ، تحاول به أن تُخرسَ ألـم الذنب الذي تدرك أنّه اغتالَه الآن : لا تلومْ نفسك .. من البداية كـان لازم أسمع كلامك وما أقرّب منك.
ابتسَم بسخرية، وعينيهِ لازال يُغمضها عنها، يُخفِي الصخَب القائمَ فيهما بمجزرةٍ تكـادُ تلحقُ بهما معًا .. همسَ بنبرةٍ لا تعبيرَ فيها، وأصابعه تنقبضُ على المفرشِ الأبيضِ يفرّغ ما بقيَ من انفعالاته فيه : لا تبررين لي .. من البداية كان لازم ما أدخـل هالغرفـة وأنتِ فيها.
فتـح عينيهِ عند تلك الجملـة، وقبل أن تقرأهما كـان شفاهه تنخفضُ ليقبّل عينَها اليمنى، ويهمسَ مُردفًا بخفوتِ نبرته : آسف ... غزالـة.
ارتعشَت شفاهها وهي تقبِضُ كفّها فوقَ بطنِها، بينما ابتعدَ بملمَسِ شفتيه الدافئة عن عينيها، انتهى تظليل جسدِه لها ، عن شمسِ مآرِب للقـرب ، تتمنّى أن تبقى شاعرةً بملمسِ شفتيه على عينيها، على شفتيها ، على وجناتها ، تتمنّى أن يطُول العنـاق ، أن يطول! وينسى مسمّى الابتعاد، تتمنّى زخمًا لا ينفطِم بهمسةِ " غزالة " من فمِه .. تتمنّاه .. يا الله ما أقسـى أن تتمنّى شخصًا يتجاوزك، يتجاوزك بمراحل، ولا تستطِيع أن تظفر بمن هو أعلـى ، دائمًا .. الصعودُ على وتيرةِ التفاضل لن تنجح بِه ، ولن تنجح أمامه هو تحديدًا !
جلسَ سلطـان وانحنى للأرضِ يعودُ ليرتدي حذاءه بيدينِ منفعلتين، لم يستغرق ثوانِي حتى كان يمدُّ يده لهاتفه الذي كان على طرفِ السرير، ابتعدَ عنها بسرعةٍ نحو البـابِ دون أن ينطقَ بشيء ، ولم تملك هي أن تقول شيئًا له في هذهِ الأثناء.
خرجَ من الغرفـة ، في نفسِ اللحظـة التي كـان يرنُّ بها هاتفه معلنًا اتّصالًا آخر من عنـاد، تنهّد بوجـعِ الاعترافاتِ التي هزمته ، هزمته أخيرًا ، لن يستطِيع أن يكابـر أكثر على اهتمامِه بجانِب الذي عـاش في كنفِه طيلةَ تلك السنين ، ليس المجرم، بل الأب !
ردّ مباشـرةً عليه، وقبل أن يلفظَ عناد شيئًا كـان سلطـان يسدُّ مخارجَ أحرفِه بصوتِه الذي انبعثَ باستسلام، بيأس : مرنِي .. ما أظن بقدر أسوق الحين.
اتّسعت عينا عنادْ في بادئ الأمـر بصدمـة، ومن ثمّ أرخى أجفانه قبل أن يلفظ بشك : بتروح له؟
سلطـان يُغمضُ عينيهِ بخزي، يعاتبُ نفسه ، يعاتب ، لكنّ العتبَ يقضِمه بأسنانِ الاهتمـام رغمًا عن أنفه ، نطق أخيرًا مستسلمًا إلى رغبـةٍ برؤيتـه ، وأن يكون قريبًا ، قريبًا منه ، أن يكونَ بجانِبه ، ويدعو له .. يدعو له يا الله رغمًا عن كلّ شيء! : أيـه.
ابتسمَ عنـاد بصدمـة، لكنّه لم يملك الوقت الكافي للتفكير والتحليل، لفظَ بنبرةِ عجل : أنا قريب منك الحين.
،
" فيك شيء مختلف اليوم! "
نظـرت جيهان بعينينِ تائهتين للطبيبةِ التي قرأت بهتـان أحداقها بوضوح، شتت عينيها بربكة ، وهي تدرك أنّها لا تفعل شيئًا سوى الانسلاخ من غلافها أكثر وجعلها تقرأ اختلاجاتَها المضطربـة ببساطةٍ أكبـر.
ندى بهدوء : زعلانة ، وبنفس الوقت فيه جانب مبسوط فيك ... * بشك * شفتيه؟
ارتبكَت، وبدأت أحداقها تتشتّت في جوانِب بيضاءَ لم تشُبها رماديّةٌ كالتي تنهالُ على عينيها، همسَت بغصّةٍ وهي لا تنظُر نحوها، بصوتٍ يَحتدُّ بعض الشيء برفض، ان تدرك أنّها شعيدة! لأن جزءًا صغيرًا منها ارتوى برؤيته، وحزينةٌ أيضًا، لأنّه بعيد! : لو سمحتِ دكتورة ندى .. هذا ماله دخل بموضوع شغلك!
ابتسمَت ندى لتلفظَ دون أن تفقدَ بسمتها : شلون؟ وأنا مرّات من غير لا أسألك عنه تبدأين تحكين بنفسك .. وعلى فكرة ترى ما أذكر إنّي سألتك عن اسمه، أنتِ اللي قلتيه مرّة لي وأنتِ تتكلمين عنه ..
شعَرت بالحرجْ، انتبهت لأسلوبها الذي كـان فظًا معها ، ابتلعَت ريقها، ومن ثمّ وجهَت عينيها إليها لتهمسَ بأسفٍ كـان بعيدًا كل البعدِ عن الهدوء، كـان يصرخُ بألمٍ هادئ، بنبرة خافتـة، لكنّها تُزعجُ - العيـان - بموجاتِها التي تُشوّشُ مستحاثّاتِ الإنابة على فرحْ! : آسفة.
ندى ببشاشة : لأيش؟ مافيه شيء يستحق الاعتذار .. عمومًا يا حلوة خلينا بعيدين عن ذكر فواز ... وقوليلي أنتِ .. شلونك؟
رسمَ اسمـه بسمـةً في شفاهِها، وعبُوسًا في عينيها، تمايلَ حاجبيها وهي تُخفضُ نظراتها للأسفل، تتلاعبُ بأطرافِ أصابعها على ركبتيها، هامسـة : نص نص.
ندى : عشان يروح ربـع من النص اصلبي ظهرك وخلّي عيونك في عيوني وتكلمي وأنتِ تناظريني أنا.
رفعَت وجهها بتردد، ابتسامتها تلكْ كـانت ترتعدُ كأصابِع من الانهزامِ لفّها ريحُ شتـاء، تلاشَت أخيرًا حين وقعَت عينيها على عيني ندى، لتشتّتهما في النهاية دون شعور.
زفرَت تلك بهدوء، ومن ثمّ لفظَت : شويّة ثقة ، وبترتاحين.
جيهان بنبرةٍ متداعيةٍ بخفوتها : أمس لما كلّمتـه كنت حاطـة عيني بعينه.
ابتسمت ندى رغمًا عنها ما إن عادَ عقلها يبحرُ إليه لتتحدّث دون شعورٍ عنه، وبهدوءٍ تجاريها : بأي ظرف كلّمتيه؟
جيهان ترفعُ عينيها إليها، لم تستطِع أن تمنـع كفيها من الانقبـاضِ انفعالًا، ربّما الحديثُ بهذهِ الشفافيّة مع أرجوان لا يروق لها، أن تتعرّى من كلّ شيء! من كلِّ شيءٍ حدّ أن تعترفَ بأنها ضعيفة، وبأنها مخطئةٌ مثله، وبأنّها حتى الآن لازالت تريده ، لكنّ هذا الحديث، بات أسهل هنا! بطريقةٍ لا تعرفها بات أسهل : كنت معصبـة .. وأبي أقهره!
ندى وابتسامتها تتّسع حتى ظهر صفُّ أسنانها : يعني يبيلك بس تعصبين عشان تحطين عينيك بعين اللي قدامك؟
جيهان تُميل فمها بغضبٍ مكتوم، نظرت لما خلفَ كتفِ ندى مباشرة وهي تهتفُ بنبرةٍ حادة : دايم كنت أحط عيني بعينه .. لأنّه دايم يعصبني !
ضحكَت ندى بخفوت وهي تدرك أنّها فقط تبالغ : طيب ما يصير بس تحطين عينيك بعينه وقت ما تكونين معصبة ! بكل الأحوال حاولي ما تتكلمين إلا وأنتِ بهالوضعية ، عشان تثقين بنفسِك أكثر.
شردَت قليلًا إلى ملامِحه ، إلى ملامح البارحـة، وتضاريسِه التي لم تَكفِها الأشهر القليلـة حتى تتغيّر، لمَ تشعر أن أعوامًا هي التي مرّت وليسَ مجرّد أشهر؟! . . تاهَت نظراتها، وتنهّدت ، لتلفظَ أخيرًا بخفوتٍ تائه : أحـاول . . .
،
تلفُّ أصابِع يدها على عضدِ يوسف، شـاردة، تنظُر للأسفـل ، هذ الطريقُ طُبـِعَت عليه خطواتٌ عديدة، قد تكون من ضمنها خطواته ! . . زمّت شفتيها وصدرها ينتفـخُ بالأكسجينِ الموبوءِ برائحةٍ تلاشَت له ، لم تشمّها، لكنّها متأكّدةٌ من أنّ رائحته عبـرت هنا، وتنفّس في هذا المكان ! . . . يكفي! يكفي! .. تريد أن تصرخ .. يكـــــفـــــــــي !! ليخرج من عقلها، من قلبها ، تكفِي هذهِ الأشهر التي حملَت فيها ضريحَ راحتها على كفوفها عن سنين! هذا العـامُ كم تكرهه ، كم تكرهُ ولُوجَه في حياتِها .. عامُ حزن ! أيكفِي هذا المسمّى؟! عـامُ حزنٍ يا فـوازْ وأنا النبيّ الذي فقدَ في عامٍ اثنين ، أمّي وأنت .. أمّي وأنتَ فكيفَ أحمـل هذا الضريحَ ولا يكُون فوقي؟ كيف أحملُ ضريجَ راحتِي ولا يكون ضريحي أنا ! ليتَ الحزن يقتـل ، يريحنا من هذا العذابِ الصامت ، يكتفي عن إيصالنا لأطرافِ الموتِ وقبل أن نلامسه يجتذبنا بعيدًا عنه !
كـانت أقدامهم قد ترازنَت مع البـاب، وصلوا حيث المبنى، لكنّ يوسف توقّف فجأةً بربكةٍ ما ، عقدَت حاجبيها، كــانت تنظُر للأرضِ التي تضيقُ ولا ترى سوى ظلالهم ، لكنّها رفعَت نظراتها حينَ لحظَت وقوفه وحتى أرجوان التي كـانت تمشي على جانِبه الآخر ومعها ليان توقّفت وهي تنظُر جانبًا بصمت ! . . . ابتلعَت ريقها فجأة ، وتشتّت عينيها بإجفالٍ وهي ترى فواز يخطو نحو البـاب كي يخرج ، عـادت تنظُر للأرضِ وهي تتنفّس بسرعة، وكفّها دون شعورٍ شدّت على عضدِ يوسف ، ما معنى هذا الظهور وهو الذي لم تكُن تصادفـه لأشهرٍ في هذا المكـانِ رغمَ أنّه مشتركٌ بينهم ! .. شدّت على أسنانها بحنقٍ وهي ترفَعُ أحداقها بعدَ أن تذكّرت كلمـاتِ الطبيبة ، ألن تنظُر لعينيه إلا في حال الغضب فعلًا؟ .. لاكَت مقاصِد الطبيبةِ بأخـرى ، تربطُ كلّ المواضيع بهِ هو ! تولجـه في أدقّ التفاصيلِ التي ينبغي أن تتبنّاها لأجلها هي ، لأجلها هي فقط !
ارتخَت كفّها عن عضدِ يوسف الذي زفـر وهو يحاول أن يجعل تواجده عاديًا رغم أنه يدرك أنّه بعيدٌ جدًا عن هذا المُسمّى بالنسبةِ لها ، لكنْ في كلّ الأحوال كثيرًا ما سيحدثُ ذلك ، وعاجلًا أم آجلًا كـان الصدامُ ليأتي ! .. تحرّك وهو يتجاهـل فوّاز الذي لم ينظُر ناحيتهم منذ البدايـة وكـان هو بدورِه يتجاهـل النظـر نحوها بعكسِها هي .. والتي قرّرت في البدايـة أنّ نظرتها ستكون حادّة، قويّة، لكنّها لانَت رغمًا عنها ، وباتت تطوفُ في تقاسِيم وجهه بشغفٍ وشوق، تلك اللئيمةُ تلامسُ بعينيها وجهه كلّ يوم ، آآخ كم تتمنّى لو تحيط عنقها بكفّيها وتسحقه ! .. لحظة ، هل أصبَحت تعيشُ معه هنا؟ .. عقدَت حاجبيها بصدمةٍ عند تلك الفكـرة ، وارتحلّت أفكارها إلى تفاصِيل لم ترى أنّها وقحةٌ في التفكير بها ، لا شيء يثبت أنّها هنا ، ولا يعقل أن فواز يعيشُ في مكانٍ آخر ! ما الذي يثبت لها أصلًا أنها لا تعيشُ هنا؟! بالتأكيد فهو تزوّجها منذ أشهرٍ طويلة، وعدم رؤيتها لها هنا ليسَ بالضرورةِ يعني أنّها ليسَت معه ، تنام على سريره ، والتي نامَت هي عليه قبلًا !!! . . . تسارعَت أنفاسها فجاة، وغابَت ملامح فوّاز عنها حينَ حلّ الظـلامُ أمامها، لم تعد ترى شيئًا ، سوى أنّ أفكـارها تجسّدت لها ، تلك الجميلة اللئيمة! تنهضُ كل صباحٍ لترى عينيه، قد يكون نائمًا فتُمعـن في تأمّل ملامحه، أو مستيقظًا فترى إشراقها .. تلك اللئيمة يقبّلها كما كان يقبّلها هي ! أنثـاه الأولى ! يا الله!! كيفَ يحدث أن تكون أنثـاه الأولى وهي ، وهي ماذا!! . . . احمرّت ملامحها بغضب، ليسَ خجلًا ممّا توصّلت إليه بحجمِ ما كـان غضبًا ، قهرًا، غيرةً شعواء ، ستنفجـر ، ستنفجـر ... الخــائن!
لم تسمـع صوتَ ليـان الذي كـان يتمتم بكلماتٍ عديدةٍ لأرجوان عنه! مستنكرةً عبورهُ من جانِبهم دون أن يلفظَ بشيء، دون أن ينظُر نحوهم، ودون أن يستجيب لنداءاتِها حتّى! .. لم تنتبه إلى كونِهم وصلوا لبـابِ شقّتهم، كـانت تشدُّ على أسنانها وتتنفّس بقوة، شعـرت بها أرجوان ، وبالتأكيد شعر بها والدها .. لفظت أرجوان بحرجٍ محاولةً أن تنبّهها على انفعالاتِها التي ظهرتْ مليًّا أمامهم ولم تستطِع أن تُخفيها، الانفجـار الذي خشيَه يوسف منذ رأى فواز وهو يدرك أنّ ابنته بالتأكيدِ لم تتجاوز فواز حتى هذهِ اللحظـة : جيهــــان.
نظـرت لها جيهان بضيـاع، عقدَت حاجبيها وكأنها كانت غيرَ متأكدةٍ من كونِها نادتها، بينما قطّبت أرجوان ملامحها وهي تُشير لها بعينيها إلى والدها، وتلقائيًا ارتفعَت نظراتها إليه ، لترتبك ، وتخفضها تلقائيًا بألـم ، تغلغلَ فيها حدَّ أن تكون بهذا الوضوحِ أمامهم ، لا تستطِيع ، لا تستطِيع أن تسيطِر على نفسها أكثر !
شدّت قبضتيها ، متى تركت عضد والدها ! لا تدري !! . . . مشَت للداخـل بصمت ، لم تحاول أن تنظُر ليوسف حتى ، بل تحرّكت بخطواتٍ متّسعة .. إلى غرفتها مباشرة!
من جهةٍ أخـرى ، زفـر بهدوءٍ هو يدسُّ كفيه في جيبيه، يومين تتابعا رآها فيهما! ليكن صريحًا مع نفسِه أكثر ، هو من تعمّد رؤيتها له اليوم! ما إن انتبـه لهم يقتربُون من المبنى عبر النافذة حتى تحرّك نحو البـاب مباشرةً وبعجل ، لا يدري لمَ فعل ذلك ، لكنّه فقط ، أراد أن تصتدمَ عيناها بِه وإن لم ينظُر لها حتى ! .. لم يعُد يفهم نفسه ، لمَ فعل ذلك؟ أليُثير مشاعرها أكثر؟ ليجعل الحبَّ في صدرِها يُحفّز نفسه أكثر؟ أم لينظُر لها عن قرب وحسب؟ لكنـه لم يسقِط نظراته نحوها حتى !!!
مرّر لسانه على شفتيه، ومن ثمّ تمتمَ بحيرة ، يشتمُ فيها نفسه : وش اللي تبيه أنت بالضبط يا غبي !!!!
،
يتّكئ على الجدارِ الأبيضِ البـارد، يكتّف ذراعيه، وعينـاه البائستينِ تنظُرانِ لعنـاد الذي كـان يقفُ أمامه مباشرةً ويتحدّث مع رجل – عرفَ أنّه الشاهدُ على ما حصل -. يصله صوتُهما، رغمًا عنه كـانت حواسُّه منسجمـةً مع الحديث، بالرغم من ملامِحه الباردة إلا أنه كـان يُمعن في السمـع ليفهم ما يُقال كلمةً كلمة.
: للحين حالته نقدر نقول عنها مستقرة .. هذا اللي قاله الدكتور، بس بنفس الوقت ما نقدر نضمن إنّه ما يصير له شيء .. الضرب كـان على مؤخرة العنق بشكل مباشر، متخوفين من فكرة إنّ الضرر وصل للنخـاع، وممكن يتسبّب بأمور لا يُحمد عقباها.
صمتَ عنـاد قليلًا، بينما أغمض سلطان عينيهِ بقوّةٍ وهو يشدُّ على ساعديه، عضلاته تكاد أن تنفجـر، أصابعه تكاد أن تتحطّم من شدّةِ ما يضغطُ عليها .. كـان يريد أن يسأل، أن يعلـم بالتفاصيل ، لكنّ الكثير كـان يمنعه، وأوّله العزّة بوالِده ، أن يخونه لأجـل آخر " زائف "! يكفيه هذا الحد، لا يستطِيع أن يقوم بالمزيد، لا يستطيع !
لفظَ عنـاد بعد رحلـة صمتٍ دامتْ ثوانِي : الضرب كان بأيش بالضبط؟
: قضيب حديدي .. مرّتين .. والثالثة كانت بالطريق لو ما مسكته .. * ابتسمَ محاولًا تلطيفَ الجو * بس بالمقابل طبعًا حصّلت ضربه على كتفِي وقت ما كان يقاوم قبل لا يهرب.
ابتسم عناد بامتنان : تدري إنّ الثالثة هذي كـان ممكن تكون القاتلة؟ يعني لو طلع منها بخير، فالفضل يرجع لك بعد ربّ العالمين.
: لو صار له شيء لا سمح الله بلوم نفسي بعد .. كنت شايف اللي صار من أول ما وقف وراه ، بس بطئي ما خدمني.
وضـع عناد كفّه على كتفِه، شدّ عليها وهو يبتسم : مشكور .. الله يجزيك بالخير عاد تحمّل الإجراءات بتغثّك ..
ضحكَ الآخر : أدري .. هذا إذا ما جاء الشك حولي.
عناد بثقة : ماراح يجي .. متأكد.
: الله يسمع منّك.
شتّت عناد أحداقه لتسقطَ على سلطان الذي أشـاح وجهه مباشرةً بصمت، جمودهُ غريب! لم يكُن يدرك في ذاك الوقت أنّه ناتجٌ عن اكتشافاتِه اليوم ، ناتجٌ عن صدمتِه من ذاتِه ، بعدَ أشهرٍ طويلـة ، كـان فيها قد تأكّد من حلولِ الكره ، من حلولِ كلّ المشاعِر السلبيّة تجاهه ، تأكّد من احتقارِه له، من كرهه، من حقدِه ، واليوم من سقطَة! تـداعى كلّ شيء!!
اقتربَ منه عنـاد ليقفَ أخيرًا بجانِبه، وقفَ مثله تمامًا، اتكأ بظهرِه على الجدارِ وكتّف ذراعيه ، كتفه استشعرتْ تشنّج كتفِه بجانِبه ، جسدهُ كلّه كـان متشنّج ، لحظَ شدّه على أطرافِه ، على ذراعِه، حينها تنهّد لينظُر للأمـام ويلفظَ بهدوء : محد يقدر يلومك على شيء .. سواءً تمنّيت موته أو لا.
سلطـان ببرود، يُخفِي رعشـة نبرتِه، تداعِي الكلمـاتِ من شفتيه، يخفي كلّ مشاعره التي تكسّرت فوقَ سكّةِ ما حدَث له اليوم : ما يهمني بكلا الحالتين .. لو مات برتاح ، وبنفس الوقت لو ما مات بكون أسعد .. عشان يتعاقب بطريقة أقسى !
عناد بصوتٍ لازال يحتفظُ بهدوئه : احتمال كبير يصير ينشل وأقدر أقول بنسبة تتجاوز الـ 80% !
ابتلعَ ريقه بصعوبـة، وعقله راح يتخيّل سلمان بعدَ كل تلك السنين ، يفقدُ قوّته، صلابتـه التي اعتادَ عليها ، عقله راح يتخيّله مقعدًا ، ضعيفًا ، لا حول لهُ ولا قوّة! .. عضُّ زاويـة شفتِه السٌفلى بقوّةٍ حتى كـاد يُدميها، يعاقبُ نفسه بالألـم، لن يعودَ للصحوة سوى بالألم، بالمكابرة أكثر .. وهو ينطق بقوّةٍ حاقدة : قليلة عليه.
تنهّد عنـاد، ومن ثمّ أدار وجهه ناحيته، ليلفظَ بهدوء : تعال نجلسْ بمكان هادئ عشان تريّح عقلك شوي .. ماراح نعرف إذا بيصير له شيء إلا إذا صحى ، وواضح الوضع مطوّل.
،
في الليل ..
ألقـى نظرةً سريعةً على أمّه ، كـانت تجلِسُ أمام التلفـاز ، تبقى وحيدة ، لا تريد قربه كما توضّح له، ومن الجهـة الاخرى باتَ يخشى عليها فأسيل لم تعُد معها ، البارحـة تركها لساعاتٍ طويلة ، وبالرغمِ من سعادتـه إلا أنّه عندما اختلا بنفسِه ظلّ يلوم نفسه طويلًا ، لا يستطِيع أن يبقى معها طيلة اليوم ! ما الذي يجب عليه فعله بالضبط؟ أيحضر لها ممرّضةً أخـرى من بعدِ سوزان؟ .. عقدَ حاجبيهِ وهذهِ الفكـرة لا يستصيغها، وهي أيضًا بالتأكيد لن ترضى وستغضبُ منه أكثر فهذهِ رسـالةٌ بأنّ أسيل لن تعود! ... ابتسم بأسى، من قـال أنها لن تعود؟ عاجلًا أم آجلًا يجب أن تعود ، لكنّها ستكون زوجـةً لآخر ، ليسَ له !
تحرّكت أقدامُه قبل أن يخرج وهاتفه يُضيء باتّصالِ متعب الذي كـان يقفُ قريبًا من المنـزل، دسّه في جيبِه بعدَ أن أنهى الاتّصال، ومن ثمّ تابـع خطواتُه إلى أمه، وما إن وقفَ بجانبها حتى لفظَ بحنـان : حطيت لك العشى بطاولة المطبخ ، أدري عنّك ما كنتِ تبين تآكلين معي.
لم تردّ عليه، لكنّه لم يستسلمْ وهو يلفُظ بصوتٍ أكثر حنانًا : يا رب ما أهون عليك أكثر!
لم يجِد منها ردًّا حتى الآن، كـان يريد أن يتـابع، أن يقول لها " جايّك خبر حلو قريب " لكنّه وجدَ أن ذلك قد يكون خطأً، ليسَت الطريقةُ المُثلى في التهيئة ، ليسَت الطريقة المثلى! . . تحرّك مبتعدًا عنها بعد تنهيدةٍ طويلة، وهاتفه يرتفع من جديدٍ معلنًا اتّصال متعب مرةً أخرى، في اللحظـةِ ذاتها التي رفعَت فيها عُلا هاتفها الذي كان قد اهتزَّ بجانبها، انتظـرت حتى خرج شاهين، ومن ثمّ ردّت بنبرةٍ هادئة : السلام عليكم.
في الخارج، أوقفَ شاهين سيارته قريبًا من حيثُ كان يقفُ متعب الذي اقتربَ وفتح البـاب ليصعد ، وقبل أن يُلقي السلام استدارَ ينظُر لهُ بحدّةٍ وهو يرفعُ حاجبه الأيسر : ممكن أفهم حضرتك ليه قفّلت بوجهي؟
ابتسمَ شاهين وهو يحرّك السيارة : كنت أحكي مع أمّي.
لم يستوعِب أنّ لسانه في تلك اللحظـةِ قد " زلّ "، ارتبكَ مباشـرةً بعد ما قـالـه، بينما صمتَ متعب دون فهم، انهـال عليه الشوقُ بحمَمِه ما إن نطـق كلمة " أمّي " لكنّه بالمقـابل استغرب، أمـا كانت فرصـةً ليسمع صوتها؟ لمَ لم يرِد الردَّ عليه في تلك اللحظة؟
لم ينظُر شاهين نحوه وهو يشتّت عينيه بالطريقِ ويبتسم ابتسامةً كـانت مرتبكة، وبنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا حاول بها أن يشتّت عقله عن موضوعِ أمّه بالرغمِ من كونِه لن يستطيع مهما حدَث : ليه متلثّم؟
متعب يرفعُ كفّه ليفكّ اللثمـة بعد أن خرجوا من الحيّ الذي سكنَ فيه ، بعدَ دقـائق طويلةٍ تأمّل فيها المنـزل ، تأمّل فيها الزوايا، هل تصدّعت؟ هلْ بهتَ لونها أم تغيّر؟ هل تحرّكت زاويـةٌ نحوَ المشرِق حينَ ضلّ عنها؟ أم أخـرى نحو المغربِ حين استنكـرت الغيـاب، استنكرَت عدمَ سمـاع اسمه يتردّدُ فيها ، نحو المغـرب ، لأنها شعرت .. أنّه هناك !
أظهـر وجهه ومن ثمّ مسـح عليه بعد أن كـان تلثّم للحيطة، فإن لم تتصادم ملامحه مع أحدِ معارفـه القدامى في شوارِع الريـاض فبالتأكيد سيحدثُ في هذا الحي! . . . هتفَ بصوتٍ باهِت ، يتجـاهل الإجابـة عن سؤاله، ويباغتـه بسؤالٍ آخر، فاتـر، متداعِي : ليه ما تبيني أسمع صوتها يا شاهين؟
اتّسعت عينا شاهين بصدمـة، نظـر نحوه بسرعة، ومن ثمّ أعاد نظراته نحو الطريق، ليلفظَ باستنكارٍ عاتِب : رجعت تظن فيني سوء؟!!
متعب بصوتٍ احتدّ فجأة : لا .. بس وضّح لي ، أنت اللي لا تخلي ظنوني تروح للخطأ ! .. ليه ما كنت تبي ترد علي وأنت تدري إنّي أبي أسمع صوتها؟
شاهين بتبريرٍ كاذب : ما تمشي! تبيني مثلًا أفتح الخط وأظل ساكت قدامها؟ خطوة مفضوحة.
شعرَ بالغضب، أيظنُّ أنه غبيٌّ ليُملي عليهِ عذرًا كهذا؟ لم يكُن في هذهِ اللحظـات يظنُّ بِه سوءً بحجمِ ما استنكرَ وهو الذي يدرك أنّه متلهفٌ لسماعها! كان يستطِيع فعل أيّ شيء، فلمَ لم يحاول؟ .. لفظَ بصوتٍ غاضِب يتباينُ بألوانِ الغيظ : لا تتذاكى علي! أعرفك لو كذبت تظن ثلاث سنين بتخليني أجهلك؟
ابتسمَ شاهين رغمًا عنه بغيظ : اللي خلاك تصدّق فيني بيخليك تجهلني.
أدارَ رأسه إليه وصوته ارتفـع فجأةً بقهر : مو هذا موضوعنا .. وبعدين لا عاد تعاتبني وأنت قايل إنّك منت مهتم قبل! قولها وارتاح ، قول إنّك ما سامحتني وانتهى الموضوع بس بطّل تناقض نفسك بهالشكل البايخ!
شاهين وصوته يرتفـع هو الآخر : عن المبزرة متعب ! أنت شايف الظروف من حولك؟ لا تقعد تفسّر كل شيء على كيفك .. إنّي ما أبيك تسمعها ما يعني إنّي كذاب وإنّي . . .
قاطعه متعب بحدة : تعترف إنّك ما تبيني أسمعها يعني؟
شاهين يعضُّ على شفته، لم يردَّ عليهِ وهو يشدُّ بقبضتيه على المقود، لو تحدّث أكثر سيتضاعف غضبه، وربّما سيفضح الأسبـاب، أنّه لا يريد لاسم أسيل أن يلجَ الآن فتبدأ أحاديثُ لا يريدها ، لم يكتفِي بعد ، لم يكتفِي بعدُ من هذا الفـرح ، لا يريد للأحزانِ أن تبدأ، للنتوءاتِ أن تبرز أكثر فيتعرقلانِ فيها، لا يريد لكلّ ذلك أن يبدأ من جديد!
استفزّه أكثر صمته، وتأكّد من أنّه يخفِي شيئًا ، لم يفكّر للحظـةٍ أن يكون لأسيل دخلًا في كلّ ذلك ، لم يستطِع أن يتوقّع سببصا، لذا غضب أكثر ، فشاهين لن يضمر لهُ الشر، لكنْ لمَ؟ . . . هتفَ من بينِ أسنانه وجهلهُ يكادُ يجعله ينفجر في هذهِ اللحظـات : شاهين تراها قافلة معي ... ليه ما تبيني أسمع صوتها؟ وش بيصير وأنا أكيد مستحيل أحكي وأفضح نفسي بهالطريقة ، تراني أخاف عليها ويمكن أكثر منك بعد !
زمّ شفتيه، وقرّر عدمَ الردِّ أيضًا ، وفي تلك اللحظـة انفجـر متعب ، فتـح فمه يستعدُّ للحديث ، وهذهِ المرّة بصراخٍ غاضب، وليسَ بمجرّدِ صوتٍ يرتفـع .. لكنّ صوتَ هاتِف شاهين في تلك اللحظـة انقذه من تشابك الخيوط وربّما الضغط عليه حتى يجدَ نفسه يلِج في موضوع أسيل في النهاية ! .. رفعـه، بينما عضّ متعب شفته السُفلى وهو ينظُر لكفوفِه المنقبضَةِ على حجرِه بحنق، لحظَ هدوءَ شاهين الذي طـال ليرفعَ وجهها ويجده ينظُر للهاتِف باستغراب ووبعضٍ من الصدمة، استنكـر ، وعقَد حاجبيه وهو يلفظُ بحيرةٍ حادةٍ بعض الشيء : شفيك؟
شاهين يرفعُ نظراته نحو متعب وهو يمرّر طرفَ لسانه على شفتيه بربكة، هل يردّ؟ لكن لمَ قد تتّصل؟ هي لازالت غاضبةٌ عليه! لمَ قد تتّصل بِه؟ شعـر بالحيرةِ تغتاله، اتّصالها يعني أنها رضيت! لكن .. ماذا لو كانت تريد أن تتحدّث عن أسيل! .. كـان ليتمَّ الأمـر في المنـزل وليسَ بعدَ خروجه .. هل يردّ؟ لكن ماذا لو كـان حدثَ لها شيء !! ... عند تلك النقطـةِ أصابه الذعـر ، ووجدَ كفّه ترتعشُ بقوّةٍ وهو يوجّه نظراته نحو الهاتف، كاد يردُّ لكنّ متعب لم يمهله وهو يمدُّ كفّه بسرعةٍ خاطفـةٍ بعد أن زاوله الشك من صمتِه الغريبِ بعد الاتصـال ، نظر للهاتف في اللحظـة ذاتها التي ارتفعَت بها زجـرة شاهين الغاضبة والذي فقد صبره من تصرّفاته : متــــــــــــعـــــــــب !!!
شدَّ متعب الهاتف بغضب ، كانت هي ! هي!! .. سمفونيّة الصوتِ التي انتظـر سماعها، هي ! .. نظـر لشاهين بغضب، ومن ثمّ عـاد ينظُر للهاتِف، لا وقتَ للعتـابِ الآن، لا وقتَ للاستفساراتِ الفارغـة ، امّه اتصلَت ، والهاتف في يدِه ، ما الأجمل من ذلك الآن؟ من كونِه سيسمـع صوتها الذي اشتاقه، والذي غـاب ، غــاب لزمن ، غاب طويلًا ، طويلًا يا أمّي!
قرّر أن يُجيب ويضع شاهين في وجه المدفـع، أداره ظهره وهو يمسكُ كفّه التي كانت تريد أن تسرق الهاتفَ من يدِه ، ومن ثمّ أجـاب .. وكبّر الصوتَ مباشرة ، لينبعثَ صوتها ، ملهوفًا ، متسارعَ الأنفـاس ، ملهوفًا ، لكن ليسَ كلهفتِه ، متسارعَ الأنفاس ، وليسَ كمثلـه ، يكـادُ يكونُ قتيلَ اختنـاق ، يشهقُ بالهواءِ بطريقةٍ صامتة، لم تُسمـَع لها، لكنّه في تلك اللحظـة .. كاد يموتُ اختناقًا وحسب !
: شاهــــين . . .
ابتلـع شاهين ريقه بعد أن وصَل صوتُها إليه ، كـان غاضبًا ، لكنّه في المقابـل لم يملك حيلةً ليفعـل شيئًا، وجدَ نفسه محشورًا بالرد، وهو يتمنّى في داخلـه أن تكون اتّصلت عليه لسببٍ بعيدٍ عن أسيل ، ألا تلفظَ اسمها الآن ! . . ردّ بنبرةٍ كبتَ فيها غضبـه، لم ينظُر لردّة فعـل متعب بعدَ سماعِه صوتها، وهو يردُّ بخفوتِ صوته : نعم يمّه.
علا بصوتِها الملهوفِ والذي يتضاعفُ علوًّا بفرحتها : مرتك ، مرتك أسيل حـــــــــامـــــــل !!!
.
.
.
انــتــهــى
موعدنا القادم الأربعاء إن شاء الله ، وبإذن الله بيكون كبير في الكم وليس فقط بالمشاعر.
عاد ما نبي تحلطمـات على الوقت اليوم ، عيوني أحس بتطلع من محاجري من مقابلة اللاب :( -> مو أقول طولت بالكاتبة ؟:/
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|