لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > الروايات المغلقة
التسجيل مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الروايات المغلقة الروايات المغلقة


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-07-16, 11:31 PM   المشاركة رقم: 861
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 

-
-
-

صباح الخير ، نسيت أذكر هِنا إنّ الموعد بيكون على 5 أو حولها ،
بقت جزئية بسيطة مع المراجعة ،
ربي يسعدكم ويخلي هالعيون الحلوة :$

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 25-07-16, 04:47 AM   المشاركة رقم: 862
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 




سلامٌ ورجمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


البارت صاخب بالمشاعر ، إن شاء الله ما تشوفونه قصير أحس طوّلت بكتابته :(

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(77)*2



انفعـل بشدّة، هذهِ المرّةَ شعرَ بالغضبِ منه كما لم يشعُر من قبـل. أعـاد الاتصـال مرّاتٍ ومرّاتٍ وهو يصرُّ على أسنانِه، كـان في بادئ الأمر يرنّ حتى يتوقّف، ومن بعدِ مرّتينِ أصبح يُخرسـه هو ، لا يريد الردّ ولا يهتمّ! .. لا ! يدرك أنّه يهتم، يدرك أنّه الآن يموتُ في صراعٍ ولا يحياه ! ... حكّ شفتهُ العُليا بصفّ أسنانِه السُفلى، أعـاد الاتصـال من جديد، وهو يقسِم في نفسِه أنّه هذهِ المرّة إن لم يردّ سيترجّل سيارته ويمضي إليه ، لكنّ سلطـان ردّ هذهِ المرّة، ردّ صارخًا بصوتٍ حمـل انفعالاتٍ كثيفةٍ وغضبٍ مـا ، غضبٌ جارف، وحزنٌ قديمٌ يعاد، ككلّ الأيـام : نعـــم ! أيش تبغاني أسوّي فيه مثلًا؟ خلّه يموت .. خلّه يموت الله لا يردّه.
عنـاد يزفُر مُهدّئًا انفعالاتِه هو الآخر، أغمـض عينيهِ لوهلة، ومن ثمّ عـاد ليفتح عينيهِ ويلفظَ بحزم : بمرّك الحين .. أنا في المستشفى عنده توني وصلت بس بجيك وأسحبك لهنا.
سلطـان بسخريةٍ حـاول أن يتسلّح بها صوتُه إلا أنّه غصّ في مرارةِ شعورِه قسرًا : بأي صفة؟ بصفة إنّه قاتل أبوي؟ وإلا بصفة إنّي ولد قتيله؟
عناد يتنهّد، وبهدوءٍ ظاهريّ : بصفـة إنّك ولد أخوه ... ومثل ولده!
عضّ سلطـان شفته بقهر، أغمـض عينيهِ بشدّةٍ وهو يُشيح وجههُ جانبًا، لازال يتّكئ على الجدار، ويتفحّص بعينيهِ بياضه، يراهُ سوادًا ، ويراه السوادُ مـاءً بأحزانِه ، عُكِّر ، وسيُضيفه تلوّثًا .. همسَ بمرارةٍ ساخرة : بكون خاين ، وغبي ، ونذل لو رحت له!
عناد بحدة : محد بيدري بصفتك هذي على قولتك!
سلطان بقهر : يهموني؟ أكيد لا ! .. وإن كان أيه فلا تنسَى إنّ الإشاعة صدّقها كثير .. مثل ما كنت أتمنّى ،
عناد بحدةٍ تحرّكت أقدامـه ونيتُها " باب المشفى "، يصرُّ في هذهِ اللحظـة أن يجلبه إلى هنا ولو زحفًا : بتجي .. واجب عليك تجي ... وأمّا عن موته فتطمّن ، للحين ما مات ..
سلطـان وشفتهُ السُفلى تميل بلذعة : أحسن وأحسن وأحسن ... هالموتة ظلم تجاه شخص مثله، ماراح يريّحني غير عقـاب .. عقاب يستاهله ، عقاب يتعذّب فيه قبل لا يموت .. بعدد الرصاصات اللي اخترقت جسم أبوي . . . . ما بروح له ، لا تحاول ولا تهمني نظرة الناس، لأني أبيهم كلهم يدرون، أبي العالم كلّه يعـرف .. إنّه اللي قتل أبوي !

لم ينتظِر أن يسمـع أكثر، الكلمـاتُ تستفزّه أكثر مما تفعلُ الأحداثُ المتناغمـةُ حولُه بنبرةٍ جلِفـة، بنبرةِ جفـاف، احتكاكٍ ربّما ! تشعلهُ بالقهرِ أكثر وتولّد فيه طاقـةً للحقد، ماذا يعني لو مات؟ ماتَ بسهولة ! ماذا يعني؟ غير القهر أكثر، لا حزن ... لن يكون هناك حزن، لن يشعُر تجاهه كما شعر في موتِ والده ، لن يبكِي على صدرِه، ولن ينـاديهِ بـ " يُبه " ويناجِي روحه بأن لا ترحل وتتركَه ، لن يحزن ولن يهتم، من هو؟ ليهدر عليه القليل من وقتِه ويكتئب؟!
أنهى الاتصـال في عُزلـةِ انفعـال، وترنيمةُ وجـعٍ تُخرس الكلمـاتَ عن الاسترسـالِ بحقدٍ كافٍ .. تحرّكت أقدامه وهو يتنفّس بقوّةٍ مُنفعلـة، سمـع ضجيجًا، مواءً من حيثُ تمكثُ سالِي ومعها قطّة غزل ، استطـاع أن يستنتج أنّها الآن نائمة ، ففي العادةِ لا تتركها إلى حينَ تنام أو تخرج . . .
مرّر لسانه على شفتيه، أغمـض عينيه ، وهو يهمسُ لنفسه " لو يموت عادي "! ماذا يعني أن يموت؟ فليذهب للجحيم!

من جهةٍ أخرى ، تتكـالب عليها ذكريـات ، تتساقطْ ، وكأنها الآن ينقصها مزيدٌ من الحزن ومزيدٌ من الانكسار!
بأي حقّ، جـاءَ ليصفعَ أمـلي الوحيد، والشيء الوحيد الذي أردْته بشدّة ، وأراه المُنصِف لي في دنيا كئيبةٍ كهذه، بأيّ حق؟ بأيّ حق !!
كـانت تلك حجّتها للكـره الأول، للحقدِ الأول ، كيفَ يجيءُ فجأةً ليبتُر حلمًا؟ بل طموحًا مُهلكًا لصدرِها الذي شبّ على النقصـان وحينَ جاءَ من يُكمـله يأتِي هذا الـ " سلطان " فيمحـق آمالها؟ . . . تنفّست بتحشرج، تجتذبُ ذرّات الأكسجينِ إليها، تُغمـض عينيها، بينما صوتُ عبدالعزيزِ يأتِيها حيرانًا، خافتًا، غامضًا! : بيزوّجك؟
غزل تبتلـع ريقها المتخثّرِ بكلمـاتِ والدها الثقيلةِ على مسامعها " مالك شور، وبتتزوجينه "! ، همسَت بغصّة : ما أبيه .. أبيك أنت ، ليه يجي الحين ليه يخرّب عليْ كل شيء؟ ... * أردفت بجنونٍ وضياعٍ كمَن فقدَ القدرة على التفكير * تقدّم لي ... مافيه شيء يمنعك الحين ، تعال يمكن ترضي أبوي أكثر.
من الجهةِ الأخـرى، ارتسمَت ابتسـامةٌ على شفتيْ عبدالعزيز، كانت ابتسامةً عابثـة، لا معنـى لها إلّا المكر .. همسَ بخفوتٍ وكأنّه يتحدّث بخطط عقلِه لا بإجابةٍ تُشفي صدرها : نتزوج? .. ليه لا؟
غزل تبتسمُ بغصّةِ فـرح، كمراهقـةٍ غَنّاها الحُب وحرّكها على إطـار " سذاجـة " ، على صراط دُنيـا ، فتداعَت إلى جحيمها مباشرة، أو لجنّةٍ خدّاعة! .. همسَت باختنـاقٍ وهي تضغطُ على فمِها فيختنقُ صوتُها أكثر : أحبك ، والله أحبك.

فتحَت عينيها بسرعةٍ وجسدها تسرِي فيهِ رعشـةٌ خافتـة وهي توجّه عينيها للبـابِ الذي فُتح، نظـرت بإجفالٍ لسلطـان الذي دخـل وبدخولِه قاطـع نمطَ تفكيرها من الاتزان في " ماضي " والإبحار على سطحِه ، أن تطفو ولا تغرق ، تقتنع أخيرًا أنّ كلّ شيءٍ حدَث وانتهى، وهي السبب! ومن ثمّ يبدأ عقلها بالإدراك، بالإيمان أنّ ما بينها وبينه انقطـع ، وبهذا تُصبح أكثر إصرارًا ! .. تحاول ، لكن هل ستنجح؟ . . . زمّت شفتيها بألمٍ وهي تُشيح بوجهها عنه، هل سأنجح؟ وأنا التي اختزلَت الإيمان فيك، كيفَ أرتدُّ بأن أبتعِد؟
نظـر لها سلطـان بصمت، وتعجّنُ ما بينَ حاجبيهِ يُخبرها أيّ مزاجٍ جـاءَ بِه لو أنّها نظـرت إليه، لكنّها كانت تصدُّ بعيدًا ، للجدار، تعدُّ خطواتِ عينيها عليه وتتشاغَل عن جلوسِه بجانِبها والذي أرعشَها أكثر واغتالَها بربكـةٍ قصوى.
في حينِ مـال سلطـان إلى قدميه كي يخلعَ حذاءه، بالرغمِ من استنكـاره لصحوتها الآن مقابـل هذا الخمولِ إلا أنّه صمت، فكّر بأنّ هذا السُكون لهُ علاقةٌ بقرارها الجديد .. وفضّل الصمتَ أكثر، فهو لا يريد المواجهـة بمزاجٍ كهذا قد يؤذيها بِه دون أن يشعُر.
بينما مرّت ثوانٍ قصيرةٌ في صمتٍ قبـل أن تعقد غزل حاجبيها، وكأنّ قلبها في هذهِ اللحظـة شعر بِه، أنفها اشتمَّ رائحـةَ حُزنٍ مـا ، يخفيه عن نفسِه ، ويُكذِّبه، لكنها شعرَت بِه .. كيفَ لا وهي التي ذاقتْ الحُزن بكلِّ فنونِه؟ .. أدارَت رأسها بحركةٍ تلقائيّة، نظـرت لظهرهِ الذي تصلّب ، يضـعُ كفيه على السريرِ بعد أن انتهى من عملـه الذي شعرَ أنّه طـالَ زمنًا بحجمِ ما تقيّأ انفاسَ خيبـات، انفعالاتٍ وحُرقةٌ ما تغشـى أحشاءه. ينظُر للأسفـل ، للأرضِ المُشبـعةِ بالجفاف، تجاعيد ، يراها الآن تُنقـشُ عليها بعد أن تسرّبت من قلبِه الجـاف، تُطبَـعُ على صفيحتها كنقوشٍ فرعونيّةٍ على أهراماتِ الأسـى، كأُهزوجةِ عراك، كطبولِ حرب ، ضجيجها يا الله لا يُحتمـل! هذا التوتر الذي تجلبه لا يحتمل !
نظـرت لهُ لوهلـة ، صمتت لكنّ الصمتَ تبرّأ منها أخيرًا بعد أن حرّك لسانها القلق : وش فيك متضايق؟
تشنّج جسدهُ للحظة ، توسّع بؤبؤه في حينِ انخفضَت أجفانـه ، قبـض كفيهِ على المفـرش، ومن ثمّ تنهّد وهو يسحبهما ليتقدّم بجذعـهِ للأمـام، لم يُرِدها أن تتكلّم الآن، ليسَ الآن تحديدًا . . . قـاومَ نبرةَ العُنفِ في صوتِه، والانفعـال الذي نمى على بسمتِه المهتزّةِ وهو يلفظُ بخفوت : ارجعي نامي .. مافيه شيء.
تضاعفَت عُقدةُ حاجبيها وهي تجلُس باستنكـارٍ هاتفة : تدري إنّي مو نايمة .. شفيك متشوّش؟
أغمـض عينيهِ وزفـر بعمقٍ وهو يشدُّ على قبضتيه فوقَ فخذيه، وبهدوءٍ ظاهريّ : ماني متشوّش ..
اقتربَت منه بقلق، قلبها انقبـض ونبرتهُ تجلبُ فيها أعاصيرَ من التوجّس ، هذهِ النبـرة التي يكتنزُ فيها الضيق، " سلطان متضايق "! جملةٌ كفيلة بأنْ تُحيل مشاعِرها لرمادٍ أمـام خشيتِها عليه. وضعَت كفّها على عضدِه ، لتهمس : سلطـــ ...
لكنّه قاطعـها فجأةً حين سحبَ عضدهُ بحدة، ومن ثمّ انكبّت ملامحه على كفيه، غطاها زافـرًا للمرةِ المائة ، هواءً ما ، مليئًا بغبـارِ مشـاعِره السابقة، المتّسخـة، والممرّغة في وحلِ الكره والأحقـاد .. صراع ، صراعٌ يعيشه الآن ويجعله يختنق، انفعالاتٌ تكـادُ تجعله ينفجـر في أيِّ لحظـة " عمي سلمـان .. شخص هاجمه بعد صلاة الفجر ، وهو الحين بالمستشفى وحالته ما أدري عنها "!! ماذا فعلت بِي تلك الجملة؟ ماذا فعلت؟ غير أنها خلقَت تناقضات، تضَادات ، شيءٌ ما ، ما بينَ ترقّبٍ بحزن ، وآخر بحقد ، أريده أن يموت وأن لا يموت ، أن يموتُ لأرتـاح، وأن لا يموت لأن هذهِ الطريقة في الموت بسيطةٌ تجـاه ما فعـل ، ولأنّني من جهةٍ أخـرى، لا أريد أن أحزنَ أكثر ! .. أكرهه ، نعم أكرهه ، وأتمنّى بحجمِ ما فعـل أن ينالَ عقابه، بحجمِ خداعـه لي ، ولأجل خمسـةَ عشرَ سنةٍ قضيتها في كنفِه مخدوعًا .. نعم أكرهه ، لكنّني الآن حزين ، حزينٌ جدًا!! نعم أكرهه، لكنّني الآن ، أتمنـى ألاّ يموت ، لأنّني لا أريد أن أفقده !
عضّ شفته بقوّة، كتـم آهةً مـُثقلةً بالوجع، ومن ثمّ أخفـض كفيه عن وجهه لينظُر للأعلى وهو يهمس بـ " يارب "! لم يعتد حتى الآن، كيفَ لم يعتد؟ ألم تكفيني هذهِ الأشهر حتى أستوعب؟ ألم تكفيني حتى أدرك أنّه بالفعـل مخادع؟ أم أنّ بضعةَ أشهرٍ أمـام خمسَة عشرَ سنةٍ لا تكفي؟ لا تكفي حتى يستوعب عقلي .. – أنّه ليسَ أبي -؟!!!
تنفّس بقوّة، وأحشاؤه يشعر أنها تحترق، حنجرته تجفّ، يشعر أنها صاخبـةٌ بكلماتٍ تريدُ أن تخرج ، لم تكن مجرّدَ كلمات! كـانت دعوات، دعواتٌ بأن يبقيه سالمًا ، بأن لا يموت ، بأن يحترق من تجرّأ على أذيّتِه ، ... يـــا الله !! كيفَ أفعلها؟ كيفَ أفعلها!!!
عند تلك النقطـة ، فقدَ نفسه! .. عند تلك النقطـة غرقَ في الصخبِ والضيـاع، شعر أنّه يخون أباه " فهد "، شعر بأنّه يحمـل كلّ الصفاتِ السيئةِ وقد اكتشف أخيرًا أن الأسبـابَ التي صنعها والتي لفظها لعناد كانت كاذبة، نيته لم تكُن في المقـامِ الأوّل أن يحضى بعقابٍ أشدّ، نيتهُ كـانت ... أن يبقى بخير! فقط .. أن يبقى الجزءُ الذي عاشَ معه بخير !! ليسَ سلمـان المجرم ، بل أبيه !
ابتسمَ في تلك اللحظـةِ بسخرية، ابتسامـةً مختنقـةً بانفعالاتِه التي انفجـرت أخيرًا وسرَت في بادئ الأمـر في رجفـة، أن يبقى أبوه بخير ، يعني أن يكون المجرم كذلك ... هل يقتنع عقله أنّهما شخصٌ واحد؟
بينما رجفـة الانفعـال التي اغتالته كـانت قد شعرت غزل بِها، شعرَت بحلقها يجف، باكتواءٍ في صدرها، وهي هذهِ المرّة تقبضُ على عضدِه بقوّةٍ وقد انفعلَت هي الأخرى من أوجِ انفعالِه ، من عدمِ الرضا بأن تؤذيهُ مشاعرُ بهذهِ القوة، بهذا الحزن ! .. في حينِ انحدَر صوتها بحدةٍ قلقّةٍ من حنجرتها لافظًا بتساؤل : وش صار عشان تكون بهالشكل؟ منت طبيعي !!!
سلطـان بصوتٍ لا تعبيرَ فيه، ينظُر للأمـام وقد باتَ كلّ الأمـامِ فراغًا ، جسدهُ رغمَ رجفتـهِ إلا أنه كـان جامدًا من الداخِل، كـانت مشاعِرهُ منتهكة، تائهة، ضائعةٌ في عينيّ الخيانة ! : ابعدي عني بهالوقت يا غزل.
ابتلعت ريقها رغمًا عنها، هذهِ الجملـة وهذا الصوتُ لا يأتيان من حنجرته إلا في حينٍ واحِد، حين يكونُ منفعلًا بدرجةٍ قد تجعله يؤذي من حوله، حين يكون منفعلًا بسببه هو .. بسبب سلمان !
تراجعَت للخلفِ بتوتّر ، لكنّها سرعـان ما نهرَت نفسها للحظـةِ التردد هذِه ، كيف تتركه هكذا دون أن تحاول؟! على الأقلِّ تحاول أن تخفّف عنه وإن خشيَت من ردّة فعله !! . . . عادَت لتقتربَ منه بإصرار، تعقدُ حاجبيها، تستقيمُ على ركبيتها، وتجثُو بجانِبه وتضعُ كفّها على كتفِه ، لتلفظ بخفوتٍ شديد : ما أقدر أبعد وأنا أشوفك بهالوضع !!
سلطـان بنبرةٍ مكتومةٍ وهو يشعر أن دفءَ يدِها يُشعله أكثر : هالوضع خاصـةً ما أبيك تكونين فيه بوجهي .. ابعدي عني !
غزل تمسحُ على كتفِه وبنبرةٍ ناعمةٍ تحاول بها أن تلطّفَ مزاجه : هالوضع خاصّةً أكره نفسي إذا صرت فيه بعيدة عنّك .. محد له الحق يسوّي فيك كذا ، لا أنـا .. ولا حتّى هو!
عند تلك النقطـة، لم يشعُر بنفسه إلا وهو يستديرُ إليها بقوّةٍ أجفلتها ، نظـر لها بنظراتٍ منفعلـة ، الآن استطاعَت أن ترى أحداقـه ، كانت مشتعلة! مخضّبةٌ بغضبٍ صاخِب ، ومزيجٌ من الحقد، والحزن، والكثير من الخذلان.. استطـاعت أخيرًا أن ترى مقدار الانفعـال الذي كان يكتمـه ، كـان يُخفيه في صدره ، والآن انفجر ! وأوّل عتباتِ الانفجـار، أنِ اقتربَ منها بشكلٍ مفاجئٍ أفزعها ، ورغمًا عنها خافَت وهي تتراجـع وعينيها المذعورتين معلّقةٌ بنيرانِ عينيه .. شهقَت بقوّةٍ ما إن دفعها من كتفيها ليسقطَ ظهرها على السرير! .. كـان يريد أن يفرّغ مشاعرهُ في أيّ شيء! في أيّ شيءٍ يستنفدُ طاقتـه الانفجاريّة، يريد أن يستعيدَ وعيهُ الشعوري ، ألّا يحزن لأجله ، ألّا يخاف عليه، وألّا يدعو لهُ بأن يبقى سليمًا ، يريد أن ينفجـر ، أن ينفجـر ، فهذا الصمتُ جعله يشعر بأشياء كاذبة، بأشياء لن تحدث ، كيفَ قد يبقى يحبّه؟ كيف؟
عند تلك النقطـة، لم يشعر بكفّيه التي حفرَت خصرها بعنف، بأنفاسِه التي تسارعَت والتهبَت أمام نحرها لتّذيبها بدأً من جلدِها وانتهاءً بعظامِها الذي تفتّت فجأة ، أظلمَت أحداقها ، ارتخَت كفوفها/تجمّدت وبرودةٌ قتلتْ مقدرتها على محاولَة دفعه عنها ، أفرجَت شفتيها ببهوتٍ وهي تشعر بِه يجتاحها بلمساتٍ حارقـة. كانت الصدمـة تلجمُ عقلها عن الاستيعاب وكأنّها لم تتوقّع أبدًا أن يأتِيها انفجـارهُ من هذا البـاب، أن يحطّمه دون بوادِر قدوم ، هكذا فجأة ، حتى أنّها فقدَت مقدرتها على الصد ، مقدرتها على المقـاومة . .
شدّها من خصرها إلى صدرِه وجسدها باتَ فجأةً كورقةٍ خريفيّةٍ جافّةٍ يستطيع النسيمُ تحريكها، فكيف بإعصارٍ كإعصارِه الآن! . . لم تكُن الرعشـة الخافتـة قد غادرتْ جسده، انتقلَت رويدًا رويدًا إليها، إلى جسدها الذي انتظـر للحظـاتٍ قليلة قبل أن ينفجـر فجأةً برعشـةٍ اجتاحتها ، شهقَت بهلعٍ وهي ترفعُ كفيها المرتعشتين بعد أن أدركت ما يحدث، أدركت انفجـاره، وأدركت أنّه غاضب .. غاضب ، وأراد ما يفرّغ بِه هذا الغضب ولم يجِد حوله الآن سواها ... سوى جسدِها !
وضعَت كفيها على كتفيه وهي تئنُّ بضعف، تنتفضُ كحمامةٍ بلّلها المطر، بللتها برودةُ قطرات، وابل ! كـان وابلًا وليسَ محضَ قطرات ، بلّلها بعنفِ سقوطِه من سماءِ القهر ... لا تريد ، لا تريد أن تُصيبه بنجاستها ، كلّ شيءٍ لا شيء! لكنّ نقاءه أكبـر ، أكبـر من أن تتقبّله وتلوّثه !! .. كان ليؤذيها كثيرًا أن يستخدمها كشيءٍ للتفريغ، لكنّ الأهم كان - هو ! هو فقط .. كيفَ تتركه يمضي فيما هو خاطئ؟!
حاولّت دفعـه بضعف، لكنّها لم تستطِع أمام قوّةِ جسدِه .. أغمضَت عينيها بقوّةٍ ودموعها فرّت رغمًا عنها، أحاطَت كتفه بإحدى ذراعيها، ومن ثمّ أمالَت وجهها إلى جانِب وجهه الملتصِق بعنقها، لامسَت بأنفاسها أذنه، وصوتًها المغروسِ في نبرةٍ كهلة اخترقَ فجوتها بخفوتٍ متداعِي، باختنـاق ، برجـاء : سلطـان اللي أعرفه .. أنقى من إنّه يفرّغ غضبه بهالطريقة وما يهتم لأذى غيره ...... أثق فيك ، أثق فيك ثقة الضرير بعصاه.


،


دخـل إليها في غمرةِ توحّدها بالهاتِف، كانت تحادِثُ هديل وتعدُها بأن " تحاول " القدوم إليهم اليوم، فهي لا تدرِي إن كـان أدهم سيوافق أم لا .. تجدُ نفسها رغمًا عنها ملزمـةً بالطاعة، مهما كرهته، مهما احتقرت بيئتها هنا، إلّا أنه حتى النهاية ، يُسمّى – زوجها -.
رفعَت رأسها ما إن سمعَت خطواتَه، عقدَت حاجبيها وهي تضعُ الهاتفَ جانبًا، وبتساؤلْ : مين جايّك بهالوقت؟
أدهم بإيجاز : صديقي.
إلين تقطّب ملامحها، تُميل فمها بانزعاجٍ وهي تمسحُ سطحَ الأرضِ بأقدامِها العاريـة : قلّة الذوق كانت عادة له واكتسبتها أنت منه وإلا العكس؟
ابتسم رغمًا عنه، لكنّه رفـع حاجبه الأيسر وهو يلفظ : أقول قومي لا أسمع حسّك .. مو من الذوق بعد تتعاملين مع ضيفْ كِذا.
إلين بانزعاج : وش تبي مني يعني؟
أدهم : غبيّة أنتِ وإلا وشو؟ قومي جهّزي الضيافة نعنبو بليسك وتقولين أنا السبب برسوبك؟
إلين تقفُ وحمرةٌ كسَت وجهها من شدّةِ حرجِها، وبحنق : وليه ما تقول عقلي طار مع الدراسة؟
أدهم : رقعي رقعي ..
إلين تنفخُ فمها بغيظٍ ومن ثمّ تتحرّك مبتعدةً باتّجاه المطبخ وهي تُتمتمُ بتذمّر : ثقيل دم أنت وصديقك المعفن ذا.
ابتسمَ دونَ تعليق، ومن ثمّ عـاد أدراجـه إلى المجلس.


،


" عسى بس فكّرتي تسمعين كلمتـي من غير عناد؟ طبعًا ما يفرق معي بس عشان نفسيتك. "
رمقتـه ببرود، وتلك الجملـةُ كـانت المفتـاحَ للثورانِ الذي تزعزعَ في صدرِها، وظهر بحلّةِ الانفجـار .. لا! لن تنفجـر، لن تنفجـر ، ستبقى كمـا هي ، ستبقى بالوضعِ الذي نتجَ عن تفاقُمِ بطشِه ، ما معنى العطـاءُ إن ردَّ عليه بالشحُّ في مشاعره؟ هو حتى لم يعترف، هو حتى لم تردعـه مشاعره! أبدًا . .
أشاحَت نظراتها ببرود، تنظُر للأرضِ نظرةً لا تعبيرَ فيها ، بينما تحرّك سيفْ دون تعبيرٍ حتى جلَسَ على الأريكـةِ المزدوجَةِ بجانِبها، وباستفزاز : تعالِي جنبي.
يدرك أنّها ستأتِي ، لأنّ أقـل من يومٍ لا يكفـي حتى تتمرّد، بالتأكيدِ ستعيشُ حالاتِ صراع، بأن لا تهتمَّ وأن لا تتأثـر ، وكـان توقّعه في محلّه .. انفرجَ فمه في ابتسامةٍ لم تفهمْ معنـاها وهي تقتربُ منه، تجلسُ بجانِبه دون أن ينبعثَ صوتُها بتعلِيق، تتوسّدُ حرارةَ جسدِه المنبعثـةِ منه ولا تلامسه، تضعُ كفيها على فخذيها، تنظُر لجانِب وجههِ الذي ينظُر للأمـامِ وابتسامةٌ ترتسمُ على شفاهِه بشفافيّةٍ انسكبَت من كلماتٍ خافتـة، من اختلاجاتٍ لم يلفظها حتى همسَت بتساؤلٍ جامد : وش تبي مني؟
ليلفظَ مباشـرةً وهو يوجّه نظراته إليها ببطء : كمّلنا أربع سنين.
ارتبكَت نظراتها رغمًا عنها، لكنها لم تُوضِح ذلك وهي تُشيحُ بأحداقِها عنه، لم تردّ عليه، بينما مدّ سيفْ كفيه ، ربّما بات الكبتُ عن مشاعرِه صعبًا بعكـس السابق، باتَ عائقًا أمـامَ بسمةٍ وراحـةٍ تكتنزُ فيه وتتشعّب ، باتَ يحبُّ أن يفضِي إليها بمشاعِره، أن ينطُق كلماتٍ تعني " أحبك " بطريقةٍ وأخرى. وضـع كفّه اليُمنى على ظاهرِ كفّها اليُسرى المستريحةِ على فخذها ، ليُردف بخفوت : عمرنا أربع ..
ديما بنبرةٍ باهتَة وهي تنظُر لكفّه التي خضعَت كفّها لها : أقل من نص سنة.
عقدَ حاجبيْه دون فهم، بينما رفعَت ديما عينيها إليه، لم تستطِع أن تكتُم السخريةَ في صوتِها، وهي تُردِف موضّحة : عمرنا كم شهر .. من يوم قلتها لي ، اللي قبل ما أشوفه عمر.
" من يوم قلتها لي " كـانت تعني مشاعِره ، أحبّك! .. أتـرى بأنّ البدايـة كانت هنـاك؟ حين نطقها؟ هل يعنِي الصمتُ أنّ الحيـاةَ لم تبدأ؟ أيُّ منطقٍ هذا !!
انبسطت عُقدةُ حاجبيه، لكنّ ملامحه كـان يظهر عليها عدمُ الرضـا ، لفظَ بجمود : ينطبـق هالمفهوم عليك وبس!
هزّت كتفيها بسخريتها ذاتها : مو مهم.
انعقدَ الصمتُ بينهما بعد جملتها البـاردةِ تلك، أمـال فمه بانزعـاج، ليقفَ أخيرًا وهذا الجوُّ الكئيبُ يخنقه ، لا يريد أن يغضبْ وهذا اليومُ في عينيهِ استثنائي، لا يريد أن يغضب !
تحرّك خطوتين فقط، وتلك لخطوتينِ كـانت كافية ، زمنُها الذي ولِد فيها كـان كافٍ لانفجـاراتٍ – هادئة -! لأنْ يتمرّد صدرها فجأة على العهود، لأن تنقضَ الوعودَ التي عقدتها مع كبريائها في يومٍ مـا ، لأنْ تخدعها عينيها في نظـرةٍ حزينة ، نحوه! وتغدر بها شفاهها بابتسامـة حسرة .. تفاقمَت حتى طالتْ صوتُها الذي لفظ .. بعدَ خطوتينِ – كافيتينِ – فقط : بمثل هاليوم ، في السنة اللي فاتت ... قدّمت لك باقة توليب أبيض بعد! وبخاطري كنت متأكدة، بيجي هاليوم من جديد ، ويكون ولدنا بيننا ، بسنته الأولى ، والرابعة لنا .... كانت الخطة قبل سنة يكون بيني يديني اليوم، ليه ماهو بين يديني اليوم يا سيف؟!


،


كـانت الأنفـاسُ بينهما هي العِمـادُ الأوّل للضجيج، ترتفع ، بانفعالاتٍ لا تهدأ ولم تكُن تريد هدوءً الآن ، ترتفعُ لأقصى مراحِل القسوةِ التي ضغطَت على صدرِه بعدَ همسِها الواهِن ، جعلته يبتعدُ ببطء، وملامحه تشحبُ وكأنّه استعـادَ وعيـه بعدَ غيبوبةٍ مرض ، ما الذي كـان يفعله؟ ما الذي شارفَ على ارتكابِه ! . . . ارتخَت كفوفه عن خصرِها، ليُسقطَها أخيرًا على السرير، ويبقى محاصرًا لها، بكفّيه، وبعينيه التي بقيَت معلّقـةً بوجِهها الباهِت، الغارِق في بحرِ عيون، هذهِ المرّة، العيون انفجـرت ، ليسَ حزنًا ممّا يصيبُ نفسها، بل بسببِي ! بسببي أنا !!!!
أغمـض عينيهِ بقوّة ، بينما كـانت أنفاسها تهدأ تدريجيًا، تنظُر لهُ بصمتٍ صاخِب ، رحلـة الشفاهِ تصرخ ، تصرخُ بصمت! تصرخُ بوجَع، بانهزام ، وإغماضـةُ أجفانِه تضاعِف من دمْعِها، من نزيفِ حنجرتها التي سكبّت كلماتًا مرتعشـة، واهنـة، تحمـل الرجـاء ذاته ، تحاول به أن تُخرسَ ألـم الذنب الذي تدرك أنّه اغتالَه الآن : لا تلومْ نفسك .. من البداية كـان لازم أسمع كلامك وما أقرّب منك.
ابتسَم بسخرية، وعينيهِ لازال يُغمضها عنها، يُخفِي الصخَب القائمَ فيهما بمجزرةٍ تكـادُ تلحقُ بهما معًا .. همسَ بنبرةٍ لا تعبيرَ فيها، وأصابعه تنقبضُ على المفرشِ الأبيضِ يفرّغ ما بقيَ من انفعالاته فيه : لا تبررين لي .. من البداية كان لازم ما أدخـل هالغرفـة وأنتِ فيها.
فتـح عينيهِ عند تلك الجملـة، وقبل أن تقرأهما كـان شفاهه تنخفضُ ليقبّل عينَها اليمنى، ويهمسَ مُردفًا بخفوتِ نبرته : آسف ... غزالـة.
ارتعشَت شفاهها وهي تقبِضُ كفّها فوقَ بطنِها، بينما ابتعدَ بملمَسِ شفتيه الدافئة عن عينيها، انتهى تظليل جسدِه لها ، عن شمسِ مآرِب للقـرب ، تتمنّى أن تبقى شاعرةً بملمسِ شفتيه على عينيها، على شفتيها ، على وجناتها ، تتمنّى أن يطُول العنـاق ، أن يطول! وينسى مسمّى الابتعاد، تتمنّى زخمًا لا ينفطِم بهمسةِ " غزالة " من فمِه .. تتمنّاه .. يا الله ما أقسـى أن تتمنّى شخصًا يتجاوزك، يتجاوزك بمراحل، ولا تستطِيع أن تظفر بمن هو أعلـى ، دائمًا .. الصعودُ على وتيرةِ التفاضل لن تنجح بِه ، ولن تنجح أمامه هو تحديدًا !
جلسَ سلطـان وانحنى للأرضِ يعودُ ليرتدي حذاءه بيدينِ منفعلتين، لم يستغرق ثوانِي حتى كان يمدُّ يده لهاتفه الذي كان على طرفِ السرير، ابتعدَ عنها بسرعةٍ نحو البـابِ دون أن ينطقَ بشيء ، ولم تملك هي أن تقول شيئًا له في هذهِ الأثناء.

خرجَ من الغرفـة ، في نفسِ اللحظـة التي كـان يرنُّ بها هاتفه معلنًا اتّصالًا آخر من عنـاد، تنهّد بوجـعِ الاعترافاتِ التي هزمته ، هزمته أخيرًا ، لن يستطِيع أن يكابـر أكثر على اهتمامِه بجانِب الذي عـاش في كنفِه طيلةَ تلك السنين ، ليس المجرم، بل الأب !
ردّ مباشـرةً عليه، وقبل أن يلفظَ عناد شيئًا كـان سلطـان يسدُّ مخارجَ أحرفِه بصوتِه الذي انبعثَ باستسلام، بيأس : مرنِي .. ما أظن بقدر أسوق الحين.
اتّسعت عينا عنادْ في بادئ الأمـر بصدمـة، ومن ثمّ أرخى أجفانه قبل أن يلفظ بشك : بتروح له؟
سلطـان يُغمضُ عينيهِ بخزي، يعاتبُ نفسه ، يعاتب ، لكنّ العتبَ يقضِمه بأسنانِ الاهتمـام رغمًا عن أنفه ، نطق أخيرًا مستسلمًا إلى رغبـةٍ برؤيتـه ، وأن يكون قريبًا ، قريبًا منه ، أن يكونَ بجانِبه ، ويدعو له .. يدعو له يا الله رغمًا عن كلّ شيء! : أيـه.
ابتسمَ عنـاد بصدمـة، لكنّه لم يملك الوقت الكافي للتفكير والتحليل، لفظَ بنبرةِ عجل : أنا قريب منك الحين.


،


" فيك شيء مختلف اليوم! "
نظـرت جيهان بعينينِ تائهتين للطبيبةِ التي قرأت بهتـان أحداقها بوضوح، شتت عينيها بربكة ، وهي تدرك أنّها لا تفعل شيئًا سوى الانسلاخ من غلافها أكثر وجعلها تقرأ اختلاجاتَها المضطربـة ببساطةٍ أكبـر.
ندى بهدوء : زعلانة ، وبنفس الوقت فيه جانب مبسوط فيك ... * بشك * شفتيه؟
ارتبكَت، وبدأت أحداقها تتشتّت في جوانِب بيضاءَ لم تشُبها رماديّةٌ كالتي تنهالُ على عينيها، همسَت بغصّةٍ وهي لا تنظُر نحوها، بصوتٍ يَحتدُّ بعض الشيء برفض، ان تدرك أنّها شعيدة! لأن جزءًا صغيرًا منها ارتوى برؤيته، وحزينةٌ أيضًا، لأنّه بعيد! : لو سمحتِ دكتورة ندى .. هذا ماله دخل بموضوع شغلك!
ابتسمَت ندى لتلفظَ دون أن تفقدَ بسمتها : شلون؟ وأنا مرّات من غير لا أسألك عنه تبدأين تحكين بنفسك .. وعلى فكرة ترى ما أذكر إنّي سألتك عن اسمه، أنتِ اللي قلتيه مرّة لي وأنتِ تتكلمين عنه ..
شعَرت بالحرجْ، انتبهت لأسلوبها الذي كـان فظًا معها ، ابتلعَت ريقها، ومن ثمّ وجهَت عينيها إليها لتهمسَ بأسفٍ كـان بعيدًا كل البعدِ عن الهدوء، كـان يصرخُ بألمٍ هادئ، بنبرة خافتـة، لكنّها تُزعجُ - العيـان - بموجاتِها التي تُشوّشُ مستحاثّاتِ الإنابة على فرحْ! : آسفة.
ندى ببشاشة : لأيش؟ مافيه شيء يستحق الاعتذار .. عمومًا يا حلوة خلينا بعيدين عن ذكر فواز ... وقوليلي أنتِ .. شلونك؟
رسمَ اسمـه بسمـةً في شفاهِها، وعبُوسًا في عينيها، تمايلَ حاجبيها وهي تُخفضُ نظراتها للأسفل، تتلاعبُ بأطرافِ أصابعها على ركبتيها، هامسـة : نص نص.
ندى : عشان يروح ربـع من النص اصلبي ظهرك وخلّي عيونك في عيوني وتكلمي وأنتِ تناظريني أنا.
رفعَت وجهها بتردد، ابتسامتها تلكْ كـانت ترتعدُ كأصابِع من الانهزامِ لفّها ريحُ شتـاء، تلاشَت أخيرًا حين وقعَت عينيها على عيني ندى، لتشتّتهما في النهاية دون شعور.
زفرَت تلك بهدوء، ومن ثمّ لفظَت : شويّة ثقة ، وبترتاحين.
جيهان بنبرةٍ متداعيةٍ بخفوتها : أمس لما كلّمتـه كنت حاطـة عيني بعينه.
ابتسمت ندى رغمًا عنها ما إن عادَ عقلها يبحرُ إليه لتتحدّث دون شعورٍ عنه، وبهدوءٍ تجاريها : بأي ظرف كلّمتيه؟
جيهان ترفعُ عينيها إليها، لم تستطِع أن تمنـع كفيها من الانقبـاضِ انفعالًا، ربّما الحديثُ بهذهِ الشفافيّة مع أرجوان لا يروق لها، أن تتعرّى من كلّ شيء! من كلِّ شيءٍ حدّ أن تعترفَ بأنها ضعيفة، وبأنها مخطئةٌ مثله، وبأنّها حتى الآن لازالت تريده ، لكنّ هذا الحديث، بات أسهل هنا! بطريقةٍ لا تعرفها بات أسهل : كنت معصبـة .. وأبي أقهره!
ندى وابتسامتها تتّسع حتى ظهر صفُّ أسنانها : يعني يبيلك بس تعصبين عشان تحطين عينيك بعين اللي قدامك؟
جيهان تُميل فمها بغضبٍ مكتوم، نظرت لما خلفَ كتفِ ندى مباشرة وهي تهتفُ بنبرةٍ حادة : دايم كنت أحط عيني بعينه .. لأنّه دايم يعصبني !
ضحكَت ندى بخفوت وهي تدرك أنّها فقط تبالغ : طيب ما يصير بس تحطين عينيك بعينه وقت ما تكونين معصبة ! بكل الأحوال حاولي ما تتكلمين إلا وأنتِ بهالوضعية ، عشان تثقين بنفسِك أكثر.
شردَت قليلًا إلى ملامِحه ، إلى ملامح البارحـة، وتضاريسِه التي لم تَكفِها الأشهر القليلـة حتى تتغيّر، لمَ تشعر أن أعوامًا هي التي مرّت وليسَ مجرّد أشهر؟! . . تاهَت نظراتها، وتنهّدت ، لتلفظَ أخيرًا بخفوتٍ تائه : أحـاول . . .


،


تلفُّ أصابِع يدها على عضدِ يوسف، شـاردة، تنظُر للأسفـل ، هذ الطريقُ طُبـِعَت عليه خطواتٌ عديدة، قد تكون من ضمنها خطواته ! . . زمّت شفتيها وصدرها ينتفـخُ بالأكسجينِ الموبوءِ برائحةٍ تلاشَت له ، لم تشمّها، لكنّها متأكّدةٌ من أنّ رائحته عبـرت هنا، وتنفّس في هذا المكان ! . . . يكفي! يكفي! .. تريد أن تصرخ .. يكـــــفـــــــــي !! ليخرج من عقلها، من قلبها ، تكفِي هذهِ الأشهر التي حملَت فيها ضريحَ راحتها على كفوفها عن سنين! هذا العـامُ كم تكرهه ، كم تكرهُ ولُوجَه في حياتِها .. عامُ حزن ! أيكفِي هذا المسمّى؟! عـامُ حزنٍ يا فـوازْ وأنا النبيّ الذي فقدَ في عامٍ اثنين ، أمّي وأنت .. أمّي وأنتَ فكيفَ أحمـل هذا الضريحَ ولا يكُون فوقي؟ كيف أحملُ ضريجَ راحتِي ولا يكون ضريحي أنا ! ليتَ الحزن يقتـل ، يريحنا من هذا العذابِ الصامت ، يكتفي عن إيصالنا لأطرافِ الموتِ وقبل أن نلامسه يجتذبنا بعيدًا عنه !
كـانت أقدامهم قد ترازنَت مع البـاب، وصلوا حيث المبنى، لكنّ يوسف توقّف فجأةً بربكةٍ ما ، عقدَت حاجبيها، كــانت تنظُر للأرضِ التي تضيقُ ولا ترى سوى ظلالهم ، لكنّها رفعَت نظراتها حينَ لحظَت وقوفه وحتى أرجوان التي كـانت تمشي على جانِبه الآخر ومعها ليان توقّفت وهي تنظُر جانبًا بصمت ! . . . ابتلعَت ريقها فجأة ، وتشتّت عينيها بإجفالٍ وهي ترى فواز يخطو نحو البـاب كي يخرج ، عـادت تنظُر للأرضِ وهي تتنفّس بسرعة، وكفّها دون شعورٍ شدّت على عضدِ يوسف ، ما معنى هذا الظهور وهو الذي لم تكُن تصادفـه لأشهرٍ في هذا المكـانِ رغمَ أنّه مشتركٌ بينهم ! .. شدّت على أسنانها بحنقٍ وهي ترفَعُ أحداقها بعدَ أن تذكّرت كلمـاتِ الطبيبة ، ألن تنظُر لعينيه إلا في حال الغضب فعلًا؟ .. لاكَت مقاصِد الطبيبةِ بأخـرى ، تربطُ كلّ المواضيع بهِ هو ! تولجـه في أدقّ التفاصيلِ التي ينبغي أن تتبنّاها لأجلها هي ، لأجلها هي فقط !
ارتخَت كفّها عن عضدِ يوسف الذي زفـر وهو يحاول أن يجعل تواجده عاديًا رغم أنه يدرك أنّه بعيدٌ جدًا عن هذا المُسمّى بالنسبةِ لها ، لكنْ في كلّ الأحوال كثيرًا ما سيحدثُ ذلك ، وعاجلًا أم آجلًا كـان الصدامُ ليأتي ! .. تحرّك وهو يتجاهـل فوّاز الذي لم ينظُر ناحيتهم منذ البدايـة وكـان هو بدورِه يتجاهـل النظـر نحوها بعكسِها هي .. والتي قرّرت في البدايـة أنّ نظرتها ستكون حادّة، قويّة، لكنّها لانَت رغمًا عنها ، وباتت تطوفُ في تقاسِيم وجهه بشغفٍ وشوق، تلك اللئيمةُ تلامسُ بعينيها وجهه كلّ يوم ، آآخ كم تتمنّى لو تحيط عنقها بكفّيها وتسحقه ! .. لحظة ، هل أصبَحت تعيشُ معه هنا؟ .. عقدَت حاجبيها بصدمةٍ عند تلك الفكـرة ، وارتحلّت أفكارها إلى تفاصِيل لم ترى أنّها وقحةٌ في التفكير بها ، لا شيء يثبت أنّها هنا ، ولا يعقل أن فواز يعيشُ في مكانٍ آخر ! ما الذي يثبت لها أصلًا أنها لا تعيشُ هنا؟! بالتأكيد فهو تزوّجها منذ أشهرٍ طويلة، وعدم رؤيتها لها هنا ليسَ بالضرورةِ يعني أنّها ليسَت معه ، تنام على سريره ، والتي نامَت هي عليه قبلًا !!! . . . تسارعَت أنفاسها فجاة، وغابَت ملامح فوّاز عنها حينَ حلّ الظـلامُ أمامها، لم تعد ترى شيئًا ، سوى أنّ أفكـارها تجسّدت لها ، تلك الجميلة اللئيمة! تنهضُ كل صباحٍ لترى عينيه، قد يكون نائمًا فتُمعـن في تأمّل ملامحه، أو مستيقظًا فترى إشراقها .. تلك اللئيمة يقبّلها كما كان يقبّلها هي ! أنثـاه الأولى ! يا الله!! كيفَ يحدث أن تكون أنثـاه الأولى وهي ، وهي ماذا!! . . . احمرّت ملامحها بغضب، ليسَ خجلًا ممّا توصّلت إليه بحجمِ ما كـان غضبًا ، قهرًا، غيرةً شعواء ، ستنفجـر ، ستنفجـر ... الخــائن!
لم تسمـع صوتَ ليـان الذي كـان يتمتم بكلماتٍ عديدةٍ لأرجوان عنه! مستنكرةً عبورهُ من جانِبهم دون أن يلفظَ بشيء، دون أن ينظُر نحوهم، ودون أن يستجيب لنداءاتِها حتّى! .. لم تنتبه إلى كونِهم وصلوا لبـابِ شقّتهم، كـانت تشدُّ على أسنانها وتتنفّس بقوة، شعـرت بها أرجوان ، وبالتأكيد شعر بها والدها .. لفظت أرجوان بحرجٍ محاولةً أن تنبّهها على انفعالاتِها التي ظهرتْ مليًّا أمامهم ولم تستطِع أن تُخفيها، الانفجـار الذي خشيَه يوسف منذ رأى فواز وهو يدرك أنّ ابنته بالتأكيدِ لم تتجاوز فواز حتى هذهِ اللحظـة : جيهــــان.
نظـرت لها جيهان بضيـاع، عقدَت حاجبيها وكأنها كانت غيرَ متأكدةٍ من كونِها نادتها، بينما قطّبت أرجوان ملامحها وهي تُشير لها بعينيها إلى والدها، وتلقائيًا ارتفعَت نظراتها إليه ، لترتبك ، وتخفضها تلقائيًا بألـم ، تغلغلَ فيها حدَّ أن تكون بهذا الوضوحِ أمامهم ، لا تستطِيع ، لا تستطِيع أن تسيطِر على نفسها أكثر !
شدّت قبضتيها ، متى تركت عضد والدها ! لا تدري !! . . . مشَت للداخـل بصمت ، لم تحاول أن تنظُر ليوسف حتى ، بل تحرّكت بخطواتٍ متّسعة .. إلى غرفتها مباشرة!

من جهةٍ أخـرى ، زفـر بهدوءٍ هو يدسُّ كفيه في جيبيه، يومين تتابعا رآها فيهما! ليكن صريحًا مع نفسِه أكثر ، هو من تعمّد رؤيتها له اليوم! ما إن انتبـه لهم يقتربُون من المبنى عبر النافذة حتى تحرّك نحو البـاب مباشرةً وبعجل ، لا يدري لمَ فعل ذلك ، لكنّه فقط ، أراد أن تصتدمَ عيناها بِه وإن لم ينظُر لها حتى ! .. لم يعُد يفهم نفسه ، لمَ فعل ذلك؟ أليُثير مشاعرها أكثر؟ ليجعل الحبَّ في صدرِها يُحفّز نفسه أكثر؟ أم لينظُر لها عن قرب وحسب؟ لكنـه لم يسقِط نظراته نحوها حتى !!!
مرّر لسانه على شفتيه، ومن ثمّ تمتمَ بحيرة ، يشتمُ فيها نفسه : وش اللي تبيه أنت بالضبط يا غبي !!!!


،


يتّكئ على الجدارِ الأبيضِ البـارد، يكتّف ذراعيه، وعينـاه البائستينِ تنظُرانِ لعنـاد الذي كـان يقفُ أمامه مباشرةً ويتحدّث مع رجل – عرفَ أنّه الشاهدُ على ما حصل -. يصله صوتُهما، رغمًا عنه كـانت حواسُّه منسجمـةً مع الحديث، بالرغم من ملامِحه الباردة إلا أنه كـان يُمعن في السمـع ليفهم ما يُقال كلمةً كلمة.
: للحين حالته نقدر نقول عنها مستقرة .. هذا اللي قاله الدكتور، بس بنفس الوقت ما نقدر نضمن إنّه ما يصير له شيء .. الضرب كـان على مؤخرة العنق بشكل مباشر، متخوفين من فكرة إنّ الضرر وصل للنخـاع، وممكن يتسبّب بأمور لا يُحمد عقباها.
صمتَ عنـاد قليلًا، بينما أغمض سلطان عينيهِ بقوّةٍ وهو يشدُّ على ساعديه، عضلاته تكاد أن تنفجـر، أصابعه تكاد أن تتحطّم من شدّةِ ما يضغطُ عليها .. كـان يريد أن يسأل، أن يعلـم بالتفاصيل ، لكنّ الكثير كـان يمنعه، وأوّله العزّة بوالِده ، أن يخونه لأجـل آخر " زائف "! يكفيه هذا الحد، لا يستطِيع أن يقوم بالمزيد، لا يستطيع !
لفظَ عنـاد بعد رحلـة صمتٍ دامتْ ثوانِي : الضرب كان بأيش بالضبط؟
: قضيب حديدي .. مرّتين .. والثالثة كانت بالطريق لو ما مسكته .. * ابتسمَ محاولًا تلطيفَ الجو * بس بالمقابل طبعًا حصّلت ضربه على كتفِي وقت ما كان يقاوم قبل لا يهرب.
ابتسم عناد بامتنان : تدري إنّ الثالثة هذي كـان ممكن تكون القاتلة؟ يعني لو طلع منها بخير، فالفضل يرجع لك بعد ربّ العالمين.
: لو صار له شيء لا سمح الله بلوم نفسي بعد .. كنت شايف اللي صار من أول ما وقف وراه ، بس بطئي ما خدمني.
وضـع عناد كفّه على كتفِه، شدّ عليها وهو يبتسم : مشكور .. الله يجزيك بالخير عاد تحمّل الإجراءات بتغثّك ..
ضحكَ الآخر : أدري .. هذا إذا ما جاء الشك حولي.
عناد بثقة : ماراح يجي .. متأكد.
: الله يسمع منّك.
شتّت عناد أحداقه لتسقطَ على سلطان الذي أشـاح وجهه مباشرةً بصمت، جمودهُ غريب! لم يكُن يدرك في ذاك الوقت أنّه ناتجٌ عن اكتشافاتِه اليوم ، ناتجٌ عن صدمتِه من ذاتِه ، بعدَ أشهرٍ طويلـة ، كـان فيها قد تأكّد من حلولِ الكره ، من حلولِ كلّ المشاعِر السلبيّة تجاهه ، تأكّد من احتقارِه له، من كرهه، من حقدِه ، واليوم من سقطَة! تـداعى كلّ شيء!!
اقتربَ منه عنـاد ليقفَ أخيرًا بجانِبه، وقفَ مثله تمامًا، اتكأ بظهرِه على الجدارِ وكتّف ذراعيه ، كتفه استشعرتْ تشنّج كتفِه بجانِبه ، جسدهُ كلّه كـان متشنّج ، لحظَ شدّه على أطرافِه ، على ذراعِه، حينها تنهّد لينظُر للأمـام ويلفظَ بهدوء : محد يقدر يلومك على شيء .. سواءً تمنّيت موته أو لا.
سلطـان ببرود، يُخفِي رعشـة نبرتِه، تداعِي الكلمـاتِ من شفتيه، يخفي كلّ مشاعره التي تكسّرت فوقَ سكّةِ ما حدَث له اليوم : ما يهمني بكلا الحالتين .. لو مات برتاح ، وبنفس الوقت لو ما مات بكون أسعد .. عشان يتعاقب بطريقة أقسى !
عناد بصوتٍ لازال يحتفظُ بهدوئه : احتمال كبير يصير ينشل وأقدر أقول بنسبة تتجاوز الـ 80% !
ابتلعَ ريقه بصعوبـة، وعقله راح يتخيّل سلمان بعدَ كل تلك السنين ، يفقدُ قوّته، صلابتـه التي اعتادَ عليها ، عقله راح يتخيّله مقعدًا ، ضعيفًا ، لا حول لهُ ولا قوّة! .. عضُّ زاويـة شفتِه السٌفلى بقوّةٍ حتى كـاد يُدميها، يعاقبُ نفسه بالألـم، لن يعودَ للصحوة سوى بالألم، بالمكابرة أكثر .. وهو ينطق بقوّةٍ حاقدة : قليلة عليه.
تنهّد عنـاد، ومن ثمّ أدار وجهه ناحيته، ليلفظَ بهدوء : تعال نجلسْ بمكان هادئ عشان تريّح عقلك شوي .. ماراح نعرف إذا بيصير له شيء إلا إذا صحى ، وواضح الوضع مطوّل.


،


في الليل ..
ألقـى نظرةً سريعةً على أمّه ، كـانت تجلِسُ أمام التلفـاز ، تبقى وحيدة ، لا تريد قربه كما توضّح له، ومن الجهـة الاخرى باتَ يخشى عليها فأسيل لم تعُد معها ، البارحـة تركها لساعاتٍ طويلة ، وبالرغمِ من سعادتـه إلا أنّه عندما اختلا بنفسِه ظلّ يلوم نفسه طويلًا ، لا يستطِيع أن يبقى معها طيلة اليوم ! ما الذي يجب عليه فعله بالضبط؟ أيحضر لها ممرّضةً أخـرى من بعدِ سوزان؟ .. عقدَ حاجبيهِ وهذهِ الفكـرة لا يستصيغها، وهي أيضًا بالتأكيد لن ترضى وستغضبُ منه أكثر فهذهِ رسـالةٌ بأنّ أسيل لن تعود! ... ابتسم بأسى، من قـال أنها لن تعود؟ عاجلًا أم آجلًا يجب أن تعود ، لكنّها ستكون زوجـةً لآخر ، ليسَ له !
تحرّكت أقدامُه قبل أن يخرج وهاتفه يُضيء باتّصالِ متعب الذي كـان يقفُ قريبًا من المنـزل، دسّه في جيبِه بعدَ أن أنهى الاتّصال، ومن ثمّ تابـع خطواتُه إلى أمه، وما إن وقفَ بجانبها حتى لفظَ بحنـان : حطيت لك العشى بطاولة المطبخ ، أدري عنّك ما كنتِ تبين تآكلين معي.
لم تردّ عليه، لكنّه لم يستسلمْ وهو يلفُظ بصوتٍ أكثر حنانًا : يا رب ما أهون عليك أكثر!
لم يجِد منها ردًّا حتى الآن، كـان يريد أن يتـابع، أن يقول لها " جايّك خبر حلو قريب " لكنّه وجدَ أن ذلك قد يكون خطأً، ليسَت الطريقةُ المُثلى في التهيئة ، ليسَت الطريقة المثلى! . . تحرّك مبتعدًا عنها بعد تنهيدةٍ طويلة، وهاتفه يرتفع من جديدٍ معلنًا اتّصال متعب مرةً أخرى، في اللحظـةِ ذاتها التي رفعَت فيها عُلا هاتفها الذي كان قد اهتزَّ بجانبها، انتظـرت حتى خرج شاهين، ومن ثمّ ردّت بنبرةٍ هادئة : السلام عليكم.

في الخارج، أوقفَ شاهين سيارته قريبًا من حيثُ كان يقفُ متعب الذي اقتربَ وفتح البـاب ليصعد ، وقبل أن يُلقي السلام استدارَ ينظُر لهُ بحدّةٍ وهو يرفعُ حاجبه الأيسر : ممكن أفهم حضرتك ليه قفّلت بوجهي؟
ابتسمَ شاهين وهو يحرّك السيارة : كنت أحكي مع أمّي.
لم يستوعِب أنّ لسانه في تلك اللحظـةِ قد " زلّ "، ارتبكَ مباشـرةً بعد ما قـالـه، بينما صمتَ متعب دون فهم، انهـال عليه الشوقُ بحمَمِه ما إن نطـق كلمة " أمّي " لكنّه بالمقـابل استغرب، أمـا كانت فرصـةً ليسمع صوتها؟ لمَ لم يرِد الردَّ عليه في تلك اللحظة؟
لم ينظُر شاهين نحوه وهو يشتّت عينيه بالطريقِ ويبتسم ابتسامةً كـانت مرتبكة، وبنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا حاول بها أن يشتّت عقله عن موضوعِ أمّه بالرغمِ من كونِه لن يستطيع مهما حدَث : ليه متلثّم؟
متعب يرفعُ كفّه ليفكّ اللثمـة بعد أن خرجوا من الحيّ الذي سكنَ فيه ، بعدَ دقـائق طويلةٍ تأمّل فيها المنـزل ، تأمّل فيها الزوايا، هل تصدّعت؟ هلْ بهتَ لونها أم تغيّر؟ هل تحرّكت زاويـةٌ نحوَ المشرِق حينَ ضلّ عنها؟ أم أخـرى نحو المغربِ حين استنكـرت الغيـاب، استنكرَت عدمَ سمـاع اسمه يتردّدُ فيها ، نحو المغـرب ، لأنها شعرت .. أنّه هناك !
أظهـر وجهه ومن ثمّ مسـح عليه بعد أن كـان تلثّم للحيطة، فإن لم تتصادم ملامحه مع أحدِ معارفـه القدامى في شوارِع الريـاض فبالتأكيد سيحدثُ في هذا الحي! . . . هتفَ بصوتٍ باهِت ، يتجـاهل الإجابـة عن سؤاله، ويباغتـه بسؤالٍ آخر، فاتـر، متداعِي : ليه ما تبيني أسمع صوتها يا شاهين؟
اتّسعت عينا شاهين بصدمـة، نظـر نحوه بسرعة، ومن ثمّ أعاد نظراته نحو الطريق، ليلفظَ باستنكارٍ عاتِب : رجعت تظن فيني سوء؟!!
متعب بصوتٍ احتدّ فجأة : لا .. بس وضّح لي ، أنت اللي لا تخلي ظنوني تروح للخطأ ! .. ليه ما كنت تبي ترد علي وأنت تدري إنّي أبي أسمع صوتها؟
شاهين بتبريرٍ كاذب : ما تمشي! تبيني مثلًا أفتح الخط وأظل ساكت قدامها؟ خطوة مفضوحة.
شعرَ بالغضب، أيظنُّ أنه غبيٌّ ليُملي عليهِ عذرًا كهذا؟ لم يكُن في هذهِ اللحظـات يظنُّ بِه سوءً بحجمِ ما استنكرَ وهو الذي يدرك أنّه متلهفٌ لسماعها! كان يستطِيع فعل أيّ شيء، فلمَ لم يحاول؟ .. لفظَ بصوتٍ غاضِب يتباينُ بألوانِ الغيظ : لا تتذاكى علي! أعرفك لو كذبت تظن ثلاث سنين بتخليني أجهلك؟
ابتسمَ شاهين رغمًا عنه بغيظ : اللي خلاك تصدّق فيني بيخليك تجهلني.
أدارَ رأسه إليه وصوته ارتفـع فجأةً بقهر : مو هذا موضوعنا .. وبعدين لا عاد تعاتبني وأنت قايل إنّك منت مهتم قبل! قولها وارتاح ، قول إنّك ما سامحتني وانتهى الموضوع بس بطّل تناقض نفسك بهالشكل البايخ!
شاهين وصوته يرتفـع هو الآخر : عن المبزرة متعب ! أنت شايف الظروف من حولك؟ لا تقعد تفسّر كل شيء على كيفك .. إنّي ما أبيك تسمعها ما يعني إنّي كذاب وإنّي . . .
قاطعه متعب بحدة : تعترف إنّك ما تبيني أسمعها يعني؟
شاهين يعضُّ على شفته، لم يردَّ عليهِ وهو يشدُّ بقبضتيه على المقود، لو تحدّث أكثر سيتضاعف غضبه، وربّما سيفضح الأسبـاب، أنّه لا يريد لاسم أسيل أن يلجَ الآن فتبدأ أحاديثُ لا يريدها ، لم يكتفِي بعد ، لم يكتفِي بعدُ من هذا الفـرح ، لا يريد للأحزانِ أن تبدأ، للنتوءاتِ أن تبرز أكثر فيتعرقلانِ فيها، لا يريد لكلّ ذلك أن يبدأ من جديد!
استفزّه أكثر صمته، وتأكّد من أنّه يخفِي شيئًا ، لم يفكّر للحظـةٍ أن يكون لأسيل دخلًا في كلّ ذلك ، لم يستطِع أن يتوقّع سببصا، لذا غضب أكثر ، فشاهين لن يضمر لهُ الشر، لكنْ لمَ؟ . . . هتفَ من بينِ أسنانه وجهلهُ يكادُ يجعله ينفجر في هذهِ اللحظـات : شاهين تراها قافلة معي ... ليه ما تبيني أسمع صوتها؟ وش بيصير وأنا أكيد مستحيل أحكي وأفضح نفسي بهالطريقة ، تراني أخاف عليها ويمكن أكثر منك بعد !
زمّ شفتيه، وقرّر عدمَ الردِّ أيضًا ، وفي تلك اللحظـة انفجـر متعب ، فتـح فمه يستعدُّ للحديث ، وهذهِ المرّة بصراخٍ غاضب، وليسَ بمجرّدِ صوتٍ يرتفـع .. لكنّ صوتَ هاتِف شاهين في تلك اللحظـة انقذه من تشابك الخيوط وربّما الضغط عليه حتى يجدَ نفسه يلِج في موضوع أسيل في النهاية ! .. رفعـه، بينما عضّ متعب شفته السُفلى وهو ينظُر لكفوفِه المنقبضَةِ على حجرِه بحنق، لحظَ هدوءَ شاهين الذي طـال ليرفعَ وجهها ويجده ينظُر للهاتِف باستغراب ووبعضٍ من الصدمة، استنكـر ، وعقَد حاجبيه وهو يلفظُ بحيرةٍ حادةٍ بعض الشيء : شفيك؟
شاهين يرفعُ نظراته نحو متعب وهو يمرّر طرفَ لسانه على شفتيه بربكة، هل يردّ؟ لكن لمَ قد تتّصل؟ هي لازالت غاضبةٌ عليه! لمَ قد تتّصل بِه؟ شعـر بالحيرةِ تغتاله، اتّصالها يعني أنها رضيت! لكن .. ماذا لو كانت تريد أن تتحدّث عن أسيل! .. كـان ليتمَّ الأمـر في المنـزل وليسَ بعدَ خروجه .. هل يردّ؟ لكن ماذا لو كـان حدثَ لها شيء !! ... عند تلك النقطـةِ أصابه الذعـر ، ووجدَ كفّه ترتعشُ بقوّةٍ وهو يوجّه نظراته نحو الهاتف، كاد يردُّ لكنّ متعب لم يمهله وهو يمدُّ كفّه بسرعةٍ خاطفـةٍ بعد أن زاوله الشك من صمتِه الغريبِ بعد الاتصـال ، نظر للهاتف في اللحظـة ذاتها التي ارتفعَت بها زجـرة شاهين الغاضبة والذي فقد صبره من تصرّفاته : متــــــــــــعـــــــــب !!!
شدَّ متعب الهاتف بغضب ، كانت هي ! هي!! .. سمفونيّة الصوتِ التي انتظـر سماعها، هي ! .. نظـر لشاهين بغضب، ومن ثمّ عـاد ينظُر للهاتِف، لا وقتَ للعتـابِ الآن، لا وقتَ للاستفساراتِ الفارغـة ، امّه اتصلَت ، والهاتف في يدِه ، ما الأجمل من ذلك الآن؟ من كونِه سيسمـع صوتها الذي اشتاقه، والذي غـاب ، غــاب لزمن ، غاب طويلًا ، طويلًا يا أمّي!
قرّر أن يُجيب ويضع شاهين في وجه المدفـع، أداره ظهره وهو يمسكُ كفّه التي كانت تريد أن تسرق الهاتفَ من يدِه ، ومن ثمّ أجـاب .. وكبّر الصوتَ مباشرة ، لينبعثَ صوتها ، ملهوفًا ، متسارعَ الأنفـاس ، ملهوفًا ، لكن ليسَ كلهفتِه ، متسارعَ الأنفاس ، وليسَ كمثلـه ، يكـادُ يكونُ قتيلَ اختنـاق ، يشهقُ بالهواءِ بطريقةٍ صامتة، لم تُسمـَع لها، لكنّه في تلك اللحظـة .. كاد يموتُ اختناقًا وحسب !
: شاهــــين . . .
ابتلـع شاهين ريقه بعد أن وصَل صوتُها إليه ، كـان غاضبًا ، لكنّه في المقابـل لم يملك حيلةً ليفعـل شيئًا، وجدَ نفسه محشورًا بالرد، وهو يتمنّى في داخلـه أن تكون اتّصلت عليه لسببٍ بعيدٍ عن أسيل ، ألا تلفظَ اسمها الآن ! . . ردّ بنبرةٍ كبتَ فيها غضبـه، لم ينظُر لردّة فعـل متعب بعدَ سماعِه صوتها، وهو يردُّ بخفوتِ صوته : نعم يمّه.
علا بصوتِها الملهوفِ والذي يتضاعفُ علوًّا بفرحتها : مرتك ، مرتك أسيل حـــــــــامـــــــل !!!

.

.

.


انــتــهــى


موعدنا القادم الأربعاء إن شاء الله ، وبإذن الله بيكون كبير في الكم وليس فقط بالمشاعر.

عاد ما نبي تحلطمـات على الوقت اليوم ، عيوني أحس بتطلع من محاجري من مقابلة اللاب :( -> مو أقول طولت بالكاتبة ؟:/


ودمتم بخير / كَيــدْ !

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 25-07-16, 06:52 AM   المشاركة رقم: 863
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئة مميزة


البيانات
التسجيل: Sep 2010
العضوية: 190192
المشاركات: 574
الجنس أنثى
معدل التقييم: أبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 748

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
أبها غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 

يعطيك العافيه يا كيد مافي قصور منك أبد ..

جزء رائع كالعادة ..

وكلنا لهفة لمعرفة ردة فعل شاهين ومتعب على
الخبر المفاجيء ( أسيل حامل ) !!!!
ومن قبلها كنا نريد معرفة الحكم الشرعي لمثل
حالة أبطالنا . ما هو حكم زوجة المفقود إذا ظهر
بعد مدة طويلة وقد حكم بوفاته وتزوجت بآخر ؟؟
طبعا في حالة كون أسيل حامل حقيقة ، سيكون
الموقف قد ازداد صعوبة وتعقيدا ،، وأرجو أن لا
يغير ذلك في العلاقة بين الأخوين .

سليمان .. لم يمت .. خيرة ، لعله حين يفيق يسرد
لسلطان حقائق خفيت عليه ، وتبين برائته .

شكرا كيد .🍃🌸🍃

 
 

 

عرض البوم صور أبها  
قديم 27-07-16, 06:18 PM   المشاركة رقم: 864
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 




سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية.


بارت دسم دسم وأشوفه طويل ومن أقرب البارتز لقلبي :$ ، شبـه شامـل للشخصيات فـ إن شاء الله يعجبكم ويكون عند حُسن الظن ()

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ،

بسم الله نبدأ ، قيود بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات

من أنت كيف طلعت في
دنـياي ما أبصرت فيا
فـي مقلتيك أرى الحياة
تـفيض يـنبوعا سخيا
وأرى الـوجـود تـلفتا سـمحا
وإيـماء شـهيا
ألـممت أحـلام الصبا
وخـلعت أكـرمها عليا
مـهلا فـداك الـوهم لا
تـرمي بـمئزرك الثريّا
أنا في جديب العمر أنثر
مـا تـبقى فـي يـديّا
عودي إلى دنياك واجني
زهـرها غـضا زكـيا
يـكفيك مني أن تكوني
فـي فـمي لـحنا شجيّا


* عمر أبو ريشة

(77)*3




خمسةُ أحـرف ، خمسةُ أرقامٍ من كلمـة ، خمسةُ مفاهيم ، راحة، سكينة، فرح، شوق، وحُب . . خمسـة ، يجتمعونُ في صوتٍ لم يتبدّل ، لم ينسـاه، ولن ينساه وكيفَ يقوى؟ كيفَ يستطِيع الانسانْ أن ينسى صوتَ أمّه، أن ينسى الصوتَ الذي كـان يسمعهُ وهو في منزِله الأول – رحمُها، كيفَ ينسـاه؟ وكيفَ لا يُغمـض عينيه الآن، ويعيشَ نشوةً من اشتيـاق ، لم أرتوِي، لم أرتوِي بعد .. تحدّثي أكثر ، كلمةٌ واحدةٌ لا تكفي ، " شاهين " وحدها لا تكفيني حتى أروِي عطشي إلى صوتِك .. تحدّثي أكثـر ، أسهبي في الإطـالة ، في التعمّق بثرثرةٍ ناعمـة، بثرثرةٍ لها قدسيّةٌ لم تمتلكها امرأةٌ قبلك ولا بعدك .. تحدّثي أكثر ، أكثر ! ولن أكتفي.
أعـاد رأسه للخلفِ باسترخـاءٍ وهو يبتسـم دونَ شعور، يتجاوبُ جسده كلّه مع صوتِها، لا يصدق أنه سمعه، بعد كلّ تلك السنينِ سمعها أخيرًا ، يا الله كيفَ يحتمـل فيضَ هذهِ المشـاعرَ الآن؟ كيفَ يستطِيع أن يبقى صامدًا، ولا يغشى عليه الآن من فرطِ الحبُور!
سمـع ردّ شاهين الباهِت " نعم يمّه " ليبتسمَ أكثر بتشفّي، لم يعلـم حتى الآن لمَ لم يكُن يريده أنْ يُحدّثها، لكنّه الآن يشعُر بانتصـارٍ ساذَج لأنّه في النهاية سمـع صوتها وهو لا يريد ..
: مرتك .. مرتك أسيل حامــل ..

كـانت الجملـة غريبة ، غريبةٌ بعض الشيء ! تلاشَت بِها بسمتُه، وعقدَ حاجبيه وكأنّ عقلـه لم يفهم ! لم يستوعب، لم يُدرك ما وراءَ تلك الكلمـاتِ التي جاءَت معترضـةً سيرَ فرحتـه واسترخاءه، عـادَ سنينَ للوراء، وكأنّه في تلك اللحظـة ، لم يكُن قد عرف أسيل ، لم يكُن قد تزوجها، وأحبها، ومن ثمّ فقدها! .. في هذهِ اللحظـة ، في خضمِ فرحتـه بكلّ ما يصير من حولِه بعد رحلـةٍ طويلةٍ على قافلـةِ البؤس، نسيَ ، أو تنـاسى ، أنّه أحب! وأنّ الكلمـاتَ التي لفظَت لشاهين الآن .. تعنيهُ هو أيضًا ! ثلاث .. همْ ثلاث ، اثنانِ لم يكفيا سوى للتنـاسى! فقط للتنـاسي لبعض الوقت ، تمامًا كما كـان يفعل شاهين ... تناساها، حتى جاءت تلك الجملـة .. غريبة! غريبةً بشكلٍ موجِع، بشكلٍ لا يطـاق ... لا يُطــــــــــــــــاق !!!!
في اللحظـة ذاتها ، وبعدَ أن حلّت تلك الجملـة ، كانت ملامح شاهين تشحُب بصدمـة ، اتّسعت عيناه وبياضُهما يسيرُ على خطِّ الحُمـرة ، شعرَ أنّ قلبـه توقّف للحظـةٍ خاطفـة، ومن ثمّ ارتفـعت وتيرة انقباضاتِه فجأة! حدّ أنه كـان يسمعها، يسمع النبضـات المتواتِرة مع شفتيه التي كـانت تتحرّك بصدمـة، تتحرّك دون استيعاب .. دون صوت : أسيل حامل !!!!!!!!
أسيل ... حامل ! ما معنى ذلك! .. ما معنـ ــى ! ... تشنّج كفّه دون شعور، جسدُه كلّه تشنّج، عدا أحداقه، والتي كـانت ببطءٍ تعبُر بدأً من كفيْ متعب المُمسكتينِ بالهاتف في هدوءٍ غريب، إلى وجهه ، والذي كـان مسترخٍ، ينظُر للأمـام .. بهدوءٍ أغرب!
لا يدرِي أين رحـل الأكسجين، لا يدري أينَ أصبـح ثباته، امتلاءُ جسدِه الذي أصبـح خاويًا فجأة، وهو ينظُر لملامح متعب الصامتة بصدمة ، لأنّه سمِع ذلك .. قبل أن يكون للخبرِ نفسه ... أنّ أسيـل حــــامل !! حاملٌ بابن أخيه، وهي زوجته؟ يا ثُقل تلك الكلمـة ، يا ثُقلها الآن لتجعله يغصُّ بها، لو أنّها جاءت قبل شهر، ربّما، بل بالتأكيد كـان ليطير فوق غيومٍ من السعـادة، لكن الآن ! الآن تحديدًا .. في خضمِ معارِكَ ضاريـة ، في ثلاثيّةِ الضيـاع ، الآن ... داخـل هذا المثلّث الذي جمعهم ولم تتطـابقْ أضلاعه في صورةِ أمـل ، منذ البداية وهو يدرك أنّ علاقةً ستُفقد، علاقتين ربّما ... لكن الآن ، كلّها ! بطريقةٍ بشِعة . . . يا الله ! لمَ حدَثَ كلّ ذلك؟! لمَ حدَث؟ لمَ جاءنا هذا الاختبـارُ بغتـة ، دون أن نقلّب أوراقًا تكفل لنا النجـاح، دون أن نسهر ليلةً ، نُمارس فيها طقوس المثابرة! .. لمَ جاءنا هذا الاختبارُ فجأة، ونحن ندرك في خضمِ الخوضِ أنّ أحدنا لن ينجح .. كلّنا يا الله ، لن ننجح!
ابتلعَ ريقه وهو يغمضُ عينيه بضيـاع، بعذاب، يتمنّى لو يقرأ عيني متعب التي كـانت تنظُر لشاشـة الهاتفِ بصمت، لكنّه لم يقوى، وكـان يدرك .. أنّه من الأساسِ لن يستطِيع قراءته! لن يستطِيع والصعقـةُ أفحمت عقله وتركيزه ، حتى أنّه ربما وإلى الآن لم يستوعب .. لم يستوعب لينفجـر بردّةِ فعلٍ طبيعية.
في حينِ كـان صوتُ أمّه يمضِي، عاتبًا، حادًا، غائبًا عن لهفـةِ متعب وشوقه، بعدَ أن أدرك رويدًا رويدًا ، متمهّلًا ، من هي أسيل ، وماذا يعني أن تكون حامل! بعد أن أدرك أنّها في فترةٍ مـا .. أصبحَت زوجة أخيه! .. غابَت لهفتـه ، حين غلّفه الذهُول، الصدمـة، وشيءٌ ما شعر أنّه انغـرسَ في صدرِه بحدّةٍ حطّمت أضلعه قبل أن تستقرّ في قلبه مباشرة! شيءٌ ما .. لوعَة ، وحرقـة، وعذابٌ لم يُجِد عقله شرحـه لأطرافِه التي ارتعدَت فجأة دون أن تتريّث حتى تنتهي كلمـات أمّه التاليـة : الحين مالك حق ، وبترجعها غصبًا عنك وماني مهتمّة للسبب اللي خلاك تتركها .. سامع! بترجع مرتك بغيت أو لا .. وإلا والله يا شاهين ، والله يا ولد بطنِي ما أرضى عليك إلى يوم يبعثون!!
عضّ شاهين شفته بقوّةٍ وهو يستمع لكلماتها تلك، عضّها بقوّة، وهو يرفـع رأسه لأعلى سلّمِ السقُوط! .. يسندُ رأسه للخلف، ويغمـض عينيه التي التهبَت ، يغمضها وهو يشدُّ بأسنانه على شفتِه أكثر حتى ارتوَت ألمًا وربّما جُرحَت .. لا يدري ، لا يدري إن جُرحَت، وإن نزفَت، لا يدري ، فهو الآن كـان يغوصُ في نزيفٍ آخر ، يغوصُ في نزيفِ الرجـاء .. لا تتألم! لا تتألـم ، ولا تكرهني أرجوك! لا تتألـم .. لا تشعُر بالوجِع الذي أشعر بهِ الآن أضعافًا .. أرجوك لا تتألم .... يا الله ما الذي فعلته أنا؟! ... بدأ يضربُ رأسه للخلفِ بقهرٍ وشفته السُفلى تكادُ تتمزّق ولم يشعُر بها في ضجيجِ آلامٍ أُخَرْ ، لا يكـاد يصدّق ما يحدث الآن ، أن يغـرق في موقفٍ كهذا ، أن توصدهما لحظـة ، لحظـةً كالآن أُطلقَت فيها من فوّهةِ أمّه طلقـة ... ما الذي فعلته يا أمّي الآن ! آآآآآه !!!
كـانت آهته تلك عاليـة ، عاليـة ، بعلوٍّ وصـل لمسامِع متعب الذي كـان قد أغلق الهاتِف بانكسـار ، شوقهُ لها الآن، جلَب في لحظةٍ قصيرةٍ ألمًا ، لهما الاثنين ، ألمًا .. لم يستطِع أن يُكمـل بها شوقه ويسمعها أكثر ! كـان قد أغلقه ، وهو يبتسمُ رغمًا عنه بحسرة، يتجاهـل الحرقـة التي أصابت معدته ، ويهمسُ باختناق : منتِ مهتمة لـي؟!!!
كـانت جملةً كفيلةً ليفهم ، ليفهم أنّ شاهين قد ترك أسيل ، وبالتأكيد منذُ علِم أنّه حي .. تشوّش عقله منذُ لفظَت " أسيل حامـل " لكنّه لم يحتـج الكثير من الذكـاء حتى يفهم ، شاهين تركها ، والآن ، هو بالتأكيد يعيشُ حالـةً تشابـه حالتـه ، يعيشُ وجعًا يشابـهه في الكثير .. وجعٌ مجملـه ضياع ! ما بيـن علاقتين ، كلّهما اشتركا فيها .. علاقتهما ببعضهما، والأخرى بأسيل! .. يا الله ما أقسـاه من تصادم ! ما أقسـاه !!!
ابتلـع ريقه باختنـاقٍ ما إن سمـع آهـة شاهين تلك، لم يكُن يقوى النظـر إليه، طـال صمتهما ، لكنّ الصمتَ كـان يُكسـر بتواتُر صوتٍ خفيف، جعله يعقدُ حاجبيه وكأنه أدركه ، لم يكُن يستطِيع النظـر إليه ، أن يلتقي بعينيه، لكنّه في النهاية استدار إليه بسرعةٍ بعد أن أدرك أنّه كان يضربُ رأسه للخلف ... بالتأكيدِ عقابًا !!
مدّ يدهُ بسرعةٍ ليضعَ كفّه خلفَ رأسه يمنعه من الاصتدامِ برأس المقعدِ والذي بالتأكيد لم يكُن مؤلمًا إلا أنّه ولَّد في صدرِه وجعًا كافٍ لأنّه رآه وهو يفعلها، يحاولُ أذيّةَ نفسِه لمـا حدث .. استوقفَت كفّه رأس شاهين من التراجـع للخلف، شعر بألمٍ أكبـر ما إن لامسَ برأسه حرارةَ يدِه ، تنهّد ، بل كـان كمن لفظَ هواءً بقوّةِ رجلٍ مُتعـَبٍ من الاختناق ، ومن ثمّ دفـع كفّ متعب للخلفِ برأسه، ليجعل ظاهرها يستقرُّ على المقعد، ومن ثمّ يسندُ رأسه على باطنها ، متنهّدًا من جديد، بخفوتٍ أقـل ، ومن ثمّ يستكنُ قليلًا ، دون أن يفتـح عينيه ودون أن تستكيـن أنفاسه، قبـل أن يلفظَ بخفوت، بيأس، بانكسـارٍ وحسرةٍ لمسـامعَ متعب الذي كـان يراقبهُ بصمتٍ بائس : آســــــــف !!
ابتسمَ متعب ابتسامـةً كانت بعيدةً جدًا ، بعيدةً عن هذا المفهومِ الميّتِ بينهما الآن ، كـان المصطلـح الأنسب أنّ شفتيه تقوّستا تقويسـةً منكسرة .. للأسفل! .. قبل أن يردَّ عليه بخفوتٍ تائه، لا تعبير فيه : بيجيك ارتجاج في المخ على هالحركة الطفوليـة ..
زمّ شاهين شفتيه التي كـانت إحداهما تشـارف على التورّمِ بعد أن عاقب نفسه فيها أيضًا وليسَ رأسه وحسب، فتـح عينيه ببطء، عينيه اللتين كـانت حمرةٌ تغزوهما بحزنٍ ونـدم .. وبخفوتٍ عميقٍ يكرّر اعتذاره، دون أن ينظُر إليه، ودون أن يُبعد عينيه عن الطريق .. والذي كـان توقّف على جانِبه .. لا يدري متى! : آسف ... آسف ... والله العظيم آسف!
تسللت ضحكةٌ خافتـةٌ من بينِ شفتي متعب ، كـانت بعيدةً كلّ البعدِ عن المـرح ، لكنّه حـاول ! حاول أن يُلاشي الألـم الذي يُعيثُ في صدرِه نزيفًا ، حـاول ، حاول أن يبتسم ، أن يضحك ، أن تلتمـع عينيه بغيرِ الحزن .. وهو يلفظها، بصوتٍ مرتعشٍ مُحبّ : ليه هالصوت الحين يا حمار؟ بتصير أب ... مبـ .. مبروك ، مبروك يا ... يا شاهين.


،


ساعدتها لتمدّد على السريرِ وآهةٌ تتسللُ من بينِ شفتيها من شدّةِ الوهنِ الذي يُصيبُ جسدَها، استلقَت على ظهرها، والبرودةُ تتسللُ من قدمِها العاريـة والتي خلعَت حذاءها قبل لحظتين من استلقائها، وضعَت ذراعها على عينيها، ومن ثمّ فغـرت فمها تتنفّس منه بإجهاد، بينما ابتسمَت أمّها وهي تلفظُ بحنان : بتصيرين أم؟ هالشيء ما يفرّحك؟
ابتسمَت أسيل دون تعبير، كيفَ لا تفـرح؟ أيُّ منطقٍ يحاكِي فكرةَ أن لا تفرح أنثـى بهذا الخبر؟ لكنّ هناك ما يعكّر هذا الفـرح، هناك ما يعكّر ابتسامتها الآن ويُظهرها بهذا البؤس! . . ردّت بصوتٍ خافتٍ مهتزّ : شلون ما أفـرح؟!
أمها بخفوتٍ حنونٍ وقد جلَست بجانِبها لتبدأ بالمسـح على شعرها برقّة، وبهدوء : طيب ليه ما أحس بهالشيء؟
أزاحت أسيل ذراعها عن عينيها، ومن ثمّ نظرت لأمها وهي تبتسمُ بأسى، لافظـةً باختناق : ما أبيها الحجة عشان يرجعني له!
امها بصدمة : ما تبين ترجعين له يعني؟
أسيل تزمُّ شفتيها بقهر، شدّت على بطنها وهي تنظُر لكفّها التي تمارسُ ذاك الشد، وبحدة : بحس بالقهر لو رجعني له عشان هالسبب .. إذا تركني فجأة ، فما أبيه يرجعني مضطر! ماني بهالرخص عشان يسويها فيني!
امها باستنكارٍ تعقدُ حاجبيها وكفّها توقّفت عن الهرولةِ بين خصلاتِها : وش أفهم من كلامك؟!
أسيل بثقة : هالحمل ما راح يخليني أكون حمل على أحد .. إذا وده يرجعني له ، فبيكون لي جهة بهالقرار ، وبردّ اعتباري قبـل .. مثل ما تركني بدون ما يوضّح أسبابه .. لازم يوضّح بالأول ، وعلى حسبها بقرّر !
تقطّبت ملامح امّها بشيءٍ من الغضب : بايعته؟
ابتسمت أسيل بعبرة، بالتأكيد لا ! لكنّها " مقهورة "!!! تشعُر بالامتنـانِ له ، على صبرِه ، على تحمّله منذ البداية وتغاضيه عن الكثير، تريدُ أن تكون في عينيه انسانةً تستحقُّ كلّ هذا ، وحاولت! من بعدِ كلماتِ ديما ذلك اليوم حاولت، لكنّ مكالمتهما الأخيرة جعلتها تبتئس، وشيئًا فشيئًا، شعرت بالقهرِ منه، لأنه يسكنها في كلّ هذهِ الحيرةِ ولم يهتمَّ بتفسيرٍ سريع .. لازال حتى هذهِ اللحظةِ صامتًا! ولن تسامحه على كلّ هذا الوقتِ بسهولة.
لم تردّ عليها، لم تكُن تريد أن تعترف بالنفي، ولا أن تقول لها " ايه " بهذهِ البساطة وتكذِب، أعـادت ساعدها إلى وجهها لتغطّي عينيها، ومن ثمّ لفظَت بصوتٍ خافتٍ حمل بعض الرجاء : تكفين يمه ، تعبانة شوي .. ما أبي نناقش موضوعي معه الحين!
تنهّدت امها بيأس، ومن ثمّ تراجعَت لتغلـق إنارة الغرفـة، وهي تلفظُ بهدوءٍ حازم : براحتك ، بس من بكرا الصبح بصحيك للفطور وتآكلين غصب وهالشيء بينطبق بكل الوجبات ، ما أبيك تطيحين علي مثل اليوم! زين قدرت أسندك لين ما وصلت للسيارة !
ابتسمَت وهي تتذكّر كيفَ أنها سقطَت فجأةً مغميًا عليها حين كانت تجلُس مع أمّها، حينئذٍ قامت والدتها بالإتصال بالسائق بفزعٍ ولحسن حظّهم كـان قريبًا، أسندتها بصعوبةٍ حيثُ كانت – شبه واعيـةٍ - ومن ثمّ ذهبتا للمشفى ، لتكتشفَ هذا الشيء الجميل ! . . مسحَت على بطنها بحنانٍ وابتسامتها تتّسع، وبصوتٍ رقّ تلقائيًا لفظَت : أبشري.
ابتسمَت أمّها دون تعليق، ومن ثمّ خرجَت وأغلقَت الباب من ورائها لتتنهّد أسيل وهي تمسحُ على بطنِها دون توقّف، لا تكادُ تستوعبُ أنّها الآن تحملُ روحًا عمرهُ شهرٌ ونصف ! الله ما أجمل هذا الشعُور، هي تحملُ طفلًا! طفلـها يسكُن رحمها الآن!! .. أغمضت عينيها بنشوةِ فرحٍ وهي تبتسمُ وتضعُ الكفّ الأخـرى مع تلك ، تصنـع لهُ درعًا ، وكأنها بذلك ، تحميه من أيّ شيء!


،


في وقتٍ سابق ، كانت عينـه قد اختارت النظـر الصامت ، ينظُر لها بعد أن انتهَت الفتراتُ التي تغاضى فيها عن التحديقِ بها ، لشفتيها المتحدّثتينِ بعتب ، لموجاتِ صوتِها التي تنبعثُ من بينها مُعتمـة ، ظاهرةً بشكلٍ كافٍ! لـ " ليه ماهو بين يديني اليوم يا سيف؟! " والتي أحرقتْ جزءً ليسَ هيّنًا من صدرِه، مزّقتْ زاويـةً من رئتيه، ليرتفـع صدره فجأةً وهو يحاول أن يجتزّ الأكسجينَ إليه ويجترّه !!
وجّهت ديما نظراتها لعينيه مباشرة، كـان لا يزال يقفُ أمامها على بُعدِ تلك الخطوتين، ينظُر لها بصمتٍ كئيبٍ قاطعته حين ابتسمَت بسخريةٍ وهي ترفعُ كفّها وتمسحُ على أنفها، لتُردِف بجفاء : لا ترد ، لأنّ ما عندك رد وعارفـة بتجلس تواسي وتقول بيجي ! بس أنا خلاص ما أبيه.
قسَت ملامحـه، استدارَ جسدُه بالكـاملِ إليها بعدَ أن كـان يُدير رأسه فقط، ظلّ ينظُر للحظـةٍ إلى عينيها الباردتين، الناظـرتينِ إليه بثقةٍ عميـاء، أيّ منطقٍ يجعله يصدّق أنها لم تعُد تريد أن تحظى بطفلٍ وهي تدرك أنّها تستطِيع! الحملُ المختلّ الذي كـان لن يمنعها، تدرك ذلك، فما الذي قد يجعلها ترفض؟ أن يكون ابنه مثلًا! أم أنّها فقطْ لم تعُد تريد طفلًا وحسب تحت أيّ ظرف !
استفزّه ذلك، أمـال فمه بقسـوة ، ومن ثمّ صلبَ ظهرهُ وهو يضـع كفّيه على خصرِه ويتنهّد بقوّة، لتُغـادره في تلكْ اللحظـة .. كلّ اللينِ الذي قد يكون بقي! أخـفض كفيه أخيرًا لتتدلّيا بجانِب فخذيه، ومن ثمّ ارتخَت شفاهه واستوَت عن ميلانِها، ليلفظَ أخيرًا بخفوتٍ صـارم : ماهو قرارك هالمـرة!
تشنّج عنق ديما لوهلـةٍ وهي تدرك أنّ هذا الصوتَ المتآمرِ على حرّيتها هو نفسـه الصوتُ القديم الذي لفظَ يومًا ما " ما أبي طفل الحين "! هو نفسـه ، الذي يريد فرض ما يريده عليها .. برزتْ عروقُ عنقها، لتقفَ فجأة، واعتراضٌ آخـر جاء على غير عملها ... لفظَت بنبرةٍ واثقةٍ وهي ترفـع ذقنها : لا .. هالمرة قرارك ماراح يمشي!
سيف بوعيد : مثل ما صار قبل وعاندتيني عشان تحملين من وراي؟ .. إذا قبل تمرّدتي عشان الحمل، فاليوم بتطيعين عشان الحمل بعد! وهذي الكلمـة الأخيرة بيننا بهالسـاعة.
ديما بسخريةٍ لاذعـة، لم تستطِع أن تكبـح انفعالها الذي غزا أصابعها وجعلها تفركها بفخذيها وهي تلفظُ بقهرٍ وسخريةٍ متداعية : وآخر كلمة بيننا طول اليوم .. الكلمة اللي بتكون عابـرة بس ، وبتمشي بعيد بعد ما تنتهي هاللحظة.
تحرّكت خطواتُ سيفْ إليها حتى وقفَ أمامها مبـاشرة، ابتسم باستفزاز ، ومن ثمّ انخفضَ وجهه حتى قابـل ملامحها مباشرةً ، ليهتفَ بخفوتٍ مُستفزّ : لا يا حلوة .. مو طول اليوم لأنّ يومنا هالمرة طوييييييييل .. طويل وبتضطرين تحكين معي للساعة 12 بعدها اختاري السكوت اللي تبينه ، اليوم .. ذكرى زواجنا !
أغضبتها نبرتهُ حين لفظَ آخر كلمتينِ بأسلوبٍ يخبرها فيه أنّها لن تعترض، أنّها ستهرولُ على مضمارهِ بالسرعةِ التي يريد، أنها ستضحك رغمًا عنها ، وتبتسم .. لهذا اليوم ! .. تراجعَت للخلفِ وهي تشدُّ على شفتيها بقهر، ومن ثمّ لفظَت الكلمـات وكأنها تبصقها بصقًا : تبطي هالذكرى الله لا يردها !
سيف يضحك رغمًا عنه وهو يُمسك عضدها ويسحبها لتكون قريبةً منه من جديد بعد أن ابتعدت، وبتسليةٍ مستفزّةٍ عابثةٍ بها لفظ : شلون الله لا يردها؟ أكيد ما تقصدين نموت ، وأدري إنّه مو الطلاق ولا كان ببالك باللحظة اللي قلتيها ... صايرة تقطين الكلام بدون تفكير ! ما كنتِ بهالغباء قبل وش صار!...
ديما بقهرٍ تحاول أن تُبعد كفّه عنها : من عاشر قومًا !!
سيف بابتسامةٍ مُغيظة : يعني لازم أخاف على نفسي لا تنتقل لي عدوى غبائك!
عضّت شفتها وغضبها وصـل إلى أوجه، لم تستطِع إطلاقًا أن تمـارس البرود الذي قرّرته أمامه، لم تستطِع وهزمها منذ الجولاتِ الأولى ببساطـة ! لفّت أصابعها حول يدِه التي تُمسك عضدها بقوّة، شعـر بها تكادُ تخترقُ جلدهُ بأظافرها دون شعورٍ من الغضبِ الذي تحاول أن تغلّفه بزيفِ جمودْ ، تركها ببطءٍ وهو يبتسـم ، لتتراجـع مباشرةً بشكلٍ تلقائيٍّ وصوتها الذي حاولت أن تُخرجه إليه هادئًا ، واثقًا .. كـان صارخًا بغضبٍ شديد : مانـي طالعة معك .. قلعتك أنت والذكرى السخيفة هذي * تحركت بانفعالٍ لتخرج وهي تُردف * ونشوف إذا قدرت تجبرني !

والآن .. كـانت تجلُس بجواره في السيّارة! تكـاد تشتعـل ، تكـاد تنفجر في أيّ لحظة ! تكاد تنفجر!! كيف أرغمها على الخروج؟ كيف استطـاع فعلها بهذهِ الطريقة ..
كـان يقود السيّارة وهو يبتسـم " بروقان "! إحدى كفيه على المقود، بينما الأخرى تطرق بأصابعها على فخذِه وهو ينطُق بغرورٍ لا يشابـه فيهِ سوى سيف – قبل أشهر : في النهاية ما قويتِ ترفضين طلعـة معي ... ما كنتِ بهالإصرار لأنّها معي في النهاية!
المتعجرف! المتعجـــــــرف !! أليسَ هو من سحبها وكاد يُخرجها دون عباءةٍ حتى ليرغمها على السير بإرادةٍ زائفة! لم يكُن ليفعلها بالطبع، تدرك أنّه مجرد ترويع، لكنّها طريقةٌ أربكتها كفايةً لتمضي معه.
نفخَت أنفها بقهر، ومن ثمّ نظرت للنافـذةِ وهي تلفظُ بنبرةٍ حاقدة : فوق منت دي ساد صاير نرسيس بعد!
سيف باستفزاز : نطمـح للأعلـى دائمًا ...
ديما : أففففف ! والحين روح أي مطعم وخلصني !
سيفْ يمدُّ يدهُ ليفتـح الاذاعـة وتتسلّل أصوات أحاديثَ لم يبالي أحدهما بمكنونِها ، نظـر إليها بابتسامةٍ جامـدةٍ وهو يلفظ : مين قال مطعـم؟ حجزت بأوتيل خمس نجوم ليوم استثنائي ،
عادَت تتأفف بمللٍ وضجر ، منفعلـة ، منفعلـة .. استطاعَ اليومَ أن يستفزّها فعلًا ويخرجها من برودِها هذا ، استطـاع أن يفجّر فيها بركانَها الخـامد .. ولم تستطِع أبدًا أن تصمد ليومٍ واحدٍ حتى !!


،


" ما صحى ، التحاليل للحين تقول المنطقـة ما تضرّرت "
ابتسمَ الطبيبْ حين رأى تعابير سلطـان التي استرخَت قليلًا وكأنه كان يشعُر ببعض الراحـة في تلك اللحظة، ليردف : بس ما أقدر أجزم ، أنتظر يصحى ونشوف الوضع .. كذا ما نقدر نضمن ، إضافة لأن سلامته من أي إعاقة أو مضاعفات نسبتها بسيطة جدًا ... ننتظر عالبركة!
أغمـض سلطـان عينيهِ ولازال يشعُر أنّه يحيا صراعـه ذاته منذ الصبـاح، رفـع رأسه قليلًا وهو يتنهّد، في حين نطـق الطبيب بكلماتٍ يخبرهما فيها أن مكوثهما لا طائل منه الآن ، ومن الأفضل أن يذهبوا إلى الغـد .. فهو يبدو غارقًا في غيبوبةٍ قصيرة ... أو لا يُعلم إلى متى أجلها !
ابتعَد الطبيب ، ليضـع عناد كفّه على كتفِه ، وبهدوءٍ مبتسـم : يلا نمشي.
سلطـان الذي لم يكُن يريد في تلك اللحظـة أن يذهب، كـان يريد أن يقول له " لا " لكنّه قاوَم بقوّةٍ خارقـةٍ لينظُر لعناد ويومئ برأسه في صمت .. يا للعار! يشعر بالخزي الذي لازال يمنعه من الاعتراف أنه يريد أن يبقى ، يا للعــار! فقدَ عقله ، فقده ، أو ربّما بقيَ منه القليل فقط، والذي منعه من طلبِ البقـاء !
شدّ على شفته السُفلى بأسنانه بغضبٍ من نفسه، تحرّك وعناد معه، ينظُر للأرضِ وهو يشعرُ أن عينيهِ تفقدان ماءها وتجفّان ، كيفَ تُصبـح " دائريّة " العيونِ حين نحزن؟ كيفَ تجفّ؟ ويتسرّب منها انتفـاخُ الرؤية؟ كيفَ تتضبّب الحيـاةُ فجأةً ولا شيء أمامنا يحجبها ، لا شيء كالدمع! لكنّها فجأةً ، تسرّب منها انتفاخُها ، وأصبَحت فارغة ، نحيلـة، خاويـةٌ التصقَت جدرانها ، لتسكُنَ في جمجمتهِ فجوةٌ لم تملأها عيون .. يسير للأمام ، وهو لا يرى كما يجب.
مرّر لسانه على شفتيه بضيق، يشعُر بانزعاجٍ لأنّ عينيه تغصّانْ، لأنّه شعرَ فجأةً ودون سابـق إنذار، بل بعدَ قناعاتٍ سقطـت وظنّ أنها كانت شاهقـة ، بعد أن قوّم عمادها الذي اكتشفَ أخيرًا أنه لم يكُن صلبًا كفايـة ، ليسقطَ كرهه الشاهق بزيفه أخيرًا . .
مُحرَج! محرجٌ من نفسه بدرجةٍ مؤذيـة ، محرَج .. ويشعر بالخزيِ يغتـاله .. لذا لم يستطِع منع نفسِه .. من أن ينخفضَ وجهه أكثر بقهر، وهو يشدُّ على أسنانِه بقوّة ، ليُرخيهما أخيرًا ، ويهتفَ محاولًا أن يظهر صلابـة كُرهه أمـام عناد ، بشكلٍ كان زيفه واضحًا له : لا تفهم جيّتي اليوم له غلـط . .
ابتسمَ عناد، وسرعان ما تلاشَت بسمته قبل أن يراها وهو ينظُر للأمام، وبهدوءٍ يجاريه : أيش بفهم يعني؟ طبيعي تجي حتى لو تكرهه
سلطـان بغيظٍ من نفسه : أكيد.


،


تخرجُ بصعوبـةٍ محضَة ، كـانت تخرج بصعوبةٍ من فمـه ، نطـق ما نطـق، وهو يدرك أنّه كـان يدفع الكلماتِ من حنجرتِه قسرًا، ويدرك أنه .. قالها بصعوبةٍ واضحـة، وبشكلٍ مفاجئ، صعـق شاهين ، حتى بالرغم من وصولها إلى مسامعهِ بتلك الاهتزازاتِ الكارثية التي أخبرته بوضوح، أنّه في تلك اللحظـة ... اختـاره هو! رغـم أنّه يتألـم !
اتّسعت عينـاه ببطء، بصدمـةٍ أثقلَت أحداقه المُحترقـة ونيرانٌ تأكلها منذ نطقَت أمّه بتلك الجملـة أمام متعب، أدار رأسـه بهدوءٍ كـاذب، بصمتٍ تحشرجَ بالكلام، بصراعاتٍ عديدة ، تُهلك المُرائي في مالِ العلاقات! أن يتمنّى ، يتمنّى وهو يدرك أنّه يطمـع بذلك .. يتمنّى أن تنضجَ كل العلاقاتِ ولا تحترق، أن تصلَ لأوجِ اللذة ، دون أن تُصيبها مرارةٌ ما، يتمنّى .. بكلّ طمـع ، أن ينـال الصفـاءَ فيها، أن تكون كما يريد ، رغم أنّه وضـع في مصرِفها مالًا قليلًا ، يريدها أن تعطيه ما هو أكثـر ، رغمَ فقرِه في العطاء! .. كيفَ يتمنّى الكثير؟ وهو سـرق الأكثر؟!
اصتدمت عيناه بعينيه، نظـر لعيني متعب الذي كـان يبتسمُ وهو يسحبُ كفّه من خلفِ رأسه ويضعها أخيرًا على كتفِه ، يشدُّ عليه بقوة ، ويُكرّر بصفـاء، يكرّر بصوتٍ اختـار أن يضحّي بأي حب ، لمَ يترك لامرأةٍ أحبها أن تكسـر ما كان يراه منكسرًا لسنين؟ كان هذا الكسرُ يجرحه كلّ يومٍ وليلـة ، وهو يتمنّى لو أنّه لم ينكسـر، يتمنّى لو أنه لم يجرّب يومًا ، أن يتعاوَن مع الأرضِ ضدّه، لينكسـر، ومن ثمّ يجرحهُ بشظاياه! ... كيفَ يرضى بأن تنكسـر سعادته الأولى، عائلته! بعد أن جُبرَت ، واختفَت كلّ شروخها؟ : مبروك يا شاهين ..
تنفّس شاهين بقوّةٍ وهو لا يزال ينظُر له بصدمةٍ لم تنقطـع ، لم يكُن متعب يحتـاج لتفكيرٍ طويل .. لخُطط ، ورسوماتٍ وخرائطَ توصله للطريقِ الصحيح، لم يحتج الكثيـر .. حتى يختـار أن يتركها له ، لم يحتج سوى لحظـاتٍ بعد مكالمـة أمه ، حتى يقولها له .. " مبروك! " ، يخبره بذلك ، أنّها زوجته هو! وأنّه سيصبـح أب ... وهو عمّ ابنه!
لم تكُن تضحية! لا يراها تضحيةً أبدًا .. فأسيل كُتبَت له هو ، وفي كل الأحوال لم يكُن ليُعيدها إليه ، لم يكُن ليفعلها أو ليفكّر حتـى ، بالرغم من كونِه قالها في لحظةٍ ما ، لفرطِ القهرِ والخذلانِ وحسب .. لكنْ أن يكون شاهين بريئًا ، شاهين لم يحاول في يومٍ ما أن يؤذيـه ... هنا لا مكان لميزانٍ حتى لأجل أن يرى كفّة من سترجح، شاهين ، أم أسيل! ... بالتأكيد لم يكُن يومًا ليضحّي بعلاقتـه بأخيه ..
شعـر بكفّ شاهين التي ارتفعَت لتستقرّ فجأةً على يدِه وتُخفضه، ينظُر لهُ بغرابـة ، وصدمة .. قبل أن يلفظَ بخفوتٍ متسائل، وكأنه لم يستوعب بعد معنى مباركته هذِه! : وش أفهم من هالحكِي؟!
متعب يسحبُ يدهُ وهو يميلُ فمه بضجر : تجيب الكآبة! افرح يا حلو افرح ، بتصير أب قريب وبصير عم بعد عمر طال ... اللي بعمري صاروا أجداد.
شاهين بهوانٍ وصدمة يضـعُ كفّه على جبينِه بعدَ ان أخفض رأسه لينظُر للأسفـل بعذاب، خفتَ صوتُه أكثر، خفَت في ظـلامِ هذا العذابِ الذي ينهشُ صدره والذنب الذي يكاد أن يبتلعه بعد أن قضـم منه الكثير : اللي بعمرك أبـاء! .. أباء !! بس .. بس أنا وش سويت ؟!!!
متعب بحدة : وش دخلك أنت بمسألة أكون أب أو لا!!!
نظـر لهُ شاهين بانفعـالٍ وهو يتمنّى في هذهِ اللحظـة أن يموت! أن يختنـق ، أن يتلاشى ويختفي : أنت فاهم قصدي! فاهمني فلا عاد تتغابـى.
متعب يبتسـمُ وهو يضربُ رأسه بخفّة ، وبعتَب : افرح!
شاهين يهزُّ رأسه بالنفي ، يهزُّ رأسـه وهو ينظُر لوجهه بألـم ، ليلفظَ بعد ثوانٍ طـالت .. طالتْ من نظراتِ الندم : مستحيل أرضى بهالشيء ! صعبـة .. صارت صعبة علي !
متعب بحدة : وش اللي مستحيل ترضى فيه؟
شاهين بصوتٍ ارتفـع فجأة، لم يستطِع أن يكتـم به الاسم أكثر، انفعـل ، بالرغمِ من كونِه قبلًا لم يكُن ليقدر، لم يكُن ليقدر أن يقول اسمها أمامه بعد كلّ شيء : أسيــــــــــــــل !!!
متعب بعينينِ تشتعلان، لفظَ بخفوتٍ ووعيد : شلون يعني؟
شاهين بقهر : ما أقدر ! ما أقدر أتخيلها زو .. زوجتي وأنت حي !
متعب بسخريةٍ لم يستطِع أن يكبـح كلماتِه تلك التي أوجعت شاهين أكثر : أهبل أنت؟ غبي؟!! يعني تفكر للحظـة إنّي برضى أتزوجها من بعدك؟ مرتك حامل! حامل بولدك وحتى لو ما كانت مستحيييل أفكر فيها .. خلاص هي كانت لك قبلي ... لا تخلي الكلام يطول بيننا بهالشكل ! خلاص كل شيء صار وانتهى.
وضـع شاهين كفّيه على رأسِه بخزيٍ وخجلٍ منـه ، لا يستطِيع احتمـال تلك الفكرة ، لا يستطِيع أن ينظُر لعينيهِ وكأن شيئًا لم يكُن .. صمت ، لم يستطِع أن يُجيبه بشيء ، كلامـه منطقي، كيفَ قد يقبـل بها من بعدِ أخيه؟ . . نظـر لقدميهِ وهو يعضُّ على شفتِه المتورّمة ، لم يبالي بالألم الذي كان يصرُخ فيها ، لم يبـالي بجسدِه الذي أصبـح فجأةً يؤلمـه دون أن يدرِي ما السبب! ربّما الضغطُ الكبير الذي تكالب عليه صنـع فيه هذا الألـم ، الصداع الذي يرقصُ ببطءِ خطواتِه رقصـة " باليه " مستفزّة، تغيظه أكثر من نفسِه!
متعب بهدوءٍ ينظُر للأمـام ، راحةٌ شعرَ بِها فجأة .. رغم الحُب ، والذي يدرك أنّه سيتلاشى رويدًا رويدًا .. أيّ منطقيةٍ قالت أن الحب لا يموت؟ كيفَ لا! إن اصتدمَ بجدارِ " تلاشي "! الحبُّ يموتُ إن اضطرّ لذلك .. ومن الحقـارة أن يبقى يحبّها ، لذا سيساندُ أعضاءه لتلفظَها بسرعة. لفظَ بتساؤلٍ هادئ : أكيد تدري بحكم زوجة المفقود؟
لم يردَّ عليه، كان ينظُر للأسفـل بصمتٍ أسـود، الظـلام ينتشـر في أحداقـه، لم تكُن ملامحه ذات تعبيرٍ واضـح ، كـان صامتًا .. صامتًا .. يشعر أنّه يغرقُ في بحرٍ أسود، لا قـاع له ، ولا خلاص !
أردف متعب بحزمٍ بعد أن وجَد منه هذا الصمت : أنت ما سوّيت شيء حرام عشان تستحِي منّي الحين! ارفـع راسك وناظرني.
لم يتحرّك أيضًا وكأنه لم يسمعه ، حينها تنهّد متعب بصبرٍ ليُردف : زواجك يُعتبـر صح ، وبرجعتي أنا اللي بختار .. يا ترجع لي أو أتركها لك ويبطل عقدي .. والشيء الأول مستحيل .. فبنروح بكرا للمحكمة ونتأكد من هالشيء بس بشوف أوّل الوضع وإذا انسمح لي * يقصد إذن عبدالله * ..
عمّ الصمتُ بعدَ كلامِه ، لم يجِد ردًّا من شاهين الذي كـان بنفسِ وضعِه ، يضعُ كفيه على رأسِه المُنخفِض ، ينظُر للظـلامِ أمامه، دون صوت ، حتى أنفاسهُ هدأت فجأة ، وكأنه في لحظةٍ ما ابتعدَ عن الانفعالات، وغـرق في تفكيرٍ عميـق ، غرِق في اختلاجاتٍ مُهلكـة، في أفكارٍ سحبتـه من شاطئ السكُون .. إلى بحرٍ من الضجيجِ الذي تجاوزَ موجاتٍ صوتيةٍ لا تُحتمـل! شعر أنّها تسحق أذنه، تمزّق طبلتها .. وتقضمُ حاسّةَ سمعِه!
تركـه متعب وهو يقدّر صمتـه، يدرك أنّه يعيشُ الآن في عذاب .. وكم آلمـه ذلك فوقَ آلامه التي يُخفيها .. موجع، موجعٌ جدًا ، أن يخوضا تجربةً كهذِه ، مهما اختـار فيها ما يراه صحيحًا إلّا أنهم لن يشفوا من كلّ ذلك سريعًا ! حتى وإن شُفـي هو، ولم يبقى ساقطًا لوقتٍ طويلٍ في حفرةِ ما حدَث ... لكن شاهين! يدرك أنّه سيبقى مُعذّبًا وقتًا طويلًا، وهو يفكّر في كلّ ما حدثَ وما يرى أنّه ذنبٌ وقوعهُ بِه!
طـال الصمت ، لعشـر دقائق، لرُبـع ساعة ، لثُلث ! كـانا فيها يقدّرانِ السكون الذي حلّ من الأصواتِ ولم يُحبّا قطعـه .. ربّما ستتمكّن الكثير من الراحة منهما في خضمِ السكون، ربّما!
لكنّ شاهين اختـار غير ذلك، اختـار عدمَ السكُون .. حين رفـع رأسه فجأة، ونظـر بعينينِ ملتمعتين للأمـام ، نظـر متعب إليه تلقائيًا بعد شعورِه بحركتِه العنيفةِ تلك، وقبل أن يقول شيئًا اندفـع صوتُ شاهين متسائلًا بنبرةٍ لا تُنبئ بشيء! : يعني هذا قرارك الأخير؟
عقدَ متعب حاجبيهِ باستنكـار ، وبتوجّسٍ رد : قلت لك .. مستحيل أرضى أسوي هالشيء!
شاهين بنبرةٍ حازمـةٍ وعينيه تلتمعـان أكثر : طيب .. بنسوّي اللي تشوفه صح .. ألغي عقدك فيها، وبكذا يظـل عقد زواجـي أنا ... اللي بنهيه مباشرة ، وأطلّقها !!!
اتّسعت عينـا متعب وصاعقـةٌ شعر أنّها سقطَت على رأسه ، ألجمه لوقتٍ قصير ، لكنّه سرعـان ما جمّع صوته الذي تبعثـر ليلفظَ بانفعـالٍ حادٍ غاضب : شـــاهيـــــــــن !!!
شاهين بحدةٍ مماثلةٍ نظـر نحوه ليلفظ : ما أقوى .. أنا بعد ما أقدر ... خلاص ما أقدر أتخيلها زوجتي وأنت عايش! ما أقدر!!
متعب بغضبٍ يكادُ يلكمه : وهي وش ذنبها من كل هذا؟ وش ذنبها عشان تتصرّف بهالحقارة!!!
شاهين بعذابٍ هزّ رأسه بالنفي : مالها ذنب ، مالها ذنب أبد .. بس ما أقدر ، بحتقر نفسي أكثر لو ظلّت بعصمتي ..
متعب بغضبٍ ارتفعَت كفّه ليضربَ بظاهِرها فكّ شاهين ، وبصرخةٍ بلغَت أقصاها في الغضب : ماني سامح لك !! منت مطلقها سامع؟ واحتقارك هذا بلّه واشرب مويته .. تعامل معه بنفسك هي مالها ذنب ولا أنا بقلبي شيء ضدّك.
شاهين يتراجـع بجسدِه للخلفِ وهو يعقدُ حاجبيه برفض : قلبك ماله علاقة بالموضوع .. بس أنا ما راح أرضاها ، ما راح أرضاها علينا كلنا ! أنت قرّرت إنك بتخليها لـي .. وأنا خلاص ما أبيها !
متعب باحتقار : ما تخيلك مقرف وحقير بهالشكل !
شاهين يبتسم بسخرية : قول اللي تبي تقوله .. بس ما أقدر أقبل هالوضع.
متعب بصرخة : مو تحبها أنت؟!!
كـاد يقول " وأنت أيش؟ " لكنّه خشيَ بذلك أن يجعله يغضب أكثر وتُصنـع فجوةٌ أخـرى غير التي بينهما ، لذا ردّ أخيرًا بحسرة : الحب ! الحب وش فايدته بهالأوضاع؟ يضيع .. والله العظيم يضيع!
متعب يبتسمُ بأسـى ، رفـع كفّه ليضعها على كتفه، ومن ثمّ لفظَ بخفوت : أنت اللي شايفه بهالشكـل .. شاهين تكفى! أقولها لك .. تكفى حاول معي ما تخلي الموضوع مشربك أكثر .. ما أبي تزيد هالسنين .. من بعد حقدِي ما أبيها تزيد بسبب مَـرَة! .. وبعدين ترى لمرتك حق بكل هذا ، شلون تطلّقها بهالشكل الحقير؟ خلها تختار طريقها معك مو مباشرة تختار البعد بهالشكل وأنتوا بيكون بينكم ولد قريب؟!
شاهين بغصّةٍ وهو يدرك أن الكلمـات التي يلفظها أقـرب للواقع، وليس مجرّد تخمين : وليه ما تقول تختار هي تظل مع مين؟ ممكن تختارك أنت!
متعب بغضبٍ من الأفكـار التي ينطُق بها : وقتها بفكّر إنك حقير ونقلت لها حقارتك .. اعذرني على الكلمة ، ما أقصد أسبها .. بس ما تسويها غير مكفّرة عشير! ومستحيل أرضى بمرة من هالنوع تترك أبو ولدها عشان شخص ما عاشت معه غير بفترة ملكة طويلة وبس! .. * ابتسم * بس صدّقني .. مرتَك أصيلة ، مشكلة لو ما عرفت للحين! مرتك أصيلة ومتأكدة ما تسوّيها.
أشـاح شاهين وجهه بألـم، كـان ينطُق " مرتك " باحترامٍ تامٍ له، ينطقها وكأنه لم يتزوّجها، ولم يحبّها يومًا! بينما زفـر متعب وهو يعُود لينظُر للأمـام ، وبحزم : انزل ، بنتبادل وبسوق عنّك ... لا تخرب اللي بقى من هالليلة وابتسم ، واللي يعافيك لا تنكّد علي أكثر!
لم يبتسـم، لكنّه مدّ يدهُ للبـابِ ليفتحه وينـزل ، ومن الجهة الاخـرى كان متعب قد فتـح بابه، حتّى يتبادلا ويُكمـلا هذهِ الليلـة معًا .. بكآبة! كـانت تغتالهما، حتى متعب بالرغم من كونِه كـان يتصنّع عكس ذلك وبأن الموضوع " عادي "!!!


،


تُحيطُ عضدهُ برقّة، تبتسِمُ بسعادةٍ مختلفة لا تذوقها إلا حين تكون معـه،لا تراه كثيرًا في المنزل، يخرجُ منذُ بداياتِ الصبـاح، ولا يعودُ إلا في الليل .. تشتاقهُ كثيرًا، وتشتاقُ الجلوسَ معه في دوّامةٍ عائليّةٍ متكاملـةٍ مع أمّها المُقعدة ، أخويها ، ويطُول الحديثُ ولا ينتهي ، لا ينتهـي إلا بعد أن تُرهَق عضلة لسانِهم!
نظـر لوجهها المُضيء بسعادةٍ ليبتسـم ابتسامةً خافتـة، وبرقّة : مبسوطة؟
لجين برقّةٍ ترفـع وجهها إلى وجههِ وتلفظَ بحب : لأنّي قبضت عليك.
سعد بحنان : ما عليه نهرب بكرا.
لجين تمطُّ فمها بدلالٍ ومن ثمّ تشدُّ على عضدِه وهي تمشِي معه في الحديقةِ الشبـه خاويـةٍ بعدَ أن أوقفَ سيارته على بعدٍ قليل، وبغنج : بدور على كلبشات وأقفل وحدة على يدي ووحدة أحطها بيدك وتظل طول الوقت بالبيت .. ما ينفع معك إلا هذي الطريقة.
سعد يضحكُ على أفكـارها : وش هالأفكـار الإجرامية؟
لجين : أيه أعجبك.
سعد برقّة : متأكدة بتطقّين 17 قريب؟
لجين بصوتٍ متدلّل : وبصير أصغر وتدلّعني أكثر.
سعد : ما عرفنا لك مرّة البنت العاقلة ومرة المطفوقة.
لجين : فصام.
سعد : بسم الله عليك !
ضحكَت لينظُر لوجهها وهو يبتسـم، وجهها الجميل ، والناضجِ أنثويًا رغم صغر سنّها، كيفَ يطمئن؟ كيفَ لا يخشى عليها ! .. تلك الصورة يجب أن يعرفَ كيفَ وصلت إلى يديْ إبراهيم .. ذلك الحقير! محالٌ أن يكون وجدها في ذاك المكان وحسب! .. يعرفه، يعرف نفسه الدنيئة .. اخخ !!!
رفـع يدهُ على رأسها، لتعقدَ حاجبيها باستغرابٍ وهي تنظُر له بحيرةٍ بعد أن زفـر زفـرةً طويلةً فرّغَ فيها الكثير من انفعالاته ، لا ! لم يفرّغ شيئًا! لم يفرّغ !!
مرّر لسانه على شفتيه، ومن ثمّ وجه نظراته نحوها من جديد، لم يستطِع أن يمنع نفسه من نطـق ما جـال في خاطرِه ، إبراهيم وتلك الصورة صنعوا فيه قلقًا كبيرًا عليها! : لجين ... أبيك من بكرا تتغطّين ... هالحجاب بروحه ما أبيه !
عقدَت حاجبيها باستنكـار، وبحيرة : بس هذا حجابي من يوم عرفت العباية علي! .. ليه فجأة صرت تبيني أغيّره؟
سعد بحزم : ما صار يعجبني .. * وبتبريرٍ لطيف * أنتِ صايرة تحلوّين بزيادة يوم عن يوم .. ما أبيك تظلين بحجاب وبس! غطّي وجهك كامل.
لجين بهدوءٍ متعقّلٍ وهي لا تقتنعُ بسببه : بس يا كثر المحجبات سعد! وحلوات بعد وبعدين أنا ما أتزين يعني ما راح أجذب الأنظـار حولي !
سعد بحدةٍ مفاجئة : مو بس التزيين يشد ... لجين أنا أبيك تتغطّين وبس ، لا تعصيني !
أومأت برأسها وهي تشعُر بغرابـةٍ في تصرّفاته اليوم : طيب .. إذا هذا اللي تبيه أبشر.
سعد بحزم : الحين ..
لجين ترفعُ حاجبيها باستغراب : الحين؟
سعد : أيه.
لجين : بس هالحركة بتشدّ أكثـر .. انتظر أقل شيء لين أركب السيـارة.
زفـر باضطرابٍ ليمسـح على جبينه، حينها لم تستطِع منع نفسها من النطق باستنكـار : شفيك؟ منت طبيعي اليوم !
هزّ رأسه بالنفيِ وهو يتنفّس بعمـق، ومن ثمّ أمسك كفّها ليجذبها وهو يلفظُ بشرود : لا .. طبيعي ، طبيعي . . . امشي نرجع البيت.

يُتبــع . .

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 27-07-16, 06:19 PM   المشاركة رقم: 865
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 





،


نـزل من سيارةِ عنـاد وهو يحرّك يدهُ دون مبالاةٍ ظاهريًا في تلويحةِ وداع، كـان صامتًا طيلةَ الطريق وكأنّ الأحاديث تنسكبُ إلى نفسِه فقط، إلى صدرِه، إلى نقطةٍ واحدةٍ فقط، لتُخرسَ أفواهُ جسدِه كلّه، مساماتِه، عينيه، أذنـه التي فقدَت كلامها " السمـع " ولم يكُن يسمـع حتى بعض الكلمـات التي قالها عنـاد، ليدرك الآخر أخيرًا كيفَ أنه شردَ بعيدًا، وغـاب ، ومن ثمّ آثر الصمت وترك صراعاتِه في ظلماتٍ يعمهون!
ابتعَد عناد، بينما تحرّك سلطـان بخطواتٍ متكاسِلةٍ إلى البـاب، وصـل إليه، ومن ثمّ وقفَ فجأةً أمامه، بقيَ صامدًا بالوقوفِ أمامه وحسب، يتأمّل الصلابـة التي يمتلكها ، لمَ لم يكُن البشـر يومًا كهذهِ الجمادات؟ لا تشعر، لا تضعف، لا تحزن، ولا تتزحزحُ من موقفِها ، لمَ المشاعر؟ ألضعفٍ فقط؟ ألِخيبةٍ وحسب؟! . . . شدّ على أسنانِه بغضب، لمَ لم يثبُت على موقفِه فقط! فقطْ لمَ لم أكمـل مسيرةَ كرهي لهُ بصدق؟! كيف لا تكفيني صدمةٌ واحدةٌ حتى أكرهه! ماذا أنتظر؟ ماذا بعد!!
أشـاح وجهه عن البـاب، أدارَ جسدهُ كلّه، وكفّه دُفنَت في قبـرِ ملابسِه " جيبِه "، أخـرج منه مفتاحَ سيّارته، ومن ثمّ مضى إليها .. لا يريد أن يمكثَ في المنزل، بين جدرانٍ خرسـاء، تجعله يتعمّق في تفكيرِه أكثر، لا يريد أن يُقـابل أحدًا .. يريد أن يختلي بنفسه .. حتى إن تعمّق ... لا يؤذي غزل أو يؤذي من حوله!!
صعدَ لسيّارته، ومن ثمّ حرّكها مبـاشرةً بسرعةٍ متوسّطة، خـرج من الحيّ، وخلالَ لحظـاتٍ كـان يسير في طريقٍ لم يكُن مزدحمًا كفايـة ، فاستطـاع أن يُسـرع ، أن يُسـرع ، ولا يبـالي بوثيقةِ مخالفة! أن يموتَ مثلًا ، لا! ... لم يكُن يريد أن يموت، يريد فقط .. أن يرى ما قبـل الموت ، فلربّما كرِه في لحظاتِ صراعٍ مع الألـم من سبّب لهُ ذلك، ربّما ألـم المشاعِر لا يكفي، ويحتـاجٌ ألمًا جسديًا يغتـالُ كلّ حبٍ تجاهه!
أيُّ يأسٍ وضعفٍ مُثيرٍ للشفقـةِ هذا ؟!!! . . . شدّ على المقودِ بغضب ، قبل أن يجدَ نفسه رويدًا رويدًا، يُقلّل من سرعةِ السيـارة! .. هامسًا بحسرة : وش أسوّي أنا؟ مآكل بنفسي ليه؟ أحرق نفسي ليه !!! ..
ضربَ على المقودِ بغضب، ومن ثمّ صـرخ بشكلٍ مفاجئٍ مقهور : قلعتـــــــه !!!
أيؤذي نفسه بكلّ هذهِ الحيرة بسببه؟ يعتـرف ، يعترف .. هوَ يعنِي له الكثير ... يعترف ، ولربّما الضعفُ الذي فيه لأنّه لم يعترف لنفسِه بذلك! كـان كاذبًا مع نفسه، خادعها ، فانتقمَت بالضعف! .. نعم يُحبّه، يحبُّ الجزء الذي كان والده، يخافُ عليه، ولا يريد أن يُصيبه شيء .. والجانبُ المجرم ماذا يعني فيه؟ يكرهه بالتأكيد ، لكنّ الجانبَ الآخر ، والده ... يُقيّدهُ بطريقةٍ مؤذيـة !! . . ماذا يعنِي إن اعترفَ لنفسِه؟ أيعقل ألّا يثقَ بها أيضًا؟! . . سيعترفُ لنفسِه، ويتعايـش مع اعترافـه ، بأنّه يكرهه .. ويحبّه أيضًا .. فإن لمْ تكفِه هذهِ الأشهـر ليرى فيه فقط سلمان المجرم، فلا مانع من أن ينتظِر أكثر حتى يتلاشى والده .. سيكرهه كلّه! بعدَ أن يموتُ والده من عقلـه .. وليسَ روحـه ! . . ابتسمَ بسخرية .. رغمَ كلّ شيء ، لا يريده أن يموت الآن! ليسَ الآن وهو لا يزال يحبّه! ، ليمُت ، لكن بعد أن يحلّ الكره ، ولا يتألّم لفـراق !


،


تفـرك كفيها بتوتّر ، تنظُر للسـاعةِ حينًا وآخـر، تجاوز الوقتُ منتصف الليل بساعتين! ، تأخر! تأخّر كثيرًا بعد خروجِه بذاك الانفعـال، أيعقـل أن يكون أصابه شيءٌ ما؟ . . عضّت شفتها السُفلى بقلقٍ وهي تذرعُ الغـرفة جيئةً وذهابًا، ترفـع أحداقها للسـاعةِ المعلّقـةِ بالحائط، ومن ثمّ تزفُر بتوتّرٍ وتخفضُ نظراتها إلى قدميها لتتابعهما وهما يتحرّكـان بربكـة.
كـانت تريد أن تتّصل بِه، وكلّما شارفت على كبسِ رقمـه تتراجـع دون سبب ، فقط لاضطرابها الآن! . . جلَست على السرير وهي تقبـض على الهاتفِ بقوّة، ستتّصل ، ستتّصل وتطمئن .. ما بالها متردّدة هكذا؟!
انتفخَ صدرها بتنفّسٍ عميق، قبل أن ينخفضَ بهدوءٍ محاولـةٍ الاسترخاء حتى تهدأ وتتّصل .. نعم .. ستتّصل! . . نظـرت للشاشـةِ بإصرار، ومن ثمّ تحرّك إبهامها، دون أن تفكّر بالتراجع ولو للحظة! . .
بدأ الرنينُ يتتابع ، تنهّدت بربكـة ، وهي تنظُر للشاشةِ بصمتٍ وترقّبٍ تنتظـر بدأ الثوانِي في التحرّك دلالـة ردّه .. تصاعد الرنين .. تصاعد !!! .. لحظة !! . . عقدَت حاجبيها باستنكارٍ وهي ترفعُ وجهها ، كـانت تسمعُ الرنين ، خارج الغرفة !!!!
وقفَت متفاجئة ، سلطـان هنا !!! هذا ما يعنيه سماعها لرنينِ هاتفه، لكن ، لكن منذُ متى !! تحرّكت خطواتها بسرعةٍ نحو البـاب، في اللحظـة التي كـان فيها الرنينُ قدْ توقّف بعد أن أخرسته اصبع سلطـان، وضعَت يدها على المقبـض، ومن ثمّ أدارته لتجتذب البابَ إليها وتفتحـه ، بينما خطواتٌ خافتـة بدأت تسمعها بعد أن فتحَت البـاب، خطواتٌ كانت تخفُت أكثـر دلالـة الابتعاد!
عقدَت حاجبيها، ومن ثمّ تحرّكت لتخرج بعد أن كـانت تقفُ عند عتبـة الباب، بحثَت بعينيها في الممرّ ولم تجده وقد تلاشـى الصوتُ بعد إغلاقِ باب ! مما يعنِي أنه دخـل غرفـةً أخرى ! يعنِي .. يعنِي أنّه لازال غاضبًا ولازال مزاجـه سيئًا ، وبالتأكيد خاف عليها منه!!!
فغـرت فمها بضيق، كـادت تبحثُ بين الغـرف عن مأواه اليوم ، لكنّها تراجعَت احترامًا لرغبتـه ، كما أنّها لا تريدُ أن ترى في عينيهِ ذنبًا وندمًا تجاهها إن فـرغَ من ثباتِه . .
زفـرت ، ومن ثمّ تراجعَت للغـرفة ، ستنـام اليوم بعيدًا عنه، لن يكُون بجوارِها بعدَ أن اعتادَت! حسنًا .. ستكذِبُ على نفسها ، هذهِ الخطوةُ الأولى لتعتادَ البُعد !!


،


صبـاحٌ جديد، غُلِّف سماؤه بغيومٍ سوداءَ صخبَت بفستانِها المُعتـم، كانت بروكسيلْ تنتشي بالقطرات التي كانت تُربّتُ على أرضها ، خفيفـة، ناعمـة، رقيقةٌ تشبـه لمساتِ الفراشـاتِ المُختبئة خلفَ أوراقٍ باهتـة.
مطرٌ خفيفٌ كـان يلامـسه، يزفُر بضجرٍ وهو ينفُض البلل العالـق من على ملابِسه وكانّه بانتفاضةِ كفّه المنفعلـة سيجفّف ملابسـه بعد أن باغتـه المطـر ، لم يتهيأ حتى بمظلـه .. سُحقًا !!
وقفَ عند بابِ إحدى المقاهي المُغلقـة، كـان الوقتُ باكرًا لتُفتـح المحلّات والمقاهي في هذا الوقت، احتمـى بمظلّتها.. ومن ثمّ نظـر للسماءِ المتضبّبةِ برماديّةٍ شفافـة ، أفرجَ شفتيه قليلًا ، ليبدأ بالتنفّس من فمِه، يذُوق الهواءَ البـارد، ويشتمُّ رائحـة التُربة المخضّبةِ بالمطـر.
لم تمضـي دقائقُ وهو يقفُ هناك حتى توقّف المطر فجأة ، تنهّد ومن ثمّ عادَ يمشي في الشارِع الشبـه خاوي، سمـع صوتَ هاتِفه يرن، ليُخرجه تلقائيًا من جيبِه وهو يعلم من سيكُون المتّصل .. أمـال فمه، وبتسليةٍ " طرد المكالمـة "! ربّما يريد فقط أن يغضبـه اليوم ككلّ يوم، وكأن تسليته الوحيدة باتت في إغضابه !!
من الجهةِ الأخرى ، شدّ سعود على أسنـانه بغضبٍ من تصرّفـه، شعر أن " شياطينًا " توسّدت رأسه منذُ بداية الصباح، عـاد يتّصل بِه من جديدٍ ليجدَ الردّ ذاته من تميم " عدم الرد "! .. تمتم بغيظٍ ورأسه يكادُ يشتعـل : طيب ... طيب يا تميم !!
اتّصل للمرةِ الثـالثة، وهذهِ المرّة ردّ عليهِ بعد أوّل رنّةٍ وكأنه اكتفى من إغاظته، لافظًا بعبث : بونجوغ ، قود مورنينق ، بريفيت ، زدراستي ، هالو . .
صرخَ سعود بغضبٍ يقاطعه : انطـم يا حيوان ..... تقفل بوجهي هاه !!!
تميم بنبرةٍ مستفزّة : اللهم صباح خير ، صُبح ومطر ومعصب؟!
سعود بجمود : وينك؟
تميم ببساطة : نتفتّل بالحارة.
سعود : الله يلعنك!
تميم بوجوم : أستغفر الله !!
سعود بغضب : كفاية تستفزني أكثر! تميم لا تطلّعني من طوري ... للحين قاعد أتغاضى وللحين ساكت حتى على اللي سويته عشان يهرب بدر!!
تميم باستهزاء : أفا للحين حاقد؟
سعود بأمـر : تصرفت مع يوسف ذا؟
أمـال تميم فمهُ بضجـر : لا .. قلت لك ترى مالهم علاقة مباشرة فيك! .. أسلوب تصفية اللي تشك فيهم ما عجبني!
سعود : أدري فيك .. عشان كذا تبي تتصرّف أنت ! .. بس ما أثق فيك ...
تميم يبتسم : أفا سعود ليه كذا؟
سعود بحدّة : وش مهجدك للحين؟
تميم : أبد ماني هاجد ... بس ملل!
سعود بحزم : تتحرّك الحين سامع ! وإلا بتصرّف في الموضوع أنا ترى !!
تميم بملل : دامـه صار بيدي مستحيل أرضى يرجـع لك ، تطمّن ، بتأكد وبعطيك أدلّة إنهم مالهم دخـل .. غير كذا للأسف .. بنضطر نتّجه للتصفية المباشرة مثل ما تبي.


،


الشمسُ بدأت تُضيء الغـرفة المُظلمـة ، ينزاحُ الظـلام رويدًا رويدًا بتمهّل، الستائرُ غابَت قدرتها والسـاعة الآن تقتربُ من التاسعـة ، كـان قد نهضَ قبل ذلك بوقتٍ كبير ، قبيل الفجر بلحظـات، ذهب للمسجِد ليُصلّي ومن ثمّ عاد ليوقظها ونام ، والآن كـان قد نهضَ قبل ساعةٍ ونصفَ تقريبًا ليجدها نائمـةً من جديد.
يضـعُ يديه أسفلَ رأسه، ينظُر للأعلـى وملامحـه تستكينُ بضجر، جسدهُ خامـلٌ من طولِ ما ظلّ مستلقيًا على ظهـره .. أدار رأسه نحوها، تنامُ على جانِبها الأيمن – تواجهه! ملامحها ، كفّها اليُمنى تحت خدّها، يدُها الأخرى والتي تستقرُّ بجانِب رأسها على الوسادةِ في نومٍ ناعِم .. أدار جسدهُ على جانِبه الأيسرِ رغمًا عنه، يريد أن يتأمّلها بصمتٍ في نومِها الهادئ، يتأمّل فتنتها ، ويشعر أنّه يحترق بقربها بهذا الشكل! يحترق ، أيُّ رجلٍ يصمدُ أمام امرأةٍ مثلها؟ إن كـان دائمًا لا يظهر عليه افتتانه بها وتوقه ، إلا أنها حينَ تكون نائمـة قربه بهذا الشكل لا يستطِيع أن يكبـح نظراته الشغوفـة بها والتي لا تراها بهذه الشفافية في صحوتها . .
اقتربَ وجههُ منها ببطء، قبّل جبينها، ومن ثمّ انحدرَت شفاهه إلى وجنتها ليقبّلها ويطُول بقبلته هنـاك، الملمـس الذي يعشق! يُثملـه، كيفَ لامرأةٍ تحمل قطنيّةِ هذهِ الوجناتِ أن تمتلك لسانًا أشبـه بنصلِ السيوف! . . ابتسمَ تلقائيًا وهو يبتعدُ عنها بخفّةٍ ما إن شعر بها تتململ في نومها وتهمهم .. صنـع بينهما مساحـةً كافية وهو يدرك أنها لو رأته قريبًا منها بهذا الشكل أو شعرت بقبلاتِه الصباحيّةِ لها فستفزع وقد تعودُ لأسطوانةِ الغرفـة المستقلّة.
استلقـى على ظهرهِ وقد ابتعد بعدًا اعتادَت عليه، بينما تحرّكت إلين لتلفّ على ظهرها وأجفانها تتحرّك بكسل، أطرقَت رأسها حيثُ كان قبلًا، نحو اليمين، أي ما إن تفتح عينيها حتى تراه مباشـرةً .. وكان ذلك ما حدثَ فعلًا ، إذ ارتفعَت أجفانها ببطء، تُسدلها، ومن ثمّ ترفعها من جديدٍ باسترخائِها النَعِس، ابتسَم وهو يدرك أنّ رؤيتها لازالت متضبّبةً حتى الآن، أشـاح وجهه لينظُر للسقفِ في اللحظـةِ ذاتها التي أدركت ملامحه ، وبشكلٍ تلقائيٍّ كان جسدها يبتعدُ قليلًا وهي تعودُ لنغمضَ عينيها وتهمسَ بكسـل : الساعة كم؟
ما هذِه القسـوة الناعمة على قلبه؟ لا يحتمـل ، لا يحتمـل أن تمرَّ هذهِ البسمـة المثقلة بالنعـاس مرورَ الكرام ، همستها المُغمّسة في النعاس قاتلة! قاتلةٌ لقلبه !! . . زفـر بصمتٍ وهو يحاول أن يلملمَ روحه التي تبعثـرت داخلـه، أسندَ تعثّر صوتِه بسخريةٍ صباحيّةٍ خافتـة وهو يلفظ : فتّحي عيونك زين وشوفي الساعة بنفسك.
إلين بكسلٍ وهي تكادُ تعود للنوم : هممممم!
ستقتله! هذا ما تريد ، أن تقتله أو تقتل نفسها أخيرًا بشغفِه !! .. عضّ شفتـه بغضبٍ مفاجئٍ بسبب تأثيرها الصاخِب عليه ، بينما استلقَت إلين على جانبها الأيسر هذهِ المرّة وهي تلفظُ بصوتِها الناعِس بادئةً السمفونيّة التي لا تنتهي من الفظاظة : قوم خلاص .. ليه مناشبني حتى وأنت شبعان نوم؟
أدهـم يرفع حاجبه الأيسر، وبسخريةٍ مُستفزّة : شبعان نوم بس باقي ما شبعت منّك.
إلين تفتحُ عينيها مباشرةً ووجها يحمرّ، شعَرت بجسدِها يقشعرُّ تلقائيًا وبردّةِ فعلٍ عكسيّة، لفظَت بصوتٍ حادٍ حانق : لا عاد تربكني !
أدهم بعبث : أثاري الغزل يربكك؟
إلين بغيظٍ تمطُّ فمها : ماهو غزل ذا .. قلّة أدب بس !
أدهم يقتربُ منها بتسليةٍ وهو في داخلِه لا يريد استفزازها بحجمِ ما يريد الاقتراب أكثر .. لحظة! منذ متى كـان يتصرّف مع ما يريد بهذِه الطريقة؟ هو الذي كـان يفصـح بكلّ سهولةٍ بل ينـال ما يريده دون حواجز ، ما الذي تفعله بِه هذهِ الأنثـى الماكرة!!!
التصقَ صدرُه بظهرها بحنق، وفي تلك اللحظـة شهقَت إلين بذعر، بالرغم من كونِها شعرَت باقترابِه إلا أنّها لم تجد الوقت الكافي للهروب قبل أن يباغتها بذراعه التي التفّت حول بطنها وصدرِه الذي غزا بحرارتِه ظهرها . . . حاولَت أن تبتعدَ بذعرٍ وقلبها انفجـر بانقباضاتٍ صخبَت بصراخِ نبضاتها، لكنّ أدهم كـان قد شدّ بذراعِه أكثر وهو يلفظُ بنبرةٍ رقيقةٍ كـانت صادقـة .. إلا أنها مُستفزّة! : صباحي شمسك .. وصباحك هالأرض اللي تدور حول جاذبيّتك يا أميرتي.
إلين بصوتٍ خجول، غاضَب ، مُمتلئٍ بالنفور : ابعـد !!
أدهم يدفّن وجهه في شعرها ليستنشقَ رائحته بشغف، وبخفوت : لئيم هالبحر ..
إلين تًبعد رأسه عنه وقد بدأ غضبها يرتـفع أكثر وجسدها أيضًا بدأ بإرتعـاش التوتّر من قربـه! .. شدّت على أسنانها، وبحنقٍ باغتها بعضُ الرجـاءِ فيه : ابعد .. بقوم ..
أدهم يبتسمُ باسترخاء : مو كان ودّك ترجعين تنامين؟
إلين تحرّك قدميها وهو يدرك في هذهِ اللحظـة أنها ستحاول أن تركله وتبتعد، بينما كفيها كانت تضعهما على ذراعِه التي تقيّد بطنَها، تستعد لتغرسَ أظافرها في جلدِه إن تطلّب الأمر! .. لفظَت بغضب : والحين بقوم .. عندك مانع؟
أدهم بتحذير : لو ترفسين ، وإلا تقرصين أو تسوين أي شيء تقاومين فيه ببوسك .. سامعة!
تجمّد جسدها فجأة وتوقّفت عن التنفّس لثانيتين، حينها كتـم ضحكته المتسلّية ، ليُرخي ذراعـه، ومن ثمّ يتركها ويجلُس مبتعدًا عنها، لو بقيَ قريبًا منها أكثـر فسيجنّ ويُغرقـها في أمواجِ شوقِه وشغفـه.
انتفضَت إلين ما إن شعرَت بِه يبتعد، نهضَت بانفعـالٍ لتبتعدَ عن السريرِ برجفـةٍ ذعرٍ وغضب ، عدّلت قميصَ بجامتها وهي تستدِير لتنظُر إليه، بينما تمدّد أدهم على ظهرِه باسترخاءٍ وهو يضعُ كفيه خلف رأسه، وبهدوءٍ مستفزٍ – آمر - : دامك صحصحتي جوعـان ...
إلين تشدُّ على أسنانها بقهر، لازالت ترتعـش، ولازالَ وجهها محمرًّا من قربـه ذاك .. تراجعَت للخلفِ وهي تفركُ عضدَها الأيسر بكفّها اليُمنى بانفعال، وبقهر : وأنت كل وقتك جوعان؟
أدهم يبتسم بكسلٍ وهو ينظُر لها بعينينِ ناعستين : ما أقولّك إلا بوقت الوجبات الرئيسية ، فمانِي أكول.
إلين تشدُّ قبضتيها بقهر : على افتراضْ بطيعك من بعد حركتك هذي؟
أدهم يرفـع حاجبيه ببرود : تطيعيني؟ لهالدرجة تحسين بالإهانة بمسألة عادية مثل الطبـخ اللي ممكن أسويه لو أعرف له زين؟ ترى منتِ جاريتي ... زوجتي! وبعدين حركتي هذي ... * مطّ الكلمـة باستفزاز * حـــــــــــــلال ! وبيجي يوم وتكون أبسط شيء !
ارتبكَت ، وتشتّت أحداقها وأنفاسها تهتزُّ بين شفاهها، كـانت رسالـة ، رسـالةً هادئة، باردة، خطّها بحبرِ شفتيه على أسطِر الهواء .. رسالـةً تعني أنّه لن يصبر أكثر! لذا يريدها أن تتقبّله ، بشكلٍ أسرع ، فهو ما عاد يريد أن يقاومَ شغفه بها أكثـر، أن ينهضَ كلّ صبـاح، ويحترقَ بتأمّلاتِه لها ! .. الصباحات التي لا يُنقذه فيها سوى أن تنهضَ قبلـه .. فقط!
ابتلعَت إلين ريقها ، تدرك أنّها تطول برفضِه ، ربّما ظنّت لوهلةٍ أنّه يبتعدُ فقط لأنه لا يريدها .. ولأنها قبلًا ، لا تريده! لذا حرّكه الكبرياء وجعله يبتعد، لكنّ جملتـه الآن تُثبت أنّها أساءت الظن فقط .. فأدهم بالفعلِ ابتعد .. لكن لأجلها هي فقط! هذا ما فهمته من تصريحه الآن والذي يخبرها بوضوحٍ أنّه يريدها ، فإن لم يبتعد لأجل الكبرياء منذ البداية ، فهو ابتعدَ لأنه يريد الصبر، يريدها أن تتقبّله ... هل هذا ما كان بالفعـل؟ .. وهل .. وهل ستقوى على القبول؟!
تحرّكت بحركةٍ مضطربـة نحوَ الحمـام ، لا تدري ماذا تفعـل ، لكنّها تدرك أنّ رفضها له إن طلبَ بشكلٍ صريحٍ حقوقه يعني اللعن! كما أنها لن تنكـر أن نفورها الآن من ذاتها، ليسَ كالسابق، فنفورها قبلًا كان الماضي أساسه ، إلا أنها الآن وإن بقيَ الماضي بينهما ولو بشكلٍ بسيط لكنّها تخطّت أوّل عتبـة ، ورفضه لن يكون إلا من نفسها ، وليسَ رغمًا عنها ... هل ستتمكّن من القبول؟ هل ستتمكّن؟!!!
تنهّد أدهم بعد أن غابَت عن عينيه ، أغمـض عينيه بهدوء، ومن ثمّ شدّ قبضتيهِ أسفـل رأسه ، لا يستطِيع أن يكبـح رغبته بها أكثـر .. يريدها ، يريدها ... لكنْ بقبولها هي.


،


خـرج من الغـرفة بعد وقتٍ طويلٍ قضاه ينظُر للساعةِ حينًا وآخر ، يلتهمُ عقاربَها، وينتظـر قضاءَ وقت .. ربما يضمنُ من بعدِه أنّ صدره أصبـح هادئًا .. وعينيه .. وجسده كلّه، بالرغمِ من كونِه لم يسترخِي بنومٍ حتى الآن !!
عبـر في الممر، لتسقطَ عينيه على الغرفـة التي ما اقتربَ منها أبدًا، حتى في وقتٍ صلاة الفجـر ورغم شعورِه بالمسؤوليّة تجاهها لأنها غالبًا ما تنام في وقتها ولا تنهـض إلا أنه لم يحاول أن يوقظها، اكتفى فقط بالنورِ الذي رآه يتسلل عبر الفتحةِ أسفـل الباب ، وببعضِ الأصواتِ الخافتـة التي اخبرته أنها مستيقظة.
بينما في الداخـل ، كانت غزل تجلسُ على الأريكةِ أمام التلفازِ بعد أن وضَعت طبق طعام قطّتها على الأرضِ لتأكل، ظلّت شاردةً تنظُر للشاشةِ المُعتمـة والتي ينعكسُ فيها جزءٌ ضبابيّ منها، تنظُر لصورتها بإنهاك، بتعب! لازالت متخبّطة ، لازالت تضييع .. تضييع ولا تجدُ ظلًا لها !!
سمعَت فجأةً صوتَ خطواتٍ تعبـر ، أدركت مباشرةً هويّةَ صاحبها ، ومن قد يكون سواه؟ استقامَت بسرعةٍ ودون تفكيرٍ لتندفـع إلى الباب، فتحتْه بقوّة وعجلٍ تخشى أن يخرج قبل أن تقابله ، اصتدمت عيناها بظهره ، بينما توقّف سلطـان تلقائيًا ما إن سمـع صوتَ البـاب ، ودون أن ينظُر إليها أو يلفظَ بشيء .. عاد يخطو بعد خمسِ ثوانٍ فقط، لكنّ غزل أوقفته بصوتِها المهتزّ والذي لفظ : لحظـة !
عـاد ليقف وهو يغمضُ عينيهِ ويتنهّد، ربّما مزاجـه أصبح أفضل الآن ، لكنّه كان منزعجًا كفايةً ولا يريد رؤية أحد في هذهِ اللحظات! .. استدارَ ببطءٍ إليها، وما إن سقطَت نظراته الجامدة على عينيها حتى أشاحتهما تلقائيًا بربكـة .. بينما لفظَ سلطـان بهدوءٍ وبصوتٍ لا تعبيرَ فيه .. حاول أن يبتسم، لكنه لم يستطِع : وش فيه؟
نظـرت للأسفـل باضطرابٍ وهي تضمُّ ذراعها اليُمنى بكفّها اليُسرى ، لم تنَم .. طيلة الليلِ وبعد أن عـاد لم تنم .. ليسَ لشيء، سوى أنه لم يكُن بجانِبها ربّما! لا تدري .. لكنّها حاولت أن تنـام، ووجدَت نفسها تتقلّب فوقَ المفرشِ وتحاول جذبَ النومِ إلى عينيها .. لكنّها وجدَت نفسها فقط تجذب الأفكـار ، الكثير من الأفكـار التي تُربكها .. الكثيرَ من اللا وجود! كلّ شيءٍ لا تريدُ خلقـه من داخِلها، لا تريد الابتعاد ، لا تريد أن ينتهيا .. لكن كان لابد من ذلك .. رغمًا عنها .. لابدّ من الابتعاد!
همسَت بصوتٍ خافتٍ مرتبك : أبي أروح عند امّي.
لم ترى في تلك اللحظـة حاجبـه الذي ارتفـع بحدّة، ربّما تدرك أنه من الخطأ أن تُعيد فتح الموضوع في هذا الوقتِ تحديدًا وبعدَ مزاجِه السيء البارحة، لكنها لو انتظرت أكثر لربّما تراجعت ، ضعفت! لذا تفضّل أن تبقى في وضعيّة الهجوم ولا تتساهل!
سلطـان بجمودٍ أمـال فمه ليلفظَ أخيرًا متسائلًا بنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا : ليه؟
غزل بتوتّرٍ أكبـر من نبرتِه التي كان هدوءها أشبـه بهدوءِ ما قبـل العاصفـة ، لكنّها في النهاية لفظَت بصريحِ ما في عقلها بالرغمِ من رعشـة صوتِها : ليه يعني؟ أكيد لأني بستقر عندها.
زمجـر سلطان بغضبٍ مفاجئ : غــــــــزل !!! لا تستفزّيني بهالوقت تحديدًا .. وللمرة المليون ، لو حذّرتك بهالطريقة فالأفضل تسمعين .. ما أبي عنادك اللي أمس يتكرّر ... ما أبي أأذيك من غير لا أحس!
ابتلعَت ريقها بخوفٍ وهي تُخفِضُ وجهها، بينما تنهّد سلطـان يحاول أن يجعل أعصابه تتماسك، ومن ثمّ لفظَ بنبرةٍ حاول أن تكون هادئة : منتِ رايحة عندها .. هذا قراري وخلاص!
قـال كلماته تلك ، ومن ثمّ ابتعَد بخطواتِه بصمتٍ حتى غـاب حضوره .. فغـرت فمها وهي تتنفّس بربكـة ، ماذا الآن؟ هل كانت تتوقّع أن يوافق مباشرةً أصلًا؟ هذا إن سيوافق في وقتٍ آخر من الأساس! . . أغمضَت عينيها بقوّة وهي ترفـع رأسها للأعلـى ، تتنفّس بانفعـال ، وتتمتمُ بإصرارٍ أعمـى : حتى لو رفض ، حتى لو هدّدك ... لا تضعفين ، لا تضعفين ... اطلعي! اطلعي من حياته !!!
فتحَت عينيها اللتين اشتعلتا بإصرارٍ صاخب ، مرّرت لسانها على شفتها ، ومن ثمّ توجهَت للغرفـة حيثُ هاتفها ، وقد اختارت أخيرًا العصيـان .. ستخرج ، ستتّصل الآن بأمها وتطلب منها أن ترسلَ سائقها ، ستخرج! من حياتِه للأبد!!


،


يجلسُ بهدوءٍ وصمتٍ وأمامه جيهان التي تقاسمـه الصمت، شاردة، تبتكـر من هدوئها أفكـارًا لا تتركها كثيرًا، لا تتركها ليومٍ واحدٍ حتى تعودَ أقوى! . . تنهّدت بخيبـة ، هل ستبقى حزينةً كلّما رأته فجأة؟ كيفَ قد تعيشُ هكذا؟ ألم تقرّر أنها ستعيش؟ ستعانق الحيـاة بشكلٍ مختلف؟! إذن ما بالها؟ حتى وإن كانت تحبّه، هل ستبقى في كلّ مرةٍ تبتئسُ بهذا الشكل الفضائحيّ أمام الجميع؟ .
تنهّدت بشرود، ويدها تُدير " المصاص " في عصيرِ البرتقال، تصنـع موجـات، دوائرَ لا تنتهي، تمامًا كالدائرةِ التي تطوفُ فيها ولم تخرج منها حتى الآن ولا يبدو أنها ستخرج على حالِها هذا!
انتهبَت لوالدها يقفُ فجأةً وقد تبسّمت شفاهه، عقدَت حاجبيها باستغـراب، بينما تحرّك مبتعدًا عن الكرسي الذي يجلسُ فيه، تـابعته بنظراتٍ فضولية، قليلًا ما باتت تراه هذهِ الأيـام يبتسم، وبالتأكيد السبب هو ذاك الرجل الغريب! . . استنكرَت ما إن رأته يقفُ أمام رجلٌ ما ويصافحـه ، لحظـة ! هذا الرجل، أليسَ نفسه من أنقذَ أرجوان ذلك اليوم من اصتدامٍ أكيد!!
تقطّبت ملامحها باستغراب، بينما كانت أرجوان تبتسمُ وهي تشربُ من عصيرها، وبهدوء : ابعدي عيونك عنهم، هذا وأنتِ فضحتينا هذاك اليوم قدام أبوي لأن الرجـال ذاك كان مثبت عيونه علينا ولا وخرها !!!
أشاحَت جيهان وجهها بضيق، أسندَت خدّها إلى كفها، ومن ثمّ عادَت تتلاعب بالمصاصِ وهي تمدُّ فمها للأمـام بضجر، بينما أردفت أرجوان بحزم : وانتبهي على ردّات فعلك ... جوج إذا كنتِ متضايقة تكلمي معي لو ما تبين تتكلمين مع دكتورتك! ما يصير كذا انتبهي لتصرّفاتك لا تضايقين أبوي أكثر!!
جيهان بضجرٍ تحاول أن تخفي حزنها بِه : فكّيني.
رفعَت عينيها من جديدٍ إلى والدها الذي كـان يُديرها ظهره، هي فعلًا تُرهقه أكثر! ترهقهُ بحزنها .. ما الذي تفعله بالضبط يا الله؟!! . . تنهّدت بيأس، ونظراتها توّجهّت هذهِ المرّة لتدقّق بملامِح جوزيف/تميم الذي كان يبتسم وهو يتحدّث مع يوسف بفرنسيّةٍ مُتقنـة ، ظلّت تنظُر لوجهه ببرود، تتنقّل من عينيهِ الرماديتيْنِ إلى بشرتِه البيضاء، فمه الواسـع، العوارضُ البنيّةُ الشقراء المنتشـرة حول فكيه ... ضيّقت عينيها قليلًا، في حينِ تنهّدت أرجوان بيأسٍ منها وهي تلفظ : نظراتك وقحة! استحي على وجهك.
جيهان تبتسم بسخرية : أبي أتأمل الجمـال من حولي طيب! ... اوووه ماااي قاد والله من جد حلو!
أرجوان تبتسمُ رغمًا عنها، زمّت شفتيها كي تُخفي بسمتها، ومن ثمّ لفظَت : صايرة خفيفة بزيادة!
جيهان تلوّح بكفّها دون مبالاة : أيش خفيفة؟ الحق ينقـال والله وسيم مرة!
هزّت أرجوان رأسها بالنفي وهي تضحك : بتخربين علينا هالبزرة.
نظـرت جيهان لليـان التي كانت تستغرقُ في أكـل طعامها، وبسخرية : خليك منها ماهي حولنا.
أعادت نظراتها إليه، ومن ثمّ أمـالت فمها بتفكيرٍ وكأنها تحاول أن تحلّل من يكون من ملامحهِ وابتسامته!
أرجوان وقد بدأت تتضايق بالفعـل : جيهان ترى مصّختيها! نزلي عيونك عنه.
جيهان بجدّيةٍ نظـرت نحو أرجوان نظرةً خاطفـة ومن ثمّ أعادتها إليه : تصدقين ، أحس هالرجال من نسل مسيلمة الكذاب!
أرجوان : نعم!!!
جيهان : مدري بس أحسه من النوع اللئيم واللي ما ينعرف له!!
أرجوان بسخرية : بالله فكينا من إحساسك هذا!
جيهان بامتعاض : دحدري ... بس ما شاء الله على أبوي أنتِ تطيحين بالمشاكل وتشوفين الحلوين وهو يتعرّف عليهم بعدين ويعقد صداقات.
أرجوان بتصحيح : ما شاف ذاك يوم طحت بالبحيرة يا فالحة.


،


دخـل للغـرفةِ ومن خلفِه إبراهيم، لا ينكـر أنّه اليومَ يسيرُ قربـه على مضض، لا يدري كيفَ لا يزالُ صامدًا حتى هذهِ اللحظـة ولم يمزّق عنقه بين يديه .. اتّجه إبراهيم لمعطفـه الذي كـان على الطاولـة، ارتداهُ وهو يزفُر بإرهـاقٍ ويلفـظ : آآآخ جوعان ... * نظر لسعد ببساطةٍ وكأن شيئًا لم يكُن * شرايك نروح مطعم قريب.
سعدْ بكرهٍ واحتقارٍ وهو يدير ظهره إليه : شكرًا .. ما نتشرّف أكيد.
إبراهيم يضحك باستفزاز : اوووه معصّب .. كله عشان الصورة؟ ترى قايل لك مدري من وين جاتني.
نظَر إليهِ سعد بنظراتٍ ناريةٍ يكاد أن يُحرقه، بغضب، لازال يتواقـح، رغمَ كلّ شيءٍ لازال له القدرة على الحديثِ بهذا الشكل! .... غضِب، لكنّه صمت، ولم يقُل شيئًا حتى الآن!
تحرّك إبراهيم دون مبالاةٍ كي يخرج ، تجاوزَ البـاب، في اللحظـة التي تحرّكت فيها أحداقُ سعدْ إلى المكانِ ذاتِه التي حمـل منها إبراهيم تلك الصورة، لا يسعه التفكير! لا يستطيع استخراج فكرةٍ منطقيّةٍ واحدة غير أنّه هو من ثابـر ليحصل عليها، يستحيل أن يشكّ بها ، يستحيييل !!!
عقدَ حاجبيهِ فجأة، تنفّس بقوة ، وهو ينطُق في نفسه " لا " !! لا ! ليسَ مرّةً اخرى ، ليسَ من جديد!! لا !!! . . تحرّك بصدمـة، وهو يرى شيئًا ما مُلقى على الأرض، انحنى بجسدِه بربكـة، يبتلعُ ريقه بتوتّر ، ومن ثمّ يمدُّ يدَه .. ببطء .. ليحمـل ما كان مُلقى قريبًا من نفسِ المكان الذي حمل منها إبراهيم الصورة السابقة.


،


" شاهيـن "
أغمـض عينيهِ بقوّة ، زفـر بعمقٍ هواءَ صدرِه الملوّث .. لم يستطِع الهرب، كـان ينوي الهرب ، ينوِي أن لا يلتقي بها حتى أنه عـاد إلى المنزل بعدَ منتصفِ الليلِ بوقتٍ طويلٍ كي لا يتصادمَ معها . . لكنْ كـان للقدرِ رأيٌ آخر، وهاهي تتصادم معه الآن!
استدارَ بهدوءٍ ظاهريٍّ إليها، ملامِحه منهكـة، الهالاتُ وجدَت طريقها أسفل عينيه، لم يعُد يستطِيع النوم جيدًا، مُرهق ، والوجـع أيضًا يسحبُ إشراقـة عينيهِ ليبقى يحيا في هذا الغروبِ المُهلك.
نظـرت لهُ علا بحدّةٍ غاضبـة، وقفَت أمامه، ودون مقدّماتٍ صرخت بغضب : وش قصّتك أنت؟ وش قصّتك صاير تهرب منّي كذا !!!!
شاهين بإرهاق : مشغول يمّه .. مشغول.
علا بانفعـالٍ خشيَ عليها منه وهو يراه كيف يزحفُ إلى جسدها النحيل فتنتفض : مشغول؟ تكذب علي !! تعلمت تكذب علي !!! ... وش قصتك يا ولدي .. هذا وجه واحد توه سامع بخبر حمل زوجته؟!
ارتدّ للخلفِ بألم، شتّت عينيهِ وهو يتنهّد بضعف، بينما تقدّمت علا إليه بعد الخطواتِ التي صنعها، وضعَت كفّها على صدرِه لتضربه بغضبٍ وتُردف : منت مبسوط هاه ! أنت طبيعي؟ طبيعي وإلا فيك شيء !!! * بحسرةٍ وحُزنٍ مفاجئ * فيك شيء .. فيك شيء منت ولدي اللي أعرفه!!
شاهين برجاء : يمّه . .
عُلا تهزُّ رأسها بالنفي : حسبي الله على ابليسك وبس .. ما أقدر أتحسب عليك .. بس حسبي الله على ابليسك يومك ما خليتني أفرح بهالخبـر .. يومك مضايقني بهالشكل يا ولد بطني!!
شعرَ بألمٍ في صدرِه .. يكفي ، يكفي أرجوكِ ! يكفيني ألمـي ، لا تُضاعفيه .. أرجوكِ لا تُضاعفيه !!! . . أغمـض عينيهِ بقوّة، لا يستطِيع أن ينظُر لعينيها، لا يستطِيع أن ينظُر لها .. يخشى أن يفضح كلّ شيء .. يخشى أن يُخبرها بالأسبـاب فيقتلها !!!
بينما زمّت علا شفتيها بقهر، هزّت رأسها بالنفي ، تتنفّس بقوّةٍ منفعلـة ، لتلفظَ أخيرًا بيأسٍ منه ، لا تدري ما الذي حدَث له، لكنّها يائسةٌ منه وكفى : اذلف .. اذلف لشغلك اللي شايل همه أكثر من مرتك .. وأكثر منّي أنا ... أمّك !!!


،


توقَف باستنكارٍ وهو يعقدُ حاجبيهِ ما إن سمـع صوتَ سعد الذي كـان يناديه .. وقفَ في الممرّ ومن ثمّ استدار إليه ببطءٍ مستغرب، وبتساؤل : تناديني؟
سعد يقفُ أمامه وهو يبتسم ابتسامـةً مقتضبـة، ابتسامةً غريبة .. غريبةٌ جدًا! : أيه ، مو كنت تبينا نروح مطعم قريب؟
إبراهيم يرفعُ حاجبيه دون تصديق : تبي تروح؟
سعد : أيه .. اكتشفت إنّي جوعان بعد.
هزّ إبراهيم كتفَه باستغرابٍ وهو يميل فمـه، ومن ثمّ تحرّك ليهرولَ سعدْ ويصبح مجانبًا لهُ بالضبط، يسيرانِ معًا .. ليخرجا أخيرًا من المبنـى ، اختـار سعد أن يقودَ هو بسيّارتِه .. ومن ثمّ ابتعدا يبحثـانِ عن مطعمٍ معا كي يأكلا فيها فطورًا متأخرًا.
سعد بهدوءٍ يسأله : أي مطعم تحب.
إبراهيم بالرغمِ من كونِه كان مستغربًا موافقتـه الخروج معه، منذ زمنٍ طويلٍ لم يخرجا سويّةً ، منذ خلافهما قبل أشهرٍ عديدة .. لفظَ بهدوء : أي زفت أهم شيء نفطر.
سعد : ممم .. مطعم شعبي عادي؟ تراه حلو ومتعوب على أكله.
إبراهيم دون مبالاة، كـان جائعًا ويريد أيّ شيء : اللي تشوفه.
أومأ سعد بثقة : راح يعجبك ...
قـاد سيّارته لعشـر دقائق تقريبًا، وصلا لجهةٍ كـان فيها تجمّع الناس قليل/شبه معدوم، البيوتُ تكادُ تلتصقُ ببعضها في ضيقٍ مُزعج ، كـان حيًّا من إحدى الاحيـاء القديمة والتي لم تتلاشى بعد.
عقدَ إبراهيم حاجبيه وهو ينظُر حوله باستغرابٍ من هذا المكان ، وبتساؤل : وين هالمطعم؟ مو قاعد أشوف غير الخرابة.
سعد يبتسم ابتسامةً هادئـة، كـان فيها هالةٌ مـا ... كـان فيها ظلام، وقهر ، وغضب! . . أوقفَ السيارةَ بهدوء، ومن ثمّ نظـر لإبراهيم بابتسامتِه تلك، لافظًا بنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا، حملَ خلفها أعاصيـر .. أعاصير لا تريد أن تتوقّف : ممكن بالأول نتفاهم عشان شغلة؟
إبراهيم بتوجّس : نتفاهم؟
سعد يفتـح باب السيارة بهدوء : إذا فيه مرجلـة وواثق من حالك انزل ... بسألك كم سؤال.
إبراهيم يبتسم بغيظ، شدّ على أسنانه بحنقٍ لافظًا بوعيد : رجعنـا !
سعد بوعيدٍ أكبر : وبننهي كل شيء .. كل شيء اليوم ، بصفّي حسابي معك!
إبراهيم بانفعالٍ من تحدّيهِ له فتـح البابَ بغضبٍ ونزل، صرخَ غاضبًا : تهددني؟ أنا تهدّدني يا الورع؟!!!
سعدْ يلتفُّ حول السيارةِ من الأمامِ حتى وقفَ أمامه على بعدِ ثلاثِ خطوات، زلزلَ صوتُه الغاضبُ المكـان الخاوي ، شعـر بأنّ صداهُ يرتدُّ إلى صدرِه فيغضب أكـثر ، يشتعلُ أكثـر : من وين تجيب صور أختي؟ .. من وين يا حقيييير!!
ارتفـع حاجبُ إبراهيم وهو يبتسمُ بسخرية : صدّعت راسي بأختك هذي .. إذا هذا هو موضوعك السخيف اللي مأخر بسببه فطوري أكثر فاذلف!
كـاد يبتعد، لكنّ صوتَ سعد اوقفـه حين كرّر سؤاله بصوتٍ أكثـر قوّةً وغضبًا : من وين قاعد تجيب صور أختي يا إبراهيم ... من وين؟!!
في تلك اللحظـة بالضبط، مالت ابتسامـةُ إبراهيم بلؤم، راقَ لهُ هذا الاحتراق الذي يسمعه في صوتِه، ملامحه التي تهترِئ بغضب، راقَ لهُ أن يقهرهُ أكثر، أن يستفزّه أكثـر .. لذا لفظَ بكلماتٍ وقحـةٍ كانت كالوقودِ لنيرانِه : أختك جميلة بزيادة يا حلو .. فطبيعي أطمـع فيها وأدوّر صور لها . . . وقريبًا .. قريبًا بإذن الله بنحظى بالأصــــل . .
شدّد على كلماتِه الاخيرة بفجور ، وعند تلك اللحظـة بالضبط، ارتفـع صوتُ سعد في صرخـةٍ منفعلةٍ لفظَ بها اسمـه بكلّ كرهٍ وبوعيدٍ أعمـى .. حينها تراجـع إبراهيم للخلفِ وهو يضحكُ بصخبٍ متسلّي ، برضا بغضبِه .. أردفَ باستفزازٍ وهذهِ المرّة كـان يعنيها .. لفظها بكره ، وقد ملّ أخيرًا منه، ملّ من تساهله معه حتى الآن : تدري؟ زوجة سلطـان الحلوة ذيك .. هذاك اليوم خربت علي ليلتي .. بس بحصّل تعويض ، بحصلها بأختك يا سعد ... صدقني هالمرة حطّيتها براسي !
اقتربَ منه سعد وهو يتنفّس بقوة ، يتنفّس بجنون ... يكادُ في هذهِ اللحظـة أن ينفحـر كفقّاعةٍ وصلَ الضغطُ فيها حدوده، وصل الكُره فيها حدوده .. يُشعله ، بهذهِ الكلمات يشعله أكثر من الصور التي رآها .. لا يصدّق! كيف قد يتخيّل بأن شخصًا كهذا قد يؤذيها؟ يؤذي البريئة التي لا علاقـة لها بشيء؟ كيف؟ كيف؟!!
عند تلك النقطـة، كـان يقتربُ من إبراهيم وهو يلفظُ وجسدهُ يرتجفُ من فرطِ الغضب، يرتجفُ من الانفعـال الذي احمرّ به وجهه : تتوقّع بسمح لك! تتوقع بخليك تضرها بهالبساطة؟
إبراهيم يُميل فمه بسخرية : أنت ما قدرت تحمي حالك من مجرّد انضمام لعصابة مثل هذي .. بتقدر تحمي أختك من ا غ ت ص ا ب!!!
كـان ينطقها كلّ حرفٍ على حدةٍ بوقاحةٍ وصلَت إلى حدودها بل تجاوزت معناها بمراحل! أدرك إبراهيم من اقترابه المُندفـع أنّه قرّر المواجهـة رجلًا لرجـل كالعادة، حينها اعتدلَ بوقفتـه في وضعيّةِ هجومٍ وهو يهتف بثقة : تعال يا حبيبي .. تعال !
في تلك اللحظة، لم يتردّد سعد .. من دسِّ كفه أسفـل معطفـه ، حتى يُخرج أخيرًا السكّين الذي حمله دون شعورٍ قبل أن يخرج من الغرفـة وبعد أن وجدَ تلك الصورةَ الملقيّة على الأرض .. أخرجها ، لتتّسع عيني إبراهيم بصدمـةٍ ويتراجع وهو يصرّ على أسنانه : تبي تذبحنـ . .
لم يستطِع أن يُكمـل كلمتـه تلك وهو يرى اندفـاع سعد إليه بجنونٍ ليشهقَ دون أن يتداركَ نفسه ليتحاشاها وهو يصـرخ : لا لا لااااا يا مجنـــــــــ آآآآآآآآآآآآآآهــــــــــ
ارتفعَت صرخـة ، خرجَت من حنجرةٍ شقّها ألمٌ جسديّ صارخ، اخترقت السكينُ بنصلِها الحاد أسفـل صدرِه مبـاشرة . .
ارتفعَت صرخـة ، انبثقـت معها حُمـرة الدمـاء ، ومن ثمّ وقعـة ، ارتطـم بها هذا الجسد على الأرض التي طوتها حرارةُ الشمسٍ وأذابَت الدمـاءَ أكثر . .
تأوّهـات ، عيونٌ جحظَت بألمها ، ألمٌ لا يحتمل! لا يُحتمـل، تحشـرجُ روح ، نزاعاتٌ مع الموتِ الذي زحفَ بسرعةٍ إليه ، صدمـة ، واستفـاقةٌ من الغضـب .. في وقتٍ متأخر .. متأخرٍ للغايـة ..
حشرجـات، وزوجين من الأعين هذهِ المرة جحظَت .. إحداهما بألمِ النـزاع مع الروح ... والآخر بصدمـة .. بصدمـة .. وهو يرى الدمـاء التي خُلقَت أمامه .. دمـاء إبراهيم ... الذي قتله!!!
تراجـع للخلفِ بصدمةٍ وهو يُسقطُ السكين الذي كـان ملطّخًا بالدمـاءِ بعد أن سُحب تلقائيًا من جسدِ إبراهيم حين سقطَ على الأرض، كـان سعد يقبـض بأصابعه عليه بقوّة .. لذا لم يسقُط مع جسدِه، بل بقيَ في يدِه ، والتي تلوّنت أطرافها بحُمرةِ دمـه . . . سقطَ ذاك النصـل أخيرًا ، في اللحظـة التي كـان فيها ينظُر للجسدِ الذي استقرّ ميّتًا .. بعينينِ مصدومتين . . لقـــد ... لقـــد قتله !!!

.

.

.

انــتــهــى

وموعدنا خلاص صار ثابت ، مافيه داعي بكل مرة أكرره
بكل أحد وأربعاء إن شاء المولى ، وإذا فيه تغيير ببلغكم بنفسي ()


ودمتم بخير / كَيــدْ !

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ليلاس, لغز, أكشن, القدر, الكاتبة كيد, انتقام, يوسف, رواية رومانسية, سلطان, غموض, عانقت, قيود, كيد
facebook



جديد مواضيع قسم الروايات المغلقة
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t195238.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 02-10-16 06:32 AM


الساعة الآن 09:44 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية